المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[النوع الأول في الاعتصام بالقرآن] - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية - جـ ١

[محمد الخادمي]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مُطْلَقُ الِاعْتِصَامِ]

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي فِي الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي بَيَان الْبِدَعِ]

- ‌[أَنْوَاعِ الْبِدْعَةِ وَأَحْكَامِهَا]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ الِاقْتِصَادِ فِي الْعَمَلِ]

- ‌[الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ]

- ‌[الْأَدِلَّةُ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةُ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَصْحِيحِ الِاعْتِقَادِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْعُلُومِ الْمَقْصُودَةِ لِغَيْرِهَا]

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الْمَأْمُورِ بِهَا]

- ‌[الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ فَرْضُ الْعَيْنِ]

- ‌[الصِّنْفُ الثَّانِي فِي فَرْضُ الْكِفَايَةِ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي الْعُلُومِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا]

- ‌[النَّوْعُ الثَّالِثُ الْعُلُومِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا]

الفصل: ‌[النوع الأول في الاعتصام بالقرآن]

الْأَوَانِ (وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْعَادَاتِ السَّيِّئَةِ) فَإِنَّ كُلَّ عَادِيٍّ لَا يُحْتَرَزُ عَنْهُ بَلْ مَا يَلْزَمُ احْتِرَازُهُ هُوَ مَا يَكُونُ سَيِّئَةً لِتَخَالُفِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَالْعَطْفُ كَعَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ وَالْعَادَةُ أَمْرٌ مُتَكَرِّرٌ أَكْثَرِيٌّ وَالسَّيِّئَةُ الْقَبِيحَةُ الْمُنْكَرَةُ فِي الشَّرْعِ (وَالْبِدَعُ) جَمْعُ بِدْعَةٍ مِنْ الْإِبْدَاعِ بِمَعْنَى الْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ (الْمُحْدَثَةُ) صِفَةُ تَوْضِيحٍ أَوْ تَأْكِيدٍ لِمَقَامِ الِاهْتِمَامِ أَوْ ذَمٍّ لِتَنْفِيرِ الْأَنَامِ إذْ الْمُرَادُ حُدُوثُهُ بَعْدَ سَيِّدِ الْأَنَامِ زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا بِمَعْنَى أَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مُحْدَثَةً كَمَا لَا يَكُونُ فِيهِ إشَارَةٌ مِنْ الشَّارِعِ أَصْلًا وَغَيْرَ مُحْدَثَةٍ كَمَا تَكُونُ ذَاتُهَا مُحْدَثَةً لَكِنْ فِيهَا إشَارَةٌ مِنْ الشَّارِعِ فَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُحْدَثَةً (وَالِاقْتِصَادُ) مِنْ اقْتَصَدَ فِي النَّفَقَةِ إذَا لَمْ يُسْرِفْ وَلَمْ يَقْتُرْ فَيَكُونُ كَمَا عَرَفْت بِمَعْنَى التَّوَسُّطِ وَلَوْ قَدَّمَ الِاقْتِصَادَ عَلَى الْبِدْعَةِ لَكَانَ أَوْلَى إذْ الْبِدْعَةُ تَكُونُ بِالْمُخَالَفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِمَا يُفْهَمُ مِنْهُمَا مِنْ الِاقْتِصَادِ (فِي الْأَعْمَالِ) لَا أَعْلَمُ وَجْهَ تَخْصِيصِ الِاقْتِصَادِ بِالْأَعْمَالِ مَعَ مَرْدُودِيَّةِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ أَيْضًا وَتَعْمِيمُ الْعَمَلِ لِلْجَمِيعِ وَلَوْ سُلِّمَ صِحَّتُهُ فِي نَفْسِهِ لَا يُسَاعِدُ مَا سَيَبْحَثُ عَنْهُ وَدَعْوَى عَدَمِ جَرَيَانِ الِاقْتِصَادِ فِيهَا تَحَكُّمٌ بَلْ خِلَافُ مَا وَقَعَ كَالْمُعْتَزِلَةِ لِإِفْرَاطِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ أَنْكَرُوا صِفَاتِهِ تَعَالَى (وَالتَّوْسِيطُ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِلِاقْتِصَادِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَالِاجْتِنَابُ) عَطْفُ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ (عَنْ الطَّرَفَيْنِ) أَعْنِي (الْإِفْرَاطَ وَالتَّفْرِيطَ) كَمَا عَرَفْت مَعْنَاهُمَا لَا مَا قِيلَ مِنْ مُوجِبِ الْمَلَلِ وَالتَّرْكِ وَلِكَوْنِ الْمَقَامِ مِمَّا يَقْتَضِيه زِيَادَةُ الِاهْتِمَامِ أَكْثَرَ الْمُصَنِّفُ اسْتِعْمَالَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يُسْتَغْنَى بِالْبَعْضِ مِنْهَا عَنْ الْآخَرِ وَإِلَّا فَيَكْفِي الِاكْتِفَاءُ بِمُطْلَقِ الِاعْتِصَامِ وَالِاحْتِرَازِ وَالِاقْتِصَادِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَضْعُ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنَّمَا قَدَّمَ هَذَا الْبَابَ عَلَى الْجَمِيعِ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْجَمِيعِ وَدَلِيلُهُ فَيَكُونُ كَالْمُقَدَّمَةِ أَمَّا الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَظَاهِرٌ.

وَأَمَّا الِاحْتِرَازُ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَقَاصِدِ لَكِنْ هُوَ كَالِاقْتِصَادِ الَّذِي هُوَ كَشَرْطِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ هِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ اعْتِدَادُهَا شَرْعًا لَكِنْ يُرَدُّ أَنَّ التَّحَفُّظَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ فِيهِ لِغَيْرِهِ حَظٌّ لِأَنَّهُ غَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا الْفُقَهَاءَ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ وَكَذَا الْحَدِيثُ إلَّا أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاجْتِهَادِيَّاتِ وَلَيْسَ جَمِيعُ النُّصُوصِ مِنْهَا بَلْ بَعْضُهَا صَرَائِحُ كَالْمُحْكَمَاتِ وَالْمُفَسَّرَاتِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِيهِ خَفَاءٌ كَالْمُشْكِلِ وَالْمُجْمَلِ وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي الْكُنْهِ وَيَكْفِي الْوَجْهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَيَسْتَوِي فِيهَا الْعُلَمَاءُ الْعَامِّيُّ مَعَ الْأَوْحَدِيِّ يَعْنِي الْمُجْتَهِدَ بَلْ تَفَرَّدَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْقِيَاسِ فَقَطْ عِنْدَ بَعْضٍ لَعَلَّ الْأَقْرَبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النُّصُوصِ هُنَا لَيْسَ اسْتِخْرَاجَ الْأَحْكَامِ ابْتِدَاءً بَلْ الْمَقْصُودُ مَعْرِفَةُ وُجُوهِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ قِيلَ وَمَطَالِعُهَا لِيَكُونَ فِي الْقَبُولِ أَسْرَعَ وَأَنْفَعَ (وَهُوَ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ)

[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مُطْلَقُ الِاعْتِصَامِ]

[النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ]

(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)

يَعْنِي مُطْلَقَ الِاعْتِصَامِ (نَوْعَانِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الِاعْتِصَامِ) أَيْ التَّمَنُّعُ وَالتَّحَفُّظُ فِي جَمِيعِ مَا أُشِيرَ سَابِقًا مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ وَقِيلَ الِاحْتِفَاظُ عَلَى النَّفْسِ وَالدِّينِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ (بِالْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ) فِي التَّوْصِيفِ بِالْكَرَمِ وَالْعَظَمَةِ إشَارَةً إلَى قُوَّةِ رَوَاجِ حُكْمِهِ إلَى جِهَةِ دَلَالَتِهِ وَتَوْضِيحِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ مِنْ الِاحْتِفَاظِ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاعْتِصَامِ هُنَا ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ وَفَائِدَتِهِ وَقُوَّةِ حُكْمِهِ وَأَثَرِهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ.

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا الْأَوَّلُ (الْآيَاتُ) الدَّالَّةُ عَلَى لُزُومِ الِاعْتِصَامِ مَثَلًا جَمْعُ آيَةٍ فِي الْقَامُوسِ الْآيَةُ الْعَلَامَةُ وَالْعِبْرَةُ وَالْأَمَارَةُ وَمِنْ الْقُرْآنِ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ إلَى انْقِطَاعِهِ وَهَذَا قَرِيبٌ إلَى مَا يُقَالُ الْآيَةُ طَائِفَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا.

قَالَ الْجَعْبَرِيُّ هِيَ قُرْآنٌ مُرَكَّبٌ مِنْ جُمَلٍ وَلَوْ تَقْدِيرًا ذُو مَبْدَأٍ وَمَقْطَعٍ وَالصَّحِيحُ طَائِفَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ تَوْقِيفِيَّةٌ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ وَلِهَذَا تَرَى كَلَامًا طَوِيلًا ذَا نِسَبٍ كَثِيرَةٍ آيَةٌ وَاحِدَةٌ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ نَحْوِ {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] قِيلَ سُمِّيَ بِالْآيَةِ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ لِلْفَضْلِ وَالصِّدْقِ وَقِيلَ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ أَتَى بِهَا وَعَلَى عَجْزِ الْمُتَحَدَّى

ص: 33

وَقِيلَ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ عَلَى انْقِطَاعِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا أَوْ رَدٌّ عَلَيْهِ بِصِدْقِهِ عَلَى مَا دُونَ آيَةٍ وَلُزُومُ قِيَاسِيَّتِهَا أَقُولُ وَيَجُوزُ أَيْضًا لِكَوْنِهَا دَلِيلًا عَلَى الْمَسَائِلِ وَالْأَحْكَامِ ثُمَّ جُمْلَةُ الْآيَاتِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا نَظَرُ الْمُصَنِّفِ اثْنَتَا عَشْرَةَ إمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ بِحَسَبِ اسْتِقْرَائِهِ أَوْ لِوُضُوحِ دَلَالَتِهِ رَتَّبَهَا عَلَى تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ دُونَ تَرْتِيبِ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ وَقُوَّتِهِ وَلَقَدْ أَعْجَبَ فِي حُسْنِ بِدَايَةِ مَقَاصِدِ الْكِتَابِ مُتَّفِقًا بِبِدَايَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا وَاقْتِدَاءً بِهِ وَتَفَاؤُلًا وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَعَلَا {الم} [البقرة: 1] قِيلَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ فَمُتَشَابِهٌ يُفَوَّضُ عِلْمُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ يَعْلَمُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا وَأَمَّا رَجَاءُ مَعْرِفَةِ الْغَيْرِ فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ فَمُنْقَطِعٌ وَعَلَيْهِ قَوْلُ الصِّدِّيقِ الْأَعْظَمِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَوَائِلُ السُّوَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حُرُوفُ التَّهَجِّي صَفْوَةُ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فَنُؤْمِنُ بِظَاهِرِهَا وَنَكِلُ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ الشَّعْبِيُّ فَدَعْهَا وَسَلْ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ وَفَائِدَةُ الْإِنْزَالِ اخْتِبَارُ الرَّاسِخِينَ وَالزَّائِغِينَ وَتَمَيُّزُهُمْ أَوْ تَكْثِيرُ أُجُورِهِمْ مِنْ مَشَاقِّهِمْ أَوْ آلَامِهِمْ بِعَدَمِ الْوُصُولِ إلَى مَعَانِي الْمُتَشَابِهِ وَقِيلَ وَقِيلَ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ وَعَنْ النَّوَوِيِّ هُوَ الْأَصَحُّ وَعَنْ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ الظَّاهِرُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ إنَّهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ كُلُّ حَرْفٍ إشَارَةٌ إلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَقِيلَ إنَّهَا صِفَاتُ الْأَفْعَالِ الْأَلِفُ آلَاؤُهُ وَاللَّامُ لُطْفُهُ وَالْمِيمُ مَجْدُهُ وَمُلْكُهُ وَقِيلَ الْأَلِفُ مِنْ لَفْظِ اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّامُ مِنْ جَبْرَائِيلَ وَالْمِيمُ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَيْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ جَبْرَائِيلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ لِشَرَفِهَا لِكَوْنِهَا أُصُولَ اللُّغَاتِ وَقِيلَ وَقِيلَ لَكِنْ صَحَّحَ بَعْضُهُمْ كَوْنَهَا أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ قِيلَ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأَكْثَرِ وَبَعْضُهُمْ كَوْنُهَا تَعْدِيدَ حُرُوفِ التَّهَجِّي لِإِعْلَامِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنْتَظِمٌ مِنْ جِنْسِ مَا يَنْتَظِمُونَ كَلَامَهُمْ وَقَدْ أَعْجَزَهُمْ قِيلَ وَإِلَيْهِ احْتَجَّ أَهْلُ التَّحْقِيقِ.

وَأَمَّا كَوْنُهَا إشَارَةً إلَى الْأَعْمَارِ وَالْآجَالِ وَمُدَّةِ الْفُتُوحِ وَنَحْوِهَا عَلَى حِسَابِ أَبِي جَادٍّ وَإِنْ أُخْرِجَ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَمَالَ إلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ فَقَدْ رَدَّهُ السُّيُوطِيّ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ وَعَنْ زَجْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - بِكَوْنِهَا سِحْرًا.

وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْعَرَبِيِّ مِنْ الْبَاطِلِ عِلْمُ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَالتَّفْصِيلِ فِي التَّفَاسِيرِ وَالْإِتْقَانِ {ذَلِكَ} [البقرة: 2] ذَا اسْمُ إشَارَةٍ وَاللَّامُ لِلْإِشَارَةِ إلَى بُعْدِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُوَ الْمُسَمَّى وَالْبُعْدُ مِنْ عُلُوِّ الشَّأْنِ وَأَقْصَى الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ {الْكِتَابُ} [البقرة: 2] أَيْ هَذِهِ السُّوَرُ هُوَ الْكِتَابُ لِكَمَالِهِ فِي الْفَضْلِ فَاللَّامُ عَهْدٌ وَإِنْ جُعِلَ الْمُسَمَّى كُلَّ الْقُرْآنِ فَجِنْسٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكِتَابُ الْحَقِيقُ بِأَنْ يُخَصَّ بِهِ اسْمُ الْكِتَابِ لِغَايَةِ تَفَوُّقِهِ كَأَنَّ مَا عَدَاهُ خَارِجٌ مِنْ جِنْسِ الْكِتَابِ ثُمَّ إعْرَابُهُ أَنَّ (الم) إنْ كَانَ اسْمًا لِحُرُوفِ التَّهَجِّي فَلَا مَحَلَّ لَهُ مِنْ الْإِعْرَابِ وَقِيلَ لَهُ إعْرَابٌ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلسُّورَةِ مَثَلًا فَلَهُ إعْرَابٌ إمَّا الرَّفْعُ مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ أَوْ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ نَحْو اقْرَأْ أَوْ الْجَرُّ بِحَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّ الْجَلَالَةِ وَذَلِكَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ وَالْكِتَابُ خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِلْأَوَّلِ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ أَغْنَى عَنْ الرَّبْطِ وَيَجُوزُ (الم) مُبْتَدَأٌ وَذَلِكَ خَبَرُهُ وَالْكِتَابُ صِفَةٌ لِذَلِكَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَلَوْلَا خَوْفُ الْمَلَالِ لَأَكْمَلَ وُجُوهَ الْإِعْرَابِ {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] خَبَرٌ أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ ل (الم) أَوْ لِذَلِكَ أَوْ حَالٌ لِعَامِلِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمَعْنَى لَا يَلِيقُ ارْتِيَابُهُ لِوُضُوحِ بُرْهَانِهِ فَلَا يَضُرُّ ارْتِيَابُ الْمُعَانِدِ وَالْقَاصِرِ وَقِيلَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ {هُدًى} [البقرة: 2] قِيلَ الْأَوْلَى هُنَا دَالٌّ بِلُطْفٍ إلَى مَا يُوصِلُ إلَى الْبُغْيَةِ فَلْنَطْوِ الْكَلَامَ فِي الْمَقَامِ {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] قَدْ عَرَفْت مَعْنَى التَّقْوَى لَكِنْ قِيلَ هُنَا

ص: 34

الِاتِّقَاءُ مِنْ الشِّرْكِ لِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ شَأْنِهِ الْتِزَامُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْكُفَّارِ قِيلَ الْمُتَّقُونَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ فَهِدَايَتُهُمْ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ وَأُجِيبَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَا حَصَلَ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَتَخْصِيصُ الْهُدَى بِالْمُتَّقِينَ بِاعْتِبَارِ الْغَايَةِ وَتَسْمِيَةِ الْمَشَارِفِ لِلتَّقْوَى مُتَّقِيًا إيجَازًا وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ وَجْهُ الِاعْتِصَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ إمَّا بِاعْتِبَارِ مَضْمُونِ الْهِدَايَةِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فَإِنَّهُ يُوصِلُهُ إلَى مَقْصُودِهِ أَعْنِي الْآخِرَةَ الَّتِي عُرِفَ قَدْرُ شَرَفِهَا فِي الدِّيبَاجَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ قَصْرِ الْفَلَاحِ عَلَيْهِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي آلِ عِمْرَانَ {وَاعْتَصِمُوا} [آل عمران: 103] أَيْ تَمَسَّكُوا {بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] أَيْ بِكِتَابِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْقُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ» .

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ اسْتَعَارَ لَهُ الْحَبْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّمَسُّكَ بِهِ سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنْ الرَّدَى كَمَا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْحَبْلِ سَبَبُ السَّلَامَةِ مِنْ التَّرَدِّي وَاسْتَعَارَ لِلْوُثُوقِ بِهِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ الِاعْتِصَامُ تَرْشِيحًا لِلْمَجَازِ {جَمِيعًا} [آل عمران: 103] أَيْ مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] الْأَنْسَبُ لَا تَبَاعَدُوا عَنْ الْقُرْآنِ وَمِنْهَا فِي الْمَائِدَةِ {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} [المائدة: 15] إسْلَامٌ أَوْ مُحَمَّدٍ {وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] أَيْ مُبِينٌ وَمُمَيِّزٌ كُلَّ خَطَأٍ عَنْ صَوَابٍ {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} [المائدة: 16] أَيْ بِالْكِتَابِ وَقِيلَ أَيْ بِالنُّورِ وَالْمَآلُ وَاحِدٌ {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة: 16] .

مَفْعُولَ يَهْدِي {سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: 16] مَفْعُولَهُ الثَّانِي أَيْ طُرُقَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ بُؤْسٍ وَمِحْنَةٍ فَالْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إلَى تَعَلُّقِ الْمَقَامِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ لَازِمٌ مُوصِلٌ إلَى السَّلَامَةِ وَكُلُّ مَا شَأْنُهُ كَذَا فَالِاعْتِصَامُ لَازِمٌ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ الْمَفْعُولَ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْفِعْلِ فَيَلْزَمُ وُجُودُ تَبَعِيَّةِ الرِّضْوَانِ قَبْلَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّبَعِيَّةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْقُرْآنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَهُ وَلَوْ فُرِضَ وُجُودُ تَبَعِيَّةِ الرِّضْوَانِيَّةِ فَهِيَ كَافِيَةٌ فِي السَّلَامَةِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ هُوَ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْقُرْآنِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة: 16] أَيْ مَنْ يُرِيدُ تَبَعِيَّةَ رِضْوَانِهِ فَيَكُونُ حَاصِلُ الْمَعْنَى كُلَّ مَنْ يُرِيدُ تَبَعِيَّةَ الرِّضْوَانِ فَيَتَمَسَّكُ بِالْقُرْآنِ وَكُلُّ مُتَمَسِّكٍ بِهِ فَيَهْدِيهِ إلَى طُرُقِ السَّلَامِ فَافْهَمْ

ص: 35

{وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة: 16] مِنْ الْكُفْرِ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْ الْجَهْلِ إلَى الْعِرْفَانِ أَوْ مِنْ اسْتِحْقَاقِ النِّيرَانِ إلَى دُخُولِ الْجِنَانِ {بِإِذْنِهِ} [المائدة: 16] أَيْ بِإِرَادَتِهِ أَوْ بِتَوْفِيقِهِ {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16] إلَى طَرِيقٍ مُؤَدٍّ إلَى اللَّهِ لَا مَحَالَةَ.

قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فَإِنْ قِيلَ الْهِدَايَةُ الْأُولَى مُقَيَّدَةٌ بِتَبَعِيَّةِ الرِّضْوَانِ وَسَبَبِيَّةِ الْقُرْآنِ وَالْهِدَايَةُ الثَّانِيَةُ مُطْلَقَةٌ فَبَيْنَهُمَا نَوْعُ تَنَافٍ وَإِنَّ الثَّانِيَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْكِتَابِ فَلَا فَائِدَةَ فِي حَقِّ الِاعْتِصَامِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُكْتَفَى بِالْأُولَى قُلْنَا الْمَعْطُوفُ مُشَارِكٌ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْقَيْدِ

قَالَ الْعِصَامُ الْمَعْطُوفُ عَلَى مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ يُشَارِكُهُ فِي الْقَيْدِ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّ الْمُطْلَقَ فِي مِثْلِهِ لَا يَبْعُدَانِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِاتِّحَادِ الْحُكْمِ وَالْحَادِثَةِ وَيُقِرُّ بِهِ مَا يُقَالُ الْقُرْآنُ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقُرْآنَ فِي الْحُكْمِ وَمِنْهَا آيَةُ الْأَنْعَامِ {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 155] يَعْنِي كَثِيرٌ نَفْعُهُ دَائِمٌ خَيْرُهُ جَلِيلٌ قَدْرُهُ {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 155] بِإِتْيَانِ مُوَاجَبِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ {وَاتَّقُوا} [الأنعام: 155] أَيْ اجْتَنِبُوا عَنْ مُخَالَفَتِهِ أَوْ تَحَفَّظُوا بِحُكْمِهِ {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155] أَيْ رَاجِينَ رَحْمَتَهُ وَقِيلَ لِيَكُنْ الْغَرَضُ بِالتَّقْوَى رَحْمَةَ اللَّهِ وَقِيلَ لِكَيْ تُرْحَمُوا لَكِنْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ مِثْلَهُ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ الْعَرَبِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِمَا فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ أَنَّ مِنْ مَعَانِي لَعَلَّ التَّعْلِيلَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] بَلْ فِي الْإِتْقَانِ عَنْ الْبَغَوِيّ عَنْ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَعَلَّ لِلتَّعْلِيلِ.

وَعَنْ ابْنِ مَالِكٍ أَنَّ لَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى كَيْ نَعَمْ الْكَلَامُ بَاقٍ فِي اجْتِمَاعِ اللَّامِ مَعَ كَيْ وَاعْتُذِرَ عَنْهُ بَعْضُ حَوَاشِي الْبَيْضَاوِيِّ لَكِنَّ الْأَصَحَّ التَّرَجِّي لَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَعَالَى بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادِ وَمِنْهَا آيَةُ يُونُسَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [يونس: 57] الْمُرَادُ قُرَيْشٌ أَوْ الْجِنْسُ وَهُوَ الْأَصَحُّ {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57] أَيْ الْقُرْآنُ وَالْوَعْظُ زَجْرٌ بِتَخْوِيفٍ وَعَنْ الْخَلِيلِ تَذْكِيرُ خَيْرٍ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ أَوْ إنَابَةٌ إلَى إصْلَاحٍ.

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ كِتَابٌ جَامِعٌ لِلْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ الزَّاجِرَةِ عَنْ الْقَبَائِحِ وَالنَّظَرِيَّةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] مِنْ الشُّكُوكِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ كَالْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ وَالْمَلَكَاتِ الْمُهْلِكَةِ نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ فِي وَجْهِ ذِكْرِ الصَّدْرِ أَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَلْبِ وَغِلَافُهُ وَأَعَزُّ مَوْضِعٍ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] لِأَنَّهُمْ فَازُوا بِكُلِّ خَيْرٍ وَنَجَوْا مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ بِسَبَبِ التَّمَسُّكِ بِالْقُرْآنِ فَحَاصِلُ الْآيَةِ الْمُعْتَصِمُ بِالْقُرْآنِ يَتَحَفَّظُ عَنْ كُلِّ مَا يُوجِبُ الْبُؤْسَ وَيَتَوَصَّلُ إلَى كُلِّ نِعْمَةٍ وَثَوَابٍ وَرَحْمَةٍ وَمِنْهَا آيَةُ النَّحْلِ.

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] يُقَالُ التِّبْيَانُ مُبَالَغَةٌ مَصْدَرٌ لَعَلَّ لِهَذَا فَسَّرَ الْبَيْضَاوِيُّ بَيَانًا بَلِيغًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ عَلَى التَّفْصِيلِ أَوْ الْإِجْمَالِ بِالْإِحَالَةِ عَلَى السُّنَّةِ أَوْ الْقِيَاسِ انْتَهَى لَعَلَّ الْأَوْلَى أَوْ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُخَصِّصٍ مُعْتَبَرٍ فِي قَوْلِهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ إذْ التَّخْصِيصُ خِلَافُ الْأَصْلِ بَلْ هُنَا خِلَافُ الْوَاقِعِ إذْ الْقُرْآنُ لَا يَقْتَصِرُ بَيَانُهُ عَلَى الدِّينِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ قَوْله تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] .

فَإِنْ قِيلَ كَوْنُ الْبَيَانِ بَلِيغًا يُوجِبُ التَّفْصِيلَ فِي الْكُلِّ فَقَوْلُهُ أَوْ الْإِجْمَالِ لَا يُلَائِمُهُ قُلْنَا لَعَلَّ الْأَبْلَغِيَّةَ أَعَمُّ مِنْ التَّفْصِيلِ وَالتَّكْثِيرِ وَإِلَّا فَيَشْكُلُ كَوْنُهُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ إذْ بَعْضُ الشَّيْءِ مُبِينٌ بِغَيْرِ الْكِتَابِ كَبَاقِي الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ هَذَا أَقُولُ لِدَوَاعِي رُجُوعِ جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ إلَى الْكِتَابِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مُفَسَّرًا وَكَاشِفًا كَالْقِيَاسِ عِنْدَ الْكُلِّ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ أَمْثَالِ النُّصُوصِ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكْثُرُ مِنْ بَعْدِي الْأَحَادِيثُ الْحَدِيثُ {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى} [النحل: 89] بِالْجَنَّةِ {لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] فَقَطْ

ص: 36

فَإِنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لَا يُهْتَدَى بِهِدَايَتِهِ وَلَوْ فُرِضَ الْعَمَلُ بِأَحْكَامِهِ بِلَا إيمَانٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَوْ عِنْدَ مَنْ قَالَ إنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالْفُرُوعِ ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَهُ هَادِيًا وَرَحْمَةً إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ وَاسْتَمْسَكَ بِمَضْمُونِهِ فَمَنْ يَعْتَصِمُ بِهِ فَلَهُ رَحْمَةٌ وَبُشْرَى وَمِنْهَا آيَةُ الْإِسْرَاءِ {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] أَيْ يَهْدِي إلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَصْوَبُ مِنْ نَحْوِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ عَلَى مَا فَسَّرُوا بِهِ لَكِنْ يُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ مَثَلًا لَوْ أُخِذَ مِنْ الشَّرْعِ لَزِمَ الدَّوْرُ الْمَشْهُورُ إذْ الشَّرْعُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعَقْلِ وَأَلَّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَسَائِلُ الِاعْتِقَادِيَّةُ بَعْدَ ثُبُوتِهَا بِالْعَقْلِ لَا بُدَّ مِنْ تَطْبِيقِهَا بِالشَّرْعِ وَإِلَّا لَا تَكُونُ مُعْتَدًّا بِهَا شَرْعًا وَمِنْهَا آيَةُ الْإِسْرَاءِ أَيْضًا {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء: 82] أَيْ كُلُّ الْقُرْآنِ شِفَاءٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ لِلتَّبْيِينِ لِأَنَّ كُلَّهُ شِفَاءٌ مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ وَمَرَضِ الشَّكِّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ كُلِّ دَاءٍ فَقِيلَ فَيُتَبَرَّكُ بِهِ لِدَفْعِ الْمَضَارِّ وَالْمَكَارِهِ.

وَأُيِّدَ بِحَدِيثٍ ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ «مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بِالْقُرْآنِ فَلَا شَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى» وَقِيلَ شِفَاءٌ لِلْأَمْرَاضِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَمْرَاضِ الْحِسِّيَّةِ لِأَنَّهُ يُدْفَعُ بِقُرْآنِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ وَمِنْ هُنَا قِيلَ لَفْظَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى مَعْنَى بَعْضِ الْقُرْآنِ شِفَاءٌ لِلْمَرَضِ كَالْفَاتِحَةِ وَآيَاتِ الشِّفَاءِ {وَرَحْمَةٌ} [الإسراء: 82] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ {لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] إذْ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ يَكُونُ عَذَابًا وَعُقُوبَةً لِعَدَمِ اعْتِصَامِهِمْ بِالْقُرْآنِ.

