الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَخْتَصُّ بِهِمَا الْمُؤْمِنُ فِي الْقِيَامَةِ كَذَا رُوِيَ عَنْ الْوَاحِدِيِّ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَعَنْ الْخَازِنِ قِيلَ مَعْنَاهُ خَالِصَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ التَّكْدِيرِ وَالتَّنْغِيصِ وَالْغَمِّ خِلَافُ الدُّنْيَا {كَذَلِكَ} [الأعراف: 32] التَّبْيِينُ وَالتَّفْصِيلُ {نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] الدَّالَّةُ عَلَى الْأَحْكَامِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ كَتَفْصِيلِنَا هَذَا الْحُكْمَ تَفْصِيلُ سَائِرِ الْأَحْكَامِ لَهُمْ وَمِنْهَا آيَةُ ( {طه} [طه: 1] قِيلَ كَانَ عليه الصلاة والسلام «إذَا صَلَّى رَفَعَ رِجْلًا وَوَضَعَ أُخْرَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى طَه أَيْ طَأْ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْك جَمِيعًا» فَمَعْنَى {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2] أَيْ لِتُصَلِّيَ عَلَى إحْدَى رِجْلَيْك فَيَشُقَّ عَلَيْك وَقِيلَ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى إذَا شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ قَامَ عَلَى إحْدَى رِجْلَيْهِ وَرَفَعَ الْأُخْرَى فَنَزَلَ طَه أَيْ طَأْ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْك» .
وَعَنْ الزَّجَّاجِ مَعْنَاهُ بِالْعَجَمِيَّةِ يَا رَجُلُ لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ بِسَائِرِ الْخِطَابَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ إذْ كُلَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ حَبِيبَهُ فِي الْقُرْآنِ خَاطَبَهُ بِمَا يُشْعِرُ بِالْمَدْحِ وَقِيلَ قَسَمٌ بِطَوْلِهِ وَهِدَايَتِهِ وَقِيلَ الطَّاءُ افْتِتَاحُ اسْمِهِ طَاهِرٌ وَالْهَاءُ اسْمُهُ هَادِي أَيْ أَنْتَ طَاهِرٌ بِنَا هَادٍ إلَيْنَا وَقِيلَ يَا إنْسَانُ قِبْطِيَّةٌ أَوْ سُرْيَانِيَّةٌ أَوْ لُغَةُ عك مِنْ الْعَرَبِيَّةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيِّ طُوبَى لِمَنْ اهْتَدَى بِك وَجَعَلَك السَّبِيلَ إلَيْنَا وَعَنْ ابْنِ عَطَاءٍ {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2] أَيْ لِتَتْعَبَ فِي خِدْمَتِنَا.
وَمِنْهَا آيَةُ الْحَجِّ ( {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] مِنْ ضِيقٍ فَجَعَلَ لِلْمُسَافِرِ الْإِفْطَارَ وَقَصْرَ الصَّلَاةِ وَالْقُعُودَ فِي الصَّلَاةِ لِلْعَاجِزِ وَالْإِيمَاءَ أَيْضًا لِعَاجِزِ الْقُعُودِ وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ رَفْعِ الْحَرَجِ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَعَلَ الْكَفَّارَاتِ مَخْرَجًا مِنْ الذَّنْبِ إمَّا بِالتَّوْبَةِ أَوْ بِالْقِصَاصِ أَوْ بِرَدِّ الْمَظْلِمَةِ أَوْ بِنَوْعِ كَفَّارَةٍ وَقِيلَ هُوَ أَخْذُ الْيَقِينِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَعْنِي حَمْلُ الْمُحْتَمَلِ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ وَقِيلَ إبَاحَةُ الرُّخَصِ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَإِفْطَارِ الصَّائِمِ لِنَحْوِ الْمَرَضِ وَقِيلَ هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الذُّنُوبِ بِنَحْوِ الْمَصَائِبِ وَالْبَلَايَا.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ مِنْ حَرَجٍ أَيْ ضِيقٍ بِتَكْلِيفِ مَا يَشْتَدُّ بِهِ الْقِيَامُ عَلَيْكُمْ
[الْأَدِلَّةُ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ]
وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ مِنْ السُّنَّةِ فَهِيَ (الْأَخْبَارُ) وَهِيَ عَشَرَةُ أَحَادِيثَ (خ م) رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا (عَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّهُ قَالَ «جَاءَ رَهْطٌ» جَمَاعَةٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ إلَى عَشَرَةٍ أَوْ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَمَا فِيهِمْ امْرَأَةٌ
وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَجَمْعُهُ أَرْهُطٌ وَأَرَاهِطُ وَأَرَاهِيطُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ.
وَفِي ابْنِ مَالِكٍ هُمْ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَعَنْ ثَعْلَبٍ الرَّهْطُ وَالْقَوْمُ وَالنَّفَرُ وَالْمَعْشَرُ وَالْعِتْرَةُ بِمَعْنًى إلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي زَوْجَاتِهِ فَالزَّوْجُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ.
قَالَ فِي الْقَامُوسِ الزَّوْجُ الْبَعْلُ وَالزَّوْجَةُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْبُيُوتَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَالْأَزْوَاجُ جَمْعُ قِلَّةٍ فَيَتَنَافَيَانِ وَيُشِيرُ أَيْضًا إلَى أَنَّ الْبُيُوتَ بِمَعْنَى أَبْيَاتٍ جَمْعُ قِلَّةٍ اسْتِعَارَةٌ وَلَمْ يَعْكِسْ؛ لِأَنَّ أَزْوَاجَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَوْتِهِ تِسْعٌ وَلَمْ يُجَاوِزْ هَذَا الْعَدَدَ قَبْلَ مَوْتِهِ إلَّا إنْ غَلَبَ عَلَى السَّرَارِيِّ وَفِيهِ بُعْدٌ انْتَهَى نَقْلًا عَنْ الْمَوَاهِبِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ أَيْضًا وَالْوَجْهَ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ «يَسْأَلُونَ عَنْ» كَيْفِيَّةِ «عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» إذْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى سِرِّ الرَّجُلِ فِي الْغَالِبِ إلَّا زَوْجَتُهُ اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ
وَجْهُ سُؤَالِهِمْ هُوَ اقْتِدَاؤُهُمْ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنْ مَا يُشْرَعُ لَهُمْ فِيهِ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ عليه الصلاة والسلام فَلَا جَرَمَ يُنَبِّئُهُ عليه الصلاة والسلام مَا يُرِيدُ إخْفَاءَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُنَّ إظْهَارُهُ بَلْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ الْخَوَاصِّ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَلَزِمَ إظْهَارُهُ لَهُمْ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]- وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُمْ لِلِاسْتِفْصَالِ وَلِنَحْوِ التَّثْبِيتِ وَالتَّأْكِيدِ وَيَجُوزُ أَنَّهُ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ بَعْضُ عَمَلِهِ فَيُرِيدُونَ بِهِ دَفْعَ اشْتِبَاهِهِمْ «فَلَمَّا أُخْبِرُوا» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَاتِ هَذَا إمَّا مَحْمُولٌ عَلَى كَوْنِهِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ أَوْ كَوْنِ أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحَارِمَ لِلْمُؤْمِنِينَ إذْ الْمَحْرَمُ مَنْ يَكُونُ نِكَاحُهَا حَرَامًا عَلَى التَّأْبِيدِ وَأَزْوَاجُهُ عليه الصلاة والسلام مَحْرَمٌ مُؤَبَّدٌ لِلْكُلِّ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ «كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا» أَيْ عَدُّوهَا قَلِيلَةً لِظَنِّهِمْ الْكَثْرَةَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَرَائِنِ آثَارِهِ وَسَائِرِ أَوْضَاعِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ وَجَّهُوا قِلَّتَهَا مِنْهُ «قَالُوا» فِيمَا بَيْنَهُمْ قِيلَ عَنْ ابْنِ مَالِكٍ وَإِنَّمَا قَلَّلَهَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَحْمَةً وَشَفَقَةً عَلَى أُمَّتِهِ لِئَلَّا يَلْحَقَهُمْ ضَرَرٌ وَمَشَقَّةٌ بِالِاقْتِدَاءِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُلَائِمٍ لِآخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ لِأَوَّلِهِ هَذَا أَيْضًا عَلَى أَنَّ إيجَابَ الِاقْتِدَاءِ الْمَشَقَّةَ فِيمَا يَكُونُ الِاقْتِدَاءُ فِيهِ وَاجِبًا لَا فِي مُطْلَقِ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام بَلْ فِعْلُهُ الْمُطْلَقُ مُبَاحٌ لَهُ وَلَنَا اتِّبَاعُهُ كَمَا عِنْدَ الْجَصَّاصِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَاجِبٌ لَهُ وَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بَلْ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ مُبَاحٌ لَهُ وَلَيْسَ لَنَا اتِّبَاعُهُ وَالْكُلُّ عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلِ كَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ بَعْضٍ.
«فَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أَيْ لَا تُقَاسُ نُفُوسُنَا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالظُّلُمَاتِ الهيولانية، الْمُنْطَبِعَةُ بِالْأَهْوَاءِ الْمَادِّيَّةِ عَلَى نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ الْمَعْصُومَةِ بِالْأَنْوَارِ اللَّاهُوتِيَّةِ الْقُدْسِيَّةِ فَإِنَّهُ «قَدْ غُفِرَ لَهُ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «مَا» أَيْ الْجَمِيعُ الَّذِي «تَقَدَّمَ» فِي ابْتِدَاءِ عُمْرِهِ «مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» .
فَإِنْ قِيلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ عِصْيَانٌ وَالْمَغْفِرَةُ تُوجِبُ وُجُودَ الْعِصْيَانِ إذْ الْمَعْدُومُ لَا تُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمَغْفِرَةُ. قُلْنَا ذَلِكَ عَنْ الْكَبِيرَةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا عِنْدَ بَعْضٍ وَإِنْ خَصَّ بَعْضٌ الْعَمْدَ، وَأَمَّا عَنْ الصَّغَائِرِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ عَمْدًا، وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ فِي السَّهْوِ نَعَمْ نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ نَفْيُ عَمْدِ الصَّغَائِرِ أَيْضًا وَالْإِجْمَاعُ عَلَى امْتِنَاعِ صَغِيرَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْخِسَّةِ مُنَافِيَةٍ لِلْفَطَانَةِ فَظَهَرَ جَوَازُ صُدُورِ الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضٍ أَوْ فِي السَّهْوِ عِنْدَ آخَرَ بَلْ الْكَبِيرَةُ فِي السَّهْوِ عِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ جِنْسَ هَذَا الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الذُّهُولِ مِنْ مَوَاجِبِ رِفْعَةِ مَقَامِهِ وَانْكِشَافِ
عَظَمَتِهِ تَعَالَى لَهُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» «قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ» كُلَّهُ «أَبَدًا» مُدَّةَ عُمْرِي فَلَا أَنَامُ أَصْلًا - {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6]- وَأَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ؛ لِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَأَقْرَبِ الْقُرُبَاتِ وَلِهَذَا جُعِلَتْ قُرَّةَ عَيْنِ الْحَبِيبِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِمَادَ الدِّينِ وَعُرْوَةَ الْإِسْلَامِ وَأَفْضَلَ الْأَعْمَالِ.
«وَقَالَ الْآخَرُ وَأَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ» كُلَّهُ إلَّا الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّةَ «وَلَا أُفْطِرُ» لِقَهْرِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ أَعْدَى عَدُوِّ اللَّهِ وَلِئَلَّا تَقْدُمَ عَلَى الْمَعَاصِي وَتَتَجَاسَرَ عَلَى الْهَوَى وَتُوقِعَ صَاحِبَهَا فِي كُلِّ مَضَرَّةٍ وَهَلَكَةٍ إذْ كُلُّ مَفْسَدَةٍ صَادِرَةٌ عَنْ النَّاسِ لَيْسَ إلَّا مِنْ طَرَفِهَا لَكِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ صَوْمُ دَاوُد عليه الصلاة والسلام وَكَذَا أَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُهُ» لَكِنْ فِي مِنَحِ الْغَفَّارِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا قَالَ الْمُخْتَارُ أَفْضَلِيَّةُ صَوْمِ الدَّهْرِ وَلِذَا سَلَكَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ رحمهم الله فَتَأَمَّلْ.
«وَقَالَ الْآخَرُ وَأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ» مِنْ الْعُزْلَةِ «وَلَا أَتَزَوَّجُ» وَلَا أَتَسَرَّى «أَبَدًا» مُدَّةَ عُمْرِي لِئَلَّا أَشْتَغِلَ بِخِدْمَتِهِنَّ وَبِخِدْمَتِهِنَّ يَحْصُلُ التَّعَلُّقُ بِالدُّنْيَا وَالتَّبَعُّدُ عَنْ الطَّاعَاتِ «فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِمْ» عَلَى عَادَةِ مَجِيئِهِ لِبَيْتِهِ الشَّرِيفِ.
وَأَمَّا الْمَجِيءُ لِبُلُوغِ الْخَبَرِ وَكَوْنِهِ لِتَوَاضُعِهِ كَمَا قِيلَ فَبَعِيدٌ «فَقَالَ» كَأَنَّهُ مُعَاتِبًا لَهُمْ لِجَرَاءَتِهِمْ بِمُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا اسْتِئْذَانٍ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالزَّمَانُ أَوَانُ تَوَارُدِ الْوَحْيِ وَقَدْ كَانَتْ النُّصُوصُ نَاطِقَةً بِعَدَمِ الْحَرَجِ فِي الدِّينِ وَإِرَادَةِ الْيُسْرِ وَرَفْعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ «أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» كِنَايَةٌ عَمَّا الْتَزَمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ الْجَوَابَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ بَلْ لِلتَّقْرِيعِ كَمَا أُشِيرَ وَفِي مِثْلِهِ لَا يَلْزَمُ الْجَوَابُ.
وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قِيلَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ مُسَارَعَةَ بَيَانِ الْحَقِّ «أَمَا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ بَعْدَهُ الْقَسَمُ «وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ» أَكْثَرُكُمْ خَشْيَةً «لِلَّهِ تَعَالَى» وَالْخَشْيَةُ خَوْفٌ مَعَ هَيْبَةٍ وَإِجْلَالٍ وَمُتَابَعَةٍ لِلْعِلْمِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعِلْمُ إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى تَزْدَادُ الْخَشْيَةُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَخْشَاهُمْ «وَأَتْقَاكُمْ» أَيْ أَشَدُّكُمْ تَقْوَى وَأَكْثَرُكُمْ طَاعَةً «لَهُ» عز وجل وَأَنَّ الطَّاعَةَ شُكْرٌ لِلنِّعْمَةِ وَنِعْمَتُهُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَأَوْفَرُ مِمَّا عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ - {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]- الْآيَةُ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» فَكَيْفَ تَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ بِأَنِّي أَقَلُّ أَعْمَالًا وَأَدْنَى طَاعَاتٍ وَتَعْتَذِرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَفَرَ مِنْ ذَنْبِي، فَإِنْ قِيلَ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَلَّذِي أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ مَأْمُونُونَ مِنْ النِّيرَانِ وَسُوءِ الْخَاتِمَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ كَيْفَ.
وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِهِ هَذَا «إنِّي لَأَخْشَاكُمْ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَا أَخْوَفُكُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَخْشَاكُمْ» «وَأُوحِيَ إلَى دَاوُد عليه الصلاة والسلام يَا دَاوُد خِفْنِي كَمَا تَخَافُ السَّبُعَ الضَّارِيَ» . وَقَالَ الصِّدِّيقُ الْأَعْظَمُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرَّةً يَا لَيْتَنِي كُنْت هَذِهِ التَّبِنَةَ وَقَالَ أُخْرَى لَيْتَنِي لَمْ أَكُ شَيْئًا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَدِدْت أَنِّي كَبْشٌ فَيَذْبَحَنِي أَهْلِي فَيَأْكُلُونَ لَحْمِي.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -
يَا لَيْتَنِي كُنْت وَرَقَةً مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَهِيَ مِمَّنْ شَهِدَ لَهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّهَا زَوْجَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ إنْبَاءٌ عَنْ الْخَوْفِ فَكَيْفَ وَجْهُهُ. قُلْنَا الْخَوْفُ قِسْمَانِ: خَوْفُ الْعَاقِبَةِ وَخَوْفُ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْحَقِّ وَاَلَّذِي زَالَ عَنْ الْمَأْمُونِينَ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا خَوْفُ الْإِجْلَالِ وَالْهَيْبَةِ وَالْحَيَاءِ وَالتَّعْظِيمِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْعِرْفَانِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ فَخَوْفُهُ أَكْمَلُ وَأَعْلَى وَمِنْ هَذَا ظَهَرَ كَوْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْوَفَ وَأَخْشَى مِنْ الْكُلِّ إذْ عِرْفَانُهُ أَكْمَلُ مِنْ الْكُلِّ فَخَوْفُهُ أَعْظَمُ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْخَوْفِ تَأَلُّمُ الْقَلْبِ وَاحْتِرَاقُهُ بِسَبَبِ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي الِاسْتِقْبَالِ.
ثُمَّ الْمَكْرُوهُ ثَلَاثَةٌ إمَّا بِتَبَدُّلِ الْإِيمَانِ بِالْكُفْرِ فَخَوْفُ الْخَاتِمَةِ وَإِمَّا بِدُخُولِ النَّارِ مَعَ بَقَاءِ الْإِيمَانِ فَخَوْفُ الْعَذَابِ وَإِمَّا بِحَطِّ رُتْبَةٍ مِنْ رُتَبِهِ وَرَدِّهِ إلَى مَرْتَبَةٍ أَدْنَى فَخَوْفُ النُّقْصَانِ وَوَرَاءَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قِسْمٌ آخَرُ أَعْلَى مِنْ الْكُلِّ هُوَ خَوْفُ الْإِجْلَالِ وَالْهَيْبَةِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتُهُ فَكُلُّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْخَوْفُ إلَى أَنْ يَنْسَى الْكُلَّ وَبِهَذَا ظَهَرَ سِرُّ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا أَخْوَفُكُمْ مِنْ اللَّهِ» ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْخَوْفِ عَلَى قَدْرِ الْعِلْمِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فَاَلَّذِينَ بُشِّرُوا بِالْجَنَّةِ مَأْمُونُونَ مِنْ خَوْفِ الْعَاقِبَةِ، وَأَمَّا خَوْفُ النُّقْصَانِ فَلَا؛ لِأَنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مَأْمُونِينَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ إلَّا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَأْمُونِينَ مِنْ خَوْفِ النُّقْصَانِ بِفِعْلِ حَسَنَةٍ هِيَ سَيِّئَةٌ فِي مَرَاتِبِهِمْ كَمَا قِيلَ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ حَتَّى إنَّ الِالْتِفَاتَ إلَى الْمَرْتَبَةِ أَيْضًا ذَنْبٌ عِنْدَهُمْ فَيَخَافُونَ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْضًا خَوْفُ الْإِجْلَالِ لِكَمَالِهِمْ فِي عِرْفَانِ الْأَوْلِيَاءِ.
وَأَمَّا خَوْفُ التَّعْذِيبِ فَنَفَوْهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّسَاوِي مَعَ سَائِرِ النَّاسِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَهُمْ خَوْفَ الْإِجْلَالِ وَخَوْفَ النُّقْصَانِ دُونَ خَوْفِ الْعَاقِبَةِ قَطْعًا وَخَوْفَ التَّعْذِيبِ أَيْضًا «وَلَكِنِّي أَصُومُ» تَارَةً مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ؛ لِأَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ فَيَقُولُ هَلْ عِنْدَكُنَّ الْيَوْمَ غَدَاءٌ، فَإِذَا قَالُوا لَا قَالَ إنِّي صَائِمٌ» وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]«وَأُفْطِرُ»
تَارَةً كَمَا وَرَدَ عَنْ أُسَامَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ فَيُقَالُ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ فَيُقَالُ لَا يَصُومُ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «كَانَ يَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا وَاَللَّهِ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا وَاَللَّهِ لَا يَصُومُ» كَذَا نُقِلَ عَنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ «وَأُصَلِّي» فِي لَيْلَةٍ «وَأَرْقُدُ» أَيْ أَنَامُ عَنْ التَّهَجُّدِ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى أَوْ أُصَلِّي بَعْضًا مِنْ اللَّيْلِ وَأَرْقُدُ الْبَعْضَ الْآخَرَ وَلَا أُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «كَانَ عليه الصلاة والسلام يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ آخِرَهُ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ وَإِلَّا تَوَضَّأَ» وَخَرَجَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «كَانَ يُصَلِّي وَيَنَامُ قَدْرَ مَا صَلَّى حَتَّى يُصْبِحَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ «وَأَتَزَوَّجُ» أَعْقِدُ أَوْ أَطَأُ «النِّسَاءَ» ، فَإِنَّ النِّكَاحَ سُنَّةٌ حَالَ الِاعْتِدَالِ وَوَاجِبٌ عِنْدَ التَّوَقَانِ أَيْ الشَّوْقِ الْقَوِيِّ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا عِنْدَ خَوْفِ عَدَمِ إقَامَةِ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ كَمَا فِي الدُّرَرِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ عَلَى مَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّجْ الْحَرَائِرَ» وَلِهَذَا بَلَغَ زَوْجَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى إحْدَى عَشَرَةَ وَقِيلَ بَلْ أَزْيَدُ مِنْهَا سِتٌّ مِنْ قُرَيْشٍ خَدِيجَةُ عَائِشَةُ حَفْصَةُ أُمُّ حَبِيبَةَ أُمُّ سَلَمَةَ سَوْدَةُ وَأَرْبَعٌ عَرَبِيَّاتٌ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ مَيْمُونَةَ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ جُوَيْرِيَةُ وَوَاحِدَةٌ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ وَمَاتَ عَنْهُ اثْنَتَانِ خَدِيجَةُ وَزَيْنَبُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ وَمَاتَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تِسْعٍ، وَأَمَّا سَرَائِرُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرْبَعٌ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ وَرَيْحَانَةُ بِنْتُ سَمْعُونٍ وَأُخْرَى وَهَبَتْهَا لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَأُخْرَى أَصَابَهَا فِي بَعْضِ السَّبْيِ وَتَمَامُهُ فِي مَوَاهِبِ الْقَسْطَلَّانِيِّ وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ النِّكَاحَ أَمْرٌ مَحْبُوبٌ وَشَيْءٌ مَرْغُوبٌ لَا يَجُوزُ لَوْمُهُ.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَأَلْفُ جَارِيَةٍ وَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً أُخْرَى فَلَامَهُ رَجُلٌ يَخَافُ
عَلَيْهِ الْكُفْرَ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ بَعْدَ نَقْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَكَابِرِ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَا لَوْ لَامَهُ أَحَدٌ عِنْدَ إرَادَةِ تَزَوُّجِ مَا فَوْقَ امْرَأَةٍ قَالَ تَعَالَى {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] ثُمَّ اُخْتُلِفَ أَنَّ النِّكَاحَ عِبَادَةٌ أَوْ لَا بَلْ تَضْيِيعُ عِبَادَةٍ فَيَشْكُلُ عَلَيْهِ أَمْثَالُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ الْمَنْعُ فِيمَا دُونَ الِاسْتِحْبَابِ وَالْإِثْبَاتُ عِنْدَ الِاسْتِحْبَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ أَثْقَلِ السُّنَنِ مَحْمَلًا وَأَصْعَبِ الْحُقُوقِ قَضَاءً وَأَعَمِّ الْأُمُورِ نَفْعًا وَأَجْزَلِ الْقَضَايَا أَجْرًا، فَإِنَّهُ بِمَوْضُوعِهِ لِلدِّينِ تَحْصِينٌ وَلِلْخَلْقِ تَحْسِينٌ وَفِيهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ الْمُعَرَّضَةِ لِلْآفَاتِ وَجَلْبٌ لِلْغِنَى وَالرِّزْقِ وَتَكْثِيرُ مَوَادِّ أَهْلِ التَّوْحِيدِ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ
«فَمَنْ رَغِبَ» أَيْ أَعْرَضَ وَتَرَكَ يُقَالُ رَغِبَ عَنْهُ إذَا لَمْ يُرِدْهُ وَرَغِبَ فِيهِ أَرَادَهُ وَرَغِبَ إلَيْهِ تَوَجَّهَ إلَيْهِ وَبَابُهُ عَلِمَ «عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» إنْ كَانَ التَّرْكُ لِغَيْرِ اسْتِهَانَةٍ وَاسْتِحْقَارٍ فَمَعْنَى لَيْسَ مِنِّي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِي فِي شَرِيعَتِي، وَإِنْ لِأَجْلِ الِاسْتِخْفَافِ فَالْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ الْمُصَدِّقِ بِي، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكْفُرُ، فَإِنْ قِيلَ: مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ مُنَافٍ لِحَاصِلِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ نَحْوُ حَدِيثِ شِفَاءِ عِيَاضٍ «وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفِرَاشِ وَلَخَرَجْتُمْ إلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إلَى اللَّهِ لَوَدِدْت أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ» وَرُوِيَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ نَفْسِهِ وَهُوَ أَصَحُّ.
وَفِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ أَتَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيمَةً وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ يُطِيقُ» قُلْنَا لَا يَخْفَى أَنَّ نَحْوَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا تُوجِبُ اسْتِغْرَاقَ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ وَاسْتِيعَابَ جَمِيعِ الْأَحْوَالِ غَايَتُهَا غَلَبَةُ جَانِبِ الطَّاعَاتِ وَالِاهْتِمَامُ بِهَا وَهُوَ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ مَقْصُودِ هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ عَيْنُهُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مِنْ الْخَوَاصِّ وَأَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ وَعَمَّنْ تَبِعَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِ الشِّفَاءِ قِيلَ كَانَ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ مَا خَفَّفَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} [المزمل: 20] وَكَذَا قَوْلُهُ - {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2]- وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النَّهْيِ مَرْتَبَةُ إضْرَارِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ الْمَطِيَّةُ وَمَرْتَبَةُ تَفْوِيتِ حَقِّ الْغَيْرِ وَإِلَّا فَتَرْكُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَالِانْقِطَاعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّقَاعُدُ لِعِبَادَتِهِ فَمَمْدُوحٌ مَرْغُوبٌ إلَيْهِ.
وَقَدْ يُقَالُ الْعِبَادَاتُ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى حَسَبِ الْعَابِدِينَ إذْ الْعَوَامُّ لَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ بِعِبَادَاتِ الْخَوَاصِّ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مَرْتَبَةِ " حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ (وَزَادَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ.
«وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا آكُلُ اللَّحْمَ» خ م " عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَنَّهُ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قِيلَ لَمْ يَقُلْ فَعَلَ لِمَا فِي الصُّنْعِ مِنْ الْإِحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّرَوِّي وَالْفِكْرِ «شَيْئًا» قِيلَ لَعَلَّهُ مِنْ الْمَآكِلِ اللَّذِيذَةِ أَقُولُ ذَلِكَ إمَّا مِنْ كَوْنِ تَنْكِيرِ شَيْئًا لِلتَّعْظِيمِ بِقَرِينَةِ تَنَزُّهِ الْقَوْمِ أَوْ مِنْ تَعَلُّقِ الصُّنْعِ بِهِ «وَرَخَّصَ فِيهِ» أَيْ فِي الشَّيْءِ أَيْ حَكَمَ بِالرُّخْصَةِ تَخْفِيفًا وَلِرَفْعِ الْحَرَجِ «فَتَنَزُّهٌ» أَيْ امْتَنَعَ «عَنْهُ» أَيْ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي صَنَعَهُ وَرَخَّصَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَوْمٌ» مِنْ الصَّحَابَةِ إيثَارًا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَمَنْعًا لِلنَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا وَهَوَاهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ الصَّحَابَةِ الِامْتِنَاعُ عَمَّا صَنَعَهُ وَرَخَّصَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ أُمِرُوا بِمُتَابَعَتِهِ وَنُهُوا عَنْ مُخَالَفَتِهِ قُلْنَا لَعَلَّهُمْ ظَنُّوا الْعَزِيمَةَ فِيمَا فَعَلُوهُ كَمَا يُؤَيِّدُهُ لَفْظُ رَخَّصَ مِنْ الرَّاوِي، وَإِنْ لَمْ يُلَائِمْهُ ظَاهِرُ مَا سَيَذْكُرُ.
وَأَمَّا
الْجَوَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِ عليه الصلاة والسلام؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ وَمَغْفُورٌ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَلَا يُلَائِمُهُ لَفْظُ رَخَّصَ إذْ ذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَهُ لِلْغَيْرِ «فَبَلَغَ ذَلِكَ» التَّنَزُّهُ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قِيلَ فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ «فَخَطَبَ» مِنْ الْخُطْبَةِ غَيْرَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ بَلْ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ «فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى» عَلَى عَادَتِهِ فِي ابْتِدَاءِ خُطْبَتِهِ بَلْ فِي مُطْلَقِ أَمْرٍ ذِي شَأْنٍ «ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ» الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ التَّوْبِيخِيِّ وَالْبَالُ الْحَالُ وَالتَّنْكِيرُ لِعَدَمِ التَّفْضِيحِ وَالتَّعْيِيرِ تَجَنُّبًا عَنْ الذَّمِّ «يَتَنَزَّهُونَ» يَتَبَاعَدُونَ «عَنْ الشَّيْءِ» قِيلَ اللَّامُ زَائِدَةٌ «الَّذِي أَصْنَعُهُ» وَالْحَالُ أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِمْ وَأَوْضَاعِهِمْ مَأْخُوذٌ مِنِّي وَأَنَّهُمْ مُلْتَزِمُونَ بِتَبَعِيَّتِي «فَوَاَللَّهِ» الْقَسَمُ لِأَمَارَةِ الْإِنْكَارِ أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى مَضْمُونِ الْحُكْمِ «إنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاَللَّهِ» وَصِفَاتِهِ «وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً» هُوَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ إذْ كُلَّمَا كَثُرَ الْعِلْمُ كَثُرَتْ الْخَشْيَةُ قِيلَ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي مِثْلِهِ فِيهِ حَثٌّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّهْيِ عَنْ التَّعَمُّقِ فِي الْعِبَادَةِ وَذَمِّ التَّنَزُّهِ عَنْ الْمُبَاحِ شَكًّا فِي إبَاحَتِهِ وَفِيهِ الْغَضَبُ مِنْ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُنْتَهِكُ مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا بَاطِلًا وَفِيهِ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ بِإِرْسَالِ التَّعْزِيرِ وَالْإِنْكَارِ فِي الْجَمْعِ وَلَا يَتَعَيَّنُ فَاعِلُهُ فَيُقَالُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ وَنَحْوُهُ.
وَفِيهِ أَنَّ الْقُرْبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ بِهِ وَشِدَّةِ خَشْيَتِهِ.
(خ د) الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ صَحَابِيٌّ ( «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَى» فِعْلٌ مَاضٍ مِنْ الْإِخَاءِ أَيْ جَعَلَ بَعْضَهُمْ أَخًا لِبَعْضٍ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَعَقَدُوا عَقْدَ الْمُؤَاخَاةِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي دَارِ أَنَسٍ رضي الله عنه وَقِيلَ فِي الْمَسْجِدِ كَتَبُوا فِيهِ كِتَابًا عَلَى أَنْ يَتَوَارَثُوا بَعْدَ الْمَوْتِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَكَانُوا تِسْعِينَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَكَانَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]
- فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذَلِكَ وَقِيلَ الْمُؤَاخَاةُ مَرَّةً بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَمَرَّةً بَعْدَهَا فِي الْمَدِينَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبَيْن طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَبَيْن عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَبَيْن حَمْزَةَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ آخَيْت بَيْنَ أَصْحَابِك فَمَنْ أَخِي قَالَ أَنَا أَخُوك وَفِي رِوَايَةٍ أَنْتَ أَخِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَذَا نُقِلَ عَنْ تَارِيخِ الْخَمْسِ فِي أَنْفَسِ النَّفْسِ «بَيْنَ سَلْمَانَ» الْفَارِسِيِّ «وَ» بَيْنَ «أَبِي الدَّرْدَاءِ» الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ» فِيهِ نَدْبُ التَّزَاوُرِ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ وَالْإِخْوَانِ فِي اللَّهِ فِي الْمَصَابِيحِ.
عَنْ مُعَاذٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِي وَالْمُتَجَالِسِينَ فِي وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِي وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِي» «فَرَأَى» أَيْ سَلْمَانُ (أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً) لَابِسَةً ثِيَابَ الْبِذْلَةِ الْخَلِقَةِ قِيلَ نَظَرُهُ إنَّمَا هُوَ إلَى ثِيَابِهَا لَا بَدَنِهَا أَوْ لَا عَنْ شَهْوَةٍ أَوْ رَأَى عِلْمِيَّةً أَقْوَالٌ الْأَقْرَبُ هُوَ أَنَّ مَدَارَ الْمَنْعِ هُوَ الشَّهْوَةُ أَوْ أَنَّهَا عَجُوزٌ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهَا مَحَلًّا لِلشَّهْوَةِ وَالْحَمْلُ عَلَى مَا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْغَضِّ وَالْحِجَابِ بَعِيدٌ «فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُك» مَا وَجْهُ لُبْسِك تِلْكَ الْبِذْلَةَ الْخَلِقَةَ «فَقَالَتْ أَخُوك أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا» يَعْنِي أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ الدُّنْيَا وَلَا يَجْمَعُ شَيْئًا مِنْ حُطَامِهَا وَلَيْسَ لَهُ مَيْلٌ وَلَذَّةٌ فِيهَا.
«فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ» مَنْزِلَهُ «فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا» لِيُضِيفَهُ وَقَدَّمَهُ إلَيْهِ «فَقَالَ» أَبُو الدَّرْدَاءِ «لَهُ كُلْ» يَعْنِي وَحْدَك «، فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَ» سَلْمَانُ «مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ» مَعِي «فَأَكَلَ» مَعَهُ إكْرَامًا لِضَيْفِهِ وَتَطْيِيبًا لِخَاطِرِهِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ أَجْرًا بَلْ مُضَاعَفٌ لِلثَّوَابِ لِنَيْلِهِ ثَوَابَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ وَثَوَابُ قَضَائِهِ بَعْدَهُ وَتَطْيِيبُ خَاطِرِ أَخِيهِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابِيَّةُ الْأَكْلِ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ لَعَلَّ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَكُونَ مَوْضِعَ وِفَاقٍ.
«فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ» لِقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ بِلَا نَوْمٍ أَصْلًا وَقِيلَ لِلتَّهَجُّدِ أَقُولُ التَّهَجُّدُ مَا يَكُونُ بَعْدَ النَّوْمِ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ «فَقَالَ» سَلْمَانُ «نَمْ» عَلَى وَزْنِ كَمْ أَمْرٌ حَاضِرٌ مِنْ النَّوْمِ «فَنَامَ» امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ مُرَاعَاةً لِحُقُوقِ الْأُخُوَّةِ «ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ» مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ «نَمْ فَنَامَ فَلَمَّا كَانَ آخِرَ اللَّيْلِ» عِنْدَ ثُلُثِهِ الْأَخِيرِ وَقِيلَ نِصْفُهُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِكَوْنِهِ مَعْنَى الْآخِرِ وَلِمُوَافَقَتِهِ لِبَعْضِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ سِيَّمَا السَّحَرِ كَمَا يَأْتِي.
«قَالَ سَلْمَانُ قُمْ الْآنَ» لِلتَّهَجُّدِ كَيْفَ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ «رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا الْعَبْدُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَفَرَضْتُهُمَا عَلَيْهِمْ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِقِيَامِ اللَّيْلِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّ خِيَارَ أُمَّتِي لَا يَنَامُونَ» وَفِي عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ أَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِمْ أَشَدُّ لَذَّةً مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يُشْبِهُ نَعِيمَ الْجَنَّةِ إلَّا مَا يَجِدُ أَهْلُ التَّمَلُّقِ فِي قُلُوبِهِمْ بِاللَّيْلِ مِنْ حَلَاوَةِ الْمُنَاجَاةِ ثَوَابٌ عَاجِلٌ لِأَهْلِ اللَّيْلِ، وَفِي حَقِّ قِيَامِ اللَّيْلِ وَرَدَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] وَقَوْلُهُ - {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]- الْآيَاتُ وَقَوْلُهُ - {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]- «فَقَامَا وَصَلَّيَا» التَّهَجُّدَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَقِيلَ اثْنَتَيْنِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ قِيلَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ «السَّاعَةُ الَّتِي
فِي اللَّيْلِ وَهِيَ السَّاعَةُ الَّتِي يُنَادِي فِيهَا الْمُنَادِي مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ» الْحَدِيثُ وَهِيَ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَفِيهَا يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَيْ النُّزُولَ الْمَعْنَوِيَّ وَتَمَامُهُ هُنَاكَ.
«فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إنَّ لِرَبِّك» لِكَوْنِهِ رَبَّاك وَأَكْمَلَك وَلِذَا اخْتَارَهُ دُونَ إنَّ لِلَّهِ «عَلَيْك حَقًّا» مِنْ الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا «، وَإِنَّ لِنَفْسِك» الَّتِي هِيَ مَطِيَّتُك فِي تَحْمِيلِ أَحْمَالِ الْعِبَادَاتِ «عَلَيْك حَقًّا» إذْ الرَّاكِبُ يَحْفَظُ مَرْكَبَهُ فَيَلْزَمُ أَدَاءُ ذَلِكَ الْحَقِّ مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنَامِ عَلَى قَدْرِ دَفْعِ الضَّرُورَةِ فَلِإِحْيَاءِ حَقِّ اللَّهِ يَقُومُ فِي اللَّيْلِ وَلِإِحْيَاءِ حَقِّ النَّفْسِ يَنَامُ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُبَاحَاتِ التَّقَوِّيَ لِلطَّاعَاتِ حَتَّى تَكُونَ لَهُ أَجْرًا وَثَوَابًا «، وَإِنَّ لِأَهْلِك» زَوْجَتِك وَأَوْلَادِك وَأَقْرِبَائِك اللَّوَاتِي تَلْزَمُ مُؤْنَتُهَا عَلَيْك وَيَكُونُ حُسْنُ مَعَاشِك بِهَا وَانْتِظَامُ حَالِك عَلَيْهَا فَيَلْزَمُ أَدَاءُ مُؤَنِهِمْ وَالْبِرُّ إلَيْهِمْ وَإِصْلَاحُ أُمُورِهِمْ وَالْمُوَاسَاةُ لَهُمْ «عَلَيْك حَقًّا» وَكَذَا صِلَةُ الرَّحِمِ وَالْحَقُّ مُتَفَاوِتٌ وَمُشَكَّكٌ مِنْ الْوَاجِبِ إلَى الْأَوْلَى «فَأَعْطِ» وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا إذْ الْأَمْرُ تَابِعٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ «كُلَّ ذِي حَقٍّ» مِنْ الثَّلَاثَةِ «حَقَّهُ» الَّذِي عَيَّنَهُ الشَّرْعُ فَلَا تَظْلِمْهُ بِمَنْعِهِ فَيُعَاقِبَكَ اللَّهُ.
«فَأَتَى» أَبُو الدَّرْدَاءِ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ» أَيْ قِصَّتَهُ مَعَ سَلْمَانَ «لَهُ» لَعَلَّ ذَلِكَ إمَّا لِدَفْعِ نَحْوِ شَكٍّ فِي خَاطِرِهِ مِنْ صَنِيعِ سَلْمَانَ لِإِيهَامِهِ الْمَنْعَ عَنْ الْخَيْرِ وَلِظَوَاهِرِ بَعْضِ الْآثَارِ فِي عُمُومِ الْقِيَامِ وَإِمَّا لِتَأْكِيدٍ وَتَثْبِيتٍ مِنْ حَيْثُ الِاهْتِمَامُ أَوْ أَنَّهُ يَقْرُبُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَزَمَانُ النُّبُوَّةِ سِيَّمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام لَيْسَ فِيهِ اجْتِهَادٌ سِيَّمَا مِنْ الْأُمَّةِ أَوْ أَنَّ صَنِيعَ سَلْمَانَ مُفِيدٌ لِلظَّنِّ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ يَطْلُبُ الْيَقِينَ.
«فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَ سَلْمَانُ» إذْ عِلْمُ سَلْمَانَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام لِتَقَدُّمِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَلِقُرْبِهِ مِنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام حَتَّى قَالَ فِيهِ عليه الصلاة والسلام «هُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ» دُونَ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
فَحَاصِلُ الِاحْتِجَاجِ هُوَ تَصْدِيقُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام سَلْمَانَ فِي مَنْعِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي إرَادَتِهِ الْإِفْرَاطَ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ مَحَلُّ الِاحْتِجَاجِ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ بَحْثٌ أُصُولِيٌّ فَافْهَمْ
وَفِيهِ أَيْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثُّ الْإِخْوَانِ فِي الدِّينِ عَلَى نُصْحِ بَعْضٍ لِبَعْضٍ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَوُجُوبِ الِانْقِيَادِ فِي الْخَيْرِ وَاسْتِحْبَابِ انْقِيَادِ الْأَصَاغِرِ لِلْأَكَابِرِ وَإِنْ فَهِمَ الْحَقَّ فِي جَانِبِ نَفْسِهِ، وَفِيهَا الْحَثُّ عَلَى مُؤَاخَاةِ الْإِخْوَانِ الصَّالِحِينَ وَنَدْبِ ضِيَافَةِ الْمَزُورِ لِلزَّائِرِ بَلْ نَدْبِيَّةُ خِدْمَتِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ حَاصِلُ هَذَا الْأَثَرِ مَنْعُ سَلْمَانَ عَنْ تَمَامِ الْقِيَامِ فِي اللَّيْلِ وَتَقْرِيرُهُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ.
قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ إحْيَاءُ كُلِّ اللَّيَالِيِ طَرِيقُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ الَّذِينَ تَجَرَّدُوا لِلْعِبَادَاتِ وَتَلَذَّذُوا بِالْمُنَاجَاةِ قَالَ فِي الْعَوَارِفِ قِيَامُ كُلِّ اللَّيْلِ طَرِيقُ أَكْثَرِ التَّابِعِينَ وَفِي الْأَشْبَاهِ كَانَ دَأْبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ عَنْ سَائِرِ الْمَشَايِخِ.
قُلْنَا: لَعَلَّ أَنَّ هَذَا الْأَثَرَ مُخْتَصٌّ بِحَالِ الِابْتِدَاءِ وَبِمَنْ تَضَرَّرَ بِالزِّيَادَةِ وَعَادَاتُ السَّلَفِ بِحَالِ الِانْتِهَاءِ لِعَدَمِ تَضَرُّرِهِمْ بَلْ صَارَ السَّهَرُ وَالطَّاعَةُ كَالْغِذَاءِ لَهُمْ كَمَا قِيلَ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ وَلِكُلِّ مَيْدَانٍ رِجَالٌ فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمًا لِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِظَنِّ اعْتِقَادِ نَحْوِ الْوُجُوبِ.
(خ س) الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ» أَيْ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ إمَّا بِكَوْنِ لَامِ الْمَسْجِدِ لِلْعَهْدِ أَيْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ أَوْ بِقَوْلِهِ السَّارِيَتَيْنِ أَوْ أَنَّ زَيْنَبَ لَمْ تَكُنْ زَوْجَتَهُ فِي مَكَّةَ فَلَا يُرَادُ بِهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ «، فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ» أَيْ أُسْطُوَانَتَيْنِ مِنْ أُسْطُوَانَاتِ الْمَسْجِدِ
«فَقَالَ مَا هَذَا الْحَبْلُ» إمَّا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ أَوْ حَقِيقَةُ اسْتِفْهَامٍ يُسْأَلُ عَنْ سَبَبِهِ «قَالُوا» أَيْ الْعَارِفُونَ حَالُ الْحَبْلِ « (حَبْلٌ لِزَيْنَبِ) بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَبَطَتْهُ لِتَسْتَعِينَ بِهِ عِنْدَ الْفُتُورِ وَالضَّعْفِ فِي الصَّلَاةِ لِكَمَالِ حِرْصِهَا وَقُوَّةِ اهْتِمَامِهَا بِالصَّلَاةِ وَالْعِبَادَاتِ (فَإِذَا فَتَرَتْ) » مِنْ الْفُتُورِ بِمَعْنَى الضَّعْفِ «تَعَلَّقَتْ بِهِ» لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ السُّقُوطِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عِنْدَ إرَادَةِ الْقِيَامِ يَشْكُلُ أَنَّ صَلَاةَ النِّسَاءِ فِي الْمَسْجِدِ لَيْسَتْ بِجَيِّدَةٍ وَأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ الْمُجِيبِينَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ مَحَارِمِهَا وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْهُمْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَعْرَفَ بِحَالِهَا مِنْهُمْ فَتَأَمَّلْ كُلَّ ذَلِكَ حَتَّى يَظْهَرَ الْوَجْهُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
«فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا» أَيْ لَا يُفْعَلُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً أَيْ لَا تَفْعَلِي يَا زَيْنَبُ «حُلُّوهُ» أَيْ الْحَبْلَ وَاطْرَحُوهُ «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ» أَيْ أَحَدٌ مِنْ شَأْنِهِ الصَّلَاةُ مُطْلَقًا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَمَنْ خَصَّهَا بِقِيَامِ اللَّيْلِ لَعَلَّهُ تَبَادَرَ مِنْ الْفُتُورِ؛ إذْ أَكْثَرُ الْفُتُورِ يَكُونُ فِي اللَّيْلِ لِكَوْنِهِ أَوَانَ النَّوْمِ وَأَنَّ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ فِي اللَّيْلِ لِكَثْرَةِ فَضْلِهِ؛ لِأَنَّ {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6]- لَكِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُحْمَلَ الْمُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَالتَّقْيِيدُ تَغْيِيرٌ بَلْ تَبْدِيلٌ لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ بِلَا تَعَذُّرٍ «نَشَاطَهُ» أَيْ حَالَ نَشَاطِهِ أَوْ عَلَى قَدْرِ نَشَاطِهِ إذْ لَا تَكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ عَدَمُ الطَّاقَةِ عَلَى حَالِهِ سِيَّمَا الْفَضَائِلِ «، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ» أَيْ لِيُؤَخِّرْ إلَى أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ الْفُتُورُ الظَّاهِرُ فَلْيَقْعُدْ عَنْ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَلْيَشْتَغِلْ بِطَاعَةٍ أُخْرَى؛ إذْ السَّآمَةُ وَالْفُتُورُ لَا يَكُونُ بِكُلِّ عَمَلٍ مَثَلًا إنْ حَصَلَ فُتُورٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَلْيَنْتَقِلْ إلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ سَائِرِ الْأَذْكَارِ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي الْفَضَائِلِ.
وَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ بَلْ الرَّوَاتِبُ سِيَّمَا الْمُؤَكَّدَاتِ لَا يَقْعُدُ عَنْهَا لِلْفُتُورِ بَلْ لِفُتُورٍ بِالْكُلِّيَّةِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَأْخِيرِهِ بِوَقْتٍ يَزُولُ فِيهِ ذَلِكَ الْكَسَلُ مَعَ بَقَاءِ وَقْتِهِ وَيُعْلَمُ مِنْهُ حَالُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ إمَّا بِالْأَوْلَوِيَّةِ يَعْنِي دَلَالَةَ النَّصِّ أَوْ بِالْمُقَايَسَةِ وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا رُوِيَ فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلنَّوَوِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُنَاسِبُهُ مَا رُوِيَ فِي الْمُجْتَبَى وَالْخَانِيَّةِ وَجَامِعِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ تُكْرَهُ لَهُ التَّرَاوِيحُ. انْتَهَى. لَعَلَّ الْمُرَادَ حَالَ غَلَبَةِ النَّوْمِ فَيَدْفَعُ نَوْمَهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَأْتِي التَّرَاوِيحَ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ صَنِيعَ النَّبِيِّ هَذَا مِنْ الْمَنْعِ وَالْحَلِّ وَالتَّعْلِيلِ وَالتَّأْكِيدِ يَقْتَضِي كَوْنَ النَّهْيِ لِلْحُرْمَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اسْتِغْرَاقُ الْأَوْقَاتِ بِالطَّاعَاتِ وَاسْتِيعَابُ الْأَحْوَالِ بِالْعِبَادَاتِ بَلْ إتْعَابُ النَّفْسِ وَقَهْرُهَا بِأَنْوَاعِ الْمُجَاهَدَاتِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمَشَايِخِ السَّادَاتِ حَرَامًا صِرْفًا وَهُوَ شَيْءٌ عَظِيمٌ لَا يَخْفَى وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْبِدَايَةِ لِتَعَسُّرِهِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا لِلْمَشَايِخِ حَالَ النِّهَايَةِ لِعَدَمِ الْإِتْعَابِ لِرَسْخِ الْعِبَادَاتِ وَلِكَوْنِهَا كَالطَّبِيعَاتِ بَعِيدٌ غَايَةَ الْبُعْدِ؛ لِأَنَّ بِدَايَةَ مَنْ تَنَوَّرَ بِأَنْوَارِ النُّبُوَّةِ سِيَّمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ أَعْلَى مِنْ نِهَايَاتِ الْغَيْرِ وَلَوْ سَلِمَ فَأَيْنَ تُتَصَوَّرُ الْحُرْمَةُ الَّتِي تُوجِبُ الْعُقُوبَةَ.
أَقُولُ النَّهْيُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِذَاتِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ مُجَاوِرٍ إلَّا وَصْفًا لَازِمًا فَصَحِيحٌ مَكْرُوهٌ لَا بَاطِلٌ لَعَلَّ وَجْهَ النَّهْيِ هُوَ الْمَشَقَّةُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فَلَا يَقْتَضِي الْحُرْمَةَ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ النَّهْيَ فِي مِثْلِهِ هُوَ الْإِرْشَادُ بِعَدَمِ لُزُومِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّشْرِيعِ فَلَوْ قَرَّرَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ لَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ الْوُجُوبُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ فِي فِعْلِ الرَّسُولِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ كَيْفِيَّتَهُ مِنْ الْإِبَاحَةِ
وَالنَّدْبِ وَتَقْرِيرُهُ كَفِعْلِهِ بَعْدُ فَتَأَمَّلْ (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ» بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَالْأُمُورِ الصَّعْبَةِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ عَلَيْكُمْ مَرْحَمَةً مِنْ الشَّارِعِ كَصَوْمِ الدَّهْرِ وَإِحْيَاءِ كُلِّ اللَّيْلِ كَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَالِكٍ لَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ سَبَقَ إشَارَتُهُ «فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» بِالنَّصْبِ جَوَابُ النَّهْيِ أَيْ يُضَيِّقَ اللَّهُ الْأَمْرَ الَّذِي ارْتَكَبْتُمُوهُ وَالْتَزَمْتُمُوهُ
قِيلَ: لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّوَافِلِ مُلْزِمٌ بِهَا وَمُوجِبٌ لِإِتْمَامِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ التَّقْرِيبِ إذْ الْمَطْلُوبُ لَيْسَ مِمَّا لَزِمَ بِشُرُوعِهِ بَلْ مُطْلَقٌ بَلْ مُخَالِفٌ لَهُ جِنْسًا وَالْأَقْرَبُ مَا يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ التَّشْدِيدَ مُوَصِّلٌ لِلْمَلَالَةِ وَالْكَسَلِ، وَقَدْ ذَمَّهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُكَلَّفَ لَمَّا وَضَعَ عَلَى نَفْسِهِ مَا رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْحَمَةً أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مُجَازَاةً لِعَدَمِ قَبُولِ الْمُكَلَّفِ صَدَقَتَهُ تَعَالَى «، فَإِنَّ قَوْمًا» كَانُوا قَبْلَكُمْ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى هَذَا أَوْلَى مِنْ التَّخْصِيصِ بِقَوْمِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام «شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ» بِالْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ وَالرِّيَاضَاتِ الصَّعْبَةِ مُطْلَقًا، وَالتَّخْصِيصُ بِالتَّفْسِيرِ هُنَا بِبَقَرَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ حِينَ سَأَلُوا عَنْ لَوْنِهَا وَسِنِّهَا وَغَيْرِهِمَا كَمَا تَوَهَّمَ مُنَافٍ لِلسَّوْقِ «فَشَدَّدَ» أَيْ اللَّهُ أَوْ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ «عَلَيْهِمْ» بِإِيجَابِ مَا تَكَلَّفُوا بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ أَتَوْا بَعْدَهُ أَنْقَصَ مِنْهُ لَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ لِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهَلْ هَذَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إطْلَاقِ الْكَلَامِ أَوْ بِالِاسْتِمْرَارِ وَالتَّكْرَارِ وَبِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا «فَتِلْكَ» الطَّائِفَةُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَوْجُودِينَ «بَقَايَاهُمْ» بَقَايَا الْأَوَّلِينَ ( «فِي الصَّوَامِعِ» فِي الْقَامُوسِ صَوْمَعَةٌ كَجَوْهَرَةٍ بَيْتُ النَّصَارَى لَعَلَّهُ هُنَا بِمَعْنَى عُمُومِ الْمَجَازِ الشَّامِلِ لِلْيَهُودِ أَيْضًا إذْ الْمُسْتَفَادُ مِنْ لَفْظِ الدِّيَارِ وَالرَّهْبَانِيَّةِ هُوَ الْعُمُومُ وَالْإِطْلَاقُ «وَالدِّيَارُ» جَمْعُ دَارٍ ( «رَهْبَانِيَّةً» قِيلَ عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ هِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْعِبَادَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ النَّاسِ مَنْسُوبَةً إلَى الرَّهْبَانِ وَهُوَ الْمَبَالِغُ فِي الْخَوْفِ مِنْ رَهِبَ كَالْخَشْيَانِ مِنْ خَشِيَ وَقُرِئَتْ بِالضَّمِّ كَأَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إلَى الرُّهْبَانِ وَهُوَ جَمْعُ رَاهِبٍ كَرَاكِبٍ وَرُكْبَانٍ «ابْتَدَعُوهَا» اخْتَرَعُوهَا وَأَحْدَثُوهَا فِي التَّعْبِيرِ إشَارَةٌ إلَى الذَّمِّ إذْ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُبْتَدَعَ ضَلَالَةٌ نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَهِيَ تُرْهِبُهُمْ فِي الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ وَالْغَيْرَانِ وَالدِّيَرَةِ فَارِّينَ مِنْ الْفِتْنَةِ وَحَمَّلُوا أَنْفُسَهُمْ الْمَشَاقَّ فِي الْعِبَادَةِ الزَّائِدَةِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ وَاسْتِعْمَالِ الْخَشِنِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ بِالتَّقَلُّلِ مِنْ ذَلِكَ «مَا كَتَبْنَاهَا» مَا فَرَضْنَا الرَّهْبَانِيَّةَ «عَلَيْهِمْ» .
