المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الأول في تصحيح الاعتقاد] - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية - جـ ١

[محمد الخادمي]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مُطْلَقُ الِاعْتِصَامِ]

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي فِي الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي بَيَان الْبِدَعِ]

- ‌[أَنْوَاعِ الْبِدْعَةِ وَأَحْكَامِهَا]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ الِاقْتِصَادِ فِي الْعَمَلِ]

- ‌[الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ]

- ‌[الْأَدِلَّةُ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةُ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَصْحِيحِ الِاعْتِقَادِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْعُلُومِ الْمَقْصُودَةِ لِغَيْرِهَا]

- ‌[النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الْمَأْمُورِ بِهَا]

- ‌[الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ فَرْضُ الْعَيْنِ]

- ‌[الصِّنْفُ الثَّانِي فِي فَرْضُ الْكِفَايَةِ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي الْعُلُومِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا]

- ‌[النَّوْعُ الثَّالِثُ الْعُلُومِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا]

الفصل: ‌[الفصل الأول في تصحيح الاعتقاد]

(فِي حَقِّهِمْ وَلَا تُفَرِّطْ) مِنْ التَّفْرِيطِ يَعْنِي لَا تَحْمِلُهُمْ عَلَى تَفْرِيطٍ وَتَقْصِيرٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ حِينَ رَأَيْت مِنْهُمْ مَا يَسْتَدْعِي ذَلِكَ كَمَا فِي حَالِ نِهَايَتِهِمْ وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِفْرَاطِ هُوَ الْمَدْحُ الْبَالِغُ إلَى رُتْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالتَّفْرِيطُ هُوَ الِاحْتِقَارُ وَالِاسْتِهَانَةُ وَالْمَذَمَّةُ حَيًّا وَمَيِّتًا وَقِيلَ التَّقْصِيرُ فِي أَدَاءِ أَحَقِّهِمْ.

وَعَنْ أَفْضَلِ الدِّينِ لَوْ أَنَّ إنْسَانًا أَحْسَنَ الظَّنَّ بِجَمِيعِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ لَمْ يَنْفَعْهُ حُسْنُ الظَّنِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَعَنْ خَوَاجَهْ عَبْدِ الْخَالِقِ الْعَجْدَوَانِيِّ إيَّاكَ وَأَنْ تَطْعَنَ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْمَشَايِخِ، فَإِنَّ طَاعِنَهُمْ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مُعَادَاةَ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ كُفْرٌ (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) يُشِيرُ إلَى الِاقْتِصَادِ أَوْ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ أَيْ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ سَبِيلًا مَسْلَكًا ذَا حَظٍّ مِنْهُمَا فَلَا تَفْرُغْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاصِرَ النَّظَرِ عَنْ الْآخَرِ (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) أَيْ الِاقْتِصَادِ أَوْ جَمِيعِ مَا فِي الْكِتَابِ (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِنَا فِي إرَادَةِ أَفْعَالِنَا وَقِيلَ لِقُصُورِ عُقُولِنَا وَضَعْفِ مَعْقُولِنَا (لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) بِمَحْضِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.

[الْبَابُ الثَّانِي فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةُ]

[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَصْحِيحِ الِاعْتِقَادِ]

(الْبَابُ الثَّانِي فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ)

أَيْ الْحَرِيَّةُ لَأَنْ يُهْتَمَّ فِي شَأْنِهَا لِأَنَّهَا تُوقِعُ الْهَمَّ أَيْ الْحُزْنَ عَلَى فَوَاتِهَا أَوْ الْحَرِيَّةُ أَنْ تُفْعَلَ بِالْهِمَّةِ وَالْعَزِيمَةِ (فِي الشَّرِيعَةِ) الشَّرْعُ فِي اللُّغَةِ الْإِظْهَارُ وَفِي الْعُرْفِ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ اللَّهِ وَيُرَادِفُهُ الشَّرِيعَةُ وَالدِّينُ لِأَنَّ تِلْكَ شَرْعٌ بِاعْتِبَارِ الْإِظْهَارِ وَشَرِيعَةٌ بِاعْتِبَارِ انْتِفَاعِ النَّاسِ كَانْتِفَاعِهِمْ بِشَرِيعَةِ الْمَاءِ وَدِينٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تُطَاعُ أَوْ يُجَازَى بِهَا فِي التَّلْوِيحِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَعْهُودَةُ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفِي قَوْلِهِ (الْمُحَمَّدِيَّةُ) تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا أَوْ تَجْرِيدٌ فِي لَفْظِ الشَّرِيعَةِ أَوْ نَحْوُ تَأْكِيدٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةَ تَوْضِيحٍ أَوْ مَدْحٍ إلَّا أَنْ لَا يَجْعَلَ لَفْظَ النَّبِيِّ فِي مَاهِيَّةِ الشَّرِيعَةِ لِلْعَهْدِ أَيْ الْفَرْدِ الْكَامِلِ الَّذِي هُوَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّهُ بَعِيدٌ ثُمَّ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ مُحَمَّدٍ فِي النِّسْبَةِ إيهَامٌ إلَى كَوْنِ شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام زِيَادَةَ مَحْمُودٍ وَمَمْدُوحٍ وَمِنْ جُمْلَتِهِ قِلَّةُ الْمُؤْنَةِ وَكَثْرَةُ الْفَضِيلَةِ فِي قِلَّةِ الْعَمَلِ لِكَوْنِ شَرِيعَتِهِ عَلَى الِاقْتِصَادِ بِلَا إصْرٍ وَإِغْلَالٍ وَإِفْرَاطٍ (وَهِيَ) أَيْ الْأُمُورُ الْمُهِمَّةُ (ثَلَاثَةٌ) قِيلَ: الْأَوْلَى ثَلَاثٌ لَعَلَّ وَجْهَ الْأَوْلَوِيَّةِ التَّطَابُقُ فِي التَّأْنِيثِ لَكِنْ يَدْفَعُهُ مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ اسْمَ الْعَدَدِ تَابِعٌ لِمُفْرَدِ مَوْصُوفِهِ عَلَى أَنَّ الْتِزَامَ التَّطَابُقِ فِيمَا لَا يَكُونُ الْخَبَرُ مُشْتَقًّا مَطْلُوبُ الْبَيَانِ (نُبَيِّنُ كُلًّا مِنْهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى) فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَتَحَصَّلُ إلَّا بِمَدَدِهِ وَهِدَايَتِهِ

إذَا لَمْ يُعِنْكَ اللَّهُ فِيمَا تَرُومُهُ

فَلَيْسَ لِمَخْلُوقٍ إلَيْهِ سَبِيلُ

فَإِنْ هُوَ لَمْ يُرْشِدْك فِي كُلِّ مَسْلَكٍ

ضَلَلْت وَلَوْ أَنَّ السَّمَاءَ دَلِيلُ

(فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ) مَصْدَرُ وَحْدٍ.

(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)(فِي تَصْحِيحِ الِاعْتِقَادِ وَتَطْبِيقِهِ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ) أَيْ أَصْحَابِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ أَيْ التَّمَسُّكِ بِهَا

ص: 155

(وَالْجَمَاعَةِ) أَيْ جَمَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَهُمْ الْأَصْحَابُ وَالتَّابِعُونَ وَهُمْ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْمُشَارُ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً قِيلَ: وَمَنْ هُمْ قَالَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» .

قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَضُدُ: الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ وَهُمْ الْأَشَاعِرَةُ لَعَلَّ مُرَادَهُ إمَّا تَغْلِيبَ أَوْ عُمُومَ مَجَازٍ أَوْ ادِّعَاءَ اتِّحَادِهِمْ مَعَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ الَّذِينَ تَابَعُوا فِي الْأُصُولِ كَالْحَنَفِيَّةِ إلَى عَلَمِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ وَجْهُ كَوْنِهِمْ فِرْقَةً نَاجِيَةً الْتِزَامُهُمْ كَمَالَ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ بِلَا تَجَاوُزٍ عَنْ ظَاهِرِ نَصٍّ بِلَا ضَرُورَةٍ وَلَا اسْتِرْسَالٍ إلَى عَقْلٍ خِلَافًا لِمُخَالِفِيهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الدَّوَانِيُّ.

وَفِي أَوَائِلِ كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ مِنْ التتارخانية عَنْ الْمُضْمَرَاتِ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُؤْمِنُ إذَا أَحَبَّ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ وَقَضَى حَوَائِجَهُ وَغَفَرَ لَهُ الذُّنُوبَ وَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بَرَاءَةً مِنْ النَّارِ وَبَرَاءَةً مِنْ النِّفَاقِ.

وَفِي خَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَانَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا عَشْرَةَ حَسَنَاتٍ وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ» وَتَمَامُهُ مَعَ تَفْصِيلِهِ هُنَالِكَ (وَجُمْلَتُهُ) أَيْ جُمْلَةُ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِمَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ مِمَّا يَكُونُ ضَرُورِيًّا بِحَيْثُ يَكُونُ عَدَمُهُ كُفْرًا أَوْ ضَلَالَةً فَإِنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا جَمِيعُ هَذِهِ الْأُصُولِ أَوْ جُمْلَتُهُ إجْمَالُهُ بِمَعْنَى أَنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا هُوَ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا تَفْصِيلَاتُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِلَّا فَتَفَاصِيلُ مَذْهَبِهِمْ لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَلَا يَتَحَمَّلُ ذِكْرَهَا كِتَابُنَا فَالْمَذْكُورُ هُنَا تَفْصِيلُ الْأُصُولِ وَإِجْمَالُ الْكُلِّ (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ) الْمُتَبَادَرُ وَحْدَةٌ ذَاتِيَّةٌ وَإِنْ شِئْت قُلْت: مُطْلَقًا أَيْ ذَاتِيَّةٌ أَوْ وَصْفِيَّةٌ وَفِي تَصْدِيرِهِ بِأَنَّ الْمُؤْذِنَةَ بِالتَّحْقِيقِ وَالدَّالَّةَ عَلَيْهِ إشَارَةٌ إلَى لُزُومِ الِاطِّلَاعِ وَالْعِرْفَانِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ وَالْيَقِينِ فِي كَوْنِهِ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِاعْتِبَارِ إيمَانِ الْمُقَلِّدِ عِنْدَنَا وَقَدْ يَعْتَبِرُ بَعْضُهُمْ جَوَازَ 7 الظَّنِّ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ فَيَدْفَعُ بِإِرَادَةِ كَمَالِ الْمَذْهَبِ فَإِنْ قِيلَ: كَلِمَةُ أَحَدٍ أَكْمَلُ مِنْ الْوَاحِدِ كَمَا فِي الْإِتْقَانِ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ وَمُخْتَصٌّ بِوَصْفِ اللَّهِ دُونَ كَلِمَةِ وَاحِدٍ كَمَا نَقَلَ هُوَ عَنْ مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ لِلرَّاغِبِ فَلِمَ اخْتَارَ وَاحِدًا عَلَى أَحَدٍ قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّ أَحَدًا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ أَكْثَرِيًّا وَهُنَا إثْبَاتٌ وَأَمَّا فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ فَتَجُوزُ لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِوُجُودِهِ تَعَالَى ثُمَّ يُجْرِيَ عَلَيْهِ سَائِرَ صِفَاتِهِ وَلَعَلَّهُ اكْتَفَى بِالدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ إذْ الْوَحْدَانِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْوُجُودَ وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَفِي بِتَصْرِيحِهِ لِأَنَّهُ بَدِيهِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَإِلَى جَمِيعِ مُخَالِفِينَا خِلَافًا مُعْتَدًّا بِهِ وَأَنَا أَقُولُ: لَقَدْ أَعْجَبُ فِي ابْتِدَائِهِ حَيْثُ افْتَتَحَ ذَلِكَ الْمَبْحَثَ بِمَضْمُونِ افْتِتَاحِ الْإِيمَانِ مِنْ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ التَّوْحِيدِيَّةِ ثُمَّ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ تَعَالَى وَاحِدًا هُوَ التَّوْحِيدُ الْمُفَسَّرُ بِأَنَّهُ إثْبَاتُ وُجُودِ فَرْدٍ وَاحِدٍ لِلْوَاجِبِ وَامْتِنَاعُ فَرْدٍ آخَرَ مِنْهُ

ص: 156

فَقَوْلُنَا اللَّهُ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا الْوَاجِبُ الذَّاتِيُّ وَاحِدٌ مُطَابَقَةً وَعَلَى قَوْلِك الْوَاجِبُ الذَّاتِيُّ يَمْتَنِعُ تَعَدُّدُهُ الْتِزَامًا تَأَمَّلْ ثُمَّ بُرْهَانُ تَوْحِيدِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَ الْوَاجِبُ فَوُقُوعُ الْمُمْكِنُ إمَّا بِهِمَا جَمِيعًا فَنَقْصٌ لَهُمَا أَوْ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فَتَوَارُدٌ أَوْ بِأَحَدِهِمَا فَتَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ضِدِّ مَا قَصَدَهُ الْآخَرُ فَعَجْزٌ وَإِنْ تَمَكَّنَ فَإِنْ وَقَعَا لَزِمَ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ وَإِلَّا لَزِمَ عَجْزُهُمَا أَوْ عَجْزُ أَحَدِهِمَا وَلِأَنَّهُمَا إنْ اتَّفَقَا عَلَى كُلِّ مَقْدُورٍ فَالتَّوَارُدُ وَإِلَّا فَالتَّمَانُعُ وَالنُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ كَثِيرَةٌ وقَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] إشَارَةٌ إلَى دَلِيلِ التَّمَانُعِ كَذَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْكَلَامِ.

وَقَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ بَعْدَمَا قَالَ أَنَّ بُرْهَانَ التَّمَانُعِ مُشَارٌ إلَيْهِ بِتِلْكَ الْآيَةِ وَقُرِّرَ التَّمَانُعُ بِوَجْهٍ آخَرَ حَاصِلُهُ رَاجِعٌ إلَى بَعْضِ مَا ذُكِرَ هُنَا وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] حُجَّةٌ إقْنَاعِيَّةٌ وَالْمُلَازَمَةُ عَادِيَّةٌ عَلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْخَطَابِيَّاتِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِوُجُودِ التَّمَانُعِ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْفَسَادُ بِالْفِعْلِ فَلَا نُسَلِّمُ الْمُلَازَمَةَ لِجَوَازِ الِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ وَإِنْ أُرِيدَ إمْكَانُ الْفَسَادِ فَلَا نُسَلِّمُ بُطْلَانَ التَّالِي لِشَهَادَةِ النُّصُوصِ عَلَى خَرَابِ الْعَالَمِ وَفَنَائِهِ.

وَقَالَ حَفِيدُ الْعَلَّامَةِ الْمَرْقُومِ وَصَرَّحَ بِإِقْنَاعِيَّةِ الْمُلَازَمَةِ الْعَلَّامَةُ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ وَالشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ فِي التَّدْبِيرَاتِ الْإِلَهِيَّةِ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إلْجَامِ الْعَوَامّ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَحْصُلَ التَّصْدِيقُ بِالْأَدِلَّةِ الْخَطَابِيَّةِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الْمُحَاوَرَاتِ وَهُوَ مُفِيدٌ فِي حَقِّ الْأَكْثَرِينَ تَصْدِيقًا بِبَادِئِ الرَّأْيِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَاطِنُ مَشْحُونًا بِالتَّعَصُّبِ وَالْمُجَادَلَةِ وَأَكْثَرُ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء: 22] الْآيَةَ فَكُلُّ مَنْ لَا تُشَوَّشُ فِطْرَتُهُ يَسْبِقُ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ إلَى فَهْمِ تَصْدِيقٍ جَازِمٍ بِوَحْدَانِيِّتِهِ تَعَالَى لَكِنْ لَوْ تَشَوَّشَ لَجَادَلَ بِجَوَازِ تَوَافُقِ الصَّانِعَيْنِ وَتَعَاوُنِهِمَا عَلَى التَّدْبِيرِ فَيَعْسُرُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَاصِرِينَ ثُمَّ قَالَ الْحَفِيدُ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] أَيْ بِالْبُرْهَانِ وَالْخَطَابَةِ وَالْجَدَلِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُلَازَمَةَ الظَّاهِرَةَ مِنْ الْآيَةِ إقْنَاعِيَّةٌ وَلَا يَشُكُّ فِيهِ مُنْصِفٌ لَكِنْ أَشَارَ فِي ذَلِكَ إلَى بُرْهَانِ التَّوْحِيد إلَى آخِرِ مَا قَالَ أَقُولُ: يُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ سَوْقَ تِلْكَ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَ مَقَامِهَا جَدَلِيًّا يُقْصَدُ بِهِ إلْزَامُ الْخَصْمِ لَا بُرْهَانِيًّا يُقْصَدُ بِهِ تَحْقِيقُ الْحَقِّ وَالْمَقَامِ وَأَنَّ مَقَامَ هَذِهِ الْآيَةِ مَقَامُ الْمُخَاطَبَةِ مَعَ عَوَامِّ الْجَهَلَةِ وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى اطِّلَاعِ الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ بَلْ اللَّائِقُ فِي إرْشَادِهِمْ الْمُقَدِّمَاتُ الْخَطَابِيَّةُ اللَّائِقَةُ بِفَهْمِهِمْ لِكَوْنِ عُقُولِهِمْ قَاصِرَةً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى فَهْمِ الْبُرْهَانِيِّ وَيَعْجِزُونَ عَنْ اطِّلَاعِهِ ثُمَّ أَقُولُ: قَوْلُ الْعَلَّامَةِ فِي سَنَدِ مَنْعِ الْمُلَازَمَةِ بِجَوَازِ الِاتِّفَاقِ مَعَ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ بِجَوَازِ تَوَافُقِ الصَّانِعَيْنِ يَرِدُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ النِّظَامُ بِمَجْمُوعِهِمَا فَنَقْصٌ لَهُمَا وَإِنْ مِنْهُمَا فَتَوَارُدٌ أَوْ تَحْصِيلٌ أَوْ وُجُودُ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِوُجُودَيْنِ، وَإِنْ بِوَاحِدٍ فَقَطْ مَعَ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الْآخَرِ فَتَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ مَعَ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ مِنْ الْآخَرِ إنْ مُمْتَنِعًا فَعَجْزٌ وَإِنْ مُمْكِنًا فَإِنْ وُجِدَ إرَادَتُهُمَا فَاجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَإِلَّا فَعَجْزُهُمَا أَوْ عَجْزُ أَحَدِهِمَا وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً بُرْهَانِيَّةً لَا إقْنَاعِيَّةً ثُمَّ قَالَ الْحَفِيدُ: جَعَلَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ هَذِهِ الْحُجَّةَ قَطْعِيَّةً وَبَالَغَ فِي الرَّدِّ وَالتَّخْطِئَةِ لِمَنْ جَعَلَهَا إقْنَاعِيَّةً وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنْ تَشَبَّثَ بِكَلَامِهِمْ بَعْضُ الْجَهَلَةِ وَالطَّلَبَةِ فَتَفَوَّهَ فِي حَقِّ التَّفْتَازَانِيِّ بِالْكَلِمَةِ الْوَقِيحَةِ وَالْمَقَالَةِ الْقَبِيحَةِ وَالْتَمَسَ مِنْ سُلْطَانِ الزَّمَانِ مُعِينِ الدِّينِ شَاهِرْ خَ بَهَادِرْ سُلْطَانْ أَنْ يَعْقِدَ مَجْلِسًا مَمْلُوءًا بِفُحُولِ الْأَمَاثِلِ الْكَمَلَةِ وَنَحَارِيرِ الْأَفَاضِلِ الْمُكَمَّلَةِ لِيُظْهِرَ أَنَّ تِلْكَ الْعَقِيدَةَ بَاطِلَةٌ فَمَاتَ قُبَيْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَجْأَةً وَمِيتَةً جَاهِلِيَّةً فِي الْقَاذُورَاتِ وَعُدَّ ذَلِكَ كَرَامَةً دَالَّةً عَلَى عُلُوِّ مَنْزِلَةِ الْعَلَّامَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلَامِ الْعَلَّامَةِ فِي شَرْحَيْهِ عَلَى الْعَقَائِدِ وَالْمَقَاصِدِ أَنَّ مَنْطُوقَ الْآيَةِ إقْنَاعِيٌّ وَإِشَارَتَهَا عَلَى أَنَّهَا بُرْهَانٌ قَطْعِيٌّ وَتَقْرِيرُهُ يُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِمَا كَمَا أَشَرْنَا سَابِقًا وَلَا يَرُدُّهُ مَا فِي التَّهْذِيبِ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ إشَارَةٌ إلَى دَلِيلِ التَّمَانُعِ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الدَّلِيلِ هُوَ الْبُرْهَانُ فَإِذَنْ مَنْطُوقُ الْآيَةِ لَيْسَ بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ لِأَنَّ

ص: 157

التَّمَانُعَ قَطْعِيٌّ وَمَنْطُوقَهَا لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ بَلْ الْقَطْعِيُّ إشَارَتُهَا الَّتِي هِيَ التَّمَانُعُ ثُمَّ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ فِي رِسَالَتِنَا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَفِي حَاشِيَتِنَا عَلَى تَفْسِيرِ الْإِخْلَاصِ لِأَبِي عَلِيٍّ سِينَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

(لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ) لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ أَيْ الْمُمَاثَلَةَ إمَّا بِالِاتِّحَادِ فِي النَّوْعِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍ وَفِي كَوْنِهِمَا إنْسَانًا فَظَاهِرٌ إذْ الْإِمْكَانُ وَالْوُجُوبُ نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ وَإِمَّا بِصَلَاحِيَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِمَا يَصْلُحُ لَهُ الْآخَرُ فَلِأَنَّ أَوْصَافَهُ تَعَالَى أَعْلَى وَأَجَلُّ مِمَّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِحَيْثُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ الْمُشَابَهَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَلَا شَيْءَ يُسَاوِيهِ فِي ذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ.

(لَيْسَ بِجِسْمٍ) لِأَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ فَيَحْتَاجُ إلَى الْجُزْءِ وَالِاحْتِيَاجُ دَلِيلُ الْإِمْكَانِ (وَلَا عَرَضٍ) لِأَنَّهُ مَا يَفْتَقِرُ إلَى مَحَلٍّ يُقَوِّمُهُ فَيَكُونُ مُمْكِنًا (وَلَا جَوْهَرٍ) وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ فَجُزْءٌ لِلْجِسْمِ وَمُتَحَيِّزٌ فَيَكُونُ مُمْكِنًا وَأَمَّا عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ فَلِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُمْكِنِ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ إذَا أُرِيدَ بِالْجِسْمِ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ وَبِالْجَوْهَرِ الْمَوْجُودُ لَا فِي مَوْضِعٍ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُهُمَا لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ (وَلَا مُصَوَّرٍ) أَيْ ذِي صُورَةٍ مِثْلِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْسَامِ (وَلَا مُتَنَاهٍ) أَيْ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَقَادِيرِ وَالْأَعْدَادِ (وَلَا مُتَحَيِّزٍ) لِأَنَّ الْحَيِّزَ هُوَ الْفَرَاغُ الْمُتَوَهَّمُ الَّذِي يَشْغَلُهُ شَيْءٌ مُمْتَدٌّ أَوْ غَيْرُ مُمْتَدٍّ فَلَوْ تَحَيَّزَ فَإِمَّا فِي الْأَزَلِ فَيَلْزَمُ قِدَمُ الْحَيِّزِ أَوْ لَا فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَأَنَّهُ يَلْزَمُ احْتِيَاجُهُ إلَى الْحَيِّزِ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَأَنَّهُ يَلْزَمُ احْتِيَاجُهُ إلَى الْحَيِّزِ فَيَكُونُ مُمْكِنًا (وَلَا يَطْعَمُ) شَيْئًا مِنْ الْمَطْعُومَاتِ (وَلَا يَشْرَبُ) شَيْئًا مِنْ الْمَشْرُوبَاتِ لِأَنَّهُمَا مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْسَامِ وَمُوجِبٌ لِلِاحْتِيَاجِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14](لَمْ يَلِدْ) لِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّدَ عَنْهُ غَيْرُهُ لَكَانَ مُمَاثِلًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي نَوْعِهِمَا وَقَدْ نَفَى ذَلِكَ قَبْلُ آنِفًا (وَلَمْ يُولَدْ) لِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّدَ عَنْ مِثْلِهِ لَجَرَتْ الْمُمَاثَلَةُ أَيْضًا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) فِي النَّوْعِ وَالْجِنْسِ كَمَا فِي الشَّخْصِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا فِي قُوَّةِ دَلِيلٍ لِمَا سَبَقَ لِأَنَّ نَفْيَ التَّسَاوِي مُطْلَقًا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْوَالِدِيَّةِ وَالْمَوْلُودِيَّة وَنَحْوِهِمَا

ص: 158

وَالْكُلُّ فِي الْحَقِيقَةِ كَالتَّفْصِيلِ لِلتَّوْحِيدِ

(وَلَا يَتَمَكَّنُ بِمَكَانِ) لِأَنَّ التَّمَكُّنَ عِبَارَةٌ عَنْ نُفُوذِ بُعْدٍ فِي بُعْدٍ آخَرَ مُتَوَهَّمٍ أَوْ مُتَحَقَّقٍ يُسَمُّونَهُ الْمَكَانَ وَالْبُعْدُ عِبَارَةٌ عَنْ امْتِدَادٍ قَائِمٍ بِالْجِسْمِ أَوْ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُودِ الْخَلَاءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْمِقْدَارِ وَالِامْتِدَادِ لِاسْتِلْزَامِهِ التَّجَزِّي وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَكَان لَزِمَ قِدَمُ الْمَكَانِ وَأَيْضًا يَلْزَمُ افْتِقَارُهُ إلَيْهِ وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ مُمْكِنٌ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْوَاجِبِ مُمْكِنًا وَأَيْضًا يَلْزَمُ كَوْنُهُ جَوْهَرًا وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ

وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُتَحَيِّزٌ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ بَدَاهَةُ الْوَهْمِ لَا بَدَاهَةُ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْوَهْمَ فِي غَيْرِ الْمَحْسُوسَاتِ لَيْسَ بِمَقْبُولٍ وَأَمَّا النُّصُوصُ الظَّوَاهِرُ فِي التَّجَسُّمِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمَكَانِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] .

قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ إنَّهَا ظَوَاهِرُ ظَنِّيَّةٌ لَا تُعَارِضُ الْيَقِينِيَّاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ الْمَكَانِ فَلَزِمَ أَنَّهَا مُتَشَابِهَاتٌ فَنُفَوِّضُ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَوْ نُؤَوِّلُهَا بِنَحْوِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْعَرْشِ {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] أَيْ أَمْرُ رَبِّك وَإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ أَيْ يَرْتَضِيهِ (وَلَا يُجْرَى عَلَيْهِ زَمَانٌ) لِأَنَّ الزَّمَانَ مُتَجَدِّدٌ يُقَدَّرُ بِهِ مُتَجَدِّدٌ آخَرُ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُمَا لِأَنَّ التَّجَدُّدَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْقَدِيمِ وَكَذَا الْمِقْدَارُ (وَلَيْسَ لَهُ جِهَةٌ مِنْ الْجِهَاتِ السِّتِّ وَلَا هُوَ فِي جِهَةٍ مِنْهَا) وَهِيَ فَوْقُ تَحْتُ وَيَمِينُ وَيَسَارُ وَقُدَّامُ وَخَلْفُ وَالْجِهَةُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ نَفْسُ الْمَكَانِ بِإِضَافَةِ جِسْمٍ آخَرَ إلَيْهِ فَإِذَا انْتَفَتْ الْجِسْمِيَّةُ وَالْمَكَانِيَّةُ تَنْتَفِي الْجِهَةُ لِأَنَّهَا مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْسَامِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فِي جِهَةٍ أَوْ زَمَانٍ لَزِمَ قِدَمُ الْمَكَانِ أَوْ الزَّمَانِ وَلِأَنَّهُ أَمَارَةُ الْإِمْكَانِ لِلِافْتِقَارِ إلَيْهِ

فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَا ذَكَرْت أَنَّ الْجِهَةَ رَاجِعَةٌ إلَى الْمَكَانِ فَمَا وَجْهُ ذِكْرِهِ بَعْدَهُ قُلْت: الْوَجْهُ زِيَادَةُ التَّوْضِيحِ فِي بَابِ التَّنْزِيهِ وَتَصْرِيحُ الرَّدِّ وَتَأْكِيدُهُ لِلْمُخَالِفِ كَمَا ذَكَرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ

ص: 159

(وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ) كَاللُّطْفِ وَالْأَصْلَحِ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا فَلَا يَجِبُ إثَابَةُ الْمُطِيعِ وَعُقُوبَةُ الْعَاصِي وَإِلَّا لَمَا خَلَقَ الْكَافِرَ الْفَقِيرَ الْمُعَذَّبَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَمَا يَسْتَحِقُّ اللَّهُ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ فِي إضَافَةِ الْخَيْرَاتِ لِكَوْنِهِمَا أَدَاءً لِلْوَاجِبِ وَلَمَا كَانَ لِسُؤَالِ الْعِصْمَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَكَشْفِ الضَّرَرِ وَنَحْوِهَا مَعْنًى لِأَنَّ مَا لَمْ يُفْعَلْ فِي حَقِّ كُلِّ مَفْسَدَةٍ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَرْكُهَا وَالتَّفْصِيلُ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ ثُمَّ الْوَاجِبُ إمَّا مَا يَكُونُ تَرْكُهُ مُخِلًّا بِالْحِكْمَةِ أَوْ مَا يَسْتَحِقُّ تَارِكُهُ الذَّمَّ أَوْ مَا قَدَّرَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ فِعْلَهُ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُهُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّا نَعْلَمُ إجْمَالًا أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ عَلَى حِكْمَةٍ وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمُنَا وَكَذَا الثَّانِي لِأَنَّهُ مَالِكٌ الْكُلَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الذَّمُّ فِي فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ وَكَذَا الثَّالِثُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ التَّرْكُ جَائِزًا فَإِطْلَاقُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ وَمُوهِمٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمَمْنُوعَيْنِ السَّابِقَيْنِ.

وَفِي شَرْحِ الطَّوَالِعِ ثَوَابُ الْمُطِيعِ فَضْلٌ وَدَلِيلُهُ الطَّاعَةُ وَعِقَابُ الْعُصَاةِ عَدْلٌ وَدَلِيلُهُ الْعِصْيَانُ.

(وَلَا يَحِلُّ فِيهِ حَادِثٌ) وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَحِلُّ فِي حَادِثٍ فَلَعَلَّهُ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ وَإِنْ صُحِّحَ بِتَكَلُّفٍ.

قَالَ الشَّرِيفُ الْعَلَّامَةُ فِي بَيَانِهِ لِأَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ تَعَالَى لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَوْ كَانَ حَادِثًا لَكَانَ خَالِيًا عَنْهُ فِي الْأَزَلِ وَالْخُلُوُّ عَنْ صِفَةِ الْكَمَالِ نَقْصٌ وَأُورِدَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَلَا يَتَحَمَّلُ الْمَقَامُ إيرَادَهُ.

وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ تَغَيُّرٌ وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْأَزَلِ فَيَلْزَمُ الِانْقِلَابُ وَيُوجِبُ زَوَالَ ضِدِّهِ فَيَلْزَمُ عَدَمُ الْخُلُوِّ عَنْ الْحَوَادِثِ.

وَأَمَّا الِاتِّصَافُ بِمَا لَهُ تَعَلُّقٌ حَادِثٌ أَوْ بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ السُّلُوبِ وَالْإِضَافَاتِ وَالْأَحْوَالِ فَلَيْسَ مِنْ الْمُتَنَازَعِ انْتَهَى (حَكِيمٌ) وَصْفُ مُبَالَغَةٍ بِمَعْنَى الْعَلِيمِ أَوْ بِمَعْنَى الْمُتْقِنِ أَوْ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْيَافِعِيِّ أَوْ بِمَعْنَى عَالِمِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَمَعْرِفَةِ لَوَازِمِهَا وَخَوَاصِّهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَوْ وَاضِعِ كُلٍّ مَوْضِعَهُ الْحَرِيَّ فَقَوْلُهُ (لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إلَّا بِحِكْمَةٍ) كَالتَّفْسِيرِ لَهُ أَوْ ذَلِكَ دَلِيلٌ لِهَذَا قِيلَ عَنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ الْحِكْمَةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ وَإِيجَادُهَا عَلَى غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَمِنْ الْإِنْسَانِ مَعْرِفَةُ الْمَوْجُودَاتِ وَفِعْلُ الْخَيْرَاتِ.

لَعَلَّ هَذَا رَاجِعٌ إلَى مَا قِيلَ: إنَّهُ إتْقَانٌ لِلصُّنْعِ فِي الْقَامُوسِ وَأَحْكَمَهُ أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ عَنْ الْفَسَادِ ثُمَّ قِيلَ: اُخْتُلِفَ فِي حَقِيقَةِ الْحِكْمَةِ وَالسَّفَهِ فَعِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ الْحِكْمَةُ مَالَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ وَالسَّفَهُ ضِدُّهُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ هِيَ مَا وَقَعَ عَلَى قَصْدِ فَاعِلِهِ وَهُوَ ضِدُّهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ هِيَ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ ضِدُّهُ أَيْضًا ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْفِعْلِ مَا يَعُمُّ خَلْقَهُ وَأَمْرَهُ كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ المضدراعي الْحِكْمَةُ فِيمَا خَلَقَ أَوَأَمَرَ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ لَيْسَتْ بِبَاعِثٍ عَلَى فِعْلِهِ وَإِلَّا يَلْزَمُ كَوْنُ فِعْلِهِ تَعَالَى مُعَلَّلًا بِالْأَغْرَاضِ وَقَدْ أُبْطِلَ فِي مَحَلِّهِ وَالنُّصُوصُ الظَّاهِرَةُ فِي ذَلِكَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5]{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] مُعَلَّلَةٌ بِتِلْكَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ

وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ خِلَافًا لِلْأَشَاعِرَةِ.

وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ بَعْضَ أَفْعَالِهِ سِيَّمَا الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ

ص: 160

مُعَلَّلٌ بِالْحِكَمِ دُونَ بَعْضٍ أُورِدَ عَلَيْهِ إنْ أُرِيدَ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ فَمُنْتَفٍ فِي الْكُلِّ وَإِنْ أُرِيدَ تَرْتِيبُ الْحِكْمَةِ عَلَى أَفْعَالِهِ فَالْكُلُّ كَذَا غَايَتُهُ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَظْهَرُ إلَّا عَلَى الرَّاسِخِينَ الْمُؤَيَّدِينَ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ مُرَادَ هَذَا الشَّارِحِ بِالنَّظَرِ إلَى عِلْمِنَا فَلَا يُنَافِي كَوْنَ الْجَمِيعِ مُعَلَّلًا بِالْحِكَمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَفَائِدَةٍ) أَيْ عَاقِبَةٍ حَمِيدَةٍ تَرْجِعُ إلَى عِبَادِهِ وَأَمَّا نَحْوُ الْكُفْرِ وَسَائِرِ الشُّرُورِ وَالْقَبَائِحِ فَخَلْقُهُ تَعَالَى لَا يَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهَا كَمَا مَرَّ آنِفًا (فَعَّالٌ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ (لِمَا يَشَاءُ) فَمُرَادُهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ إرَادَتِهِ لِلُزُومِ الْعَجْزِ (بِلَا إيجَابٍ) لِسَبْقِهِ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ كَأَنَّ فِيهِ رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ وَاجِبَةٌ فَاَللَّهُ يُرِيدُ وُقُوعَهَا وَيَكْرَهُ تَرْكَهَا وَإِنْ حَرَامًا يُرِيدُ تَرْكَهَا وَيَكْرَهُ وُقُوعَهَا وَتَمَامُهُ فِي شَرْحِ الْعَضُدِيَّةِ

فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْمُبَالَغَةَ أَنْ يَثْبُتَ لِلشَّيْءِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي نَفْسِهِ وَصِفَتُهُ تَعَالَى مُتَنَاهِيَةٌ فِي الْكَمَالِ فَلَا تُمْكِنُ الْمُبَالَغَةُ وَأَيْضًا إنَّمَا تُتَصَوَّرُ الْمُبَالَغَةُ فِي صِفَةٍ تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى قُلْت: أَجَابَ عَنْهُ فِي الْإِتْقَانِ عَنْ الْبُرْهَانِ الرَّشِيدِيِّ كُلُّ الْمُبَالَغَةِ فِي صِفَتِهِ تَعَالَى مَجَازٌ فَاسْتَحْسَنَهُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ.

وَعَنْ الزَّرْكَشِيّ التَّحْقِيقُ أَنَّ صِيَغَ الْمُبَالَغَةِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا مَا تَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْفِعْلِ وَالثَّانِي بِحَسَبِ تَعْدَادِ الْمَفْعُولَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعَدُّدَهَا لَا يُوجِبُ لِلْفِعْلِ زِيَادَةً إذْ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ قَدْ يَقَعُ عَلَى جَمَاعَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ تَنْزِلُ صِفَاتُهُ تَعَالَى وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي حُكْمِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ تَكْرَارُ حِكْمَةِ التَّنْبِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرَائِعِ.

(مُنَزَّهٌ) مُبْعَدٌ وَمُبَرَّأٌ (عَنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ) الَّتِي تُوجِبُ انْحِطَاطًا فِي مَرَاتِبِ الْأُلُوهِيَّةِ كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ وَنَحْوِهَا نَقَلَ الدَّوَانِيُّ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ كَوْنَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ مُجْمَعًا عَلَيْهَا (كُلِّهَا) لِأَنَّ لَهُ الْكَمَالَ الْمُطْلَقَ وَمُسْتَغْنٍ عَنْ غَيْرِهِ مَعَ افْتِقَارِ الْكُلِّ إلَيْهِ (مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ) فَكُلُّ مَا اتَّصَفَ بِهِ فَكَمَالٌ بَلْ كُلُّ كَمَالٍ صِفَةٌ لَهُ (كُلِّهَا وَلَيْسَ لَهُ كَمَالٌ مُتَوَقَّعٌ) أَيْ مُنْتَظَرٌ لِلُزُومِ النَّقْصِ فِي الْأَزَلِ وَلِلُزُومِ كَوْنِهِ مَحَلَّ الْحَوَادِثِ فِيمَا لَا يُزَالُ (قَدِيمٌ) أَيْ لَا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ الثَّانِي إذْ لَوْ كَانَ حَادِثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ لَكَانَ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِهِ ضَرُورَةً ثُمَّ قَالَ: الْقِدَمُ الزَّمَانِيُّ عَدَمُ الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْعَدَمِ فَالْقِدَمُ هُنَا هُوَ الْقِدَمُ الزَّمَانِيُّ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ مَعْنَى الْقِدَمِ الزَّمَانِيِّ فَمَا قِيلَ هُنَا الْمُرَادُ مِنْ الْقِدَمِ سَلْبُ الْعَدَمِ السَّابِقِ عَلَى الْوُجُودِ وَهُوَ لَيْسَ بِقِدَمٍ زَمَانِيٍّ وَالْقِدَمُ الزَّمَانِيُّ مُرُورُ الْأَزْمِنَةِ عَلَى الشَّيْءِ مَعَ بَقَائِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ بِوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ مُقَابِلَ الْقِدَمِ الزَّمَانِيِّ هُوَ الْقِدَمُ الذَّاتِيُّ الْمُفَسَّرُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى غَيْرِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْفَلَاسِفَةِ.

قَالَ ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ انْقِسَامِ كُلٍّ مِنْ الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ إلَى الذَّاتِيِّ وَالزَّمَانِيِّ رَفْضُ كَثِيرٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَا ذَكَرَهُ إمَّا مَعْنَى مَجَازِيٌّ أَوْ لُغَوِيٌّ أَوْ اصْطِلَاحٌ لِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِينَ (أَزَلِيٌّ) الْأَزَلُ هُوَ اسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ فِي أَزْمِنَةٍ مُقَدَّرَةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ فِي جَانِبِ الْمَاضِي كَمَا أَنَّ الْأَبَدَ اسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ فِي أَزْمِنَةٍ مُقَدَّرَةٍ فِي جَانِبِ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا فِي

ص: 161

التَّعْرِيفَاتِ فَإِنْ قِيلَ: فَالزَّمَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَفْهُومِ الْأَزَلِيِّ وَالْأَبَدِيِّ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِزَمَانِيٍّ قُلْنَا: كَمَا يُقَالُ عَلَى الزَّمَانِيِّ يُقَالُ عَلَى غَيْرِ الزَّمَانِيِّ لِأَنَّهُ قِيلَ: الْأَزَلِيُّ يَكُونُ لَهُ نِهَايَةٌ وَلَا يَكُونُ لَهُ بِدَايَةٌ وَالْأَبَدِيُّ عَكْسُهُ وَقِيلَ: عَنْ زُبْدَةِ الْحَقَائِقِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْأَزَلِيَّةَ شَيْءٌ مَاضٍ فَقَدْ أَخْطَأَ فَاحِشًا فَإِنَّهُ لَا مَاضِيَ وَلَا مُسْتَقْبَلَ فِيهَا بَلْ هِيَ مُحِيطَةٌ بِالزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كَالْمَاضِي وَقِيلَ: هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَزَلِيِّ وَالْقَدِيمِ أَنَّ الْأَوَّلَ شَامِلٌ لِلْعَدَمِ.

وَالثَّانِيَ مُخْتَصٌّ بِالْوُجُودِ فَلَعَلَّ كَوْنَهُ قَدِيمًا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَكَوْنَهُ أَزَلِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى صِفَاتِهِ الْإِضَافِيَّةِ وَالنِّسْبِيَّةِ فَمَنْ قَالَ إنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى نَفْسِيَّةٌ وَسَلْبِيَّةٌ وَغَيْرُهُمَا قَدِيمَةٌ لَمْ يَفْهَمْ الْفَرْقَ أَوْ لَمْ يَرْضَ أَوْ تَجَوَّزَ (أَبَدِيٌّ) عَرَفْت آنِفًا مَعْنَاهُ.

(لَهُ صِفَاتٌ) جَمْعُ صِفَةٍ أَصْلُهَا وَصْفٌ فَحُذِفَتْ الْوَاوُ وَعُوِّضَ عَنْهَا التَّاءُ وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ مَبَادِئُ الْمُشْتَقَّاتِ لَا أَنْفُسُهَا كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لَا الْعَالِمِ وَالْقَادِرِ وَأَنْكَرَهَا الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَائِلِينَ بِأَنَّهَا عَيْنُ ذَاتِهِ تَعَالَى تَحَاشِيًا عَنْ تَكْثِيرِ الْقُدَمَاءِ وَالْوَاجِبَاتِ وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْمُحَالَ تَكَثُّرُ الْقُدَمَاءِ بِالذَّاتِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ (قَدِيمَةٌ) لِاسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْكَرَامِيَّةِ

قَالَ الْعَلَّامَةُ الثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى قَدِيمٌ بِصِفَاتِهِ وَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِالْقُدَمَاءِ لِئَلَّا يَذْهَبَ الْوَهْمُ إلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهَا قَائِمٌ بِذَاتِهِ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ (قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ) كَالتَّوْضِيحِ وَالتَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْقِيَامَ مَأْخُوذٌ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ أَوْ لِرَدِّ بَعْضِ الْمُخَالِفِينَ كَالْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ وَالْكَلَامُ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ تَعَالَى كَاللَّوْحِ وَشَجَرَةِ مُوسَى وَفُؤَادِ جَبْرَائِيلَ وَلَهُ إرَادَةٌ حَادِثَةٌ لَا فِي مَحَلٍّ

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ: وَلَمَّا تَمَسَّكَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ إبْطَالَ التَّوْحِيدِ لِمَا أَنَّهَا مَوْجُودَاتٌ قَدِيمَةٌ مُغَايِرَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ قِدَمُ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ إلَى آخِرِهِ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ (لَا) تِلْكَ الصِّفَةِ (هُوَ) سبحانه وتعالى يَعْنِي لَيْسَتْ عَيْنَ ذَاتِهِ (وَلَا غَيْرُهُ) غَيْرُ ذَاتِهِ تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُ قِدَمُ الْغَيْرِ وَلَا تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ أَمَّا نَفْيُ الْعَيْنِيَّةِ فَلِأَنَّ الصِّفَاتِ مِنْ قَبِيلِ الْعَرَضِ وَالذَّاتَ مِنْ قَبِيلِ الْجَوْهَرِ يَعْنِي شَبِيهَةً فِي الْقِيَامِ بِنَفْسِهِ وَعَدَمِهِ فَعَدَمُ الْعَيْنِيَّةِ بَدِيهِيَّةٌ وَأَنَّ الصِّفَاتِ مُحْتَاجَةٌ إلَى الذَّاتِ فَمُمْكِنَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَالذَّاتُ وَاجِبَةٌ مُسْتَغْنِيَةٌ وَالْوَاجِبُ لَا يَكُونُ عَيْنَ الْمُمْكِنِ.

وَقِيلَ: وَرَدَتْ النُّصُوصُ بِالِاشْتِقَاقِ نَحْوَ عَالِمٍ وَقَادِرٍ وَكَوْنُ الشَّيْءِ عَالِمًا مُعَلَّلٌ بِقِيَامِ الْعِلْمِ فِي الشَّاهِدِ فَكَذَا فِي الْغَائِبِ وَأُورِدَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِقْهِيٌّ وَقِيَاسُ غَائِبٍ عَلَى شَاهِدٍ مَعَ الْفَارِقِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ فِي الشَّاهِدِ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ وَتُعْدَمُ بِخِلَافِ الْغَائِبِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الشَّرِيفِ الْعَلَّامَةِ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ أَنَّهُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ وَالْحَدِّ وَالشَّرْطِ فِي الْغَائِبِ وَالشَّاهِدِ لَا يَضُرُّ ذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ عِلَّةَ كَوْنِ الشَّيْءِ عَالِمًا فِي الشَّاهِدِ هُوَ الْعِلْمُ فَكَذَا فِي الْغَائِبِ وَأَيْضًا حَدُّ الْعَالِمِ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ سَوَاءٌ فِي الْغَائِبِ وَالشَّاهِدِ وَشَرْطُ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ عَلَى شَيْءٍ ثُبُوتُ أَصْلِهِ فِي الْغَائِبِ وَالشَّاهِدِ وَأَمَّا نَفْيُ الْغَيْرِيَّةِ فَبِأَنَّ الْعُرْفَ وَاللُّغَةَ وَالشَّرْعَ يَشْهَدُ بِأَنَّ الصِّفَةَ وَالْمَوْصُوفَ لَيْسَا بِغِيَرَيْنِ كَالْكُلِّ وَالْجُزْءِ

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا رَفْعُ النَّقِيضَيْنِ فِي الظَّاهِرِ وَجَمْعٌ بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ الْحَقِيقَةِ قُلْنَا: أُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ الْغَيْرَ مَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ فِي التَّصَوُّرِ، وَالْعَيْنَ مَا يَتَّحِدُ فِي الْمَفْهُومِ بِلَا تَفَاوُتٍ فَيُمْكِنُ الْوَاسِطَةُ بِأَنْ لَا يَتَّحِدَا فِي الْمَفْهُومِ وَلَا يُوجَدَ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ فَالصِّفَةُ مَعَ الذَّاتِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَيُمْكِنُ أَنَّ نَفْيَ الْعَيْنِيَّةِ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ وَنَفْيَ الْغَيْرِيَّةِ بِحَسَبِ الْوُجُودِ كَمَا فِي الْمَوَاقِفِ فَلَا تَنَاقُضَ لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ

وَإِيرَادُ الدَّوَانِيّ بِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمُشْتَقَّاتِ وَالْكَلَامُ فِي مَبَادِئَهَا وَلَا يَصِحُّ فِيهَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ إذْ الْعِلْمُ مَثَلًا لَيْسَ عَيْنَ ذَاتِهِ تَعَالَى مَفْهُومًا وَيَمْتَنِعُ وُجُودُهُ بِدُونِهِ وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ: إنَّهَا عَيْنُ الذَّاتِ إذَا نُظِرَ إلَيْهَا مِنْ جَانِبِ الذَّاتِ وَغَيْرُ الذَّاتِ إذَا نُظِرَ مِنْ جَانِبِ انْقِسَامِ الْوُجُودِ إلَى الْأَقْسَامِ وَوَضَحَ بِمِثَالٍ أَنَّ الْعَشَرَةَ فِي نَفْسِهَا وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ

ص: 162

وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَمْسَةِ ضِعْفٌ وَإِلَى الْعِشْرِينَ نِصْفٌ وَإِلَى ثَلَاثِينَ ثُلُثٌ وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الدَّائِرَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَاحِدَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَكَثِيرَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ

لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ إذْ يَقْتَضِي كَوْنَ الصِّفَاتِ بَعْضَهَا مَعَ بَعْضٍ وَالذَّاتِ أَيْضًا مُتَّحِدَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَالتَّغَايُرُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَسَامِي وَهُوَ عَيْنُ مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ (هِيَ) أَيْ الصِّفَاتُ الْكَامِلَةُ الْقَدِيمَةُ ثَمَانٍ (الْحَيَاةُ) صِفَةٌ تُوجِبُ صِحَّةَ الْعِلْمِ لِدَلَالَةِ النُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ وَإِجْمَاعِ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ وَلِأَنَّ الْخُلُوَّ عَنْهَا نَقْصٌ وَمَا يُقَالُ: إنَّهَا اعْتِدَالُ الْمِزَاجِ وَتَأْثِيرُ الْحَاسَّةِ فَمَمْنُوعٌ (وَالْعِلْمُ) صِفَةٌ تَنْكَشِفُ بِهَا الْمَعْلُومَاتُ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهَا مَوْجُودَةً أَوْ مَعْدُومَةً مُمْتَنِعَةً أَوْ مُمْكِنَةً قَدِيمَةً أَوْ حَادِثَةً مُتَنَاهِيَةً أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ جُزْئِيَّةً أَوْ كُلِّيَّةً مَادِّيَّةً أَوْ مُجَرَّدَةً

قَالَ الْخَيَالِيُّ: فَإِنَّ لِلْعِلْمِ تَعَلُّقَاتٍ قَدِيمَةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ بِالْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَزَلِيَّاتِ وَالْمُتَجَدِّدَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا سَتَتَجَدَّدُ وَتَعَلُّقَاتٌ حَادِثَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ بِالْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَجَدِّدَاتِ بِاعْتِبَارِ وُجُودِهَا الْآنَ أَوْ قَبْلُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُدُوثِ التَّعَلُّقِ حُدُوثُ الْعِلْمِ أَمَّا دَلِيلُ الْعِلْمِ فَإِمَّا سَمْعِيٌّ نَحْوُ {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] وَإِمَّا عَقْلِيٌّ لِاسْتِنَادِ الْعَالَمِ إلَيْهِ مَعَ إتْقَانِهِ وَإِحْكَامِهِ وَانْتِظَامِهِ وَمِنْ الْبَيِّنِ دَلَالَةُ الْأَفْعَالِ الْمُتْقَنَةِ عَلَى عِلْمِ فَاعِلِهَا وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي الْبَدَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ وَفِي نَفْسِهِ وَجَدَ دَقَائِقَ حِكَمٍ تَدُلُّ عَلَى حِكْمَةِ صَانِعِهَا وَعِلْمِهِ الْكَامِلِ