وَقِيلَ عَنْ الْوَاحِدِيِّ أَيْ ثَوَابٌ لَا يَنْقَطِعُ بِتِلَاوَتِهِ {وَلا يَزِيدُ} [الإسراء: 82] الْقُرْآنُ {الظَّالِمِينَ} [الإسراء: 82] الْغَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ {إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82] يَعْنِي يَزِيدُهُمْ خُسْرَانًا لِأَنَّهُ كُلَّمَا تَجَدَّدَ نُزُولُ الْقُرْآنِ أَوْ تَبْلِيغُهُ يَتَجَدَّدُ إنْكَارُهُمْ فَبِتَجَدُّدِ إنْكَارِهِمْ يَتَجَدَّدُ خُسْرَانُهُمْ وَمِنْهَا آيَةُ الْعَنْكَبُوتِ {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} [العنكبوت: 51] يَعْنِي أَيَطْلُبُونَ آيَةً عَلَى صِدْقِك وَلَمْ يَكْفِهِمْ قِيلَ عَنْ الْخَازِنِ هَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ قَبْلَهُ {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 27]- {أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] يَعْنِي الْقُرْآنَ مُعْجِزَةً كَافِيَةً فِي صِدْقِك عَلَى وَجْهٍ بَيِّنٍ لِدَوَامِهِ أَبَدًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْآيَاتِ أَوْ بِخِلَافِ آيَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت: 51] أَيْ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ آيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ {لَرَحْمَةً} [العنكبوت: 51] عَظِيمَةٌ {وَذِكْرَى} [العنكبوت: 51] تَذْكِرَةٌ {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] لِمَنْ هَمُّهُ الْإِيمَانُ لَا التَّعَنُّتُ فَالْقُرْآنُ كَافٍ لِكُلِّ مَصَالِحَ فَالْعَمَلُ بِمَضْمُونِهِ وَالتَّمَسُّكُ بِمُوجِبِهِ فِي الْوَقَائِعِ وَالْأَحْوَالِ مُوجِبٌ لِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ الْجَنَّةِ وَالرُّؤْيَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ.

وَمِنْهَا فِي ص {كِتَابٌ} [ص: 29] أَيْ هَذَا كِتَابٌ {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29] خَيْرٌ كَثِيرٌ وَنَفْعٌ جَلِيلٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الْقُرْآنِ بَعْضُهَا مُفَسِّرٌ لِلْبَعْضِ وَأَنَّ الْمُطْلَقَ فِي مِثْلِهِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَقَدْ عَرَفْت الْقَيْدَ فِي الْآيَاتِ وَإِلَّا يَلْزَمَ التَّعَارُضُ مَعَ أَنَّ مَضْمُونَهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِمُوَافِقٍ لِلْوَاقِعِ {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] يَتَفَكَّرُوا آيَاتِهِ الْعَجِيبَةَ وَأَسْرَارَهُ الْغَرِيبَةَ اللَّطِيفَةَ وَقِيلَ بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29] ذَوُو الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ التَّدَبُّرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ بِمَعْنَى لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ لَا يُدْرَكُ وَالتَّذَكُّرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يُمْكِنُ تَوَصُّلُهُ بِالْعَقْلِ كَذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ وَأَنْ يُجْعَلَ الْأَوَّلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى جِنْسِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَالثَّانِي إلَى الْقِيَاسِ.

وَمِنْهَا فِي الزُّمَرِ {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]

ص: 37

أَيْ الْقُرْآنَ وَجْهُ الْأَحْسَنِيَّةِ إمَّا لِكَوْنِ نَظْمِهِ مُعْجِزًا وَإِمَّا لِكَوْنِ مَعْنَاهُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَخْبَارِ الْغُيُوبِ وَالْمَاضِينَ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَحْوَالِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] بَدَلٌ مِنْ أَحْسَنَ أَوْ حَالٌ مِنْهُ أَيْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْإِعْجَازِ وَالصِّحَّةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَفِي تَصْدِيقِ بَعْضِهِ بَعْضًا آخَرَ وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ وَقِيلَ يُشْبِهُ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ يُرَى اخْتِلَافٌ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ نَحْوُ {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]- فَالْأُولَى تُفْهِمُ إمْكَانِ الْعَدَالَةِ وَالثَّانِيَةُ تَنْفِيهِ.

وَنَحْوُ - {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28] مَعَ قَوْله تَعَالَى {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 35]- لِأَنَّ الْوَجَلَ خِلَافُ الطُّمَأْنِينَةِ وَنَحْوُ - {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2]- وَغَيْرِهَا وَنَحْوِ اخْتِلَافُ وُجُوهِ الْقِرَاءَةِ وَمَقَادِيرِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَنَحْوِهَا مِنْ وُجُوهِ الْقُرْآنِ الَّتِي يُرْوَى فِيهَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى أَيْضًا - {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]- وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذُكِرَ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ قُلْنَا لَا اخْتِلَافَ فِيمَا ذُكِرَ أَصْلًا فَإِنَّ التَّسَاؤُلَ فِي مَوْطِنٍ وَعَدَمِهِ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ مِنْ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ التَّعْدِيلَ فِي تَوْفِيَةِ حُقُوقِ النِّسَاءِ وَعَدَمِهِ فِي الْمَيْلِ الْعَقْلِيِّ الْقَلْبِيِّ وَهُوَ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ وَإِنَّ الطُّمَأْنِينَةَ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَالْوَجَلِ عِنْدَ خَوْفِ ذَهَابِ الْهُدَى وَالزَّيْغِ وَإِنَّ النَّاسَ سُكَارَى مِنْ الْأَهْوَالِ مَجَازًا وَلَيْسُوا بِسُكَارَى مِنْ الشَّرَابِ حَقِيقَةً.

وَقَالَ فِي الْإِتْقَانِ عَنْ الْكَرْمَانِيِّ الْمَنْفِيُّ عَنْ الْقُرْآنِ هُوَ الِاخْتِلَافُ الدَّاعِي إلَى التَّنَاقُضِ.

وَأَمَّا اخْتِلَافُ التَّلَاؤُمِ الَّذِي هُوَ تَوَافُقُ الْجَانِبَيْنِ نَحْوُ اخْتِلَافِ وُجُوهِ الْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ مَنْفِيٍّ مِنْ الْقُرْآنِ وَبِالْجُمْلَةِ الْمَنْفِيُّ اخْتِلَافٌ بِالذَّاتِ كَالْفَصَاحَةِ وَعَدَمِهَا وَالدَّعْوَةِ إلَى الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالشِّعْرِ وَعَدَمِهِ نُقِلَ عَنْ الْغَزَالِيِّ {مَثَانِيَ} [الزمر: 23] جَمْعُ مَثْنَى أَوْ مُثَنَّى صِفَةُ مُتَشَابِهًا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَنَحْوِهَا.

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ الْمَثَانِي مِنْ التَّثْنِيَةِ أَوْ الثَّنَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُكَرَّرُ قِرَاءَتِهِ وَأَلْفَاظِهِ وَقَصَصِهِ وَمَوَاعِظِهِ أَوْ يُثْنَى عَلَيْهِ بِالْبَلَاغَةِ وَالْإِعْجَازِ أَوْ يُثْنَى فِي التِّلَاوَةِ فَلَا يَمَلُّ أَوْ يَشْمَلُ الْمُزْدَوِجَاتِ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَذِكْرِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ} [الزمر: 23] وَصْفٌ ثَالِثٌ لِلْكِتَابِ أَيْ تَضْطَرِبُ وَتَرْتَعِدُ {جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23] خَوْفًا مِنْ الْعَذَابِ وَتَعْظِيمًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الْخَازِنِ الْمُرَادُ مِنْ الْجُلُودِ الْقُلُوبُ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُوَ مَثَلٌ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ وَقِيلَ إنَّ ذِكْرَ الْخَشْيَةِ أَغْنَى عَنْ الْقُلُوبِ لِأَنَّهَا شَأْنُهَا وَقَرَنَهَا فِي {ثُمَّ تَلِينُ} [الزمر: 23] تَطْمَئِنُّ وَتَسْكُنُ {جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] لِزَوَالِ الْخَشْيَةِ وَمَجِيءِ الرَّجَاءِ.

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ بِالرَّحْمَةِ وَعُمُومِ الْمَغْفِرَةِ وَالْإِطْلَاقِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ أَصْلَ أَمْرِهِ الرَّحْمَةُ وَإِنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ عَلَى غَضَبِهِ وَالتَّعَدِّيَةُ بِإِلَى لِتَضْمِينِ مَعْنَى السُّكُونِ وَالِاطْمِئْنَانِ وَذِكْرِ الْقَلْبِ لِتَقَدُّمِ الْخَشْيَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَوَارِضِهِ وَعَنْ الْخَازِنِ أَيْ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ تَقْشَعِرُّ عِنْدَ الْوَعِيدِ وَالْعَذَابِ جُلُودُ الْخَائِفِينَ وَتَلِينُ عِنْدَ الْوَعْدِ وَالرَّحْمَةِ وَقِيلَ تَقْشَعِرُّ عِنْدَ الْخَوْفِ وَتَلِينُ عِنْدَ الرَّجَاءِ وَعَنْ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَحَاتُّ مِنْ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا وَفِي رِوَايَةٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ.

وَقِيلَ السَّائِرُونَ فِي جَلَالِ اللَّهِ إذَا نَظَرُوا إلَى عَالَمِ الْجَلَالِ طَاشُوا وَإِذَا لَاحَ لَهُمْ أَثَرٌ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ عَاشُوا أَوْ تَقْشَعِرُّ جُلُودُ السَّالِكِينَ عِنْدَ الْقَبْضِ وَتَلِينُ عِنْدَ الْبَسْطِ {ذَلِكَ} [الزمر: 23] أَيْ الْكِتَابُ {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر: 23] شَرَحَ صَدْرَهُ لِقَبُولِ الْهِدَايَةِ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} [الزمر: 23] بِأَنْ يَخْذُلَهُ بِخَلْقِ الضَّلَالَةِ

ص: 38

{فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] يُخْرِجُهُ مِنْ الضَّلَالَةِ فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ مَجْبُورًا فِي الضَّلَالَةِ قُلْت قَدْ عَرَفْت أَنَّ عَادَتَهُ تَعَالَى فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَشْرُوطَةٌ بِصَرْفِ الْعَبْدِ قُدْرَتَهُ الَّتِي يَسْتَوِي تَعَلُّقُهَا بِالْجَانِبَيْنِ فَإِنْ قِيلَ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْسُنُ قَوْله تَعَالَى فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَهْدِيَ الشَّخْصُ نَفْسَهُ بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِأَنْ يَصْرِفَ قُدْرَتَهُ إلَى جَانِبِ الْهِدَايَةِ قُلْنَا إنَّ خَالِقَ الْهِدَايَةِ بَعْدَ هَذَا الصَّرْفِ لَيْسَ غَيْرَهُ تَعَالَى لَا يُقَالُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيْضًا دَاخِلٌ فِي عُمُومِ النَّفْيِ لِأَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهُ تَعَالَى كَمَا فِي نَحْوِ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَتَأَمَّلْ.

وَمِنْهَا فِي فُصِّلَتْ {وَإِنَّهُ} [فصلت: 41] أَيْ الذِّكْرَ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْآنُ {لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41] قَوِيٌّ {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْبَاطِلِ الشَّيْطَانُ وَقِيلَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النُّقْصَانِ وَمِنْ خَلْفِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّيَادَةِ وَقِيلَ لَا يَأْتِيهِ تَكْذِيبُ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَلَا يَجِيءُ بَعْدَهُ نَاسِخٌ وَقِيلَ لَا يَبْطُلُ فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ وَآخِرِهِ {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} [فصلت: 42] أَيْ مَانِعٌ مُعَانِدِيهِ أَنْ يُبَدِّلُوهُ بِأَحْكَامِ مَبَانِيهِ {حَمِيدٍ} [فصلت: 42] مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ بِإِلْهَامِ مَعَانِيهِ أَوْ بِسَبَبِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ أَوْ يَحْمَدُهُ كُلُّ خَلْقٍ بِمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ ثُمَّ هَذِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً تَدُلُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْثِيرِ الْآيَاتِ وَقَدْ كَفَى وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَإِنْ أُرِيدَ دَلَالَةُ الْمَجْمُوعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا وَاحِدًا لَزِمَ عَدَمُ دَلَالَةِ آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَطْلُوبِ قَطْعًا وَأَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَطْعُ مِنْ اجْتِمَاعِ الظُّنُونِ وَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ عِنْدَنَا قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ إذْ لَا يَكُونُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَعْرِفَتِهِ بِوَجْهٍ وَاحِدٍ وَإِنَّ الْمَذْهَبَ تَفَاوُتُ الْمَرَاتِبِ فِي الْيَقِينِيَّاتِ كَمَا فِي الظَّنِّيَّاتِ خِلَافًا لِبَعْضٍ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضٌ مِنَّا عَلَى حُصُولِ الْقَطْعِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الظُّنُونِ وَيَجُوزُ كَوْنُ دَلَالَةِ بَعْضِ آيَاتٍ ظَنِّيَّةٍ لِخَفَاءٍ فِي نَفْسِهَا وَإِنْ قَطْعِيَّةً فِي ثُبُوتِهَا وَإِلَّا فَيَلْزَمُ وُرُودُ الْإِشْكَالِ عَلَى الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْكُلِّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ وَهُوَ الِاعْتِصَامُ فَمَا فَائِدَةُ هَذِهِ التَّكْرَارَاتِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَوَاضِعُ مُخْتَلِفَةً وَقَدْ عُدَّ تِلْكَ التَّكْرَارَاتُ مِنْ التَّكْرِيرِ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِطْنَابِ لِفَوَائِد كَالتَّقْرِيرِ وَمِنْهُ قِيلَ الْكَلَامُ إذَا تَكَرَّرَ تَقَرَّرَ كَالتَّأْكِيدِ وَكَزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى نَفْيِ التُّهْمَةِ لِتَكْمِيلِ قَبُولِ الْكَلَامِ وَكَالتَّعْظِيمِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَكَتَعَدُّدِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَنْ يَكُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَعْضُ غَيْرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْآخَرُ وَهَذَا الَّذِي سَمَّوْهُ بِالتَّرْدِيدِ كَمُكَرَّرَاتِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَالتَّفْصِيلِ فِي الْإِتْقَانِ فَافْهَمْ بَقِيَ أَنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ عَلَى اعْتِصَامِ الْكِتَابِ شَائِبَةَ دَوْرٍ فَعَلَيْك دَفْعُهُ