فَإِنْ قِيلَ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ كَالتَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْفَرْضِيَّةِ نَفْيُ مُطْلَقِ الطَّاعَةِ فَيَجُوزُ بَقَاؤُهَا عَلَى نَحْوِ الِاسْتِحْبَابِ قُلْنَا هَذَا عَمَلٌ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَالْحَنَفِيَّةُ لَيْسُوا بِقَائِلِي ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ شُرُوطِهِ عِنْدَ مُثْبِتِهِ أَنْ لَا يُرَدَّ لِوَقْعَةٍ وَحَادِثَةٍ خَاصَّةٍ، وَقَدْ كَانَ هَذَا لِلْوَقْعَةِ الْخَاصَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْفَرْضِ غَيْرُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمَشْهُورِ نَحْوُ قَدَّرْنَا كَوْنَهَا طَاعَةً
(خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ هَذَا الدِّينَ» الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ «يُسْرٌ» ضِدُّ الْعُسْرِ بِمَعْنَى السُّهُولَةِ فِيهِ تَلْمِيحٌ إلَى قَوْله تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] وَإِشَارَةٌ إلَى حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» ؛ لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ رُفِعَ فِيهِ التَّكَالِيفُ الشَّاقَّةُ مِنْ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ وَلِهَذَا.
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ النَّقِيَّةِ الْبَيْضَاءِ» ( «وَلَنْ يُشَادَّ» مِنْ التَّشْدِيدِ بِمَعْنَى الْمُغَالَبَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ «الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ» لَفْظُ أَحَدٍ فَاعِلٌ وَالدِّينَ مَفْعُولٌ لِيُشَادَّ ( «فَسَدِّدُوا» أَيْ قَوِّمُوا مِنْ سَدَّدَهُ تَسْدِيدًا قَوَّمَهُ وَقِيلَ مِنْ السَّدَادِ فِي الْأَمْرِ وَهُوَ الصَّوَابُ مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ أَيْ فَوَسِّطُوا فِي الْأُمُورِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ «وَقَارِبُوا» قِيلَ أَيْ إلَى السَّدَادِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ قَارِبُوا إلَى اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِذَلِكَ التَّسْدِيدِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ «وَأَبْشِرُوا» بِالْقَبُولِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِالثَّوَابِ مِنْهُ وَبِالْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِالْإِفْرَاطِ فِي الطَّاعَاتِ «وَاسْتَعِينُوا» عَلَى أَعْمَالِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ ( «بِالْغَدْوَةِ» هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَنْزِلِ بُكْرَةً وَفِي الْقَامُوسِ هِيَ نَفْسُ الْبُكْرَةِ أَوْ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ ( «وَالرَّوْحَةِ» مِنْ الرَّوَاحِ وَهُوَ الْعَشِيُّ أَوْ مِنْ الزَّوَالِ إلَى اللَّيْلِ وَرُحْنَا رَوَاحًا سِرْنَا فِيهِ أَوْ عَمِلْنَا كَذَا فِي الْقَامُوسِ «وَ» اسْتَعِينُوا أَيْضًا ( «بِشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ» بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ السَّيْرُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَقِيلَ السَّيْرُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ.
وَالْمَعْنَى عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْمَصَابِيحِ اعْمَلُوا آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ وَاسْتَرِيحُوا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ لَكِنَّ الْأَقْرَبَ مَا يُقَالُ إنَّهُ تَشْبِيهُ حَالِ مَنْ أَرَادَ سَفَرَ الْآخِرَةِ بِحَالِ مَنْ يُرِيدُ سَفَرَ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ كَمَا يَسْتَعِينُ فِي سَفَرِهِ بِالذَّهَابِ وَقْتَ الْغَدْوَةِ وَالرَّوَاحِ وَآخِرَ اللَّيْلِ كَذَلِكَ يَسْتَعِينُ مَنْ أَرَادَ سَفَرَ الْآخِرَةِ بِالْعِبَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَالِاسْتِرَاحَةِ فِي غَيْرِهَا، فَإِنَّ «الْمُنْبِتَ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» .
وَعَنْ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ يَعْنِي اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ وَقْتَ نَشَاطِكُمْ وَفَرَاغِ قُلُوبِكُمْ بِحَيْثُ تَسْتَلِذُّونَ الْعِبَادَةَ وَلَا تَسْأَمُوا تَبْلُغُوا مَقْصُودَكُمْ (وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ» مِنْ الِاقْتِصَادِ وَالتَّوَسُّطِ نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِفِعْلٍ وَاجِبِ الْحَذْفِ نَحْوُ الْزَمُوا «تَبْلُغُوا» مَجْزُومٌ بِالْأَمْرِ الْمَحْذُوفِ أَوْ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ أَيْ إنْ تَلْزَمُوا الْقَصْدَ تَبْلُغُوا آمَالَكُمْ وَتَصِلُوا إلَى مُرَادَاتِكُمْ أَوْ تَبْلُغُوا رِضَا رَبِّكُمْ وَقَبُولِ أَعْمَالِكُمْ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «عَلَيْكُمْ
بِالْقَصْدِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَمَا جَاوَزَ التَّوَسُّطَ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفَضِيلَةِ وَقَالَ حَكِيمٌ لِلْإِسْكَنْدَرِ أَيُّهَا الْمَلِكُ عَلَيْك بِالِاعْتِدَالِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَيْبٌ وَالنُّقْصَانَ عَجْزٌ.
وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ فِي الدِّينِ أَيْ الْغُلُوَّ فِيهِ وَادِّعَاءَ طَلَبِ أَقْصَى غَايَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَهُ سَهْلًا» الْحَدِيثُ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبْغِضُ الْمُتَعَمِّقِينَ» وَالصَّحَابَةُ أَقَلُّ الْأُمَّةِ تَكَلُّفًا خَيْرُ النَّاسِ النَّمَطُ الْأَوْسَطُ ارْتَفَعُوا عَنْ تَقْصِيرِ الْمُرْتَفِقِينَ وَلَمْ يَلْحَقُوا بِغُلُوِّ الْمُعْتَدِينَ وَقِيلَ كَتَبَ سَلْمَانُ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إنِّي أَنَامُ وَأَقُومُ فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي (زطب حب) الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ عز وجل يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى» عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (رُخَصُهُ) جَمْعُ رُخْصَةٍ هِيَ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ مِنْ صُعُوبَةٍ إلَى سُهُولَةٍ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ سَبَبِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كَصَلَاةِ الْفَرْضِ قَاعِدًا لِلْمَرِيضِ وَفِي التَّلْوِيحِ اسْمٌ لِمَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ وَهُوَ مَا يُسْتَبَاحُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ.
وَعَنْ الْمِيزَانِ اسْمٌ لِمَا يُغَيِّرُ عَنْ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ إلَى تَخْفِيفٍ تَرْفِيهًا وَتَوْسِعَةً عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ وَفِي الْمِرْآةِ الرُّخْصَةُ أَرْبَعٌ ثِنْتَانِ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَثِنْتَانِ مِنْ الْمَجَازِ وَالتَّفْصِيلُ هُنَاكَ وَقِيلَ مَا تُغَيِّرُ مِنْ عُسْرٍ إلَى يُسْرٍ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ رُخْصَةُ الْمُكْرَهِ وَرُخْصَةُ الْمُسَافِرِ وَرُخْصَةُ الْإِسْقَاطِ وَهِيَ مَا وُضِعَ عَنَّا مِنْ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الْكَائِنَةِ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ وَرُخْصَةُ الْمُضْطَرِّ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ كَمَا فِي الْأُصُولِ وَأَسْبَابُ التَّخْفِيفِ سَبْعَةٌ السَّفَرُ وَالْمَرَضُ وَالْإِكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى وَالنَّقْضُ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْأَشْبَاهِ ( «كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» جَمْعُ عَزِيمَةٍ مِنْ عَزَمَ عَلَى الْأَمْرِ أَرَادَ فِعْلَهُ وَقَطَعَ عَلَيْهِ أَوْ جَدَّ فِيهِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَفِي الْأُصُولِ هِيَ مَا شُرِعَ ابْتِدَاءً غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ الرُّخْصَةُ ضِدُّ الْعَزِيمَةِ وَالْعَزِيمَةُ مَطْلُوبَاتُهُ تَعَالَى الْوَاجِبَةُ، فَإِنَّ أَمْرَهُ تَعَالَى فِي الرُّخْصَةِ وَالْعَزِيمَةِ وَاحِدٌ فَلَيْسَ الْوُضُوءُ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ فِي مَحَلِّهِ فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي كَوْنِهِمَا مَطْلُوبَيْنِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا تَقْرِيبَ فِي دَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَقْصُودِ يَعْنِي الِاقْتِصَادَ وَلَعَلَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الرُّخْصَةَ مُطْلَقُ الْخِفَّةِ فِي الْأَعْمَالِ كَالْجَوَازِ الْأَصْلِيِّ وَالْعَزِيمَةُ هِيَ الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ فِي الْأَعْمَالِ كَالِاحْتِيَاطِ وَالْإِتْيَانِ بِالْأَوْلَى، وَإِنْ شِئْت قُلْت الْعَزِيمَةُ طَرِيقُ أَرْبَابِ التَّقْوَى وَالرُّخْصَةُ طَرِيقُ أَرْبَابِ الْفَتْوَى كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ رُخْصَةٌ وَغَسْلِ الرِّجْلِ عَزِيمَةٌ وَالْعَمَلُ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ عَزِيمَةٌ وَالْعَمَلُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ رُخْصَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ تَسَاوِي الْفَضْلِ وَالثَّوَابِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ صَرَّحُوا بِتَفَاوُتِهِمَا قُلْنَا قَدْ قُرِّرَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ أَقْوَى فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ فَالْمُرَادُ مِنْ الْمَحَبَّةِ فِي الْمُشَبَّهِ أَصْلُهَا وَفِي الْمُشَبَّهِ بِهِ زِيَادَتُهَا؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ كُلِّيٌّ مُشَكَّكٌ لَا مُتَوَاطِئٌ وَيَرِدُ أَيْضًا أَنَّ تَمَامَ التَّقْرِيبِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا أُرِيدَ مِنْ الرُّخْصَةِ نَحْوُ مَعْنَى الِاقْتِصَادِ أَيْ التَّوَسُّطِ فِي الْأَعْمَالِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ بَلْ يُوهِمُ كَوْنَ الْعَزِيمَةِ الْإِفْرَاطَ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَسْأَلَةُ كَوْنُ الْإِفْرَاطِ مَذْمُومًا، وَقَدْ صَرَّحَتْ كَوْنَهَا مَحْبُوبَةً لَهُ تَعَالَى بَلْ عَلَى وَجْهِ الْأَبْلَغِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَفَاوُتِ الْمَحَلِّ، فَإِنَّ كَوْنَ الرُّخْصَةِ مَحْبُوبَةً لِلْعَوَامِّ وَكَوْنَ الْعَزِيمَةِ مَحْبُوبَةً لِلْخَوَاصِّ فَلَوْ أَتَى الْعَوَامُّ الْعَزِيمَةَ ابْتِدَاءً لَمْ تَكُنْ مَحْبُوبَةً كَالْعَكْسِ، فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ
فَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى صَلَاحِيَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَخَفَّ الْأَعْمَالِ أَيْ الْقَلِيلَةَ الْحَاصِلَةَ بِلَا تَكَلُّفٍ وَجِدٍّ كَثِيرٍ فِي أَوَانِ الِابْتِدَاءِ كَمَا يُحِبُّ
التَّعَمُّقَ وَالْكَثِيرَ فِي الِانْتِهَاءِ وَالْأَوَّلُ لِلْعَوَامِّ وَالثَّانِي لِلْخَوَاصِّ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَقْرُبُ مَا قَالَ الْمُنَاوِيُّ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَلِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا أَشْبَهَهُ كَانَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ مُشَابَهَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَيَزْجُرُ أَصْحَابَهُ عَنْ التَّبَتُّلِ وَالتَّرَهُّبِ وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْعَمَلُ بِالْأَخَفِّ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ غَيْرَ مَا قَلَّدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ حَاصِلُهُ أَنَّ الضَّرُورَةَ جَائِزَةٌ وَإِلَّا لَا خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْجَوَازَ.
وَعَنْ السُّبْكِيّ فِي الْعَمَلِ بِأَخَفِّ مَذْهَبٍ غَيْرَ مَا قَلَّدَهُ إنْ لِضَرُورَةٍ جَائِزٌ، وَإِنْ لِمُجَرَّدِ التَّرْخِيصِ لَيْسَ بِجَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ، وَإِنْ أَكْثَرَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَكُونَ دَيْدَنَهُ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ أَيْضًا لِمَا ذُكِرَ وَزِيَادَةِ فُحْشِهِ انْتَهَى (حَدّ زطط خز) الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ.
(عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ» تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ «وَتَعَالَى» ارْتَفَعَ عَنْ إدْرَاكِ الْعُقُولِ «يُحِبُّ» الْمَحَبَّةُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ رِضَاهُ الْكَامِلِ «أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ» كَمَا لَا يَرْضَى «أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» بِالرَّفْعِ نَائِبُ الْفَاعِلِ كَبِيرَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ بَلْ كَرَاهَةٌ (وَفِي رِوَايَةِ خز) ابْنُ خُزَيْمَةَ «كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُتْرَكَ مَعْصِيَتُهُ» بَدَلٌ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى إلَى آخِرِهِ
فَإِنْ قُلْت إنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ سِيَّمَا عِنْدَ تَدَاعِي الشَّهْوَةِ مَعَ الْفُرْصَةِ زَائِدٌ فِي الْفَضْلِ مِنْ إتْيَانِ مُطْلَقِ الطَّاعَةِ وَأَيْضًا كَرَاهَتُهُ تَعَالَى الْمَعْصِيَةَ أَقْوَى مِنْ مَحَبَّتِهِ الطَّاعَةَ فَكَيْفَ التَّشْبِيهُ الْمُوجِبُ لِلتَّشَارُكِ بَيْنَهُمَا قُلْت قَدْ سَمِعْت أَقْوَوِيَّةَ وَجْهِ الشَّبَهِ فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ.
(ططك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ط طك بِفَصْلِ الطَّاءِ عَنْ الطَّاءِ وَفُسِّرَ بِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) اسْمُهُ عُوَيْمِرٌ وَقِيلَ هُوَ لَقَبُهُ وَاسْمُهُ عَامِرٌ وَقِيلَ عُمَيْرٌ وَقِيلَ عُمَرُ وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ شَهِدَ بَدْرًا أَوْ لَا مَعَ الِاتِّفَاقِ أَنَّهُ شَهِدَ مَشَاهِدَ كَثِيرَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ.
(وَوَاثِلَةِ بْنِ الْأَسْقَعِ وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ» يَرْضَى «أَنْ تُقْبَلَ رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ الْعَبْدُ مَغْفِرَةَ رَبِّهِ» أَيْ سَتْرَهُ عَلَيْهِ بِعَدَمِ عِقَابِهِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فَيَنْبَغِي اسْتِعْمَالُ الرُّخْصَةِ فِي مَوَاضِعِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ سِيَّمَا لِعَالِمٍ يُقْتَدَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى مَنْدُوبٍ وَلَمْ يَعْمَلْ بِالرُّخْصَةِ أَصَابَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ فَكَيْفَ بِمَنْ أَصَرَّ عَلَى بِدْعَةٍ فَيَنْبَغِي الْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ الشَّرْعِيَّةِ لَعَلَّ مُرَادَهُ الِاسْتِعْمَالُ أَحْيَانًا كَمَا قِيلَ إنَّهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْعَزِيمَةِ أَبَدًا وَإِلَّا فَلَا شَكَّ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْعَزِيمَةِ.
وَأَنَا أَقُولُ إنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ مُؤَوَّلٌ وَمُقَيَّدٌ بِالِاحْتِيَاجِ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ رُخْصَةٌ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْعَزِيمَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَرَدِّ مَنْ لَا يَرَاهُ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ عِنْدَ عَدَمِهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الرُّخْصَةَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ وَحُرْمَةِ الْفِعْلِ فَالسَّابِقُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ وُرُودَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لِمُجَرَّدِ بَيَانِ الْجَوَازِ لِدَفْعِ وَهْمِ الْحُرْمَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ فَالْمَعْنَى يُحِبُّ أَنْ تُقْبَلَ رُخْصَتُهُ يَعْنِي يَرْضَى وَيَتْرُكُ مُؤَاخَذَتَهُ، وَإِنْ قَامَ دَلِيلُ حُرْمَتِهِ بِنَاءً عَلَى عُذْرِ عَبْدِهِ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ الْمَطْلُوبِ هُنَا وَلَوْ أُرِيدَ نَفْيُ الْإِفْرَاطِ الْحَاصِلِ مِنْ عَزِيمَةِ الْعَمَلِ كَإِتْيَانِ أَرْبَعٍ لِلْمُسَافِرِ وَصَوْمِهِ وَقِيَامِ الْمَرِيضِ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِتْعَابِ فَلَوْ سُلِّمَ كَوْنُ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِفْرَاطَ الْمَنْفِيَّ فِي مَطْلُوبِ هَذَا الْمَقَامِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ.
(خ م عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما) وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَكَانَ مُتَعَبِّدًا حَافِظًا مُجْتَهِدًا أَحَدَ الْعَبَادِلَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ لَمَّا مَاتَ الْعَبَادِلَةُ صَارَ الْعِلْمُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ إلَى الْمَوَالِي وَكَانَ يُفْتِي فِي الصَّحَابَةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ «كُنْت يَوْمًا مَعَهُ عليه الصلاة والسلام فِي بَيْتِهِ قَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَنْ مَعَنَا فِي الْبَيْتِ قُلْت مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ جَبْرَائِيلُ قُلْت السَّلَامُ عَلَيْك يَا جَبْرَائِيلُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ إنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْك وَقَالَ حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْفَ مَثَلٍ وَقَالَ لَوْ تَعْلَمُونَ حَقَّ الْعِلْمِ لَسَجَدْتُمْ حَتَّى تَنْقَصِفَ ظُهُورُكُمْ وَلَصَرَخْتُمْ حَتَّى تَنْقَطِعَ أَصْوَاتُكُمْ وَقَالَ: لَأَنْ أَدْمَعَ دَمْعَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عز وجل أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ» . وَسُئِلَ أَبُوهُ عَمْرٌو رضي الله عنه مَا الْغَيُّ فَقَالَ طَاعَةُ الْمُفْسِدِ وَعِصْيَانُ الْمُرْشِدِ وَمَا الْبَلَهُ فَقَالَ عَمَى الْقَلْبِ وَسُرْعَةُ النِّسْيَانِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ مَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةَ مَاءٍ بَاعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَهَنَّمَ شَوْطَ فَرَسٍ. وَعَنْ إسْمَاعِيلَ كُنْت فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَلْقَةٍ فِيهَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ عَمْرٍو فَمَرَّ بِنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو حَتَّى إذَا فَرَغُوا رَفَعَ عَبْدُ اللَّهِ صَوْتَهُ فَقَالَ وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّ أَهْلِ الْأَرْضِ إلَى أَهْلِ السَّمَاءِ هُوَ هَذَا الْمَاشِي مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً مُنْذُ لَيَالِيِ صِفِّينَ وَلَأَنْ يَرْضَى عَنِّي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِي حُمْرُ النَّعَمِ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ بَعْدَ الْغَدِ لَأَعْتَذِرُ فَذَهَبَا وَاسْتَأْذَنَ أَبُو سَعِيدٍ فَدَخَلَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ لِعَبْدِ اللَّهِ فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَذِنَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ مَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي الْأَمْسِ فَقَالَ الْحُسَيْنُ أَمَا عَلِمْت يَا عَبْدَ اللَّهِ أَنِّي أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إلَى أَهْلِ السَّمَاءِ فَمَا حَمَلَك أَنَّ قَاتَلْتَنِي وَأَبِي يَوْمَ صِفِّينَ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي قَالَ أَجَلْ لَكِنْ «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلِّ وَنَمْ وَصُمْ وَأَفْطِرْ وَأَطِعْ أَبَاك عَمْرًا» فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ صِفِّينَ أَقْسَمَ عَلَيَّ أَبِي فَخَرَجْت وَاَللَّهِ مَا كَثَّرْت لَهُمْ سَوَادًا وَلَا سَلَلْت سَيْفًا وَلَا طَعَنْتُ بِرُمْحٍ وَلَا رَمَيْتُ بِسَهْمٍ أَسْلَمَ قَبْلَ أَبِيهِ تُوُفِّيَ بِالشَّامِ وَقِيلَ بِمَكَّةَ وَقِيلَ بِمِصْرَ وَقِيلَ بِفِلَسْطِينَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَأَبُوهُ أَكْبَرُ مِنْهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ.
«أَنَّهُ قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أَيْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ فَحَذَفَ الْفَاعِلَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ نَفْسُ الْفِعْلِ يَعْنِي الْخَبَرَ «أَنِّي أَقُولُ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ» الظَّاهِرُ جَمِيعُ النَّهَارِ لِعَدَمِ الْعَهْدِ وَدَلِيلُ الْجِنْسِ بَلْ السَّوْقِ وَجَوَابُ النَّبِيِّ قَرِينَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَقَالَ أَهْلُ الْبَيَانِ اللَّامُ فِي الْخِطَابِيَّاتِ لِلِاسْتِغْرَاقِ «وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ» أَيْ جَمِيعَ اللَّيَالِي كَمَا عَرَفْت «مَا عِشْتُ» أَيْ مُدَّةَ حَيَاتِي قِيلَ بِاضْطِرَابِ هَذَا الْحَدِيثِ وَدُفِعَ بِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَتَبَّعَ اخْتِلَافَهُ يَظْهَرُ دَوْرُهُ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا نَذْرٌ بِاسْتِغْرَاقِ الْعُمْرِ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ عَلَى طَرِيقِ الْجَزْمِ وَظَاهِرٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْ مَوَانِعَ مُوجِبَةٍ لِلْعَجْزِ عَنْهُ فَكَيْفَ يَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا النَّذْرِ
قُلْت: إنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ بِمَعْنَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَأَنَّ النَّذْرَ مُلْحَقٌ بِالْيَمِينِ وَإِمْكَانُ الْبِرِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ الْمَدْيُونُ وَقْتًا عَلَى الْأَدَاءِ وَلَمْ يَلْقَ رَبَّ الدَّيْنِ بَرَّ وَيُعْذَرُ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ قَالَ فِي التتارخانية لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ لَمْ يَأْتِ مِنْ قِبَلِهِ.
«فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» لِعَبْدِ اللَّهِ «أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ فَقُلْت» يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ «لَهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي» أَيْ أَفْدِيكَ بِهِمَا هَذَا مَثَلٌ يُقَالُ عِنْدَ إظْهَارِ زِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ أَوْ دُعَاءٌ لَعَلَّ حَاصِلَهُ رَاجِعٌ بِطُولِ الْعُمْرِ أَوْ بِالْخَلَاصِ عَنْ جَمِيعِ الْمَضَارِّ «قَدْ قُلْته» أَيْ ذَلِكَ الْخَبَرَ النَّذْرَ الْمَذْكُورَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ» إتْيَانُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ إطَالَةِ الْكَلَامِ مَعَ الْأَحِبَّاءِ لِلِاسْتِلْذَاذِ.
«قَالَ: فَإِنَّكَ» لَعَلَّ الْفَاءَ تَعْلِيلِيَّةٌ يَعْنِي إنْ نَذَرْت بِذَلِكَ، فَإِنَّك «لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ» أَيْ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ لَا الْمُمْكِنَةِ وَلَا تَكْلِيفَ فِي مِثْلِهِ وَلَوْ نَدْبًا إلَّا بِالْمُيَسَّرَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ مِنْ أَقْدَمِهِمْ إسْلَامًا وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا وَأَوْفَرِهِمْ وَرَعًا وَأَقْوَاهُمْ صُحْبَةً فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمُ وَيَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا النَّذْرِ قُلْنَا يَجُوزُ وُرُودُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَكُنْ شُيُوعُ
هَذَا الْحُكْمِ أَوْ يَفْهَمُ مِنْ عُمُومِ النُّصُوصِ جَوَازَ الِاسْتِيعَابِ أَوْ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَهِمَهُ عَلَى بَقَاءِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ شَرِيعَةً لَنَا وَلَمْ يَقِفْ عَلَى دَلِيلِ الْإِنْكَارِ وَالنَّسْخِ وَيَجُوزُ أَنْ يَفْهَمَ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ هَذَا الْإِفْرَاطِ فِي الطَّاعَةِ نَفْيَ التَّكْلِيفِ اللُّزُومِيِّ لَا النَّدْبِيِّ ثُمَّ وَجْهُ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَحْمِلَ الْأَفْعَالَ الشَّاقَّةَ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِعَبْدِ اللَّهِ وَالْمَطْلُوبُ لِلْجَمِيعِ قُلْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» وَأَنَّهُ قَدْ يَنْتَقِلُ مِنْ عُمُومِ الْعِلَّةِ إلَى عُمُومِ الْحُكْمِ وَلَا شَكَّ فِي عُمُومِ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ لِلْجَمِيعِ «فَصُمْ» أَيْ تَارَةً لِحَقِّ مَوْلَاك وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ «وَأَفْطِرْ» تَارَةً لِحَقِّ نَفْسِك وَعِرْفَانِ نِعْمَةِ رَبِّك وَإِرْفَاقِ نَفْسِك؛ لِأَنَّهَا مَطِيَّتُك وَلِتَقْوَى إلَى طَاعَةِ رَبِّك لَا لِهَوَى نَفْسِك وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ صُمْ فِي الْأَيَّامِ الْمَأْثُورَةِ لِفَضْلِهَا كَصَوْمِ دَاوُد وَأَيَّامِ الْبِيضِ كَمَا سَيُشَارُ إلَيْهِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي نَفْيَ صَوْمِ الدَّهْرِ.
وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ رَجَّحَهُ عَلَى صَوْمِ دَاوُد لَكِنْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «كَانَ يَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا يَصُومُ» وَمِثْلُهُ خَبَرُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «وَنَمْ» لِاسْتِرَاحَةِ نَفْسِك؛ لَأَنْ تَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّك «وَقُمْ» لِلتَّهَجُّدِ وَلِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] الْآيَةُ وَيُحْتَمَلُ نَمْ يَعْنِي كُلَّ بَعْضِ اللَّيَالِيِ وَقُمْ أَيْضًا بَعْضَ اللَّيَالِيِ لَا كُلَّ جَمِيعِ اللَّيَالِيِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ إقَامَةَ كُلِّ اللَّيْلَةِ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ وَالْمَدَارُ عِنْدَنَا هُوَ التَّيْسِيرُ وَالنَّشَاطُ؛ لِأَنَّ أَمْرَنَا عَلَى التَّوَسُّطِ وَالِاقْتِصَادِ وَالرِّفْقِ وَالْمُطَاقِ.
«وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ» أَيْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الظَّاهِرُ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ لَا لِلْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَتُهُ «ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» رُوِيَ عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ هِيَ أَيَّامُ الْبِيضِ.
وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَوَّلُ الشَّهْرِ وَأَوْسَطُهُ وَآخِرُهُ وَيُقَالُ أَبْهَمَ الثَّلَاثَةَ لِكِفَايَةِ أَيِّ ثَلَاثَةٍ كَانَتْ وَقِيلَ مِنْ أَوَّلِهِ وَقِيلَ مِنْ آخِرِهِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا» فَالثَّلَاثَةُ مُعَادِلَةٌ لِلشَّهْرِ «وَذَلِكَ» الثَّلَاثَةُ «مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» يَشْكُلُ إنْ أُرِيدَ تَضْعِيفَ الثَّلَاثَةِ مَعَ تَضْعِيفِ الدَّهْرِ فَالْمُمَاثَلَةُ مُنْتَفِيَةٌ إذْ كُلُّ يَوْمٍ دَهْرٌ فَحَسَنَتُهُ أَيْضًا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ هَذَا التَّضْعِيفَ مُخْتَصٌّ بِهَذَا النَّصِّ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الدَّهْرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يُخَصَّصُ عُمُومُ نَصِّ الْقُرْآنِ وَدَعْوَى أَنَّ صِيَامَ الدَّهْرِ لَا يَكُونُ حَسَنَةً لِمِثْلِ هَذَا النَّهْيِ وَلَوْ كَانَ حَسَنَةً لَا يَكُونُ ثَوَابُهَا مُضَاعَفًا بِالْعَشَرَةِ صَعُبَ سِيَّمَا بِمُلَاحَظَةِ مَا سَمِعْت مِنْ الْفُقَهَاءِ فَلْيُتَأَمَّلْ.
«قُلْت» يَعْنِي «عَبْدَ اللَّهِ» الْمَذْكُورَ «، فَإِنِّي أُطِيقُ» مِنْ الطَّاقَةِ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ «أَفْضَلُ» أَيْ أَكْثَرُ أَوْ مَا يَزِيدُ فَضْلُهُ «مِنْ ذَلِكَ قَالَ» لَهُ «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ» وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «صُمْ يَوْمَيْنِ وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ» «قُلْت» يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ: «فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا» وَهُوَ صَوْمُ دَاوُد الْمُشَارُ إلَيْهِ بِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمُ أَخِي دَاوُد كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا»
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ الدَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ وَمَأْمُونٌ مِنْ تَفْوِيتِ بَعْضِ الْحُقُوقِ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ بَعْدَ تَحْدِيدِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَظِيفَتَهُ لَيْسَ إلَّا مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ قُلْت لَعَلَّهُ فَهِمَ الْإِذْنَ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالِاسْتِطَاعَةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يُوهِمُ تَكْذِيبَ النَّبِيِّ فِي قَوْلِهِ لَا تَسْتَطِيعُ وَرَدَّهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ بَلْ حِكَايَةِ حَالِهِ وَأَنَّ جَرَيَانَ التَّكْذِيبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ «فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُد عليه الصلاة والسلام» وَعَلَى نَبِيِّنَا قِيلَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «، فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ» .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ إنَّمَا أَحَالَهُ عَلَى صَوْمِ دَاوُد وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ أَعْبَدَ النَّاسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ - {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17]- أَيْ صَاحِبُ قُوَّةٍ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْأَوَّابُ الرَّجَّاعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ فِي تَأْثِيرِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الِاعْتِيَادِ تَعَبٌ، وَخَيْرُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا وَلِأَنَّ الِاعْتِيَادَ عَلَى الدَّوَاءِ يُبْطِلُ أَثَرَهُ، وَإِذَا مَرِضَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَلِأَنَّ
الْعَبْدَ فِيهِ بَيْنَ صَبْرِ يَوْمٍ وَشُكْرِ يَوْمٍ.
وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُرِضَتْ عَلَيَّ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَكُنُوزِ الْأَرْضِ فَرَدَدْتُهَا فَقُلْتُ أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا أَحْمَدُكَ إذَا شَبِعْتُ وَأَتَضَرَّعُ إلَيْك إذَا جُعْتُ» «وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ» ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَسِّطٌ بِلَا إفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ وَلِأَنَّهُ عَدَالَةٌ لَيْسَ فِيهِ جَوْرٌ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى الطَّاعَةِ وَلِأَنَّ فِيهِ حِفْظَ قُوَّةِ الْبَدَنِ وَمَشَقَّةَ الطَّاعَةِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ «أَفْضَلُ الصِّيَامِ» اُسْتُشْكِلَ بِنَحْوِ حَدِيثِ «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ» وَحَدِيثُ «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَعْبَانُ» لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَفْضِيلَ صَوْمِ دَاوُد بِاعْتِبَارِ الطَّرِيقَةِ وَالْحَدِيثُ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ فَطَرِيقَةُ دَاوُد فِي الْمُحَرَّمِ أَفْضَلُ مِنْ طَرِيقَتِهِ فِي غَيْرِهِ كَذَا وَفَّقَ جَمْعٌ وَضُعِّفَ وَوُفِّقَ الْحَدِيثَانِ بِأَنَّ حَدِيثَ شَعْبَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ فَضْلَ الْمُحَرَّمِ أَوْ أَنَّ الْمُحَرَّمَ أَفْضَلُ اسْتِقْلَالًا وَشَعْبَانُ أَفْضَلُ تَبَعًا لِرَمَضَان ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَفْضَلُ الْأَشْهُرِ نَفْلًا الْمُحَرَّمُ ثُمَّ رَجَبٌ ثُمَّ بَقِيَّةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ثُمَّ شَعْبَانُ وَلَا يُعَارِضُهُ «إكْثَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَوْمَهُ دُونَ شَهْرٍ» ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَلِمَهُ آخِرًا وَلَعَلَّهُ لِعَارِضٍ انْتَهَى «قُلْت» أَيْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» لِاعْتِمَادِهِ عَلَى قُوَّةِ نَفْسِهِ رَغْبَةً لِلطَّاعَاتِ وَحِرْصًا عَلَيْهَا «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» ، فَإِنْ قِيلَ عَلَى رِوَايَةِ " أَفْضَلُ الصِّيَامِ " مُطَابَقَةً وَعَلَى رِوَايَةِ " أَعْدَلُ الصِّيَامِ " الْتِزَامًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْتَهَى فِي الْفَضْلِ وَلَا فَرْدَ مِنْ الصَّوْمِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ إذْ الْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لِلِاسْتِغْرَاقِ.
وَكَذَا أَفْضَلُ الَّذِي بِمَعْنَى الْفَرْدِ السَّابِقِ وَعَبْدُ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فَكَيْفَ يُعِيدُ هَذَا الْكَلَامَ قُلْنَا لِحِرْصِهِ عَلَى الطَّاعَةِ يُحْمَلُ الِاسْتِغْرَاقُ عَلَى نَحْوِ الِادِّعَائِيِّ وَالْإِضَافِيِّ كَمَا هُوَ حَالُ الْخَطَّابِيِّ أَوْ لَعَلَّهُ يُفْهَمُ مِنْ نَصٍّ آخَرَ أَفْضَلِيَّةُ الزِّيَادَةِ وَصَوْمُ الدَّهْرِ وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى فَضْلِ السَّرْدِ وَحَمَلُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِعَبْدِ اللَّهِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ وَأُيِّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَنْهَ حَمْزَةُ عَنْ السَّرْدِ (وَزَادَ فِي رِوَايَةِ «فَإِنَّ لِجَسَدِك عَلَيْك حَقًّا» فَيَلْزَمُ عَلَيْك إعْطَاؤُهُ مِنْ تَقْوِيَتِهِ وَتَنْمِيَتِهِ فَتَقُومُ بِأَعْمَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
«، وَإِنَّ لِزَوْجِك» أَيْ زَوْجَتِك، وَقَدْ سَمِعْت إطْلَاقَ لَفْظِ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ قَالَ فِي الصِّحَاحِ زَوْجُ الرَّجُلِ امْرَأَتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] «عَلَيْك حَقًّا» بِالْوَطْءِ لِتُحْصِنَهَا عَنْ الزِّنَا وَلَأَنْ تَقُومَ فِي نَحْوِ نَفَقَتِهَا وَلِرَجَاءِ وَلَدٍ صَالِحٍ هُوَ نَتِيجَةُ التَّزَوُّجِ وَفَائِدَتُهُ ( «، وَإِنَّ لِزَوْرِك» بِفَتْحٍ وَسُكُونٍ جَمْعُ زَائِرٍ كَرَكْبٍ وَرَاكِبٍ قَالَ فِي الْقَامُوسِ الزَّوْرُ الزَّائِرُ وَالزَّائِرُونَ يُشِيرُ إلَى اسْتِوَاءِ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ.
«عَلَيْك حَقًّا» بِالْخِدْمَةِ وَالْإِكْرَامِ وَالتَّأْنِيسِ بِالضِّيَافَةِ وَالْأَكْلِ مَعَهُ، فَإِنْ قِيلَ يُمْكِنُ لِعَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ هُنَا إنِّي أُؤَدِّي هَذِهِ الْحُقُوقَ وَأَفْعَلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قُلْنَا الْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا شُرِعَ حُكْمٌ بِعِلَّةٍ فَلَا يَنْتَفِي ذَلِكَ الْحُكْمُ بِانْتِفَاءِ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَأَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تُشْرَعُ لِجِنْسِ الْحُكْمِ لَا لِشَخْصِهِ كَرُخْصَةِ السَّفَرِ لَا تَزُولُ بِزَوَالِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «أَلَمْ أُخْبَرْ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «أَنَّك تَصُومُ الدَّهْرَ» إلَّا الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّةَ «وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ» قِيلَ كُلُّهُ فَفِيهِ نَظَرٌ «كُلَّ لَيْلَةٍ» بِلَا نَوْمٍ أَصْلًا الظَّاهِرُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَيْسَ
كُلُّهَا فِي الصَّلَاةِ كَمَا حُمِلَ «فَقُلْت بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ» هَذَا الْخَبَرُ خَبَرٌ آخَرُ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا فَفِيمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ الْوَاقِعِ هُوَ النَّذْرُ لَا الْفِعْلُ وَأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ الْقِيَامُ لَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَهُنَا فِعْلُ الصَّوْمِ وَالْقِرَاءَةِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ مَا يُقَرِّبُ إلَى الشَّيْءِ سِيَّمَا بِتَدَاعِي أَسْبَابِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ وُقُوعِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَإِنَّ قِيَامَهُ كَأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقِرَاءَةِ.
«وَأَنِّي لَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ» أَيْ بِكُلٍّ مِنْ صَوْمِ الدَّهْرِ وَقِيَامِ كُلِّ اللَّيْلِ «إلَّا خَيْرًا» تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِتْيَانِ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَاسْتِغْرَاقِ عُمْرِي فِي ذَلِكَ لَا شَيْئًا مِمَّا لَا يُحْمَدُ شَرْعًا كَالرِّيَاءِ وَجَلْبِ الدُّنْيَا وَمَدْحِ الْخَلْقِ «وَفِيهَا» أَيْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ «قَالَ» لِعَبْدِ اللَّهِ «وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ» أَيْ الْخَتْمَ «فِي كُلِّ شَهْرٍ» نُقِلَ عَنْ الْقُنْيَةِ فِي حَقِّ الْخَتْمِ أَقْوَالٌ وَالْأَحْسَنُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً.
«قَالَ» عَبْدُ اللَّهِ «قُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَنَا أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ» أَيْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا «لَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» فَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ إلَى طَرَفَيْهِ فَلَا يَنْقُصُ مِنْ الشُّهُورِ وَلَا يُزَادُ عَلَى السَّبْعِ وَيَخْتِمُ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَرَاتِبِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَنَشَاطِهِ وَيُؤَيِّدُهُ زِيَادَةُ قَوْلِهِ «اقْرَأْ فِي كُلِّ عِشْرِينَ» .
وَفِي أُخْرَى «اقْرَأْ فِي كُلِّ عَشْرَةٍ» فَهَذَا النَّهْيُ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ لِكَوْنِ الْقُبْحِ مِنْ الْغَيْرِ كَمَا عَلَيْهِ كَثِيرُونَ وَقَالَ بَعْضٌ هَذَا النَّهْيِ لِلرِّفْقِ وَخَوْفِ الِانْقِطَاعِ فَاخْتَارَ بَعْضٌ فِي الْخَتْمِ خَمْسًا وَآخَرُ سِتًّا وَآخَرُ يَخْتِمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ وَفِي الْإِتْقَانِ أَكْثَرُ مَا وَرَدَ الْخَتْمُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَمَانِ مَرَّاتٍ أَرْبَعٌ فِي اللَّيْلِ وَأَرْبَعٌ فِي النَّهَارِ ثُمَّ الْخَتْمُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعًا ثُمَّ ثَلَاثًا ثُمَّ خَتْمَتَيْنِ ثُمَّ خَتْمَةً وَحَسُنَ بَعْضُ الْخَتْمِ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ وَكُرِهَ فِي الْأَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ لِحَدِيثٍ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد «لَا تَقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ لَا دَلَالَةَ عَلَى الْحُرْمَةِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ حَزْمٍ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْفَهْمِ تَحْرِيمُ الْقِرَاءَةِ أَقُولُ لَوْ جُعِلَ الْحَدِيثُ الثَّانِي مُفَسِّرًا وَبَيَانًا لَهُ يَصْلُحُ لَأَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلْكَرَاهَةِ، وَإِنْ لَمْ تُمْكِنْ حُجِّيَّتُهُ لِلْحُرْمَةِ إمَّا لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ أَوْ لِكَوْنِ قُبْحِهِ لِمَعْنًى فِي الْغَيْرِ وَمُجَاوِرٌ وَلَا وَصْفٌ لَازِمٌ، فَإِنْ قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّ مَا كَثُرَ مِنْ الْخَيْرِ فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِحَدِيثِ «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» قُلْنَا قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِ الْحِصْنِ الْحَصِينِ فِي حَدِيثٍ مُتَعَلِّقٍ بِفَضْلِ الذِّكْرِ عَنْ الشَّيْخِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَدْرِ التَّعَبِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ بَلْ يُؤْجِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَمَلٍ قَلِيلٍ مَا يُؤْجِرُ عَلَى كَثِيرٍ، فَإِنَّ الثَّوَابَ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَفَاوُتِ الرُّتْبَةِ فِي الشَّرَفِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ مِنْ الشَّارِعِ انْتَهَى.
ثُمَّ أَقُولُ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُظَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَقْوِيَائِهِمْ هُوَ السَّبْعُ وَبَعْضُهُمْ فِي شَهْرٍ وَبَعْضُهُمْ فِي شَهْرَيْنِ.
وَعَنْ بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْقُصَ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يُؤَدِّي بِذَلِكَ حَقَّ الْقُرْآنِ وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ التَّأْخِيرَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ بِلَا عُذْرٍ
وَعَنْ أَذْكَارِ النَّوَوِيِّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ عَلَى تَحْصِيلِ رِعَايَةِ آدَابِ الْقِرَاءَةِ مِنْ فَهْمِ الْمَعْنَى وَتَأَمُّلِ الْحَقَائِقِ وَاعْتِبَارِ الدَّقَائِقِ وَكَذَا عَلَى قَدْرِ الِاشْتِغَالِ بِنَحْوِ نَشْرِ الْعِلْمِ وَفَصْلِ الْحُكُومَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَبِالْجُمْلَةِ اخْتِيَارُ الْبَعْضِ السَّبْعَ لِكَوْنِهِ أَوْسَطَ الرِّوَايَاتِ.
«قَالَ» أَيْ عَبْدُ اللَّهِ «فَشَدَّدْت» بِالتَّشْدِيدِ فُسِّرَ بِضَيَّقْتُ عَلَى نَفْسِي «فَشَدَّدَ» أَيْ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام «عَلَيَّ وَ» قَدْ كَانَ «قَالَ لِي» قِيلَ اللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّك لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرُك» قِيلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْغَيْبِ بِطَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ قِيلَ يَعْنِي فَتَعْجِزَ عَنْ الْكَثْرَةِ هَذِهِ فَيَنْقُصُ رَجَاؤُك لِنُقْصَانِ عَمَلِك فَيَنْقُصُ قَدْرُك عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ تَصِيرُ الْأَعْمَالُ الْكَثِيرَةُ عَادَةً فَلَا تُثَابُ كَثِيرًا لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ وَالْإِتْعَابِ.
«قَالَ» عَبْدُ اللَّهِ «فَصِرْت إلَى» السِّنِّ «الَّذِي قَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا كَبِرْتُ
وَدِدْت» أَحْبَبْتُ «أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» الظَّاهِرُ مِنْ الرُّخْصَةِ هُوَ صَوْمُ دَاوُد وَالْخَتْمُ فِي سَبْعٍ بِقَرِينَةِ عَدَمِ قَنَاعَتِهِ بِالْمَرَاتِبِ الْأُوَلِ فَيَضْعُفُ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ وَالْخَتْمِ فِي الشَّهْرِ بِقَرِينَةِ الْخِفَّةِ، فَإِنَّهُمَا أَخَفُّ الْكُلِّ، فَإِنْ قِيلَ تَشْرِيعُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَيْسَ إلَّا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَتَعْيِينُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ بِلَا تَوَقُّفٍ إلَى الْوَحْيِ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ قُلْنَا قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ تَفْوِيضَهُ تَعَالَى بَعْضَ الْأَحْكَامِ إلَى رَأْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَائِزٌ عِنْدَ الْبَعْضِ وَيَجُوزُ فَهْمُهُ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ الْغَيْرُ وَيَجُوزُ بِإِلْهَامٍ وَوَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ كَإِخْبَارِ جَبْرَائِيلَ قَبْلُ أَوْ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا السِّيَاقِ يُشْعِرُ بِلُزُومِ عِبَادَةٍ نَافِلَةٍ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهٍ لَوْ تَرَكَهَا يَكُونُ مُعَاقَبًا.
وَالظَّاهِرُ عَدَمُهُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ تَرْكُ عِبَادَةٍ دَامَ عَلَيْهَا فِي صِغَرِهِ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّهِ وَعِنْدَ ظُهُورِ الْمَوَانِعِ هَذَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ «وَدِدْت» بِمَعْنَى تَمَنَّيْتُ إذْ كَمَا يَكُونُ الْوُدُّ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّمَنِّي كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَأْتِي بِآخِرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ صَوْمِ دَاوُد وَالْخَتْمِ فِي السَّبْعِ وَعِنْدَ كِبَرِ السِّنِّ وَضَعْفِ الْقُوَى تَمَنَّى أَوَّلَ مَا رَخَّصَهُ لَهُ مِنْ نَحْوِ صَوْمِ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مَثَلًا وَمَا قِيلَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَفْضَلَ مِنْ صِيَامِ الدَّهْرِ وَقِيَامِ كُلِّ اللَّيْلِ فَمُخَالِفٌ «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» ؛ لِأَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ صَحَابِيٍّ مُخَالَفَةُ النَّبِيِّ وَكَيْفَ يُطْلِقُ عَلَيْهِ الْأَفْضَلِيَّةَ وَأَنَّهُ رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ نَصٍّ، وَقَدْ قَالَ «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» .
(وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «لَا صَامَ» صَوْمًا يُوجِبُ كَثْرَةَ ثَوَابٍ كَمَا يَظُنُّهُ الْآتِي فَالتَّفْسِيرُ بِأَنَّهُ لَا ثَوَابَ لِفِعْلِهِ أَيْ صِيَامِهِ أَصْلًا كَالتَّعْلِيلِ بِالْكَرَاهَةِ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ إذْ مَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ سِوَى الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ مُثَابٌ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَضْلًا عَنْ الْمَشَايِخِ تَرْجِيحُ صَوْمِ الدَّهْرِ عَلَى صَوْمِ دَاوُد «مَنْ صَامَ الْأَبَدَ» أَيْ غَيْرَ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ فَهَذَا كَعَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ وَالْمُخَصِّصُ هُوَ الشَّرْعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ لَمْ يُفِدْ هَذَا الْحُكْمُ شَيْئًا مُعْتَدًّا إذْ لَا يُرِيدُ عَبْدُ اللَّهِ شُمُولَ صَوْمِهِ لِتِلْكَ الْأَيَّامِ وَلَمْ يَكُنْ مُقَابِلًا لِغَرَضِ عَبْدِ اللَّهِ بَلْ يَكُونُ مُوَافِقًا مَعَهُ فَظَهَرَ بُطْلَانُ جَعْلِ الْمَذَمَّةِ مِنْ شُمُولِ الصَّوْمِ لِلْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ.
وَأَيْضًا هُوَ إخْرَاجُ الْكَلَامِ مِنْ ذَوْقِ السَّوْقِ لَقَدْ أَصَابَ مَنْ قَالَ هَذَا بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْخَلْقِ لِلْإِشْفَاقِ وَلِلتَّقَوِّي عَلَى الْجِهَادِ وَالطَّاعَةِ وَإِلَّا فَمَنْ لَا يَلْحَقُهُ ضَعْفٌ وَفُتُورٌ وَلَا يُؤَدِّي إلَى فَوْتِ حَقٍّ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعٌ أَقُولُ بَلْ لَهُ فَضْلٌ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ اكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ وَلِشُمُولِ نَحْوِ حَدِيثٍ وَأَنَّ أَمْرِي «ثَلَاثًا» كَرَّرَ هَذَا الْقَوْلَ ثَلَاثًا تَأْكِيدًا وَرَغْمًا لِلْمُخَالِفِ وَجْهُ التَّأْكِيدِ دَفْعُ تَوَهُّمٍ نَاشِئٍ مِنْ كَثْرَةِ الثَّوَابِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْعَمَلِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ حِينَ سُئِلَ عَنْ صِيَامِ الْأَبَدِ» يَعْنِي لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ بِالِاعْتِيَادِ لَيْسَ لَهُ صَوْمٌ وَلِوُجُودِ صُورَةِ الصَّوْمِ لَيْسَ لَهُ إفْطَارٌ.
وَنُقِلَ عَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ وَيُكْرَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ يُضْعِفُهُ أَوْ يَصِيرُ طَبْعًا لَهُ وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ ثُمَّ أَقُولُ قَدْ عَرَفْت أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَإِلَّا فَعَنْ الصَّحِيحَيْنِ قَالَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو «وَأَنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ شِئْتَ فَصُمْ» فَقَرَّرَهُ خُصُوصًا فِي السَّفَرِ فَحَمْزَةُ وَأَيْضًا أَبُو طَلْحَةَ وَعَائِشَةُ وَخَلَائِقُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَرَدُوا الصَّوْمَ فَيَلْزَمُ تَأْوِيلُ مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ إمَّا بِفَوْتِ حَقٍّ أَوْ إيجَابِ ضَرَرٍ أَوْ لِشُمُولِ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ إنْ أَمْكَنَ.
