الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذْ لَا نَصَّ فِي كَوْنِ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ وَلِسَانُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَيْضًا فِي كَوْنِ اللَّامِ فِي الْجَنَّةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَلَا شَيْءَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فَلَا بُدَّ فِي النَّفْيِ مِنْ رِوَايَةٍ صَرِيحَةٍ إذْ لَا يَكْفِي الدِّرَايَةُ فِي مِثْلِهِ سِيَّمَا فِي مُقَابَلَةِ الْكَافِي، وَالْمُبْتَغَى، وَالدَّيْلَمِيِّ (فَمَنْ تَعَلَّمَهَا أَوْ عَلَّمَهَا غَيْرَهُ فَهُوَ مَأْجُورٌ) كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة بَعْدَمَا عَدَّ الْعَرَبِيَّةَ كُلَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ (لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] وَقَالَ {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195](فَمَنْ تَعَلَّمَهَا) أَيْ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ (فَإِنَّهُ يَفْهَمُ بِهَا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ) أَيْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِيُّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ وَتَخْصِيصٍ وَمُقَايَسَةٍ كَأَقْسَامِهِ مِنْ الظَّاهِرِ، وَالنَّصِّ، وَالْمُفَسَّرِ، وَالْمُحْكَمِ وَنَحْوِهَا أَوْ مَعْنَاهُ الَّذِي يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا دَلِيلٍ دَالٍّ عَلَى خِلَافِهِ وَصَارِفٍ يُصْرَفُ عَنْ ظَاهِرِهِ أَوْ مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَاتٍ اجْتِهَادِيَّةٍ وَقَوَاعِدَ اسْتِنْبَاطِيَّةٍ وَبَاطِنُ الْقُرْآنِ إمَّا خِلَافُ مَا أُشِيرَ آنِفًا وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِأَقْسَامِهِ الْخَفِيَّةِ كَالْخَفِيِّ، وَالْمُشْكِلِ، وَالْمُجْمَلِ، وَالْكِنَايَةِ وَنَحْوِهَا فَمَعْرِفَتُهُ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْعَرَبِيَّةِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى عُلُومٍ أُخَرَ وَلِهَذَا اخْتَصَّ مَعْرِفَتُهُ بِالْمُجْتَهِدِ.
وَأَمَّا مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ وَلِكُلِّ حَرْفٍ مَطْلَعٌ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ مَرْفُوعًا «الْقُرْآنُ تَحْتَ الْعَرْشِ لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ بَلَغَ وُجُوهَ الظَّهْرِ، وَالْبَطْنِ خَمْسًا» مَذْكُورٌ فِي الْإِتْقَانِ، وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ الْقُرْآنَ ذُو شُجُونٍ وَفُنُونٍ وَظُهُورٍ وَبُطُونٍ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا تَبْلُغُ غَايَتُهُ» الْحَدِيثَ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ وَأَمَّا مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَمَعَ ذَلِكَ فِيهَا إشَارَاتٌ خَفِيَّةٌ إلَى دَقَائِقَ تَنْكَشِفُ عَلَى أَرْبَابِ السُّلُوكِ يُمْكِنُ التَّطْبِيقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُرَادَةِ فَهُوَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَمَحْضِ الْعِرْفَانِ وَلَيْسَ مِنْهُ مَا ادَّعَاهُ الْبَاطِنِيَّةُ (وَمَعَانِي الْأَخْبَارِ) النَّبَوِيَّةِ (انْتَهَى) كَلَامُ بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ كَوْنُ الْعَرَبِيَّةِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَاللَّازِمُ مِنْ الدَّلِيلِ أَيْ مَا نُقِلَ مِنْ الْبُسْتَانِ هُوَ الْفَضْلُ، وَالْفَضْلُ الْمُطْلَقُ أَعَمُّ، وَالْعَامُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْخَاصَّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ إلَّا أَنْ يُدَّعَى انْفِهَامُ الْوُجُوبِ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ إلَى آخِرِهِ وَمِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ بِهَا إلَى آخِرِهِ وَمَفْهُومُ التَّصْنِيفِ حُجَّةٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ (وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ أَعْنِي أَنَّ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى الْفَرْضِ فَرْضٌ وَكَذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ) مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَيْهِ وَاجِبٍ (وَغَيْرِهِ) مِنْ نَحْوِ السُّنَّةِ، وَالْمُسْتَحَبِّ (كَوْنُهَا فُرُوضَ كِفَايَةٍ؛ لِأَنَّ الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ) أَيْ الْعُلُومَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ فَهُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ مِنْ حَيْثُ أَصْلُهُ وَاعْتِبَارُهُ أَوْ اعْتِبَارُهُ فَقَطْ، وَالْفِقْهُ فَالْأَوَّلُ لِتَصْحِيحِ الْإِيمَانِ، وَالثَّانِي لِأَعْمَالِ الْأَرْكَانِ وَلَا شَكَّ فِي فَرْضِيَّتِهِمَا (مُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهَا) أَيْ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَيْ الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ عَرَبِيٌّ لَا يَخْفَى أَنَّ اللَّازِمَ مِنْ الدَّلِيلِ كَوْنُهَا فَرْضَ عَيْنٍ، وَالْمَطْلُوبُ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَلَا تَقْرِيبَ أَوْ أَنَّ هَذَا مُحْتَاجٌ إلَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى فَافْهَمْ تُرْشِدْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
[النَّوْعُ الثَّانِي الْعُلُومِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا]
(النَّوْعُ الثَّانِي)
مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْعُلُومِ (فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ) سَوَاءٌ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ أَوْ لِمُحَافَظَةِ عَقَائِدِ أَهْلِ الْحَقِّ كَمَا عِنْدَ ظُهُورِ مُعَانِدٍ مُكَابِرٍ يَقْصِدُ الْإِلْحَادَ (مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ) كَالتَّعَمُّقِ فِيهِ
، وَالتَّشَبُّثِ بِأَذْيَالِ الْفَلَاسِفَةِ (وَ) مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ (عِلْمِ النُّجُومِ) كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ (أَمَّا الْأَوَّلُ) فَقَدْ قَالَ (فِي حَقِّهِ) فِي الْخُلَاصَةِ (تَعَلُّمُ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ فِيهِ) أَيْ التَّعَمُّقِ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ (وَالْمُنَاظَرَةِ) أَيْ الْمُجَادَلَةِ لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ (وَرَاءَ قَدْرِ الْحَاجَةِ) مِنْ حَيْثُ تَصْحِيحُ الِاعْتِقَادِ وَرَدُّ شُبْهَةِ الْخَصْمِ (مَنْهِيٌّ عَنْهُ) يَشْكُلُ بِمَا فِي الْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ أَنَّ النَّظَرَ أَيْ الْفِكْرَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَبِمَا فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50]{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]- وَأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبٌ وَمُطْلَقٌ وَمُتَوَقِّفٌ عَلَى النَّظَرِ وَمَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ وَاجِبٌ.
ثُمَّ قَالَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ التَّصْدِيقُ بِوُجُودِهِ وَصِفَاتِهِ تَعَالَى الْكَمَالِيَّةِ، وَالثُّبُوتِيَّةِ، وَالسَّلْبِيَّةِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَدْرَ الطَّاقَةِ لَا يُحَدُّ بِقَدْرِ حَاجَةٍ بَلْ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ الْكُلِّ.
(وَقَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ)(وَدَفْعُ الْخَصْمِ) أَيْ خَصْمِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَعَامَّةِ أَهْلِ الْهَوَى، وَالْفَلَاسِفَةِ (وَإِثْبَاتُ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ)(يَحْتَاجُ إلَيْهِ) سَوَاءٌ كَانَ الْخَصْمُ مَوْجُودًا بِالْفِعْلِ أَوْ لَا لِاحْتِمَالِ ظُهُورِهِ بَغْتَةً كَأَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ الْخُلَاصَةِ قَدْرَ الْحَاجَةِ فَقَدْرُ الْحَاجَةِ بِدَفْعِ الْخَصْمِ وَإِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ (والتتارخانية) وَعِبَارَتُهَا.
(وَفِي النَّوَازِلِ قَالَ أَبُو نَصْرٍ: بَلَغَنِي أَنَّ حَمَّادَ بْنَ أَبِي حَنِيفَةَ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ (كَانَ يَتَكَلَّمُ) بِالْمُنَاظَرَةِ، وَالْمُجَادَلَةِ (فِي عِلْمِ الْكَلَامِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ) أَبُوهُ (أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ) عَلَى طَرِيقِ الْعَرْضِ، وَالِاسْتِفْسَارِ لَا عَلَى طَرِيقِ الرَّدِّ، وَالْمُنَاقَشَةِ (قَدْ رَأَيْتُك تَتَكَلَّمُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ) أَيْ فِي الْمُنَاظَرَةِ فِي الْكَلَامِ وَإِلَّا فَلَا تَحْسُنُ الْمُقَابَلَةُ (فَمَا بَالَك تَنْهَانِي عَنْهُ) يَعْنِي إنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّا قَدْ رَأَيْنَاك تَتَكَلَّمُ وَإِنَّ شَأْنَ مِثْلِنَا الِاقْتِدَاءُ بِك وَأَنْتَ تَمْنَعُنَا فَمَا وَجْهُ مَنْعِك أَوْ كَيْفَ تَمْنَعُنَا، وَأَنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ.