ثُمَّ لَمَّا كَانَ أَدِلَّةُ اعْتِصَامِ الْكِتَابِ نَوْعَيْنِ كِتَابًا وَسُنَّةً وَقَدَّمَ الْكِتَابَ لِأَصَالَتِهِ وَقَطْعِيَّتِهِ ثُبُوتًا وَفَرَغَ مِنْهُ أَرَادَ الشُّرُوعَ فِي الثَّانِي فَقَالَ (الْأَخْبَارُ) أَيْ النَّبَوِيَّةُ الْخَبَرُ مُرَادِفٌ لِلْحَدِيثِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَقِيلَ الْحَدِيثُ مَا جَاءَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَبَرُ مَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِ وَقِيلَ كُلُّ حَدِيثٍ خَبَرٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ كَمَا فِي النُّخْبَةِ وَمَا فِي الْأَلْفِيَّةِ الْخَبَرُ هُوَ الْأَثَرُ مُطْلَقًا مَرْفُوعًا أَوْ مَوْقُوفًا أَوْ مَقْطُوعًا فَيُنَاسِبُ الْأَوَّلَ وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَطْلَبِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ الْأَوَّلُ (طك) يَعْنِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ بِإِسْنَادِهِ (عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْخُزَاعِيِّ اسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ عُمَرَ وَعَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَقِيلَ اسْمُهُ كَعْبٌ (أَنَّهُ قَالَ «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» عَنْ الْمَشَارِقِ هَذِهِ الْحِكَايَةُ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حِينَ صُدُورِ الْحَدِيثِ عَنْهُ يُفِيدُ مَعْنَى الْحُدُوثِ لِكَوْنِهِ كَالتَّرْجَمَةِ لَهُ أَقُولُ لَا يَخْفَى عَدَمُ مَدْخَلِيَّتِهِ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى بَلْ الظَّاهِرُ

ص: 39

فِي الْوَجْهِ الْإِشَارَةُ إلَى كَمَالِ تَدَبُّرِ الرَّاوِي وَرَوَيْته فِيمَا رَوَاهُ وَفِيهِ تَأْكِيدُ الْإِسْنَادِ إلَيْهِ عليه الصلاة والسلام بِتَكْرِيرِهِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اعْتَنَى بِهَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ خَرَجَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِهِ لَعَلَّ مِثْلَهُ حَسَنٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ لِجِنْسِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَوَائِدِ «فَقَالَ أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»

تَحْقِيقُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ إعْرَابًا وَبَيَانًا وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ تَوْحِيدًا وَفَضْلًا مُحْتَاجٌ إلَى زِيَادَةِ بَسْطٍ حَرَّرْنَاهُ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَالشَّهَادَةُ الْإِخْبَارُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ يَعْنِي بِعِلْمٍ وَيَقِينٍ وَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا مُقَدَّرٌ وُجُوبًا وَالِاسْتِفْهَامُ إمَّا إنْكَارٌ حَاصِلُهُ تَأْكِيدٌ لِلتَّقْرِيرِ لِأَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إثْبَاتٌ أَوْ تَقْرِيرٌ وَتَثْبِيتٌ وَيُؤَيِّدُهُ لَفْظُ بَلَى الْمَوْضُوعُ لِإِبْطَالِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] الْمُجَابُ بِبَلَى أَيْ بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا بِخِلَافِ نَعَمْ لِأَنَّهُ لِتَصْدِيقِ الْخَبَرِ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ.

وَلِهَذَا قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَوْ قَالُوا نَعَمْ لَكَفَرُوا «قَالُوا بَلَى» أَيْ نَشْهَدُ ذَلِكَ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ حُذِفَ اكْتِفَاءً بِلَفْظِ الْجَوَابِ عَنْهُ وَفَائِدَةُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِشَهَادَتِهِمْ لِلْإِشَارَةِ مَعَ مَزِيدِ اهْتِمَامِ مَا يَذْكُرُ وَزِيَادَةِ تَأْكِيدِهِ وَلُزُومِهِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ عِرْفَانُ كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ اللَّهِ وَعَدَمِ ضَلَالَةِ مُتَمَسِّكِيهِ.

وَمُقْتَضَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ هُوَ تَصْدِيقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَمِنْ جُمْلَتِهِ مَا يَذْكُرُهُ

فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ كَالدَّلِيلِ لِإِمْكَانِهِ وَالثَّانِي لِوُقُوعِهِ يَظْهَرُ بِالتَّدَبُّرِ أَوْ يَقُولُ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاَللَّهِ وَبِي فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إلَخْ وَإِنْ آمَنْتُمْ بِرِسَالَتِي فَلَا بُدَّ أَنْ أُخْبِرَ كُمْ مَا هُوَ مِنْ دَوَاعِي الرِّسَالَةِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ، وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ فِي تَقْدِيمِ هَذَا الْكَلَامِ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَا يُخْبِرُ بِهِ شَيْءٌ شَرِيفُ وَأَمْرٌ مُهِمٌّ يَجِبُ اعْتِنَاؤُهُ لِصُدُورِهِ عَنْ دَوَاعِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ «قَالَ إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ» كَوْنُ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ اسْمَ إشَارَةٍ لِتَعْظِيمِهِ وَالْمُنَاسِبُ هُوَ الْكَلَامُ اللَّفْظِيُّ الَّذِي يَبْحَثُ عَنْهُ الْأُصُولُ لَا الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الَّذِي يُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ إذْ مَدَارُ اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ هُوَ الْأَوَّلُ أَحَدُ «طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ» الْيَدُ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي كَانَ الْأَسْلَمُ فِيهَا تَفْوِيضَ عِلْمِهَا إلَيْهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ دَأْبُ السَّلَفِ وَكَانَ الْأَحْكَمُ فِيهَا التَّأْوِيلَاتُ الصَّحِيحَةُ دَفْعًا لِمَطَاعِنِ الْجَاهِلِينَ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ الْمُتَأَخِّرِينَ.

قَالَ الدَّوَانِيُّ فِي الْفَوَائِدِ أَمَّا الصِّفَاتُ الَّتِي تَفَرَّدَ بِإِثْبَاتِهَا الْأَشْعَرِيُّ فَإِحْدَى عَشْرَةَ الْبَقَاءُ وَالْقِدَمُ وَالِاسْتِوَاءُ وَالْوَجْهُ وَالْيَدُ وَالْعَيْنُ وَالْجَنْبُ وَالرِّجْلُ وَالْيَمِينُ وَالْإِصْبَعُ وَالتَّكْوِينُ وَلَكِنَّ كَلَامَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَيْضًا يُوَافِقُهُ لِأَنَّهُ قَالَ يَدُهُ صِفَتُهُ بِلَا كَيْفٍ فَتَأْوِيلُهُ بِنَحْوِ الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ إبْطَالُ الصِّفَةِ.

كَذَا فِيمَا نُقِلَ عَنْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَدُفِعَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ، وَتَأْوِيلُ الْيَدِ عَلَى مَسْلَكِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى مَا فِي الْبَحْرِ إمَّا بِالْمُلْكِ كَمَا فِي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] أَوْ بِالْمِنَّةِ {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] .

وَأَيْضًا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَقَعَ تَأْوِيلُ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ لَكِنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ وَالْبَحْرَ صَرَّحَا بِرَدِّهِ فَافْهَمْ «وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ فَتَمَسَّكُوا بِهِ» بِالْعَمَلِ

ص: 40

بِمَضْمُونِهِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى أَحْكَامِهِ وَالْإِتْعَابِ وَالتَّكَلُّفِ فِي اسْتِحْصَالِ مُوَاجَبِهِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى عِلَّتِهِ أَوْ فَائِدَتِهِ لِزِيَادَةِ اهْتِمَامِهِ وَكَمَالِ قُوَّةِ إحْكَامِ أَحْكَامِهِ فَقَالَ «فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا وَلَنْ تَهْلَكُوا» يَعْنِي إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَمْ تَكُونُوا فِي خَطَأٍ وَحِيرَةٍ فِي الدُّنْيَا وَلَنْ تَكُونُوا فِي عُقُوبَةٍ وَحَسْرَةٍ فِي الْآخِرَةِ بَلْ تَكُونُوا فِي تَوْفِيقٍ وَهِدَايَةٍ وَثَوَابٍ وَنِعْمَةٍ، وَجْهُ التَّأْكِيدَيْنِ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي أَمْرِ التَّمَسُّكِ «بَعْدَهُ» أَيْ بَعْدَ التَّمَسُّكِ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ كَافٍ فِي الْوُصُولِ إلَى كُلِّ الْمَآرِبِ وَالْخَلَاصِ عَنْ كُلِّ الْمَهَالِكِ «أَبَدًا» فِي أَزْمِنَةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ أَوْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَامِعٌ مَجَامِعَ أَحْكَامِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ.

قِيلَ وَفِي ذِكْرِ الْيَدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُشَاكَلَةُ نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]- وَلَمْ يَقُلْ فَجَازُوهُ لَكِنْ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا جَازَتْ الْمُشَاكَلَةُ مِنْ الْأَوَّلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّانِي وَالظَّاهِرُ فِي مَوَاقِعِ أَمْثِلَتِهِمْ مِنْ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ نَعَمْ عُدَّ فِي الْإِتْقَانِ قَوْله تَعَالَى {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ} [الجاثية: 34]- مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُشَاكَلَةِ وَأَنَّ ظَاهِرَ مَفْهُومِ الْمُشَاكَلَةِ مِنْ ذِكْرِ الشَّيْءِ بِلَفْظِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ هُوَ الْإِطْلَاقُ ثُمَّ الْأَحْسَنُ أَنَّ هُنَا اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً تَشْبِيهَ هَيْئَةٍ مُنْتَزَعَةٍ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِالْأُخْرَى كَذَلِكَ وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ بَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ بَلْ كُلِّهَا مَجَازًا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُشَبَّهَ الْقُرْآنُ بِالْحَبْلِ الْمَمْدُودِ مِنْهُ تَعَالَى إلَى الْعِبَادِ، اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَذِكْرُ الطَّرَفِ لَهُ اسْتِعَارَةٌ تَخَيُّلِيَّةٌ قَرِينَةٌ لِلْمَكْنِيَّةِ حَاصِلُهُ أَنَّ مَقْصُودَ الْكُلِّ هُوَ الْوَصْلَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْخَلْقُ فِي طَرِيقِهِ كَالْعُمْيَانِ فَإِنْ أَخَذُوا وَتَمَسَّكُوا بِالْحَبْلِ يَصِلُوا إلَيْهِ وَإِنْ تَرَكُوا ضَلُّوا عَنْ طَرِيقِهِ وَسَقَطُوا فِي مَهَاوِي الْمَهَالِكِ فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ بِالْكِتَابِ قُلْنَا قَالُوا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعَانِ إلَى الْكِتَابِ كَمَا سَبَقَ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فَاعْلَمْهُ ثُمَّ إنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَشَارَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ التَّمَسُّكُ وَالرَّبْطُ بِحَسَبِ تِلَاوَتِهِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي (حب) .

رَوَى ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادِهِ (عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه) هُوَ ابْنُ مَسْعُود وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه مَاتَ فِي الْكُوفَةِ (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْقُرْآنُ شَافِعٌ» لِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَرَافِعُ الدَّرَجَاتِ وَالتَّخْصِيصُ بِمُذْنِبٍ بِلَا تَوْبَةٍ تَقْصِيرٌ.

«مُشَفَّعٌ» مَقْبُولُ الشَّفَاعَةِ فَإِنْ قِيلَ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْقُرْآنِ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ فَهُوَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى وَلَيْسَ أَمْرًا مُغَايِرًا لَهُ وَكَوْنُهُ شَافِعًا إلَيْهِ تَعَالَى يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُغَايِرًا لَهُ تَعَالَى وَإِنْ أُرِيدَ الْكَلَامُ اللَّفْظِيُّ فَهُوَ كَالْعَرَضِ فِي عَدَمِ الْبَقَاءِ وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا يُمْكِنُ انْقِلَابُهُ جَوْهَرًا لِامْتِنَاعِ انْقِلَابِ الْحَقَائِقِ قُلْنَا أُجِيبَ عَنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الْقُرْآنَ عَلَى صُورَةٍ يَرَاهُ النَّاسُ كَالْأَعْمَالِ عِنْدَ الْمِيزَانِ، ثُمَّ قِيلَ فَلْيَعْتَقِدْ بِإِيمَانِهِ لِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ أَقُولُ أَوَّلُ كَلَامِهِ صَرِيحٌ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وَآخِرُهُ فِي امْتِنَاعِهِ وَظَاهِرُهُ يُشْعِرُ فِي كَوْنِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ وَالْمُتَشَابِهُ عِنْدَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ لَا يَثْبُتُ بِالْآحَادِ إلَّا أَنْ يُمْنَعَ كَوْنُهُ مِنْ الْآحَادِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ هُوَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَفْظًا لَكِنْ لَا يَبْعُدُ تَوَاتُرُهُ مَعْنًى وَلَوْ سَلِمَ فَلَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِهِ مَشْهُورَ الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إلَى مُطْلَقِ الْأَعْمَالِ لَعَلَّ الْحَقَّ أَنَّهُ تَنْظِيرٌ وَتَمْثِيلٌ لِقَبُولِ الْعَمَلِ وَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِنْ الْعَرَضِ جَوْهَرًا بِقَلْبِهِ إلَيْهِ لِتَجَانُسِهِمَا فِي أَصْلِ الْإِمْكَانِ الَّذِي بِمَنْزِلَةِ جِنْسِهِمَا فَامْتِنَاعُ الِانْقِلَابِ إنْ أُرِيدَ الِانْقِلَابُ الذَّاتِيُّ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَإِنْ بِالْغَيْرِ فَلَيْسَ بِمُضِرٍّ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ثَوَابِهِ شَخْصًا آخَرَ وَيَشْفَعُ وَيَكُونُ الْإِسْنَادُ مَجَازِيًّا لِكَوْنِ قَبُولِ الْقُرْآنِ سَبَبًا لِخِلْقَتِهِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ نَظِيرُهُ مِثْلُ شَفَاعَةِ سُورَةِ الْمُلْكِ وَآلَم السَّجْدَةِ وَالْبَقَرَةِ وَرَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَسَائِرِ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ وَنَحْوِهَا «وَمَاحِلٌ»

ص: 41

عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ أَيْ سَاعٍ بَلِيغٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ وَيُقَرُّ بِهِ مَا قِيلَ أَيْ خَصْمٌ مُجَادِلٌ.

وَعَنْ الْقَامُوسِ مَحَلٌّ بِهِ مُثَلَّثَةُ الْحَاءِ قَادَهُ بِسِعَايَةٍ إلَى السُّلْطَانِ «مُصَدَّقٌ» بِالْبِنَاءِ عَلَى الْمَجْهُولِ يَعْنِي يُصَدِّقُ تَعَالَى الْقُرْآنَ فِي مُخَاصَمَتِهِ فِي شَفَاعَتِهِ لِقَارِئِهِ وَعَامِلِهِ وَأَيْضًا مُصَدَّقٌ فِي شِكَايَتِهِ لِمَنْ يُضَيِّعُ حَقَّهُ بِعَدَمِ الْعَمَلِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ التَّرْتِيلِ فَيُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ بِالْعَفْوِ أَوْ الرِّفْعَةِ.