قَالَ فِي شَرْحِ الشَّرْعِيَّةِ كَانَ يَصُومُهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ) عَنْهُ «وَكَانَ» عَبْدُ اللَّهِ «يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ» أَيْ زَوْجَتِهِ أَوْ أَوْلَادِهِ «السُّبْعَ» بِضَمٍّ فَسُكُونٍ «مِنْ الْقُرْآنِ» وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْهُ «بِالنَّهَارِ» يُكَرِّرُهُ عَلَيْهِ لِيَحْفَظَهُ «وَاَلَّذِي يَقْرَأُهُ» مِنْ السُّبْعِ
الْمَذْكُورِ «يَعْرِضُهُ مِنْ اللَّيْلِ» فُسِّرَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ «لِيَكُونَ» الْمَقْرُوءُ «أَخَفَّ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ» ؛ لِأَنَّهُ تَكَرَّرَ فِي النَّهَارِ لِتَسْهُلَ الْقِرَاءَةُ فِي لَيْلَةٍ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الصَّلَاةِ إنَّمَا هِيَ بِظَهْرِ الْقَلْبِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ السَّابِقِ «فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ» «، وَإِذَا أَرَادَ» عَبْدُ اللَّهِ «أَنْ يَتَقَوَّى» عِنْدَ ضَعْفِهِ بِكَثْرَةِ الصِّيَامِ «أَفْطَرَ أَيَّامًا» لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ امْتِثَالًا بِالْأَمْرِ السَّابِقِ «وَأَحْصَى» ضَبَطَ وَعَدَّدَ مِقْدَارَ إفْطَارِهِ مِنْ الْأَيَّامِ «وَصَامَ مِثْلَهُنَّ» لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا حُدِّدَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَرَاتِبِ بَلْ اللَّائِقُ لَهُ الْتِزَامُ مَا عَيَّنَهُ آخِرًا مِنْ صِيَامِ دَاوُد إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ أَيَّامًا وَمِنْ قَوْلِهِ مِثْلُهُنَّ صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيلِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ مُرَادُهُ وَإِلَّا فَلَا يَتِمُّ أَيْضًا قَوْلُهُ «كَرَاهَةَ» إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَرِهَ «أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا» مِنْ الْحَسَنَةِ الَّتِي «فَارَقَ عَلَيْهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» يَعْنِي عَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام (وَفِي أُخْرَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ» لِعَبْدِ اللَّهِ «إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ» فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَرِفْعَةِ الدَّرَجَةِ «صِيَامُ دَاوُد عليه الصلاة والسلام وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ» النَّافِلَةِ «صَلَاةُ دَاوُد عليه الصلاة والسلام» بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ «كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ» مُطْلَقًا بِلَا تَعْيِينِ شَرْطٍ مِنْهُ «وَيَقُومُ ثُلُثَهُ» مِنْ بَعْدِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَوْ قَبْلَهُ «وَيَنَامُ سُدُسَهُ» بَقِيَّةَ النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ أَوَّلِهِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ نَوْمِهِ الثُّلُثَيْنِ وَقِيَامُهُ الثُّلُثُ وَيُحْتَمَلُ تَقْدِيمَ الْقِيَامِ أَوْ تَأْخِيرَهُ أَوْ تَارَةً وَتَارَةً فَأَعْطَى حَقَّ الْجَسَدِ وَحَقَّ الْعِبَادَةِ بِحَيْثُ لَا فُتُورَ وَلَا مَلَلَ فِي نَفْسِ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ هَذَا الْإِطْلَاقُ مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ فَالتَّقْيِيدُ بِلَا قَرِينَةٍ وَلَا دَلِيلٍ خِلَافُ الْأَصْلِ. لَكِنْ فِي الْإِحْيَاءِ وَقَعَ تَقْيِيدُ هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي قِيَامِ دَاوُد
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَنَامُ النِّصْفَ الْأَوَّلَ وَالسُّدُسَ الْأَخِيرَ وَيَقُومُ الثُّلُثَ مِنْ النِّصْفِ الْأَخِيرِ إذْ نَوْمُ آخِرِ اللَّيْلِ مُسْتَحَبٌّ لِإِذْهَابِ النُّعَاسِ وَصُفْرَةِ الْوَجْهِ وَمَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا وَأَنَّ نَوْمَ هَذَا الْوَقْتِ سَبَبُ الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ مِنْ وَرَاءِ حُجُبِ الْغَيْبِ لِأَرْبَابِ الْقُلُوبِ وَفِيهِ تَقَوِّي لِأَوْرَادِ أَوَّلِ النَّهَارِ لَعَلَّ ذَلِكَ التَّعْيِينَ مَضْمُونُ أَثَرٍ آخَرَ وَصَلَ إلَيْهِ وَإِلَّا فَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ وَنَسْخٌ لَيْسَ بِجَائِزٍ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا حِكَايَةً عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ لِإِحْيَاءِ كُلِّ اللَّيْلِ لِتَجَرُّدِهِمْ لِلْعِبَادَةِ وَتَلَذُّذِهِمْ بِالْمُنَاجَاةِ إلَى أَنْ صَارَتْ غِذَاءً لَهُمْ وَحَيَاةً وَهُوَ دَأْبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ وَصَلَّى الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَمَا حَكَى أَبُو يُوسُفَ كَمَا فُهِمَ مِنْ الْأَشْبَاهِ وَصَرَّحَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَاَلَّذِي سَبَقَ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ هَذَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ يَقْتَضِي كَوْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ وَأَوْرَعِهِمْ مُؤَخَّرًا عَنْ الْغَيْرِ فِي ذَلِكَ الْمَيْدَانِ كَمَا أُشِيرَ فَالْوَجْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لِأَجْلِ تَعْلِيمِ الشَّرَائِعِ وَدَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَنْ الْكُلِّ فَالصَّنَائِعُ إنَّمَا هِيَ لِلْإِرْشَادِ لَا لِلْإِيجَابِ وَلَا الْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ «وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا» حَاصِلُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ حَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى إتْيَانِ دَوَامِ الصِّيَامِ وَإِتْمَامِ اللَّيَالِي
بِالْقِيَامِ فَمَنَعَهُ عليه الصلاة والسلام وَرَخَّصَ لَهُ وَعَمِلَ بِرُخْصَتِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحِنْثَ إنَّمَا يَلِيقُ عِنْدَ كَوْنِ الْيَمِينِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ كَعَدَمِ التَّكَلُّمِ مَعَ الْأَبِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا.
وَلَا شَكَّ أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ وَإِتْمَامَ قِيَامِ اللَّيْلِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ قُلْنَا لَعَلَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِالْمَعْصِيَةِ بَلْ يَجْرِي بَيْنَ الْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ وَتَمْثِيلُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ وَيُشْعِرُهُ لَفْظُ خَيْرًا مِنْهَا فِي الْحَدِيثِ وَيُؤَيِّدُهُ تَفْسِيرُ الْمُنَاوِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ بِقَوْلِهِ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَفْضَلُ إلَى آخِرِهِ فَالْكَلَامُ مَعَ الْأَفْضَلِيَّةِ هَيِّنٌ بِمُلَاحَظَةِ مَا سَبَقَ
بَقِيَ أَنَّ ظَوَاهِرَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ إنَّمَا يَنْفِي جَانِبَ الْإِفْرَاطِ وَالْمَطْلُوبِ أَيْ الِاقْتِصَادُ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِنَفْيِ جَانِبِ التَّفْرِيطِ أَيْضًا فَلَا تَقْرِيبَ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ نَفْيَ التَّفْرِيطِ مَعْلُومٌ مِنْ عَامَّةِ كُتُبِ الشَّرْعِ وَأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ فِي نَفْسِ هَذَا الْجَانِبِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى بَيَانِهِ فَمَا يَلْتَزِمُ إثْبَاتُهُ هُوَ جَانِبُ نَفْيِ الْإِفْرَاطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ) أَيْ هَذِهِ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ الْوَارِدَةُ فِي حَقِّ الِاقْتِصَادِ لَعَلَّ هَذَا إمَّا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ أَوْ مُرَاعَاةٌ لِمَرْتَبَةِ الْخَوَاصِّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِمَرْتَبَةِ الْعَوَامّ بِتَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ أَوْ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٌ بِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْأَدِلَّةِ وَظَائِفُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَوَظِيفَتُهُ لَيْسَ إلَّا أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِ وَمِنْهُ يُعْلَمُ تَقْدِيمُ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّهَا كَالْمُقَدِّمَاتِ وَالْمَبَادِئِ لِأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ الَّتِي هِيَ كَالنَّتَائِجِ.
(قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ) شَرْحِ الْمُخْتَارِ لِمُصَنِّفِهِ (لَا تَجُوزُ الرِّيَاضَةُ بِتَقْلِيلِ الْأَكْلِ حَتَّى يَضْعُفَ عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ) ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ إلَى مَنْفَعَةٍ قَلِيلَةٍ مُؤَدِّيَةٍ إلَى مَضَرَّةٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ الرِّيَاضَةَ أَيْ تَعْلِيمَ النَّفْسِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ غَايَتُهَا دَرْكُ فَضِيلَةٍ مَنْدُوبَةٍ فَلَوْ بُولِغَتْ إلَى أَنْ تَضْعُفَ الْقُوَى وَيَطْرَأَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى قِيَامِ الصَّلَاةِ مَثَلًا لَأَدَّتْ إلَى تَعْطِيلِ ذَلِكَ الْفَرْضِ، وَأَمَّا تَجْوِيعُ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْجِزُ وَلَا يُضْعِفُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ فَأَمْرٌ اسْتِحْبَابِيٌّ يَقْوَى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ.
«قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» «لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَا مُعَاذُ» «إنَّ نَفْسَك» اُخْتُلِفَ فِي حَقِيقَةِ النَّفْسِ اخْتِلَافًا عَظِيمًا لَكِنْ لَعَلَّ الْمُرَادَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ هَذَا الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ بِشَرْطِ حُلُولِ الرُّوحِ بِهِ وَهِيَ الَّتِي يُعَبِّرُ كُلُّ أَحَدٍ عَنْهَا بِقَوْلِهِ أَنَا وَهِيَ الْمُكَلَّفَةُ بِالتَّكْلِيفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ «مَطِيَّتُك» الْمَطِيَّةُ دَابَّةٌ تَمْطُو أَيْ تُسْرِعُ فِي سَيْرِهَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْوُجُودِ بِهَا وَأَنْتَ تَحْمِلُ الطَّاعَةَ عَلَيْهَا وَهِيَ عَامِلَةٌ لَك فِي مَصَالِحِك الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْك رِعَايَتُهَا وَصِيَانَتُهَا بِمَا يُقَوِّيهَا، فَإِنْ لَمْ تُرَاعَ خَرِبَ الْبَدَنُ وَفَسَدَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحِلُّ بِهِ رُوحُهُ فَتَهْلَكَ «فَارْفِقْ بِهَا» بِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا وَبِمُحَافَظَةِ مَا يُوجِبُ اسْتِمْرَارَهَا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهَا لَا عَلَى قَدْرِ وَرَاءِ حَاجَتِهَا «وَلَيْسَ مِنْ الرِّفْقِ أَنْ تُجِيعَهَا» مِنْ الْجُوعِ وَذَلِكَ بِتَتَابُعِ الصِّيَامِ مَثَلًا «وَتُذِيبَهَا» مِنْ أَذَابَ يُذِيبُ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى هَلَاكِهَا لَا مُطْلَقَ الْإِجَاعَةِ وَفِي الْعَطْفِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ إذْ الْإِذَابَةُ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي الْمُبَالَغَةِ وَأَنَّ أَصْلَ الْجُوعِ مَمْدُوحٌ وَإِدَامَةَ الشِّبَعِ مَذْمُومَةٌ فَالْمُرَادُ التَّوَسُّطُ وَالِاقْتِصَادُ (لِأَنَّ تَرْكَ الْعِبَادَاتِ لَا يَجُوزُ) مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا (فَكَذَا مَا يُفْضِي إلَيْهِ) أَصْلُهَا أَوْ كَمَالُهَا، وَقَدْ قَرَّرَ فِي الْفِقْهِيَّةِ
أَنَّ الْأَكْلَ مِقْدَارُ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ فَرْضٌ.
وَقَالَ فِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيُّ الْأَكْلُ إمَّا فَرْضٌ أَنَّ مِنْ الْحَلَالِ قَدْرُ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ وَيَتَقَوَّى لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَيُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُؤْجِرُ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ يَرْفَعُهَا الْعَبْدُ إلَى فَمِهِ» وَإِمَّا مَنْدُوبٌ إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَلِيَسْهُلَ الصَّوْمُ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ» وَإِمَّا مُبَاحٌ لَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ تَقَوِّي الْبَدَنِ فَيُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَإِمَّا حَرَامٌ إنْ فَوْقَ الشِّبَعِ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ وَالْإِسْرَافِ وَإِمْرَاضِ الْبَدَنِ.
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مَلَأ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ الْبَطْنِ» وَقَالَ «أَطْوَلُ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ أَكْلًا فِي الدُّنْيَا» إلَّا لِتَطْيِيبِ الْمُسَافِرِ وَلِصَوْمِ الْغَدِ وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ بِلَا إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ وَلَا يَسْتَدِيمُ الشِّبَعَ.
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا وَكَانَ عليه الصلاة والسلام «لَا يَشْبَعُ مِنْ الشَّعِيرِ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ فَلَا يَأْكُلُ إلَّا مِنْهُ أَوْ يَخْلِطُ بُرًّا بِالشَّعِيرِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ الْبَيْعُ بِالْأَجَلِ وَالْمُقَارَضَةُ وَخَلْطُ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ دُونَ الْبَيْعِ» وَلَا يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ مِنْ الْإِسْرَافِ وَاتِّخَاذِ أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ وَالْبَاجَّاتِ، وَوَضْعُ الْخُبْزِ عَلَى الْمَائِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْحَاجَةِ سَرَفٌ إلَّا إذَا قَصَدَ أَنْ يُضَيِّفَ قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا.
(وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا) أَيْ فِي الِاخْتِيَارِ (الْكَسْبُ) أَيْ تَحْصِيلُ أُمُورِ الْمَعَاشِ (أَنْوَاعٌ) أَرْبَعَةٌ (فَرْضٌ) يُثَابُ فَاعِلُهُ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ مَعَ إمْكَانِهِ وَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ لِثُبُوتِهِ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ.
قَالَ تَعَالَى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» (وَهُوَ الْكَسْبُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ) فَسَّرَ الْكِفَايَةَ فِي الأسروشنية بِكِفَايَةِ يَوْمِهِ (لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ) مِمَّنْ وَجَبَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ كَنَفَقَةِ قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَمَالِيكِ (وَقَضَاءِ دُيُونِهِ) وَلَوْ مَاتَ بِلَا قَضَاءٍ وَلَا تَعْطِيلِ كَسْبٍ وَفِي نِيَّتِهِ الْأَدَاءُ لَا يَأْثَمُ قَالَ فِي أَوَائِلِ زَكَاةِ الْبَزَّازِيَّةِ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ إنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ الْأَدَاءُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَطْلُ وَنُقِلَ عَنْ الِاخْتِيَارِ وَجَامِعِ الْفَتَاوَى وَوَقَعَ فِي الأسروشنية بِأَنَّ الرُّسُلَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَكْتَسِبُونَ وَيَأْكُلُونَ مِنْ كَسْبِهِمْ فَآدَمُ زَرَعَ بُرًّا وَسَقَاهُ وَحَصَدَهُ وَدَاسَهُ وَطَحَنَهُ وَعَجَنَهُ وَخَبَزَهُ فَأَكَلَهُ
وَنُوحٌ نَجَّارٌ وَزَكَرِيَّا كَذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ بَزَّازٌ وَدَاوُد يَصْنَعُ الدُّرُوعَ وَسُلَيْمَانُ يَصْنَعُ الْمَكَاتِلَ مِنْ الْخُوصِ وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَعَى الْغَنَمَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ بَزَّازًا وَعُمَرُ يَعْمَلُ فِي الْأَدِيمِ وَعُثْمَانُ تَاجِرًا وَعَلِيٌّ رضي الله عنه يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ، فَإِنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ قِيلَ كُلُّ قَادِرٍ يَتْرُكُ الِاكْتِسَابَ، فَإِنَّ مَا يَأْكُلُهُ مِنْ دِينِهِ ثُمَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَسْبِ فَكَسْبُهُ السُّؤَالُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَسْأَلْ فَمَاتَ أَثِمَ لِتَرْكِهِ الْفَرْضَ وَلَا يَزِيدُ عَلَى قُوتِ يَوْمٍ كَمَا فِي حَاشِيَةِ خَوَاجَهْ زَادَهْ (ثُمَّ قَالَ) فِي الِاخْتِيَارِ تَوْسِيطُهُ إمَّا لِكَوْنِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ مُتَأَخِّرًا عَنْ السَّابِقِ أَوْ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ فِيمَا بَعْدَهُ الْعُمْدَةَ مِنْ نَقْلِ الْكَلَامِ (فَإِنْ تَرَكَ الِاكْتِسَابَ بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ مِقْدَارَ الْكِفَايَةِ (وَسِعَهُ) أَيْ جَازَ لَهُ التَّرْكُ جَوَابٌ أَنَّ لِحُصُولِ الْفَرْضِ بِدُونِهِ فَيَحْسُنُ لَهُ حِينَئِذٍ الِاشْتِغَالُ بِوَظَائِف الْعِبَادَاتِ وَالتَّفَرُّغِ عَنْ الْكَسْبِ لِاكْتِسَابِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ
وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ الْكَسْبُ لِأَجْلِ التَّصَدُّقِ أَفْضَلُ أَوْ التَّفَرُّغُ لِلطَّاعَةِ بَعْدَ حُصُولِ قَدْرِ الْوَاجِبِ قَالَ فِي التتارخانية جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ الزِّرَاعَةُ أَفْضَلُ وَقِيلَ التِّجَارَةُ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْمُنْتَقَى أَفْضَلُ الْكَسْبِ الْجِهَادُ ثُمَّ التِّجَارَةُ ثُمَّ الْحِرَاثَةُ ثُمَّ الصِّنَاعَةُ وَفِي الْخُلَاصَةِ وَالْأَوْرَعُ أَنْ لَا يُجِيبَ دَعْوَةَ الَّذِي أَخَذَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً وَدَفَعَ عَلَى هَذَا وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَأْكُلَ طَعَامَهَا؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله انْتَهَى فَالْأَوْرَعُ أَنْ يَجْتَنِبَ عَنْ الْمُزَارَعَةِ إذْ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِنْفَاقِ إلَّا بِضَرُورَةٍ إذْ الْخِلَافُ رُخْصَةٌ وَتُرْتَكَبُ الرُّخْصَةُ بِتَرْكِ الْعَزِيمَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.
(وَقَالَ: وَإِنْ اكْتَسَبَ مَا يَدَّخِرُهُ) يُبْقِيهِ (لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ) إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَيَجْعَلُهُ ذُخْرًا وَمُعَدًّا لِلَوَازِمِهِ الْآتِيَةِ (فَهُوَ فِي سَعَةٍ)
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي وُسْعَةٍ (فَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ قُوتَ عِيَالِهِ سَنَةً» الظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ الْفَاءِ دَاخِلٌ عَلَى الْعِلَّةِ فَحِينَئِذٍ يُرَادُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْإِدْخَارُ وَاللَّازِمُ مِنْ الْحَدِيثِ الْإِدْخَارُ الْخَاصُّ فَلَا تَقْرِيبَ نَعَمْ الْخَاصُّ يَسْتَلْزِمُ الْعَامَّ قِيلَ لَكِنْ كَانَ لَا يَبْقَى لَهُمْ بَلْ يُنْفِقُهُ حَتَّى رَهَنَ دِرْعَهُ فِيمَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ وَمَاتَ وَهِيَ رَهْنٌ فِيهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ الِادِّخَارِ هُوَ الْإِبْقَاءُ إلَى سَنَةٍ، وَإِنْ صَدَقَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ وَأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَعُرُوضِ الْإِنْفَاقِ فِي سَنَةٍ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ
وَقِيلَ ادِّخَارُ السَّنَةِ لِلْمُتَأَهِّلِ وَإِلَّا فَالِادِّخَارُ فَوْقَ الْأَرْبَعِينَ لِغَيْرِ الْمُتَأَهِّلِ وَفَوْقَ السَّنَةِ لِلْمُتَأَهِّلِ مُخَالَفَةً لِلسُّنَّةِ وَمُنَافٍ لِلتَّوَكُّلِ وَهَذَا كَمَا تَرَى تَقْيِيدٌ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ فَلَا يَكْفِيهِ الدِّرَايَةُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الرِّوَايَةِ قِيلَ عَنْ الْمُنَاوِيِّ مَذْهَبُ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حُرْمَةُ ادِّخَارِ الْمَالِ عَلَى مَا زَادَ عَلَى حَاجَتِهِ وَأَرُدُّ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْمُبْتَغَى مِنْ إبَاحَةِ الْكَسْبِ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّنَعُّمِ حَتَّى الْبُنْيَانِ وَنَقْشِ الْحِيطَانِ وَشِرَاءِ السَّرَارِي وَالْغِلْمَانِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ عَلَى الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِمُوَجَّهٍ وَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ عَلَى أَنَّ الصَّرْفَ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ أَحْوَجِ الْحَاجَاتِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ لَا مَا يَكُونُ لِنَحْوِ التَّفَاخُرِ وَالتَّلَهِّي مِمَّا لَا يُقَارِنُ أَغْرَاضًا حَمِيدَةً ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ سَوْقِ الِاخْتِيَارِ كَوْنُ هَذَا الِادِّخَارِ مِنْ قَبِيلِ فَرْضِ الْكَسْبِ وَهُوَ بَعِيدٌ فَافْهَمْ.
وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا إلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل بِمَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ ثُمَّ قَرَأَ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل: 20] .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا تَعَفُّفًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَسَعْيًا عَلَى عِيَالِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ يُحْشَرُ مَعَ الصِّدِّيقِينَ» (وَمُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ الْمَذْكُورِ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ (لِيُوَاسِيَ بِهِ) أَيْ بِالزَّائِدِ (فَقِيرًا) سَوَاءٌ كَانَ لَهُ دُونَ نِصَابٍ أَوْ لَا كَالْمِسْكِينِ (أَوْ لِيُجَازِيَ بِهِ قَرِيبًا) مِنْ أَقْرِبَائِهِ وَهِيَ مِمَّا عُدَّ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ (فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ) كَالصَّلَاةِ وَالْأَوْرَادِ وَالتِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ مَالٍ ضَمِنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عُلُوِّ كَرَمِهِ قَالَ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] كَمَا فِي الْأُصُولِيَّةِ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ مُجَازَاةَ الْقَرِيبِ عَلَى مَا فُسِّرَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ فَكَيْفَ يُعَدُّ مِنْ قِسْمِ الْمُسْتَحَبِّ.
فَإِنْ أُرِيدَ مَا لَمْ يَبْلُغْ إلَى مَرْتَبَةِ الْوُجُوبِ فَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْأَقْرِبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَظَاهِرُ عِبَارَتِهِ الْمُسَاوَاةُ بَلْ رُجْحَانُ مُوَاسَاةِ مُطْلَقِ الْفَقِيرِ إلَّا أَنْ يُقَالَ كَلِمَةُ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] بِمَعْنَى بَلْ يُجَازَى قَرِيبًا فَيَكُونُ تَرَقِّيًا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فَقِيرًا عَامًّا لِلْكُلِّ وَالْقَرِيبُ مِنْ غَيْرِ الْفُقَرَاءِ شَامِلًا لِلْقَرَابَةِ النَّسَبِيَّةِ وَالْوُدِّيَّةِ فَيُشَارُ إلَى مَا اُسْتُحِبَّ مِنْ تَعْوِيضِ الْهَدِيَّةِ بِمُمَاثِلٍ لَهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ «مَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ» (لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْلِ تَخُصُّهُ) تُقْصَرُ عَلَيْهِ يَشْكُلُ بِنَحْوِ السُّنَّةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يُقْتَدَى فِيهَا، فَإِنَّ لَهُ فِيهَا أَجْرَ مَنْ عَمِلَ بِهَا فِي الْحَدِيثِ.
وَأَيْضًا بِالْعِلْمِ وَرَاءَ عِلْمِ الْحَالِ، فَإِنَّهُ مِنْ نَفْلِ الْعِبَادَاتِ وَلَا يَخُصُّهُ نَعَمْ يَتَبَادَرُ فِي الْإِطْلَاقِ الْعِبَادَةُ إلَى غَيْرِ الْعِلْمِ فِي الْعُرْفِ (وَمَنْفَعَةُ الْكَسْبِ لَهُ) أَيْ الْكَاسِبِ (وَلِغَيْرِهِ) لَا يَخْفَى أَنَّ نَفْعَ الْكَاسِبِ لِنَفْسِهِ أَنَّ عَلَى قَدْرِ الضَّرُورِيِّ فَوَاجِبٌ، وَإِنْ زَائِدٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ لِلتَّلَهِّي وَالتَّبَاهِي فَحَرَامٌ، وَإِنْ لِلتَّنَعُّمِ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ فَمُبَاحٌ فَالْمَنْفَعَةُ الْمُعْتَدَّةُ فِي زِيَادَةِ الْكَسْبِ لَيْسَ إلَّا مَا يَكُونُ لِلْغَيْرِ وَلَا شَكَّ عَلَى هَذَا أَنَّ نَفْعَ الْعِبَادَةِ لِنَفْسِهِ وَنَفْعَ الزِّيَادَةِ مُخْتَصٌّ بِغَيْرِهِ فَالظَّاهِرُ رُجْحَانُ مَا يَكُونُ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّفَلَ أَمْرٌ دِينِيٌّ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ شَيْءٌ غَيْرَ كَوْنِهِ طَاعَةً وَالزِّيَادَةُ أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ وَعَادِيٌّ قَدْ يُقْصَدُ لِغَيْرِ الطَّاعَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحُسْنَ الَّذِي مِنْ جِنْسِ الدِّينِ رَاجِحٌ عَلَى الَّذِي مِنْ جِنْسِ الْعَادَةِ
وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ» فَمُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «خَيْرُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ فَقِيرٌ يُعْطِي جَهْدَهُ» عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ بِنَصٍّ فِيمَا حَمَلَهُ مِنْ النَّفْعِ بَلْ كَمَا يَعُمُّ الْإِحْسَانَ الْمَالِيَّ يَعُمُّ الدِّينِيَّ.
وَقَدْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَنَافِعُ الدِّينِ أَشْرَفُ قَدْرًا وَأَبْقَى نَفْعًا، وَقَدْ قَالَ عَنْ الْمِيزَانِ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَاهٍ وَعَنْ ابْنِ عَدِيٍّ لَهُ مَنَاكِيرُ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ أَنَّهُ هَلْ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَفْضَلُ أَوْ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ فَذَهَبَ بَعْضٌ إلَى الثَّانِي وَبَعْضٌ إلَى الْأَوَّلِ وَالْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ وَالتَّفْصِيلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَأَيْضًا فِي التتارخانية عَنْ السِّرَاجِيَّةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلًا وَاحِدًا وَصَنِيعُ صَاحِبِ الِاخْتِيَارِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّانِي عِنْدَهُ هُوَ الْمُخْتَارَ وَفِي التتارخانية وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَسْبِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِهِ عَلَى قَصْدِ الْإِنْفَاقِ.