(قَالَ لَهُ يَا بُنَيَّ) تَصْغِيرُ الِابْنِ لِلِاسْتِشْفَاقِ (كُنَّا نَتَكَلَّمُ) أَيْ بِالْمُنَاظَرَةِ كَمَا عَرَفَتْ (وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا) مَعَ مَنْ نَاظَرَنَا مَعَهُ عَلَى غَايَةِ التَّحَفُّظِ وَنِهَايَةِ التَّحَرُّزِ حَتَّى (كَأَنَّ الطَّيْرَ عَلَى رَأْسِنَا) قِيلَ مَثَلٌ لِكَمَالِ التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ، وَالتَّدَبُّرِ فِيهَا لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْهَلَكَةِ وَشَيْءٍ مِنْ خَطَرِهِ كَقَصْدِ تَغْلِيطِ الْخَصْمِ وَتَخْجِيلِهِ، وَالتَّفَوُّقِ عَلَيْهِ وَإِيقَاعِ الزَّلَّةِ عَلَيْهِ (مَخَافَةَ أَنْ نَزِلَّ) مِنْ الزَّلَلِ أَيْ نَقَعَ فِي الزَّلَلِ، وَالْخَطَأِ لِعِظَمِ خَطَئِهِ وَهُوَ الْكُفْرُ (وَأَنْتُمْ تَتَكَلَّمُونَ الْيَوْمَ وَكُلُّ وَاحِدٍ) مِنْكُمْ (يُرِيدُ أَنْ يَزِلَّ صَاحِبُهُ) لِيَغْلِبَ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ (وَإِذَا أَرَادَ) أَحَدُكُمْ (أَنْ يَزِلَّ صَاحِبُهُ فَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَكْفُرَ) مِنْ التَّكْفِيرِ (صَاحِبُهُ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ الْمُنَاظَرَةُ فِي أُصُولِ الْكَلَامِ وَأُمَّهَاتِهِ وَإِلَّا فَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَوَاصِّ، وَالْفَضَائِلِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النِّزَاعُ، وَالْغَلَبَةُ إلَى نَحْوِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخَطَأَ فِي الْعَقَائِدِ لَيْسَ كُلُّهُ كُفْرًا فَإِزْلَالُ الْخَصْمِ فِي هَذَا الْجِنْسِ لَيْسَ بِكُفْرٍ لِعَدَمِ الرِّضَا بِالْكُفْرِ (وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ صَاحِبَهُ فَقَدْ كَفَرَ قَبْلَ أَنْ يَكْفُرَ صَاحِبُهُ) لِرِضَاهُ بِكُفْرِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الرِّضَا عِنْدَنَا وَجَعَلَ عِلَّةَ الْكُفْرِ شَيْئًا حَاصِلًا فِي الْإِرَادَةِ غَيْرَ الرِّضَا بَعِيدٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْإِرَادَةُ غَيْرُ مُنْفَكَّةٍ عَنْ الرِّضَا لَكِنْ لَوْ كَانَ الْخَصْمُ مِنْ أَهْلِ الْهَوَى سِيَّمَا مِمَّنْ وَصَلَ هَوَاهُ إلَى الْكُفْرِ وَظَهَرَ تَعَنُّتُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ إزْلَالَهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ بَلْ إعَانَةَ دِينٍ وَغَيْرَةً بَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمُقَدِّمَاتِ السَّفْسَطِيَّةِ، وَالْمَبَادِئِ الشُّعَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ إلْزَامِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْجَدَلِيَّةِ بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ فَتَأَمَّلْ.
ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَ حَضْرَةِ الْإِمَامِ
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مُشْكِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّهُ سُوءُ ظَنٍّ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الصَّلَاحِ لَازِمٌ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَإِنَّهُ كَيْفَ يُقَدَّمُ حَمَّادٌ وَيَجْهَلُ عَلَى مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُجْتَهِدِينَ بَلْ عُدَّ هُوَ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا ثَالِثًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إكْفَارُ حَمَّادٍ مَعَ جَمِيعِ مَنْ نَاظَرَ مَعَهُ.
إذْ حَاصِلُ مَا ذُكِرَ أَنْتُمْ فِي مُنَاظَرَتِكُمْ فِي الْكَلَامِ مُرِيدُونَ كُفْرَ أَصْحَابِكُمْ وَكُلُّ مَرِيدٍ ذَلِكَ كَافِرٌ فَأَنْتُمْ فِي مُنَاظَرَتِكُمْ كَافِرُونَ. أَقُولُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْإِمَامِ بِنَاءً عَلَى فَهْمِهِ ذَلِكَ مِنْ الْقَرَائِنِ وَعَلَى طَرِيقِ النَّصِيحَةِ لِكَمَالِ الشَّفَقَةِ. وَقَوْلُهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ يُرِيدُ إلَى آخِرِهِ قَضِيَّةٌ مُمْكِنَةٌ لَا فِعْلِيَّةٌ أَيْ لَا يَأْمَنُ مِنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ بَلْ يَتَوَقَّعُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَعَنْ أَبِي اللَّيْثِ الْحَافِظِ) الظَّاهِرِ حَافِظِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَتْنًا وَإِسْنَادًا وَهُوَ غَيْرُ أَبِي اللَّيْثِ الْفَقِيهِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَمَرْقَنْدِيًّا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَهُوَ كَانَ بِسَمَرْقَنْدَ) مِنْ بُلْدَانِ بُخَارَى (مُقَدَّمَاتٌ فِي الزَّمَانِ عَلَى الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ) الْمَشْهُورِ صَاحِبِ التَّنْبِيهِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْبُسْتَانِ.
(قَالَ)(مَنْ اشْتَغَلَ بِالْكَلَامِ) عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَرْضِيٍّ وَوَرَاءَ حَاجَةٍ تَوْفِيقًا لِكَلَامِهِمْ وَإِلَّا فَتَنَاقَضَ (مُحِيَ) بِالْمَفْعُولِ (اسْمُهُ) أَيْ نَفْسُهُ (مِنْ دَفْتَرِ الْعُلَمَاءِ) لِكُفْرِهِ أَوْ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَدِّ بِهَا لِفِسْقِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا تَجُوزُ إمَامَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَطَاءَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ وَإِنْ اعْتَقَدُوا كَوْنَهُ عَالِمًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِعَالَمٍ كَمَا فِي الْبَزَّازِيِّ.
(وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ يُكْرَهُ الْخَوْضُ فِي الْكَلَامِ مَا لَمْ تَقَعْ شُبْهَةٌ) لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ يَجِبُ حَلُّهَا لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ مَنْعِ حَمَّادٍ هُوَ الْحُرْمَةُ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ فَهِيَ نَفْسُ الْحَرَامِ أَوْ قَرِيبَةٌ أَوْ يُحْمَلُ نَهْيُ حَمَّادٍ عَلَى التَّنْزِيهِ لَا التَّحْرِيمِ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فَإِنَّ النَّهْيَ كَمَا يَكُونُ لِلتَّحْرِيمِ قَدْ يَكُونُ لِلتَّنْزِيهِ كَمَا فِي الْأُصُولِ (فَإِذَا وَقَعَتْ شُبْهَةٌ وَجَبَتْ إزَالَتُهَا) لَا يَخْفَى أَنَّ إزَالَتَهَا مُحْتَاجَةٌ إلَى رُسُوخِ الْقَوَاعِدِ الْكَلَامِيَّةِ وَحُضُورِ مُقَدَّمَاتِهَا وَمَبَادِئِهَا لَدَيْهَا وَهُوَ مُقْتَضٍ لِلِاشْتِغَالِ إلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الِاشْتِغَالِ الْخَوْضُ بَعْدَ الْحُصُولِ، وَالدَّوَامِ، وَالتَّكْرَارِ بِلَا دَاعٍ (كَمَنْ يَكُونُ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ يَنْبَغِي) يَجِبُ عَلَيْهِ (أَنْ لَا يُوقِعَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ) عَقْلًا وَشَرْعًا أَمَّا شَرْعًا فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى. {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
(فَإِنْ وَقَعَ) فِي الْبَحْرِ (وَجَبَ عَلَيْنَا) شَرْعًا (إخْرَاجُهُ) مِنْ الْبَحْرِ قَالَ الْمُحَشِّي شَبَّهَ عِلْمَ الْكَلَامِ بِالْبَحْرِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبًا سَبَبٌ لِلْهَلَاكِ الدُّنْيَوِيِّ وَقِيلَ فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الشُّبْهَةِ إذَا عَرَضَتْ لَهُ أَوْ اطَّلَعَ أَنَّهَا فِي غَيْرِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ رَفْعُهَا وَإِزَالَتُهَا (انْتَهَى) كَلَامُ التَّتَارْخَانِيَّة.
(أَقُولُ أَفَادَ) أَيْ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ لِلْإِمَامِ (أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ) كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَجَبَ عَلَيْنَا إزَالَتُهَا وَقَوْلُهُ: وَإِنْ وَقَعَ وَجَبَ عَلَيْنَا إخْرَاجُهُ.
قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة الِاشْتِغَالُ بِالْكَلَامِ بِدْعَةٌ وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِي عِنْدَ السَّلَف لَكِنْ بِحُكْمِ ضَرُورَةِ دَفْعِ شُبْهَةِ الْمُبْتَدِعَةِ كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ إثْبَاتُ قَدْرِ النَّهْيِ وَرَاءَ الْحَاجَةِ وَيَقْتَضِي هَذَا كَوْنَ الْمَقْصُودِ إثْبَاتَ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ بَلْ بَابُهُ قَدْ تَقَدَّمَ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا اسْتِطْرَادِيٌّ.
وَأَمَّا الْمَقْصُودُ مِنْ النُّقُولِ أَعْنِي إثْبَاتَ قَدْرِ الْمَنْهِيِّ فَوَاضِحٌ صَرَاحَةً وَإِشَارَةً وَكِنَايَةً مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّصْرِيحِ بِالذِّكْرِ لَكِنْ لَا يَدْفَعُ الْأَوْلَوِيَّةَ كَمَا لَا يَخْفَى (لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ أَوْ يَتَعَلَّمَهُ إلَّا كُلُّ ذَكِيٍّ) فَطِنٍ لَبِيبٍ قَادِرٍ عَلَى تَمْيِيزِ الْقَوِيِّ مِنْ الضَّعِيفِ، وَالْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ سِيَّمَا عِنْدَ وُرُودِ شُبَهِ الْخُصُومِ عَلَى صُوَرِ الْأَدِلَّةِ الْبُرْهَانِيَّةِ (مُتَدَيِّنٍ) لَا يَظْهَرُ لِهَذَا الْقَيْدِ فَائِدَةٌ مُعْتَدَّةٌ بِهَا (مُجِدٍّ) صَاحِبِ جِدٍّ وَسَعْيٍ لِغُمُوضَةِ أَسْرَارِهِ
وَإِغْلَاقِ حَقَائِقِهِ (وَإِلَّا يُخَافُ عَلَيْهِ الْمَيْلُ إلَى الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ) مِنْ الْفِرَقِ النَّارِيَّةِ الْهَوَائِيَّةِ لِعَدَمِ رُسُوخِ قَوَاعِدِ الدِّينِ لِعَدَمِ الذَّكَاءِ أَوْ لِعَدَمِ الْجِدِّ أَوْ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاطِ، وَالْمُبَالَاةِ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ مِنْ عَدَمِ الدِّيَانَةِ فَافْهَمْ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْمُحَاكِمَةِ بَيْنَ ذَمِّ الْكَلَامِ وَمَدْحِهِ فَمَمْدُوحٌ لِلْأَذْكِيَاءِ إلَى أَنْ يَكُونَ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَمَذْمُومٌ لِلْأَغْبِيَاءِ الْمَذْكُورَةِ إلَى أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا فِيمَا ذُكِرَ حَصَلَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ مَا سَبَقَ مِنْ الْمُصَنِّفِ صَرِيحًا وَمَا أُشِيرَ فِي ضِمْنِهِ أَيْضًا مِنْ الْمَنْعِ.
وَمَا نُقِلَ فِي نَحْوِ الدُّرَرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ مُلَاقَاةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ خَيْرٌ مِنْ مُلَاقَاتِهِ بِعِلْمِ الْكَلَامِ فَمَا ظَنُّك بِالْكَلَامِ الْمَخْلُوطِ بِأَبَاطِيلِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ فِي زَمَانِنَا وَنَقَلَ الْغَيْرُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي الْكَلَامِ لَفَرُّوا مِنْهُ كَالْأَسَدِ. وَعَنْهُ أَيْضًا لَمُلَاقَاةُ الرَّجُلِ رَبَّهُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ مُلَاقَاتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ.
وَعَنْ أَبِي لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ وَلَا إمْسَاكُهَا لِكَوْنِهَا مَشْحُونَةً بِالشِّرْكِ، وَالضَّلَالِ وَلِإِيرَاثِ الشُّكُوكِ، وَالْأَوْهَامِ فِي عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ وَكَذَا كُتُبُ الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاعْتِزَالِ دُونَ مَا صَنَّفَهُ بَعْدَهُ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا لِمَا قَبْلَهُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُكْرَهُ الْخَوْضُ فِي الْكَلَامِ مَا لَمْ تَقَعْ شُبْهَةٌ فَيَجِبُ وَلَوْ بِالْمُنَاظَرَةِ لِدَفْعِهَا، وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ وَقَدْ سَمِعْت عَنْ الْبَزَّازِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ إمَامَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَوْ بِحَقٍّ وَنَحْوُ ذَلِكَ كُلِّهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى كَوْنِهَا لِلْغَبِيِّ، وَالْمُتَعَصِّبِ فِي الدِّينِ، وَالْقَاصِرِ عَنْ تَحْصِيلِ الْيَقِينِ، وَالْقَاصِدِ لِإِفْسَادِ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخَائِضِ فِيمَا لَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ مِنْ غَوَامِضِ الْمُتَفَلْسِفِينَ وَإِلَّا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْمَنْعُ عَمَّا هُوَ أَصْلُ الْوَاجِبَاتِ وَأَسَاسُ الشَّرْعِيَّاتِ. وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ عِلْمَ الْكَلَامِ فِي نَفْسِهِ أَشْرَفُ جَمِيعِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ وَمَوْضُوعُهُ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ وَأَدِلَّتُهُ قَطْعِيَّةٌ يَقِينِيَّةٌ وَمَأْخَذُهُ كِتَابٌ وَسُنَّةٌ وَغَايَتُهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَغَايَةُ غَايَتِهِ الْفَوْزُ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمَوَاقِفِ.
(وَأَمَّا)(الثَّانِي) وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ النُّجُومِ (فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا) الْحَدِيثُ إنْ أُضِيفَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَرْفُوعٌ وَإِلَى الصَّحَابِيِّ فَمَوْقُوفٌ وَإِلَى التَّابِعِيِّ فَمَقْطُوعٌ فَالْمَرْفُوعُ أَقْوَى الْكُلِّ وَلِذَا صَرَّحَ بِرَفْعِهِ «مَنْ اقْتَبَسَ» أَيْ اسْتَفَادَ وَتَعَلَّمَ «عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ» فُسِّرَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النُّجُومِ إذْ هُوَ عِلْمٌ وَاسِعٌ وَمِنْهُ الْأَحْكَامُ بِإِخْبَارِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَالْإِخْبَارِ عَمَّا سَيَأْتِي وَمَعْرِفَةِ الْمَسْرُوقَاتِ، وَالْكُنُوزِ، وَالدَّفَائِنِ وَأَعْمَارِ الرِّجَالِ، وَالْقَحْطِ، وَالْغَلَاءِ، وَالْخِصْبِ، وَالرَّخَاءِ، وَالْأَمْنِ، وَالسَّلَامَةِ، وَالْفِتَنِ، وَالْمَصَائِبِ وَنَحْوِهَا وَقَدْ كَذَّبَ كُلَّهُ الشَّرْعُ.
«اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ» أَيْ قِطْعَةً مِنْهُ وَقَدْ سَبَقَ قَالَ الْمُنَاوِيُّ النَّجَّامَةُ تَدْعُو إلَى الْكِهَانَةِ، وَالْمُنَجِّمُ كَاهِنٌ، وَالْكَاهِنُ سَاحِرٌ، وَالسَّاحِرُ كَافِرٌ، وَالْكَافِرُ فِي النَّارِ «زَادَ مَا زَادَ» كُلَّمَا زَادَ مِنْ النُّجُومِ زَادَ لَهُ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ إثْمِ السَّاحِرِ أَوْ زَادَ اقْتِبَاسَ شُعَبِ السِّحْرِ مَا زَادَ اقْتِبَاسُ عِلْمِ النُّجُومِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَعَلَّمُوا مِنْ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُونَ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ، وَالْبَحْرِ ثُمَّ انْتَهُوا» . قُلْنَا التَّوْفِيقُ مُشَارٌ بِقَوْلِهِ «ثُمَّ انْتَهُوا» وَمِنْ قَوْلِهِ «مِنْ السِّحْرِ» فَمَا لَا يُفْضِي إلَى نَحْوِ السِّحْرِ الْمَمْنُوعِ شَرْعًا فَخَارِجٌ عَنْ النَّهْيِ وَمِنْهُ مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي الْبَحْرِ، وَالْبَرِّ سِيَّمَا لِلْمُسَافِرِ وَلِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ. وَتَحْقِيقُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ النُّجُومَ قِسْمَانِ الْأَوَّلُ تَبْيِينٌ يُبَيِّنُ بِهِ الْقِبْلَةَ وَأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَالسَّابِقِ مِنْ الْيَوْمِ، وَالْبَاقِي إلَى الْغُرُوبِ فَجَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهَذَا مَحْمَلُ حَدِيثِ تَعَلَّمُوا، وَالثَّانِي تَأْثِيرٌ وَهُوَ بَاطِلٌ وَمُحَرَّمٌ
قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَهُوَ مَحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثِ.
