المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[أنواع البدعة وأحكامها] - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية - جـ ١

[محمد الخادمي]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مُطْلَقُ الِاعْتِصَامِ]

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي فِي الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي بَيَان الْبِدَعِ]

- ‌[أَنْوَاعِ الْبِدْعَةِ وَأَحْكَامِهَا]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ الِاقْتِصَادِ فِي الْعَمَلِ]

- ‌[الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ]

- ‌[الْأَدِلَّةُ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةُ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَصْحِيحِ الِاعْتِقَادِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْعُلُومِ الْمَقْصُودَةِ لِغَيْرِهَا]

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الْمَأْمُورِ بِهَا]

- ‌[الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ فَرْضُ الْعَيْنِ]

- ‌[الصِّنْفُ الثَّانِي فِي فَرْضُ الْكِفَايَةِ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي الْعُلُومِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا]

- ‌[النَّوْعُ الثَّالِثُ الْعُلُومِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا]

الفصل: ‌[أنواع البدعة وأحكامها]

الْعَادِيَّاتُ لَيْسَ بِمُخَالَفَةٍ لِلسُّنَّةِ، وَالْبِدْعَةُ مَا تَكُونُ مُخَالِفَةً لِلسُّنَّةِ فَلَا تَتَنَاوَلُ الْبِدْعَةُ، وَالضَّلَالَةُ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْعَادِيَّاتِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا حَدَثَ بَعْدَ الرَّسُولِ حِينَ الْخُلَفَاءِ فَفِيهِ تَأَمَّلْ.

(وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» ؛ لِأَنَّ بِعْثَتِي إنَّمَا هِيَ لِلدِّينِ لَا لِلدُّنْيَا فَأَنْتُمْ لَا تَتَوَقَّفُونَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا عَلَيَّ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْإِذْنِ إلَى مَا يَحْدُثُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا فَلَا تَكُونُ الْعَادِيَّاتُ مَمْنُوعَةً فَلَا تَتَنَاوَلُ إلَيْهَا.

(وَقَوْلُهُ «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا» أَيْ شَرْعِنَا وَدِينِنَا هَذَا «مَا لَيْسَ مِنْهُ» صَرَاحَةً أَوْ إيمَاءً أَوْ إشَارَةً بِأَنْ لَمْ يَبْنِ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ «فَهُوَ رَدٌّ» فَمَا يَكُونُ مُحْدَثًا فِي غَيْرِ أَمْرِ الدِّينِ لَيْسَ بِرَدٍّ وَمَا لَا يَكُونُ مَرْدُودًا لَا يَكُونُ بِدْعَةً لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالِفِ وَذَا لَيْسَ بِجَائِزٍ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ لَا بِالْمَفْهُومِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَ فِي غَيْرِ الدِّينِ لَيْسَ بِضَلَالٍ ثُمَّ حَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَفُهِمَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَعْضَ الْبِدْعَةِ لَيْسَ بِضَلَالَةٍ فَتَنَاقَضَا وَحَاصِلُ الْجَوَابِ الْبِدْعَةُ فِي الْحَدِيثِ شَرْعِيَّةٌ.

وَفِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ لُغَوِيَّةٌ فَمَوْضُوعَا الْقَضِيَّتَيْنِ لَيْسَا بِمُتَّحِدَيْنِ، وَقَدْ شَرَطَ فِي التَّنَاقُضِ اتِّحَادَهُمَا ثُمَّ قَوْلُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ إلَخْ إشَارَةٌ إلَى دَلِيلِ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنْ الْحَدِيثِ الشَّرْعِيَّةَ وَلَمْ يُشِرْ إلَى قَرِينَةِ إرَادَةِ اللُّغَوِيِّ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ إمَّا لِكَوْنِ بَقَائِهِ عَلَى الْأَصْلِ اللُّغَوِيِّ أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَصْبِ الْعَيْنِ فِي الْمَقَامِ.

[أَنْوَاعِ الْبِدْعَةِ وَأَحْكَامِهَا]

(وَالْبِدْعَةُ فِي الِاعْتِقَادِ)

الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ تَتِمَّةِ الْجَوَابِ السَّابِقِ بَلْ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ يُرَادُ بِهِ تَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الْبِدْعَةِ وَأَحْكَامِهَا وَتَفَاوُتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ وَلَوْ حُمِلَ إلَى جَوَابٍ آخَرَ أَوْ إلَى تَفْصِيلِ الْجَوَابِ السَّابِقِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ فَتَدَبَّرْ (هِيَ الْمُتَبَادَرَةُ مِنْ إطْلَاقِ الْبِدْعَةِ) لِكَوْنِهِ كَمَالَهَا وَعِظَمَ مَفْسَدَتِهَا أَوْ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِيهِ لِوُفُورِ دَوَاعِي الْمُكَالَمَةِ مَعَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ (وَ) إطْلَاقِ (الْمُبْتَدَعِ وَالْهَوَى وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ) يُقَالُ لِلْفِرَقِ الضَّالَّةِ أَهْلُ الْهَوَى فَالْمُتَبَادَرُ عِنْدَ إطْلَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا هِيَ الْبِدْعَةُ فِي الِاعْتِقَادِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْبِدْعَةَ الْمَذْمُومَةَ بِلِسَانِ الْأَحَادِيثِ سِيَّمَا الْبِدْعَةُ فِي قَوْلِهِ «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» مُطْلَقَةٌ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَتَنَاوَلَ الْبِدْعَةَ فِي الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الشُّمُولُ وَدَعْوَى عَدَمِ قَصْدِيَّةِ الشُّمُولِ يُنَافِي السِّيَاقَ وَالسِّيَاقُ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا» لَا سِيَّمَا رِوَايَةُ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا» تَفْسِيرًا لِبَعْضٍ آخَرَ (فَبَعْضُهَا كُفْرٌ) الْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ أَيْ عَطْفِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الْمُجْمَلِ لَعَلَّ الْأَوْلَى تَرْكُهَا وَاسْتِئْنَافُهَا.

وَالْكُفْرُ كَاعْتِقَادِ الْجِسْمِيَّةِ كَسَائِرِ الْأَجْسَامِ وَالتَّفْصِيلِ فِيمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ وَالتَّمْثِيلُ بِنَحْوِ عَدَمِ عِلْمِهِ تَعَالَى الْجُزْئِيَّاتِ وَجُحُودِ الْحَشْرِ الْجُسْمَانِيِّ وَالْحُكْمِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ إذْ نَحْوُهَا مَذَاهِبُ الْفَلَاسِفَةِ فَاعْتِقَادَاتٌ بَاطِلَةٌ لَيْسَتْ بِمُحْدَثَةٍ بَلْ قَدِيمَةٌ إذْ أَرْبَابُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ سَابِقَةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ إلَّا أَنْ يُرَادَ ظُهُورُهَا وَشُيُوعُهَا (وَبَعْضُهَا لَيْسَتْ بِهِ) أَيْ بِكُفْرٍ كَإِنْكَارِ سُؤَالِ الْقَبْرِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهُ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ (وَلَكِنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ كَبِيرَةٍ فِي الْعَمَلِ) فِي كَبَائِرِ الْعَمَلِ إمَّا لِاعْتِقَادِ حَقِّيَّةَ الِاعْتِقَادِيَّاتِ دُون الْعَمَلِيَّاتِ وَإِمَّا لِكَوْنِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ أُصُولًا وَأُمَّهَاتٍ لِلْعَمَلِيَّاتِ وَقِيلَ لِتَمَكُّنِهَا فِي النَّفْسِ بِحَيْثُ لَا تَخْرُجُ عَنْهَا ثُمَّ قِيلَ: وَالصَّحِيحُ وُرُودُ وَعِيدٍ شَدِيدٍ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]- (حَتَّى الْقَتْلَ وَالزِّنَا) وَهُمَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ لِصُدُورِهِمَا عَنْ الْمُؤْمِنِ مُعْتَقِدًا بِحُرْمَتِهِمَا وَلَا يُتَصَوَّرُ مِثْلُهُ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ (وَلَيْسَ فَوْقَهَا) أَيْ الْبِدْعَةِ فِي الِاعْتِقَادِ (إلَّا الْكُفْرُ) ، وَإِنْ تَفَاوَتَ أَفْرَادُهَا فِي أَنْفُسِهَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَعَمَلُهُ وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا كَمَا سَبَقَ لِاعْتِقَادِهِ الْبِدْعَةَ

ص: 94

طَاعَةً، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكْفُرُ هَذَا الْبَعْضُ، وَقَدْ قَالُوا وَلَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَهُمْ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا بِقَلْبِهِمْ دِينَ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا جَازِمًا قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ الْعَلَّامَةَ الْعَضُدَ قَالَ وَلَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إلَّا بِمَا فِيهِ نَفْيُ الصَّانِعِ الْقَادِرِ أَوْ بِمَا فِيهِ شِرْكٌ أَوْ إنْكَارُ النُّبُوَّةِ أَوْ إنْكَارُ مَا عُلِمَ مَجِيءُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ ضَرُورَةً أَوْ إنْكَارُ أَمْرٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ قَطْعًا أَوْ اسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ أَيْ الْمُجْمَعِ حُرْمَتُهَا قَطْعًا.

وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَالْقَائِلُ بِهِ مُبْتَدِعٌ وَنُقِلَ عَنْ حَاشِيَةِ حَسَنٍ جَلَبِيٍّ عَلَى شَرْحِ الْمَوَاقِفِ عَدَمُ الْإِكْفَارِ إنَّمَا هُوَ فِي الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى مَا هِيَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ وَنَحْوِهِمَا وَاخْتَلَفُوا فِي أُصُولٍ سِوَاهَا، فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ الْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا نِزَاعَ فِي إكْفَارِ مَنْ وَاظَبَ عَلَى الطَّاعَاتِ طُولَ عُمْرِهِ بِاعْتِقَادِ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ كَاعْتِقَادِ قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ (وَالْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ) وَهُوَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ بَذْلُ الْمَجْهُودِ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ (فِيهِ) أَيْ فِي الِاعْتِقَادِ (لَيْسَ بِعُذْرٍ) شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّ الْمُخْطِئَ فِي الْأُصُولِ وَالْعَقَائِدِ يُعَاقَبُ بَلْ يُضَلَّلُ أَوْ يَكْفُرُ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْلِ كَافٍ فِيهِ دُونَ الْفَرْعِ وَلِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ وَاحِدٌ إجْمَاعًا وَالْمَطْلُوبُ هُوَ الْيَقِينُ الْحَاصِلُ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي الْكَلَامِيَّةِ إذَا لَمْ يُوجِبْ تَكْفِيرَ الْمُخَالِفِ كَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ فَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْإِثْمِ وَتَحْقِيقُ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ لَا حَقِيقَةُ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ كَذَا فِي التَّلْوِيحِ

فَإِنْ قُلْت يُشْعِرُ هَذَا الْقَوْلُ بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْعَقَائِدِ، وَالِاعْتِقَادِيَّاتُ إنَّمَا تَكُونُ قَطْعِيَّةً وَحُكْمُ الِاعْتِقَادِ وَأَثَرُهُ إنَّمَا هُوَ ظَنٌّ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ تَفْرِيعِهِ اخْتِصَاصُهُ بِالْفَرْعِيِّ إذْ الْفَقِيهُ مَنْ يَعْرِفُ عِلْمَ الْفِقْهِ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ الشَّرْعِيِّ هُوَ الْفَرْعِيُّ إذْ الِاعْتِقَادِيُّ أَصْلِيٌّ وَعَقْلِيٌّ قُلْنَا قَدْ يُوجَدُ فِي الْكَلَامِيَّةِ مَسَائِلُ ظَنِّيَّةٌ أَيْضًا وَمَسَائِلُ الْكَلَامِ شَرْعِيَّةٌ أَيْضًا لِكَوْنِهِ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَكْثَرُهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي أَصْلِهَا ابْتِدَاءً وَجَمِيعُهَا لَازِمٌ تَطْبِيقُهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ انْتِهَاءً وَإِلَّا لَا تَكُونُ مُعْتَدَّةً بِهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقُ الِاسْتِدْلَالِ (بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَعْمَالِ) ، فَإِنَّ الْمُخْطِئَ فِيهِ مَعْذُورٌ بَلْ مُثَابٌ نِصْفَ الْمُصِيبِ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا بَذْلُ الْوُسْعِ، وَقَدْ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَنَلْ الْحَقَّ لِخَفَاءِ دَلِيلِهِ لَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْحَقِّ بَيَّنَّا وَإِلَّا فَالْخَطَأُ مِنْ تَقْصِيرِهِ وَتَرْكِ مُبَالَغَةِ اجْتِهَادِهِ فَيُعَاقَبُ (وَضِدُّ هَذِهِ الْبِدْعَةِ) الِاعْتِقَادِيَّةِ (اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ) النَّبَوِيَّةِ (وَالْجَمَاعَةِ) الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَالْأَشَاعِرَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ كَثِيرٌ إلَى سِتَّةٍ وَخَمْسِينَ عَلَى تَخْرِيجِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَكِنَّ الِاتِّحَادَ أَكْثَرُ أُصُولِهِمَا وَعَدَمُ تَضْلِيلِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ لَمْ يَعُدْ كُلٌّ مُقَابِلًا لِلْآخَرِ (وَالْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَةِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالْبِدْعَةُ فِي الِاعْتِقَادِ زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا (وَإِنْ كَانَتْ دُونَهَا) الِاعْتِقَادِيَّةُ قِيلَ: لِأَنَّهَا تَنْجِيسُ مَوْضِعِ نَظَرِ الْحَقِّ، وَالْعَمَلِيَّةُ تَنْجِيسُ مَنْظَرِ الْخَلْقِ كَمَا وَرَدَ «أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ» (لَكِنَّهَا أَيْضًا مُنْكَرٌ وَضَلَالَةٌ) بَلْ فَوْقَ سَائِرِ الْمَعَاصِي لِاعْتِقَادِ صَاحِبِهَا كَوْنَهَا طَاعَةً (لَا سِيَّمَا إذَا صَادَمَتْ) أَيْ زَاحَمَتْ وَدَافَعَتْ (سُنَّةً مُؤَكَّدَةً) قِيلَ بِأَنْ كَانَ الشُّغْلُ بِهَا مَانِعًا مِنْ السُّنَّةِ وَقِيلَ بِأَنْ لَا يَكُونَ حُصُولُهَا إلَّا بِتَرْكِ السُّنَّةِ كَتَرْكِ تَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِسُنِّيَّتِهِ.

قَالَ الْمَوْلَى خَوَاجَهْ زَادَهْ وَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمُصَادَمَةِ

ص: 95

فَعِنْدَنَا مُنْكَرٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ أَقُولُ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَا سِيَّمَا لَكِنْ عَرَفْت مَا نُقِلَ عَنْ الْبَزْدَوِيَّةِ أَنَّ الْبِدْعَةَ الْمَمْنُوعَةَ مَا تَكُونُ مُخَالِفَةً لِسُنَّةٍ أَوْ لِحِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ سُنَّةٍ وَسَمِعْت الْحَصْرَ مِنْ حَدِيثِ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ (وَمُقَابِلُ هَذِهِ الْبِدْعَةِ) الْعِبَادِيَّةِ (سُنَّةُ الْهُدَى) الرَّشَادِ وَالدَّلَالَةِ (وَهِيَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَةِ) دُونَ الْعَادَةِ (مَعَ التَّرْكِ أَحْيَانًا) لِئَلَّا يَكُونَ وَاجِبًا عَلَى الْأُمَّةِ لَا كَسْلَانًا وَإِلَّا فَلَا شَكَّ فِي فَضْلِ الْمُدَاوَمَةِ بِلَا تَرْكٍ وَاللَّائِقُ بِحَالِ النَّبِيِّ أَنْ لَا يَتْرُكَ مَا هُوَ أَفْضَلُ وَهَذَا قَرِيبٌ إلَى مَا يُقَالُ الْفِعْلُ الَّذِي دَامَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ تَرْكَ هَذِهِ السُّنَّةِ أَحْيَانًا سُنَّةٌ (وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى تَارِكِهِ) الظَّاهِرُ إنْكَارُ تَوَعُّدٍ، فَإِنْ دَامَ وَأَنْكَرَ عَلَى تَارِكِهِ فَوَاجِبٌ (كَالِاعْتِكَافِ) هُوَ لُغَةً اللُّبْثُ وَالدَّوَامُ وَشَرْعًا لُبْثُ رَجُلٍ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ أَوْ امْرَأَةٍ فِي بَيْتِهَا بِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ فَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْمَنْذُورِ وَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَمُسْتَحَبٌّ فِيمَا سِوَاهُ وَاعْلَمْ أَنَّ سُنَّةَ الْهُدَى مُكَمِّلَةٌ لِلدِّينِ وَتَارِكُهَا مُسِيءٌ يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ كَصَلَاةِ الْعِيدِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ فَلَوْ تَرَكَهَا قَوْمٌ عُوقِبُوا أَوْ أَهْلُ قَرْيَةٍ أَوْ أَهْلُ بَلْدَةٍ وَأَصَرُّوا قُوتِلُوا وَأَمَّا سُنَّةُ الزَّوَائِدِ فَتَارِكُهَا يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ كَتَطْوِيلِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَسِيرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لِبَاسِهِ كَالْبَيَاضِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وَتَقْدِيمِ الْيُمْنَى فِي الدُّخُولِ (وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فِي الْعَادَةِ) بِأَنْ لَا يَقْصِدَ بِهَا عِبَادَةً وَلَا طَلَبَ ثَوَابٍ (كَالْمُنْخُلِ) وَكَذَا الْمِلْعَقَةُ لِلْأَكْلِ (فَلَيْسَ فِعْلُهَا ضَلَالَةً بَلْ تَرْكُهُ أَوْلَى) فَأَرْبَابُ الْوَرَعِ يَجْعَلُونَهَا كَالْمُحَرَّمِ إلَّا بِضَرُورَةٍ (فَتَرْكُهَا أَوْلَى) ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الطُّمَأْنِينَةَ عَلَى النِّعَمِ الْفَانِيَةِ وَالنِّسْيَانَ عَمَّا يُوجِبُ الْأُلْفَةَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ هُنَا وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْتُتْنَ وَالْقَهْوَةِ وَالصَّوَابُ عَدَمُ حُرْمَتِهِمَا وَكَرَاهَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْبِدَعِ الْعَادِيَّةِ فَمَنْ حَرَّمَهُمَا لَزِمَهُ حُرْمَةُ الْبِدَعِ الْعَادِيَّةِ وَأَمْرُ السُّلْطَانِ وَنَهْيُهُ إنَّمَا يُعْتَبَرَانِ إذَا وَافَقَا الشَّرْعَ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ وَهَوَاهُ انْتَهَى.

أَقُولُ أَمَّا الْقَهْوَةُ فَلَعَلَّهَا لَيْسَ عَنْهَا مَنْعٌ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهَا أَوْلَى سِيَّمَا إصْرَارُهُ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الِاتِّفَاقِ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهَا بَعْضُ خِلَافٍ وَلَوْ ضَعِيفًا وَأَمَّا الدُّخَانُ، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ لَكِنْ لَعَلَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي كَرَاهَتِهِ لِكَثْرَةِ اخْتِلَافٍ وَفَتْوَى مِنْ الَّذِينَ يُوثَقُ بِعِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَالسُّلْطَانُ إذَا نَهَى عَنْ أَمْرٍ مُبَاحٍ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ يَجِبُ تَبَعِيَّتُهُ فَضْلًا عَمَّا فِيهِ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَانَ أَدْنَى دَرَجَةِ خِلَافِهِمْ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ.

وَقَالَ فِي التَّلْوِيحِ الْمُحَرَّمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَسَيُفَصَّلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَحَلِّهِ (وَضِدُّهَا) ضِدُّ الْبِدَعِ الْعَادِيَّةِ (السُّنَّةُ الزَّائِدَةُ) ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِتَكْمِيلِ الدِّينِ خِلَافُ سُنَّةِ الْهُدَى، فَإِنَّهَا مُكَمِّلَةٌ لِلدِّينِ كَمَا عَرَفْت (وَهِيَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جِنْسِ الْعَادَةِ كَالِابْتِدَاءِ بِالْيَمِينِ) مِنْ الْيَدِ وَالرِّجْلِ (فِي الْأَفْعَالِ الشَّرِيفَةِ) غَيْرِ الْخَسِيسَةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» وَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّوَوِيِّ التَّبَرُّكُ بِاسْمِ الْيَمِينِ لِإِضَافَةِ الْخَيْرِ إلَيْهَا وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَفِيهِ الْيُمْنُ بِمَعْنَى الْبَرَكَةِ فَمِنْ بَابِ التَّفَاؤُلِ فَفِي الْيَمِينِ احْتِرَامٌ لَا يُسْتَعْمَلُ بِلَا ضَرُورَةٍ فِي الْأَقْذَارِ وَفِي خَسِيسِ الْأَعْمَالِ فَلِذَا نُهِيَ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ وَمَسِّ الذَّكَرِ بِالْيَمِينِ.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَفِيهِ نَدْبُ الْبُدَاءَةِ بِشِقِّ الرَّأْسِ الْأَيْمَنِ فِي التَّرَجُّلِ وَالْغُسْلِ وَالْحَلْقِ وَلَا يُقَالُ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِزَالَةِ فَيُبْدَأُ بِالْأَيْسَرِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ وَالتَّزْيِينِ وَالْبُدَاءَةِ بِالرِّجْلِ الْيُمْنَى فِي التَّنَعُّلِ وَفِي إزَالَتِهَا بِالْيُسْرَى وَالْبُدَاءَةِ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى فِي الْوُضُوءِ وَبِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ فِي الْغُسْلِ وَنُدِبَ الصَّلَاةُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَمَيْمَنَةِ الْمَسْجِدِ وَفِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَمَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ وَالتَّزْيِينِ يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ وَعَكْسُهُ عَكْسُهُ انْتَهَى.