وَعَنْ بُسْتَانِ أَبِي اللَّيْثِ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ أَفْضَلُ وَالِاشْتِغَالُ بِالْكَسْبِ مَكْرُوهٌ عِنْدَ بَعْضٍ وَمَا رُوِيَ مِنْ اكْتِسَابِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ التَّحِيَّةُ وَالتَّسْلِيمَةُ فَمَحْمُولٌ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ وَالْكَلَامُ فِيهَا وَرَاءَهُ وَثَالِثُ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ الْمُبَاحِ كَسْبُ الزِّيَادَةِ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّنَعُّمِ كَبِنَاءِ الْبُنْيَانِ وَشِرَاءِ الْغِلْمَانِ وَرَابِعُهَا مَكْرُوهٌ الْجَمْعُ لِلتَّفَاخُرِ وَالْبَطَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حِلٍّ عَلَى مَا فِي الِاخْتِيَارِ هَذَا مَا سَمَّاهُ فِي مُلْتَقَى الْأَبْحُرِ حَرَامًا؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله
ثُمَّ مَحَلُّ الِاسْتِشْهَادِ مِنْ كَلَامِ الِاخْتِيَارِ بِمَوَاضِعَ؛ لِأَنَّ الرِّيَاضَةَ لِأَجْلِ الطَّاعَاتِ إلَى رُتْبَةِ صَوْمِ الْوِصَالِ إفْرَاطٌ، وَقَدْ نَفَاهَا بِقَوْلِهِ لَا تَجُوزُ الرِّيَاضَةُ إلَخْ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْكَسْبِ مُطْلَقًا لِأَجْلِ التَّقَاعُدِ لِلطَّاعَةِ إفْرَاطٌ أَيْضًا، وَقَدْ أَشَارَ إلَى نَفْيِهِ بِقَوْلِهِ الْكَسْبُ أَنْوَاعٌ فَرْضٌ إلَخْ وَلِأَنَّ الْكَسْبَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ رُخْصَةٌ وَأَشَارَ إلَيْهَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كَسَبَ مَا يَدَّخِرُ إلَخْ، فَإِنْ تَفَطَّنْت مِمَّا ذُكِرَ عَرَفْت وَجْهَ تَوْسِيطِ الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ.
وَقَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَيْضًا فِي النَّوْعِ الِاسْتِحْبَابُ رُخْصَةٌ كَمَا لَا يَخْفَى (وَقَالَ فِي التتارخانية يُكْرَهُ) قِيلَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ إذْ هِيَ الْمَحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْكَرَاهَةَ الْوَاقِعَةَ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ تَحْرِيمِيَّةٌ وَفِي الصَّلَاةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَنْزِيهِيَّةٌ كَمَا فِي حَاشِيَةِ أَخِي حَلَبِيٍّ فِي كِتَابِ الْكَرَاهَةِ (أَنْ يَجْتَمِعَ قَوْمٌ) مِنْ النَّاسِ (فَيَعْتَزِلُونَ فِي مَوْضِعٍ) قِيلَ الظَّاهِرُ فَيَعْتَزِلُوا بِلَا نُونٍ فَإِلْحَاقُ النُّونِ سَهْوٌ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِطْفٍ عَلَى يَجْتَمِعُ بَلْ هُوَ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَعْطُوفُهُ يَمْتَنِعُونَ وَيَفْرُغُونَ بِالنُّونِ (وَيَمْتَنِعُونَ عَنْ الطَّيِّبَاتِ) مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكِحِ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ أَبَاحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَوَجَبَهُمْ (يَعْبُدُونَ اللَّهَ تَعَالَى) بِالْأَوْرَادِ وَالْأَذْكَارِ وَالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ (فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (وَيُفْرِغُونَ) مِنْ التَّفْرِيغِ (أَنْفُسَهُمْ لِذَلِكَ) الْعِبَادَةِ
لَيْلًا وَنَهَارًا بَلْ سِنِينَ وَدُهُورًا (وَكَسْبُ الْحَلَالِ) الَّذِي لَهُ حَظٌّ إلَى الْفَرْضِيَّةِ (وَلُزُومُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ) فِي الْمَكْتُوبَاتِ (فِي الْأَمْصَارِ) فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ (أَحَبُّ وَأَلْزَمُ) لِوُجُوبِهِ وَافْتِرَاضِهِ وَلِاسْتِحْبَابِهِ أَيْضًا (انْتَهَى) لَا يَخْفَى أَنَّ كَلِمَةَ أَحَبُّ وَأَلْزَمُ تُوجِبُ أَنْ يُوجَدَ أَصْلُ الْمَحَبَّةِ وَاللُّزُومِ فِي خِلَافِهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْكَرَاهَةُ فِيمَا يَكُونُ لَهُ حُسْنٌ شَرْعِيٌّ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ بِمَعْنَى أَصْلِ الْفِعْلِ أَوْ لِإِيذَانِ كَوْنِ مَا ذُكِرَ مُبَالَغًا فِي الْمَحَبَّةِ وَكَامِلًا قَوِيًّا فِي اللُّزُومِ يَعْنِي قَوِيَ فِي الْمَحَبَّةِ وَقَوِيَ فِي اللُّزُومِ فَاعْرِفْهُ وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ لَيْسَ بِخِلَافٍ فِي كَلَامِ التتارخانية
فَإِنْ قِيلَ دَلَالَةُ هَذَا الْكَلَامِ بِالْمَطْلُوبِ أَقْوَى مِمَّا فِي كَلَامِ الِاخْتِيَارِ فَلِمَ قَدَّمَهُ عَلَيْهِ
قُلْنَا: لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لِمُصَنِّفِهِ صَاحِبِ الْمُخْتَارِ أَحَدُ الْمُتُونِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَى وَثَاقَتِهَا عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ وَأَنَّ الشُّرُوحَ مُقَدَّمَةٌ فِي الْوَثَاقَةِ عَلَى الْفَتَاوَى كَمَا أَنَّ الْمُتُونَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الشُّرُوحِ كَمَا فِي الْفِقْهِيَّةِ (فَإِنْ قُلْت يُعَارِضُ مَا ذَكَرْت) هُنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ الْفُقَهَاءِ مِنْ مَنْعِ الرِّيَاضَةِ وَكَثْرَةِ الْمُجَاهَدَةِ (مَا نُقِلَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مَفْعُولُ يُعَارِضُ أَوْ فَاعِلُهُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ نَحْوًا وَالثَّانِي أُصُولًا وَآدَابًا بَلْ لُغَةً أَيْضًا فَافْهَمْ (عَنْ السَّلَفِ) الصَّالِحِينَ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّلَفِ هُنَا لَيْسَ مَا يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ الْخَلَفِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ إلَى الْحَلْوَانِيِّ عَلَى مَا قِيلَ بَلْ مُطْلَقٌ مِنْ تَقْدِيمٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ (وَمِنْ شِدَّةِ الرِّيَاضَاتِ) بِتَقْلِيلِ الْأَكْلِ وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ كَانَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُفْطِرُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَفِي رَمَضَانَ إلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَكَانَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ يُفْطِرُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ.
وَأَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ أَكَلَ أَكْلَتَيْنِ مِنْ بَصْرَةَ إلَى مَكَّةَ.
وَأَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ يَقُولُ الرَّبَّانِيُّ يَأْكُلُ مَرَّةً فِي أَرْبَعِينَ وَالصَّمَدَانِيُّ فِي ثَمَانِينَ يَوْمًا وَفِي قُوتِ الْقُلُوبِ وَالْإِحْيَاءِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَطْوِي سِتَّةً أَيَّامٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ يَطْوِي سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَدْهَمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَكَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَحَجَّاجِ بْنِ فَرَاصَةَ وَحَفْصٍ الْعَابِدِ الْمِصِّيصِيِّ وَالْمُسْتَلِمِ بْنِ سَعِيدٍ وَسُلَيْمَانَ الْخَوَّاصِ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَصَلَ طَيُّهُمْ إلَى ثَلَاثِينَ.
وَرُوِيَ أَنَّ سَهْلُ بْنُ عَبْدَ اللَّهِ اقْتَاتَ بِثُلُثِ دِرْهَمٍ فِي ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ (وَ) مِنْ (كَثْرَةِ الْمُجَاهَدَاتِ) قَالَ الْقُشَيْرِيُّ إنَّ أَصْلَ الْمُجَاهَدَةِ فَطْمُ النَّفْسِ عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ وَحَمْلُهَا عَلَى خِلَافِ هَوَاهَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ.
وَقَالَ حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيم بْنِ سِنَانٍ أَنَّهُ قَالَ مَا بِتُّ تَحْتَ سَقْفٍ وَلَا فِي مَوْضِعِ عُلُوٍّ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَكُنْت أَشْتَهِي فِي أَوْقَاتٍ أَنْ أَتَنَاوَلَ شُبْعَةَ عَدَسٍ فَلَمْ يَتَّفِقْ لِي.
وَعَنْ السَّرِيِّ أَنَّ نَفْسِي تُطَالِبُنِي مُنْذُ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَنْ أَغْمِسَ جَزَرَةً فِي دِبْسٍ فَمَا أُطْعِمْتُهَا وَقِيلَ إنَّ عِصَامَ بْنَ يُوسُفَ الْبَلْخِيّ وَجَّهَ شَيْئًا إلَى حَاتِمٍ الْأَصَمِّ فَقِيلَ لَهُ لِمَ قَبِلْته فَقَالَ وَجَدْت فِي أَخْذِهِ ذُلِّي وَعِزَّهُ وَفِي رَدِّي عِزِّي وَذُلَّهُ فَاخْتَرْت عِزَّهُ عَلَى عِزِّي وَذُلِّي عَلَى ذُلِّهِ
وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ عَلَى التَّجْرِيدِ فَقَالَ جَرِّدْ أَوَّلًا قَلْبَك عَنْ السَّهْوِ وَلِسَانَك عَنْ اللَّغْوِ وَنَفْسَك عَنْ اللَّهْوِ ثُمَّ اُسْلُكْ حَيْثُ شِئْت (وَ) مِنْ (الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَاتِ) كَمَا نُقِلَ أَنَّ جُنَيْدًا يَدْخُلُ كُلَّ يَوْمٍ حَانُوتَهُ وَيُسْبِلُ السِّتْرَ وَيُصَلِّي أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ ثُمَّ يَعُودُ إلَى بَيْتِهِ.
وَعَنْ كِتَابِ حُسْنِ التَّنْبِيهِ أَنَّ أُوَيْسًا الْقَرَنِيَّ رضي الله عنه قَالَ وَاَللَّهِ لَأَعْبُدَنَّ اللَّهَ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ فَكَانَ لَيْلَةً يَقْطَعُهَا قَائِمًا، وَلَيْلَةً يَقْطَعُهَا سَاجِدًا، وَلَيْلَةً رَاكِعًا.
وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَفِيفٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ رُبَّمَا كُنْت أَقْرَأُ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِي فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ عَشْرَةَ آلَافِ مَرَّةٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَرُبَّمَا كُنْت أَقْرَأُ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَرُبَّمَا كُنْت أُصَلِّي مِنْ الْغَدَاةِ إلَى الْعَصْرِ أَلْفَ رَكْعَةٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله كَانَ لَا يَخْلُو لِسَانُهُ عَنْ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ فَيَوْمًا جَلَسَ عِنْدَ الْحَلَّاقِ لِيَقُصَّ شَارِبَهُ فَقَالَ الْحَلَّاقُ لَا تُحَرِّكْ شَفَتَك قَالَ: لَأَنْ يَقْطَعَ مِنْهَا قِطْعَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيَّ حِينٌ بِلَا ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ قَالَ شَرِيكٌ كُنْت مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله سَنَةً فَمَا رَأَيْته وَضَعَ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ
وَقَالَ مِسْعَرٌ جَسَسْت أَبَا حَنِيفَةَ
وَقْتَ دُخُولِ النَّاسِ مَضَاجِعَهُمْ فَخَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَاشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى السَّهَرِ وَأَلْقَيْت حَصَيَاتٍ فِي نَعْلَيْهِ وَرَجَعْت فَعِنْدَ قُرْبِ الصُّبْحِ رَجَعْت فَوَجَدْته فِي مَكَانِهِ يَدْعُو وَيَبْكِي وَنَظَرْت نَعْلَيْهِ وَالْحَصَيَاتُ بَاقِيَةٌ فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَدَّى وِرْدَهُ ثُمَّ شَرَعَ فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ جَلَسَ لَهَا إلَى الْعَصْرِ ثُمَّ إلَى الْمَغْرِبِ فَلَمَّا صَلَّاهَا رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ فَأَفْطَرَ وَجَدَّدَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ إلَى أَنْ أَخَذَ النَّاسُ مَضْجَعَهُمْ ثُمَّ خَرَجَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَامَ إلَى الْفَجْرِ ثُمَّ إلَى الظُّهْرِ كَالْأَمْسِ قَالَ فَلَازَمْته إلَى أَنْ عَلِمْت أَنَّهُ عَادَتُهُ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَمَا رَأَيْته بِالنَّهَارِ مُفْطِرًا وَلَا بِاللَّيْلِ نَائِمًا وَلَكِنْ فِي أَيَّامِ التَّعْطِيلِ فِي الضَّحْوَةِ يَأْخُذُ نَوْمَةً خَفِيفَةً.
قَالَ مِسْعَرٌ فَبَعْدَ ذَلِكَ لَازَمْت مَجْلِسَهُ وَمَسْجِدَهُ حَتَّى رَوَى أَبُو مُعَاذٍ أَنَّ مِسْعَرًا مَاتَ فِي مَسْجِدِ أَبِي حَنِيفَةَ سَاجِدًا.
وَعَنْ أَبِي الْجَمَالِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَا رَأَيْته لَيْلَةً وَضَعَ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَفْعَلُ قَيْلُولَةً تَارَةً
(كَصِيَامِ الدَّهْرِ) أَيْ جَمِيعِ الْعُمْرِ سِوَى الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ (وَ) صِيَامِ (الْوِصَالِ) أَيْ مُتَابَعَةِ الْأَيَّامِ بِلَا إفْطَارٍ بَيْنَهَا، وَقَدْ سَمِعْت آنِفًا الْوَاصِلِينَ وَمُدَّةَ وِصَالِهِمْ كَوِصَالِ أَبِي بَكْرٍ إلَى السِّتَّةِ وَوِصَال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ إلَى السَّبْعَةِ.
(وَالْقِيَامُ فِي كُلِّ اللَّيَالِي) وَأَيْضًا كَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ رحمه الله أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حَفِظْت الْقُرْآنَ وَأَنَا ابْنُ سِتِّ سِنِينَ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكُنْت أَصُومُ الدَّهْرَ وَقُوتِي خُبْزُ الشَّعِيرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ عَزَمْت أَنْ أَطْوِيَ ثَلَاثَةَ لَيَالٍ ثُمَّ أُفْطِرَ لَيْلَةً ثُمَّ خَمْسًا ثُمَّ سَبْعًا ثُمَّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَمَكَثْت عَلَيْهِ عِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ خَرَجْت أَسِيحُ فِي الْأَرْضِ سِنِينَ ثُمَّ رَجَعْت إلَى تُسْتَرَ وَكُنْت أَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ كَذَا فِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ.
وَفِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ كَانَ يُحْيِي اللَّيَالِيَ كُلَّهَا مِنْ التَّابِعِينَ وَتَبَعِ التَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَعَلْقَمَةَ وَحَمَّادٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَفُضَيْلٍ وَطَاوُسٍ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَعَلِيِّ بْنِ بَكَّارَ وَابْنِ عَاصِمٍ وَأَبِي جَابِرٍ وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَيَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ وَابْنِ الْمِنْهَالِ كَانُوا كُلُّهُمْ لَا يَضَعُونَ جَنْبَهُمْ عَلَى الْفِرَاشِ فِي اللَّيَالِيِ وَيُصَلُّونَ الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ فَيَكُونُ قِيَامُهُمْ غِذَاءَ رُوحِهِمْ وَحَيَاةَ قُلُوبِهِمْ وَصِيَانَةَ حَوَاسِّهِمْ وَلِسَانِهِمْ عَنْ التَّعْطِيلِ إلَى أَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ وَالسَّهَرُ لَذِيذَةً وَالنَّوْمُ مَعْصِيَةً وَقَطِيعَةً عَنْ رَبِّهِمْ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد أَنَّ السَّلَفَ إذَا بَلَغَ أَحَدُهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً طَوَى فِرَاشَهُ وَلَمْ يَضَعْ فِي جَنْبِهِ فِي اللَّيَالِيِ إلَّا بِقَيْلُولَةٍ بَعْدَ صَلَاةِ الضُّحَى وَكَذَا مِنْ النِّسْوَانِ لَا تُعَدُّ كَرَابِعَةَ وَمَيْمُونَةَ الزِّنْجِيَّةِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ وِرْدًا بِاللَّيْلِ وَهُوَ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ فَرُبَّمَا يَخْتِمُهُ فِي رَكْعَتَيْنِ وَرُبَّمَا يَخْتِمُهُ فِي جَمِيعِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَوْ خَتَمَهُ قَبْلَ تَمَامِ اللَّيْلِ يَدْعُو وَيُنَاجِي وَيَبْكِي إلَى وَقْتِ الْفَجْرِ وَعَامَّةُ نَهَارِهِ فِي الْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمِ صَائِمًا وَاَللَّهِ لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَهُ فِي وَرَعِهِ وَدِينِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَفِي قَاضِي خَانْ وَخِزَانَةِ الْمُفْتِينَ يَخْتِمُ فِي كُلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ إحْدَى وَسِتِّينَ خَتْمَةً ثَلَاثِينَ فِي أَيَّامِهِ وَثَلَاثِينَ فِي لَيَالِيهِ وَوَاحِدَةً فِي التَّرَاوِيحِ رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ.
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ نُعَيْمٍ كُلَّمَا أَتَيْت مَسْجِدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْلًا أَسْمَعُ وُقُوعَ دُمُوعِهِ عَلَى الْحَصِيرِ كَأَنَّهُ يُمْطِرُ السَّقْفَ.
وَعَنْ الْفَرَائِدِ شَرْحِ الْكَنْزِ صَلَّى أَبُو حَنِيفَةَ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَعَامَّةُ لَيْلِهِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ يُسْمَعُ بُكَاؤُهُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى يَرْحَمَهُ جِيرَانُهُ وَأَنَّهُ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ سَبْعَةَ آلَافِ مَرَّةً (وَالِاجْتِنَابُ عَنْ الشُّبُهَاتِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُشْتَهَيَاتُ أَيْ مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ فِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِي تُرَابٍ النَّخْشَبِيِّ مَا تَمَنَّتْ نَفْسِي مِنْ الشَّهَوَاتِ إلَّا مَرَّةً تَمَنَّتْ خُبْزًا وَبَيْضًا وَأَنَا فِي سَفْرَةٍ فَعَدَلْت إلَى قَرْيَةٍ فَأَخَذَنِي أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَقَالُوا إنَّهُ مِنْ اللُّصُوصِ فَضَرَبُونِي سَبْعِينَ دِرَّةً ثُمَّ عَرَفُونِي فَاعْتَذَرُوا فَحَمَلَنِي وَاحِدٌ إلَى مَنْزِلِهِ فَقَدَّمَ إلَيَّ خُبْزًا وَبَيْضًا فَقُلْت لِنَفْسِي كُلِّي بَعْدَ سَبْعِينَ دُرَّةً.
وَفِيهِ أَيْضًا اشْتَهَى أَبُو الْخَيْرِ الْعَسْقَلَانِيُّ
السَّمَكَ سِنِينَ ثُمَّ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعٍ حَلَالٍ فَلَمَّا مَدَّ إلَيْهِ يَدَهُ لِيَأْكُلَ أَخَذَتْ شَوْكَةٌ مِنْ عِظَامِهِ أُصْبُعَهُ فَذَهَبَتْ فِي ذَلِكَ يَدُهُ فَقَالَ يَا رَبِّ هَذَا لِمَنْ مَدَّ يَدَهُ بِشَهْوَةٍ إلَى حَلَالٍ فَكَيْفَ بِمَنْ مَدَّ إلَى حَرَامٍ وَفِي بَابِ الْوَرَعِ مِنْهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كُنَّا نَدَعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ بَابًا مِنْ الْحَرَامِ.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَفِيهِ أَيْضًا قِيلَ إنَّ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ مَكَثَ بِالْبَصْرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ تَمْرِ الْبَصْرَةِ وَلَا مِنْ رُطَبِهَا حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَذُقْهُ قَالَ يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ هَذَا بَطْنِي مَا نَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا زَادَ فِيكُمْ وَيُقَالُ جَاءَتْ أُخْتُ بِشْرٍ الْحَافِيِّ إلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رحمه الله وَقَالَتْ إنَّا نَغْزِلُ عَلَى سُطُوحِنَا بِشُعْلَةِ الْمَلِكِ هَلْ يَجُوزُ لَنَا الْغَزْلُ فِي شُعَاعِهَا.
وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْنَا الْمَشَاعِلُ الظَّاهِرِيَّةُ فَقَالَ مَنْ أَنْتِ عَافَاك اللَّهُ قَالَتْ أُخْتُ بِشْرٍ الْحَافِيِّ فَبَكَى أَحْمَدُ وَقَالَ مِنْ بَيْتِكُمْ يَخْرُجُ الْوَرَعُ الصَّادِقُ لَا تَغْزِلِي فِي شُعَاعِهَا وَرَهَنَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ سَطْلًا لَهُ عِنْدَ بَقَّالٍ فَلَمَّا أَرَادَ فِكَاكَهُ أَخْرَجَ الْبَقَّالُ إلَيْهِ سَطْلَيْنِ وَقَالَ خُذْ أَيَّهُمَا لَك فَقَالَ أَشَكْلَ سَطْلِي فَهُوَ لَك وَالدَّرَاهِمُ لَك فَقَالَ الْبَقَّالُ سَطْلُك هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَدْت اخْتِبَارَك فَلَمْ يَأْخُذْ وَكَانَ رَجُلٌ يَكْتُبُ رُقْعَةً فِي بَيْتٍ بِكِرَاءٍ فَأَرَادَ أَنْ يُتَرِّبَ الْكِتَابَ مِنْ جِدَارِ الْبَيْتِ فَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ الْبَيْتَ بِالْكِرَاءِ ثُمَّ إنَّهُ خَطَرَ بِبَالِهِ لَا حَظْرَ لِهَذَا فَتَرَّبَ الْكِتَابَ فَسَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ سَيَعْلَمُ الْمُسْتَخِفُّ بِالتُّرَابْ مَا يَلْقَاهُ غَدًا مِنْ طُولِ الْحِسَابْ.
وَقِيلَ رَجَعَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ مَرْوَ إلَى الشَّامِ فِي قَلَمٍ اسْتَعَارَهُ وَلَمْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ.
وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ لَا يَنَامُ مُضْطَجِعًا وَلَا يَأْكُلُ سَمِينًا وَلَا يَشْرَبُ بَارِدًا سِتِّينَ سَنَةً فَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ بَعْدَمَا مَاتَ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك فَقَالَ خَيْرًا غَيْرَ أَنِّي مَحْبُوسٌ عَنْ الْجَنَّةِ بِإِبْرَةٍ اسْتَعَرْتهَا فَلَمْ أَرُدَّهَا وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يُجَاوِرُ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ فَقِيرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى دُهْنِ السِّرَاجِ فَيُطَالِعُ كِتَابَهُ بِضِيَاءِ الْقَمَرِ وَالْقَنَادِيلُ تُضِيءُ إلَى الْفَجْرِ قِيلَ لَهُ لَوْ نَظَرْت بِضِيَاءِ الْقَنَادِيلِ لَوَضَحَ الْخَطُّ وَالنَّظَرُ بِضِيَاءِ الْقَمَرِ يُنْقِصُ نُورَ بَصَرِك فَقَالَ الْقِنْدِيلُ لِلْكَعْبَةِ لَا لِمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ فَالنَّظَرُ الْمُفَرِّقُ لِلْبَصَرِ مِنْ الْمُبَاحِ خَيْرٌ مِنْ النَّظَرِ الْمَزِيدِ نُورُهُ مِنْ غَيْرِهِ (وَالطَّيِّبَاتِ) مِنْ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَسَاكِنِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ السَّادَاتِ (وَالْخَتْمِ) عُطِفَ عَلَى الِاجْتِنَابِ أَوْ صِيَامِ الدَّهْرِ (فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ بَلْ مَرَّاتٍ) كَثِيرَةً كَمَا قَدَّمْنَا.
وَأَيْضًا فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْقَسْطَلَّانِيِّ أَخْبَرَنِي الْبُرْهَانُ بْنُ شَرِيفٍ أَنَّهُ يَخْتِمُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ خَتْمَةً وَالنَّجْمُ الْأَصْبَهَانِيُّ رَأَى رَجُلًا مِنْ الْيَمَنِ خَتَمَ فِي شَوْطٍ وَأُسْبُوعٍ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الشَّعْرَانِيُّ خَتَمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ خَتْمَتَيْنِ وَأَخْبَرَنَا عَنْ الْمَرْصَفِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ فِي أَيَّامِ سُلُوكِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ خَتْمٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ خَتْمٍ كُلَّ دَرَجَةٍ أَلْفُ خَتْمٍ وَهَذَا لَا يَتَيَسَّرُ إلَّا بِفَيْضٍ رَبَّانِيٍّ وَمَدَدٍ رَحْمَانِيٍّ انْتَهَى.
قِيلَ وَلَا يُسْتَبْعَدُ هَذَا عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ غَلَبَتْ رُوحَانِيَّاتُهُمْ عَلَى جُسْمَانِيَّاتهمْ وَالرُّوحُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ - وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - ثُمَّ نَقُولُ حَاصِلُ سُؤَالِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْقُولَاتِ عَنْ السَّلَفِ مُعَارِضَةٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعَارُضَ لَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ فَلَا يُقَالُ الْقِيَاسُ مُعَارِضٌ لِلنَّصِّ وَلِلْإِجْمَاعِ بَلْ ثُبُوتُ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِي كَوْنَ تِلْكَ الْمَنْقُولَاتِ مُحَرَّمَاتٍ وَارْتِكَابُ مَنْهِيَّاتٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ التَّعْبِيرُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْسَارِ نَحْوُ أَنْ يُقَالَ فَبَعْدَ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ مَا وَجْهُ مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ كَذَا وَكَذَا أَوْ يُقَالَ لَيْسَ النُّصُوصُ وَالْأَدِلَّةُ كَمَا فُهِمَتْ وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ إلَّا أَنْ يُقَالَ التَّعَارُضُ هُنَا تَجَوُّزٌ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ فَتَأَمَّلْ.
وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِجَعْلِ تَصْوِيرِ السُّؤَالِ هَكَذَا: دَلِيلُكُمْ وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ لُزُومِ الِاقْتِصَادِ وَلَكِنْ عِنْدَنَا مَا يَنْفِيهِ مِنْ وُقُوعِ الْإِفْرَاطِ مِنْ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَدِلَّةٌ عَلَيْهِ لَمَا فَعَلُوا وَالِاجْتِرَاءُ عَلَى جَهَالَتِهِمْ أَوْ الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِ عِلْمِهِمْ لَيْسَ بِجَائِزٍ بَعِيدٌ عَنْ الْإِنْصَافِ (قُلْنَا) فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ (أَوَّلًا) .