(فَائِدَةٌ)
كَانَ يَكْتُمُ عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ النُّجُومَ، وَالطِّبَّ عَنْ أَوْلَادِهِمْ لِئَلَّا يَتَقَرَّبُوا بِهِمَا إلَى الْمَطَالِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ الدَّنِيَّةِ فَيَضْمَحِلَّ دِينُهُمْ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ.
(وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ وَتَعَلُّمُ عِلْمِ النُّجُومِ قَدْرَ مَا يُعْلَمُ بِهِ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ، وَالْقِبْلَةِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَالزِّيَادَةُ حَرَامٌ انْتَهَى) لِإِفْضَائِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَوَادِثِ وَاطِّلَاعِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ.
قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَتَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]- أَيْ جَعَلْنَا النُّجُومَ سَبَبًا لِكَذِبِ الْمُنَجِّمِينَ أُطْلِقَ اسْمُ الشَّيْطَانِ عَلَى النَّجْمِ وَسُمِّيَ هَذَيَانُهُ رَجْمًا مِنْ رَجْمِ الْغَيْبِ.
(وَفِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ وَلَوْ تَعَلَّمَ مَنْ عَلِمَ النُّجُومَ مِقْدَارَ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْقِبْلَةَ وَأَمْرَ الْحِسَابِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِقْدَارُ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْحِسَابَ فَقَطْ (فَلَا بَأْسَ بِهِ) فَإِنْ قِيلَ إنَّ مَا لَا بَأْسَ فِيهِ فِي الْعُرْفِ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا تَرْكُهُ أَوْلَى وَقَدْ سَمِعْت الْأَمْرَ النَّبَوِيَّ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ «تَعَلَّمُوا مِنْ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُونَ بِهِ» .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَهْتَدِي بِهِ. قُلْنَا الْأَمْرُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى مُطْلَقِ الْإِذْنِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ لَا بَأْسَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ كَلَا جُنَاحَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا فَرْضٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا بَأْسَ وَلَا جُنَاحَ وَاحِدٌ وَبِمَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالسُّنَّةِ كَمَا فِي قَوْلِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ لَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ لِلصَّائِمِ وَبِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقُشَّ الْمَسْجِدَ بِالْجَصِّ وَمَاءِ الذَّهَبِ أَيْ لَا أَجْرَ وَلَا إثْمَ وَبِمَعْنَى تَرْكِ الْأَوْلَى أَيْ الْمُسْتَحَبِّ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْبَأْسَ الشِّدَّةُ وَبِمَعْنَى لَا يَجُوزُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ أَيْ لَا يَجُوزُ لَكِنَّ الشَّائِعَ فِيمَا تَرَكَهُ أَوْلَى وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْكِفَايَةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ الشَّائِعِ وَلَا يُعْتَبَرُ بِالنَّادِرِ.
وَلِهَذَا يُقَالُ الْمُفْرَدُ يُلْحَقُ بِالْأَعَمِّ، وَالْأَغْلَبِ فِي الْعُرْفِ، وَاللُّغَةِ نَعَمْ قَدْ يُعْدَلُ عَنْ الْأُصُولِ، وَالْقَوَاعِدِ بِالْعَوَارِضِ، وَالْمَوَانِعِ (وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَا ذُكِرَ (إذَا تَعَلَّمَ مِقْدَارَ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْقِبْلَةَ وَأَمْرَ الْحِسَابِ انْتَهَى، وَفِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ عِلْمَ النُّجُومِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ) ؛ لِأَنَّهُ يُمْرِضُ الْقَلْبَ وَيُوهِنُ الِاعْتِقَادَ بِتَأْثِيرِ غَيْرِهِ تَعَالَى وَبِاعْتِقَادِ الْغَيْبِ وَنَحْوِهِمَا (فَتَعَلُّمُهُ حَرَامٌ) وَكَذَا تَعْلِيمُهُ (لِأَنَّهُ يَضُرُّ) بِدِينِهِ.
قَالَ الْمُحَشِّي عِلْمُ الْحَالِ غِذَاءٌ وَعِلْمُ الْكَلَامِ دَوَاءٌ وَعِلْمُ النُّجُومِ مَرَضٌ وَسُمٌّ وَاجِبُ الِاحْتِرَازِ (وَلَا يَنْفَعُ، وَالْهَرَبُ مِنْ قَضَائِهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ انْتَهَى) إشَارَةً إلَى رَدِّ مَا اعْتَقَدُوا مِنْ فَوَائِدِ النُّجُومِ لِأَنَّهُ إذَا عُلِمَ وُقُوعُ زَلْزَلَةٍ فِي أَرْضِ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا يُحْتَرَزُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَنْ تِلْكَ الْأَرْضِ فَيَنْجُو وَإِذَا عُلِمَ انْهِزَامُ هَذَا الْعَسْكَرِ وَكَوْنِهِمْ قَتْلَى لَا يَحْضُرُ وَيَنْجُو مِنْ الْهَلَاكِ وَهَكَذَا غَرَقُ سَفِينَةٍ وَإِحْرَاقُ دَارٍ وَنَحْوِهَا وَعَدَمُ إمْكَانِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ» لَا يُقَالُ فِيهِ اعْتِرَافٌ بِصِحَّةِ مَا ادَّعَوْا مِنْ اطِّلَاعِ الْكَوَائِنِ الْمُسْتَقْبَلَةِ.
لِأَنَّا نَقُولُ الْكَلَامُ عَلَى الْفَرْضِ، وَالتَّنْزِيلُ لَا عَلَى الْوُقُوعِ، وَالتَّحْقِيقِ لَكِنَّ ذَلِكَ جَازَ فِي نَحْوِ الصَّدَقَةِ، وَالْبِرِّ، وَالدُّعَاءِ، وَالصِّلَةِ وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُعَلَّقَةٍ عَلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ الْعُمْرَ إلَّا الْبِرُّ» فَارْجِعْ تَظْفَرْ بِفَوَائِدَ بَلْ نَفَائِسَ مِنْ دَقَائِقِ الْكَلَامِيَّةِ (أَقُولُ) تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ مَنْعًا وَمَسَاغًا (فَمَا هُوَ الْحَرَامُ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ) بِالْحُكْمِ بِأَنَّهُ يَقَعُ كَذَا وَيُولَدُ كَذَا وَيَهْلِكُ بِكَذَا وَهَكَذَا (كَقَوْلِهِمْ إذَا وَقَعَ كُسُوفٌ أَوْ خُسُوفٌ أَوْ زَلْزَلَةٌ أَوْ نَحْوُهَا) كَانْتِثَارِ الْكَوَاكِبِ، وَالرَّعْدِ، وَالْبَرْقِ وَشِدَّةِ الرِّيَاحِ
(فِي زَمَانِ كَذَا سَيَقَعُ كَذَا) مِنْ خِصْبٍ وَرَخَاءٍ وَقَحْطٍ وَغَلَاءٍ وَوَبَاءٍ وَمَوْتِ كِبَارٍ وَحَرْبٍ وَأَمْنٍ وَكَثْرَةِ أَمْطَارٍ لَكِنْ تَقَدَّمَ مِنْ شَرْحِ الْعَقَائِدِ إنْ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَلَامَةِ، وَالتَّجْرِبَةِ فَلَيْسَ بِحَظْرٍ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هَالَةِ الْقَمَرِ: يَكُونُ مَطَرٌ مُدَّعِيًا عِلْمَ الْغَيْبِ لَا بِعَلَامَةٍ كُفْرٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ أَمْرٌ تَفَرَّدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى لَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِلْعِبَادِ إلَّا بِإِعْلَامٍ مِنْهُ وَإِلْهَامٍ بِطَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ أَوْ الْكَرَامَةِ وَإِرْشَادٍ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ فِيمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ وَمِنْ غَرِيبِ هَذَا الْبَابِ مَا فِي أُنْمُوذَجِ حَفِيدٍ السَّعْدِ السِّحْرُ يُوجِبُ الْقِصَاصَ إذَا أَقَرَّ أَنَّ سِحْرَهُ يَقْتُلُ غَالِبًا وَالدِّيَةُ إنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ كَذَلِكَ.
(وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ، وَالْمَوَاقِيتِ فَتَحْصُلُ بِالْعِلْمِ الْمُسَمَّى بِالْهَيْئَةِ) فَالْعِلْمُ عَلَى ذَلِكَ بِالْآلَاتِ الْمُتَدَاوَلَةِ كَالْإِسْطِرْلَابِ وَلَوْحِ رُبْعِ الْجَيْبِ وَذَاتِ الْكُرْسِيِّ وَنَحْوِهَا مِنْ الْهَيْئَةِ فِي الْأَصْلِ.