وَكَذَا شِكَايَتُهُ فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الزَّاهِدِيِّ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِالتَّقْصِيرِ فَهُوَ فِي النَّارِ «مَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ» بِأَنْ يُقْتَدَى بِهِ بِأَنْ يَعْمَلَ بِأَحْكَامِهِ وَيَتَّعِظَ بِمَوَاعِظِهِ وَيَعْتَبِرَ بِقَصَصِهِ وَأَخْبَارِهِ «قَادَهُ» مِنْ الْقَوْدِ أَيْ أَوْصَلَهُ «إلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ سَاقَهُ إلَى النَّارِ» بِأَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ خَلْفَهُ لِأَنَّهُ الْقَانُونُ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ فَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ أَمَامَهُ فَقَدْ بَنَى عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ لَا يَخْفَى مِنْ الْحُسْنِ مَا فِي اسْتِعْمَالِ الْقَوْدِ فِي الْأَوَّلِ وَالسَّوْقِ فِي الثَّانِي لِأَنَّ فِي الْقَوْدِ رِفْقًا وَتَلْطِيفًا وَفِي السَّوْقِ زَجْرًا وَتَشْدِيدًا ثُمَّ الْقَوْدُ يُنَاسِبُ الشَّفَاعَةَ فَمَنْ قُبِلَ فِي حَقِّهِ شَفَاعَتُهُ يَقُودُهُ إلَى الْجَنَّةِ وَالسَّوْقِ إلَى الْخُصُومَةِ فَمَنْ قُبِلَ فِي حَقِّهِ شِكَايَتُهُ يَسُوقُهُ إلَى النَّارِ فَجُمْلَتَا مَنْ جَعَلَهُ اسْتِئْنَافٌ أَوْ تَعْلِيلٌ وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَا بَيَانِيَّتَيْنِ فَشَفَاعَتُهُ كِنَايَةٌ عَنْ قَوْدِهِ وَشِكَايَتُهُ كِنَايَةٌ عَنْ سَوْقِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَلِفَا بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ أَوْ إحْدَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّالِي وَالْأُخْرَى إلَى الْعَامِلِ وَعَدَمِهِمَا

(دحك) . رَوَى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادِهِمَا (عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِهِ» مِنْ الْأَحْكَامِ وَالِاتِّعَاظِ وَالِاعْتِبَارِ فَالْأَجْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالْعَمَلِ فَمَنْ عَمِلَ بِالْقُرْآنِ لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ أَخْذُهُ مِنْ تِلَاوَتِهِ فَلَا يُؤْجَرُ بِهَذَا الْأَجْرِ وَإِنْ أُوجِرَ بِمُطْلَقِ الْأَجْرِ كَمَنْ قَرَأَ بِلَا عَمَلٍ مُطْلَقًا فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ اخْتِصَاصُ هَذَا الْأَجْرِ بِالْعَالِمِ بِمَعْنَاهُ بَلْ بِالْمُجْتَهِدِ إذْ لَا يَعْرِفُ مَعَانِي جَمِيعِهِ إلَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يُؤْجَرُ غَيْرُ الْعَالِمِ أَوْ الْعَالِمُ الْغَيْرُ الْمُجْتَهِدِ قُلْت لَعَلَّ الْمَقْصُودَ مُطْلَقُ الْجَمْعِ وَلَا دَلَالَةَ لِكَوْنِ الْقِرَاءَةِ لِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ يُشْتَرَطُ أَخْذُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ لَا يَبْعُدُ اخْتِصَاصُ هَذَا الْحُكْمِ بِالْعُلَمَاءِ وَلَا يُنَافِي مَأْجُورِيَّةَ الْغَيْرِ بِمُطْلَقِهِ كَمَا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «رَكْعَتَانِ مِنْ عَالِمٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةً مِنْ غَيْرِ عَالِمٍ» .

وَفِي رِوَايَةٍ «رَكْعَةٌ مِنْ عَالِمٍ بِاَللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ مِنْ مُتَجَاهِلٍ بِاَللَّهِ» مَعَ الِاتِّفَاقِ فِي فَضْلِ صَلَاةِ غَيْرِ الْعَالِمِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ إمَّا لِمُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ وَإِمَّا لِلِاطِّلَاعِ بِمَضْمُونِهِ وَالْعَمَلِ بِأَحْكَامِهِ وَلَا شُبْهَةَ فِي مَزِيَّةِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ «أُلْبِسَ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مِنْ الْإِلْبَاسِ بِمَعْنَى الْإِكْسَاءِ «وَالِدَاهُ تَاجًا» ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ سَوَاءً كَانَ لَهُمَا دَخْلٌ فِي تَعْلِيمِهِ الْقُرْآنَ وَتَرْبِيَتِهِ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ لَا.

وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى انْتِفَاعِ الْوَالِدِ بِعِبَادَةِ الْمَوْلُودِ سَوَاءً دَعَا لَهُ أَوْ وَهَبَ ثَوَابَ عَمَلِهِ أَوْ لَا وَإِنْ كَانَ فِي الدُّعَاءِ وَالْهِبَةِ مَزِيَّةٌ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فِي الْجَنَّةِ أَوْ قَبْلَهَا الظَّاهِرُ عَدَمُ عُمُومِهِ لِلْجَدِّ وَالْجَدَّةِ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَا لَهُ «ضَوْءُهُ» أَيْ التَّاجِ «أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا» الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ لِضِيَاءِ الشَّمْسِ لَعَلَّهُ يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ كَمَالِ الْحُسْنِ وَالْبَهْجَةِ بِحَيْثُ يَظْهَرُ مَا فِي الْبَيْتِ وَيُرَى مِنْ لَطَافَتِهِ كَالشَّمْسِ فَبِهِ يُعْلَمُ وَجْهُ التَّقْيِيدِ بِبَيْتِ الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَضْلُ لِوَالِدَيْهِ تَكْرِمَةً لِلْوَلَدِ وَلِكَوْنِهِمَا سَبَبًا لَهُ.

«فَمَا ظَنُّكُمْ بِاَلَّذِي عَمِلَ بِهَذَا» يَعْنِي لَا يَقْدِرُ ظَنُّكُمْ عَلَى إدْرَاكِ إحْسَانِهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِ هَذَا الْعَامِلِ بِالْقُرْآنِ لِغَايَةِ عَظَمَتِهِ وَنِهَايَةِ جَلَالَتِهِ وَالسَّوْقُ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ بِاَلَّذِي قَرَأَ وَعَمِلَ اكْتَفَى بِهِ إمَّا لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ هُوَ الْعَمَلُ أَوْ الْعَمَلُ مِنْ حَيْثُ أَصْلِهِ وَنَفْسِهِ لَا يَكُونُ بِلَا قِرَاءَةٍ سِيَّمَا عَادَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ هَذَا

ص: 42

إشَارَةٌ إلَى الْقُرْآنِ الَّذِي قُرِئَ عَلَى مَا يُقَالُ الْأَصْلُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ أَخَذَ وَصْفَ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الضَّمَائِرِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرَاد بِالْقُرْآنِ اسْمًا لِلْمَجْمُوعِ يَعْنِي كُلًّا ذَا أَجْزَاءٍ فَهَذِهِ الْكَرَامَةُ تَقْتَضِي قِرَاءَةَ الْكُلِّ مَعَ عَمَلِهِ حَتَّى إنْ بَقِيَ فَرْدٌ وَاحِدٌ بِلَا قِرَاءَةٍ أَوْ بِلَا عَمَلٍ لَا يَسْتَحِقُّ لَهَا وَإِنْ اسْتَحَقَّ مُطْلَقَهَا وَإِنْ لِلْكُلِّيِّ فَيُمْكِنُ بِالْبَعْضِ إذْ وُجُودُ الْجِنْسِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ بَلْ يُوجَدُ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ لَكِنَّ حَدِيثَ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ تَخْرِيجِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالْحَاكِمِ «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَكْمَلَهُ وَعَمِلَ بِهِ أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا» الْحَدِيثُ يَقْتَضِي الْإِكْمَالَ أَيْ الْأَوَّلَ وَلَوْ أُرِيدَ مِنْ الْإِكْمَالِ التَّجْوِيدُ وَالتَّرْتِيلُ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَدِيثِ مِنْ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ ظَاهِرٌ بِآخِرِ الْحَدِيثِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا إشَارَةً وَعَلَى التَّرْغِيبِ عَلَى تَعْلِيمِ وَلَدِهِ عِبَارَةُ.

(طك) رُوِيَ عَنْ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادِهِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه) سَادِسٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَهُ مُشَابَهَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ كَانَ خَفِيفَ اللَّحْمِ قَصِيرًا شَدِيدَ الْأُدْمَةِ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ فِي سِنِّ بِضْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْد اللَّه يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ» هَاجَرَ إلَى الْحَبَشِ الْهِجْرَتَيْنِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا وَكَانَ صَاحِبَ نَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(أَنَّهُ قَالَ «إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ» ) أَيْ ضِيَافَتُهُ فِي الْقَامُوسِ الْمَأْدُبَةُ طَعَامٌ يُصْنَعُ لِدَعْوَةٍ أَوْ عُرْسٍ فَمِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ كَضِيَافَتِهِ مِنْ قَبِيلِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَالْوَجْهُ الْخَيْرُ وَالْمَنَافِعُ وَقِيلَ مُطْلَقُ الْمَأْدُبَةِ الشَّامِلُ لِلْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ أَقُولُ إلَّا وَجْهَ الْمَنْفَعَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْإِحْسَانِ الْبَاعِثِ إلَى الْأُلْفَةِ وَالْأُنْسِ بِلَا تَعَبٍ وَزَحْمَةٍ «فَاقْبَلُوا مَأْدُبَتَهُ» بِضَمٍّ أَوْ بِفَتْحٍ فِي الدَّالِ «مَا اسْتَطَعْتُمْ» مِقْدَارَ وُسْعِكُمْ وَقُدْرَتِكُمْ بِإِتْيَانِ مَا فِيهَا وَالتَّنَاوُلُ مِنْ حَقَائِقِهَا وَدَقَائِقِهَا وَلَا تَرُدُّوا ضِيَافَتَهُ تَعَالَى فَيَغْضَبُ عَلَيْكُمْ.

«إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ» طَرَفُهُ بِيَدِهِ وَطَرَفُهُ الْآخَرُ بِأَيْدِينَا كَمَا عَرَفْتَ آنِفًا وَهُوَ أَيْضًا مِنْ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَالْوَجْهُ الْخَلَاصُ عَنْ الْهَلَاكِ وَالْوُصُولُ إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْوَصْلَةُ إلَى اللَّهِ وَثَوَابُهُ لَكِنْ فِي ظَاهِرِ الصِّيغَةِ إشَارَةٌ إلَى احْتِيَاجِ صَرْفِ جَمِيعِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَدْ تَكُونُ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ وَقَدْ تَكُونُ بِالْمُمْكِنَةِ الْمَعْلُومَةِ فِي الْأُصُولِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إتْيَانَ الْغَايَةِ مِنْ النَّوْعَيْنِ حَسْبَمَا شُرِعَ «وَالنُّورُ الْمُبِينُ» الظَّاهِرُ وَالْكَاشِفُ عَنْ أَسْرَارِ عَالِمِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ وَقِيلَ أَيْ هُوَ كَالنُّورِ فِي الدَّلَالَةِ إلَى سُبُلِ الْهُدَى وَلَا يَبْعُدُ كَوْنُهُ نُورًا فِي الْقَبْرِ وَالْقِيَامَةِ أَوْ النُّورُ شَيْءٌ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَى أَكْثَرِ الْمَنَافِعِ الْحِسِّيَّةِ فَكَذَا الْقُرْآنُ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَنَافِعِ الْقُدْسِيَّةِ.

«وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ» فَإِنَّهُ يَنْفَعُ لِأَمْرَاضِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَيُزِيلُ مَا اسْتَوْجَبَتْهُ الْحِيَلُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُشْفِي مِنْ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ بِالرُّقْيَةِ الْقَوْلِيَّةِ بَلْ الرَّقْمِيَّةِ «عِصْمَةٌ» بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ هُوَ عَاصِمٌ وَحَافِظٌ عَنْ السُّقُوطِ فِي مَهَاوِي الْغَوَايَةِ وَالطُّغْيَانِ وَالْوُقُوعِ فِي الضَّلَالَةِ.

«لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ» بِأَحْكَامِهِ «وَنَجَاةٌ لِمَنْ اتَّبَعَهُ» هَذَا كَعَطْفِ

ص: 43

تَفْسِيرٍ لِلتَّمَسُّكِ وَلَا يَبْعُدُ الْعِصْمَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاعْتِقَادِيَّات وَالنَّجَاةِ إلَى الْعَمَلِيَّاتِ أَوْ الْعِصْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ لَا يَخْفَى مَا فِي حُسْنِ اسْتِعْمَالِ التَّمَسُّكِ بِالْعِصْمَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ بِالنَّجَاةِ إذْ التَّمَسُّكُ أَقْوَى مِنْ التَّبَعِيَّةِ كَالْعِصْمَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّجَاةِ «لَا يَزِيغُ» لَا يَمِيلُ الْقُرْآنُ عَنْ الْحَقِّ «فَيُسْتَعْتَبَ» مَنْصُوبٌ بِطَرِيقٍ أَمَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا وَالِاسْتِعْتَابُ طَلَبُ الْعِتَابِ وَعَرَضْته يَعْنِي لَا يَمِيلُ إلَى الْبَاطِلِ حَتَّى يَكُونَ عُرْضَةً لِلْعِتَابِ أَيْ لَا يَعْتِبُ صَاحِبُهُ أَوْ الِاسْتِعْتَابُ طَلَبُ الرِّضَا لَا يَمِيلُ عَنْ الْحَقِّ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى طَلَبِ الرِّضَا مِنْ أَحَدٍ «وَلَا يُعَوَّجُ» يَعْنِي مُسْتَقِيمٌ لَيْسَ فِيهِ انْحِرَافٌ

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28]- لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بِوَجْهٍ وَعَنْ الْخَازِنِ أَيْ مُنَزَّهًا عَنْ التَّنَاقُضِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما غَيْرَ مُخْتَلِفٍ وَقَدْ سَبَقَ نَوْعٌ مِنْ الْكَلَامِ عَلَيْهِ «فَيُقَوَّمَ» عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّقْوِيمِ بِإِزَالَةِ عِوَجِهِ «وَلَا تَنْقَضِي» أَيْ لَا تَفْنَى وَلَا تَنْتَهِي «عَجَائِبُهُ» يَعْنِي غَرَائِبَهُ وَعَجَائِبَهُ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ قَالَ تَعَالَى {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] .

وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27]

وَفِي الْإِتْقَانِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَوْ شِئْتُ أَنْ أُوقِرَ سَبْعِينَ بَعِيرًا مِنْ أُمِّ الْقُرْآنِ لَفَعَلْت.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِكُلِّ آيَةٍ سِتُّونَ أَلْفَ فَهْمٍ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ ذُو شُجُونٍ وَفُنُونٍ وَظُهُورٍ وَبُطُونٍ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا تَبْلُغُ غَايَتَهُ فَمَنْ أَوْغَلَ فِيهِ بِرِفْقٍ نَجَا وَمَنْ أَوْغَلَ فِيهِ بِعُنْفٍ هَوَى انْتَهَى مُلَخَّصًا لَكِنْ يُرَدُّ بِمَا فِيهِ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - «لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ» .

وَبِرِوَايَةٍ أُخْرَى «إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْهُ حَرْفٌ إلَّا وَلَهُ حَدٌّ وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ» وَفُسِّرَ

ص: 44

الْحَدُّ بِالْمُنْتَهَى إذْ يَقْتَضِي هَذَا النِّهَايَةَ وَذَاكَ عَدَمَهَا إلَّا أَنْ يُرَادَ بِأَحَدِهِمَا عِلْمُهُ تَعَالَى وَبِالْآخَرِ عِلْمُ مَخْلُوقِهِ فِي إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَايَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِبَادِهِ فَهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَيْهِ فَيَكُونُ نُزُولُ الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَبَثًا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ أَحَدٌ فَلْيُتَأَمَّلْ حَتَّى يَظْهَرَ الْوَجْهُ «وَلَا يَخْلَقُ» .

أَيْ لَا يَبْلَى مِنْ خَلِقَ الثَّوْبُ أَيْ بَلِيَ مِنْ بَابِ عَلِمَ يَعْلَمُ «مِنْ كَثْرَةِ التَّرْدَادِ» مِنْ تَكْرَارِ تِلَاوَتِهِ وَاسْتِمَاعِهِ قِيلَ أَيْ لَا يَمَلُّ قَارِئُهُ وَلَا يَسْأَمُ وَقِيلَ لَا يَذْهَبُ رَوْنَقُهُ وَبَهْجَتُهُ كَمَا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ التَّكْرَارُ يَزْدَادُ الْحُسْنُ وَقِيلَ لَا يَتَغَيَّرُ حَرْفُهُ بِكَثْرَةِ التَّكْرَارِ تِلَاوَةً وَتَدْرِيسًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْجُهَلَاءِ وَالْأَعْرَابِ وَالْأَعْجَامِ بَلْ يُرَدُّ الْخَطَأُ إلَى الصَّوَابِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إذَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَأَخْطَأَ أَوْ لَحَنَ أَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا كَتَبَهُ الْمَلَكُ كَمَا أُنْزِلَ» .

قَالَ الْمُنَاوِيُّ إثَابَةُ الْمُخْطِئِ وَاللَّاحِنِ فِي الْقِرَاءَةِ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ أَوْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي التَّعْلِيمِ وَإِلَّا فَيُوزَرُ لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْخَفَاءِ إذْ أَمْرُ التَّكْرَارِ لَا يُفِيدُهُ مُنَاسَبَةَ «اُتْلُوهُ» مِنْ التِّلَاوَةِ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ وَالْأَمْرُ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ لِلْوُجُوبِ مُطْلَقًا بِمَعْنَى الْفَرْضِ أَوْ مُقَابِلِهِ وَقَدْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ فِيهِ نَدْبًا لَكِنْ فِي الْبِدَايَةِ لِأَنَّهُ فِي النِّهَايَةِ يَكُونُ وَاجِبًا وَفِي غَيْرِهَا يَكُونُ لِلنَّدَبِ وَالْأَفْضَلُ فِيهِ مِنْ الْمُصْحَفِ لَا مِنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ لِأَنَّ فِي إمْسَاكِ الْمُصْحَفِ عَمَلَ الْيَدِ وَكَذَا فِي حَمْلِهِ وَفِي نَظَرِهِ عَمَلُ الْبَصَرِ وَيُعِينُ عَلَى تَأَمُّلِ مَعَانِيهِ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ يَقْرَءُونَ مِنْ الْمُصْحَفِ.

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه ثَلَاثٌ يَزِدْنَ فِي الْحِفْظِ وَيُذْهِبْنَ الْبَلْغَمَ السِّوَاكُ وَالصَّوْمُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَيُقَالُ النَّظَرُ إلَى الْعُلَمَاءِ وَالْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ كَالنَّظَرِ إلَى الْكَعْبَةِ وَلِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْمُصْحَفِ قُوَّةٌ عَجِيبَةٌ مُجَرَّبَةٌ لِحِفْظِ قُوَّةِ الْبَصَرِ وَتَقْوِيَتِهِ وَقَدْ قِيلَ الْخَتْمَةُ مِنْ الْمُصْحَفِ بِسَبْعٍ «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى» .

فَإِنْ قِيلَ إنَّ لَفْظَ تَعَالَى إذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ فَيَلْزَمُ تَغْيِيرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ بِزِيَادَةِ مَا لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ وَإِنَّهُ لَوْ لَزِمَ إتْيَانُهُ لَأَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا قَالَ الْفُقَهَاءُ بِوُجُوبِ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِهِ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] نَحْوَهُ أَيْضًا فَعَلَيْنَا تَعْظِيمُهُ مُطْلَقًا.

وَأَمَّا عَدَمُ وُقُوعِهِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ فَلَا يَقُومُ حُجَّةً عَلَيْنَا كَعَدَمِ وُقُوعِهِ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَمَلَةِ خَوَاصِّهِ

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ التَّعْظِيمُ لَازِمٌ وَلَوْ وَقَعَ ذِكْرُ اسْمِهِ تَعَالَى فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَوْ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ لَا الْفَرْضِ وَكَذَا اسْتِمَاعُهُ فَاعْرِفْهُ. «يَأْجُرُكُمْ» مِنْ الْأَجْرِ وَهُوَ جَزَاءُ الْعَمَلِ وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّلَالَةُ عَلَى كَثْرَةِ الْأَجْرِ لَا التَّجَدُّدِ وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْكَثْرَةِ كَمَا يُصَرِّحُ ذَيْلُ الْحَدِيثِ «عَلَى تِلَاوَةِ كُلِّ حَرْفٍ» مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي أَوْ بِمَعْنَى الْكَلِمَةِ كَمَا فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ.

وَأَمَّا تَعْلِيمُهُ أَيْ الْجُنُبِ الْقُرْآنَ حَرْفًا حَرْفًا أَيْ كَلِمَةً كَلِمَةً كَمَا فِي الْحَلَبِيِّ «عَشْرُ» بِسُكُونِ الشِّينِ «حَسَنَاتٍ» يَشْكُلُ أَنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فَمَا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِالْقُرْآنِ وَالْجَوَابُ الْحَدِيثُ مُفَسَّرٌ لِبَعْضِ مُتَنَاوِلِ النَّصِّ وَدَافِعٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَةُ الْوَاحِدَةُ نَحْوَ تَمَامِ السُّورَةِ أَوْ الْآيَةِ أَوْ الْكَلِمَةِ عَلَى وَجْهٍ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَافْهَمْ.

وَأَيْضًا يَشْكُلُ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْإِطْلَاقِ يَدُلُّ عَلَى أَنْ يُؤْجَرَ بِمُجَرَّدِ مُفْرَدَاتِ تَهَجِّي الْقُرْآنِ بِدُونِ إتْيَانِ كَلِمِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَضْلًا عَنْ الْأَجْرِ إذْ مَسْأَلَةُ إتْيَانِ نَحْوِ الْجَنْبِ يَقْتَضِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْجَرَ بِالْجُزْءِ بِشَرْطِ إتْيَانِ الْكُلِّ فَإِنْ أَتَى بِقَدْرِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْآنِ فَيُؤْجَرُ بِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ وَإِلَّا فَلَا وَأَيْضًا إنْ أَتَى الْقُرْآنَ بِلَا قَصْدِ الْقُرْآنِيَّةِ كَالِاقْتِبَاسِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْأَجْرِ لِعَدَمِ لُزُومِ التَّعْوِيذِ وَلِجَوَازِ تَغْيِيرِ الْمَعْنَى مُطْلَقًا وَجَوَازِ تَغْيِيرِ اللَّفْظِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ الشُّمُولُ إلَّا أَنْ يُفَسَّرَ مِثْلُهُ بِنَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» لَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ.

وَقَدْ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ إلَّا إذَا نَذَرَ.

وَفِي الْأَشْبَاهِ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا بِالْقَصْدِ فَجُوِّزَ لِلْحَائِضِ قِرَاءَةُ مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِقَصْدِ الذِّكْرِ «أَمَا» بِفَتْحٍ فَتَخْفِيفٍ قِيلَ عَنْ الْجَوْهَرِيِّ هِيَ تَحْقِيقٌ لِلْكَلَامِ «إنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ» وَاحِدٌ

ص: 45

«وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» فَيُثَابُ قَائِلُهَا بِثَلَاثِينَ حَسَنَةٍ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَدِيثِ أَنْ يُجْعَلَ كُلٌّ مِنْ نَحْوِ الْقَافِ وَاللَّامِ مِنْ {قُلْ هُوَ اللَّهُ} [الإخلاص: 1] حَرْفًا وَاحِدًا مُوجِبًا لِعَشْرِ حَسَنَاتٍ فَيَقْتَضِي مُسَمَّى حُرُوفِ التَّهَجِّي وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ كَالصَّرِيحِ فِي إرَادَةِ الْكَلِمَةِ مِنْ لَفْظِ الْحَرْفِ فَإِنَّ الْمُتَلَفِّظَ مِنْ الم هُوَ الِاسْمُ وَاسْمُ كُلِّ كَلِمَةٍ لَا بِمَعْنَى الْحَرْفِ النَّحْوِيِّ فَتَأَمَّلْ فِيهِ حَتَّى يَظْهَرَ مَا فِيهِ.

الْخَامِسُ (ت) مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ (عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْأَعْوَرِ) قِيلَ هُوَ مِنْ التَّابِعِينَ وَفِيهِ مَقَالٌ لِلْمُحَدِّثِينَ وَيُؤَيِّدُهُ يَعْنِي كَوْنَهُ مِنْ التَّابِعِينَ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ رحمه الله خِلَافًا لِمَا فِي آخِرِ مِنْ رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ «مَرَرْت بِالْمَسْجِدِ» إمَّا مَسْجِدُ النَّبِيِّ فِي الْمَدِينَةِ أَوْ مُطْلَقُ الْمَسَاجِدِ «فَإِذَا النَّاسُ» فُسِّرَ بِالصَّحَابَةِ «يَخُوضُونَ فِي الْأَحَادِيثِ» فِي الْأَقَاوِيلِ الْبَاطِلَةِ.

قَالَ فِي الْقَامُوسِ خَاضَ الْمَاءَ يَخُوضُهُ خَوْضًا وَخِيَاضًا دَخَلَهُ {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45] أَيْ فِي الْبَاطِلِ انْتَهَى فَأَمَّا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ مَعَ الْخَوْضِ أَوْ مِنْ الْقَرِينَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَا لَا يَعْنِي كَمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَامَةُ إعْرَاضِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ اشْتِغَالُهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ» وَيُقَرِّبُهُ مَا يُفَسَّرُ بِالْأَقْوَالِ الْغَيْرِ الْمُهِمَّةِ مِنْ كَلَامِ الدُّنْيَا.

قَالَ الرَّاوِي «فَدَخَلْت عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -» الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاءَ تَعْلِيلِيَّةٌ فَالدُّخُولُ لِأَجْلِ الِاشْتِكَاءِ مِنْ كَلَامِ الدُّنْيَا فِي الْمَسْجِدِ وَفَائِدَةُ الِاشْتِكَاءِ إمَّا الْمَنْعُ أَوْ إرَادَةٌ مُفَرَّعَةٌ حَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ لِإِيهَامِ الْجَوَازِ مِنْ صَنِيعِهِمْ «فَأَخْبَرْته فَقَالَ أَوَ قَدْ فَعَلُوهَا» أَيْ هَذِهِ الْفِعْلَةَ الَّتِي هِيَ الْأَحَادِيثُ الْبَاطِلَةُ فِي الْمَسْجِدِ قِيلَ الْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ وَقِيلَ لِلْإِنْكَارِ لَعَلَّ الْأَوْجَهَ لِلتَّعَجُّبِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ تَنْفَعِلُ النَّفْسُ مِنْهُ وَفَائِدَتُهُ التَّحْذِيرُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ خَاصَّةِ الْهَمْزَةِ تَقَدُّمَهَا عَلَى الْعَاطِفِ تَنْبِيهًا عَلَى أَصَالَتِهَا فِي التَّصْدِيرِ مِثْلُ {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا} [البقرة: 100]- {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} [الأعراف: 97]- {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} [يونس: 51]- كَمَا فِي الْإِتْقَانِ فَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ أَيْ أَخَاضُوهَا وَقَدْ فَعَلُوهَا «قُلْت نَعَمْ قَالَ أَمَا إنِّي» حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ وَتَنْبِيهٍ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ» صلى الله عليه وسلم فِي عَدَمِ وُقُوعِ التَّصْلِيَةِ فِي كَلَامٍ عَلَى نَوْعِ مُخَالَفَةٍ لِلْقَاعِدَةِ الْمُتَعَهَّدَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَافْهَمْ «يَقُولُ» حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ سَمِعَ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ لَا مِنْ فَاعِلِهِ وَإِنْ تَوَهَّمَ وَقِيلَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُ «أَلَا إنَّهَا» بِفَتْحٍ وَتَخْفِيفٍ دَالٌّ عَلَى تَحْقِيقِ مَا بَعْدَهَا لِأَنَّ الْهَمْزَةَ إذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ كَانَتْ لِإِفَادَةِ التَّحْقِيقِ نَحْوُ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ} [القيامة: 40]-

وَفِي الْإِتْقَانِ لَعَلَّ وَجْهَ التَّأْكِيدِ كَوْنُهَا خِلَافَ مَا يُتَرَقَّبُ نَحْوُ {إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء: 117]- أَوْ كَوْنُهَا خِلَافَ مَا يُعْتَقَدُ قِيلَ الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ وَقِيلَ لِلْفِعْلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْ كَلَامِ الدُّنْيَا كَأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ عَلِيٍّ ثُمَّ قَالَ عَنْ ابْنِ هِشَامٍ مَتَى أَمْكَنَ غَيَّرَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِثَالُ الشَّأْنِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]- وَالْقِصَّةُ {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} [الأنبياء: 97]-

وَفَائِدَتُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى تَعْظِيمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَتَفْخِيمِهِ بِأَنْ يُذْكَرَ أَوَّلًا مُبْهَمًا ثُمَّ يُفَسَّرُ هَذَا لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ كَأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ عَلِيٍّ إشَارَةٌ إلَى مُصَحِّحِ رُجُوعِ الضَّمِيرِ إلَى مَا ادَّعَاهُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ سِيَّمَا بِمُلَاحَظَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعُمُومِ فِي الْحَدِيثِ فَالظَّاهِرُ الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ وَفِيهِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَوَائِدِ وَأَيْضًا يَكُونُ الْمَقَامُ اسْتِدْلَالِيًّا مِنْ قَبِيلِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ حِينَئِذٍ مِنْ أَفْرَادِ مُتَنَاوِلِ عُمُومِ الْحَدِيثِ فَتَدَبَّرْ فِيهِ ( «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ» بِالْكَسْرِ الْحِيرَةُ وَالضَّلَالُ وَالْإِثْمُ وَالْفَضِيحَةُ وَالْإِضْلَالُ وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي الْآرَاءِ فِي الْقَامُوسِ وَقِيلَ هِيَ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِحَدِيثِ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ.

وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ تَكَلَّمُوا فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الِافْتِرَاقَاتِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَهَذَا الَّذِي أَتَى لِإِنْكَارِهِ مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ «قُلْت» يَعْنِي عَلِيًّا «فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ» يَعْنِي سَأَلَ عَلَى سَلَامَةِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ «قَالَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى» أَيْ التَّمَسُّكُ وَالِاعْتِصَامُ بِكِتَابِهِ تَعَالَى سَبَبٌ قَوِيٌّ لِلْخَلَاصِ عَنْ الْفِتَنِ الْمَوْعُودَةِ كُلِّهَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ هُوَ هَذَا أَمَّا سَبَبُ

ص: 46

الْخَلَاصِ مِنْ فِتْنَةِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ فِي الْمَسْجِدِ بِكِتَابِهِ تَعَالَى مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] .

قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمُرَادُ مِنْ الْبُيُوتِ جَمِيعُ الْمَسَاجِدِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيءُ النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ.

وَأَمَّا عَلَى مَنْ فَسَّرَ الْبُيُوتَ بِالْمَسَاجِدِ الْأَرْبَعَةِ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ قَبَاءَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فَأَمَّا عَلَى الْمُقَايَسَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي جِنْسِ الْعِلَّةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ كَمَالَ رِفْعَةِ عَلِيٍّ فِي الْعِلْمِ يَقْتَضِي مَعْرِفَتَهُ قَبْلَ خَبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَا فَائِدَةُ إخْبَارِهِ لِعَلِيٍّ قُلْتُ وَإِنْ سُلِّمَ مَعْرِفَةُ عَلِيٍّ قَبْلَ هَذَا الْإِخْبَارِ لَكِنْ لَا يُسَلَّمُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِيذَانُ لِلْغَيْرِ مِنْ الْحَاضِرِينَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ وَأَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْغَيْرُ ابْتِدَاءً وَعَلِيٌّ حَاضِرٌ فِي الْمَجْلِسِ «فِيهِ» أَيْ فِي الْقُرْآنِ «نَبَأُ» خَبَرُ «مَا قَبْلَكُمْ» مِنْ قَصَصِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلِاعْتِبَارِ فَإِنَّ السَّعِيدَ مِنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ «وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ» مِنْ نَحْوِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَالْمُجَازَاةِ وَالْمُحَاسَبَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلِانْزِجَارِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالْإِقْدَامِ عَلَى الطَّاعَاتِ «وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ» مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اعْتِقَادِيَّةً أَوْ عَمَلِيَّةً دُنْيَوِيَّةً أَوْ أُخْرَوِيَّةً.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]- «هُوَ» أَيْ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى «الْفَصْلُ» أَيْ الْكَامِلُ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لَا غَيْرَهُ، يُشِيرُ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]- بِمَعْنَى الْفَاصِلِ فَلِلْمُبَالَغَةِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ «لَيْسَ بِالْهَزْلِ» لِأَنَّ نُزُولَهُ لَيْسَ بِهَزْلٍ بَلْ بِجِدٍّ كُلِّهِ يُشِيرُ إلَى قَوْله تَعَالَى - {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13]{وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 14]- فُسِّرَ فِيهِ بِالْعَبَثِ أَوْ الْبَاطِلِ أَوْ الْكَذِبِ.

«مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ» بَيَانٌ لِمَنْ، وَقَيْدٌ وُقُوعِيٌّ لَا احْتِرَازِيٌّ إذْ لَا يَتْرُكُ عَمَلَ الْقُرْآنِ إلَّا الْجَبَّارُ وَالْجَبَّارُ كُلُّ عَاتٍ وَقَلْبٌ لَا تَدْخُلُهُ الرَّحْمَةُ وَالْقِتَالُ فِي غَيْرِ حَقِّ كَذَا فِي الْقَامُوسِ «قَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى» أَهْلَكَهُ اللَّهُ أَوْ أَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ أَوْ قَطَعَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ قَطْعًا بَيِّنًا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْفَاصِلِ الْقَوِيِّ وَالْمَخْرَجِ مِنْ الْفِتْنَةِ لِعَلِيٍّ وَالْجُمْلَةُ إمَّا دُعَاءٌ عَلَيْهِ أَوْ إخْبَارٌ بِمَا يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا «وَمَنْ ابْتَغَى» أَيْ طَلَبَ «الْهُدَى» الدَّلَالَةَ «فِي غَيْرِهِ» كَالْعَقْلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَكَالْكُتُبِ الْمَنْسُوخَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ «أَضَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى» بِخَلْقِهِ فِيهِ الضَّلَالَةَ أَيْ فِقْدَانُ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ لَا خَالِقَ سِوَاهُ.

وَأَمَّا إسْنَادُ الضَّلَالَةِ إلَى الشَّيْطَانِ وَالْأَصْنَامِ فَمَجَازٌ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ وَأَمَّا بِوَاقِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ فَقِيلَ بِرُجُوعِهَا إلَى الْكِتَابِ لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ عَدُّ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ كُلًّا مِنْهَا دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا وَمُقَابِلًا لِلْآخَرِ وَعَدَمُ ثُبُوتِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِالْقُرْآنِ اسْتِقْرَاءٌ وَبَعْضُ الْأَحَادِيثِ أَيْضًا كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّف وَدَعْوَى عَدَمِ وُقُوفِنَا تَحَكُّمٌ غَيْرُ مُفِيدٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرَ حُجِّيَّةِ الْكُلِّ وَمَأْمُورِيَّتِهِ فَالْعَمَلُ بِالْكُلِّ عَمَلٌ بِالْكِتَابِ «وَهُوَ» أَيْ الْقُرْآنُ «حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ» قِيلَ عَنْ التُّورْبَشَتَّي شَارِحِ الْمَصَابِيحِ الْحَبْلُ يُسْتَعَارُ لِلْوَصْلِ وَلِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى شَيْءٍ وَالْمَعْنَى هُوَ السَّبَبُ الْقَوِيُّ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ.

«وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ» قِيلَ إعَادَةُ الضَّمِيرِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّلَذُّذِ بِذِكْرِ مَا يُرْجَعُ إلَيْهِ أَقُولُ الْأَوْجَهُ لِإِفَادَةِ اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَصْفِ ذُكِرَ

ص: 47

وَلِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ أَيْ الذِّكْرِ الْمُحْكَمِ الْمَمْنُوعِ مِنْ الْبَاطِلِ وَالنَّسْخِ وَمِنْ تَطَرُّقِ الْخَلَلِ أَوْ الْحَاكِمِ أَيْ الْمَانِعِ عَنْ الْفَسَادِ وَالتَّحْرِيفِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ «وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ» أَيْ الطَّرِيقُ السَّوِيُّ أَيْ طَرِيقُ الْحَقِّ أَوْ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ.

كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ «وَهُوَ الَّذِي لَا يَزِيغُ» لَا يَمِيلُ «بِهِ الْأَهْوَاءُ» الْبَاءُ لِلتَّعَدِّيَةِ أَيْ لَا يَمِيلُ بِهِ الْبَطَلَةُ أَوْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْفِرَقُ الضَّالَّةُ عَنْ الْحَقِّ إلَى غَيْرِ الْحَقِّ وَقَيْدُ الْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ وَتَكَلُّفٌ فِي تَفْسِيرِ الْأَهْوَاءِ بِإِرَادَةِ النَّفْسِ بِمَعْنَى إرَادَةِ النُّفُوسِ وَآرَائِهَا مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ لَا تَزِيغُ بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِ عَنْ الْحَقِّ «وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ» يَعْنِي لَا يُشْبِهُ وَلَا يُشْبِهُهُ كَلَامُ أَحَدٍ لِإِعْجَازِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَغْيِيرِهِ وَتَصَرُّفٍ فِيهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ سَوَاءً فِي جَوَاهِرِهِ أَوْ فِي أَوْصَافِهِ لِغَايَةِ ظُهُورِهِ وَوُضُوحِهِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]- «وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ» قِيلَ لِأَنَّهُ بَحْرُ الْمَعَانِي فَكُلُّ ظَمَأٍ يُطْلَبُ رِيُّهُ مِنْهُ وَفِيهِ غِذَاءُ الْعُلَمَاءِ وَتَرْبِيَةُ كَمَالِهِمْ الرُّوحَانِيِّ وَقِيلَ هُمْ الَّذِينَ عَرَفُوهُ تَعَالَى بِجَلَالِ ذَاتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَقِيلَ أَيْ الْقُرْآنُ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ لِكَمَالِ لَذَّتِهِ وَنِهَايَةِ حَلَاوَتِهِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ وَالْبَدَائِعِ الْغَرِيبَةِ وَالْأَسَالِيبِ الْمُسْتَحْسَنَةِ «وَلَا يَخْلَقُ» مِنْ الْبِلَى «مِنْ كَثْرَةِ التَّكْرَارِ» مِنْ تَكْرِيرِ تِلَاوَتِهِ وَمُطَالَعَتِهِ وَكَثْرَةِ مُسْتَعْمَلِيهِ وَمُسْتَمِعِيهِ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ تَكْرِيرُهُ يَزْدَادُ حُسْنُهُ وَبَهْجَتُهُ «وَلَا تَنْقَضِي» أَيْ تَنْتَهِي وَتَنْقَطِعُ «عَجَائِبُهُ» مِنْ الْعُلُومِ الْغَرِيبَةِ وَالْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ وَالدَّقَائِقِ اللَّطِيفَةِ لِعَدَمِ انْتِهَائِهَا فِي حَدٍّ.

«هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ» أَيْ لَمْ تَعْرِضْ الْجِنُّ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ «إذْ سَمِعَتْهُ» أَيْ وَقْتَ سَمَاعِ الْجِنِّ الْقُرْآنَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ عَنْ الْخَازِنِ هَلْ رَأَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِنَّ نَعَمْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَلَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

«قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَ الشَّيَاطِينُ إلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا مَا لَكُمْ فَقِيلَ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالُوا وَمَا ذَاكَ إلَّا مِنْ نَبِيٍّ قَدْ حَدَّثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا نَحْوَ تِهَامَةَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِنَخْلَةٍ عَامِدًا إلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا وَقَالُوا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَرَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ» .

وَعَلَى هَذَا فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْلَمْ بِاسْتِمَاعِهِمْ وَلَا كَلِمِهِمْ وَإِنَّمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ عز وجل بِمَا أُوحِيَ إلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ {قُلْ أُوحِيَ} [الجن: 1] إلَخْ كَذَا قِيلَ وَنُقِلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْوَاحِدِيِّ «عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إنَّا لَمْ نَرَ الْجِنَّ فِي لَيْلَةِ الْجِنِّ أَنْفُسِهِمْ لَكِنْ أَرَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ» .

وَالظَّاهِرُ مِنْهُ رُؤْيَتُهُمْ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَعَنْ الْخَازِنِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِنْذَارِ الْجِنِّ فَصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ فَاسْتَتْبَعَ عليه الصلاة والسلام أَصْحَابَهُ حِينَ ذَهَابِهِ إلَى الْجِنِّ فَطَفِقُوا ثَمَّ وَثَمَّ فِي الثَّالِثَةِ تَبِعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ فَانْطَلَقْنَا إلَى شِعْبِ الْحُجُونِ وَخَطَّ لِي خَطًّا ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ وَلَا أَخْرُجَ فَانْطَلَقَ فَافْتَتَحَ

ص: 48

الْقُرْآنَ وَسَمِعْتُ لَفْظًا شَدِيدًا حَتَّى خِفْت عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَشِيَتْهُ أَسْوِدَةٌ كَثِيرَةٌ حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى لَمْ أَسْمَعْ صَوْتَهُ فَفَرَغَ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْفَجْرِ فَانْطَلَقَ إلَيَّ فَقَالَ لِي نِمْتَ فَقُلْت لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ مِرَارًا أَنْ أَسْتَغِيثَ بِالنَّاسِ حَتَّى سَمِعْتُك تَقْرَعُهُمْ بِعَصَاك تَقُولُ اجْلِسُوا فَقَالَ هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا قُلْت نَعَمْ رِجَالًا سُودًا بِثِيَابٍ بِيضٍ قَالَ أُولَئِكَ جِنُّ نَصِيبِينَ سَأَلُونِي الْمَتَاعَ، وَالْمَتَاعُ الزَّادُ فَمَتَّعْتهمْ بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ وَرَوْثَةٍ وَبَعْرَةٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تَغْدِرُهَا النَّاسُ فَقُلْت وَمَا يُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُمْ فَقَالَ إنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَظْمًا إلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ يَوْمَ أُكِلَ وَلَا رَوْثَةً إلَّا وَجَدُوا فِيهَا حَبَّهَا يَوْمَ أُكِلَتْ فَقُلْت سَمِعْت لَغَطًا شَدِيدًا فَقَالَ إنَّ الْجِنَّ بَدَرَتْ فِي قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَهُمْ فَتَحَاكَمُوا إلَيَّ فَقَضَيْت بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» .

«قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - هُمْ سَبْعَةٌ مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ فَجَعَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُسُلًا إلَى قَوْمِهِمْ» وَقَالَ آخَرُونَ تِسْعَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ الْجِنَّ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ بِهَا فِي الْهَوَاءِ وَصِنْفٌ عَلَى صُورَةِ الْحَيَّاتِ وَالْكِلَابِ وَصِنْفٌ يَرْحَلُونَ وَيَظْعَنُونَ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْجِنَّ كَانُوا يَهُودًا فَأَسْلَمُوا قَالُوا وَفِي الْجِنِّ مِلَلٌ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْإِنْسِ فَفِيهِمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ وَعَبَدَةُ الْأَصْنَامِ وَفِي مُسْلِمِيهِمْ مُبْتَدَعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَكُلُّهُمْ مُكَلَّفُونَ «حَتَّى قَالُوا» لِقَوْمِهِمْ لَمَّا رَجَعُوا إلَيْهِمْ « {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] » ذَا عَجَبٍ يُعْجَبُ مِنْهُ لِبَلَاغَتِهِ وَعَدَمِ مُشَابَهَتِهِ بِكَلَامِ أَحَدٍ وَلِغَايَتِهِ فِي حُسْنِ النَّظْمِ وَدِقَّةِ مَعْنَاهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ.