(وَبِالْيَسَارِ فِي الْخَسِيسَةِ) مِثْلُ الدُّخُولِ فِي الْخَلَاءِ وَالْحَمَّامِ وَالِاسْتِنْجَاءِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالِامْتِخَاطِ وَنَزْعِ الثَّوْبِ وَالنِّعَالِ وَمَسِّ الذَّكَرِ فَعِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ

ص: 96

بِالْحَجَرِ يَأْخُذُ ذَكَرَهُ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِ حَجَرًا (فَهِيَ) أَيْ السُّنَّةُ الزَّائِدَةُ (مُسْتَحَبَّةٌ) نُقِلَ عَنْ الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ أَنَّ الْأَدَبَ وَالْمُسْتَحَبَّ وَالنَّافِلَةَ مَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً مَرَّة وَتُسَمَّى سُنَّةٌ أَيْضًا.

وَعَنْ شَرْحِ دُرَرِ الْبِحَارِ الْمُسْتَحَبُّ أَدْوَنُ مِنْ السُّنَّةِ وَأَعْلَى مِنْ الْأَدَبِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَعْضَ الْأَدَبِ عَنْ الْمُسْتَحَبِّ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْمُسْتَحَبُّ عَلَى السُّنَّةِ (فَظَهَرَ أَنَّ)(الْبِدْعَةَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ) وَهُوَ اللُّغَوِيُّ (ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ)(مُرَتَّبَةٍ فِي الْقُبْحِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي الْقُبْحِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ مُرَتَّبَةٌ فَأَعْظَمُ الْقُبْحِ فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ فَالْعِبَادِيَّةِ فَالْعَادِيَّةِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْقُبْحَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الشَّرْعِيِّ، وَاللُّغَوِيُّ مُقَابِلٌ لِلشَّرْعِيِّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْقُبْحُ فِي اللُّغَوِيِّ سِيَّمَا الْعَادِيَّةُ فِي مَادَّةِ الِافْتِرَاقِ مِنْ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ صَرَّحَ آنِفًا بِعَدَمِ ضَلَالَةِ تَرْكِ الْعَادِيَّةِ بَلْ بِكَوْنِهَا تَرْكٌ أَوْلَى وَمَا لَا ضَلَالَةَ فِيهِ لَا قُبْحَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ سِيَّمَا عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وُجُودَ الْقُبْحِ فِي غَيْرِ الشَّرْعِيِّ وَإِطْلَاقُ الْقُبْحِ فِي الْعَادِيَّةِ تَجَوُّزٌ إذْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ ثَلَاثَةٌ صِفَةُ الْكَمَالِ وَالنَّقْصِ وَمُلَائَمَةُ الْغَرَضِ وَمُنَافَرَتُهُ، وَالثَّالِثُ تَعَلُّقُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ عَاجِلًا وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ آجِلًا وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْمَقَامِ فَتَرْكُ الْعَادِيَّةِ، وَإِنْ أَوْجَبَ الثَّوَابَ لَكِنَّ فِعْلَهَا لَا يُوجِبُ الْعِقَابَ نَقَلَ شَارِحُ الْمَشَارِقِ الْبِدْعَةُ خَمْسَةٌ وَاجِبَةٌ كَنَظْمِ الدَّلَائِلِ وَمَنْدُوبَةٌ كَتَصْنِيفِ الْكُتُبِ وَمُبَاحَةٌ كَالتَّبَسُّطِ بِأَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ عِنْدَ ضِيَافَةِ الْإِخْوَانِ وَمَكْرُوهَةٌ وَحَرَامٌ وَهُمَا ظَاهِرَانِ (فَإِذَا عَلِمْت هَذِهِ) الْمَذْكُورَاتِ (فَالْمَنَارَةُ) إنَّمَا كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً مَعَ كَوْنِهَا بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهَا (عَوْنٌ لِإِعْلَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ) لِلنَّاسِ (الْمُرَادُ) صِفَةٌ لِلْإِعْلَامِ (مِنْ الْأَذَانِ وَالْمَدَارِسُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ عَوْنٌ (وَتَصْنِيفُ الْكُتُبِ) شَرْعِيَّةٌ أَصْلِيَّةٌ وَفَرْعِيَّةٌ وَآلَةٌ لَهُمَا كَعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ (عَوْنٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّبْلِيغِ) الْوَاجِبَيْنِ فَعَوْنُهُمَا لَا أَقَلَّ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ. .

(وَرَدُّ الْمُبْتَدِعَةِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ نَهْيٌ (بِنَظْمِ) أَيْ تَرْتِيبِ (الدَّلَائِلِ) الْعَقْلِيَّةِ أَوْ النَّقْلِيَّةِ صَالِحَةً لِتَحْقِيقِ الْمَسَائِلِ (نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذَبٌّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ دَفْعٌ وَمَنْعٌ وَطَرْدٌ وَرَدْعٌ وَزَجْرٌ (عَنْ الدِّينِ) وَهَذَا وَاجِبٌ فَالرَّدُّ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى الْوَاجِبِ وَاجِبٌ (فَكُلُّ مَأْذُونٍ فِيهِ) نَتِيجَةٌ لِقَوْلِهِ فَالْمَنَارَةُ وَمَعْطُوفَاتُهَا تَقْرِيرُهُ الْمَنَارَةُ عَوْنٌ لِإِعْلَامِ الْوَقْتِ وَعَوْنُ إعْلَامِ الْوَقْتِ مَأْذُونٌ فِيهِ فَالْمَنَارَةُ مَأْذُونٌ فِيهِ وَالْبِدْعَةُ لَا تَكُونُ مَأْذُونًا فَيَنْتِجُ مِنْ الشَّكْلِ الثَّانِي الْمَنَارَةُ لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ (بَلْ مَأْمُورٌ بِهِ) نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا لَعَلَّ الْأَمْرَ مُفَادٌ مِنْ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ نَحْوُ {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَقِيلَ مِنْ نَحْوِ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] ؛ لِأَنَّ نَحْوَ بِنَاءِ الْمَنَارَةِ مِنْ جُمْلَةِ مُحَافَظَةِ الصَّلَوَاتِ (وَعَدَمُ وُقُوعِهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ) جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ مِنْ أَنَّ مَا يَكُونُ عَوْنًا لِلْخَيْرِ أَوْلَى أَنْ يَقَعَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ لَعَلَّ الْأَوَّلَ إضَافِيٌّ شَامِلٌ لِلْقَرْنِ الثَّانِي بَلْ الثَّالِثِ (إمَّا لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ) لِقُوَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ لَا يَحْتَاجُونَ لِلْإِعْلَامِ وَلِقُوَّةِ ذَكَائِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَحُصُولِ السَّمَاعِ مِنْ الرَّسُولِ لَا يَحْتَاجُونَ لِمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ وَبِسُهُولَةِ مُرَاجَعَةِ الثِّقَاتِ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ اسْتَغْنَوْا عَنْ تَصْنِيفِ الْكُتُبِ وَبِقِلَّةِ الْمُخَالِفِينَ عَنْ نَظْمِ الدَّلَائِلِ (أَوْ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ بِ) سَبَبِ (عَدَمِ الْمَالِ) فِي نَحْوِ الْمَنَارَةِ وَالْمَدَارِسِ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الدُّنْيَا (أَوْ لِعَدَمِ التَّفَرُّغِ لَهُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْأَهَمِّ) كَالْجِهَادِ مَعَ الْكُفَّارِ بَلْ النَّفْسِ وَنِظَامِ الْمُسْلِمِينَ

ص: 97

(أَوْ لِنَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ دَوَاعِي التَّرْكِ مِنْ وُجُودِ النَّافِي وَانْتِفَاءِ الْمُوجِبِ (وَلَوْ تَتَبَّعْت كُلَّ مَا قِيلَ فِيهِ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ) اعْتِقَادًا أَوْ عَمَلًا قَوْلًا أَوْ خُلُقًا (مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَةِ) إذْ مَا يَكُونُ مِنْ الْعَادَةِ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَمَا مَرَّ (وَجَدْته مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ) جَانِبِ (الشَّارِعِ) إلَهًا أَوْ رَسُولًا بَلْ إجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا (إشَارَةً) أَيْ طَرِيقَ إشَارَةِ النَّصِّ (أَوْ دَلَالَةً) بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ، وَإِشَارَةُ النَّصِّ مَعْنًى ثَبَتَ بِالنَّظْمِ لَكِنَّ مَنْ غَيَّرَ سُوقَ النَّظْمِ لَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى زَوَالِ مُلْكِهِمْ إلَى الْكُفَّارِ وَلَمْ يُسَقْ لِهَذَا بَلْ سَوْقُهُ لِإِيجَابِ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَعْمَلْ بِهَذِهِ، وَدَلَالَةُ النَّصِّ مَا ثَبَتَ مِنْ النَّظْمِ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فِي حَقِّ حُرْمَةِ الضَّرْبِ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْأَذَى، فَإِنْ قِيلَ: فَلَمْ يَذْكُرْ الْعِبَارَةَ وَالِاقْتِضَاءَ مَعَ أَنَّهُمَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَدِلَّةِ قُلْنَا: الْعِبَارَةُ لِكَوْنِهَا مَعْنًى مَقْصُودًا مِنْ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ لَا يُتَوَهَّمُ بِدْعِيَّتُهُ لِوُضُوحِهِ

وَأَمَّا الِاقْتِضَاءُ وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِاحْتِيَاجِ الْكَلَامِ إلَيْهِ مِنْ اللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ فَلَعَلَّ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُ التَّرَاخِي لَكِنْ فِيهِ تَأَمَّلْ قِيلَ: وَمِنْ قَبِيلِ مَا أُذِنَ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ مَا اُسْتُحْدِثَ مِنْ الْمَقَامَاتِ الْأَرْبَعَةِ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَحْدُثْ مِنْهَا ضَرَرٌ فَبِدْعَةٌ حَسَنَةٌ مُسَمَّاةٌ بِالسُّنَّةِ بِإِشَارَةِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً أَيْ أَبْدَعَ وَأَحْدَثَ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» فَيَدْخُلُ فِي السُّنَّةِ كُلُّ بِدْعَةٍ حَسَنَةٍ.

وَعَنْ النَّوَوِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى اسْتِحْبَابِ سَنِّ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ وَتَحْرِيمِ الْأُمُورِ السَّيِّئَةِ وَأَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَذَا وِزْرُ السَّيِّئَةِ

وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ أَدْبَارَ الْمَكْتُوبَاتِ فَكَثِيرٌ فِيهَا أَقَاوِيلُ الْفُقَهَاءِ فَعَنْ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَنَّهَا بِدْعَةٌ لَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ لِلْعَادَةِ وَلَا يَجُوزُ الْمَنْعُ.

وَعَنْ فَتَاوَى بُرْهَانِ الدِّينِ يُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ لِكِفَايَةِ الْمُهِمَّاتِ جَهْرًا وَمُخَافَتَةً.

وَعَنْ فَتَاوَى السَّعْدِيِّ لَا يُكْرَهُ.

وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة وَالْقُنْيَةِ وَالْأَشْبَاهِ الِاشْتِغَالُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْلَى مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فِي أَوْقَاتِهَا وَمِنْ الْأَوْقَاتِ الْمَأْثُورَةِ أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ إذْ وَرَدَ أَدْعِيَةٌ كَثِيرَةٌ أَعْقَابَ الصَّلَوَاتِ عَنْ سَيِّدِ السَّادَاتِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ وَأَكْمَلُ التَّحِيَّاتِ.

وَفِي التتارخانية أَيْضًا وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ لِأَجْلِ الْمُهِمَّاتِ مُخَافَتَةً وَجَهْرًا مَعَ الْجَمْعِ مَكْرُوهَةٌ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي بَدِيعِ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ أَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَهَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ وَإِلَّا فَلَا انْتَهَى.

وَفِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ أَوْلَى مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فِي أَوْقَاتِهَا وَفِي هَامِشِ الْوَسِيلَةِ وَفِي كِتَابِ الثَّوَابِ لِأَبِي الشَّيْخِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَطَاءٍ. قَالَ: إذَا أَرَدْت حَاجَةً فَاقْرَأْ الْفَاتِحَةَ حَتَّى تَخْتِمَهَا تُقْضَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى وَهَذَا أَصْلٌ لِمَا تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَحُصُولِ الْمُهِمَّاتِ كَمَا فِي مَوْضُوعَاتِ عَلِيٍّ الْقَارِي انْتَهَى. وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْجَوَازِ لِكَثْرَةِ قَائِلِهِ، وَإِنَّ الْبِدْعَةَ الْمَمْنُوعَةَ مَا لَا يَكُونُ لَهَا إذْنُ إشَارَةٍ وَدَلَالَةٍ وَسُورَةُ الْفَاتِحَةِ سُورَةُ تَعْلِيمِ طَرِيقِ الدُّعَاءِ وَسُورَةُ الْمَسْأَلَةِ وَسُورَةٌ نَزَلَتْ لِبَيَانِ طَرِيقِ الْأَفْضَلِ مِنْ الدُّعَاءِ فَأَفْضَلُ الْأَدْعِيَةِ إنَّمَا يَلِيقُ وَيَجْرِي فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ فَلَا كَلَامَ فِي أَصْلِ قِرَاءَتِهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي جَهْرِهَا سِيَّمَا مَعَ الْجَمْعِ وَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ

وَأَمَّا الْجَمْعُ مَعَ الْمُخَافَتَةِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ قَوْلُ الْإِمَامِ بَعْدَ سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ الْفَاتِحَةُ يَعْنِي يَقُولُ لِلْجَمَاعَةِ: اقْرَءُوا الْفَاتِحَةَ فَيَقْرَءُونَ مَعَ الْجَمَاعَةِ سَوَاءٌ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ أَوْ فِي أَعْقَابِ مُطْلَقِ الدَّعَوَاتِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَوْلَوِيَّةُ التَّرْكِ؛ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْإِمَامِ الدُّعَاءُ وَوَظِيفَةَ الْمُؤْتَمِّ وَالْجَمَاعَةِ التَّأْمِينُ لَكِنْ فِي رِسَالَةِ الْمَوْلَى عَالِمٍ مُحَمَّدٍ نَدْبِيَّةُ ذَلِكَ نَقْلًا عَنْ نَصِّ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَغَيْرِهِ لَعَلَّ وَجْهَ ذَلِكَ إنْ صَحَّ أَنَّ الْفَضْلَ وَرَدَ فِي حَقِّ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَاللَّائِقُ أَنْ يَقْرَأَ كُلٌّ عَلَى انْفِرَادِهِ

ص: 98

لِيَنَالَ بِذَلِكَ الْفَضْلَ أَوْ أَنَّ التَّحْمِيدَ فِي آخِرِ الدُّعَاءِ مَنْدُوبٌ وَأَفْضَلُ التَّحْمِيدِ الْفَاتِحَةُ (ثُمَّ اعْلَمْ) الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إلَى رُتْبَةِ ضَرَرِ الْبِدْعَةِ حَيْثُ يَجْزِمُ عَلَى السُّنَّةِ بَلْ الْوَاجِبُ (أَنَّ فِعْلَ الْبِدْعَةِ) الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْفِعْلِ مَا لَا يَكُونُ فِي الِاعْتِقَادِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْبِدْعَةَ الِاعْتِقَادِيَّةَ أَضَرُّ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ قَطْعًا (أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ تَرْكِ السُّنَّةِ) إذْ الْغَالِبُ فِي الْبِدَعِ بِاعْتِقَادِ الطَّاعَةِ وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَقِيلَ الْبِدْعَةُ سَارِيَةٌ وَالتَّرْكُ لَا فَفِيهِ خَفَاءٌ هَذَا إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ تَرْكَ السُّنَّةِ طَاعَةً وَإِلَّا فَبِدْعَةٌ أَيْضًا مِثْلُهَا بَلْ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا (بِدَلِيلِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا إذَا تُرُدِّدَ) الظَّاهِرُ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فِي شَيْءٍ) وَلَوْ اعْتِقَادِيًّا (بَيْنَ كَوْنِهِ سُنَّةً وَبِدْعَةً فَتَرْكُهُ لَازِمٌ) عَنْ مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ أَنَّ مَا تُرُدِّدَ فِيهِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْبِدْعَةِ يَأْتِي بِهِ احْتِيَاطًا وَمَا تُرُدِّدَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ وَالسُّنَّةِ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ لَازِمٌ وَأَدَاءُ السُّنَّةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ.

قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ يَرْجِعُ

دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ غَالِبًا

؛ لِأَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّرْعِ بِالْمُنْهَيَاتِ أَشَدُّ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ وَرُوِيَ «لَتَرْكُ ذَرَّةٍ مِمَّا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ» وَمِنْ ثَمَّةَ جَوَّزَ تَرْكَ الْوَاجِبِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ دُونَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ خُصُوصًا فِي الْكَبَائِرِ. .

(وَأَمَّا تَرْكُ الْوَاجِبِ هَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ فَفِيهِ اشْتِبَاهٌ) لِفَوَاتِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالْكُلِّيَّةِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ دُونَ الْبِدْعَةِ وَلِاعْتِقَادِ أَنَّهَا طَاعَةٌ بِخِلَافِ تَرْكِ الْوَاجِبِ (حَيْثُ صَرَّحُوا فِيمَنْ تَرَدَّدَ فِي شَيْءٍ بَيْنَ كَوْنِهِ بِدْعَةً وَوَاجِبًا) بِأَنْ تَعَارَضَ بِلَا مُرَجِّحٍ (أَنَّهُ يَفْعَلُهُ) فَيُرَجِّحُ جَانِبَ الْوُجُوبِ فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الْبِدْعَةِ وَالْفَرْضِ فَالْفِعْلُ لَازِمٌ كَمَا إذَا شَكَّ فِي حَقِّ الْفَجْرِ فِي الْوَقْتِ أَنَّهُ صَلَّاهَا أَمْ لَا.

(وَفِي الْخُلَاصَةِ مَسْأَلَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ) هُوَ كَوْنُ تَرْكِ الْبِدْعَةِ مُقَدَّمًا عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ (حَيْثُ قَالَ إذَا شَكَّ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهُ هَلْ صَلَّاهَا أَمْ لَا إنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا) لِيَخْرُجَ مِنْ عُهْدَتِهَا بِيَقِينٍ كَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ (وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ ثُمَّ شَكَّ لَا شَيْءَ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الشَّكِّ يَعْنِي لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَلَّى فِي الْوَقْتِ كَانَ قَضَاءُ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِدْعَةً، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ فَتَرْجِيحُ جَانِبِ عَدَمِ الْقَضَاءِ تَرْجِيحُ احْتِمَالِ الْبِدْعَةِ عَلَى الْوَاجِبِ فَفِي الْوَقْتِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْوُجُوبِ عَلَى الْبِدْعَةِ إذْ إعَادَةُ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّاهَا فِي الْوَقْتِ بِدْعَةٌ وَالصَّلَاةُ الَّتِي لَمْ يُصَلِّهَا فَإِتْيَانُهَا فِي الْوَقْتِ وَاجِبٌ فَمَسْأَلَةُ الْخُلَاصَةِ تَصْلُحُ مِثَالًا لَهُمَا لَعَلَّ لُزُومَ الْإِعَادَةِ

ص: 99

فِي الْوَقْتِ لِأَنَّ الْغَالِبَ شَغْلُ الذِّمَّةِ فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَأَنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا هُوَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا فَلَعَلَّهُ أَخَّرَهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَأَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَعَدَمُ لُزُومِ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْوَقْتِ وَلَا يَتْرُكَهَا وَكَانَ الْأَصْلُ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ فَلَعَلَّهُ قَدْ جَعَلَ ذِمَّتَهُ بَرِيئَةً عَنْ الشُّغْلِ ثُمَّ يُرَدُّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْبِدْعَةِ بَلْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْبِدْعَةِ إذْ قَضَاءُ صَلَاةٍ لَمْ تُصَلَّ فَرْضٌ قَطْعِيٌّ لَا وَاجِبٌ ظَنِّيٌّ وَالْأَصْلُ فِيهِ رِعَايَةُ جَانِبِ الْفَرْضِ أَلْبَتَّةَ فَتَأَمَّلْ حَتَّى يَظْهَرَ الْوَجْهُ.