وَإِنْ أَفْرَدُوهَا بِالِاسْتِقْلَالِ فِي زَمَانِنَا كَنِسْبَةِ الْفَرَائِضِ إلَى الْفِقْهِ (فَلَمَّا كَانَا) أَيْ الْقِبْلَةُ، وَالْوَقْتُ (شَرْطَيْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَزِمَ مَعْرِفَتُهُمَا بِالتَّحَرِّي) هُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ وَأَصْلُهُ طَلَبُ الْأُخْرَى أَيْ الْأُولَى (وَالْأَمَارَاتِ) أَيْ الْعَلَامَاتِ (وَهَذَا الْعِلْمُ) أَيْ الْهَيْئَةُ لَا بِتَمَامِهِ بَلْ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْأَمْرِ (مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ التَّحَرِّي، وَالْمَعْرِفَةِ) يَشْكُلُ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ إنْ شَرْعِيًّا أَيْ مَعْلُومًا بِالشَّرْعِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، وَلَوْ سُلِّمَ لَزِمَ تَعَيُّنُ وُجُوبِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا يَذْكُرُهُ الْآنَ وَإِلَّا فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ كَمَا تَقْتَضِيهِ قَاعِدَةُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الشَّرْعِيَّيْنِ نَعَمْ قَدْ ذَكَرَ الْعَضُدُ فِي مُخْتَصَرِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ تُؤْخَذُ لَا مِنْ الشَّرْعِ كَالتَّمَاثُلِ، وَالتَّحَالُفِ وَإِنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّيْنِ قَدْ ثَبَتَا عِنْدَنَا كَمَا عَرَفْت فِي مَحَلِّهِ (فَجَازَ الِاشْتِغَالُ بِهِ) وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُمْ لَا بَأْسَ بِهِ فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ مَا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ لَا الِاسْتِدْلَالِ ابْتِدَاءً بِرَأْيِهِ فِي اسْتِخْرَاجِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ حَتَّى يَرُدَّ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّ ذَلِكَ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجُوزُ تَحَرِّي الِاجْتِهَادِ لَا يَبْعُدُ اجْتِهَادُ الْمُصَنِّفِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ.
وَلِمَا وُجِّهَ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْوَاجِبِ فَوَاجِبٌ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَأَمَّا أَنْ يَجِبَ) النُّجُومُ (فَلَا إذْ لَا انْحِصَارَ لِلْأَسْبَابِ فِيهِ) أَيْ فِي النُّجُومِ الْحَاصِلِ فِي ضِمْنِ الْهَيْئَةِ يَشْكُلُ أَنَّ مُطْلَقَ السَّبَبِ كَالْعَامِّ وَلَا وُجُودَ لِلْعَامِّ إلَّا فِي ضِمْنِ الْخَاصِّ فَإِذَا كَانَ الْمُطْلَقُ وَاجِبًا فَفِي ضِمْنِ أَيْ أَفْرَادِهِ تَحَقُّقٌ كَانَ الْوَاجِبُ ذَلِكَ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَاَلَّذِي يَخْطِرُ بِالْبَالِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُكَلِّفْ تَحْصِيلَ هَذَا السَّبَبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ لِلْحَرَجِ، وَالْعُسْرِ فِي ذَلِكَ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ بَلْ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ التَّحَرِّي فَلَوْ أَتَى الْمُكَلَّفُ مِنْ عِنْدِهِ حُصُولُهُمَا أَيْ الْقِبْلَةِ، وَالْوَقْتِ لَا يَمْنَعُهُ الشَّرْعُ بَلْ يُجَوِّزُهُ لَكِنْ يُرَدُّ بِعَدَمِ ارْتِكَابِ السَّلَفِ وَعَدَمِ الْتِفَاتِهِمْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهِ بِدْعَةً فِي الْعِبَادَةِ فَتَأَمَّلْ (وَ) إنَّهُ (لَا يَلْزَمُ الْيَقِينُ فِيهِمَا) فِي الْقِبْلَةِ، وَالْوَقْتِ حَتَّى يَجِبَ فَظَاهِرُهُ الِاعْتِرَافُ بِحُصُولِ الْقَطْعِ بِالنُّجُومِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِلَّا لَثَبَتَ ابْتِدَاءُ رَمَضَانَ وَاخْتِتَامُهُ بِالنُّجُومِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا فِي هَذَا وَمَا فِي ذَلِكَ تَحَكُّمٌ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْفَرْضِ، وَالتَّنْزِيلِ (بَلْ يَكْفِي الظَّنُّ) فِي اسْتِحْصَالِ نَحْوِهِمَا لِلْحَرَجِ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُهُ الْآتِي لَكِنْ هَذَا إنَّمَا يَدْفَعُ الْفَرْضِيَّةَ لَا الْوُجُوبَ.
وَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَ فِيهَا فَضِيلَةٌ وَاسْتِحْبَابٌ فَضْلًا عَنْ الْوُجُوبِ بَلْ مَا فِيهَا هُوَ أَصْلُ الْجَوَازِ (وَأَنَّهُ) أَيْ الْهَيْئَةَ (يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاءٍ) كِيَاسَةٍ (وَقُوَّةِ حَدْسٍ وَخَيَالٍ وَجَدٍّ كَثِيرٍ) فَفِيهِ حَرَجٌ (فَلَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ إذْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَدْفَعُ الْوُجُوبَ عَيْنًا لَا الْمُطْلَقَ فَيَجُوزُ الْوُجُوبُ عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا فِي الْمَقْصِدِ وَبَيْنَ مَا فِي الْأَسْبَابِ، وَالشَّرَائِطِ وَأَنْ يَعْسُرَ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنْ يُوجَدَ شَخْصٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُسْتَخْبَرُ مِنْهُ عَنْهُمَا (وَأَيْضًا تَحْتَاجُ مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ بِالْهَيْئَةِ إلَى مَعْرِفَةِ عَرْضِ كُلِّ بَلَدٍ وَطُولِهِ)
هُمَا مَعْرُوفَانِ عِنْدَهُمْ وَمُحَرَّرَانِ فِي كُتُبِهِمْ (وَلَا نُمَكِّنُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةَ إلَّا بِتَقْلِيدِ مَنْ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُ) لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْحَصْرِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ مَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَدَاوَلِ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَلَا شَكَّ فِي تَدَاوُلِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ بَيْنَ الْإِسْلَامِيِّينَ بَلْ الثِّقَةُ مِنْهُمْ وَإِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِ الْمُسْتَخْرَجِ فَهُمْ ادَّعَوْا كَوْنَ عِلْمِهِمْ فِي الْأَصْلِ شَرِيعَةً مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَانْتِهَاءِ سِلْسِلَتِهِمْ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَقِيلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَقِيلَ إلَى لُقْمَانَ وَقِيلَ إلَى إدْرِيسَ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ عِنْدَهُمْ هُرْمُسُ الْحَكِيمُ حَتَّى ادَّعَوْا أَنَّ هَذِهِ الْآلَاتِ النُّجُومِيَّةَ أَوَّلُ مَنْ اسْتَخْرَجَهَا هُوَ هُرْمُسُ.
قَالَ فِي الْفَوَائِحِ الْمِسْكِيَّةِ إنَّ هُرْمُسَ صَعِدَ إلَى فُلْكِ زُحَلَ وَدَارَ مَعَهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً حَتَّى شَاهَدَ جَمِيعَ أَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ فَنَزَلَ إلَى الْأَرْضِ فَأَخْبَرَ النَّاسَ بِعِلْمِ النُّجُومِ.
وَقَالَ فِي بَعْضِ حَوَاشِي حِكْمَةِ الْعَيْنِ إنَّ أَصْلَ الْحِكْمَةِ وَحَيٌّ إلَهِيٌّ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ إنَّمَا هُوَ بِتَلَاحُقِ الْأَفْكَارِ وَتَكَاثُرِ الْآرَاءِ (فَلَا يُوجِبُ الْعَمَلَ) لَا يَخْفَى أَنَّ اللَّازِمَ مِمَّا ذَكَرَهُ وَمَهَّدَهُ عَدَمُ جَوَازِ الْعَمَلِ لَا عَدَمُ الْوُجُوبِ وَصَرْفُ النَّفْيِ إلَى الْقَيْدِ، وَالْمُقَيَّدِ مَعًا أَيْ لَا يَجُوزُ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافُ الْأَصْلِ فِي الْأَصْلِ فَنَفْيُ مَا أُثْبِتَ أَوْلَى يَعْنِي يُنَافِي تَقْرِيبَ الدَّلِيلِ.
حَاصِلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَقَامِ مَعَ طُولِهِ بِالْكَلَامِ أَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ كَوْنِ النُّجُومِ لَا بَأْسَ كَمَا فِي كَلَامِ الْخُلَاصَةِ، وَالْبُسْتَانِ وَبَيْنَ حُرْمَتِهِ كَمَا فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَكَلَامُ تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ أَنَّ الْحُرْمَةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ وَكَوْنُهُ لَا بَأْسَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ وَوَقْتِ الصَّلَاةِ.