وَأُورِدَ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ قَدْ يَصْدُرُ عَنْهُ أَفْعَالٌ مُتْقَنَةٌ كَبُيُوتِ النَّحْلِ وَغَيْرِهَا وَرُدَّ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ تَعَالَى إذْ لَا مُؤَثِّرَ غَيْرُهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ عَدَمَ عِلْمِ الْحَيَوَانِ مَمْنُوعٌ بَلْ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى عِلْمِهِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي} [النحل: 68] الْآيَةَ (وَالْقُدْرَةُ) صِفَةٌ تُؤَثِّرُ فِي الْمَقْدُورَاتِ بِجَعْلِهَا مُمْكِنَةَ الْوُجُودِ مِنْ الْفَاعِلِ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهَا فَتَعَلُّقَاتُ الْقُدْرَةِ كُلُّهَا قَدِيمَةٌ وَعِنْدَنَا فِي التَّكْوِينِ فَقَدِيمَةٌ أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ

بِمَعْنَى أَنَّهَا تَعَلَّقَتْ فِي الْأَزَلِ بِوُجُودِ الْمَقْدُورِ فِيمَا لَا يُزَالُ وَحَادِثَةٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ: الْقُدْرَةُ صِحَّةُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لَعَلَّ هَذَا مَذْهَبُ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ بَلْ لَهَا تَعَلُّقٌ مَحْضٌ بِلَا تَأْثِيرٍ لِلْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ كَمَالٌ وَضِدَّهَا أَعْنِي الْعَجْزَ نَقْصٌ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ (وَالسَّمْعُ) صِفَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْمُوعَاتِ (وَالْبَصَرُ) صِفَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمُبْصَرَاتِ فَيُدْرِكُ بِلَا طَرِيقِ تَخَيُّلٍ وَتَأْثِيرِ حَاسَّةٍ وَوُصُولِ هَوَاءٍ لِلْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ فِي كَوْنِهِمَا صِفَتَيْنِ زَائِدَتَيْنِ وَالصَّرْفُ عَنْ الظَّوَاهِرِ بِلَا صَارِفٍ لَيْسَ بِجَائِزٍ فَلَا يَكُونَانِ رَاجِعَيْنِ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ كَمَا زَعَمَتْ الْفَلَاسِفَةُ وَالْكَعْبِيُّ وَحُسَيْنٌ الْبَصْرِيُّ

قِيلَ: وَالْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فَتَكُونُ الْمَسْمُوعَاتُ وَالْمُبْصَرَاتُ كَمَا هُمَا مُتَعَلِّقُ عِلْمِهِ مُتَعَلِّقَ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَإِثْبَاتُهُمَا تَكْثِيرُ الْقُدَمَاءِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَالْأَصْلُ تَقْلِيلُهَا قُلْنَا: قَالَ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: لَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِمَا آمَنَّا بِذَلِكَ وَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ بِالْآلَتَيْنِ الْمَعْرُوفَتَيْنِ وَاعْتَرَفْنَا بِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا لِقُصُورِنَا وَنُقْصَانِنَا (وَالْإِرَادَةُ) صِفَةٌ تُوجِبُ تَخْصِيصَ أَحَدِ الْمَقْدُورَيْنِ بِالْوُقُوعِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ نِسْبَةُ الْقُدْرَةِ إلَى الضِّدَّيْنِ سَوَاءً فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَجِّحٍ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْعِلْمُ لِتَبَعِيَّتِهِ لِلْمَعْلُومِ فَتَعَيَّنَ صِفَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْإِرَادَةُ وَشَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ مِنْهَا أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَلَوْ شُرُورًا وَمَعَاصِيَ كَالْكُفْرِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْإِرَادَةُ كَالْقُدْرَةِ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمُمْكِنَاتِ لَكِنَّ الْقُدْرَةَ تَعُمُّ الْمَعْدُومَاتِ وَالْمَوْجُودَاتِ وَالْإِرَادَةُ تُخَصُّ بِالْمَوْجُودَاتِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَمُتَعَلِّقٌ شَامِلٌ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْتَنِعَاتِ كَالْمُمْكِنَاتِ (وَالتَّكْوِينُ) صِفَةٌ قَدِيمَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى السَّبْعِ الْمَشْهُورَةِ وَيُفَسَّرُ بِإِخْرَاجِ الْمَعْدُومِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ وَالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَنَحْوِهَا هَذَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ إطْبَاقَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ وَمُكَوِّنٌ وَإِطْلَاقَ الْمُشْتَقِّ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ مُمْتَنِعٌ فَالْمَأْخَذُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ وَهِيَ غَيْرُ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ أَثَرَ الْقُدْرَةِ صِحَّةُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَالصِّحَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْوُجُودَ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ التَّكْوِينُ صِفَةٌ حَادِثَةٌ

ص: 163

عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ.

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْإِضَافَاتِ وَالِاعْتِبَارَاتِ الْعَقْلِيَّةِ يُعْقَلُ مَنْ تَعَلُّقِ الْمُؤَثِّرِ وَلَيْسَ سِوَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ وَإِنْ كَانَتْ نِسْبَتُهَا إلَى وُجُودِ الْمُكَوِّنِ وَعَدَمِهِ عَلَى السَّوَاءِ لَكِنْ مَعَ انْضِمَامِ الْإِرَادَةِ يَتَخَصَّصُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ

أَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَثَرُ التَّكْوِينِ هُوَ الْوُقُوعُ بِالْفِعْلِ بَعْدَ هَذَا التَّرْجِيحِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَثَرَ الْقُدْرَةِ هُوَ كَالْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ وَأَثَرَ الْإِرَادَةِ كَالْإِمْكَانِ الِاسْتِعْدَادِي وَالتَّكْوِينُ كَالْإِمْكَانِ الْوُقُوعِيِّ أَوْ نَقُولُ: فَكَمَا كَانَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ صِفَتَيْنِ زَائِدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ الِانْكِشَافُ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ بِسَبَبِ الْعِلْمِ لِوُرُودِ السَّمْعِ غَايَتُهُ عَدَمُ الْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِقُصُورِ الْأَدِلَّةِ فَلْيَكُنْ التَّكْوِينُ كَذَلِكَ لِوُرُودِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ فَمَا هُوَ جَوَابُكُمْ فَهُوَ جَوَابُنَا

وَقَالَ الْمَوْلَى الْخَيَالِيُّ فِي إثْبَاتِ التَّكْوِينِ أَنَّ التَّكْوِينَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي نَجِدُهُ فِي الْفَاعِلِ وَبِهِ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ وَيَرْتَبِطُ بِالْمَفْعُولِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الْمُوجِبَ أَيْضًا بَلْ نَقُولُ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْوَاجِبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ صِفَةً أُخْرَى انْتَهَى فَإِذَا وُجِدَ التَّكْوِينُ عِنْدَ عَدَمِهَا فَلْيُوجَدْ فِي الْكُلِّ وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَا مَذْهَبًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّرْزِيقِ وَالتَّصْوِيرِ وَالْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْأَفْعَالِ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَزَلِيَّةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ عُلَمَاءِ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ

وَرُدَّ بِأَنَّهُ تَكْثِيرٌ لِلْقُدَمَاءِ جِدًّا فَالْمَذَاهِبُ ثَلَاثَةٌ عَدَمُ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْهَا وَرُجُوعُ الْكُلِّ إلَى التَّكْوِينِ وَالْكَثْرَةِ فِي التَّعَلُّقَاتِ وَوُجُودُ الْكُلِّ صِفَةً.

(وَ) الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ (الْكَلَامُ) صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى مُنَافِيَةٌ لِلسُّكُوتِ وَالْآفَةِ عَبَّرَ عَنْهَا بِالنَّظْمِ الْمُسَمَّى بِالْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ هِيَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِيِّ وَغَيْرُ الْعِلْمِ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يُخْبِرُ عَمَّا مَا لَا يَعْلَمُ وَغَيْرُ الْإِرَادَةِ إذْ قَدْ يَأْمُرُ غَيْرَ مَا أَرَادَهُ كَمَا تَقُولُ: إنَّ لِنَفْسِي كَلَامًا.

قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه إنِّي زَوَّرْت فِي نَفْسِي مَقَالَةً بِإِجْمَاعِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَوَاتُرٌ إلَيْنَا وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَلِأَنَّ ضِدَّهُ فِي الْحَيِّ نَقْصٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُ بَعْدَمَا اُتُّفِقَ عَلَى وُجُودِ صِفَةِ الْكَلَامِ اخْتَلَفُوا عَلَى أَرْبَعٍ فَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ قَدِيمٌ وَلَيْسَ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ بَلْ هُوَ الْمَعْنَى وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَدِيمٌ أَيْضًا لَكِنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ إلَى أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِقِدَمِ الْجِلْدِ وَالْغِلَافِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ أَصْوَاتٍ وَحُرُوفٍ وَحَادِثٌ لَكِنْ لَيْسَ بِقَائِمٍ بِذَاتِهِ تَعَالَى بَلْ بِالْغَيْرِ كَاللَّوْحِ وَفُؤَادِ جَبْرَائِيلَ وَالنَّبِيِّ وَشَجَرَةِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام

وَعِنْدَ الْكَرَّامِيَّةِ مُرَكَّبٌ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَحَادِثٌ لَكِنْ قَائِمٌ بِهِ تَعَالَى فَعَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ وَالْمُعْتَزِلَةَ مُتَّحِدَانِ فِي حُدُوثِ اللَّفْظِيِّ وَمُفْتَرِقَانِ فِي إثْبَاتِ النَّفْسِيِّ وَعَدَمِهِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَعِنْدَ صَاحِبِ الْمَوَاقِفِ أَنَّ الْكَلَامَ اللَّفْظِيَّ قَدِيمٌ كَالنَّفْسِيِّ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ فَالْكَلَامُ عِنْدَهُ أَمْرٌ شَامِلٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا لَزِمَ عَدَمُ تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ كَلَامِيَّةَ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَعَدَمُ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّحَدِّي وَعَدَمُ قِرَاءَةِ الْجُنُبِ وَمَسِّ الْمُحْدِثِ

قَالَ شَارِحُ الْمَوَاقِفِ: وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى قَوَاعِدِ الْمِلَّةِ قِيلَ: حَاصِلُهُ هُوَ الْعِبَارَاتُ الْمَنْظُومَةُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ أَصْوَاتٌ غَيْرُ قَارَّةٍ وَسَيَّالَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْقِدَمُ وَالْقِيَامُ بِهِ تَعَالَى لَعَلَّ هَذَا قَرِيبٌ إلَى مَا أُورِدَ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ كَلَامَهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ فَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ أَمْرًا آخَرَ يُمَاثِلُهُ أَقُولُ: لَعَلَّ الْأَوْلَى فِي مِثْلِهِ تَفْوِيضُ الْوُقُوفِ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا سَبَقَ (الَّذِي لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْحُرُوفِ) اللَّفْظِيَّةِ وَالرَّقْمِيَّةِ (وَالْأَصْوَاتِ) وَهَذَا عَلَى مَا اُشْتُهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ عَلَى وَفْقِ مَا نُقِلَ عَنْ الْمُقْرِي عَنْ ابْنِ مَرْزُوقٍ أَنَّ الْقُرْآنَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ الْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَيُرَادُ أَيْضًا الْمَقْرُوءُ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِهِ تَعَالَى وَالْأَوَّلُ حَادِثٌ لَعَلَّ هَذَا هُوَ الْقُرْآنُ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّ لِتَعَلُّقِ غَرَضِهِمْ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ إلَيْهِ وَمِثْلُهُ نُقِلَ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدَهُ

ص: 164

صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ آنِفًا كَمَا يَرُدُّ عَلَى مَسْلَكِ صَاحِبِ الْمَوَاقِفِ مِنْ كَوْنِ النَّظْمِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ تَعَالَى قِيَامَ الْأَعْرَاضِ السَّيَّالَةِ بِهِ تَعَالَى

وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَرَتِّبٍ وَالتَّرْتِيبُ فِينَا لِقُصُورِ الْأَدِلَّةِ قِيلَ: هُوَ سَفْسَطَةٌ وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُ الدَّوَانِيُّ: الْكَلَامُ لَيْسَ كُلَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَذَاهِبِ بَلْ هُوَ كَلِمَاتٌ رَتَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ بِصِفَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ التَّأْلِيفِ وَالتَّرْتِيبِ فَالْكَلِمَاتُ لَا تَعَاقُبَ لَهَا فِي الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ بَلْ التَّعَاقُبُ إنَّمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ الَّذِي هُوَ كَلَامٌ لَفْظِيٌّ ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْوَجْهُ سَالِمٌ مِمَّا لَزِمَ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْمَنْقُولَةِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ لَفْظًا حَادِثًا اعْتِرَافٌ بِحُدُوثِهِ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُفِيدُ قِدَمُهُ فِي الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ إذْ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ قَدِيمٌ فِي الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَأَنَّ الْعِلْمَ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ وَالْمَعْلُومُ هُوَ الْوُجُودُ الْخَارِجِيُّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ قِدَمُ الْعِلْمِ مَعَ حُدُوثِ الْمَعْلُومِ وَالْجَوَابُ فِي سَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ الْحَادِثَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى هُنَا

وَبِالْجُمْلَةِ الْمَذَاهِبُ فِينَا ثَلَاثَةٌ: الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ لَا اللَّفْظِيُّ لِقُدَمَاءِ الْأَشَاعِرَةِ وَاللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لِصَاحِبِ الْمَوَاقِفِ وَالْكَلِمَاتُ الْمُرَتَّبَةُ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ التَّأْلِيفِ وَالتَّرْتِيبِ لِلدَّوَّانِيِّ لَعَلَّ الْأَقْرَبَ مَا قَرَّرَ بِهِ شَارِحُ الْمَوَاقِفِ آنِفًا فَتَأَمَّلْ قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لَمَّا صَرَّحَ بِأَزَلِيَّةِ الْكَلَامِ حَاوَلَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ أَيْضًا قَدْ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ الْقَدِيمِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى النَّظْمِ الْمَتْلُوِّ الْحَادِثِ فَقَالَ (وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ) فِي إتْيَانِ لَفْظِ كَلَامِ اللَّهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِئَلَّا يَسْبِقَ إلَى الْفَهْمِ قِدَمُ الْمُؤَلَّفِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَلَمْ يَقُلْ غَيْرُ حَادِثٍ تَنْبِيهًا عَلَى اتِّحَادِهِمَا وَقَصْدًا إلَى جَرْيِ الْكَلَامِ عَلَى وَفْقِ حَدِيثِ «الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ» إلَى آخِرِ مَا قَالَ لَكِنْ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي مَوْضُوعَاتِهِ عَنْ الصَّاغَانِيِّ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ.