(وَلَوْ كَانَ الشَّكُّ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ) وَالنَّفَلُ بَعْدَهَا مَكْرُوهٌ فَلَوْ أَعَادَهَا فِي الْوَقْتِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَفْلًا مَكْرُوهًا فَيُؤْتَى فِي الْوَقْتِ بِصَلَاةٍ لَا تَصِحُّ نَفْلًا وَتَصِحُّ فَرْضًا وَلَوْ مَعَ كَرَاهَتِهِ (يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى) لَعَلَّ تَعْيِينَ الْأُولَى اتِّفَاقِيٌّ إذْ لَوْ كَانَ التَّعْيِينُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ عَدَمِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَى فَكَذَلِكَ (وَالثَّالِثَةِ وَلَا يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ) أَصْلًا وَأَلَّا تَصِحَّ نَفْلًا وَالْمَقْصُودُ عَدَمُ صِحَّتِهَا نَفْلًا وَالْقِرَاءَةُ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ فَرْضٌ (وَالرَّابِعَةِ) لِئَلَّا يَصِحَّ نَفْلًا فَيَقَعُ فِي كَرَاهَةٍ (انْتَهَى) .

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي ثِنْتَيْ مُطْلَقِ رَبَاعِيَةِ الْفَرْضِ فَرْضٌ بِلَا تَعْيِينِ رَكْعَةٍ وَرَكْعَةٍ وَالْقِرَاءَةُ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ فَرْضٌ فَالصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ تَصِحُّ فَرْضًا لَا نَفْلًا، فَإِنْ قِيلَ إنْ وَقَعَ أَنَّهُ صَلَّى فَرْضَ الْوَقْتِ أَوَّلًا فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ تَكُونُ نَفْلًا، وَقَدْ أَفْسَدَهُ بِتَرْكِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ فَيَلْزَمُ قَضَاؤُهُ قُلْنَا إنَّمَا يَلْزَمُ قَضَاءُ النَّفْلِ إذَا شَرَعَ قَصْدًا وَهُنَا كَانَ شُرُوعُهُ ظَنًّا فَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ (وَتَعْيِينُ الْأَوَّلِيَّيْنِ لِلْقِرَاءَةِ فِي الْفَرْضِ وَاجِبٌ) لَا بِمَعْنَى الْفَرْضِ فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ إنْ سَهْوًا وَيُوجِبُ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ إنْ قَصْدًا (وَقَدْ أُمِرَ بِتَرْكِهِ) أَيْ بِتَرْكِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ (حَذَرًا عَنْ احْتِمَالِ وُقُوعِ النَّفْلِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ) مُحَرَّرَةٌ فِي الْفِقْهِيَّةِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» وَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ قِيلَ إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ لِاشْتِغَالِهِ عَنْهَا بِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ أَوْ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْبِدْعَةِ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ حَيْثُ تَرَكَ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ تَعْيِينُ أُولَى الْفَرْضِ لِلْقِرَاءَةِ لِئَلَّا تَقَعَ الْبِدْعَةُ الَّتِي هِيَ النَّفَلُ بَعْدَ الْعَصْرِ يَشْكُلُ أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ هُنَا لَيْسَ لِلْبِدْعَةِ فَقَطْ بَلْ لِأَجْلِ مَجْمُوعِ الْبِدْعَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْمَقْصُودُ مَا يَكُونُ لِلْبِدْعَةِ فَقَطْ كَمَا يُشْعِرُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَحَمْلُ الْكَرَاهَةِ عَلَى الْبَيَانِ لِلْبِدْعَةِ أَوْ عِلَّةٍ لَهَا بَعِيدًا لَا أَنْ يَحْمِلَ بَيَانًا لِنَوْعِ الْبِدْعَةِ وَأَنَّ الْبِدْعَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا فِي النَّفْلِ بَعْدَ الْعَصْرِ.

فَكَذَا الْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْفَرْضِ فَمَا وَجْهُ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا هِيَ لِلْوَصْفِ وَالتَّضَمُّنِ وَفِي الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهَا وَجَمِيعِهَا (فَالتَّطْبِيقُ) بَيْنَ مَا صَرَّحُوا مِنْ تَرْجِيحِ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ مَا فُهِمَ مِنْ الْخُلَاصَةِ مِنْ تَرْجِيحِ تَرْكِ الْبِدْعَةِ فَالْقَوْلُ أَيْ التَّطْبِيقُ الْمَطْلُوبُ مِنْ السَّائِلِ بِقَوْلِهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ التَّطْبِيقُ قَالَ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ خَطَأٌ ظَاهِرٌ (إمَّا بِحَمْلِ الْبِدْعَةِ) الَّتِي رَجَحَ عَلَيْهَا الْوَاجِبُ (عَلَى مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ) بَلْ بِعُمُومِهِ بِأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومِ فَتَقْدِيمُ الْبِدْعَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْخُلَاصَةِ لِوُرُودِ النَّهْي عَنْهُ بِخُصُوصِهِ وَهُوَ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ وَحَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ الْمَذْكُورُ آنِفًا لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُنَاسِبُ الشَّافِعِيَّةَ الْقَائِلِينَ بِإِفَادَةِ الْعَامِّ الظَّنَّ لَا الْحَنَفِيَّةُ الْقَائِلِينَ بِإِفَادَةِ الْعَامِّ الْقَطْعَ كَالْخَاصِّ يَعْنِي لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فِي إفَادَةِ الْعُمُومِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا كَانَ عُمُومُهُ مُجْمَعًا وَمُخْتَلَفًا (أَوْ) بِحَمْلِ (الْوَاجِبِ) الَّذِي رَجَحَ عَلَى الْبِدْعَةِ (عَلَى مَعْنَى الْفَرْضِ) الْقَطْعِيِّ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْمُتَبَادَرِ لِكَوْنِهِ مَجَازِيًّا.

قِيلَ وَلِهَذَا قَالُوا: لَمْ يُكْرَهْ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ؛ لِأَنَّهَا فَرَائِضُ لَا يَخْفَى مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَمْلَيْنِ مِنْ التَّدَافُعِ إذْ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا تَقَدُّمُ الْبِدْعَةِ سَوَاءٌ نُهِيَ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ أَوْ لَا عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الْفَرْضِ، وَقَدْ فُهِمَ مِنْ الْأَوَّلِ

ص: 100

تَقَدُّمُ الْوَاجِبِ عَلَى الْبِدْعَةِ الَّتِي لَمْ يَنْهَ عَنْهَا بِخُصُوصِهَا (أَوْ) بِحَمْلِ (الْوَاجِبِ) الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الْفَرْضِ (عَلَى) الْوَاجِبِ (الْمُسْتَقِلِّ) مَعْمُولُ الْحَمْلِ كَالْوَتْرِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ (لَا الضِّمْنِيِّ) ؛ لِأَنَّهُ لِاسْتِقْلَالِهِ أَقْوَى مِنْ الضِّمْنِيِّ كَتَعْيِينِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فِي الْفَرْضِ وَلِهَذَا يَنْجَبِرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ فِيهِ دُونَ الِاسْتِقْلَالِيِّ (أَوْ بِالْحَمْلِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ) عَنْ الْمُجْتَهِدِ إمَّا عَنْ وَاحِدٍ أَوْ إحْدَاهُمَا عَنْ مُجْتَهِدٍ وَأُخْرَاهُمَا عَنْ آخَرَ (وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ) قِيلَ يُؤْتَى بِهَذَا فِي آخِرِ كَلَامٍ يُرَى فِيهِ أَثَرُ الضَّعْفِ لَعَلَّ مِنْ وَجْهِ الضَّعْفِ مَا ذُكِرَ وَأُشِيرَ إلَيْهِ آنِفًا مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فِي الْقَطْعِ وَفِي كَوْنِ حَمْلِ الْوَاجِبِ عَلَى الْفَرْضِ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ بِلَا قَرِينَةٍ وَأَيْضًا الْأَصْلُ فِي الْمُطْلَقُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى إطْلَاقِهِ وَحَمْلُ الْوَاجِبِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ مُطْلَقٌ وَالْحَمْلُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يُلَائِمُهُ تَعْبِيرٌ صَرَّحُوا حَيْثُ يَتَبَادَرُ مِنْهُ الِاتِّفَاقُ.

وَأَنَا أَقُولُ دَلَالَةُ مَسْأَلَةِ الْخُلَاصَةِ عَلَى خِلَافِهِ خَفِيَّةٌ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ أَيْضًا (فَإِنْ قِيلَ مَا قَدْ سَبَقَ) مِنْ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ حَاصِلُهُ التَّقْسِيمُ الْمَفْهُومُ مِمَّا سَبَقَ لَيْسَ بِحَاصِرٍ إذْ الْمُقَسَّمُ يَعْنِي أَمْرَ الدِّينِ شَامِلٌ لِلْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَلَمْ يَذْكُرَا فِي الْأَقْسَامِ بَلْ يَلْزَمُ كَوْنُهُمَا بِدْعَةً، وَالْفُقَهَاءُ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ أَرْبَعَةٌ، وَإِنْ شِئْت قُلْت فِي الْحَاصِلِ أَمَّا هَذَا التَّقْسِيمُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَوْ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ لَكِنَّ التَّالِيَ بَاطِلٌ إذْ لَا يُمْكِنُ بُطْلَانُ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فَالْمُقَدَّمُ أَيْ عَدَمُ صِحَّةِ التَّقْسِيمِ حَقٌّ فَفِي الْحَقِيقِيَّةِ نَقْضٌ أَوْ مُعَارَضَةٌ لِلْقِسْمَةِ الْمَذْكُورَةِ (دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَافِيَانِ فِي أَمْرِ الدِّينِ) لَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّا سَبَقَ لُزُومُهُمَا لَا كِفَايَتُهُمَا، فَإِنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ لَا يُنَافِي غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الانفهام بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَذَا مُجْمَعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الرِّوَايَاتِ وَلِذَا قَالَ فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ لِلْعَلَّامَةِ الطَّرْطُوسِيِّ.

وَمَفْهُومُ التَّصْنِيفِ حُجَّةٌ وَكَذَا فِي الْأُصُولِيَّةِ وَيَدَّعِي أَيْضًا وُجُودَ الدَّلَالَةِ فِي الْمَفْهُومِ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ يُقَالُ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ إفْرَادِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كِفَايَتُهُمَا (وَ) دَلَّ مَا سَبَقَ أَيْضًا عَلَى (أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِأَحَدِهِمَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ) وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ لَيْسَا مِمَّا تَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا (فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ) وَكَذَا أَهْلُ الْأُصُولِ (الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَرْبَعَةٌ) أَقُولُ بَعْدَ مُلَاحَظَةِ الْبِدْعَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا سَبَقَ لَا يُتَوَجَّهُ هَذَا السُّؤَالُ إلَّا إذَا أُخِذَ فِيهَا إذْنُ الشَّارِعِ مُطْلَقًا وَلَوْ إشَارَةً، وَالْإِذْنُ فِي الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ بَلْ حَاصِلُ الْجَوَابِ رَاجِعٌ إلَى هَذَا فَلَعَلَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ فِي وَضْعِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ هُوَ التَّمْهِيدُ عَلَى رَدِّ الْمُتَصَوِّفَةِ وَيَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ.

(قُلْنَا لَا بُدَّ لِلْإِجْمَاعِ مِنْ سَنَدٍ مِنْ أَحَدِهِمَا حَالًّا أَوْ مَآلًا عَلَى الصَّحِيحِ) هَذَا قَيْدٌ لِقَوْلِهِ مَآلًا وَإِشَارَةٌ إلَى الِاخْتِلَافِ وَإِلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي جَوَازِ أَنْ يَكُونَ سَنَدُ الْإِجْمَاعِ قِيَاسًا وَظَاهِرٌ أَنَّ الْقِيَاسَ رَاجِعٌ إلَى الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَ) لَا بُدَّ (لِلْقِيَاسِ مِنْ أَصْلٍ ثَابِتٍ بِأَحَدِهِمَا) أَيْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فَإِنَّهُ مُظْهِرٌ) لِلْحُكْمِ (لَا مُثْبِتٌ) فَلَا بُدَّ مِنْ مُثْبِتٍ وَهُوَ أَصْلُهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

ص: 101

(فَمَرْجِعُ الْأَحْكَامِ وَمُثْبِتُهَا اثْنَانِ فِي الْحَقِيقَةِ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِنَاءُ الْإِجْمَاعِ عَلَى السَّنَدِ وَالسَّنَدُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَزِمَ رُجُوعُهُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَيْضًا إذَا كَانَ أَصْلُ الْقِيَاسِ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَيَرْجِعُ إلَيْهِمَا وَأَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ بَلْ مُظْهِرٌ فَالْمُثْبِتُ الْحَقِيقِيُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَالْقِيَاسُ مُظْهِرٌ شَارِحٌ وَمُفَسِّرٌ مُبَيِّنٌ وَجْهَ الثُّبُوتِ فَقَوْلُهُ فِي الْحَقِيقَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ كَوْنَهَا دَلِيلَيْنِ صُورِيٌّ مَحْضٌ إذْ الدَّلِيلُ الْحَقِيقِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إمَّا الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ لَكِنْ يُرَدُّ أَنَّ حَاصِلَهُ فِي الْإِجْمَاعِ رُجُوعُهُ إلَى سَنَدِهِ.

وَالْأَصْلُ فِي سَنَدِ الْإِجْمَاعِ أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا وَالْأَصْلُ فِي الْإِجْمَاعِ الْقَطْعُ فَكَيْفَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ لَمْ يُنْسَبْ الْحُكْمُ إلَى السَّنَدِ أَيْ الْكِتَابِ مَثَلًا كَسَائِرِ مَا نُسِبَ إلَى الْكِتَابِ، فَإِنْ قِيلَ: السَّنَدُ ظَنِّيٌّ وَالْقَطْعُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ الْإِجْمَاعِ فَنَقُولُ كَيْفَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ وَالْحَالُ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْحُكْمِ هُوَ قَطْعِيَّتُهُ لَا ظَنِّيَّتُهُ، وَقَدْ يَكُونُ السَّنَدُ قَطْعِيًّا أَيْضًا وَلَوْ قُلْتُمْ الْإِجْمَاعُ مُبَيِّنٌ لِوَجْهِ دَلَالَةِ السَّنَدِ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ قُلْنَا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَبَيْنَهُ بَلْ الظَّاهِرُ حِينَئِذٍ كَوْنُهُمَا مُظْهِرَيْنِ أَوْ مُثْبِتَيْنِ وَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ لَعَلَّ حَلَّ هَذَا الْبَحْثِ يُعْلَمُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَا أَدِلَّةً أُخَرَ رَاجِعَةٌ أَيْضًا إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَشَرَائِع مَنْ قَبْلَنَا وَمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ وَالْعُرْفِ وَالتَّعَامُلِ وَالِاسْتِصْحَابِ وَالتَّحَرِّي وَالْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ وَالْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْقُرْعَةِ وَالتَّفْصِيلِ فِي الْأُصُولِيَّةِ كَالْمِرْآةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ رَاجِعَةٌ إلَى الْأَرْبَعَةِ وَالْأَرْبَعَةُ رَاجِعَةٌ إلَى اثْنَيْنِ بَلْ ثَانِي الِاثْنَيْنِ يَعْنِي السُّنَّةَ رَاجِعٌ إلَى أَوَّلِهِمَا أَيْ الْكِتَابِ إذْ السُّنَّةُ أَيْضًا شَرْحٌ وَبَيَانٌ لِلْكِتَابِ فَحِينَئِذٍ يَشْكُلُ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الدَّلِيلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَاللَّازِمُ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْكِتَابِ، وَإِنْ أُرِيدَ الدَّلِيلُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ فَاللَّازِمُ اعْتِبَارُ الْجَمِيعِ وَهُمْ اعْتَبَرُوا الْأَرْبَعَةَ (فَظَهَرَ مِنْ هَذَا) أَيْ مِنْ أَدِلَّةِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاحْتِرَازِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ هُوَ الْأَرْبَعَةُ الرَّاجِعَةُ إلَى اثْنَيْنِ (أَنَّ مَا يَدَّعِيه بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ) وَهُمْ الْمُتَشَقْشِقَةُ مِنْهُمْ يَعْنِي يُظْهِرُونَ الصَّفْوَةَ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا لِعَدَمِ إتْيَانِهِمْ عَلَى قَوَاعِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فِي زَمَانِنَا) وَهُوَ عَصْرُ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ سَنَةُ تِسْعِمِائَةٍ (إذَا أُنْكِرَ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (عَلَيْهِمْ بَعْضُ أُمُورِهِمْ) الْأُولَى فِي مَقَامِ الْمُبَالَغَةِ تَرَكَ لَفْظَ الْبَعْضِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ قَوْلَهُ (الْمُخَالِفُ) صِفَةً لِلْبَعْضِ (لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ) إجْمَاعًا أَوْ مُجْتَهَدًا فِيهِ يَعْنِي خِلَافِيًّا فَلَوْ وَافَقَ بِاجْتِهَادِ مُجْتَهِدٍ مَا، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَنْ عَدَاهُ لَا يَكُونُ مُنْكِرًا فَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِمُجْتَهِدٍ أَنْ يَرُدَّ مُجْتَهِدًا آخَرَ فِي مَحَلِّ خِلَافِهِمَا فَكَذَا مُقَلِّدُوهُمَا فَلَا يَعْتَرِضُ حَنَفِيٌّ عَلَى شَافِعِيٍّ بِأَكْلِ الضَّبِّ وَمَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَلَا شَافِعِيٌّ عَلَى حَنَفِيٍّ بِشُرْبِ نَبِيذٍ غَيْرِ مُسْكِرٍ لَكِنَّ هَذَا إنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّأْوِيلِ أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّهُ قَدْ فَصَّلَ فِيمَا مَرَّ بِأَنَّ مَنْ قَلَّدَ الْمُجْتَهِدَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى غَيْرِهِ.

وَلَوْ جَوَّزَ هَلْ يَلْزَمُ الِانْتِقَالُ فِي الْكُلِّ أَوْ يَجُوزُ فِي الْبَعْضِ مَعَ عَدَمِ الِانْتِقَالِ فِي الْبَاقِي (أَنَّ حُرْمَةَ ذَلِكَ) مَفْعُولُ يَدَّعِي أَيْ حُرْمَةَ مَا أَنْكَرَ إنَّمَا هُوَ (فِي الْعِلْمِ الظَّاهِرِ) فَحُرْمَتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الظَّاهِرِ أَيْ أَرْبَابِ الشَّرِيعَةِ (وَأَنَّا) مَعْشَرُ الصُّوفِيَّةِ (أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ) الْمُسَمَّى بِالطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ وَهُوَ عِلْمُ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَةُ أَحْوَالِهِ (وَإِنَّهُ) أَيْ مَا أُنْكِرَ (حَلَالٌ فِيهِ) فِي الْبَاطِنِ فَيَعْتَقِدُونَ الْحِلَّ الْقَطْعِيَّ فِيمَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ قَطْعًا فَكُفْرٌ صَرِيحٌ فَاعِلُهُ وَرَاضِيه وَلَوْ كَانَ مَا حَرَّمَ الشَّرْعُ غَيْرَ قَطْعِيٍّ بَلْ ظَنِّيٌّ فَلَا يُكَفَّرُ بَلْ يُفَسَّقُ أَوْ يُضَلَّلُ أَوْ يُجَهَّلُ (وَإِنَّكُمْ) وَفِي بَعْض النُّسَخِ وَأَنْتُمْ يَا أَهْلَ الظَّاهِرِ وَأَرْبَابَ الشَّرِيعَةِ (تَأْخُذُونَ) عَمَلكُمْ بَلْ اعْتِقَادُكُمْ (مِنْ الْكِتَابِ) الْقُرْآنِ (وَأَنَّا نَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِهِ) أَيْ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ ظُهُورُهُ فِي يَدِ (مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مَنَامًا أَوْ يَقَظَةً أَوْ حَالًا فَعِنْدَهُمْ الرُّؤْيَا وَالْإِلْهَامُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى قَطْعِيَّاتِ الْكِتَابِ وَسَيُصَرِّحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ مُطْلَقًا فَضْلًا عَنْ الْقَطْعِيِّ (فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا مَسْأَلَةٌ

ص: 102

اسْتَفْتَيْنَاهَا مِنْهُ) أَيْ طَلَبْنَا فَتْوَاهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَإِنْ حَصَلَ) مِنْ فَتْوَاهُ (قَنَاعَةٌ فِيهَا) نَعْمَلْ (وَإِلَّا رَجَعْنَا) فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ (إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالذَّاتِ) إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّا نَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَيْنَا مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فَيُمْكِنُ لَنَا الرُّجُوعُ إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى فِي أَيِّ وَقْتٍ (فَنَأْخُذُ مِنْهُ) عز وجل وَهَذَا كُفْرٌ أَيْضًا اعْلَمْ إنَّمَا ادَّعَوْا مِنْ أَخْذِ الْفَتْوَى مِنْ النَّبِيِّ أَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا بِمُقْتَضَى عَالَمِ الْمِثَالِ الَّذِي أَثْبَتُوهُ أَوْ بِمُقْتَضَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ الْحِسِّيِّ الْخَارِجِيِّ، فَالْأَوَّلُ إنَّمَا يُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ وَرَحْمَانِيَّتُهُ بِمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذْ كُلُّ وَقَائِعَ وَوَارِدَاتٍ مُخَالِفَةٍ لِلشَّرْعِ فَوَسَاوِسُ شَيْطَانِيَّةٌ كَمَا هُوَ عِنْدَ مُحَقِّقِي الصُّوفِيَّةِ فَتَرْكُ قَطْعِيَّاتِ الشَّرْعِ بِتَرْجِيحِ الْوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِيَّةِ كُفْرٌ عِنْدَهُمْ كَمَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ.