(وَأَمَّا سَائِرُ عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ) عِلْمُ الْفَلَاسِفَةِ هُوَ اسْتِكْمَالُ النَّفْسِ بِالْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ أَوْ هُوَ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (فَالْمَنْطِقُ) الْمُعَرَّفُ بِآلَةٍ قَانُونِيَّةٍ تَعْصِمُ مُرَاعَتُهَا الذِّهْنَ عَنْ الْخَطَأِ فِي الْفِكْرِ وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ الْقَرِيحَةِ هُوَ أَرِسْطُو وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ جَعْلُهُمْ جُزْءًا مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ مَثَلًا عَلَى وَجْهِ الْمَبْدَئِيَّةِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمٌ مَبْدَأً لِعِلْمٍ آخَرَ وَذَاكَ غَيْرٌ لِذَلِكَ كَمَا سَتَسْمَعُ (دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ) إذْ أَصْلُ الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَالِاسْتِدْلَالِ الْحَقِيقِيِّ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمَنْطِقِ إذْ حَاصِلُهُ اسْتِحْصَالُ الْمَجْهُولَاتِ بِالْمَعْلُومَاتِ فَيَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ. اعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي الْمَنْطِقِ قَالَ بَعْضُهُمْ بِالْحُرْمَةِ وَبَعْضُهُمْ بِعَدَمِهَا بَلْ بِوُجُوبِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَ فِي الْأَشْبَاهِ عِلْمُ الْفَلْسَفَةِ حَرَامٌ وَدَخَلَ فِيهِ الْمَنْطِقُ.
وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ حَرَامٌ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْ الْمَدَارِسِ وَسَجْنِهِمْ وَكَفِّ شَرِّهِمْ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرْعِيَّةِ مُنْكَرٌ بَشِيعٌ.
وَفِي أُنْمُوذَجِ حَفِيدٍ السَّعْدِ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْعِلْمِ الْمُحْتَرَمِ حَتَّى يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِكُتُبِهِ وَمِثْلُهُ ذَكَرَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مَوْرِدًا الِاتِّفَاقَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْوَرَقِ الْخَالِي عَنْ الْخَطِّ وَيَجُوزُ إهَانَتُهُ فِي الشَّرْعِ.
وَعَنْ الْإِسْنَوِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ، وَنُقِلَ عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَكَشُرْبِ الْخَمْرِ.
وَعَنْ قُوتِ الْقُلُوبِ أَنَّ الْجُهَّالَ جَعَلُوا أَصْحَابَ الْمَنْطِقِ عُلَمَاءَ.
وَعَنْ الْجَوْهَرِيِّ أَنَّهُ تَضْيِيعُ الْعُمْرِ.
وَعَنْ شَرْحِ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ لِعَلِيٍّ الْقَارِي أَيْضًا عَنْ السُّيُوطِيّ: أَنَّهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَبَرِينَ كَابْنِ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيِّ.
وَعَنْ الْقَزْوِينِيِّ: رَجَعَ الْغَزَالِيُّ إلَى تَحْرِيمِهِ بَعْدَمَا أَثْنَى عَلَيْهِ.
وَعَنْ السَّلَفِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ قَبُولِ رِوَايَةِ مُشْتَغِلِهِ. وَفِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ لِلْحَمَوِيِّ: الْقَوْلُ بِتَصْرِيحٍ كَثِيرٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِالْحُرْمَةِ لِكَوْنِهِ تَضْيِيعَ الْعُمْرِ وَلِإِفْضَائِهِ
إلَى مَيْلِ سَائِرِ الْفَلْسَفَةِ فَمَنْ قِيلَ سَدُّ الذَّرَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُنَافِي الشَّرْعِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي أُنْمُوذَجِ الْحَفِيدِ أَيْضًا عَنْ الْغَزَالِيِّ: أَنَّ الْمَنْطِقَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَوَّاهُ الشَّيْخُ السُّبْكِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ انْتَهَى.
وَفِي الْحَدِيقَةِ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَيْضًا فِي الْمُسْتَصْفَى: الْمَنْطِقُ مُقَدِّمَةٌ لِكُلِّ الْعُلُومِ، وَمَنْ لَا يُحِيطُ بِهَا لَا ثِقَةَ بِعُلُومِهِ.
وَفِي مُنْقِذِ الضَّلَالِ لَهُ أَيْضًا: الْمَنْطِقُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالدِّينِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. ثُمَّ فُهِمَ مِنْ كَلَامِهِ هُنَاكَ لُزُومُهُ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْآفَةُ مِنْ إهْمَالِهِ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ بَعْدَمَا حَصَّلُوهُ إلَى أَنْ يُفِيدَ الْيَقِينَ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا فِي أَوَّلِ الْمُنْتَقَى مَدْحُهُ الْمَنْطِقَ.
وَفِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ سَمَّاهُ: " مِعْيَارَ الْعُلُومِ " وَمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِهِ لَا ثِقَةَ بِعِلْمِهِ، وَالْعَلَّامَةُ الْقُطْبُ حَكَى عَنْ الْعُلَمَاءِ الْحُكْمَ بِمُطْلَقِ وُجُوبِهِ، وَالْعَلَّامَةُ الشَّرِيفُ بَعْدَمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي مُطْلَقِ وُجُوبِهِ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ بِعَيْنِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ لِتَوَقُّفِ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَوْ بِكِفَايَةِ فَرْضِيَّتِهِ لِتَوَقُّفِ شِعَارِ الدِّينِ عَلَيْهِ.
وَفِي شَرْحِ حَدِيثِ الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لِابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ صَرَّحَ بِجَوَازِهِ بَلْ بِلُزُومِهِ.
وَفِي الْحَدِيقَةِ: عَنْ الْقَرَافِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ الْمَنْطِقُ شَرْطٌ لِلِاجْتِهَادِ، وَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ مَتَى جَهِلَهُ سُلِبَ عَنْهُ اسْمُ الِاجْتِهَادِ.
وَقَالَ السُّبْكِيُّ: يَنْبَغِي تَقْدِيمُ الِاشْتِغَالِ بِهِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْفِقْهِ لَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَنْطِقَ مُجَرَّدُ صُوَرِ الْأَدِلَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ مَادَّةٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ هَذِهِ الْمَادَّةَ مِنْ الشَّرْعِيَّةِ لِيَكُونَ كَدُّهُ فِي الشَّرْعِيَّةِ وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي لَا يَطْرُقُهُ الْعَيْبُ إلَّا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ ثُمَّ قَالَ: هُوَ أَحْسَنُ الْعُلُومِ وَأَنْفَعُهَا فِي كُلِّ بَحْثٍ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ كُفْرٌ أَوْ حَرَامٌ فَجَاهِلٌ.
وَفِي إتْقَانِ السُّيُوطِيّ: الْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحِجَجِ الْمَنْطِقِيَّةِ، وَالْقَوَاعِدِ الْجَدَلِيَّةِ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الصَّرَاحَةِ لِعَدَمِ شُهْرَتِهِ عِنْدَ مَنْ نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْأُصُولِ، وَصَرِيحُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ جُزْءٌ مِنْ الْكَلَامِ وَأَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ جَعَلَ الْمَنْطِقَ تَبَعًا لِلْآمِدِيِّ مَبَادِئَ كَلَامِيَّةً لِلْأُصُولِ وَمَشَى عَلَيْهِ شُرَّاحُهُ وَمُحَشِّيهِ كَالْعَضُدِ، وَالْأَبْهَرِيِّ، وَالسَّعْدِ، وَالشَّرِيفِ وَغَيْرِهِمْ وَصَنَّفَ فِي الْمَنْطِقِ كُتُبًا وَرَسَائِلَ خَلْقٌ لَا يُحْصَى مِنْ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَحِيلُ الْعَقْلُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْجَهَالَةِ، وَالْغَوَايَةِ، وَالْمُكَابَرَةِ وَنِسْبَةُ حَالِ اجْتِمَاعِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى الضَّلَالَةِ سَتُبَيَّنُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» ثُمَّ الْمُحَاكَمَةُ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.
قَالَ الشَّارِحُ الْحَمَوِيُّ لِلْأَشْبَاهِ عَلَى قَوْلِهِ بِالْحُرْمَةِ.
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَمْ أَرَ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا حُرْمَةَ الْمَنْطِقِ فَلَا بُدَّ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ النَّقْلِ. أَقُولُ لَعَلَّ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى حُكْمَ الْفُقَهَاءِ بِحُرْمَةِ الْفَلْسَفَةِ وَكَانَ الْمَنْطِقُ جُزْءًا مِنْ الْفَلْسَفَةِ عِنْدَهُ حُكِمَ بِحُرْمَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَيْسَ كُلُّ الْفَلْسَفَةِ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ كَأَثَرِ الْإِلَهِيَّاتِ، وَالطَّلَبِ وَبَعْضِ النُّجُومِ وَنَحْوِهَا. ثُمَّ قَالَ عَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ: الْمُحَرَّمُ مَنْطِقُ الْفَلَاسِفَةِ.
وَأَمَّا مَنْطِقُ الْإِسْلَامِيِّينَ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنَافِي الشَّرْعَ فَلَا يَحْرُمُ وَنَحْوُهُ حُكِيَ فِي الْحَدِيقَةِ عَنْ الْبَعْضِ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مَا يُلْتَزَمُ فِيهِ نَفْيُ الشَّرْعِيَّاتِ وَهُوَ مَحْمَلُ أَقْوَالِ نَحْوِ ابْنِ الصَّلَاحِ.