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ أَوَّلًا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ دَلِيلُ الْأُولَى وَالْأَوَائِلِ فَمَا وَجْهُ تَنْوِينِهِ قُلْنَا إنَّهُ هُنَا ظَرْفٌ بِمَعْنَى قَبْلُ وَهُوَ حِينَئِذٍ مُنْصَرِفٌ وَلَا وَصْفِيَّةَ لَهُ أَصْلًا، وَإِذَا جَعَلْته صِفَةً لَمْ تَصْرِفْهُ تَقُولُ لَقِيتُهُ عَامًا
أَوَّلَ أَيْ قَبْلَ الْجَوَابَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ (لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْوَحْيِ) ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَالظَّاهِرُ مَتْلُوًّا أَوْ غَيْرَ مَتْلُوٍّ فَتَأَمَّلْ فِيهِ (وَغَيْرُهُ) أَيْ وَبَيْنَ غَيْرَ الْوَحْيِ كَالْمَنْقُولِ الْمَذْكُورِ عَنْ السَّلَفِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى التَّعَارُضِ عَلَى التَّمَاثُلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ (حَتَّى نَحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ) بَلْ اللَّازِمُ فِيهِ الْأَخْذُ بِالْأَقْوَى وَتَرْكُ الْأَضْعَفِ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ (فَعَلَيْك الْأَخْذَ بِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) وَأَنْتَ مَأْمُورٌ بِإِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا بِغَيْرِهِ كَالسَّلَفِ لَكِنْ يُرَادُ أَنَّا سِيَّمَا الْمُقَلَّدِينَ مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ الْأَعْلَمِ وَالْأَوْرَعِ وَأَنَّهُ قَدْ قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ دَلِيلَ الْمُقَلِّدِ لَيْسَ إلَّا قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ وَكَذَا فِعْلُهُ كَمَا فِي الْأُصُولِ.
وَأَمَّا النُّصُوصُ فَمُخْتَصَّةٌ بِالْمُجْتَهِدِ وَقُرِّرَ أَيْضًا إذَا تَخَالَفَ النَّصُّ مَعَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ يُقَدَّمُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ لِجَوَازِ كَوْنِ النَّصِّ مُؤَوَّلًا أَوْ مُخَصَّصًا أَوْ مَنْسُوخًا يَعْرِفُهَا الْمُجْتَهِدُ دُونَ الْمُقَلِّدِ وَأَنَّ هَذَا يُورِثُ تَضْلِيلَ السَّلَفِ وَسُوءَ الظَّنِّ بِهِمْ فَلَعَلَّهُ لَمَّا ذُكِرَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ أَوْ رَدَّ الْجَوَابَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَيَكُونَانِ تَسْلِيمِيَّيْنِ.
(وَثَانِيًا أَنَّا نَمْنَعُ صِحَّةَ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ إذَا لَمْ يَقَعْ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الْأُمُورِ الْمَنْقُولَةِ (بَحْثٌ) طَلَبٌ وَتَفَحُّصٌ (وَتَفْتِيشٌ) يُوجِبُ صِحَّةَ الصَّدَرِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ كَالتَّوَاتُرِ وَالشُّهْرَةِ وَالْوَاحِدُ بِشُرُوطِ الرِّوَايَةِ مِنْ نَحْوِ الْعَدْلِ وَالضَّبْطِ وَالْعَدَدِ (بَلْ أَكْثَرِهَا خَالٍ عَنْ) أَصْلِ (السَّنَدِ) فَضْلًا عَنْ وَصْفِهِ كَالْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ فِيهِ تَلْقِينًا بِالْجَوَابِ إذْ تَقَيُّدُ الْأَكْثَرِيَّةِ يَقْتَضِي اعْتِرَافَ مَسْأَلَةِ الْخَصْمِ فِي جَانِبِ الْأَقَلِّ وَهُوَ يَكْفِي لَهُ فَالتَّفْسِيرُ أَنَّ بَعْضَهَا أَيْ الْأَقَلَّ مُشْتَمِلٌ لِلسَّنَدِ الصَّحِيحِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ (بِخِلَافِ الْكِتَابِ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ كُلُّهُ (وَالْأَخْبَارُ النَّبَوِيَّةُ) أَيْ الْمَذْكُورَةُ هُنَا فَلَا يَضُرُّهُ وُجُودُ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ بَلْ الْمَوْضُوعَةُ أَنْفُسُهَا وَأَنَّ الْمَذْكُورَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ كُتُبٍ صَحِيحَةٍ مُتَعَاضِدَةٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ بَلْ لِكَوْنِ مَآلِ مَعَانِيهَا رَاجِعًا إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ يَرْتَقِي إلَى الْمَشْهُورِ بِحَسَبِ الْمَعْنَى فَيُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ وَلَا يَضُرُّ عَدَمَ مَعْلُومِيَّةِ وُجُودِ شُرُوطِ الرِّوَايَةِ فِي بَعْضِهَا بَلْ غَايَتُهَا بَيَانَاتٌ وَتَفْسِيرَاتٌ لِمُجْمَلَاتِ الْكِتَابِ وَخَفَايَاتِهَا.
(فَلَا مُسَاوَاةَ فِي النَّقْلِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ) هَذَا عَلَى تَسْلِيمِ إمْكَانِ التَّعَارُضِ بَيْنَ أَصْلِ الْوَحْيِ وَبَيْنَ أَصْلِ الْمَنْقُولِ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا فَلَا يُرَدُّ أَنَّهُ يُوهِمُ صِحَّةَ التَّعَارُضِ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا سَنَدًا لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ لِبَعْضِ الْمَنْقُولَاتِ السَّلَفِيَّةِ سَنَدًا صَحِيحًا كَمِثْلِ بَعْضِ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ آنِفًا بِقَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهَا خَالٍ عَنْ السَّنَدِ نَعَمْ التَّعَاضُدُ الْمَعْنَوِيُّ بَاقٍ فِي الْأَخْبَارِ دُونَ الْمَنْقُولَاتِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ الْجَوَابِ الثَّانِي رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ صُدُورِ تِلْكَ الْمَنْقُولَاتِ مِنْهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ عَدَمُ التَّوَاتُرِ بَلْ الشُّهْرَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَشْخَاصِهِمْ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَوْعِهِمْ إذْ التَّوَاتُرُ الْمَعْنِيُّ ظَاهِرٌ فِي جِنْسِهِمْ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ أَيْضًا مُؤَدٍّ إلَى ارْتِفَاعِ الْأَمْنِ وَالِاعْتِمَادِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى الْكُتُبِ سِيَّمَا الْمُعْتَبَرَةِ كَقَاضِي خان وَالرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ وَأَيْضًا حَاصِلُ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ إبْقَاءُ الْمَنْعِ وَعَدَمُ الْجَوَازِ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّقَيُّدِ وَالِاهْتِمَامِ بِاسْتِغْرَاقِ الْأَوْقَاتِ فِي عِبَادَةِ الْمَعْبُودِ الَّذِي لَمْ يَخْلُقْ الثَّقَلَيْنِ إلَّا لِلْعِبَادَةِ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ الْإِنْصَافِ بَلْ ظَاهِرُ بَعْضِ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] ، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] .
وَبَعْضُ صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ مِنْ «إيثَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثْرَةَ الْجُوعِ عَلَى نَفْسِهِ إلَى أَنْ يَرْبِطَ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ وَقِيَامَهُ اللَّيْلَ إلَى أَنْ تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إلَى أَنْ انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ وَفِي رِوَايَةٍ إلَى أَنْ تَشَقَّقَتْ قَدَمَاهُ» يَقْتَضِي وُقُوعَ ذَلِكَ أَيْضًا وَبِمَا حُرِّرَ تَبَيَّنَ التَّعَارُضُ الْحَقِيقِيُّ بَيْنَ النُّصُوصِ فَلَعَلَّ الْأَوْلَى التَّوْفِيقُ بِنَحْوِ أَنْ يُقَالَ الْمَنْعُ لِلْمُبْتَدِئِينَ الَّذِينَ إذَا أَتَوْا تِلْكَ الْكَثْرَةَ فِي الِابْتِدَاءِ لَزِمَ إلْقَاءُ أَنْفُسِهِمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَالْجَوَازُ لِلْمُنْتَهِينَ الَّذِينَ صَارَتْ تِلْكَ الْكَثْرَةُ لَهُمْ كَالْغِذَاءِ بِلَذَّةٍ بِلَا ثَقْلَةٍ وَكُلْفَةٍ فَلَعَلَّ
لِذَلِكَ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ جَعَلَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْجَوَابَ الثَّانِيَ تَسْلِيمِيًّا وَجَعَلَ مَدَارَ التَّسْلِيمِ جِنْسَ مَا ذُكِرَ فَافْهَمْ.
(وَثَالِثًا أَنَّ الْمَنْعَ عَنْ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ مُعَلَّلٌ) فِي الشَّرْعِ (بِعِلَّتَيْنِ) إحْدَاهُمَا (لَمِّيَّةٌ) اعْلَمْ أَنَّ الْبُرْهَانَ إمَّا لَمِّيٌّ إنْ كَانَ الِاسْتِدْلَال مِنْ الْعِلَّةِ إلَى الْمَعْلُولِ وَإِمَّا إنِّيٌّ إنْ كَانَ الْمَعْلُولُ إلَى الْعِلَّةِ، وَإِنْ شِئْت قُلْت إنْ كَانَ الْوَسَطُ عِلَّةً فِي الذِّهْنِ وَالْخَارِجِ فَلَمِّيٌّ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّهْنِ دُونَ الْخَارِجِ فَإِنِّيٌّ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالنَّارِ عَلَى الدُّخَانِ فِي اللَّمِّيِّ وَبِالدُّخَانِ عَلَى النَّارِ فِي الْإِنِّيِّ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ.
وَ (هِيَ الْإِفْضَاءُ) أَيْ الْإِيصَالُ (إلَى إهْلَاكِ النَّفْسِ) الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، فَإِنَّ التَّشْدِيدَاتِ الصَّعْبَةَ رُبَّمَا تُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا فِي دَوَامِ تَرْكِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَدَوَامِ السَّهَرِ (أَوْ إضَاعَةِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ) عَلَيْهِ (لِلْغَيْرِ) وَهُوَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنْ عِيَالِهِ وَأَوْلَادِهِ (أَوْ تَرْكِ الْعِبَادَةِ) لِضَعْفِ الْبَدَنِ وَفَسَادِ الْبِنْيَةِ فَمَا يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ فَحَرَامٌ (أَوْ تَرْكِ مُدَاوَمَتِهَا) كَتَرْكِ مُدَاوَمَةِ الْجَمَاعَةِ لِضَعْفِ الْبَدَنِ النَّاشِئِ مِنْ إفْرَاطِ الْعِبَادَةِ.
(وَ) ثَانِيَتُهُمَا (آنِيَةٌ)، وَقَدْ عُرِفَتْ آنِفًا (هِيَ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرْسِلَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فَلِذَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا وَمِنْ رَحْمَتِهِ وَشَفَقَتِهِ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى جُمْلَةِ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ بَلْ كَانَ حَرِيصًا فِي هِدَايَتِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ شَيْءٍ مِمَّا يَنْفَعُهُمْ وَمِنْ رَحْمَتِهِ وَشَفَقَتِهِ طَلَبُ خِفَّةِ الصَّلَوَاتِ مِنْ خَمْسِينَ إلَى خَمْسٍ وَكَانَ يَغْضَبُ مِنْ سُؤَالِ الْأَحْكَامِ الشَّاقَّةِ مَخَافَةَ نُزُولِ مَشْرُوعِيَّتِهَا قَائِلًا اُتْرُكُونِي مَا تَرَكَتْكُمْ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] .
قَالَ «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» (وَ) هُوَ (مُؤَيَّدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقْوَى) أَيْ يَقْدِرُ (عَلَى مَا) مِنْ الطَّاعَاتِ الشَّاقَّةِ (لَا يَقْوَى عَلَيْهِ آحَادُ الْأُمَّةِ) إذْ شَأْنُ مَنْ كَانَ مُؤَيَّدًا مِنْ عِنْدِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَّلَ لَهُ الْمَحَاسِنَ خَلْقًا وَخُلُقًا وَجَمَعَ لَهُ الْفَضَائِلَ الدِّينِيَّةَ كُلَّهَا نَسَقًا
فَإِنْ قِيلَ التَّحَمُّلُ بِالْمَشَاقِّ الْبَدَنِيَّةِ وَلَوْ لِلْعِبَادَةِ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ التَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ حَتَّى يَصِحَّ تَفْرِيعُهُ عَلَيْهِ قُلْت حَاصِلُ ذَلِكَ الْجَوَابُ رَاجِعٌ إلَى مُقَاسَاةِ مِحَنِ الطَّاعَةِ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرِ الدِّينِيِّ وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ لُزُومِ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ كُلُّ مَا يُكْمِلُ بِهِ عَادَةً وَيُعَدُّ مِنْ كَمَالِ الْإِنْسَانِ عُرْفًا فَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الشِّفَاءِ (وَأَنَّهُ أَخْشَى النَّاسِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَتْقَاهُمْ) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13](وَأَعْلَمُهُمْ بِاَللَّهِ) ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الْعَلِيَّةِ (فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْبُخْلُ) ؛ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ نَافِيَةٌ لَهُ (وَتَرْكُ النُّصْحِ) كَأَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِلْبُخْلِ وَأَنَّ مُوجِبَ كَوْنِهِ رَحْمَةً أَنْ يُوَضِّحَ كُلَّ مَا يَنْفَعُ لِلْأُمَّةِ (وَلَا التَّوَانِي) أَيْ الضَّعْفُ وَالْفُتُورُ فِي إتْيَانِهِ وَتَبْلِيغِهِ لَكَانَ تَقَوِّيهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا التَّكَاسُلُ) ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ خَشْيَةٌ رَبَّانِيَّةٌ لَا يَتَكَاسَلُ فِي طَرِيقِهِ سِيَّمَا مَنْ كَانَ لَهُ وُسْعٌ وَتَقْوَى فَالتَّوَانِي مِمَّنْ لَهُ ضَعْفٌ فِي ذَاتِهِ وَالتَّكَاسُلُ مِمَّنْ
لَيْسَ لَهُ ضَعْفٌ بَلْ لَهُ قُوَّةٌ وَلَكِنْ يَتَكَاسَلُ فَلَيْسَ عَطْفًا لَهُ كَمَا تَوَهَّمَ.
(وَلَا الْجَهْلُ) لَهُ فِيمَا يَنْفَعُهُمْ سِيَّمَا فِي أَمْرِ دِينِهِمْ كَالْإِفْرَاطِ فِي الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ فَلَا يُتَصَوَّرُ لَهُ الْجَهْلُ (فِي أَمْرِ الدِّينِ) الظَّاهِرُ مَعْنَى كَوْنِهِ قَيْدًا لِلْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ لَفْظًا كَوْنُهُ قَيْدًا لِلْأَخِيرِ فَقَطْ وَأَيْضًا هَذَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِقَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ الْقَيْدَ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ هَلْ لِلْمُجْتَمِعِ أَوْ لِلْأَخِيرِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَةِ (فَلَوْ كَانَ فِي الْعِبَادَةِ وَالْقُرْبِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى طَرِيقٌ) مَوْصُولٌ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ غَيْرَ مَا) أَيْ طَرِيقٍ (هُوَ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِيهِ) فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ (لَفَعَلَهُ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَوْ بَيَّنَهُ وَحَثَّ) أَغْرَى وَحَرَّضَ (عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُ هَادِي الْأُمَّةِ وَمُبَلِّغُ الْأَمَانَةِ وَنَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (فَنَجْزِمُ قَطْعًا أَنَّ) جَمِيعَ (مَا هُوَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَقْوَالًا وَأَفْعَالًا وَأَحْوَالًا (وَأَفْضَلُ) عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (وَأَنْفَعُ) لِلْعَابِدِ (وَأَقْرَبُ إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ مِنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ لِلْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الْأَخِيرِ فَقَطْ وَلَوْ خُصَّ بِذَلِكَ فَلَا يَخْلُو عَنْ وَجْهٍ إذْ الْكُلُّ رَاجِعٌ إلَى رِضَاهُ تَعَالَى وَمُعْظَمُ مَقْصُودِ الْمُتَصَوِّفَةِ هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَأَمَّلْ.
هَذَا ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ أَوْ بَيَّنَهُ إنْ أَرَادَ الْبَيَانَ التَّفْصِيلِيَّ فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ عَمَلٍ شَرْعِيٍّ وَأَنَّ الْإِجْمَالِيَّ فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ صُدُورِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ ظَاهِرٌ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] .
وَقَوْلِهِ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وَقَوْلِهِ {كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَامَةُ إعْرَاضِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِهِ اشْتِغَالُهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَأَنَّ امْرَأً لَوْ أَذْهَبَ سَاعَةً مِنْ عُمْرِهِ إلَى غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ لَجَدِيرٌ أَنْ تَطُولَ حَسْرَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَوْلُهُ لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا وَنَحْوُهَا بَيَانٌ إجْمَالِيٌّ لِجَمِيعِ مَا أَتَى بِهِ السَّلَفُ مِمَّا عُدَّ إفْرَاطًا فَمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ لَيْسَ غَيْرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ عَلَى خُصُوصِهِ وَتَفْصِيلِهِ بَيَانٌ نَبَوِيٌّ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَابَ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ النَّبَوِيَّةِ وَإِشَارَاتِهَا وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ التَّجَاوُزُ عَنْ التَّجْدِيدِ النَّبَوِيِّ وَكُلُّهُمْ صَالِحُونَ وَأَكْثَرُهُمْ مُجْتَهِدُونَ وَهُمْ الْعَارِفُونَ مَعَانِيَ النُّصُوصِ وَالْمُرَادَ الْحَقِيقِيَّ مِنْهَا وَفِيهِمْ صَحَابِيٌّ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِ مَنْ بَعْدَهُمْ إيَّاهُمْ فِيمَا شَاعَ وَسَكَتُوا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقِيلِ إذَا لَمْ يَرِدْ إنْكَارٌ مِمَّنْ فِي قَرْنِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ تَابِعِيٌّ وَالتَّابِعِيُّ كَالصَّحَابِيِّ إنْ ظَهَرَ فِي عَصْرِهِمْ عَلَى اخْتِيَارِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَتَصْحِيحِ بَعْضِهِمْ.
وَمَذْهَبُ إمَامِنَا أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تَعَالَى وُجُوبُ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ عَلَى الْأَعْلَمِ مِنْهُ وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِمْ أَعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَالْإِمَامِ كَمَا سَمِعْت سَابِقًا لَعَلَّ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَتَمَشَّى بِجِنْسِ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ سَابِقًا مِنْ التَّوْفِيقِ بِحَالِ الِابْتِدَاءِ كَمَا لِلْعَوَامِّ وَحَالِ الِانْتِهَاءِ كَمَا لِلْخَوَّاصِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ» ، فَإِذَا قَالُوهُ لَا يُنْكِرُهُ إلَّا أَهْلُ الْغُرَّةِ بِاَللَّهِ فُسِّرَ أَهْلُ الْغُرَّةِ بِالْعُلَمَاءِ الظَّاهِرِيَّةِ وَمَا اعْتَذَرَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ فَيُحْمَلُ مَا رُوِيَ إلَخْ فَسَتَعْرِفُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ قِيلَ إشَارَةً إلَى تَعْرِيضِ الْمُصَنِّفِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا مِقْدَارُ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الظَّاهِرِ مِنْ سِيرَتِهِ عليه الصلاة والسلام، وَأَمَّا سِيرَتُهُ الْخَاصَّةُ الْبَاطِنَةُ فَأَسَرَّهَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَوَاصِّ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهَا الْعُلُومُ الْمَخْزُونَةُ وَالْمَعَارِفُ الْإِلَهِيَّةُ الْمَكْنُونَةُ.
وَقَالَ «فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ: وَعَلَّمَنِي عُلُومًا شَتَّى فَعِلْمٌ أَخَذَ عَلَيَّ كِتْمَانَهُ وَعِلْمٌ خَيَّرَنِي فِيهِ وَعِلْمٌ أَمَرَنِي بِتَبْلِيغِهِ» الْحَدِيثُ فَهِيَ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام كَالْعِلْمِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وِعَاءَيْنِ مِنْ الْعِلْمِ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْته، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ
بَثَثْته لَقُطِعَ مِنِّي هَذِهِ الْبُلْعُومُ أَيْ الْحُلْقُومُ أَيْ لَقُتِلَ إلَى آخِرِ مَا قَالَ مِنْ كَلِمِهِ الطِّوَالِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَيْسَ بِصَدَدِ نَفْيِ عِلْمِ الْبَاطِنِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى أَهْلِهِ حَتَّى يَتَوَجَّهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مُقِرٌّ بِأَهْلِهِ وَمُعْتَرِفٌ بِهِ كَيْفَ، وَقَدْ عَظَّمَهُمْ فِيمَا سَبَقَ حِينَ احْتَجَّ بِكَلِمَاتِهِمْ وَفِيمَا سَيَأْتِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَفِي هُنَا تَمَّ الْأَجْوِبَةُ ثُمَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ كَأَنَّهُ قَالَ الِاقْتِصَادُ شَيْءٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالْأَخْبَارُ وَأَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ وَمَا شَأْنُهُ كَذَا فَثَابِتٌ أَوْ لَازِمٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَارَضَ عَلَيْهِ السَّائِلُ بِقَوْلِهِ أَنَّ هَذَا مُعَارَضٌ بِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَمَا شَأْنُهُ كَذَا فَلَيْسَ بِثَابِتٍ.
وَتَوْجِيهُ الْجَوَابِ بِمَنْعِ التَّعَارُضِ أَوَّلًا بِاسْتِنَادِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَبَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ بِمَنْعِ صِحَّةِ النَّقْلِ عَنْ السَّلَفِ ثَانِيًا بِاسْتِنَادِ عَدَمِ التَّفَحُّصِ وَخُلُوِّ الْأَكْثَرِ عَنْ الْأَسَانِيدِ فَالْأَوَّلُ مَنَعَ وُجُودَ أَصْلِ التَّعَارُضِ وَالثَّانِي بِالتَّرْجِيحِ وَلَعَلَّ الْجَوَابَ الثَّالِثَ مِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ الْمُدَّعَى بِالدَّلِيلِ وَلَعَلَّك تَقُولُ مُعَارَضَةٌ عَلَى الْمُعَارَضَةِ كَمَا جَوَّزَ فِي مَحَلِّهَا تَقْرِيرَ اللَّمِّيِّ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ الِاقْتِصَادُ لَأَفْضَى إلَى هَلَاكِ النَّفْسِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ وَتَقْرِيرُ الْإِنِّيِّ لَوْ كَانَ الثَّابِتُ شَرْعًا غَيْرَ الِاقْتِصَادِ لَبَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ فَلَيْسَ أَيْضًا أَوْ تَقُولُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ مُفْضٍ إلَى الْهَلَاكِ فَلَيْسَ بِثَابِتٍ أَوْ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ أَمْرٌ لَمْ يُبَيِّنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ بِثَابِتٍ.
وَوَجْهُ كَوْنِ الْأَوَّلِ لَمِّيًّا أَنَّهُ عِلَّةٌ فِي الْخَارِجِ وَالذِّهْنِ مَعًا وَالثَّانِي إنِّيًّا أَنَّهُ عِلَّةٌ فِي الذِّهْنِ فَقَطْ إذَا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ وَجْهُ عَدَمِ فِعْلِهِ وَبَيَانِهِ عليه الصلاة والسلام فَتَأَمَّلْ وَلَمَّا لَزِمَ مِنْ الْجَوَابِ تَخْطِئَةُ السَّلَفِ أَشَارَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْهُمْ بِتَأْوِيلِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ فَقَالَ (فَيُحْمَلُ) بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ صِيغَةُ مَجْهُولٍ وَبِالنُّونِ مَعْلُومٌ.
(مَا رُوِيَ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ التَّشْدِيدَ إمَّا مُدَاوَاةً) مِنْ الدَّوَاءِ (لِأَمْرَاضِ الْقُلُوبِ) ؛ لِأَنَّ لِلْقُلُوبِ مَرَضًا كَمَا لِلْأَجْسَامِ وَكَمَا أَنَّ الْأَمْرَاضَ الْجِسْمِيَّةَ تُدَاوَى كَذَلِكَ الْقَلْبِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَبْدَأُ كُلِّ مَكَارِهٍ مِنْ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَالْقَبَائِحِ الْأَرْكَانِيَّةِ الْجَارِحِيَّةِ النَّاشِئَةِ مِنْ الْغَفَلَاتِ وَالْغُرُورِ وَالِاشْتِغَالِ بِاكْتِسَابِ الْفَانِيَاتِ وَعَاجِلَاتِ السُّرُورِ فَمُعَالَجَةُ ذَلِكَ بِدَوَاءِ الْأَضْدَادِ مِنْ الصِّيَامِ عَلَى الدَّوَامِ وَالصَّلَاةِ سِيَّمَا فِي دَوَامِ الْقِيَامِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يُوجِبُ كَالْمُنَاكَحَةِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ صَرِيحٌ فِي صُدُورِ تِلْكَ التَّشْدِيدَاتِ مِنْ السَّلَفِ وَمَآلُ الْأَجْوِبَةِ عَلَى عَدَمِهِ إذْ الْكَلَامُ عَلَى اعْتِقَادِ حُسْنِ السَّلَفِ فَمَنْ يَعْتَقِدُ حُسْنَهُمْ لَا يَنْسُبُهُمْ إلَى فِعْلٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ عَدَمُ جَوَازِ الصُّدُورِ مَا يَكُونُ بِلَا تَأْوِيلٍ وَمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مَا بِتَأْوِيلٍ فَلَا تَعَارُضَ لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ.
(أَوْ لِكَوْنِ الْعِبَادَةِ عَادَةً لَهُمْ) بِكَثْرَةِ التَّكْرَارِ وَدَوَامِ الِاسْتِمْرَارِ لَكِنْ يَرُدُّهُ حَدِيثُ «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» مَعَ أَنَّ شَأْنَ السَّلَفِ الْتِزَامُ إتْيَانِ الْأَفْضَلِ (وَطَبْعًا) أَيْ كَطَبْعٍ بِلَا تَكَلُّفٍ (كَغِذَاءٍ لِلصَّحِيحِ) فِي أَنَّ صَحِيحَ الْبَدَنِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْغِذَاءِ لِإِبْقَاءِ صِحَّتِهِ وَدَوَامِ رُوحِهِ (فَيَتَلَذَّذُونَ بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَالْعَارِفُ قَدْ يَأْنَسُ بِالْعِبَادَاتِ فَيَسْتَلِذُّ فَيَكُونُ الْمَنْعُ أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ مَا أَخَافُ مِنْ الْمَوْتِ إلَّا مِنْ حَيْلُولَتِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ قِيَامِ اللَّيْلِ.