وَالثَّانِي: أَعْنِي رُؤْيَةَ شَخْصِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقَظَةً بِعَيْنِ الرَّأْسِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَرُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِ الرَّأْسِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالْأَوَّلُ عَقْلِيٌّ إذْ الْمَوْتَى مَا دَامُوا كَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ ذَلِكَ

وَأَمَّا الثَّانِي فَمُمْتَنِعٌ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ وَجَائِزٌ عِنْدَ بَعْضِ غَيْرِهِمْ وَعِنْدَ الْمُجَوِّزِ هَلْ كَانَ وُقُوعُهُ أَوَّلًا قِيلَ نَعَمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مَرَّةً وَقِيلَ لَا فَدَعْوَى وُقُوعِ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ تَعَالَى سِيَّمَا كُلَّمَا أَرَادُوا رُؤْيَتَهُ عز وجل خَرْقُ إجْمَاعٍ وَتَفْضِيلٍ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ فَكُفْرٌ وَلَوْ فُرِضَ جَوَازُهُ عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ فَمَا نَقَلُوا عَنْهُ تَعَالَى أَوْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام خِلَافَ شَرِيعَتِهِ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إذْ ذَلِكَ إمَّا بِالنَّسْخِ أَوْ بِنِسْيَانِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلُ مُخَالِفٌ لِخَبَرِ الْكِتَابِ الْقَطْعِيِّ بِتَأْيِيدِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ إلَى الْقِيَامَةِ.

وَالثَّانِي إثْبَاتُ جَهْلٍ لَهُ تَعَالَى وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ أَيْضًا ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ الْفَاضِلُ الْمُنَاوِيُّ عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ» .

وَقَالَ جَمْعٌ مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ بَلْ يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا حَقِيقَةً، وَقَدْ نَصَّ عَلَى إمْكَانِ رُؤْيَتِهِ بَلْ وُقُوعُهَا أَعْلَامٌ مِنْهُمْ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ.

وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ يَلْزَمُ كَوْنُ الرَّائِي صَحَابِيًّا رُدَّ بِأَنَّ الصَّحَابِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ بِالرُّؤْيَةِ الْمُتَعَارَفَةِ، وَكَذَا عَنْ رِسَالَةِ السُّيُوطِيّ.

وَعَنْ شَرْحِ الشَّمَائِلِ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا دَاعِيَ إلَى التَّخْصِيصِ بِرُؤْيَةِ الْمِثَالِ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَيٌّ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ وَيَسِيرُ حَيْثُ شَاءَ فِي الْأَرْضِ وَالْمَلَكُوتِ وَكَوْنِهِ غَيْبًا عَنْ الْأَبْصَارِ كَغَيْبِ الْمَلَائِكَةِ.

وَفِي الْمُنَاوِيِّ أَيْضًا قَالَ الْحُجَّةُ وَلَيْسَ رَائِيهِ يَرَى بَدَنَهُ بَلْ مِثَالًا صَارَ آلَةً لِتَأْدِي الْمَعْنَى وَالْآلَةُ تَكُونُ حَقِيقَةً وَخَيَالِيَّةً وَالنَّفْسُ غَيْرُ الْمِثَالِ الْمُتَخَيَّلِ فَمَا رَآهُ مِنْ الشَّكْلِ لَيْسَ رُوحَ النَّبِيِّ وَلَا شَخْصَهُ بَلْ مِثَالُهُ انْتَهَى.

وَقَالَ الشَّاذِلِيُّ لَوْ حُجِبَ عَنِّي طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا عَدَدْت نَفْسِي وَكَانَ بَعْضُهُمْ إذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ حَتَّى أَعْرِضَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَطْرُقُ ثُمَّ يَقُولُ قَالَ كَذَا فَيَكُونُ كَمَا أَخْبَرَ لَا يَتَخَلَّفُ (وَإِنَّا بِالْخَلْوَةِ) بِالْوَحْشَةِ عَنْ الْخَلْقِ (وَهِمَّةِ شَيْخِنَا) الَّذِي يُرَبِّينَا وَيُرْشِدُنَا وَيَتَصَرَّفُ فِينَا (نَصِلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى) بِالْمَعْرِفَةِ الْكَامِلَةِ أَوْ بِالرُّؤْيَةِ الْعَيَانِيَّةِ (فَتَنْكَشِفُ لَنَا الْعُلُومُ) إلْهَامًا ضَرُورِيًّا أَوْ بِأَخْذِنَا مِنْهُ (فَلَا نَحْتَاجُ إلَى الْكِتَابِ) الْقُرْآنِ أَوْ مُطْلَقِ كُتُبِ الْعِلْمِ (وَالْمُطَالَعَةِ وَالْقِرَاءَةِ عَلَى الْأُسْتَاذِ) قِيلَ بِالْمُهْمَلَةِ فِي الْعِلْمِ وَبِالْمُعْجَمَةِ فِي الصِّنَاعَاتِ وَيُخَالِفُهُ مَا نُقِلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْ خَطِّ ابْنِ الْكَمَالِ أَنَّ أُسْتَاذَ لَفْظٌ مُرَكَّبٌ أَعْجَمِيٌّ وَأَصْلُهُ است وآذواست بِالْفَارِسِيَّةِ هُوَ الْكِتَابُ وَآذَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بِالْفَارِسِيِّ بِمَعْنَى الصَّاحِبِ كَأَنَّهُ قَالَ صَاحِبُ الْكِتَابِ، فَإِنْ أَرَادُوا بِانْكِشَافِ الْعُلُومِ انْكِشَافَهَا عَلَى وَجْهٍ يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالشَّرْعَ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى مُرَاجَعَتِهَا فَلَمْ تُجْرِهِ عَادَتُهُ تَعَالَى، وَإِنْ أَمْكَنَ فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِحِكْمَةِ إنْزَالِ الْكِتَابِ وَإِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَبِيُّهُ عليه الصلاة والسلام بِطَلَبِ الْعِلْمِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى فَرْضِيَّةِ تَحْصِيلِ عِلْمِ الْحَالِ فَكُفْرٌ وَضَلَالَةٌ نَعَمْ قَدْ يُمْكِنُ ذَلِكَ لَكِنْ

ص: 103

يَلْزَمُ تَطْبِيقُهُ بِالشَّرْعِ، وَإِنْ أَرَادُوا عَلَى وَجْهٍ يُخَالِفُ الشَّرْعَ أَوْ أَعَمَّ وَاعْتَقَدُوا حَقِّيَّتَهُ أَوْ رُجْحَانَهُ عَلَى الْكِتَابِ فَكُفْرٌ مَحْضٌ وَاعْلَمْ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ إنْكَارَ طَرِيقَةِ الصُّوفِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ كَيْفَ وَهُوَ سَبِيلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ فَكَمَالُ الْإِنْسَانِ إنَّمَا يَكُونُ بِجَمْعِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لَكِنَّ الْبَاطِنَ كَالْمَقْصُودِ لِذَاتِهِ وَالظَّاهِرَ كَشَرْطٍ فَهُمَا كَالْجَنَاحَيْنِ لِلطَّائِرِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ اسْتَأْذَنْت مِنْهُ فِي عَالَمِ الْمِثَالِ عَلَى الْقَصْرِ عَلَى الْبَاطِنِ لَا فَإِنَّهُمَا جَنَاحَانِ يُطَارُ بِهِمَا إلَى أَعَالِي مَقَاصِدِ النَّجَاحِ وَالْخَلْوَةُ وَهِمَّةُ الشَّيْخِ الْكَامِلِ الْجَامِعِ رِيَاسَتَيْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَهُمَا تَأْثِيرَاتٌ فِي الْوُصُولِ وَالِانْكِشَافِ لَكِنْ لَيْسَا عَلَى نَهْجِ مَا ادَّعَوْا بَلْ عَلَى نَهْجِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا إذْ مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَسَاوِسُ وَغَوَائِلُ لَا عُلُومٌ وَمَعَارِفُ

(وَأَنَّ الْوُصُولَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ إلَّا بِرَفْضِ) تَرْكِ (الْعِلْمِ الظَّاهِرِ) الْمَعْلُومِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (وَ) رَفْضِ (الشَّرْعِ) كَعَطْفِ تَفْسِيرٍ، فَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّا نَتْرُكُ الشَّرْعَ لِحُصُولِ الْوُصُولِ إلَى حَقَائِقِ الشَّرْعِ بِدُونِ مُرَاجَعَةٍ إلَيْهِ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ يُوجِبُ نَفْيَ حِكْمَةِ الْبَعْثَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَعَبَثِيَّةَ وَضْعِ الشَّرَائِعِ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَإِنْ أَرَادُوا تَرْكَ الشَّرْعِ لِلِاشْتِغَالِ بِمُرَاقَبَتِهِ سبحانه وتعالى وَلِاسْتِيعَابِ الْأَوْقَاتِ فِي شُهُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَيْضًا كُفْرٌ إذْ ذَلِكَ اعْتِقَادُ سُقُوطِ التَّكْلِيفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَجْلِ الْمُرَاقَبَةِ نَعَمْ الْمُرَاقَبَةُ الْمَذْكُورَةُ وَمُطَالَعَةُ جَلَالِهِ تَعَالَى وَجَمَالِهِ أَحْسَنُ الْمَحَاسِنِ لَكِنْ بَعْدَ مُحَافَظَاتِ حَقَائِقِ الشَّرْعِ وَدَقَائِقِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ عُلُومَنَا وَأَعْمَالَنَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَعْدِنِ الرِّسَالَةِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ صَحَّ لَنَقَلَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ الْتَزَمُوا بَيَانَ أَحْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَشَاعَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُمْ أُمَنَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَيْفَ وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي يَلْزَمُ إعْلَانُهَا وَنَشْرُهَا (وَإِنَّا لَوْ كُنَّا عَلَى الْبَاطِلِ) كَمَا زَعَمَ أَهْلُ الظَّاهِرِ (لَمَا حَصَلَ لَنَا) مِنْ اللَّهِ (تِلْكَ الْحَالَاتُ السَّنِيَّةُ) الرَّفِيعَةُ الْمُضِيئَةُ مِنْ حَلِّ مُشْكِلَاتِهِمْ إلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَالْمُرَاجَعَةِ إلَى اللَّهِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَنَاعَةِ بِالنَّبِيِّ وَعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْعُلُومِ بِالْخَلْوَةِ وَهِمَّةِ الشَّيْخِ (وَالْكَرَامَاتِ الْعَلِيَّةِ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْأَنْوَارِ) الْمَلَكُوتِيَّةِ (وَرُؤْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْكِبَارِ) مَنَامًا أَوْ يَقَظَةً بِقُوَّةِ الْمُجَاهَدَةِ وَخَرْقِ الْحُجُبِ الْمَادِّيَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْوُصُولِ إلَى الْقُدْسِيَّةِ الرَّحْمَانِيَّةِ.

قُلْنَا كُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ شُهُودَ أَنْوَارِهِ وَرُؤْيَةَ أَنْبِيَائِهِ لِمُرْتَكِبِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَبَاطِيلِ، وَقَدْ جَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْأَحْوَالَ نَتَائِجَ صَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ عَلَى قَوَانِينِ الشَّرِيعَةِ وَثَمَرَاتِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَنْ يَصِلَ أَحَدٌ إلَى الثَّمَرَةِ بِدُونِ الشَّجَرَةِ فَالثَّمَرَةُ بِدُونِ الشَّجَرَةِ مُحَالٌ كَمَا أَنَّ الشَّجَرَةَ بِدُونِ الثَّمَرَةِ عَبَثٌ وَخِلَافٌ وَوَبَالٌ وَلِذَا اتَّفَقَ الْمَشَايِخُ عَلَى أَنَّ الْأَحْوَالَ مَوَارِيثُ الْأَعْمَالِ وَلَا يَرِثُ الْأَحْوَالَ إلَّا مَنْ صَحَّحَ الْأَعْمَالَ فَمِثْلُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَاتِ اللَّدُنْيَّةِ إنَّمَا تَنْكَشِفُ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى مُتَابَعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُسُوخِ الْأَقْدَامِ فِي دَقَائِقِ الْمُتَابَعَةِ وَحَقَائِقِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى التَّقْوَى وَالْمُجَانَبَةِ عَنْ فِتَنِ الْهَوَى فَعُلُومُهُمْ لَدُنْيَّةٌ وَأَرْوَاحُهُمْ عَرْشِيَّةٌ.

وَإِنْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمْ فَرْشِيَّةً فَهُمْ كَائِنُونَ بَائِنُونَ قَرِيبُونَ غَرِيبُونَ ثُمَّ نَقُولُ: إنَّ مَنْ رَوَاهُ شَيْطَانٌ مَكْرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعَدَمِ اسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى الشَّرْعِ وَالشَّيْطَانُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَقُولَ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَشَكَّلْ بِشَكْلِهِ الشَّرِيفِ وَلَوْ سَلِمَ فَالرُّؤْيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قِيلَ (وَأَنَّا إذَا صَدَرَ مِنَّا مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ نُبِّهْنَا) عَلَى الْمَفْعُولِ (فِي النَّوْمِ بِالرُّؤْيَا فَنَعْرِفُ بِهَا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ وَالْحُرْمَةَ وَالْحِلَّ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ وَالشَّرِيعَةِ.

وَقَدْ حَصَرُوا الْوُصُولَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِرَفْضِهِ آنِفًا فَهَذَا تَنَاقُضٌ كَقَوْلِهِمْ نَأْخُذُ الْفَتْوَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ هَذَا التَّنْبِيهِ الرُّؤْيَائِيِّ إيجَابُ

ص: 104

تَنَافٍ وَكَقَوْلِهِمْ: بَعْضُ أُمُورِنَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ آنِفًا بَعْضُ أُمُورِهِمْ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ مَعَ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُنْفَهِمَةِ مِنْ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِمْ وَالْوُصُولُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إلَخْ هِيَ كُلُّ أُمُورِنَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَأَنَّ مَا نَبَّهَ فِي النَّوْمِ أَمْرٌ خَيَّالِيٌّ حُجِّيَّتُهُ ضَعِيفَةٌ وَارْتِكَابُ الْحُجَجِ الضَّعِيفَةِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقَطْعِيَّةِ الْقَوِيمَةِ.

وَقَدْ حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ بِزَعْمِهِمْ فَتَرْجِيحُ مَرْجُوحٍ وَارْتِكَابُ مُحَالٍ أَيْضًا (وَأَنَّ مَا فَعَلْنَا مِمَّا قُلْتُمْ إنَّهُ حَرَامٌ لَمْ نُنْهَ) لِلْمَفْعُولِ (عَنْهُ فِي الْمَنَامِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ حَلَالٌ) ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا صَدَرَ عَنَّا أَمْرٌ مَمْنُوعٌ نُبِّهْنَا فِي الْمَنَامِ وَلَا شَكَّ أَنَّ صِحَّةَ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةِ إمَّا مِنْ الشَّرْعِ وَهُوَ مُنْتَفٍ ظَاهِرًا أَوْ مِنْ الْعَقْلِ وَلَا عَقْلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ ثُمَّ نَقُولُ أَوَّلًا إنَّ مَا ادَّعَوْا مِنْ الْمَنَامِ كَذِبٌ بَحْتٌ وَلَوْ سَلَّمَ، فَإِنَّهُ خَيَالَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَوَسَاوِسُ نَفْسَانِيَّةٌ لِرَفْضِهِمْ حُدُودَهُ تَعَالَى.

نَعَمْ قَدْ يُنَبِّهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ خَوَاصِّ عِبَادِهِ وَخُلَّصِ أَوْلِيَائِهِ عَلَى الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ مَنَامًا أَوْ يَقَظَةً كَمَا نُقِلَ عَنْ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ أَنَّهُ إذَا تَنَاوَلَ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ تَحَرَّكَ فِيهِ إصْبَعُهُ.

وَعَنْ الْبَعْضِ يَشُمُّ رَائِحَةً كَرِيهَةً وَفِي حَلَّ الرُّمُوزِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى الْخَضِرَ فَقَالَ هَلْ رَأَيْت أَحَدًا فَوْقَك قَالَ نَعَمْ كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يَرْوِي الْأَحَادِيثَ وَالنَّاسُ يَزْدَحِمُونَ وَرَأَيْت شَابًّا مِنْ بَعِيدٍ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ فَقُلْت لَهُ لَمْ لَا تَأْخُذْ الْأَحَادِيثَ فَقَالَ إنَّهُ يَرْوِي وَأَنَا لَسْت بِغَائِبٍ عَنْ اللَّهِ فَقُلْت لَهُ إنْ كُنْت صَادِقًا فَمَنْ أَنَا فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْخَضِرُ فَعَلِمْت أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَمْ أَعْرِفْهُمْ وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ الْكَتَّانِيِّ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ شَيْخًا دَخَلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ فَجَاءَ عِنْدِي وَقَالَ لِي لِمَ لَا تَسْمَعُ أَحَادِيثَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.

فَقُلْت إنِّي أَسْمَعُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يُحَدِّثُنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي فَقَالَ هَلْ لَك حُجَّةٌ قُلْت حُجَّتِي أَنَّك الْخَضِرُ قَالَ الْخَضِرُ فَعَلِمْت أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا أَعْرِفُهُمْ، فَإِنَّهُ عَرَفَنِي وَأَنَا مَا عَرَفْته (وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التُّرَّهَاتِ) جَمْعُ تُرَّهَةٍ الْأَبَاطِيلُ (كُلُّهُ) لَا بَعْضُهُ (إلْحَادٌ) مَيْلٌ وَعُدُولٌ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (وَضَلَالٌ) إعْرَاضٌ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرُ إنَّ فِي قَوْلِهِ إنَّ مَا يَدَّعِيه بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ (إذْ فِيهِ) أَيْ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَقَالَاتِ (ازْدِرَاءٌ لِلشَّرِيعَةِ) أَيْ احْتِقَارُهَا (الْحَنِيفِيَّةِ) الْمَائِلَةِ عَنْ الْبَاطِلِ إلَى الْحَقِّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ.

قَالَ الْكَرْمَانِيُّ الْمِلَّةُ السَّمْحَةُ الَّتِي لَا حَرَجَ فِيهَا وَلَا ضِيقَ عَلَى النَّاسِ.

وَفِي الْمُغْرِبِ الْحَنِيفُ الْمَائِلُ عَنْ كُلِّ دِينٍ

ص: 105

بَاطِلٍ إلَى الدِّينِ الْحَقِّ.

وَفِي الْقَامُوسِ الْحَنَفُ مُحَرَّكَةٌ، الِاسْتِقَامَةُ، وَالْحَنِيفُ الصَّحِيحُ الْمَيْلُ إلَى الْإِسْلَامِ الثَّابِتُ عَلَيْهِ.

وَعَنْ ابْنِ الْقَيِّمِ جَمَعَ بَيْنَ كَوْنِهَا حَنِيفِيَّةً وَسَمْحَةً لِكَوْنِهَا حَنِيفِيَّةً فِي التَّوْحِيدِ سَمْحَةً فِي الْعَمَلِ، وَوَجْهُ الِازْدِرَاءِ اسْتِلْزَامُ عَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لِلْأَخْذِ مِنْ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فِي الْمَنَامِ (وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ) كَعَطْفِ أَحَدِ اللَّازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ هَذَا بِقَوْلِهِمْ نَصِلُ بِالْخَلْوَةِ وَهِمَّةِ الشَّيْخِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى الْكِتَابِ وَالْقِرَاءَةِ (وَعَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِمَا) هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ الْوُصُولُ لَا يَكُونُ إلَّا بِرَفْضِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ (وَتَجْوِيزِ الْخَطَأِ) ضِدُّ الصَّوَابِ خُصَّ هَذَا بِأَلْفَاظٍ كَمَا خُصَّ قَوْلُهُ (وَالْبُطْلَانِ) بِالْمَعَانِي (فِيهِمَا) أَيْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ لَوْ كُنَّا عَلَى الْبَاطِلِ إلَخْ.

(وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى) مِنْ ذَلِكَ (فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ الْبَاطِلَةِ الْإِنْكَارُ عَلَى قَائِلِهِ) إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِنْكَارِ إمَّا بِالنُّصْحِ اللَّيِّنِ أَوْ الْغِلْظَةِ أَوْ الضَّرْبِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَبِالْقَلْبِ كَمَا فِي سَائِرِ نَهْيِ الْمُنْكَرِ (وَالْجَزْمِ بِبُطْلَانِ مَقَالِهِ بِلَا شَكٍّ وَلَا تَرَدُّدٍ وَلَا تَوَقُّفٍ وَلَا تَلَبُّثٍ) بِلَا لُبْثٍ وَلَا تَأْخِيرٍ هَذِهِ تَأْكِيدَاتٌ لِكَمَالِ الِاهْتِمَامِ وَلِدَفْعِ وَهْمِ الِاعْتِقَادِ بِظَوَاهِرِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الْخَوَارِقِ الَّتِي اسْتَدْرَجَهُمْ اللَّهُ بِهَا كَمَا نُقِلَ عَنْ كَثِيرِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يُسَاعِدُهُ الشَّرْعُ فَهُوَ بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ وَكُلُّ صُوفِيٍّ لَا يُجَاهِدُ فِي مُحَافَظَتِهِ فَمَفْتُونٌ جَاهِلٌ إذَا رَأَيْت مَنْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ أَوْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَلَيْسَ مُطَابِقًا لِلشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ فَلَا تُصَدِّقْهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذْ لَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ سِوَى الشَّرِيعَةِ فَكُلُّ مُخَالِفٍ مِنْ فَرِيقٍ فَهُوَ غَرِيقٌ أَوْ حَرِيقٌ (وَإِلَّا) إنْ لَمْ يُنْكِرْ أَوْ أَنْكَرَ لَكِنْ بِالشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِنْكَارِ بِدُونِ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ لَيْسَ بِمُفِيدٍ (فَهُوَ) مَحْسُوبٌ (مِنْ جُمْلَتِهِمْ) أَوْ مُلْحَقٌ بِهِمْ فَعَدَمُ الْإِنْكَارِ مَعَ الْجَزْمِ بِلَا شَكٍّ لَا يَجْعَلُهُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَإِنْ حُسِبَ مِنْهُمْ مِنْ حَيْثُ أَصْلُ التَّفْسِيقِ إلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْإِنْكَارِ هَذَا لَكِنْ قَوْلُهُ (فَيُحْكَمُ بِالزَّنْدَقَةِ) لَا يُلَائِمُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَتَخْصِيصُ ضَمِيرِ (عَلَيْهِمْ) بِالْقَائِلِينَ دُونَ تَارِكِي الْإِنْكَارِ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ الْإِنْكَارُ أَعَمَّ إلَى الْإِنْكَارِ الْقَلْبِيِّ.

قَالَ فِي الْقَامُوسِ الزِّنْدِيقُ بِالْكَسْرِ مِنْ الثَّنَوِيَّةِ أَوْ الْقَائِلُ بِالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ أَوْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَلَا بِالرُّبُوبِيَّةِ

ص: 106

أَوْ مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ أَوْ هُوَ مُعَرَّبُ زَنْ دِينِ أَيْ دِينِ الْمَرْأَةِ.

وَعَنْ أَبِي اللَّيْثِ مَنْ لَا يُوَحِّدُ.

وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ مُلْحِدٌ وَدَهْرِيٌّ.

وَعَنْ ابْنِ دُرَيْدٍ مُعَرَّبُ زنده أَيْ مَنْ يَقُولُ بِدَوَامِ الدَّهْرِ.

وَعَنْ الْمَوَاهِبِ مَنْ لَا يَتَقَيَّدُ بِدِينٍ.

وَعَنْ جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى هُمْ قَائِلُونَ بِجَوَازِ اسْتِعْمَالِ لَفْظٍ مَوْضُوعٍ لِمَعْنًى فِي شَيْءٍ آخَرَ أَيْ بِلَا عَلَاقَةٍ.

فَلَوْ قَالَ تُبْت يَجُوزُ مَعْنًى غَيْرُ التَّوْبَةِ فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَفِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ الْبَاطِنِيَّةِ قَائِلُونَ بِبَاطِنِ الْكِتَابِ دُونَ ظَاهِرِهِ لِقَصْدِ إبْطَالِ الشَّرَائِعِ وَقِيلَ الزِّنْدِيقُ الْمُنَافِقُ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ أَقَاوِيلَهُمْ هَذِهِ، وَإِنْ كَانَتْ كُفْرًا لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهَا لَيْسَتْ زَنْدَقَةً بِشَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهَا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي مَعْنَى مَنْ لَا يَتَقَيَّدُ بِدِينٍ مُبَالَغَةً أَوْ مَجَازًا وَبِهِ تَضْمَحِلُّ وَتَنْدَفِعُ الشُّبْهَةُ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ مُطْلَقًا وَالزِّنْدِيقُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مُطْلَقًا كَمَا نُقِلَ عَنْ جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى وَفِي كِتَابِ الْحَصْرِ مِنْ قَاضِي خَانْ وَبَعْدَ الْأَخْذِ فِي سِيَرِ قَاضِي خَانْ لَا وَقَبْلَ الْأَخْذِ تُقْبَلُ وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ مَالِكٍ

وَفِي أَصَحِّ أَقْوَالِ الشَّافِعِيَّةِ الْقَبُولُ مُطْلَقًا ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُفْتَرَيَاتٌ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُمْ بَرِيئُونَ مِنْهُ وَلِذَا كَانَ مَوْتُهُ بِأَمَارَاتِ سُوءِ الْخَاتِمَةِ بِمَا لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ.

وَهَذَا مِنْ خُبْثِ الْبَاطِلِ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَعَدِّ نَفْسِهِ مُسْتَقِلًّا فِي إصْلَاحِ الْعَالَمِ وَمُبَارَزَةِ مُعَادَاةِ اللَّهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» وَرُدَّ أَنَّهُ افْتِرَاءٌ عَلَى مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فَيَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَى قَائِلِهِ بِبُطْلَانِ مَقَالِهِ وَقِيلَ إنِّي سَمِعْت مِنْ بَعْضِ تَلَامِذَةِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الثِّقَاتِ الْحَاضِرِينَ عِنْدَ نَزْعِ رُوحِهِ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ وَقِرَاءَةِ الْإِخْلَاصِ وقَوْله تَعَالَى - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} [الكهف: 107]- الْآيَةُ.

وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى حُسْنِ حَالِهِ جَمِيعُ مُصَنَّفَاتِهِ وَأَقُولُ أَيْضًا وَتَوَاتُرُ حُسْنِ أَخْلَاقِهِ وَأَحْوَالِهِ فَالْكَلَامُ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ أَقُولُ: إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُتَصَوِّفَةِ مَنْ يَقُولُ جِنْسَ هَذِهِ الْأَبَاطِيلِ فَتَعَصُّبٌ مَحْضٌ، وَإِنْكَارٌ لِلْمَحْسُوسَاتِ وَالْمُتَوَاتِرَاتِ إذْ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ حِسًّا أَوْ تَوَاتُرًا وَأَنَّهُ إنْ ادَّعَى عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يُوجَدُوا فِي مَحَلٍّ لَا يَبْلُغُهُ اسْتِقْرَاءُ الْمَوْرِدِ عَلَيْهِ وَوَصَلَ إلَى الْمُصَنِّفِ عِلْمُهُ وَأَنَّ النَّاقِصَ فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ فِي الْمُتَصَوِّفَةِ مَنْ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ لَكِنَّ مَنْ شَنَّعَ عَلَيْهِمْ الْمُصَنِّفُ لَيْسُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ أَيْضًا إذْ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَعْيِينُهُمْ وَالْجَزْمُ عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَى مُعَيَّنٍ بِغَيْرِ مَا أَخْبَرَهُ الصَّادِقُ لَيْسَ بِجَائِزٍ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ عَدَمُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْفُحْشِيَّاتِ إنَّمَا كَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْإِنْكَارُ عَدَمُ الرِّضَا عَلَى الْقَضَاءِ فَكُفْرٌ مُوجِبٌ لِعَبَثِيَّةِ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْكَارُ وُجُوبِ نَهْيِ الْمُنْكَرِ وَأَيُّ كَلَامٍ يَدُلُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى عَدِّ نَفْسِهِ مُصْلِحًا لِلْعَالَمِ بَلْ فِيهِ إظْهَارُ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ، وَإِنْكَارُ أَشْنَعِ مُنْكَرَاتِ اللَّهِ تَعَالَى

(وَقَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ) مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ كَالنَّسَفِيِّ (بِأَنَّ الْإِلْهَامَ) يُقَالُ أَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا لَقَّنَهُ إيَّاهُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَقِيلَ مَا يُلْقِيهِ اللَّهُ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ الْأَسْرَارِ.

وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ هُوَ إلْقَاءُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ بِطَرِيقِ الْفَيْضِ وَفِي تَعْرِيفَاتِ السَّيِّدِ الشَّرِيفِ وَقِيلَ الْإِلْهَامُ مَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ مِنْ عِلْمٍ وَهُوَ يَدْعُو إلَى الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِآيَةٍ وَلَا نَظَرٍ فِي حُجَّةٍ (لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَحْكَامِ) لَعَلَّ تَقْيِيدَهُ بِالْأَحْكَامِ أَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ وَفِي اخْتِيَارِ الْمَعْرِفَةِ دُونَ الْعِلْمِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ عِلْمًا جُزْئِيًّا وَلَوْ ظَنًّا فَضْلًا عَنْ الْعِلْمِ الْكُلِّيِّ الْقَطْعِيِّ.

قَالَ الشَّرِيفُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إلَّا عِنْدَ الصُّوفِيِّينَ لَعَلَّ مُرَادَهُ عِنْدَ بَعْضِ الصُّوفِيِّينَ.

وَفِي بَعْضِ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْغَيْرِ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى نَفْسِهِ لَعَلَّ الْأَوْلَى التَّفْصِيلُ أَنَّهُ إنْ مِنْ النَّبِيِّ فَحُجَّةٌ لَهُ وَلَنَا، وَإِنْ مِنْ الْوَلِيِّ فَحُجَّةٌ لَهُ لَا لَنَا، وَإِنْ مِنْ الْعَوَامّ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لَا لَهُ وَلَا لَنَا.

وَفِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ أَنَّ الْإِلْهَامَ لَيْسَ سَبَبًا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لِعَامَّةِ الْخَلْقِ وَيَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، وَقَدْ وَرَدَ الْقَوْلُ بِهِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ

ص: 107

حُكِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ فَيَجِبُ حَمْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَرِدُ عَلَى الضَّمَائِرِ إنْ مِنْ الْمَلَكِ فَإِلْهَامٌ، وَإِنْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَخَاطِرٌ حَقٌّ، وَإِنْ مِنْ الشَّيْطَانِ فَوَسْوَاسٌ، وَإِنْ مِنْ النَّفْسِ فَهَوَاجِسُ أَوْ حَدِيثُ النَّفْسِ كَمَا فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ وَفِي حَلِّ الرُّمُوزِ أَيْضًا وَعَلَامَةُ كُلِّ قِسْمٍ فَمَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْعِلْمِ أَيْ الظَّاهِرِ فَمِنْ الْمَلَكِ وَلِذَا قِيلَ كُلُّ خَاطِرٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ ظَاهِرٌ فَبَاطِلٌ وَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَاصِي فَمِنْ الشَّيْطَانِ وَمَا يَدُلُّ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَاسْتِشْعَارِ الْكِبْرِ وَسَائِرِ مَا هُوَ مِنْ أَوْصَافِ النَّفْسِ فَمِنْ النَّفْسِ وَالْفَرْقُ الْمَنْقُولُ عَنْ الْجُنَيْدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ أَصَرَّ وَاسْتَمَرَّ إلَى حُصُولِ الزَّلَّةِ فَحَدِيثُ نَفْسٍ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَطَلَبَ زَلَّةً أُخْرَى فَوَسْوَسَةٌ.

وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ اتَّفَقُوا أَنَّ آكِلَ الْحَرَامِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِلْهَامِ.

وَعَنْ الدَّقَّاقِ وَكَذَا مَنْ كَانَ قُوتُهُ مَعْلُومًا

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ خَاطِرِ الْحَقِّ وَالْمَلَكِ أَنَّ الْأَوَّلَ الْعَبْدُ لَا يُخَالِفُهُ أَصْلًا وَالثَّانِي قَدْ يُخَالِفُهُ وَبِمَا ذُكِرَ عَرَفْت أَنَّ الْإِلْهَامَ إنَّمَا يُوجَدُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُجَانَبَةِ الْهَوَى وَالْبِدْعَةِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَأْخُذْ عِلْمَهُ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ فَوَسْوَسَةٌ أَوْ هَوَاجِسُ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِلْهَامَ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ إنَّمَا يَكُونُ طَرِيقًا صَحِيحًا لِفَهْمِ مَعَانِيهِمَا وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ الْفِقْهِيِّ وَإِلَّا فَوَسْوَسَةٌ كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ

وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عليهما السلام عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْوَحْيِ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّي الَّذِي مِنْ قَبِيلِ الْإِلْهَامِ فَقِيلَ كُفْرٌ مُوجِبٌ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ مُوسَى عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَمْ يَكُنْ الْخَضِرُ مَأْمُورًا بِمُتَابَعَتِهِ (وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَا فِي الْمَنَامِ) فِي عَدَمِ كَوْنِهَا مِنْ أَسْبَابِ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ الرُّؤْيَا كَالْبُشْرَى مُخْتَصَّةٌ غَالِبًا بِشَيْءٍ مَحْبُوبٍ يُرَى مَنَامًا وَقِيلَ هِيَ كَالرُّؤْيَةِ أَلْفُ تَأْنِيثٍ مَكَانُ تَائِهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُرَى نَوْمًا وَيَقَظَةً فَإِدْرَاكُ الْيَقَظَةِ رُؤْيَةٌ وَإِدْرَاكُ النَّوْمِ رُؤْيَا ثُمَّ الرُّؤْيَا خَيَالٌ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ ضِدُّ الْإِدْرَاكِ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَنَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَبِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ كَوْنِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَعَمَلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا قَبْلَ الْوَحْي وَأُجِيبَ أَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَامَّةِ الْخَلْقِ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ إنْكَارَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِنَاءً عَلَى إنْكَارِهِمْ الْحَوَاسَّ الْبَاطِنَةَ مُطْلَقًا فَلَا قَائِلَ فِي إثْبَاتِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَدُفِعَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَى طَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ

أَقُولُ: يَئُولُ الْكَلَامُ حِينَئِذٍ إلَى أَنْ تَكُونَ خَيَالًا بَاطِلًا فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ إطْلَاقِ نَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» .

وَفِي رِوَايَةٍ «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «رُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ» الْحَدِيثُ وَفِي رِوَايَةٍ «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» وَأَيْضًا حَدِيثُ «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ» وَحَدِيثُ «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ بُشْرَى مِنْ اللَّهِ» وَحَدِيثُ «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الْعَبْدَ رَبُّهُ فِي الْمَنَامِ» وَحَدِيثُ «يَنْقَطِعُ الْوَحْيُ وَلَا تَنْقَطِعُ الْمُبَشِّرَاتُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ الَّتِي يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ» .

وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخَوَارِقِ عَلَى طَرِيقِ الْكَرَامَةِ يَرُدُّهُ مَا فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ، وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْكُفَّارِ مَنَامَاتٌ صَادِقَةٌ كَمَنَامِ الْمَلِكِ الَّذِي رَأَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ وَمَنَامِ عَاتِكَةَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ كَافِرَةٌ وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ الْمُوَافِقَ لِلنُّصُوصِ وَالْمُنَاسِبَ لِمَا تَشْهَدُ بِهِ التَّجَارِبُ مَا قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْضًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ: النَّاسُ فِي الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّ رُؤْيَاهُمْ صِدْقٌ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى التَّعْبِيرِ وَالصَّالِحُونَ غَالِبُ رُؤْيَاهُمْ صِدْقٌ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْبِيرِ وَمَنْ سِوَاهُمْ فِي رُؤْيَاهُمْ الصِّدْقَ وَالْأَضْغَاثَ، وَهُمْ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ مَسْتُورُونَ الْغَالِبُ اسْتِوَاءُ الْحَالِ وَفَسَقَةٌ الْغَالِبُ هُوَ الْأَضْغَاثُ.

وَقَدْ تَصْدُقُ وَكُفَّارٌ يَنْدُرُ صِدْقُهُمْ قَالَهُ الْمُهَلَّبِ انْتَهَى وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي تَحَصَّلَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ مِنْ الرُّؤْيَا إذْ الصِّدْقُ هُوَ الْعِلْمُ فَخِلَافٌ صَرِيحٌ لِتَصْرِيحِ الْمُصَنِّفِ فَالْكَلَامُ هُنَا كَالْكَلَامِ فِي الْإِلْهَامِ فَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُمَا حُجَّتَيْنِ مُقَابِلَتَيْنِ لِوَاحِدٍ مِنْ

ص: 108

الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ جَازَ كَوْنُهُمَا فِي تَأْيِيدِ شَيْءٍ مِنْهُمَا وَتِبْيَانًا وَتَوْضِيحًا وَتَعْيِينَ احْتِمَالٍ لَهُمَا وَنَحْوَهَا فَيَبْطُلُ احْتِجَاجُهُمْ بِهِمَا مُعَارِضًا وَمُقَابِلًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَأَمَّا سَبَبُ الرُّؤْيَا فَفِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ سَبَبَ الرُّؤْيَا إذَا نَامَ الْإِنْسَانُ سَطَعَ نُورُ النَّفْسِ حَتَّى يَجُولَ فِي الدُّنْيَا وَيَصْعَدَ إلَى الْمَلَكُوتِ فَيُعَايِنُ الْأَشْيَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَعْدِنِهِ، فَإِنْ وَجَدَ مُهْلَةً عَرَضَ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ يَسْتَوْدِعُ الْحَافِظَةَ وَفِي الْعَالِمِ يَخْرُجُ النَّفْسُ وَيَبْقَى الرُّوحُ عِنْدَ النَّوْمِ.

وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَخْرُجُ الرُّوحُ وَيَبْقَى شُعَاعُهُ فِي الْجَسَدِ فَبِذَلِكَ يَرَى الرُّؤْيَا وَيُقَالُ أَرْوَاحُ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ تَلْتَقِي فِي الْمَنَامَاتِ فَتَتَعَارَفُ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَفْهُومُ مِنْ مُحَاكَاةِ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ تَوَجُّهَ النَّفْسِ فِي الْيَقَظَةِ إلَى الْمَحْسُوسَاتِ مَانِعٌ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْمَعْقُولَاتِ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْمَانِعُ بِالنَّوْمِ تَسْتَعِدُّ النَّفْسُ بِالِاتِّصَالِ بِالْجَوَاهِرِ الرُّوحَانِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّذِي ارْتَسَمَ فِيهَا جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَعِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ إنَّ لِلرُّؤْيَا مَلَكًا يُقَالُ لَهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا فَعِنْدَ الْيَقَظَةِ تُعْدَمُ الْمُنَاسَبَةُ وَعِنْدَ النَّوْمِ تَحْصُلُ الْمُنَاسَبَةُ مَعَ ذَلِكَ الْمَلَكِ فَيَنْطَبِعُ فِي النَّفْسِ مِنْ الْمَلَكِ مَا أَخَذَهُ مِنْ اللَّوْحِ وَالْإِلْهَامَاتِ الْفَائِضَةِ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ

وَأَمَّا الْكَاذِبَةُ فَإِمَّا بِسَبَبِ تَخَيُّلٍ فَاسِدٍ فِي الْيَقَظَةِ أَوْ سُوءِ مِزَاجٍ أَوْ امْتِلَاءٍ أَوْ لِأَمْرَاضٍ ثُمَّ قِيلَ الرُّؤْيَا إمَّا صَادِقَةٌ وَهِيَ أَيْضًا ثَلَاثٌ تَبْشِيرٌ يُبَشِّرُهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا بِمَا يُسِرُّهُ مِنْ الْأُخْرَوِيِّ أَوْ الدُّنْيَوِيِّ وَتَحْذِيرٌ يُخَوِّفُهُ بِمَا يُبْعِدُ عَنْ الطَّاعَةِ وَيُقَرِّبُ إلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِلْهَامٌ يُلْهِمُهُ مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ كَالْحَجِّ وَالتَّهَجُّدِ وَإِمَّا كَاذِبَةٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ رُؤْيَا هِمَّةٍ وَهِيَ مَا تَخَيَّلَهَا فِي الْيَقَظَةِ فَلَيْسَ لَهَا اعْتِبَارٌ وَرُؤْيَا عِلَّةٍ نَاشِئَةٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ فَلَيْسَ لَهَا اعْتِبَارٌ أَيْضًا وَرُؤْيَا شَيْطَانٍ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ فَلَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ أَيْضًا (خُصُوصًا) أَيْ أَخَصُّهُمَا (إذَا خَالَفَا كِتَابَ الْعَلِيمِ الْعَلَّامِ) جِيءَ بِالْوَصْفِ الثَّانِي إشَارَةً إلَى جَهْلِهِمْ وَتَعْرِيضًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي رَدِّهِمْ (أَوْ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام) وَجْهُ التَّرَقِّي أَنَّهُمَا حِينَ الْمُخَالَفَةِ لَا يَكُونَانِ إلْهَامًا بَلْ وَسْوَسَةً شَيْطَانِيَّةً وَرُؤْيَا كَاذِبَةً عَلَى نَهْجِ مَا فُصِّلَ.

وَأَمَّا إذَا وَافَقَا إيَّاهُمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَا حُجَّةً لِصَاحِبَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا حُجَّةً لِغَيْرِهِمَا ثُمَّ لَمَّا أَوْرَدَ فِي رَدِّهِمْ الْأَدِلَّةَ الْقَطْعِيَّةَ الْبُرْهَانِيَّةَ أَرَادَ أَنْ يُورِدَ الْأَدِلَّةَ الْجَدَلِيَّةَ وَالْخَطَّابِيَّةَ الْإِقْنَاعِيَّةَ وَهِيَ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ ادَّعَوْا لِأَتْبَاعِهِمْ وَمُقَلِّدِيهِمْ.