وَأَمَّا الْمَنْطِقُ الْمُتَدَاوَلُ الْيَوْمَ بَيْنَ كِبَارِ أَهْلِ السُّنَّةِ الظَّاهِرُ إعَانَتُهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَمَعَاذَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُنْكِرَهُ نَحْوُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَلَا يُعْتَبَرُ إنْكَارُ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْمَنْطِقِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ وَكَفَى حُجَّةً عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَتَفَوَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ غَيْرَ الْعَارِفِ مَعَ عَارِفِهِ. وَفَصَّلَ الْقَوْلَ أَنَّهُ كَسَيْفِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا يُنْكَرُ فِي أَصْلِهِ إلَّا أَنْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ.
أَقُولُ وَمِثْلُهُ عُرِفَ آنِفًا مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي الْمُنْقِذِ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْ أَصْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَحَلِّهِ أَوْ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لَعَلَّ مَنْعَ السَّلَفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا شَاهَدُوا فِي زَمَانِهِمْ مِنْ جَعْلِهِمْ الْمَنْطِقَ آلَةً لِتَرْوِيجِ الْفَلْسَفِيَّاتِ، وَلِهَجْرِ الشَّرْعِيَّاتِ لِأَنَّهُ أَوَانُ أَوَّلِ تَرْجَمَةِ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ الْيُونَانِيَّةِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يَدُلُّ قَصَصُهُمْ وَحِكَايَةُ أَحْوَالِهِمْ. وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّهُ مَمْدُوحٌ فِي أَصْلِهِ، وَالذَّمُّ إنَّمَا يَتَطَرَّقُ مِنْ عَوَارِضِهِ فَالْمُثْبِتُونَ نَظَرُوا إلَى ذَاتِهِ وَإِعَانَتِهِ لِلْأُصُولِ، وَالْفُرُوعِ حَتَّى جَعَلُوهُ مَبَادِئَ لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْكَلَامِ، وَالْأُصُولِ، وَالنَّافُونَ نَظَرُوا إلَى عَوَارِضِهِ مِنْ نَحْوِ التَّعَصُّبِ وَإِلْزَامِ الْمُوَحَّدِ أَوْ كَثْرَةِ تَوَغُّلٍ تُوجِبُ هَجْرَ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا
الْمَنْطِقُ مَبَادِئٌ فَلْيُسْرَعْ مِنْهُ إلَى الْمَقَاصِدِ فَنَفَوْهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ حَرَامٌ أَلْبَتَّةَ بَلْ الْمَقَاصِدُ الشَّرْعِيَّةُ أَيْضًا قَدْ تَحْرُمُ بِمِثْلِ تِلْكَ الْعَوَارِضِ كَالتَّعَلُّمِ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ وَيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ وَيَأْكُلَ أَمْوَالَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَسْتَخْدِمَ الْفُقَرَاءَ وَيَتَقَرَّبَ إلَى الْأُمَرَاءِ كَمَا ذَكَرَ الْحَمَوِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَبِمَا ذَكَرْنَا وَشَيَّدْنَا أَمْكَنَ لَك دَفْعُ مَا أُورِدَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ مِنْ الْخَيَالَاتِ، وَالْأَوْهَامِ مِنْ مَنْعِ كَوْنِ الْمَنْطِقِ قِسْمَيْنِ. أَقُولُ وَقَدْ أَشَرْنَا أَنَّ تَعَدُّدَهُ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ وَحَالِ مُسْتَعْمَلِهِ، وَمَنْ مَنْعَ عَدَمَ ضَرَرِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ كَيْفَ وَعَامَّةُ فِرَقِ الضَّلَالَةِ بِسَبَبِ تَشَبُّثِ هَذَا الْعِلْمِ أَفْسَدُوا هَذَا الدِّينَ الْقَوِيمَ. أَقُولُ لَيْسَ إفْسَادُهُمْ بِمُجَرَّدِ صُوَرِ الْأَدِلَّةِ بَلْ بِمَوَادِّهَا وَلَوْ سَلَّمَ فَتَخَلَّصَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَغَلَبَتْهُمْ عَلَيْهِمْ إنَّمَا هُوَ بِتَمَيُّزِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ مِنْ الْفَاسِدِ وَذَلِكَ بِهَذَا الْعِلْمِ وَمَنْ مَنَعَ كَوْنَهُ شَرْطًا لِلِاجْتِهَادِ بِالِاسْتِنَادِ أَنَّ الصَّحَابَةَ مُجْتَهِدُونَ وَلَيْسُوا بِعَارِفِي هَذَيَانَاتِ الْمَنَاطِقَةِ كَيْفَ وَهُوَ يُفْضِي إلَى أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ كُفْرٌ لِتَحْقِيرِ عِلْمِهِ عليه الصلاة والسلام وَلِاسْتِلْزَامِ كَوْنِ الْأَحْكَامِ مُعَلَّلَةً بِالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ الشَّرْعِيَّةِ. أَقُولُ: مُرَاعَاةُ الْمَنْطِقِ حَاصِلٌ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ لَكِنْ لِقُوَّةِ ذَكَائِهِمْ وَجِيَادَةِ طِبَاعِهِمْ اسْتَغْنَوْا عَنْ تَفْصِيلِهِ كَعِلْمِ الْأُصُولِ بِالْإِجْمَالِ مَعَ عَدَمِ تَفْصِيلِهِ عِنْدَهُمْ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ عِلْمٌ آلِيٌّ لَيْسَ فِيهِ مَادَّةٌ قَصْدِيَّةٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اسْتِلْزَامُ مُتَارَكَةِ الشَّرْعِيَّاتِ بِكَوْنِ الْعِلَلِ هِيَ الْعَقْلِيَّاتُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْجَهْلِيَّاتِ وَأَنَّهُ هَلْ يُتَصَوَّرُ لُزُومُ أَخْذِ الْمُجْتَهِدِ أَحْوَالَ اجْتِهَادِهِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي اجْتِهَادِهِ عليه الصلاة والسلام وَبَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ عَرَفْته كَمَا عَرَفْت حَالَ نِسْبَتِهِ إلَى الْكُفْرِ وَمَا اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ فَإِذَا عَرَفْت حَالَ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ فَلَعَلَّك قَدَرْت أَنْ تَعْرِفَ بِوَاقِيَ وَهْمِيَّاتِهِ السَّاقِطَةِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالِاشْتِغَالُ بِتَمَامِهِ لَا يُفِيدُ إلَّا الْمَلَالَ وَقَسْوَةَ الْبَالَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ.
(وَعِلْمُ الْهَنْدَسَةِ) عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ خَوَاصُّ الْمَقَادِيرِ مِنْ الْخَطِّ، وَالسَّطْحِ، وَالْجِسْمِ التَّعْلِيمِيِّ (مُبَاحٌ) كَسَائِرِ الرِّيَاضِيَّاتِ كَالْحِسَابِ، وَالْهَيْئَةِ لِعَدَمِ التَّعَلُّقِ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَكِنْ قَالَ الْغَزَالِيُّ: تَوَلَّدَتْ مِنْهُ آفَتَانِ.
الْأُولَى: النَّاظِرُ إلَيْهَا يَرَى وُضُوحَهَا فَيَحْسُنُ عِنْدَهُ اعْتِقَادُ عَامَّةِ الْفَلْسَفَةِ فَيَدْعُوهُ إلَى اعْتِقَادِ كُفْرِيَّاتِهِمْ وَإِلَى تَقْلِيدِهِمْ فِيهَا.