« {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 2] » إلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ « {فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 2] » أَيْ: الْقُرْآنِ «فَمَنْ قَالَ بِهِ» اسْتَدَلَّ بِالْقُرْآنِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ «صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ» بِمَضْمُونِهِ «أُجِرَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ يَعْنِي يُعْطِي اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَجْرًا «وَمَنْ حَكَمَ بِهِ» فِي نَفْسِهِ أَوْ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ «عَدَلَ» فِي حُكْمِهِ «وَمَنْ دَعَا» النَّاسَ «إلَيْهِ» بِالْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ وَالتَّدْرِيسِ أَوْ بِالتَّمَسُّكِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ «هُدِيَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَوْصَلَهُ «إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» مُعْتَدِلٍ وَهُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ الْمُؤَدِّي إلَى الْجَنَّةِ.

السَّادِسُ حَدِيثُ (حك) الْحَاكِمُ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» وَهِيَ حَجَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّنَةِ

ص: 49

الْعَاشِرَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ لِتَوْدِيعِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَصْحَابَهُ فِيهَا إذْ عَاشَ بَعْدَهَا إحْدَى وَثَمَانِينَ لَيْلَةً وَعَنْ تَخْرِيجِ الشَّعْبِيِّ «عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ غَيْرَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ» وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَبِمَكَّةَ أُخْرَى.

وَعَنْ السُّيُوطِيّ أَنَّهُ حَجَّ حَجَّةً قَبْلَ فَرْضِيَّتِهِ وَحَجَّةً بَعْدَهَا وَهِيَ الَّتِي وَدَّعَ أَصْحَابَهُ فِيهَا وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لِمَا أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْكَمَالِ إلَّا النُّقْصَانُ وَخَطَبَ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَة خُطْبَةً مِنْهَا مَا.

(قَالَ «إنَّ الشَّيْطَانَ» أَيْ جِنْسَهُ أَوْ رَئِيسَهُ الْمَعْهُودَ «قَدْ يَئِسَ» مِنْ الْيَأْسِ بِمَعْنَى قَطْعِ الطَّمَعِ «أَنْ يُعْبَدَ» عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ «بِأَرْضِكُمْ» الْمُخَاطَبُونَ هُمْ الصَّحَابَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ الْأَرْضِ مُطْلَقُ مَا سَكَنُوا مِنْ الدِّيَارِ فَالتَّخْصِيصُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَيْسَ لَهُ مُخَصِّصٌ كَمَا يُوهِمُ الظَّاهِرُ مِنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ مَا أُشِيرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]- لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ هُوَ مُطْلَقُ تَبَعِيَّتِهِ كُفْرًا أَوْ غَيْرَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ وَإِنْ سَلِمَ انْقِطَاعُ الْكُفْرِ فِي أَرَاضِي الْأَصْحَابِ لَكِنَّهُ لَا يَخْفَى فِي عَدَمِ انْقِطَاعِ الْعِصْيَانِ فِيهِمْ وَتَخْصِيصُهُ بِالشِّرْكِ كَمَا تَوَهَّمَ مَعَ عَدَمِ مُخَصِّصِهِ وَتَخَالُفِهِ لِأَصْلِ جَرَيَانِ الْمُطْلَقِ عَلَى إطْلَاقِهِ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ وَلَكِنْ رَضِيَ إلَخْ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْكَلَامُ بِالنَّظَرِ إلَى خَيْرِ الْقُرُونِ سِيَّمَا بِأَكْثَرِهِمْ وَقَدْ قَالُوا لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ وَلَا يُعْتَبَرُ الْأَقَلُّ النَّادِرُ ثُمَّ الْوَجْهُ فِي عَدَمِ مَعْبُودِيَّةِ الشَّيْطَانِ إكْمَالُ الدِّينِ بِشَوْكَةِ الْإِسْلَامِ وَمَقْهُورِيَّةِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ مُعِينُ الشَّيْطَانِ «وَلَكِنْ رَضِيَ مِنْكُمْ أَنْ يُطَاعَ» إطَاعَتَكُمْ لَهُ «فِيمَا سِوَى ذَلِكَ» فِي غَيْرِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الَّتِي يَئِسَ.

وَالظَّاهِرُ كَمَا أُشِير أَنَّهُ الْكُفْرُ وَالْكَبِيرَةُ لَا الشِّرْكُ فَقَطْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ «فِيمَا تَحْتَقِرُونَ» إذْ الْمُتَبَادَرُ هُوَ الصَّغِيرَةُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقَارَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُفْرِ بَعِيدٌ «مِنْ أَعْمَالِكُمْ» بَدَلٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ مِنْ أَعْمَالِكُمْ بَيَانٌ لِمَا، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا كَبِيرَةٌ عِنْدَ اللَّهِ لَكِنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا صَغِيرَةً كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]- لَكِنْ يُرَدُّ حِينَئِذٍ أَنَّ اسْتِحْقَارَ الصَّغِيرَةِ وَاسْتِخْفَافَهَا خَطَأٌ عَظِيمٌ فَضْلًا عَنْ الْكَبِيرَةِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا أُرِيدَ هُنَا وَبَيْنَ مَا هُنَالِكَ وَقِيلَ إذَا اُسْتُصْغِرَ ذَنْبٌ فَهُوَ كَبِيرَةٌ وَإِنْ اُسْتُكْبِرَ فَصَغِيرَةٌ.

«فَاحْذَرُوا» مِنْ إطَاعَةِ الشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ الْمُحْتَقَرِ «إنِّي قَدْ تَرَكْت فِيكُمْ» بَيَانُ سَبَبِ التَّحْذِيرِ يَعْنِي أَنَّ الْحَذَرَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا أَبْقَيْت لَكُمْ «مَا» أَيْ شَيْئًا عَظِيمًا «إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا» لَا تَقَعُونَ فِي الضَّلَالَةِ «أَبَدًا» الدَّوَامُ فِي عَدَمِ الضَّلَالَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالدَّوَامِ بِالِاعْتِصَامِ فَإِنْ قِيلَ لَفْظٌ (إنْ) لِلْإِهْمَالِ فَفِي قُوَّةِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَلْزَمُ كِفَايَةُ بَعْضِ الِاعْتِصَامِ فِي دَوَامِ عَدَمِ الضَّلَالَةِ قُلْت لَعَلَّ (إنْ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى إذَا وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا مُهْمَلَاتُ الْعُلُومِ كُلِّيَّاتٌ «كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

ص: 50

فَإِنْ قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَطْلَبَ كِفَايَةُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ فَقَطْ وَهَذَا الْكَلَامُ صَرِيحٌ فِي لُزُومِ الْمَجْمُوعِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَظَوَاهِرِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ بِاسْتِقْلَالِ الْقُرْآنِ فِي الِاعْتِصَامِ وَهَذَا بِلُزُومِ الْمَجْمُوعِ قُلْنَا قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْأَرْبَعَةَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعَةٌ إلَى الْكِتَابِ فَالتَّعَدُّدُ وَالتَّغَايُرُ لَيْسَ إلَّا بِالْأَوْصَافِ وَالِاعْتِبَارِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ بِبَعْضِ تَغْيِيرٍ وَزِيَادَةٍ أَوْرَدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ عَلَى تَخْرِيجِ الْحَاكِمِ بِأَنَّ الْأَوْلَى ذِكْرُهُ تَمَامًا وَشَنَّعَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ عِلْمِ الْمُصَنِّفِ بِأَحْوَالِ الْحَدِيثِ وَعَدَمِ اطِّلَاعِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَأَحَادِيثُهُ لَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ بَلْ مِنْ الْحَوَاشِي وَبَعْضِ الْكُتُبِ وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ الْغَلَطَاتِ وَالْهَذَايَانَاتِ

وَدُفِعَ بِأَنَّ الْمُحَدِّثِينَ يُجَوِّزُونَ الِاكْتِفَاءَ بِمُجَرَّدِ مَحَلِّ الِاسْتِشْهَادِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ فِيهِ مُخْتَلِفَةً وَالنَّقْلُ بِالْمَعْنَى جَائِزٌ عِنْدَهُمْ وَأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ الصَّحِيحَةِ أَعْطَاهَا السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ فَالْأَخْذُ مِنْ نَحْوِ الْحَوَاشِي وَالْأَطْرَافِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْغَلَطِ وَالسَّقَطِ وَالْهَذَايَانَاتِ فِرْيَةٌ بِلَا مِرْيَةٍ وَسُوءِ ظَنٍّ وَافْتِرَاءٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي اقْتِصَارِ الْحَدِيثِ قِيلَ بِمَنْعِهِ مُطْلَقًا وَالْأَكْثَرُ بِجَوَازِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعَالِمَ لَا يَنْقُصُ بِمَا يُغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى وَيُخِلُّهُ وَالْجَاهِلُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُحَافَظَتِهِ وَأَمَّا النَّقْلُ بِالْمَعْنَى فَالْخِلَافُ فِيهِ شَهِيرٌ وَالْأَكْثَرُ عَلَى الْجَوَازِ وَقِيلَ إنَّمَا يَجُوزُ فِي الْمُفْرَدَاتِ دُونَ الْمُرَكَّبَاتِ.

وَقِيلَ وَالتَّفْصِيلُ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ لِابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ وَأَقُولُ تَفْصِيلُ هَذَا الْمَبْحَثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ شَرَفُ الدِّينِ الطِّيبِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ أَنَّ اخْتِصَارَ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِجَائِزٍ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضٍ وَجَائِزٌ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضٍ مُطْلَقًا قَالَ مُجَاهِدٌ رحمه الله اُنْقُصْ مِنْ الْحَدِيثِ مَا شِئْت وَلَا تَزِدْ فِيهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنَّ مِنْ الْعَالِمِ عِنْدَ عَدَمِ تَعَلُّقِ الْمَتْرُوكِ بِالْمَذْكُورِ كَالصِّفَاتِ لَهُ وَفِي الْمَشَارِقِ.

وَأَمَّا تَقْطِيعُ الْمُصَنِّف لِلِاحْتِجَاجِ فَهُوَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ كَمَا إذَا أَتَى بِمَسْأَلَةٍ فِي الصَّلَاةِ مِثْلُ مَا يَكُونُ مَحَلَّ اسْتِشْهَادٍ مِنْ بَعْضِ الْحَدِيثِ مَعَ قَطْعِهِ عَنْ بَاقِيهِ وَقَدْ فَعَلَهُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ الْأَئِمَّةِ.

وَأَمَّا مَا تُعُقِّبَ عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ الْكَرَاهَةِ فَرَدَّهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ فِي الْعُلُومِ احْتِجَاجًا بِبَعْضِ الْحَدِيثِ كَاسْتِشْهَادِ النَّحْوِيِّينَ وَإِذَا أَتْقَنْت هَذَا عَرَفْت دَفْعَ إيرَادِ الْمُشَنِّعِ عَلَى وَجْهٍ تَحْقِيقِيٍّ لَا عَلَى وَجْهٍ ظَاهِرِيٍّ وَامْتِنَاعِيٍّ كَمَا فِي كَلَامِ الدَّافِعِ.

وَأَمَّا سَائِرُ فُحْشِيَّاتِ الْمُشَنِّعِ فَلِوُضُوحِ بُطْلَانِهِ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ضَائِعٌ. وَالسَّابِعُ حَدِيثُ (ت) أَيْ التِّرْمِذِيُّ (عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاسْتَظْهَرَهُ» أَيْ حَفِظَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ بِلَا كِتَابٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ أَيْ جَمَعَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالْحِفْظِ فَيَلْزَمُ اخْتِصَاصُ هَذَا الْأَجْرِ الْآتِي بِهَذَا الْجَامِعِ وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنْ الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ

أَقُولُ يَجُوزُ اخْتِصَاصُ هَذَا الْأَجْرِ بِحَمَلَةِ الْقُرْآنِ وَحَفَظَتِهِ لِمَزِيدِ تَفَهُّمِهِمْ الْمَعْنَى هَذَا لَيْسَ أَجْرَ الْقِرَاءَةِ فَقَطْ بَلْ لَهُ أَتْعَابُ الْحِفْظِ وَمَشَقَّتُهُ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُحَالَ ذَلِكَ عَلَى دَلَالَةِ النَّصِّ وَبِالْجُمْلَةِ فَضْلُ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ وَاضِحُ الْبُرْهَانِ وَلِذَا تَرَى الْفُقَهَاءَ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ حِفْظَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَدْرُ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَرْضُ عَيْنٍ وَالْفَاتِحَةُ مَعَ سُورَةٍ وَاجِبٌ.

قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لِحَافِظِ الْقَدِيمِ: يَحْمِلُ الْمُحَدِّثُ الْقُرْآنَ يَحْمِلُك وَيَحْمِلُنَا وَيَحْفَظُك وَيَحْفَظُنَا ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْحَدِيثِ كَمَالُهُ لَا الْمُطْلَقُ فَهَذَا الْأَجْرُ لِقَارِئِ الْجَمِيعِ وَحَافِظِهِ لَا الْمُطْلَقُ وَلَوْ أَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْآنِ «فَأَحَلَّ حَلَالَهُ» الظَّاهِرُ الْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ فَالْمَعْنَى كَانَ قِرَاءَتُهُ لِأَجْلِ اتِّخَاذِ حِلِّهِ وَحُرْمَتِهِ حَلَالًا وَحَرَامًا وَعَمَلُهُ فَيَشْكُلُ بِقِرَاءَةِ الْعَامِّيِّ بَلْ الْخَوَاصُّ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ مِنْ الْفِقْهِ وَيَقْرَءُونَ لِمُجَرَّدِ ثَوَابِ التِّلَاوَةِ بِلَا وُقُوفٍ عَلَى مَعْنَاهُ وَقَصْدِ عَمَلِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُؤْجَرَ بِهَذَا الْأَجْرِ لَعَلَّ ذَلِكَ يَنْدَفِعُ بِبَعْضِ مَا ذُكِرَ آنِفًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَجْرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمَخْصُوصَةِ لَا أَجْرَ مُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ.

«وَحَرَّمَ حَرَامَهُ» أَيْ اتَّخَذَ مَا حَرَّمَهُ حَرَامًا وَتَجَنَّبَ عَنْهُ ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ إضَافَتَيْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ هُوَ الِاسْتِغْرَاقُ فَلَوْ تَرَكَ حَلَالًا وَاحِدًا أَوْ فَعَلَ حَرَامًا وَاحِدًا لَزِمَ أَنْ لَا يُؤْجَرَ إلَّا أَنْ يُقَالَ

ص: 51