وَعَنْ السَّخَاوِيِّ بِجَمِيعِ طُرُقِهِ بَاطِلٌ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ

وَأَمَّا حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ فِيمَنْ قَالَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ وَعَنْ شَبَابَةَ وَعَنْ ابْنِ مَرْيَمَ وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ كَافِرٌ وَعَنْ مَالِكٍ يُوجَعُ ضَرْبًا وَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ وَعَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ زِنْدِيقٌ وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كَافِرٌ وَكَذَا مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ وَعَنْ وَكِيعٍ يُسْتَتَابُ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ يُضْرَبُ عُنُقُهُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - تَنَاظَرَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ اسْتَقَرَّ رَأْيُهُمَا عَلَى الْكُفْرِ لَكِنْ نُقِلَ عَنْ الْأُصُولِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّتْمِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ ضَالٌّ وَمُبْتَدِعٌ لَا كَافِرٌ

(وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى) فِي الْيَقَظَةِ (بِالْأَبْصَارِ) جَمْعُ بَصَرٍ وَهُوَ حِسُّ الْعَيْنِ وَمِنْ الْقَلْبِ نَظَرُهُ وَخَاطِرُهُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ بِمَعْنَى

ص: 165

الِانْكِشَافِ التَّامِّ بِالْبَصَرِ (جَائِزَةٌ فِي الْعَقْلِ) بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ إذَا خُلِّيَ وَنَفْسَهُ لَمْ يَحْكُمْ بِامْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ مَا لَمْ يَقُمْ لَهُ بُرْهَانٌ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ كَذَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لِأَنَّ الْأَصْلَ قِيَامُ الْبُرْهَانِ عَلَى وُجُودِهِ لَا عَلَى عَدَمِهِ هَذَا ضَرُورِيٌّ وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ إمَّا عَقْلًا فَلِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ لَيْسَ إلَّا الْوُجُودُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَاجِبِ إذْ الْحُدُوثُ أَوْ الْإِمْكَانُ عَدَمِيٌّ وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَدَمِ فِي الْعِلِّيَّةِ وَالْوُجُودُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّانِعِ وَغَيْرِهِ وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ حَتَّى الطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَالْعُلُومِ يَجُوزُ رُؤْيَتُهَا لِلْوُجُودِ وَأَمَّا سَمْعًا فَلِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَلَبَ الرُّؤْيَةَ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَلَّقَهَا عَلَى الْمُمْكِنِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ اسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ وَالْقَوْلُ أَنَّهُ إنَّمَا يَطْلُبُ الْعِلْمَ أَوْ رُؤْيَةَ آيَةٍ أَوْ لِأَجْلِ الْقَوْمِ أَوْ لِزِيَادَةِ الطُّمَأْنِينَةِ بِالِامْتِنَاعِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ كَمَا فِي تَهْذِيبِ الْكَلَامِ.

قَالَ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرَى فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ: لَا وَقِيلَ نَعَمْ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُؤْيَةً حَقِيقَةً وَحُكِيَ الْقَوْلُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ لَكِنَّ مُعْظَمَهُمْ شَرَطُوا مِنْ غَيْرِ كَيْفِيَّةٍ وَجِهَةٍ.

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَلَا خَفَاءَ أَنَّهَا نَوْعُ مُشَاهَدَةٍ تَكُونُ بِالْقَلْبِ دُونَ الْعَيْنِ وَفِي بَعْضِ حَوَاشِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: رَأَيْت رَبِّي فِي الْمَنَامِ أَلْفَ مَرَّةٍ فَقُلْت إنِّي أَخَافُ مِنْ زَوَالِ الْإِيمَانِ فَأَمَرَنِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِهَذَا التَّسْبِيحِ بَيْنَ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَفَرِيضَتِهِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ أَسْأَلُك أَنْ تُحْيِيَ قَلْبِي بِنُورِ مَعْرِفَتِك أَبَدًا يَا اللَّهُ يَا اللَّهُ يَا اللَّهُ يَا بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يَزِيدَ رَأَيْت رَبِّي فِي الْمَنَامِ فَقُلْت: كَيْفَ الطَّرِيقُ إلَيْكَ؟ فَقَالَ: اُتْرُكْ نَفْسَك.

وَفِي الْخُلَاصَةِ وَفِي الْبَزَّازِيِّ جَوَّزَهَا رُكْنُ الْإِسْلَامِ الصَّفَّارُ وَأَكْثَرُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَلَمْ يُجَوِّزْهَا أَكْثَرُ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ وَمُحَقِّقِي بُخَارَى حَتَّى قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ مُدَّعِيهَا أَشَرُّ مِنْ عَابِدِ الْوَثَنِ إذْ الْمَرْئِيُّ خَيَالٌ وَمِثَالٌ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْهُ لَكِنْ أَوَّلَ بَعْضُهُمْ مُرَادَهُمْ فَجَعَلُوا الْقَوْلَيْنِ مُتَّحِدَيْنِ كَمَا سَبَقَ الْإِشَارَةُ (وَاجِبَةٌ) غَيْرُ مُخْتَلَفٍ وُقُوعَهَا (بِالنَّقْلِ) يَعْنِي بِالنَّقْلِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ إجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْكَذِبُ وَخُلْفُ الْوَعْدِ مُحَالَانِ عَلَى الشَّارِعِ (فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ) وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ لِلدَّمِيرِيِّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِعَيْنِ الرَّأْسِ عَلَى رِوَايَةِ كَثِيرٍ مِنْ كِبَارِ الْأَصْحَابِ خِلَافًا لِلْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ أَيْضًا.

وَقَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ أَنَّهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ ثُمَّ صَحَّحَ كَوْنَ الرُّؤْيَةِ بِالْفُؤَادِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] حَيْثُ أُضِيفَ إلَى الْفُؤَادِ ثُمَّ الرُّؤْيَةُ بِالْآخِرَةِ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالْجَنَّةِ بَلْ فِي الْعَرَصَاتِ أَيْضًا كَمَا فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ وَقِيلَ بَلْ فِي الْقَبْرِ وَعِنْدَ نَزْعِ الرُّوحِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى فِي الْجَنَّةِ أَبَدًا لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ لَكِنْ فِي التَّذْكِرَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَرَوْنَهُ فِي الْقِيَامَةِ مَرَّةً لِازْدِيَادِ الْعُقُوبَةِ لِفَوْتِ فُرْصَةِ مِثْلِ هَذِهِ اللَّذَّةِ وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى - {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22]{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]- وَحَدِيثِ «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ (فَيُرَى لَا فِي مَكَان وَلَا عَلَى جِهَةٍ) مِنْ الْجِهَاتِ السِّتِّ (مِنْ مُقَابَلَةٍ وَاتِّصَالِ شُعَاعٍ) مِنْ بَصَرِ الرَّائِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى (وَثُبُوتِ مَسَافَةٍ) بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّائِي لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ

ص: 166

مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْسَامِ وَأَنَّهُ إذَا كَانَتْ رُؤْيَتُهُ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ تَكُنْ رُؤْيَةً مُطَابِقَةً لِلْوَاقِعِ إذْ الْوَاقِعُ خِلَافُهُ كَمَا عُلِمَ فِي التَّنْزِيهَاتِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي رُؤْيَةِ النِّسَاءِ هَلْ لَا يَرَيْنَهُ أَصْلًا لِقِصَرِهِنَّ فِي الْقِيَامِ وَلِعَدَمِ تَصْرِيحِ الْأَحَادِيثِ أَوْ يَرَيْنَهُ مُطْلَقًا لِعُمُومِ النُّصُوصِ أَوْ يَرَيْنَهُ فِي الْأَعْيَادِ فَقَطْ لِكَوْنِ تَجَلِّيهِ تَعَالَى فِيهَا عَامًّا قِيلَ وَبِهِ جَزَمَ السُّيُوطِيّ أَقُولُ أَكْثَرُ أَحْكَامِ النِّسَاءِ مُشْتَرَكٌ بِأَدِلَّةِ الرِّجَالِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فَعَلَى الِاشْتِرَاكِ وَأَنَّ بِمِثْلِهِ لَا يَخُصُّ الْعَامَّ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ} [الزخرف: 71] وَلَيْسَ أَشْهَى مِنْ الرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَفِي مُؤْمِنِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا اسْتِوَاؤُهُمْ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَفِي صُرَّةِ الْفَتَاوَى عَنْ صَاحِبِ الْمِنَحِ أَنَّ الْأَرْجَحَ نَعَمْ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ وَتَابَعَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَالْبُلْقِينِيُّ وَإِنْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ كَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بِعَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ عَلَى مَا فِي الصُّرَّةِ أَيْضًا عَنْ فَتَاوَى ابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ وَقِيلَ: إنَّ الرُّؤْيَةَ ثَوَابُ الْأَعْمَالِ وَمِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ لِأَعْمَالِهِمْ ثَوَابٌ فَلَيْسَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَقِيلَ: لَا يَرَوْنَ سِوَى جَبْرَائِيلَ عليه الصلاة والسلام مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ كَمَا نُقِلَ عَنْ كَثِيرِ الْعِبَادِ وَتَوَقَّفَ بَعْضٌ وَأَمَّا الْجِنُّ فَفِي الْفَتَاوَى الصَّيْرَفِيَّةِ أَيْضًا عَنْ الْمِنَحِ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ وَيَمِيلُ إلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَيْضًا وَعَنْ الْجَلَالِ الْبُلْقِينِيِّ الْقَوْلُ بِرُؤْيَتِهِمْ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ وَكَذَا عَنْ السُّيُوطِيّ يَحْصُلُ لَهُمْ الرُّؤْيَةُ فِي الْمَوْقِفِ مَعَ سَائِرِ الْخَلْقِ وَفِي الْجَنَّةِ

ص: 167

فِي وَقْتٍ مَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ تَسَاوِيهِمْ مَعَ الْإِنْسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ.

(وَالْعَالَمُ) بِفَتْحِ اللَّامِ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ الصَّانِعُ فَالصِّفَاتُ لَيْسَتْ مِنْ الْعَالَمِ لِعَدَمِ عَيْنِ الذَّاتِ وَأَمَّا مَا يُقَالُ عَالَمُ الذَّاتِ وَعَالَمُ الصِّفَاتِ فَتَجَوُّزٌ أَوْ اصْطِلَاحُ الْمُتَصَوِّفَةِ (بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ) مِنْ السَّمَوَاتِ وَمَا فِيهَا وَالْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا (وَصِفَاتِهِ) كَالْأَعْرَاضِ وَالتَّرْكِيبِ وَالْبَسَاطَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (وَلَوْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ) مُكَلَّفِينَ وَغَيْرِهِمْ إنْسَانًا (خَيْرَهَا وَشَرَّهَا) خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ (حَادِثٌ) مُخْرَجٌ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا فَوُجِدَ خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَدَلِيلُهُ الْمَشْهُورُ هُوَ التَّغَيُّرُ يَعْنِي الْعَالَمُ حَادِثٌ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ لَكِنْ قَالَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِي: الْعَالَمُ إمَّا أَعْيَانٌ أَوْ أَعْرَاضٌ وَالْكُلُّ حَادِثٌ أَمَّا الْأَعْرَاضُ فَبَعْضُهَا بِالْمُشَاهَدَةِ كَالْحَرَكَةِ بَعْدَ السُّكُونِ وَالضَّوْءِ بَعْدَ الظُّلْمَةِ وَالسَّوَادِ بَعْدَ الْبَيَاضِ وَبَعْضُهَا بِالدَّلِيلِ وَهُوَ طَرَيَان الْعَدَمِ كَمَا فِي أَضْدَادِ ذَلِكَ وَأَمَّا الْأَعْيَانُ فَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَكُلُّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ إلَى آخِرِ مَا فَصَّلَهُ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ (بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ إيجَادِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَالْخَلْقُ التَّقْدِيرُ وَالْخَالِقُ فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى الْمُبْدِعُ لِلشَّيْءِ الْمُخْتَرِعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ فَالْمَعْنَى بِإِيجَادِ ذَاتِ وَاجِبِ وُجُودِهِ بِحَيْثُ لَهُ اسْتِغْنَاءٌ مُطْلَقٌ عَنْ الْكُلِّ (لَا خَالِقَ غَيْرُهُ) إذْ يَجِبُ كَوْنُ مُحْدِثِ الْعَالَمِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ وَإِلَّا يَلْزَمُ تَرَجُّحُ الْمُسَاوِي إذْ لَا تَفَاوُتَ فِي الْإِمْكَانِ الْأَصْلِيِّ فِي جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ فَلَوْ تَعَيَّنَ بَعْضُهَا لِلْعِلِّيَّةِ بِلَا سَبَبٍ خَارِجٍ يَلْزَمُ وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ خَارِجٍ عَنْ الْإِمْكَانِ فَهُوَ الْوَاجِبُ وَأَيْضًا عَرَفْت فِيمَا مَرَّ مَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِهَذَا مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وَعَرَفْت مَا قِيلَ: أَنَّهَا إقْنَاعِيَّةٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ.