فَقَالَ (وَقَدْ قَالَ) كَأَنَّهُ يَقُولُ إنَّ أَدِلَّتَهُمْ فِيمَا ادَّعَوْا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْفُحْشِيَّاتِ إمَّا إلْهَامٌ وَمَنَامٌ أَوْ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِمَا عَرَفْت وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِمَا سَتَعْرِفُ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ الْمُنَافِيَةِ لِدَعْوَاهُمْ (سَيِّدُ) مِنْ السِّيَادَةِ (الطَّائِفَةِ الصُّوفِيَّةِ) قَالُوا فِي اشْتِقَاقِهِ وَنِسْبَتِهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنَّهُ أَيْ الصُّوفِيَّ مِنْ الصَّفَاءِ سُمُّوا بِهَا لِصَفَاءِ أَسْرَارِهِمْ وَبَقَاءِ آثَارِهِمْ.

قَالَ بِشْرٌ الْحَافِيُّ الصُّوفِيُّ مَنْ صَفَا قَلْبُهُ الثَّانِي مِنْ الصَّفِّ لِكَوْنِهِمْ مِنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى.

الثَّالِثُ: مِنْ الصُّفَّةِ لِقُرْبِهِمْ بِأَصْحَابِ الصُّفَّةِ أَيْ صُفَّةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

الرَّابِعُ: مِنْ الصُّوفِ لِلُبْسِهِمْ الصُّوفَ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الدُّنْيَا وَخَرَجُوا عَنْ الْأَوْطَانِ وَهَجَرُوا الْإِخْوَانَ وَسَاحُوا فِي الْبِلَادِ وَأَجَاعُوا الْأَكْبَادَ وَأَتْعَبُوا الْأَجْسَادَ وَلِهَذَا وَصَفَهُمْ السَّقَطِيُّ رحمه الله بِأَنَّ أَكْلَهُمْ أَكْلُ الْمَرْضَى وَنَوْمَهُمْ نَوْمُ الْغَرْقَى.

وَالْخَامِسُ: مِنْ الصَّفْوَةِ قَالَ فِي حَلِّ الرُّمُوزِ: الْكُلُّ ضَعِيفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ سِوَى الرَّابِعِ وَلِهَذَا قَالَ الْقُشَيْرِيُّ لَا يَشْهَدُ لِهَذَا الِاسْمِ مِنْ حَدِيثِ الْعَرَبِيَّةِ قِيَاسٌ وَلَا اشْتِقَاقٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَاللَّقَبِ ثُمَّ قَالَ وَالنِّسْبَةُ إلَى الصُّوفِ مُسْتَقِيمَةٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَخْتَصُّوا بِلُبْسِ الصُّوفِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الصُّوفَ مِنْ لِبَاسِ الْأَنْبِيَاءِ وَزِيِّ الْأَوْلِيَاءِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَدْرَكْت سَبْعِينَ بَدْرِيًّا مَا كَانَ لِبَاسُهُمْ إلَّا الصُّوفَ.

وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ «كَانَ عليه الصلاة والسلام يَلْبَسُ الصُّوفَ» وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ الصُّوفِيِّ فَقَالَ مِنْ لَبِسَ الصُّوفَ وَأُطْعِمَ الْهَوَى ذَوْقَ الْجَفَا وَكَانَتْ الدُّنْيَا مِنْهُ فِي الْقَفَا وَسَلَكَ مِنْهَاجَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا كَلَامُهُمْ وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْمَلَالِ لَأَوْرَدْنَا عَلَى كُلِّ مَا يُمْكِنُ إيرَادُهُ (وَإِمَامُ أَرْبَابِ) أَصْحَابِ (الطَّرِيقَةِ) أَيْ طَرِيقَةِ كَمَالِ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِقَادًا وَأَخْلَاقًا وَأَعْمَالًا وَسِيرَةً وَلَوْ عَادِيَّةً إلَى أَنْ تَرَكُوا الْأَغْيَارَ لِقَصْرِهِمْ النَّظَرَ إلَى رَبِّ الدَّارِ فَجَعَلَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مَعَادِنَ أَسْرَارِهِ وَخَصَّهُمْ مِنْ الْعَالَمِينَ بِطَوَالِعِ أَنْوَارِهِ صَفَّاهُمْ اللَّهُ مِنْ كُدُورَاتِ الْأَرْكَانِ وَرَقَّاهُمْ إلَى الْمَلَكُوتِ

ص: 109

مِنْ الْأَكْوَانِ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ الْحُسْنَى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى فَهُمْ أَقْوَامٌ فَهِمُوا عَنْ اللَّهِ وَطَرَحُوا مَا سِوَى اللَّهِ وَسَارُوا إلَى اللَّهِ خَرَقَتْ الْحُجُبَ كُلَّهَا أَنْوَارُهُمْ وَجَالَتْ حَوْلَ سُرَادِقِ الْعَرْشِ أَسْرَارُهُمْ أَجْسَادٌ رُوحَانِيُّونَ وَأَجْسَادٌ رَبَّانِيُّونَ وَأَرْضِيُّونَ سَمَاوِيُّونَ غُيَّبٌ حُضَّارٌ مُلُوكٌ تَحْتَ أَطْمَارٍ

لِلَّهِ تَحْتَ قِبَابِ الْعِزِّ طَائِفَةٌ

أَخْفَاهُمْ فِي رِدَاءِ الْعِزِّ إجْلَالًا

هُمْ السَّلَاطِينُ فِي أَطْمَارِ مَسْكَنَةٍ

جَرُّوا عَلَى فَلَكِ الْخَضْرَاءِ أَذْيَالًا

غُبْرٌ مُلَابِسُهُمْ شَمٌّ مَعَاطِسُهُمْ

اسْتَعْبَدُوا مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ أَقْيَالًا

قُلُوبُهُمْ عَرْشِيَّةٌ وَأَبْدَانُهُمْ عَنْ الْخَلْقِ وَحْشِيَّةٌ أَرْوَاحُهُمْ فِي الْمَلَكُوتِ طَيَّارَةٌ وَأَشْبَاحُهُمْ فِي الْمُلْكِ سَيَّارَةٌ - {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] وَ {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61](وَالْحَقِيقَةُ) هِيَ عِنْدَهُمْ الْمَقْصُودُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِمُشَاهَدَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالْتِزَامِ الشَّرَائِعِ الْحَقِيَةِ وَاهْتِمَامِ دَقَائِقِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ إلَى أَنْ يَسْتَغْرِقَ فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ وَالْعُرْفَانِ بِحَيْثُ تَضْمَحِلُّ ذَاتُهُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتُهُ فِي صِفَاتِهِ وَيَغِيبُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَلَا يَرَى فِي الْوُجُودِ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَهَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْفَنَاءَ فِي التَّوْحِيدِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ الْحَدِيثُ الْإِلَهِيُّ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي بِهِ يَسْمَعُ وَبَصَرَهُ الَّذِي بِهِ يُبْصِرُ وَحِينَئِذٍ رُبَّمَا تَصْدُرُ عَنْهُ عِبَارَاتٌ تُشْعِرُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ لِقُصُورِ الْعِبَارَةِ عَنْ بَيَانِ تِلْكَ الْحَالِ وَتَعَذُّرِ الْكَشْفِ عَنْهَا بِالْمَقَالِ وَنَحْنُ عَلَى سَاحِلِ بَحْرِ التَّمَنِّي نَغْتَرِفُ مِنْ بَحْرِ التَّوْحِيدِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَنَعْتَرِفُ بِأَنَّ الطَّرِيقَ فِي الْعِيَانِ دُونَ الْبُرْهَانِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

كَذَا فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ لِلْمُحَقِّقِ التَّفْتَازَانِيِّ ثُمَّ إنَّ لَهُمْ اصْطِلَاحَاتٍ وَفُرُوقًا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ لَا يَتَحَمَّلُهَا الْمَقَامُ

(جُنَيْدٌ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْجُنَيْدُ (الْبَغْدَادِيُّ) أَصْلُهُ مِنْ نَهَاوَنْدَ وَمَنْشَأُهُ وَمَوْلِدُهُ الْعِرَاقُ وَأَبُوهُ بَيَّاعُ الزُّجَاجِ وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَكَانَ فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ أَخَذَ الطَّرِيقَ مِنْ خَالِهِ السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ وَهُوَ عَنْ الْكَرْخِيِّ عَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ كَذَا فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّة (عَلَيْهِ رَحْمَةُ الْهَادِي) الدُّعَاءُ بِالرَّحْمَةِ هُوَ الْأَدَبُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَشَايِخِ (الطُّرُقُ) أَيْ السُّبُلُ الْمُوصِلَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ (كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ) أَيْ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ يُرِيدُ السُّلُوكَ وَالْوُصُولَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِوُفُورِ الْحُجُبِ وَكُثُورِ الْمَوَانِعِ (إلَّا عَلَى مَنْ اقْتَفَى) أَيْ مَنْ اتَّبَعَ (أَثَرَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِأَنْ سَارَ كَسَيْرِهِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ وَالْعَادِيَّاتِ، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تَكُونُ مَسْدُودَةً بَلْ تَكُونُ مَفْتُوحَةً مُوصِلَةً إلَى جَانِبِ الْقُدْسِ.

(وَقَالَ) أَيْضًا (مَنْ لَمْ يَحْفَظْ الْقُرْآنَ) أَيْ لَمْ يَرْعَ حُدُودَهُ وَلَمْ يَلْتَزِمْ أَحْكَامَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَالْقَوْلُ أَيْ مَعَ التَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ لَا يَخْلُو عَنْ قُصُورٍ نَعَمْ لَوْ أُرِيدَ مَا يَعُمُّ تِلَاوَتَهُ وَإِتْيَانَ أَحْكَامِهِ لَكَانَ أَكْثَرَ فَائِدَةً (وَلَمْ يَكْتُبْ الْحَدِيثَ) وَلَمْ يَجْمَعْ مَحَاوِيَهِ مِنْ الْأَحْكَامِ أَيْ وَلَمْ يَجْمَعْ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْحَدِيثِ أَيْ مُطْلَقَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْفَرْضُ اللَّازِمُ فِعْلُهُ (لَا يُقْتَدَى بِهِ) ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ عَلَى كِتَابٍ وَسُنَّةٍ فَلَيْسَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنَّ هَذَا} [الأنعام: 153] أَيْ مَا فِيهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - {صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]- الْآيَةُ (فِي هَذَا الْأَمْرِ) أَيْ الْوُصُولِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِلِاقْتِدَاءِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَكِنْ لَا يَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ لِجَوَازِ فَيْضِهِ تَعَالَى لِجَاهِلٍ أُمِّيٍّ مَحْضٍ بِالتَّجَلِّيَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ عَلَى وَجْهٍ يَتَكَلَّمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إلَى أَنْ تَتَحَيَّرَ بِهِ

ص: 110

الْعُقُولُ.

وَقَدْ وُجِدَ بِمِثْلِهِ كَثِيرٌ، فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لَكِنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُرْشِدًا إذْ الْإِرْشَادُ إنَّمَا يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (؛ لِأَنَّ عِلْمَنَا) فِي الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ (وَمَذْهَبَنَا) فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ (هَذَا) الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ (مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ أَمْرًا سِوَاهُمَا وَإِلَّا لَكَانَ إنْزَالُ الْكُتُبِ وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ عَبَثًا لَغْوًا فَدَلَّ كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَدًّا عَلَيْهِمْ فِي حَصْرِهِمْ الْوُصُولَ فِي رَفْضِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ وَالشَّرْعِ اللَّذَيْنِ أُخِذَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَفِي دَعْوَى رُؤْيَةِ الْأَنْوَارِ وَتَنْبِيهِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ بِالرُّؤْيَا وَوَجْهُ الرَّدِّ حَصْرُ الْوُصُولِ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَفْيُ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَا يَحْفَظُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَتَقْيِيدُ الْوُصُولِ وَالْحَقُّ الْقَوِيمُ بِهِمَا وَتَصْوِيرُ الرَّدِّ أَنَّ مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ أَنَّ الْوُصُولَ إنَّمَا يَكُونُ بِرَفْضِ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَنْ ادَّعَيْتُمْ تَقْلِيدَهُمْ وَسَلَّمْتُمْ صِدْقَهُمْ مِنْ الْمَشَايِخِ الْعِظَامِ كَالْجُنَيْدِ رحمه الله وَكُلِّ مَنْ شَأْنُهُ كَذَا فَبَاطِلٌ فَالْكُبْرَى ظَاهِرَةٌ.

وَأَمَّا الصُّغْرَى، فَإِنَّ الْوُصُولَ شَيْءٌ وَرَدَ فِي حَقِّهِ عَنْ الْجُنَيْدِ الْحَصْرُ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَا فَلَا يَكُونُ بِرَفْضِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّسُولِ فَهَذَا فِي قُوَّةِ الصُّغْرَى وَعَلَيْهِ فَقِسْ ثُمَّ لَازِمٌ عَلَيْنَا أَنْ نُلْحِقَ بَعْضَ اللَّطَائِفِ الْجُنَيْدِيَّةِ عَلَى مَا فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ هُوَ قَوْلُهُ مَا أُخِذَ التَّصَوُّفُ عَنْ الْقِيلِ وَالْقَال وَلَكِنْ عَنْ الْجُوعِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا وَقَطْعِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالْمُسْتَحْسِنَات وَقَوْلُهُ إنْ أَمْكَنَك أَنْ لَا تَكُونَ آلَةَ بَيْتِك إلَّا خَزَفًا فَافْعَلْ وَقَوْلُهُ لَوْ أَقْبَلَ صَادِقٌ عَلَى اللَّهِ أَلْفَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ لَحْظَةً كَانَ الَّذِي فَاتَهُ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَهُ.

وَقَوْلُهُ وَعِلْمُنَا هَذَا مُشَيَّدٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ لَهُ مِمَّنْ اسْتَفَدْت هَذَا الْعِلْمَ فَقَالَ مِنْ جُلُوسِي بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً تَحْتَ تِلْكَ الدَّرَجَةِ وَأَوْمَأَ إلَى دَرَجَةٍ فِي دَارِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْعَطُوفِيُّ كُنْت عِنْدَ الْجُنَيْدِ حِين مَاتَ خَتَمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ الْبَقَرَةِ، وَقَرَأَ سَبْعِينَ آيَةً ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ حَيْثُ مَدَحَ الْمُتَصَوِّفَةَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِمْ، وَقَدْ حَكَمَ بِالْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ عَلَيْهِمْ أَقُولُ قَدْ عَرَفْت غَرَضَ الْمُصَنِّفِ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ حَكَمَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِمْ بِإِلْحَادٍ هُمْ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا الْوِلَايَةَ وَالْوُصُولَ فِي مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْتَزَمُوا مُخَالَفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَجَعَلُوا الْإِتْيَانَ بِهِمَا مِنْ الْحُجُبِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْوُصُولِ وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ قَدَّسَ أَسْرَارَهُمْ بِفَرْطِ تَجَنُّبٍ عَنْ مُحْتَمَلَاتِ أَمْثَالِهَا فَضْلًا عَنْ يَقِينِيَّاتِهَا.

(وَقَالَ السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ) قَالَ الْقُشَيْرِيُّ خَالُ الْجُنَيْدِ وَأُسْتَاذُهُ وَتِلْمِيذُ مَعْرُوفِ الْكَرْخِيِّ أَوْحَدُ زَمَانِهِ فِي الْوَرَعِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَعُلُومِ التَّوْحِيدِ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ كَانَ يَتَّجِرُ فِي السُّوقِ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ فَجَاءَ مَعْرُوفٌ يَوْمًا وَمَعَهُ صَبِيٌّ يَتِيمٌ فَقَالَ: اُكْسُ هَذَا الْيَتِيمَ فَكَسَاهُ فَفَرِحَ بِهِ وَقَالَ بَغَّضَ اللَّهُ إلَيْكَ الدُّنْيَا قَالَ فَقُمْت مِنْ الْحَانُوتِ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَهُوَ مِنْ بَرَكَاتِ مَعْرُوفٍ وَفِيهِ عَنْ الْجُنَيْدِ مَا رَأَيْت أَعْبَدَ مِنْ السَّرِيِّ أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانٌ وَتِسْعُونَ حِجَّةً أَيْ سَنَةً مَا رُئِيَ مُضْطَجِعًا إلَّا فِي عِلَّةِ الْمَوْتِ.

وَفِيهِ عَنْ السَّرِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً فِي الِاسْتِغْفَارِ لِقَوْلِي الْحَمْدُ لِلَّهِ مَرَّةً قِيلَ لَهُ وَكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ وَقَعَ بِبَغْدَادَ حَرِيقٌ فَاسْتَقْبَلَنِي وَاحِدٌ فَقَالَ بَقِيَ حَانُوتُك فَقُلْت الْحَمْدُ لِلَّهِ حَيْثُ أَرَدْت لِنَفْسِي خَيْرًا مِمَّا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ سُئِلَ مِنْهُ عَنْ أَكْثَرِ طُرُقِ الْجَنَّةِ فَقَالَ لَا تَسْأَلْ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَلَا تَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَلَا يَكُونُ مَعَك شَيْءٌ تُعْطِي أَحَدًا.

وَفِي أَخْبَارِ الْأَخْيَارِ سُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ حَالِهِ حِينَ عِيَادَتِهِ فَقَالَ كَيْفَ أَشْكُو إلَى طَبِيبِي مَا بِي وَاَلَّذِي بِي أَصَابَنِي مِنْ طَبِيبِي وَقَالَ لَهُ أَوْصِنِي فَقَالَ إيَّاكَ وَصُحْبَةَ الْأَشْرَارِ وَأَنْ تَنْقَطِعَ عَنْ رَبِّك بِصُحْبَةِ الْأَخْيَارِ وَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَسُئِلَ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ غُفِرَ لِي وَلِمَنْ صَلَّى عَلَيَّ فَقِيلَ أَنَا مِمَّنْ حَضَرَ جِنَازَتَك فَأَخْرَجَ وَرَقًا فَلَمْ يَرَ فِيهِ اسْمِي فَقُلْت بَلَى قَدْ حَضَرْت فَنَظَرَ، فَإِذَا اسْمِيّ فِي الْحَاشِيَةِ.

(التَّصَوُّفُ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ وَهُوَ) أَيْ الصُّوفِيُّ الْمَدْلُولُ مِنْ التَّصَوُّفِ (الَّذِي لَا يُطْفِئُ نُورُ مَعْرِفَتِهِ) فَاعِلُ يُطْفِئُ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا النُّورِ نَحْوُ

ص: 111

غَلَبَةِ الشُّهُودِ وَشِدَّةِ الْحُضُورِ وَكَمَالِ الْفِنَاءِ عَلَيْهِ (نُورَ وَرَعِهِ) بِالْتِزَامِ عَزَائِمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ يَجْتَنِبَ عَنْ الشُّبُهَاتِ إلَى مَا تَرْكُهُ أَوْلَى وَيَأْتِي الْفَضَائِلَ كُلَّهَا إلَى مَا كَانَ إتْيَانُهُ أَوْلَى.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ الْوَرَعُ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ.

وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الْوَرَعُ الْوُقُوفُ عَلَى حَدِّ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَمَنْ قَالَ بِتَرْكِ الْعُلُومِ الظَّاهِرَةِ وَتَرْكِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَجْلِ الْوُصُولِ فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُ مَعْرِفَتِهِ نُورَ وَرَعِهِ (وَلَا يَتَكَلَّمُ بِبَاطِنٍ فِي عِلْمٍ يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكِتَابِ) أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ فِي عِلْمِ التَّصَوُّفِ بِمَا يُخَالِفُهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، فَإِنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَالْعَدْلُ عَنْهَا إلَى مَعَانٍ يَدَّعِيهَا أَهْلُ الْبَاطِنِ إلْحَادٌ كَمَا فِي عَقَائِدِ النَّسَفِيِّ فَفِي كَلَامِ حَضْرَةِ الشَّيْخِ رَدٌّ لِأَهْلِ الْبَاطِنِ.

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِهِ سُمِّيَتْ بَاطِنِيَّةً لِادِّعَائِهِمْ أَنَّ النُّصُوصَ لَيْسَتْ عَلَى ظَوَاهِرِهَا بَلْ لَهَا بَاطِنٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْعِلْمِ وَقَصْدُهُمْ بِذَلِكَ نَفْيُ الشَّرِيعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ بُطْلَانُ إشَارَاتِ الْمَشَايِخِ وَلِطَائِفِهَا الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعَانٍ عَرَبِيَّةٍ وَخِلَافُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ قُلْت فَلَعَلَّك لَوْ تَأَمَّلْتَ مَا ذُكِرَ لَأَمْكَنَ فَهْمُك جَوَابَهُ إذْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَانِيَ بَاطِنَةٍ لَكِنْ مُلْتَزَمُ انْطِبَاقِهَا بِظَوَاهِر الْقُرْآنِ وَلِهَذَا قَالَ هِيَ إشَارَاتٌ خَفِيَّةٌ وَدَقَائِقُ تَنْكَشِفُ عَلَى أَرْبَابِ السُّلُوكِ يُمْكِنُ التَّطْبِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُرَادَةِ فَهِيَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَمَحْضِ الْعِرْفَانِ.

وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ الْمَشَايِخِ مِمَّا يُنَاقِضُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ كَقَوْلِ الْعَارِفِ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ سُبْحَانِي مَا أَعْظَمَ شَأْنِي وَنَحْوِهِ فَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الْوَجْدِ وَالسُّكْرِ أَوْ عَلَى تَأْوِيلٍ صَحِيحٍ ذَكَرُوهُ فِي مَحَلِّهِ وَمَعَ هَذَا لَوْ صَدَرَ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعَوَامّ لَخُطِّئَ بَلْ كُفِّرَ.

(وَ) الثَّالِثُ (لَا تَحْمِلُهُ الْكَرَامَاتُ عَلَى هَتْكِ) هَدْمِ حُرْمَةِ (مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى) قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً وَإِلَّا فَلَا تَكُونُ كَرَامَةً بَلْ مَكْرًا وَاسْتِدْرَاجًا كَمَا سَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ الْقُرْبُ تَزْدَادُ الْخَشْيَةُ.

قَالَ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ رَدًّا لِمُدَّعَاهُمْ، وَقَدْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مَشَايِخُهُمْ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ وَالِاسْتِقَامَةَ وَالتَّقْوَى أَوْلَى مِنْ الْكَرَامَةِ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ وَمَزِيدَةٌ لِلْقُرْبِ وَالْقَبُولِ وَعَدَمُهَا سَبَبٌ لِلْبُعْدِ وَالطَّرْدِ، وَالْكَرَامَاتُ لَيْسَتْ مَأْمُورَةً وَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ مَحْذُورًا بَلْ تَرْكُهَا أَوْلَى مِنْ إظْهَارِهَا وَلِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إظْهَارَ الْكَرَامَةِ مِمَّا حِيضَ الرِّجَالُ فِي مَنْعِهِ مِنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى مَعَ إشْعَارِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَيْسَ بِرَجُلٍ لِدَنَاءَةِ هِمَّتِهِ وَرِضَاهُ بِالْأَدْنَى.

وَقَالَ هَذَا الْعَارِفُ السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ لَوْ أَنَّ عَارِفًا دَخَلَ بُسْتَانًا فِيهِ أَشْجَارٌ وَعَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ طَيْرٌ يَقُولُ لَهُ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا وَلَيَّ اللَّهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَزِيدَ الْخَوْفُ إذْ لَوْ لَمْ يَخَفْ لَكَانَ مَمْكُورًا قِيلَ لِسُلْطَانِ الْعَارِفِينَ: إنَّ فُلَانًا يَمْشِي إلَى مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ فَقَالَ الشَّيْطَانُ يَمْشِي فِي سَاعَةٍ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ فِي وَقْتٍ آخَرَ: إنَّ فُلَانًا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ قَالَ: الذُّبَابُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَقِيلَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فُلَانًا يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ: السَّمَكُ كَذَلِكَ.

وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُدْسِيَّةِ لِزَيْنِ الدِّينِ الْحَافِيِّ وَجَمِيعُ الْمُرْشِدِينَ يُنَفِّرُونَ الْمُرِيدَ مِنْ الْمَيْلِ إلَى الْكَرَامَاتِ الْعَيَانِيَّةِ وَيُجِيبُونَ طَلَبَهُ لِلْحَقِّ وَالْمَيْلُ إلَيْهَا مِنْ هَوَسِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا أَلَا تَرَى أَنَّ سُلْطَانَ الْعَارِفِينَ أَبَا يَزِيدَ قَدَّسَ سِرَّهُ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ حَيْثُ قَالَ فِي مُنَاجَاتِهِ عَلَى مَا نُقِلَ فِي حَلِّ الرُّمُوزِ مِنْ قُوتِ الْقُلُوبِ اللَّهُمَّ إنَّ قَوْمًا طَلَبُوك فَأَعْطَيْتَهُمْ الْمَشْيَ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوك فَأَعْطَيْتَهُمْ طَيَّ الْأَرْضِ فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوك فَأَعْطَيْتَهُمْ كُنُوزَ الْأَرْضِ فَانْقَلَبَتْ لَهُمْ الْأَعْيَانُ فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ ذَلِكَ إلَى أَنْ عَدَّ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ مَقَامًا مِنْ مَقَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ اُنْظُرْ إلَى عُلُوِّ هِمَّتِهِ وَقُوَّةِ قَلْبِهِ لَمْ يَرْضَ إلَّا رِضَاهُ وَوَصْلَهُ.

وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا حَفْصٍ الْحَدَّادَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ الصَّحَارِي لَوْ كَانَ هُنَا شَاةٌ ذَبَحْنَاهَا، فَإِذَا ظَهَرَ ظَبْيٌ مِنْ الْبَرِّيَّة وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ الشَّيْخِ فَفَرِحُوا جَمِيعًا وَحَزِنَ وَبَكَى الشَّيْخُ فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: إعْطَاءُ الْمُرَادِ إخْرَاجٌ مِنْ الْبَابِ وَلَوْ لَمْ يُعْطِ

ص: 112

مُرَادَاتَ فِرْعَوْنَ لَمَا أَصَرَّ عَلَى دَعْوَاهُ الْبَاطِلَةِ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَ الظَّبْيِ كَذَا فِي حَلِّ الرُّمُوزِ.

(وَقَالَ) سُلْطَانُ الْعَارِفِينَ (أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ رحمه الله) هُوَ طَيْفُورُ بْنُ عِيسَى الْبِسْطَامِيُّ كَانَ جَدُّهُ مَجُوسِيًّا أَسْلَمَ وَكَانُوا ثَلَاثَةَ إخْوَةٍ آدَم وَطَيْفُورٌ وَعَلِيٌّ كُلُّهُمْ كَانُوا زُهَّادًا مَاتَ سَنَةَ إحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَقِيلَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ (لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ قُمْ بِنَا حَتَّى نَنْظُرَ) نَرَى إذَا كَانَ صَالِحًا نَزُورُهُ وَهُوَ أَمْرٌ اسْتِحْبَابِيٌّ وَنَسْتَفِيدُ وَإِلَّا فَتَنْقَطِعُ شُبْهَتُهُ فِي صِدْقِ شُهْرَتِهِ وَعَدَمِهِ (إلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ شَهَرَ) بِالْبِنَاءِ عَلَى الْفَاعِلِ (نَفْسَهُ بِالْوِلَايَةِ) فِي هَذَا التَّعْبِيرِ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ اعْتِقَادِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ إذْ تَشْهِيرُ النَّفْسِ بِالِاخْتِيَارِ مَذْمُومٌ فَيَنْدَفِعُ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اعْتِقَادٌ فَكَيْفَ يَذْهَبُ إلَى زِيَارَتِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِقَطْعِ الشُّبْهَةِ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ سُوءَ ظَنٍّ إلَّا أَنْ يُقَالَ الظَّنُّ مَا يَكُونُ بِالرُّجْحَانِ وَالشُّبْهَةُ فِي التَّسَاوِي بَلْ فِي الْمَرْجُوحِ وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا تَجَسُّسُ الْعَيْبِ وَاسْتِكْشَافُهُ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ لَيْسَ تَعْيِيرًا وَلَا تَذْلِيلًا وَلَا غِيبَةً أَيْضًا كَذَلِكَ.

(وَكَانَ رَجُلًا مَقْصُودًا) يَقْصِدُهُ النَّاسُ بِالزِّيَارَةِ وَاسْتِجْلَابِ الدَّعْوَةِ وَأَخْذِ الْهِمَّةِ (مَشْهُورًا بِالزُّهْدِ) بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَتْرِكِ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ (فَمَضَيْنَا إلَيْهِ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ) هَذَا الْقَيْدُ كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ (وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ) ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ فِي الْمَسْجِدِ (رَمَى بُزَاقَهُ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ) أَيْ جِهَتَهَا وَأَصْلُهُ وِجَاهَ قُلِبَتْ الْوَاوُ تَاءً جَوَازًا وَوِجَاهُ الشَّيْءِ جِهَتُهُ (فَانْصَرَفَ أَبُو يَزِيدَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّ الْبُزَاقَ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَجَانِبِ الْيَمِينِ بَلْ نَفْسُ الْمَسْجِدِ أَيْضًا، فَإِنْ قِيلَ السَّلَامُ وَاجِبٌ وَذَلِكَ تَرْكُ أَدَبٍ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَهَذَا غَيْرُ مَأْمُونٍ إلَخْ فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْوَاجِبُ لِتَرْكِ الْأَدَبِ قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمُرَادِ مِنْ كَوْنِ لَفْظِ الْأَدَبِ هُنَا مَا ظَنَنْته وَكَوْنُ رَمْيِ الْبُزَاقِ إلَيْهَا بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ يَعْنِي وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَدَبًا عِنْدَ الْعَوَامّ يَكُونُ مُحَرَّمًا عِنْدَ الْخَوَاصِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْلِيمِ لِمَنْ مَعَهُ وَلِمَنْ سَمِعَهُ لِحِفْظِ احْتِرَامِ حُدُودِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَقَالَ هَذَا رَجُلٌ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أَيْ لَمْ يَأْمَنْهُ اللَّهُ تَعَالَى (عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا مَنْ يَحْفَظُ عَلَيْهِ آدَابَ الشَّرِيعَةِ.

(فَكَيْفَ يَكُونُ مَأْمُونًا) مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى (عَلَى مَا يَدَّعِيه) مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْكَرَامَةِ وَلِهَذَا جُعِلَتْ الرُّخَصُ كَالْمُحَرَّمِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ فَيَجْتَنِبُونَ عَمَّا قِيلَ فِيهِ لَا بَأْسَ كَمَا عَنْ الْحَرَامِ الْقَطْعِيِّ وَيَلْتَزِمُونَ مَا إتْيَانُهُ أَوْلَى وَأَفْضَلُ كَالْوَاجِبِ الْقَطْعِيِّ إلَّا لِضَرُورَةٍ، فَإِنْ قِيلَ الْوِلَايَةُ لَا تُوجِبُ الْعِصْمَةَ وَأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ بَلْ الْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّلَاحِ كَالسَّهْوِ وَالْخَطَأِ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ عِنْدَهُمْ كَالْوَاجِبِ وَلَوْ سَلِمَ كُلُّ ذَلِكَ لَلَزِمَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَبِّهَ ذَلِكَ الرَّجُلَ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ الْأَدَبِ قُلْت يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي جَنْبِهِ شَيْءٌ آخَرُ كَحُبِّ الرِّيَاسَةِ

ص: 113

وَقَصْدِ تَشْهِيرِ نَفْسِهِ وَلَعَلَّهُ فَهِمَهُ مِنْ هَيْئَتِهِ وَقَرَائِنِهِ وَأَنَّهُ لَوْ تَقَيَّدَ وَالْتَزَمَ عَلَى مُحَافَظَتِهِ لَمْ يَقَعْ فِي الْخَطَأِ كَمَا قِيلَ فِي سَبِّ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام خَطَأً سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرَ هَيْئَتَهُ مِنْ نَحْوِ الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ وَكَوْنِهِ زَمَانَ تَزَاحُمِ الْمُسْتَرْشِدِينَ والمستأدبين.

وَقَدْ يُخَرَّجُ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْنَا أَوَّلًا مِنْ جَوَازِ كَوْنِهِ تَعْلِيمًا لِلْآدَابِ لِمَنْ مَعَهُ أَوْ سَمِعَهُ وَفِعْلُهُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى آكَدِ وَجْهٍ إذْ لَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ يَسْمَعُ هَذَا الصَّنِيعَ مِنْ حَضْرَةِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقِيلَ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ وَحَمْلُهُ عَلَى الصَّلَاحِ لَمْ يَنْسِبْهُ إلَى الْإِثْمِ وَالْفِسْقِ وَالْكَرَاهَةِ فَفِيهِ خَفَاءٌ.

(وَقَالَ لَوْ نَظَرْتُمْ إلَى رَجُلٍ) أَيْ عَلِمْتُمْ إنْسَانًا وَلَوْ امْرَأَةً (وَقَدْ أُعْطِيَ مِنْ)(الْكَرَامَاتِ) مِنْ الْخَوَارِقِ كَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَطَيِّ الْمَسَافَةِ (حَتَّى تَرَبَّعَ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ) وَتَعْتَقِدُوا وِلَايَتَهُ وَقُرْبَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مَكْرًا وَاسْتِدْرَاجًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] وَاسْتِهْزَاءً مِنْهُ وَاَللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (حَتَّى تَنْظُرُوا) تَعْلَمُوا (كَيْفَ تَجِدُونَهُ) بِلَا تَجَسُّسٍ وَالْوِجْدَانُ أَعَمُّ مِمَّا هُوَ بِالْوَاسِطَةِ كَخَبَرِ عَدْلٍ أَوْ خَبَرِ عُدُولٍ خِلَافًا لِمَنْ نَفَى ذَلِكَ إلَّا بِالثُّبُوتِ عِنْدَ الْحَاكِمِ (عِنْدَ الْأَمْرِ) الْإِلَهِيِّ وَلَوْ لِلْأَدَبِ (وَالنَّهْيِ) كَذَلِكَ (وَحِفْظِ الْحُدُودِ) الَّتِي حَدَّهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِعْلًا وَتَرْكًا وَفِي إيرَادِ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِغْرَاقِ الْأَفْرَادِ فَتَرْكُ الْوَاحِدِ مُخِلٌّ بِالْمَقْصُودِ وَفِي إيثَارِ الْجَمْعِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِغْرَاقِ الْأَنْوَاعِ أَيْضًا فَكَمَا يَشْمَلُ الْوَاجِبَاتِ يَشْمَلُ الْمَنْدُوبَاتِ إلَى مَا فِيهِ الِاحْتِيَاطُ وَالْأَوْلَى وَكَذَا فِي جَانِبِ (وَأَدَاءِ) وَهُوَ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا لَزِمَ فِي (الشَّرِيعَةِ) كَعَطْفِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ إطْنَابٌ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ قَالُوا يُرَاعَى ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ إلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ فِي إتْيَانِ الْأَوْلَى وَالْأَحْوَطِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ بَلْ يَجْتَهِدُ أَنْ يَأْتِيَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ يَجُوزُ خَطَؤُهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى حَقِّيَّةَ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ فَيَجْتَهِدُ فِي إتْيَانِ الْعَمَلِ عَلَى وَجْهٍ يَرْفَعُ الْخِلَافَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمِنْ مَقَالِ هَذَا الشَّيْخِ عَلَى مَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ قَوْلُهُ حِينَ سُئِلَ بِأَيِّ شَيْءٍ وَجَدْت هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ بِبَطْنٍ جَائِعٍ وَبَدَنٍ عَارٍ.

وَقَوْلُهُ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنِي مُؤْنَةَ الْأَكْلِ وَمُؤْنَةَ النِّسَاءِ ثُمَّ قُلْت كَيْفَ يَجُوزُ لِي أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى هَذَا وَلَمْ يَسْأَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ أَسْأَلْهُ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ كَفَانِي مُؤْنَةَ النِّسَاءِ حَتَّى لَا أُبَالِيَ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ أَوْ حَائِطٌ.

(وَقَالَ أَبُو سَلْمَانَ الدَّارَانِيُّ) نِسْبَةً

ص: 114

إلَى دَارَيَّا قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى دِمَشْقَ مَاتَ سَنَةَ خَمْسَ عَشَرَةَ وَمِائَتَيْنِ (رُبَّمَا تَقَعُ) بِطَرِيقِ الْفَيْضِ (فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ) الدَّقِيقَةُ مِنْ غَوَامِضِ الْأَسْرَارِ وَمُنَازَلَاتِ الْأَخْيَارِ وَتَجَلِّيَاتِ الْأَنْوَارِ (مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ) أَيْ الصُّوفِيَّةِ جَمْعُ نُكْتَةٍ مِنْ النُّكَتِ وَهُوَ أَنْ يَنْكُتَ فِي الْأَرْضِ بِقَضِيبٍ أَيْ يَضْرِبُ فَيُؤَثِّرُ فِيهَا وَالنُّكْتَةُ كَالنُّقْطَةِ كَمَا فِي الْجَوْهَرِيِّ وَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَنْكُتُ فِي الْقَلْبِ أَيْ تُؤَثِّرُ فِيهِ بِلُطْفِ بَلَاغَتِهَا (أَيَّامًا) الظَّاهِرُ التَّنْوِينُ لِلتَّكْثِيرِ (فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ قَلْبِي (إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ) ثِقَتَيْنِ (مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) بَيَانٌ لِلشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّهُمَا عَدْلَانِ مُطْلَقًا أَوْ عَدْلُ الْكِتَابِ مَا يَكُونُ تَوَاتُرًا دُونَ قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ وَكَانَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى عَلَى وَجْهِ الظُّهُورِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْخَفَاءِ وَعَدْلُ السُّنَّةِ هُوَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ دُونَ الضَّعِيفَةِ.

وَقِيلَ عَنْ ابْنِ الْهُمَامِ رحمه الله يَجُوزُ وَيُسْتَحَبُّ الْعَمَلُ فِي الْفَضَائِلِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا أَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِعَدَمِ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ إذْ الْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَأَوْرَدَ الْعَلَّامَةُ الدَّوَانِيُّ أَنَّ مَآلَ الْفَضَائِلِ رَاجِعٌ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا وَجْهَ لِتَقْيِيدٍ كَالْجَوَازِ وَالِاسْتِحْبَابِ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ نَحْوِ الِاسْتِحْبَابِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَثْبُتُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ.

وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ جَوَازُ رِوَايَةِ الضَّعِيفِ فِيمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ فِي فَضِيلَةِ شَيْءٍ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ هَذَا الْمُحَقِّقُ هَذَا إرَادَةَ مَعْنًى مِنْ لَفْظٍ لَا يَتَحَمَّلُهُ عَلَى أَنَّ رِوَايَتَهُ فِيمَا لَمْ يَثْبُتْ بِالصَّحِيحِ جَائِزَةٌ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى ضَعْفِهِ، وَالتَّعْوِيلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَحْتَمِلْ لِلْحَظْرِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ وَيُسْتَحَبُّ لِلْأَمْنِ مِنْ الْحَظْرِ وَرَجَاءِ النَّفْعِ فَعُمِلَ بِالِاحْتِيَاطِ ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّقْلِ أَيْضًا صَرِيحُ الرَّدِّ لَهُمْ فِي أَنَّهُمْ ادَّعَوْا مُتَارَكَةَ الشَّرِيعَةِ فِي الْوُصُولِ وَمِمَّا نُقِلَ عَنْهُ رحمه الله مَنْ أَحْسَنَ فِي نَهَارِهِ كُوفِيَ فِي لَيْلِهِ وَمَنْ أَحْسَنَ فِي لَيْلِهِ كُوفِيَ فِي نَهَارِهِ وَمَنْ صَدَقَ فِي تَرْكِ شَهْوَةٍ ذَهَبَ اللَّهُ بِهَا مِنْ قَلْبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَ قَلْبًا تَرَكَ شَهْوَةً لَهُ وَأَيْضًا إذَا سَكَنَتْ الدُّنْيَا الْقَلْبَ تَرَحَّلَتْ مِنْهُ الْآخِرَةُ.

وَقَالَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ خِلَافُ هَوَى النَّفْسِ وَقَالَ لِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمٌ وَعِلْمُ الْخِذْلَانِ تَرْكُ الْبُكَاءِ وَلِكُلِّ شَيْءٍ ضِدٌّ وَضِدُّ نُورِ الْقَلْبِ شِبَعُ الْبَطْنِ وَكُلُّ مَا شَغَلَك عَنْ اللَّهِ مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَهُوَ عَلَيْك شُؤْمٌ.

(وَقَالَ) أَبُو الْفَيْضِ (ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ رحمه الله) اسْمُهُ ثَوْبَانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَذُو النُّونِ بِمَعْنَى صَاحِبِ الْحُوتِ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّهُ ضَاعَ مِنْ أَهْلِ سَفِينَةٍ جَوْهَرٌ نَفِيسٌ فَأُسْنِدَ إلَيْهِ سَرِقَتُهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوا بِحَلِفِهِ فَلَمَّا اُضْطُرَّ تَوَجَّهَ سَاعَةً فَأَتَى حُوتٌ مِنْ الْبَحْرِ بِذَلِكَ الْجَوْهَرِ تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ (وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَابَعَةُ حَبِيبِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام) ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ (فِي أَخْلَاقِهِ) ، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَخْلَاقِ.