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ فِي اعْتِقَادٍ أَنَّ الدِّينَ يَنْتَصِرُ بِإِنْكَارِ جَمِيعِ عُلُومِهِمْ فَإِذَا رَأَى ظُهُورَ دَلَالَتِهَا يَزُولُ اعْتِقَادُهُ بِالدِّينِ بَلْ رُبَّمَا يَعْتَقِدُ بِنَاءَ الدِّينِ عَلَى الْجَهْلِ فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوْلَى عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى هَاتَيْنِ الْآفَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ نَظَرُهُ إلَى أَصْلِهَا دُونَ عَوَارِضِهَا (وَالْإِلَهِيَّاتُ) أَيْ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ (مَا يُخَالِفُ مِنْهَا الشَّرْعُ) كَمَا يُخَالِفُ الْكَلَامِيَّةُ سَوَاءٌ وَصَلَ إلَى الْكُفْرِ أَوْ لَا كَمَا سَبَقَ التَّفْصِيلُ قَرِيبًا (فَجَهْلٌ مُرَكَّبٌ) لِعَدَمِ خَارِجٍ يُطَابِقُ النِّسْبَةَ إذْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ، وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا (لَا يَجُوزُ تَحْصِيلُهُ وَلَا النَّظَرُ) التَّأَمُّلُ فِيهِ (الْأَعْلَى وَجْهُ الرَّدِّ) وَذَلِكَ لِلْمُنْتَهِي الذَّكِيِّ الْقَادِرِ لَا الْمُبْتَدِئِ الْغَبِيِّ الْعَاجِزِ لَكِنْ ظَاهِرُ التتارخانية الْمَنْعُ عَنْ إطْلَاقِ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ قُبَيْلَ الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ أَوَّلِهِ، وَفِي الثَّلَاثِينَ مِنْ كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ مَعَ زِيَادَةِ الْهَنْدَسَةِ فِيهِ وَضَمِّهَا إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا عِلْمُ الْفَلَاسِفَةِ، وَالْهَنْدَسَةِ بَعِيدٌ مِنْ عِلْمِ الْآخِرَةِ اسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ نَعَمْ قَالَ هُنَاكَ أَيْضًا تَعْلِيمُ الْمَعَاصِي لِيَجْتَنِبَ عَنْهَا جَائِزٌ (وَقَدْ اسْتَقْصَى) الرَّدَّ (فِي) عِلْمِ (الْكَلَامِ) وَلِذَا جَعَلَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُهُ هَذَا الْمَقَامُ (وَمَا يُوَافِقُهُ فَدَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ أَيْضًا) فَمُسْتَغْنًى عَنْهَا. أَقُولُ دَعْوَى الدُّخُولِ مُشْكِلٌ إذْ الْكَلَامُ مُلْتَزَمٌ أَخْذُهُ مِنْ الشَّرْعِ بِخِلَافِ تِلْكَ الْإِلَهِيَّاتِ بَلْ الْتِزَامُ عَدَمُ الْأَخْذِ مِنْ الشَّرِيعَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الدُّخُولُ، وَقَدْ انْتَفَى الْحُسْنُ، وَالْقُبْحُ الْعَقْلِيَّانِ عِنْدَنَا نَعَمْ إنَّ أُصُولَ بَعْضِ الْمَسَائِلِ لَا تَحْصُلُ مِنْ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً لَكِنْ بِحَسَبِ تَطْبِيقِهَا إلَيْهِ انْتِهَاءً إلَّا أَنْ يُرَادَ مُطْلَقُ الصُّورَةِ وَأَنَّهُ يُشْعِرُ جَوَازَ تَوَغُّلِ هَذِهِ الْإِلَهِيَّاتِ وَاسْتِحْصَالِهَا.
(وَالطَّبِيعِيَّاتُ مَا خَالَفَ مِنْهَا الشَّرْعَ) هُوَ عِلْمٌ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَجْسَامِ عَالَمِ السَّمَوَاتِ وَكَوَاكِبِهَا وَمَا تَحْتَهَا مِنْ الْأَجْسَامِ الْمُفْرَدَةِ، وَالْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ
نَحْوُ نِسْبَةِ تَأْثِيرِ الْأَشْيَاءِ إلَى بَعْضِ الطَّبَائِعِ، وَالْمُؤَثِّرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى (فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْإِلَهِيَّاتِ وَقَدْ عَرَفْت حَالَهَا) فِي الرَّدِّ.
(وَمَا لَمْ يُخَالِفْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ) قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُنْقِذِ مَا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ مِنْهَا كَالطِّبِّ فَلَا يُمْنَعُ. أَقُولُ لَكِنْ هِيَ لِعَدَمِ ثَمَرَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا كَالْعَبَثِ لَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَدِّ فِي اسْتِحْصَالِهَا فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَلْحَقَ بِتَضْيِيعِ الْعُمْرِ.
(وَأَمَّا السِّحْرُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ (، وَالنِّيرَنْجَاتُ) وَيُقَالُ لَهَا الشَّعْبَذَةُ أَيْضًا فُسِّرَ بِأَنَّهُ عِلْمٌ بِكَيْفِيَّةِ اسْتِعْدَادَاتٍ تَقْدِرُ بِهَا النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ عَلَى ظُهُورِ التَّأْثِيرِ فِي الْعَنَاصِرِ (وَنَحْوِهِمَا مِنْ الشُّرُورِ، وَالْمَعَاصِي فَيَجُوزُ تَعَلُّمُهَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْهَا) لَا لِلرَّغْبَةِ فِيهَا (كَمَا قِيلَ
عَرَفْت الشَّرَّ لَا لِلشَّرِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيهِ)
أَيْ لِتَحَفُّظِهِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنْهُ لَا يَخْفَى أَنَّ الدَّلِيلَ يَخْتَصُّ بِمَا تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ وَسِيلَةً لِاحْتِرَازِهِ، وَالْمَطْلُوبُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَدَعْوَى كَوْنِ الْكُلِّ كَذَلِكَ بَعِيدٌ (وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّرَّ وَيَجْهَلْهُ يَقَعُ فِيهِ) لِعَدَمِ عِلْمِهِ، وَالْتِبَاسِهِ بِالْخَيْرِ لَا يُقَالُ الْمَعْرِفَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ بَلْ التَّقْلِيدُ كَافٍ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ التَّعَلُّمِ هُوَ التَّفْصِيلُ فَلَا تَقْرِيبَ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ لَيْسَ كَالْإِجْمَالِ إذْ التَّفْصِيلُ كَالْكُنْهِ، وَالْإِجْمَالُ كَالْوَجْهِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا نَعَمْ إنَّ أَصْلَ التَّوَقِّي حَاصِلٌ بِالْإِجْمَالِ لَعَلَّ تَحْقِيقَ ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِجَوَازِ ظُهُورِ سَاحِرٍ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ بِالْخَوَارِقِ السِّحْرِيَّةِ إذْ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَصَّلُ بِالتَّفْصِيلِ لَكِنَّ السَّابِقَ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ مَظَانِّ ظُهُورِ مِثْلِ هَذَا الْمُدَّعِي وَإِلَّا فَمَا يَكُونُ فِي نُدْرَةٍ سِيَّمَا فِي غَايَتِهَا لَا يَكُونُ مَدَارًا لِتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ.
(وَأَمَّا)(الْمُنَاظَرَةُ) أَيْ الْمُبَاحَثَةُ (وَالْحِيلَةُ فِيهَا فَفِي الْخُلَاصَةِ التَّمْوِيهُ) فُسِّرَ بِالتَّكَلُّمِ بِكَلَامٍ مُزَخْرَفٍ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ (وَالْحِيلَةُ فِي الْمُنَاظَرَةِ) بِالْمُقَدِّمَاتِ الْجَدَلِيَّةِ، وَالْخَطَابِيَّةِ بَلْ الشَّبِيهُ، وَالسَّفْسَطِيَّةَ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ عِنْدَهُ بَلْ وَلَمْ يُطَابِقْ لِلْوَاقِعِ (إنْ)(تَكَلَّمَ) مُخَاطِبُك مَعَك (مُتَعَلِّمًا) مُرِيدًا أَخْذَ عِلْمٍ مِنْك أَيْ مُسْتَفِيدًا (مُسْتَرْشِدًا) طَالِبَ رُشْدٍ (أَوْ) لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّمًا وَلَكِنْ كَانَ (تَكَلَّمَ عَلَى الْإِنْصَافِ) عَلَى قَصْدِ إظْهَارِ الصَّوَابِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ فَرْقٌ بَيْنَ ظُهُورِ الْحَقِّ مِنْهُ وَمِنْ خَصْمِهِ (بِلَا تَعَنُّتٍ) مُعَانَدَةً وَمُكَابَرَةً (يُكْرَهُ) التَّمْوِيهُ، وَالْحِيلَةُ مِنْك لِلُزُومِ كَوْنِك مُبْطِلًا وَمُعَانِدًا وَمُلَبِّسًا لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ فَالْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِيَّةٍ (وَكَذَا) يُكْرَهُ (إذَا)(تَكَلَّمَ) خَصْمُك (غَيْرَ مُسْتَرْشِدٍ لَكِنْ عَلَى الْإِنْصَافِ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ تَكْرَارٌ بِقَوْلِهِ أَوْ إنْ تَكَلَّمَ إلَّا أَنْ يُحْمَلُ لَفْظَةُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ (بِلَا تَعَنُّتٍ) بِلَا قَصْدِ إيقَاعِ زَلَّةِ خَصْمِهِ (فَإِنْ تَكَلَّمَ مَعَ مَنْ يُرِيدُ التَّعَنُّتَ) أَيْ مُجَرَّدَ التَّفَوُّقِ وَإِذْلَالَ الْخَصْمِ (وَيُرِيدُ أَنْ يَطْرَحَهُ لَا يُكْرَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَحْتَالَ كُلَّ حِيلَةٍ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ) ضَرَرَهُ وَيَظْهَرَ فَسَادُهُ (لِأَنَّ الْحِيلَةَ لِدَفْعِ التَّعَنُّتِ مَشْرُوعَةٌ) لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا لَعَلَّ إنْ كَانَ قَصْدُ ذَلِكَ الْمُعَانِدِ الْإِلْحَادَ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُمْكِنْ بِغَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ فَالْحِيلَةُ وَاجِبَةٌ وَإِلَّا فَتَرْكُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُنَاظَرَةَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ إظْهَارَ الصَّوَابِ لَيْسَ بِمُفِيدٍ شَيْئًا وَلَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ فِي الْآدَابِ.
(قَالَ) فِي الْخُلَاصَةِ (وَسَمِعْت الْقَاضِيَ الْإِمَامَ) قِيلَ قَاضِي خَانْ (يَقُولُ إنْ أَرَادَ) الْمُنَاظِرُ (تَخْجِيلَ الْخَصْمِ