وَأَيْضًا أَشَارَ إلَى كَوْنِهَا بُرْهَانِيَّةً الْمُحَقِّقُ الدَّوَانِيُّ وقَوْله تَعَالَى - {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]- (وَتَقْدِيرِهِ) عُطِفَ عَلَى مَدْخُولِ الْبَاءِ فِي بِخَلْقِ اللَّهِ قِيلَ: عَنْ الصِّحَاحِ التَّقْدِيرُ وَالْقَدَرُ بِالتَّحْرِيكِ وَبِالسُّكُونِ هُوَ مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ.

وَقَالَ السَّعْدُ: هُوَ تَحْدِيدُ كُلِّ مَخْلُوقٍ بِحَدِّهِ الَّذِي يُوجَدُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنٍ وَقُبْحٍ وَنَفْعٍ وَضَرٍّ وَمَا يَحْوِيهِ مِنْ زَمَانٍ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ (وَعِلْمِهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22] وَقَدْ عَرَفْت دَلَالَةَ الْأَفْعَالِ الْمُتْقَنَةِ عَلَى عِلْمِ خَالِقِهَا (وَإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ) وَهُوَ حُكْمُهُ الْأَزَلِيُّ بِكُلِّ مَا قَدَّرَهُ فِي الْأَزَلِ.

وَفِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ أَنَّ قَضَاءَهُ تَعَالَى هُوَ إرَادَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِيمَا لَا يُزَالُ وَقَدَرَهُ إيجَادُهُ إيَّاهَا عَلَى قَدَرٍ مَخْصُوصٍ وَتَقْدِيرٍ مُعَيَّنٍ

ص: 168

فِي ذَوَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا وَقَدْ يَكُونُ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ فَتَكُونُ الْوَاجِبَاتُ بِالْقَدَرِ دُونَ الْبَاقِي وَقَدْ يُرَادُ بِهِمَا التَّبْيِينُ وَالْإِعْلَامُ.

وَنُقِلَ عَنْ النِّهَايَةِ الْجَزْرِيَّةِ الْقَدَرُ مَا قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَكَمَ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ وَالْقَضَاءُ الْخَلْقُ فَالْقَدَرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَسَاسِ وَالْقَضَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ وَعَنْ أَوَّلِ الْأَصْفَهَانِيِّ الْقَضَاءُ وُجُودُ الْمُمْكِنَاتِ فِي اللَّوْحِ مُجْمَلَةً عَلَى سَبِيلِ الْإِبْدَاعِ وَالْقَدَرِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْأَعْيَانِ بَعْدَ حُصُولِ شَرَائِطِهَا مُفَصَّلَةً وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَقِيلَ: مِنْ جِهَةِ حُكْمِهِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ قَضَاءٌ وَمِنْ تَحْدِيدِهِ وَتَعْيِينِهِ قَدَرٌ.

(وَلِلْعِبَادِ) أَيْ الْمُكَلَّفِينَ (اخْتِيَارَاتٌ) ضِدُّ الِاضْطِرَارِ وَالْجَبْرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِيَارُ لِلْعِبَادِ مَوْجُودًا وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لِلُزُومِ الْجَبْرِ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ الْمُثْبَتِ هُنَا الْوُجُودُ النَّفْسِيُّ الْأَمْرِيُّ وَمِنْ الْمَنْفِيِّ هُوَ الْوُجُودُ الْخَارِجِيُّ كَمَا سَيُشِيرُ إلَيْهِمَا الْمُصَنِّفُ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى إثْبَاتِ الْحَالِ أَيْ اللَّا مَوْجُودٍ وَاللَّا مَعْدُومٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُثْبَتُ أَصْلُ الِاخْتِيَارِ الْجُزْئِيِّ وَمَبْدَأُ الْمَوْجُودِ فِي الْمُكَلَّفِ وَالْمَنْفِيُّ هُوَ ذَلِكَ الِاخْتِيَارُ الْجُزْئِيُّ (لِأَفْعَالِهِمْ) يَعْنِي بَعْضَ أَفْعَالِهِمْ وَهُوَ الْغَيْرُ الِاضْطِرَارِيَّةُ وَالِاتِّفَاقِيَّةُ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا ثَوَابٌ وَعِقَابٌ اعْلَمْ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ: إمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ تَرْكُهُ فَاضْطِرَارِيٌّ وَإِنْ جَازَ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ عَلَيْهِ فَإِنْ بِمُرَجِّحٍ فَاخْتِيَارِيٌّ وَإِلَّا فَاتِّفَاقِيٌّ وَالِاضْطِرَارِيُّ وَالِاتِّفَاقِيُّ لَا يُوصَفَانِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فَإِنْ قِيلَ: فَفِعْلُهُ الِاخْتِيَارِيُّ إنْ لَمْ يُقَارَنْ بِاخْتِيَارِهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ مِنْ خَلْقِ الْعَبْدِ فِعْلَهُ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الِاخْتِيَارَانِ تَامَّيْنِ فَيَلْزَمُ التَّوَارُدُ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ النَّقْصُ وَالْعَجْزُ وَالِافْتِقَارُ لَهُ تَعَالَى إلَى الْغَيْرِ قُلْنَا: إنَّمَا يَلْزَمُ الْعَجْزُ وَالنَّقْصُ لَوْ لَمْ يُقَدَّرُ إيجَادُهُ عِنْدَ إرَادَةِ اسْتِقْلَالِهِ وَإِذَا كَانَ مَعِيَّةُ إرَادَةِ الْعَبْدِ مِنْ جَانِبِهِ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّوَارُدَ قِيلَ: جَائِزٌ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ لَعَلَّك بِمُلَاحَظَةِ ذَلِكَ وَاسْتِيقَانِهِ تَنْجُو مِنْ أَكْثَرِ الشُّبَهِ الْمُورَدَةِ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى تَكْثِيرِ الْكَلَامِ فَافْهَمْ فَإِنَّهُ مِنْ مَزَالِقِ أَقْدَامِ الْأَقْوَامِ وَسَيُفَصَّلُ فِي مَحَلِّهِ الْآخَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْمِنْعَامُ.

قَالَ الْمَوْلَى الْخَيَالِيُّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي فِعْلِ الْعَبْدِ إمَّا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ بِلَا قُدْرَةٍ مِنْ الْعَبْدِ أَصْلًا وَهُوَ مَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ أَوْ بِلَا تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَوْ قُدْرَةُ الْعَبْدِ فَقَطْ بِلَا إيجَابٍ وَلَا اضْطِرَارٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْ بِالْإِيجَابِ وَامْتِنَاعِ التَّخَلُّفِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَوْ مَجْمُوعُ الْقُدْرَتَيْنِ عَلَى أَنْ تُؤَثِّرَا فِي أَصْلِ الْفِعْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأُسْتَاذِ أَوْ عَلَى أَنْ تُؤَثِّرَ قُدْرَةُ الْعَبْدِ فِي وَصْفِهِ بِأَنْ يُجْعَلَ مَوْصُوفًا بِمِثْلِ كَوْنِهِ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي وَالْمَقْصُودُ أَنَّ لِلْعَبْدِ فِعْلًا يُنْسَبُ إلَى قُدْرَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ جُزْءَ الْمُؤَثِّرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأُسْتَاذِ أَوْ مَدَارًا مَحْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ وَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ مِنْ الْمَذَاهِبِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْأَدِلَّةِ لَا يَجْرِي إلَّا فِي الْمُكَلَّفِ فَلِذَلِكَ خَصُّوا الْعِبَادَ بِالذِّكْرِ (بِهَا يُثَابُونَ) إنْ كَانَتْ طَاعَةً عَلَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالُ أَسْبَابًا عَادِيَّةً لَا أَصْلِيَّةً إذْ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ إنَّمَا هُوَ بِجَعْلِهِ تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ فَالْأَعْمَالُ لَا تُوجِبُ الْجَنَّةَ كَمَا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ (وَعَلَيْهَا يُعَاقَبُونَ) إنْ كَانَتْ مَعْصِيَةً

ص: 169

(وَالْحَسَنُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهُوَ مَا يَكُونُ مُتَعَلِّقَ الْمَدْحِ فِي الْعَاجِلِ وَالثَّوَابِ فِي الْآجِلِ وَالْأَحْسَنُ هُوَ مَا لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ لِيَشْمَلَ الْمُبَاحَ (بِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ إرَادَتِهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ (وَمَحَبَّتِهِ وَالْقَبِيحُ مِنْهَا) وَهُوَ مَا يَكُونُ مُتَعَلِّقَ الذَّمِّ فِي الْعَاجِلِ وَالْعِقَابِ فِي الْآجِلِ (لَيْسَ بِهِمَا) أَيْ بِالرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ بَلْ بِغَضَبِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَخِذْلَانِهِ لِاعْتِرَاضِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]- وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَشِيئَةَ وَالتَّقْدِيرَ تَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ وَالْأَمْرَ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْحَسَنِ دُونَ الْقَبِيحِ (وَالثَّوَابُ) مَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الرَّحْمَةُ وَالْمَغْفِرَةُ مِنْ اللَّهِ وَالشَّفَاعَةُ مِنْ الرَّسُولِ وَقِيلَ: هُوَ إعْطَاءُ مَا يُلَائِمُ الطَّبْعَ وَيُفَسَّرُ بِالْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا (فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ كَرَمٌ وَإِحْسَانٌ مِنْ اللَّهِ لَا بِاسْتِحْقَاقٍ مِنْ الْعِبَادِ لِأَنَّهَا كَيْفَ تُسْتَحَقُّ وَعِبَادَتُهَا إنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَفِي بِشُكْرِ أَقَلِّ قَلِيلٍ مِنْ نِعَمِهِ فَكَيْفَ تُسْتَحَقُّ عِوَضًا عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِمِثْلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]- وَقَوْلِهِ - {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} [الكهف: 110]- وَقَوْلِهِ - {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]- أُجِيبُ عَنْهُ أَنَّ الْبَاءَ فِي الْآيَاتِ لَيْسَتْ لِلسَّبَبِيَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ بَلْ لِلْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ فَيَجُوزُ التَّخَلُّفُ إذْ الْمُعْطَى بِعِوَضٍ قَدْ يُعْطَى لَا بِعِوَضٍ خِلَافَ السَّبَبِيَّةِ وَأَنَّ الْجَنَّةَ مِيرَاثُ الْأَعْمَالِ ظَاهِرًا وَإِنْ تَفَضُّلًا حَقِيقَةً وَقِيلَ: نَفْسُ الدُّخُولِ تَفَضُّلِيٌّ وَنَقْلُ الْمَرَاتِبِ بِالْأَعْمَالِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ نَحْوَ الْحَدِيثِ نَفْيُ الِاسْتِحْقَاقِ الذَّاتِيِّ وَالْعَقْلِيِّ وَإِثْبَاتُ الْآيَاتِ عَلَى مُقْتَضَى الْوَعْدِ وَالْعَادَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْعِقَابُ) لِلْعُصَاةِ (عَدْلٌ) أَيْ لَيْسَ بِظُلْمٍ وَجَوْرٍ (مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ) مِنْ الْغَيْرِ عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ (وَلَا وُجُوبَ عَلَيْهِ) تَعَالَى لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْعُمْدَةِ لِمُصَنِّفِهِ تَخْلِيدُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّارِ وَتَخْلِيدُ الْكَافِرِينَ فِي الْجَنَّةِ ظُلْمٌ لِأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَالْإِسَاءَةُ فِي حَقِّ الْمُحْسِنِينَ وَالْإِنْعَامُ وَالْإِكْرَامُ فِي الْمُسِيءِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَكَانَ ظُلْمًا وَذَا يَسْتَحِيلُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ إنَّمَا جَازَ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَالتَّصَرُّفُ عَلَى غَيْرِ قَضِيَّةِ الْحِكْمَةِ يَكُونُ سَفَهًا وَأَيْضًا عَدَّ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي انْفَرَدَتْ الْمَاتُرِيدِيَّةُ عَنْ الْأَشَاعِرَةِ بِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَتَنْعِيمُ الْكَافِرِ عَقْلًا لِكَوْنِهِمَا خِلَافَ الْحِكْمَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ جَعَلَ الْحِكْمَةَ مِنْ طَرَفِهِ فَهَذَا الِامْتِنَاعُ امْتِنَاعٌ بِالْغَيْرِ فَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ هَذَا الْوُجُوبِ وُجُوبًا ذَاتِيًّا الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا وَالْحَمْلُ عَلَى الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ بِجَائِزٍ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ نَفْيِ الْوُجُوبِ هُوَ مُطْلَقُهُ كَمَا حَقَّقَهُ الدَّوَانِيُّ (وَلَا اسْتِحْقَاقَ مِنْ الْعَبْدِ) وَقَدْ عَرَفْت وَجْهَهُ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ أَيْضًا طَاعَةُ الْعَبْدِ وَإِنْ كَثُرَتْ لَا تَفِي بِبَعْضِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُ عِوَضٍ