وَقَالَ آخَرُ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي قُوَّةَ الصَّلَاةِ فِي الْقَبْرِ انْتَهَى لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ مَا أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ أَنَا وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَدْخَلْت ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ لَحْدَهُ وَمَعِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ فَلَمَّا سَاوَيْنَا عَلَيْهِ اللَّبِنَ سَقَطَتْ لَبِنَةٌ، فَإِذَا أَنَا بِهِ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ.
وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ أَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِمْ أَشَدُّ لَذَّةً مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ وَعَنْ بَعْضٍ لَا يُشْبِهُ شَيْءٌ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ إلَّا حَلَاوَةُ الْمُنَاجَاةِ ثَوَابٌ عَاجِلٌ لَهُمْ.
وَعَنْ ابْنِ بَكَّارَ أَنَّهُ قَالَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا أَحْزَنَنِي إلَّا طُلُوعُ الْفَجْرِ وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ كَيْفَ أَنْتَ بِاللَّيْلِ قَالَ مَا رَاعَيْته قَطُّ يُرِينِي وَجْهَهُ وَمَا تَأَمَّلْته كَذَا فِي الْعَوَارِفِ (بِلَا إضَاعَةِ حَقٍّ) لَهُ تَعَالَى وَلِعَبْدِهِ كَمَا مَرَّ
(وَلَا تَرَكَ)(مُدَاوَمَةَ) الْعِبَادَاتِ اللَّازِمَةِ كَالْجَمَاعَةِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ (وَلَا اعْتِقَادَ أَنَّهُ) أَيْ التَّشْدِيدُ (أَفْضَلُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الْبَشَرِ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الِاقْتِصَادِ وَالتَّوَسُّطِ (أَوْ) أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي (قَالَهُ)
بَلْ شَأْنُهُمْ اسْتِقْصَارُ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ دَائِمًا وَيَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ تِلْكَ الطَّاعَاتِ أَحْقَرَ مِنْ الْكُلِّ بِالذُّنُوبِ وَالتَّقْصِيرَاتِ.
كَمَا حُكِيَ عَنْ خَوَاجَهْ بَهَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ النَّقْشَبَنْدِيِّ قَدَّسَ سِرَّهُ الْعَزِيزُ أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ الْكَرَامَةِ أَيُّ كَرَامَةٍ أَعْظَمُ مِنْ الْمَشْيِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ هَذِهِ الذُّنُوبِ الْكَثِيرَةِ وَسَتَسْمَعُ مِنْ الْمُصَنِّفِ بَعْضَ اسْتِحْقَارِ أَنْفُسِهِمْ لَا يَخْفَى أَنَّ سِيَاقَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ عليه الصلاة والسلام وَأَنَّهُمْ أَحِقَّاءٌ وَمِنْ الْيَقِينِ الْقَطْعِيِّ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَهُ عليه الصلاة والسلام لَيْسَ بِحَقٍّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْحَقِيقَةُ مَعَ غَيْرِيَّةِ مَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ إنْ أُخِذَ مِنْ الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِ مَا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَّا فَيَكُونُ رَأْيًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَحَسَنًا عَقْلِيًّا وَتَقْيِيدًا لِمُطْلَقَاتِ النُّصُوصِ فَلَا يَكُونُونَ عَلَى حَقٍّ وَأَيْضًا يَجُوزُ لِكُلٍّ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ بِهَذَا التَّأْوِيلِ فَلَا تَبْقَى فَائِدَةٌ مِنْ مَنْعِ هَذَا التَّشْدِيدِ وَتَخْصِيصِ الْمَنْعِ بِغَيْرِ هَذَا التَّأْوِيلِ بَعِيدٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ النُّصُوصَ وَالْأَخْبَارَ بِتَعَاضُدِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ مُفَسِّرَاتٌ فَلَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ غَايَةَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرْعِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاقْتِصَادِ هُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَوْلَى لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّهُمْ طَائِفَةٌ الْتَزَمُوا جَانِبَ الْعَزِيمَةِ وَالِاحْتِيَاطِ نَحْوُ الْوَاجِبِ وَالْحَمْلِ عَلَى عَدَمِ عِرْفَانِهِمْ جَانِبَ الْأَوْلَى أَصْعَبُ كَيْفَ وَأَكْثَرُهُمْ مُجْتَهِدٌ وَجَمِيعُهُمْ فِي قُرْبِ عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى صَنِيعِهِمْ عَلَائِمُ قَبُولِ آثَارِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ نَحْوِ الْكَرَامَاتِ الْعِيَانِيَّةِ، وَالْقَوْلُ أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مُخَالَفَاتِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ مَعَ بَعْضٍ لَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ أَيْضًا
وَبِالْجُمْلَةِ أَنِّي لَمْ أَجِدْ فِي الْمَقَامِ شَيْئًا غَيْرَ قُصُورِ فَهْمِي حَقِيقَةَ الْمَرَامِ (وَأَمَّا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ بَلَغَ الدَّرَجَةَ الْعُلْيَا مِنْ الْكَمَالِ) الْمُمْكِنِ لِلْبَشَرِ بِعِنَايَةٍ مِنْ رَبِّهِ تَعَالَى قِيلَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا كَمَا يَدُلُّ تَفَرُّغُهُ فِي غَارِ حِرَاءَ - {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8]- وَيُوَاصِلُ فِي صِيَامِهِ وَيُبَالِغُ فِي قِيَامِهِ وَلَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ بِكَثْرَةِ عِبَادَةٍ أَصْلًا فَتَأَمَّلْ مَا فِيهِ (وَهِيَ) أَيْ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا (أَنْ لَا يَمْنَعَ عَنْ تَوَجُّهِ الْقَلْبِ) إلَى عَالِمِ الْقُدْسِ وَالنُّورِ (بِشَيْءٍ) مِنْ الْعَوَائِقِ الْجِسْمِيَّةِ وَالشَّوَاغِلِ الْبَشَرِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ (لَا التَّكَلُّمِ مَعَ الْخَلْقِ وَلَا الْأَكْلِ وَلَا الشَّرَابِ وَلَا النَّوْمِ وَلَا مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ) مِنْ اللَّمْسِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ (وَتَكُونُ الْخُلْطَةُ) مَعَ الْخَلْقِ (وَالْعُزْلَةُ) مِنْ الْخَلْقِ عِنْدَهُ (سَوَاءً) .
قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ أَكَابِرِ الصُّوفِيَّةِ الْخَلْوَةُ فِي الْجَلْوَةِ وَالْعُزْلَةُ فِي الْخُلْطَةِ وَالصُّوفِيُّ كَائِنٌ بَائِنٌ وَغَرِيبٌ قَرِيبٌ وَعَرْشِيٌّ فَرْشِيٌّ، فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِاشْتِغَالِ هَذِهِ الْحِسِّيَّاتِ لَا يَغِيبُ وَلَا يُذْهِلُ عَنْ مُطَالَعَةِ جَلَالِ اللَّهِ وَجَمَالِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]، فَإِنْ قِيلَ الذِّهْنُ بَسِيطٌ لَا يَتَعَلَّقُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِأَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]- قُلْنَا قَالُوا يَتَيَسَّرُ التَّوَجُّهُ التَّامُّ دَفْعَةً إلَى شَيْئَيْنِ لِلْمُجَرَّدِينَ عَنْ الْعَوَائِقِ الْبَشَرِيَّةِ وَلِذَوِي النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ الْقَوِيَّةِ.
وَلِهَذَا «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدَبِّرُ أَمْرَ الْجَيْشِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ» مَعَ حُضُورِ الصَّلَاةِ وَخُشُوعِهَا وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «ذَكَرْت وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ تِبْرًا عِنْدَنَا فَكَرِهْت أَنْ يَبِيتَ عِنْدَنَا فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ» وَفِي شَرْحِهِ وَفِي رِوَايَةٍ فَقَسَمْتُهُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّفَكُّرَ بِغَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ لَا يُنْقِصُ كَمَالَهَا وَأَنَّ النِّيَّةَ فِيهَا إلَى شَيْءٍ
جَائِرٍ لَيْسَتْ بِمُضِرَّةٍ (فَاقْتِصَارُهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى بَعْضِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ) فِي التَّقْيِيدِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الِاقْتِصَادَ إنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَةِ الْبَاطِنِيَّةِ فَلَا يَغِيبُ عَنْهَا وَلَا يَنْفَكُّ بِحَالٍ أَصْلًا (لِكَوْنِهَا أَفْضَلَ) فِي التَّفْرِيعِ خَفَاءٌ سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِهِ (وَلِأُمَّتِهِ) إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ تَشْدِيدَ الْعِبَادَاتِ لَمَّا كَانَ لِاسْتِحْصَالِ تَوَجُّهِ الْقَلْبِ عِنْدَ الْخُلْطَةِ وَكَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا بِدُونِ التَّشْدِيدِ لَهُ عليه الصلاة والسلام فَاقْتِصَارُهُ إلَى آخِرِهِ لَا يَخْفَى مَعَ بُعْدِهِ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْخُلَفَاءَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُمَّتِهِ إذْ لَيْسَ لَهُمْ الْمُفَرَّعُ عَلَيْهِ، وَإِنَّ مِنْ الْأُمَّةِ السَّلَفُ فَيُورَثُ سُوءُ الظَّنِّ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْأَفْضَلَ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ (وَتَلَذُّذُهُ) مِنْ اللَّذَّةِ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ الذَّوْقُ الصَّحِيحُ عِنْدَ التَّجَرُّدِ التَّامِّ وَالِاتِّصَالِ بِعَالَمِ الْقُدْسِ وَالنُّورِ فِي حَالَةِ تَرْكِ الْمَحْسُوسَاتِ الظُّلْمَانِيَّةِ وَالْمَأْنُوسَاتِ الْجِسْمَانِيَّةِ وَقَطْعِ الْخَوَاطِرِ الْوَهْمِيَّةِ وَالْخَيَالِيَّةِ (- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِمٌ) فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ (لَا يَخْتَصُّ بِالْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ) يَعْنِي لَا يَخْتَصُّ حُصُولُهُ بِالْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهَا كَمَا هُوَ كَذَلِكَ لِلْأُمَّةِ، فَإِنَّ تَلَذُّذَهُمْ بِالْعِبَادَاتِ أَوْ عِنْدَهَا فَافْهَمْ.
وَفِي التَّعْبِيرِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ لَذَّتَهُ كَمَا كَانَتْ عِنْدَ الطَّاعَةِ الظَّاهِرَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْخُلُوِّ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ الْآفَاقِيَّةَ إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ تَوَجُّهِهِ فَبِالْأَوْلَى الْعِبَادَاتُ فَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ عَلَى التَّفْرِيعِ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْمُلَازَمَةِ عَلَى طَرِيقِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَلَذُّذَهُ بِشُهُودِ التَّجَلِّي فِي دَوَامِ التَّرَقِّي وَعَلَيْهِ قَدْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ وُصُولِهِ إلَى الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا يُسْتَقْصَرُ مَا دُونَهَا وَيَجِدُهُ غَيْنًا أَيْ حِجَابًا.
(وَقَدْ بَلَغَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ) رحمه الله تَعَالَى لَعَلَّ فَائِدَةَ هَذَا النَّقْلِ تَوْضِيحُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ التَّشْدِيدَ فِي الْعِبَادَاتِ إنَّمَا هُوَ لِاسْتِحْصَالِ رُتْبَةِ مَلَكَةِ الطَّبِيعَةِ وَدَوَامِ التَّوَجُّهِ إلَى جَانِبِ الْقُدْسِ وَعِنْدَ الْحُصُولِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ يُشْعِرُ ذَلِكَ بِتَسَاوِي حَالِ النَّبِيِّ مَعَ الْوَلِيِّ وَلَنْ يَبْلُغَ أَعْلَى دَرَجَةِ وَلِيٍّ أَكْمَلَ إلَى أَدْنَى دَرَجَةِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قُلْت لَيْسَ بِتَمْثِيلٍ بَلْ تَنْظِيرٌ أَوْ بِحَسَبِ الْجِنْسِ لَا بِحَسَبِ التَّسَاوِي فِي النَّوْعِ وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ النَّصِّ يَعْنِي إذَا كَانَ حَالُ الْوَالِي فِي تَرْكِ التَّكَلُّفِ عِنْدَ بُلُوغِ الْكَمَالِ كَذَلِكَ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ فَيَنْدَفِعَ مَا يُتَوَهَّمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ كَوْنُهُ تَنْظِيرًا لِلُزُومِ قُوَّةِ الْحُكْمِ فِي التَّنْظِيرِ إذْ هُوَ فِي حُكْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَافْهَمْ (إلَى حَيْثُ كَانَ لَهُ حَظٌّ) نَصِيبٌ (مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ) أَيْ جِنْسِهَا كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ الْحَظِّ بِمَعْنَى الْحِصَّةِ وَمِنْ الظَّاهِرَةِ فِي التَّبْعِيضِ، فَإِنَّهُ بَعْضٌ مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِتْمَامِهِ وَبِهِ يَظْهَرُ ضَعْفُ مَا يُقَالُ: إنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الَّتِي بَلَغَ إلَيْهَا هِيَ دَرَجَتُهُ عليه الصلاة والسلام بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عَنْهُ.
فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ (حَتَّى قَالَ مَنْ رَآنِي الْآنَ صَارَ زِنْدِيقًا) ؛ لِأَنَّ هَذَا الْآنَ آنُ النِّهَايَةِ وَزَمَانُ الْوِصَالَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِأَنْوَارِ الْجَبَرُوتِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ بَلْ هُوَ غَايَةُ عِلْمِ الْعُلَمَاءِ وَنِهَايَةُ حِكْمَةِ الْحُكَمَاءِ فَسَائِرُهُ جَمِيعًا كَالْمَبَادِئِ الْمُوَصِّلَةِ وَالْمُقَدِّمَاتِ الْمُنْتِجَةِ لَهُ فَعِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى مِثْلِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالنَّوَافِلِ هُوَ الْبُلُوغُ إلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَعِنْدَ الْبُلُوغِ إذَا تَرَكَ الْفَضَائِلَ فَيَظُنُّ بَعْضُ الْقَاصِرِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ إيَّاهُ عَدَمَهَا فَيَتْرُكُهَا اقْتِدَاءً بِهِ وَالْحَالُ أَنَّ تَرْكَهُ لِاشْتِغَالِ بَاطِنِهِ بِمَا هُوَ أَكْمَلُ وَأَشْرَفُ مِنْهُ كَمَا حَكَى عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ الشَّلَبِيِّ. قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ بِفَتْحِ بَابِ الْإِفَادَةِ لِنَفْعِ أَصْحَابِ الِاسْتِفَادَةِ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَحُضُورُ قَلْبِي فِي اسْتِغْرَاقِ نُورِ رَبِّي خَيْرٌ مِنْ عُلُومِ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ قَالَ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ زُبْدَةُ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالسَّائِرُ كَالْعَارِضِ فَاقْصِدْ بِالْمَقْصِدِ الْأَقْصَى وَالْمُسْنَدِ الْأَعْلَى وَالْمَقَامِ الْأَسْنَى وَالْحَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلزِّيَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى انْتَهَى فَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ يَقْصِرُ الْعِبَادَةَ الظَّاهِرَةَ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ الْمُؤَكَّدَاتِ لِاشْتِغَالِهِ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ الشُّهُودُ وَالْحُضُورُ بِاَللَّهِ فَيَتْرُكُ بَعْضَ الْقَاصِرِينَ مَا تَرَكَهُ اقْتِدَاءً بِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَيَصِيرُ زِنْدِيقًا أَيْ كَزِنْدِيقٍ فِي عَدَمِ مُبَالَاةِ الْفَضَائِلِ وَالنَّوَافِلِ فَمِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ كَزَيْدٍ أَسَدٌ وَقِيلَ لِتَرْكِهِ الْعِبَادَةَ الظَّاهِرَةَ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِدِينِ اللَّهِ فَيَكْفُرُ فَيَكُونُ زِنْدِيقًا حَقِيقَةً وَأَنْتَ تَعْلَمُ فَسَادَهُ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ إكْفَارُ كُلِّ تَارِكِي الْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ سِيَّمَا الْفَضَائِلِ.
(وَمَنْ رَآنِي قَبْلُ) أَيْ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى هَذَا الْمَقَامِ وَهُوَ زَمَانُ كَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ لِخُلُوِّ الْبَاطِنِ مِنْ لَمَعَاتِ الْبَوَارِقِ الْإِلَهِيَّةِ (صَارَ صِدِّيقًا) لِاقْتِدَائِهِ بِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ فِي الطَّاعَاتِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مَقَامِ الصِّدِّيقِينَ، فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ صَعِدَتْ نُفُوسُهُمْ تَارَةً بِمَرَاقِي النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ وَأُخْرَى بِمَعَارِجِ التَّصْفِيَةِ وَالرِّيَاضَاتِ أَوْجَ الْعِرْفَانِ حَتَّى اطَّلَعُوا عَلَى الْأَشْيَاءِ وَأَخْبَرُوا عَنْهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
(حَيْثُ كَانَ فِي نِهَايَةٍ يَقْتَصِرُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ) الْمُؤَكَّدِ وَيَتْرُكُ سَائِرَ الْفَضَائِلِ وَالنَّوَافِلِ (وَيَأْكُلُ) يَعْنِي لَا يَدُومُ بِالصِّيَامِ (وَيَشْرَبُ وَيَنَامُ) بِلَا إحْيَاءِ اللَّيَالِيِ بِالصَّلَوَاتِ وَالتَّهَجُّدَاتِ كَمَا هِيَ وَظَائِفُ أَوَّلِ الْحَالَاتِ (كَالْعَوَامِّ) مِنْ حَيْثُ ظَاهِرُهُ وَلِذَا قِيلَ لَا يَضُرُّ الْعَارِفَ قِلَّةُ الْعَمَلِ إذْ يَكُونُ سَيْرُهُ قَلْبِيًّا وَلَا تَظُنَّنَّ هُنَا سُقُوطَ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهُ إلْحَادٌ وَكُفْرٌ بِلَا كَلَامٍ بَلْ قَدْ عَرَفْت أَنَّ مُتَارَكَتَهُمْ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْفَضَائِلِ لَا الْوَاجِبَاتِ وَلَا السُّنَنِ وَعَرَفْت أَيْضًا أَنَّ مُتَارَكَتَهُمْ الْفَضَائِلَ لَيْسَ لِاعْتِقَادِهِمْ عَدَمَ النَّفْعِ وَلَا الْكَسَلَ بَلْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْأَكْمَلِ مِنْهَا وَلِأَنَّهُمْ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا.
(وَفِي بِدَايَتِهِ يَجْتَهِدُ) غَايَةَ الِاجْتِهَادِ (وَيَرْتَاضُ) بِأَنْوَاعِ الرِّيَاضَاتِ (فَمَنْ رَأَى اجْتِهَادَهُ يَجْتَهِدُ كَاجْتِهَادِهِ حَتَّى يَصِيرَ صِدِّيقًا وَمَنْ رَآهُ فِي نِهَايَتِهِ) النِّهَايَةُ إضَافَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَنْ يَنْتَهِيَ مُنْتَهَاهُ فِيهَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ بَلْ فِي الْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ أَيْضًا (يُنْكِرُهَا الِاجْتِهَادُ) بِالْفَضَائِلِ الظَّاهِرَةِ (وَالطَّرِيقَةُ أَصْلًا) مِنْ أَصْلِهَا الْمَأْخُوذَةُ عَنْ صَدْرِ السَّعَادَةِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتَةِ بِأَسَانِيدِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ أَعْدَلِ الْأَسَانِيدِ وَأَزْكَاهَا (فَيُخَافُ عَلَيْهِ الْكُفْرُ)
نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ حَاشِيَةٌ هُنَا كَمَا أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ الطَّرِيقَةَ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ الطَّرِيقَةَ وَأَهْلَهَا حَتَّى يَرَى مِنْهُمْ مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ انْتَهَى لَا يَخْفَى مَا فِي مُلَازَمَةِ إنْكَارِ الطَّرِيقِ بَلْ اللَّازِمُ إنْكَارُ الِاجْتِهَادِ فِي الْفَضَائِلِ فَقَطْ وَوَجْهُ خَوْفِ الْكُفْرَانِ عَلَى إنْكَارِ أَصْلِهَا وَإِلَّا فَلَا وَوَجْهُ الْخَوْفِ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَا ثَبَتَ تَوَاتُرٌ وَلَا مَعْنًى أَوْ مَشْهُورًا فَيَخَافُ عَلَيْهِ مَا يَخَافُ فَتَأَمَّلْ.
وَقِيلَ فِي الْوَجْهِ يَعْنِي أَنَّ تَرْكَهَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِخْفَافِ بِهَا أَوْ بِأَهْلِهَا بِسَبَبِهَا قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ كُفْرٌ.
وَعَنْ التَّتِمَّةِ مَنْ أَهَانَ الشَّرِيعَةَ أَوْ الْمَسَائِلَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا كَفَرَ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَ أَوَّلُ حَالِ الشَّيْخِ هُوَ التَّشْدِيدَ فِي الطَّاعَاتِ وَكَانَ الْمُقْتَدِي بِهِ صِدِّيقًا يَلْزَمُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ تِلْكَ إتْيَانُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ وَالْكَلَامُ عَلَى مَنْعِهِ فَيَلْزَمُ إثْبَاتُ مَا نُفِيَ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَا أُثْبِتَ هُنَا لَيْسَ بِبَالِغٍ إلَى مَرْتَبَةِ مَا نُفِيَ بَعِيدٌ يَظْهَرُ بِمُلَاحَظَةِ سَوْقِ الْكَلَامِ.
(وَلَوْ تَأَمَّلْت فِيمَا كَتَبْنَا سَابِقًا) مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاقْتِصَادِ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ وَقَالَ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إلَى هُنَا (وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ) عَنْ السَّلَفِ فِي حَقِّ التَّشْدِيدَاتِ (حَقَّ التَّأَمُّلِ) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لَتَأَمَّلْت أَيْ التَّأَمُّلَ الصَّادِقَ (وَجَدْت فِي أَكْثَرِهَا) أَيْ أَكْثَرِ الْمَكْتُوبَةِ عَنْهُمْ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَكْثَرُهُمَا أَيْ أَكْثَرُ الْمَكْتُوبِ وَالْمَنْقُولِ (إشَارَةً إلَى هَذَا) أَيْ الْجَوَابِ الثَّالِثِ أَمَّا الْإِشَارَةُ إلَى الْجَوَابِ اللَّمِّيِّ فَكَأَكْثَرِ الْآيَاتِ إذْ عَدَمُ إرَادَةِ الْعُسْرِ مِنْ اللَّهِ وَإِرَادَةُ الْيُسْرِ وَعَدَمُ الْحَرَجِ يَقْرُبُ؛ لَأَنْ يَكُونَ عَنْ هِلَالِ النَّفْسِ وَإِضَاعَةِ الْحَقِّ وَتَرْكِ الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا إلَى الْأَنِيِّ فَكَأَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ؛ لِأَنَّهَا مُنْبِئَةٌ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَوْ تَصَوَّرَ أَوْلَى وَأَنْفَعَ مِنْهُ لَفَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ جَعَلَ الْإِشَارَةَ إلَى مُجَاهَدَتِهِمْ فِي بِدَايَتِهِمْ لِلتَّمَكُّنِ الْمَذْكُورِ فَقَدْ ذَهِلَ عَمَّا قَصَدَ فِي الْمَقَامِ مَعَ أَنَّ التَّفْرِيعَ الْآتِيَ بِقَوْلِهِ (فَيَخْلُو مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ) لَيْسَ بِحَسَنٍ جَيِّدٍ (مِنْ التَّشْدِيدِ عَنْ الْعِلَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ) ؛ لِأَنَّهُمْ فِي هَذَا التَّشْدِيدِ لَا يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا يُضَيِّعُونَ حَقًّا لِأَحَدٍ وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى مَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَّنَهُ لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْأَخِيرِ.
(وَهَذَا) أَيْ الْجَوَابُ الثَّالِثُ إذًا لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ لَا يَسْتَقِيمَانِ عَلَى هَذَا وَلِذَا أُشِيرَ هُنَالِكَ إلَى التَّسْلِيمِ فِيهَا (وَهُوَ الْمَحْمَلُ الصَّحِيحُ وَالْحَقُّ الصَّرِيحُ) لَعَلَّ الْمَحْمَلَ الْأَلْيَقَ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ سَابِقًا مِنْ أَنَّ تِلْكَ النُّصُوصَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَوَامّ وَمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ حَالَ الْخَوَاصِّ وَمِثْلُهُ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي الشَّرْعِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ وَلَدُهَا فِي تَرْبِيَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ فَيَوْمًا جَاءَتْ لِرُؤْيَةِ وَلَدِهَا، فَإِذَا هُوَ عَلَى حَصِيرٍ يَأْكُلُ رَغِيفَ شَعِيرٍ بِجَرِيشِ الْمِلْحِ ثُمَّ زَارَتْ الشَّيْخَ فَرَأَتْهُ عَلَى فُرُشٍ نَفِيسَةِ يَأْكُلُ خُبْزًا لَطِيفًا وَدَجَاجًا فَصَاحَتْ ابْنِي يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَهُوَ عَلَى الْحَصِيرِ وَأَنْتَ تَأْكُلُ الدَّجَاجَ فَنَظَرَ الشَّيْخُ إلَى ذَلِكَ الدَّجَاجِ وَقَالَ قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَادَ حَيًّا فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ إذَا صَارَ ابْنُك لِهَذَا الْمَقَامِ فَلْيَأْكُلْ مَا أَرَادَ مِنْ الطَّعَامِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَحْوَالَهُمْ مِنْ بَابِ خَرْقِ الْعَادَةِ لَا مِنْ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ لِالْتِحَاقِهِمْ بِالْمَكُوتِيَّةِ يَسْتَغْنُونَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُوتِيَّةُ لِتَغَذِّيهِمْ بِالذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وباستغراقاتهم فِي لَذَّةِ وِصَالِ رَبِّهِمْ وَبِخَوْفِهِمْ مِنْ عَظَمَةِ رَبِّهِمْ يَذْهَبُ عَنْهُمْ الْجُوعُ كَمَا أَنَّ شَخْصًا يَطْرُقُهُ فَرَحٌ فَيَذْهَبُ عَنْهُ الْجُوعُ إذَا كَانَ حَالُهُمْ عَلَى مَا عَرَفْت سِيَّمَا قَضِيَّةِ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ مِنْهُمْ.
(فَلَا تُفْرِطْ) مِنْ الْإِفْرَاطِ كَمَا فِي حَالِ بِدَايَتِهِمْ، فَإِنَّ مَا يُرَى مِنْ الْإِفْرَاطِ الظَّاهِرِيِّ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّ لَهُ مَحْمَلًا صَحِيحًا