قَالَ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ تَفْصِيلِ خُلُقِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَأَفْعَالِهِ) عِبَادَةً أَوْ عَادَةً دُونَ الْخَوَاصِّ وَالزَّلَّاتِ وَالْخَطَأِ إنْ وُجِدَتْ (وَأَوَامِرِهِ) فِعْلًا أَوْ تَرْكًا قَطْعًا أَوْ ظَنًّا (وَسُنَّتِهِ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ مَتْلُوًّا أَوْ غَيْرَ مَتْلُوٍّ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا، فَإِنَّهُ مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى - {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]-، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ صِدْقِ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ قَالَ تَعَالَى - {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]-

قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي الْمَوَاهِبِ مَحَبَّةُ اللَّهِ إمَّا فَرْضٌ هُوَ مَحَبَّةٌ تَبْعَثُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَتَرْكِ الْمَنَاهِي فَمَنْ وَقَعَ فِي مُحَرَّمٍ فَلِتَقْصِيرِهِ فِي مَحَبَّتِهِ تَعَالَى حَيْثُ قَدَّمَ هَوَى نَفْسِهِ عَلَى رِضَا رَبِّهِ، وَالتَّقْصِيرُ يَكُونُ مِنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا فَيُورِثُ شُغْلُهَا الْغَفْلَةَ وَإِمَّا نَدْبٌ هُوَ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى النَّوَافِلِ وَيَجْتَنِبَ الْوُقُوعَ فِي الشُّبُهَاتِ.

وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِيمَا يَرْوِي عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ» فَاسْتُشْكِلَ بِحَدِيثِ «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ» الْحَدِيثُ حَيْثُ كَانَتْ

ص: 115

النَّوَافِلُ مُنْتِجَةَ الْمَحَبَّةِ دُونَ الْفَرَائِضِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَكَوْنِ النَّوَافِلِ مُكَمِّلَةً لَهَا أَوْ بِأَنَّ النَّوَافِلَ لِمُجَرَّدِ الْمَحَبَّةِ وَالْفَرَائِضَ لِخَوْفِ الْعِقَابِ، فَإِنْ قِيلَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مُرْتَكِبَ مَعْصِيَةٍ سِيَّمَا كَبِيرَةً لَيْسَ لَهُ مَحَبَّةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ لُعِنَ شَارِبُ خَمْرٍ لَا تَلْعَنُوهُ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» .

فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قُلْنَا الْعَلَامَةُ لَيْسَتْ بِدَلِيلٍ مُسْتَلْزِمٍ بَلْ قَدْ تَتَخَلَّفُ أَوْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُتَابَعَةِ مَثَلًا عَلَامَةً كَوْنُ تَرْكِ الْمُتَابَعَةِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِ الْمَحَبَّةِ أَوْ الْمُرَادُ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ وَمِنْ الْحِكْمَةِ الشَّرِيفَةِ مَدَارُ الْكَلَامِ عَلَى أَرْبَعٍ حُبُّ الْجَلِيلِ وَبُغْضُ الْقَلِيلِ وَاتِّبَاعُ التَّنْزِيلِ وَخَوْفُ التَّحْوِيلِ وَمِنْهَا لَا تَسْكُنُ الْحِكْمَةُ مَعِدَةً مُلِئَتْ طَعَامًا وَمِنْهَا تَوْبَةُ الْعَوَامّ مِنْ الذُّنُوبِ وَتَوْبَةُ الْخَوَاصِّ مِنْ الْغَفْلَةِ.

(وَقَالَ) أَبُو نَصْرٍ (بِشْرٌ الْحَافِيُّ) أَصْلُهُ مِنْ مَرٍّ وَسَكَنَ بِبَغْدَادَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ رحمه الله «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لِي يَا بِشْرُ هَلْ تَدْرِي بِمَ رَفَعَك اللَّهُ تَعَالَى» فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ «مِنْ بَيْنِ أَقْرَانِك» قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الرِّفْعَةَ بَيْنَ الْأَقْرَانِ لَا عَلَى الْأَعْلَى فَطَلَبُهُ مِنْ الْإِفْرَاطِ «قُلْت لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ» أَيْ لَا أَعْرِفُ سَبَبَ الرِّفْعَةِ.

«قَالَ» رَفَعَك اللَّهُ «بِاتِّبَاعِك لِسُنَّتِي وَخِدْمَتِك» بِرُوحِك وَقَوْلِك وَجَسَدِك وَبِتَأْوِيلِ مَا يُرَى خَطَأٌ مِنْهُمْ وَبِتَحَمُّلِ أَذَاهُمْ وَزِيَارَتِهِمْ لِاسْتِفَاضَةِ أَنْوَارِهِمْ «لِلصَّالِحِينَ» وَالصَّالِحُ مَنْ يَقُومُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ حَسَبَ الطَّاقَةِ، فَإِنَّ خِدْمَتَهُمْ مِنْ مَحَبَّتِهِمْ وَمَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حُشِرَ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ وَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْت» وَعَنْ الشَّيْخِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَلَمْ أَزِلَّ أَبَدًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أُجَاهِدُ الْفُقَهَاءَ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ السَّادَةِ حَقَّ الْجِهَادِ وَأَذُبُّ عَنْهُمْ وَأَحْمِي وَبِهَذَا فَتَحَ لِي وَمَنْ ذَمَّهُمْ، فَإِنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي جَهْلِهِ وَلَا يُفْلِحُ أَبَدًا (وَنَصِيحَتِك لِإِخْوَانِك) الْمُسْلِمِينَ تَقْيِيدُهُ بِالْإِخْوَانِ إشَارَةٌ إلَى تَقَوِّي سَبَبِ النَّصِيحَةِ وَإِلَى الِاهْتِمَامِ فِيهَا (وَمَحَبَّتِك لِأَصْحَابِي) كُلِّهِمْ مِنْ غَيْرِ طَعْنٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَ السُّكُوتِ عَمَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْحُرُوبِ وَالْمُخَاصَمَاتِ.

(وَأَهْلِ بَيْتِي) أَيْ ذُرِّيَّتِي وَأَقْرِبَائِي مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٍ وَأَوْلَادِ الْعَبَّاسِ وَحَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (وَهُوَ) هَذَا الْمَجْمُوعُ (الَّذِي بَلَّغَك) وَأَوْصَلَك (مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ) مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، فَإِنْ قِيلَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّقْلِ كَمَا عَرَفْت إلْزَامُ هَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ نَفَوْا فِي الْوُصُولِ الِاحْتِيَاجَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ حَصَرُوهُ بِرَفْضِ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ السُّنَّةُ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ آنِفًا أَنَّ الرُّؤْيَا لَيْسَتْ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعْرِفَةِ وَأَنَّهَا وِجْدَانِيَّةٌ لَا تَصْلُحُ إلْزَامًا لِلْغَيْرِ قُلْنَا إنَّهُ جَوَابٌ إلْزَامِيٌّ لَا تَحْقِيقِيٌّ إذْ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مِنْ الْحُجَجِ وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَقَامِ الْبُرْهَانِيِّ وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خِطَابِيًّا وَأَيْضًا إذَا أَتْقَنْت مَا فَصَّلْنَا سَابِقًا لَا تَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ قِيلَ إنَّهُ اشْتَهَى الْبَاقِلَاءَ سِنِينَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك فَقَالَ غَفَرَ لِي رَبِّي وَقَالَ كُلْ يَا مَنْ لَمْ يَأْكُلْ وَاشْرَبْ يَا مَنْ لَمْ يَشْرَبْ وَرُوِيَ عَنْهُ إنِّي لَأَشْتَهِي الشِّوَاءَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا صَفَا لِي ثَمَنُهُ وَقِيلَ لَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ تَأْكُلُ فَقَالَ أَذْكُرُ الْعَاقِبَةَ فَأَجْعَلُهَا إدَامِي.

وَقَالَ بِشْرٌ لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الْآخِرَةِ رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَهُ النَّاسُ (وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ) أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى (الْخَرَّازُ) مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ رحمه الله (كُلُّ بَاطِنٍ) أَيْ عِلْمٍ بَاطِنٍ وَهُوَ التَّصَوُّفُ

ص: 116

(يُخَالِفُهُ ظَاهِرٌ) عِلْمٌ ظَاهِرٌ هُوَ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فَهُوَ بَاطِلٌ) ؛ لِأَنَّهُ وَسْوَسَةٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَزَخْرَفَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ فَادِّعَاؤُهُمْ بِأَنَّ الْوُصُولَ مُحْتَاجٌ إلَى رَفْضِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ وَنَحْوُهُ مُسْتَنِدًا إلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْلَافِ لَغْوٌ بَاطِلٌ صِرْفٌ (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ) الْبَلْخِيّ ثُمَّ السَّمَرْقَنْدِيُّ مَاتَ سَنَةَ تِسْعَ عَشَرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (ذَهَابُ الْإِسْلَامِ) انْطِمَاسُ رَوْنَقِهِ وَاسْتِتَارُ أَنْوَارِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى إلَّا اسْمُهُ وَصَيْرُورَتُهُ طَبِيعَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ شَرِيعَةً فَلَمْ يَحْكُمْ الرَّجُلُ إلَّا بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ بِرَأْيِهِ وَعَقْلِهِ (مِنْ) أَجْلِ أُمُورٍ (أَرْبَعَةٍ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا الْعِلْمَ إلَّا لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ الْعَوَامّ وَيَتَوَسَّلُوا إلَى جَمْعِ الدُّنْيَا مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ (وَيَعْمَلُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ الصُّوفِيَّةُ الْجُهَّالُ فَتَكُونُ عِبَادَتُهُمْ بِمُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ أَوْ بِمَا رَأَوْا مِنْ النَّاسِ عُلَمَاءَ أَوْ لَا (وَلَا يَتَعَلَّمُونَ) مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْكُتُبِ (مَا يَعْمَلُونَ) بِهِ مِنْ عِلْمِ الْحَالِ (وَالنَّاسَ) مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ (مِنْ التَّعَلُّمِ يَمْنَعُونَ) بِتَخْوِيفِ مُجَاهِرٍ أَوْ بِتَزْيِينِ مَا يُضَادُّهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا أَوْ بِإِرَاءَةِ كَسْلَانٍ الْعِلْمَ تَرْوِيجًا لِسِلْعَتِهِمْ الْكَاسِدَةِ فِي الدِّينِ وَتَلْبِيسًا لِطَرِيقِ الصَّالِحِينَ حُبًّا لِلْعَاجِلَةِ وَفِدَاءً لِلْآجِلَةِ وَقِيلَ هُمْ الْمُتَزَيُّونَ بِزِيِّ الْمَشَايِخِ الْفَاسِدُونَ الْمُفْسِدُونَ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْعِلْمَ فِي الْمَوَاضِعِ الْعِلْمُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَالْمُخَالَفَةُ مُؤَثِّرَةٌ فِي ذَهَابِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ يَلْتَزِمُونَ تَرْكَهُ بَلْ شَرَطُوهُ فِي الْوُصُولِ (كُلُّ مَا ذُكِرَ مِنْ كَلَامِ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَيْ مِنْ كَلَامٍ هُوَ لَفْظُ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ (إلَى هُنَا مَنْقُولٌ مِنْ رِسَالَةِ) الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَارِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى رُكْنُ الْإِسْلَامِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ هَوَازِنَ. (الْقُشَيْرِيُّ) رحمه الله قِيلَ هِيَ رِسَالَةٌ كَتَبَهَا إلَى جَمَاعَةِ الصُّوفِيَّةِ بِبُلْدَانِ الْإِسْلَامِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (اُنْظُرْ) بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ وَاتْرُكْ التَّعَصُّبَ وَالِاعْتِسَافَ (أَيُّهَا الْعَاقِلُ الطَّالِبُ لِلْحَقِّ) الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ (إنَّ هَؤُلَاءِ) السَّادَةَ الْمَذْكُورِينَ الْجُنَيْدِيَّ وَالسَّرِيَّ وَأَبَا يَزِيدَ وَأَبَا سُلَيْمَانَ وَذَا النُّونِ وَبِشْرًا الْحَافِيَّ وَأَبَا سَعِيدٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْفَضْلِ كُلَّهُمْ (عُظَمَاءُ مَشَايِخُ عُلَمَاءُ الطَّرِيقَةِ وَكُبَرَاءُ أَرْبَابِ السُّلُوكِ) فِي السُّيُورِ الْمَعْهُودَةِ (إلَى) مَعْرِفَةِ (اللَّهِ) وَأَنْوَارِ تَجَلِّيَاتِهِ.

(وَالْحَقِيقَةِ) وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ السُّلُوكِ أَيْ الْوُصُولِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُشَاهَدَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالتَّجَلِّيَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَارْتِفَاعِ الْحُجُبِ مِنْ الْبَيْنِ (وَكُلُّهُمْ) مَعَ سَائِرِهِمْ لَا الْمَذْكُورُونَ هُنَا فَقَطْ فَالضَّمِيرُ لِمُطْلَقِ الْمَشَايِخِ فِي ضِمْنِ هَذَا الْمُقَيَّدِ (يُعَظِّمُونَ الشَّرِيعَةَ الشَّرِيفَةَ) بِكَمَالِ الِاهْتِمَامِ فِي إتْيَانِ حَقَائِقِهَا وَغَايَةِ الْمُرَاعَاةِ فِي دَقَائِقِهَا إلَى أَنْ يَجْعَلُوا رُخَصَهَا كَالْمُحَرَّمَاتِ وَعَزَائِمَهَا كَالْوَاجِبَاتِ فَضْلًا عَنْ تَرْكِ الْأَوْلَى وَإِتْيَانِ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ كَيْفَ وَهُمْ جَعَلُوا الشَّرِيعَةَ لِلْوُصُولِ إلَى مَقَاصِدِهِمْ مَبَادِئَ أَصْلِيَّةً وَمُقَدَّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ وَبِذَلِكَ وَصَلُوا إلَى مَقَامَاتِهِمْ بَلْ فِي حَالِ غَلَبَةِ وُجْدِهِمْ وَحَالِهِمْ أَكْثَرُهُمْ مَحْفُوظُونَ مِنْ اللَّهِ عَنْ تَرْكِ آدَابِ الشَّرِيعَةِ مَعَ شِدَّةِ حَالَتِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُ شَيْءٌ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ أَصْلًا وَهَذَا مَقَامُ دَوْلَةِ السَّلْطَنَةِ الْبَايَزِيدِيَّةِ كَانَ مَغْلُوبًا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَأَزْمِنَةُ الْعِبَادَاتِ عَادَ إلَى حَالِهِ، وَإِذَا أَدَّى لَوَازِمَ الشَّرِيعَةِ عَادَ إلَى الْغَلَبَةِ وَهَذَا بِبَرَكَةِ صِحَّةِ الِاسْتِقَامَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مَغْلُوبًا دَائِمًا كَالْمَجَانِينِ فَمَعْذُورُونَ.

(وَيَبْنُونَ عُلُومَهُمْ الْبَاطِنَةَ) الْمُفَاضَةَ عَلَيْهِمْ بِالْفَتْحِ الرَّبَّانِيِّ وَالْإِلْهَامِ

ص: 117

الرُّوحَانِيِّ (عَلَى السِّيرَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ) وَيَحْتَمِلُ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ بِمَعْنَى الْأَسْبَقِ فِي كَوْنِهَا مَحْمُودَةً (وَالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ) الَّتِي لَا عِوَجَ فِيهَا وَلَا أَمْتَ عَلَى وَجْهٍ لَوْ جَمَعَ الْحُكَمَاءُ حِكْمَتَهُمْ وَالْعُلَمَاءُ عِلْمَهُمْ؛ لَأَنْ يَجِدُوا فِيهِمْ مُغَايَرَةً لِلشَّرِيعَةِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجِدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا خِلَافًا لِهَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ، فَإِنَّ حَالَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ مَا عَرَفْت وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ مَعَ كَمَالِ مُخَالَفَتِهِمْ وَفَرْطِ الْتِزَامِ مُتَارَكَةِ سِيرَتِهِمْ ادَّعَوْا مُتَابَعَتَهُمْ وَأَخْذَ طَرِيقَتِهِمْ مِنْهُمْ مُحْتَجِّينَ بِهِمْ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ وَهُمْ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ لِمَا عَرَفْت مِنْ تَفَاصِيلِ سِيرَتِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ (فَلَا يَغُرَّنَّكَ) إذَا عَرَفْت حَقِيقَةَ الْحَقِّ مِنْ تَمَسُّكَاتِ الْمَشَايِخِ بَلْ وَمِنْ لُزُومِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَغُرَّنَّكَ (طَامَّاتُ) جَمْعُ طَامَّةٍ دَاهِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَفُسِّرَ هُنَا بِالْأُمُورِ الْمُضِرَّةِ فِي الدِّينِ (الْجُهَّالِ الْمُتَنَسِّكِينَ) الْمُتَعَبِّدِينَ بِلَا عِلْمٍ وَالْمُتَنَسِّكُ مُظْهِرُ النُّسُكِ أَيْ الْعِبَادَةِ (وَشَطْحُهُمْ) أَيْ مُجَاوَزَتُهُمْ الْحُدُودَ بِالْإِفْرَاطِ قِيلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُوَلَّدِينَ وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقَامُوسِ وَالْمِصْبَاحِ (الْفَاسِدِينَ) فِي أَنْفُسِهِمْ (الْمُفْسِدِينَ) لِغَيْرِهِمْ (الضَّالِّينَ) لِخُرُوجِهِمْ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ (الْمُضِلِّينَ) لِغَيْرِهِمْ الْأَوَّلُ مُنَاسِبٌ لِلْأَوَّلِ.

وَالثَّانِي لِلثَّانِي (بَعْدَ أَنْ كَانُوا زَائِغِينَ) مَائِلِينَ (عَنْ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ) إلَى الْبَاطِلِ وَالْعَاطِلِ الْحَدِيثِ وَالْقَدِيمِ (وَمَائِلِينَ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ خَارِجِينَ عَنْ مَنَاهِجِ) الْمَنْهَجُ هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ (عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ) الَّتِي كَانَ الْكُلُّ مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِهَا (وَمَارِقِينَ) خَارِجِينَ (عَنْ مَسَالِكِ مَشَايِخِ الطَّرِيقَةِ) النَّبَوِيَّةِ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ وَتَرْكِهِمْ التَّحَصُّنَ بِحُصُونِهَا الْمَنِيعَةِ لِاعْتِكَافِهِمْ عَلَى أَصْنَامِ الْأَوْهَامِ لِافْتِتَانِهِمْ بِوَحْيِ الشَّيْطَانِ لَا يَخْفَى أَنَّ كَلِمَاتِ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا تَخْلُو عَمَّا يُسْتَغْنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ لَكِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الذَّمِّ وَالتَّنْفِيرِ لِتَحَسُّنِ الْمُبَالَغَاتِ وَالتَّأْكِيدَاتِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُنَاسِبَ فِي التَّفْرِيعِ بِحَسَبِ الذَّوْقِ وَالسَّوْقِ أَنْ يُقَالَ بَدَلُ فَلَا يَغُرَّنَّكَ أَوْ فِي ضِمْنِهِ وَمَعِيَّتِهِ نَحْوُ أَنْ يُقَالَ فَظَهَرَ بُطْلَانُ مَقَالِهِمْ وَامْتِنَاعُ مُدَّعَاهُمْ لَا سِيَّمَا أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِصَلَاحِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَيُسَلِّمُونَ كَلِمَاتِهِمْ وَيَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُمْ وَيُظْهِرُونَ مُعَادَاةَ مُخَالِفِيهِمْ.

(فَالْوَيْلُ) الْعُقُوبَةُ الشَّدِيدَةُ أَوْ حُلُولُ الشَّرِّ أَوْ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أَوْ دُعَاءٌ يُدْعَى بِهِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ لِقُوَّةِ الْقَبَائِحِ وَشِدَّةِ الْفَضَائِحِ (كُلُّ الْوَيْلِ لَهُمْ) إنْ دَامُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَإِلَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ إمَّا إخْبَارٌ فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِمَّا إنْشَاءٌ بِالدُّعَاءِ بِالثُّبُورِ فَيَلْزَمُ الدُّعَاءُ بِالسُّوءِ وَاللَّائِقُ هُوَ الدُّعَاءُ بِإِصْلَاحِهِمْ وَحُسْنِ حَالِهِمْ قُلْنَا عَدَمُ جَوَازِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ إنْ كَانَ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَقَوْلِك: كُلُّ كَافِرٍ فِي النَّارِ أَوْ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْله تَعَالَى - {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88]- الْآيَةُ كَمَا صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي وَصَايَاهُ التُّرْكِيَّةِ (وَلِمَنْ تَبِعَهُمْ) ؛ لِأَنَّ شَبِيهَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ فَضْلًا عَمَّنْ يَلْحَقُ بِهِمْ (أَوْ حَسَّنَ) مِنْ التَّحْسِينِ (أَمْرَهُمْ) مِنْ تِلْكَ الْفُحْشِيَّاتِ وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَسَّنُوا بِالْجَمْعِ لَيْسَ بِحَسَنٍ؛ لِأَنَّ تَحْسِينَ الْمَعَاصِي وَرِضَاهَا مَعْصِيَةٌ بَلْ قَدْ يَكْفُرُ (فَهُمْ) مَعَ اتِّبَاعِهِمْ (قُطَّاعُ طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى) لَا سُلَّاكُ طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى (عَلَى الْعَابِدِينَ) بِمَنْعِهِمْ مُرِيدَ سُلُوكِ الطَّرِيقِ عَنْ السُّلُوكِ فِي طَرِيقِ اللَّهِ بِسِهَامِ الْوَسَاوِسِ وَأَسْلِحَةِ الْأَكَاذِيبِ وَالْأَوْهَامِ.

(يُلْبِسُونَ) مِنْ اللَّبْسِ بِمَعْنَى الْخَلْطِ

ص: 118