ص: 170

عَلَيْهَا

(وَالِاسْتِطَاعَةُ) تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدِهِمَا مَا يَكُونُ (مَعَ الْفِعْلِ) لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلْفِعْلِ وَلَوْ عَادِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَمْتَنِعُ التَّخَلُّفُ أَوْ جُزْءٌ أَخِيرٌ لِلْعِلَّةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ شَرْطًا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ

وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هِيَ عَرَضٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَيَوَانِ يَفْعَلُ بِهِ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ عِلَّةً أَوْ شَرْطًا وَالْعَرَضُ مُقَارِنٌ لِلْفِعْلِ زَمَانًا لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ

وَحَاصِلُ الِاسْتِطَاعَةِ هِيَ صِفَةٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ عِنْدَ قَصْدِ اكْتِسَابِ الْفِعْلِ بَعْدَ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ فَإِنْ قَصَدَ فِعْلَ الْخَيْرِ خَلَقَ اللَّهُ قُدْرَةَ فِعْلِ الْخَيْرِ وَكَذَا فِي الشَّرِّ فَكَانَ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِقُدْرَةِ فِعْلِ الْخَيْرِ فَيَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَلِهَذَا ذَمَّ الْكَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، وَالتَّفْصِيلُ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْقَصْدِ هُوَ صَرْفٌ فَالِاسْتِطَاعَةُ صِفَةٌ لِلْعَبْدِ حَاصِلَةٌ عِنْدَ صَرْفِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ، لَعَلَّ هُنَا أُمُورًا أَرْبَعَةً مُرَتَّبَةً الْإِرَادَةَ الْكُلِّيَّةَ الصَّالِحَةَ لَأَنْ تَتَعَلَّقَ بِكُلِّ مَقْدُورٍ فِي ذَاتِهَا ثُمَّ سَلَامَةَ الْأَسْبَابِ ثُمَّ صَرْفَ الْعَبْدِ هَذِهِ الْإِرَادَةَ إلَى فِعْلٍ مُعَيَّنٍ بِجَعْلِهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْفِعْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَخْلُقُ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ بِلَا تَقَدُّمٍ وَلَا تَأَخُّرٍ فَهَذَا الصَّرْفُ سَبَبٌ لَأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ هَذِهِ الْقُدْرَةَ أَيْ الِاسْتِطَاعَةَ هَذَا الَّذِي فُهِمَ مِنْ كَلَامِهِمْ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ إثْبَاتِ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ وَمَا فَائِدَةُ كَوْنِهَا مَعَ الْفِعْلِ قُلْنَا: قَالَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ مَا حَاصِلُهُ إثْبَاتُ أَصْلِ الِاسْتِطَاعَةِ لِنَفْيِ الْجَبْرِ وَإِثْبَاتُ الْمَعِيَّةِ لِنَفْيِ خَلْقِ الْعَبْدِ فِعْلَهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ مُسْتَطِيعًا مِنْ نَفْسِهِ قَبْلَ الْفِعْلِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْفِعْلِ وَكَلَامُ السَّعْدِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْقُدْرَةَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا بَقَاءَ لَهُ فَلَوْ كَانَتْ قَبْلَ الْفِعْلِ لَزِمَ وُقُوعُهُ بِلَا اسْتِطَاعَةٍ

وَأَوْرَدَ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ هَذَا الصَّرْفُ مِنْ اللَّهِ فَالْجَبْرُ لَازِمٌ وَلِصُعُوبَةِ ذَلِكَ أَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى الْمُنَاظِرِينَ وَدُفِعَ بِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُوجِدَ اللَّهُ الْقُدْرَةَ فِي الْعَبْدِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي تَأْثِيرِ فِعْلِهِ ثُمَّ قِيلَ: الْأَوْلَى طَرِيقَةُ تَرْكِ الْمُنَاظَرَةِ، لَعَلَّ ذَلِكَ لِلُزُومِ إثْبَاتِ التَّأْثِيرِ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِهِمْ، وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ لَا يَقُولُ بِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ فِي الْخَارِجِ وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا خُلِقَ بِتَرْجِيحِ الْعَبْدِ أَحَدَ الْمَقْدُورَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّرْجِيحَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَلْقُ وَتَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ التَّوْضِيحِ لَعَلَّكَ سَتَسْمَعُ مَا يُوَضِّحُ الْمَقَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْمِنْعَامُ (وَتُطْلَقُ) الِاسْتِطَاعَةُ (عَلَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ) وَالْجَوَارِحِ كَالْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]- وَهَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مِنْ طَرَفِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ الِاسْتِطَاعَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ فَأَجَابَ بِأَنَّ هُنَا اسْتِطَاعَةً أُخْرَى مُقَدَّمَةً عَلَى الْفِعْلِ وَهِيَ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ (وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ) مِنْ اللَّهِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي (تَعْتَمِدُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي قَبْلَ الْفِعْلِ لَا الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي مَعَ الْفِعْلِ فَلَا يَلْزَمُ الْعَجْزُ فَالِاسْتِطَاعَةُ الْمُقَدَّمَةُ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ وَالْمَعِيَّةُ لِمَدْخَلِيَّةِ الْعَبْدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

قَالَ الْخَيَالِيُّ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ سَلَامَةَ الْأَسْبَابِ مَنَاطُ خَلْقِ اللَّهِ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عِنْدَ الْقَصْدِ بِالْفِعْلِ فَبَعْدَ السَّلَامَةِ لَا حَاجَةَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ إلَّا إلَى الْقَصْدِ (وَلَا يُكَلَّفُ الْعَبْدُ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ) أَيْ طَاقَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِمَعْنَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى

ص: 171

{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]- اعْلَمْ أَنَّ مَا لَا يُطَاقُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: مَا يَمْتَنِعُ فِي نَفْسِهِ كَشَرِيكِ الْبَارِي عَزَّ اسْمُهُ: فَلَا يَجُوزُ وَلَا يَقَعُ تَكْلِيفُهُ اتِّفَاقًا وَمَا يُمْكِنُ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُمْكِنُ فِي الْعَبْدِ عَادَةً كَخَلْقِ الْأَجْسَامِ فَلَا يَقَعُ اتِّفَاقًا وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ لَا عِنْدَنَا وَالثَّالِثَةِ مَا يُمْكِنُ مِنْ الْعَبْدِ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِعَدَمِهِ عِلْمُهُ تَعَالَى وَإِرَادَتُهُ وَخَبَرُهُ نَحْوَ - {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1]- فَيَجُوزُ وَيَقَعُ بِالِاتِّفَاقِ فَإِمَّا أَنْ لَا يُعْتَبَرَ هَذَا الثَّالِثُ مِمَّا لَا يُطَاقُ لِإِمْكَانِهِ لِنَوْعِ الْعَبْدِ وَإِمَّا يُرَادُ مِنْ عَدَمِ الْوُسْعِ بِالنَّظَرِ إلَى نَوْعِ الْعَبْدِ أَوْ يُرَادُ كَمَالُ عَدَمِ الْوُسْعِ

(وَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ) فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ فِيهِ قَالَ الْخَيَالِيُّ: وَلَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَجَازَ أَنْ يَمُوتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَنْ لَا يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِامْتِدَادِ الْعُمُرِ وَلَا بِالْمَوْتِ بَدَلَ الْقَتْلِ وَعُلِّلَ بِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْقَتْلِ لَا قَطْعَ بِوُجُودِ الْأَجَلِ وَلَا بِعَدَمِهِ، فَلَا قَطْعَ بِالْمَوْتِ وَلَا بِالْحَيَاةِ خِلَافًا لِلْعَلَّافِ فِي الْجَزْمِ بِالْمَوْتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَقُولُ: إذَا كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ لِلْمَوْتِ مُعَيَّنًا فَلَا يَجُوزُ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَلَا يَخْتَلِفُ بِالْمَوْتِ وَالْقَتْلِ فَيَلْزَمُ الْقَطْعُ بِالْمَوْتِ لَوْلَا الْقَتْلُ وَإِلَّا يَلْزَمُ تَبْدِيلُ الْقَوْلِ وَانْقِلَابُ الْعِلْمِ جَهْلًا وَلَوْ بُنِيَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْأَجَلِ الْمُبْرَمِ وَالْمُعَلَّقِ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ عُمُرَهُ أَرْبَعِينَ مَعَ الْقَتْلِ وَسِتِّينَ بِدُونِهِ فَلَا تَبَدُّلَ وَتَغَيُّرَ فِي نَفْسِهِ وَفِي عِلْمِهِ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ كَوْنَ عَبْدِهِ مَقْتُولًا فِيمَا لَا يُزَالُ وَكَوْنَ عُمُرِهِ أَرْبَعِينَ مَثَلًا وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ قَبْلَ الْأَجَلِ وَالْقَاتِلُ قَطَعَ أَجَلَهُ وَلَوْلَا الْقَتْلُ يَمْتَدُّ عُمُرُهُ إلَى الْأَجَلِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49]- وَالنُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَالتَّأْوِيلُ خِلَافٌ لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ بِلَا دَلِيلٍ وَاحْتَجَّتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْأَحَادِيثِ الظَّاهِرَةِ فِي كَوْنِ بَعْضِ الطَّاعَةِ يُزِيدُ الْعُمُرَ وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَيِّتًا بِأَجَلِهِ لَمَا اسْتَحَقَّ الْقَاتِلُ ذَمًّا وَعِقَابًا وَقِصَاصًا وَأُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ هَذِهِ الطَّاعَةَ لَكَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَفْعَلُهَا وَيَكُونُ عُمُرُهُ سَبْعِينَ سَنَةً فَنُسِبَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ إلَى تِلْكَ الطَّاعَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فَضْلَ عُمُرِهِ الْقَلِيلِ بِهَذِهِ الطَّاعَةِ كَفَضْلِ الْعُمُرِ الْكَثِيرِ بِدُونِ تِلْكَ الطَّاعَةِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ لِلْقَاتِلِ مَدْخَلًا فِي مَوْتِ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى الْقَتْلَ فِي الْمَقْتُولِ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ الَّذِي هُوَ الضَّرْبُ مَثَلًا وَأَنَّهُ تَعَبُّدٌ لَا يَلْزَمُ عَلَيْنَا مَعْرِفَةُ عِلَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ (وَالْأَجَلُ وَاحِدٌ) خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ فِي أَنَّ لِلْمَقْتُولِ أَجَلَيْنِ قَتْلٌ وَمَوْتٌ وَلَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَعَاشَ إلَى أَجَلِ الْمَوْتِ وَلِلْفَلَاسِفَةِ فِي أَنَّ لِلْحَيَوَانِ أَجَلًا طَبِيعِيًّا وَهُوَ وَقْتُ مَوْتِهِ لِتَحَلُّلِ الرُّطُوبَةِ وَانْطِفَاءِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّتَيْنِ

ص: 172

وَأَجَلًا اخْتِرَامِيًّا بِحَسَبِ الْآفَاتِ وَالْأَمْرَاضِ.

(وَالْحَرَامُ) وَهُوَ مَا نُصَّ أَوْ أُجْمِعَ عَلَى مَنْعِ تَنَاوُلِ عَيْنِهِ أَوْ جِنْسِهِ أَوْ وَرَدَ فِيهِ حَدٌّ أَوْ تَعْزِيرٌ أَوْ وَعِيدٌ شَدِيدٌ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ مَضَرَّةً خَفِيَّةً كَالزِّنَا وَمُذَكَّى الْمَجُوسِ أَوْ جَبَلِيَّةً كَالسُّمِّ وَالْخَمْرِ فَلَوْ ضَرَّ الْعَسَلُ كَمَا لِلْأَمْزِجَةِ الْحَارَّةِ حُرِّمَ وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ حِلًّا وَحُرْمَةً يَرْجِعُ إلَى الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ مِنْ الْعَرَبِ فَمَا اسْتَخْبَثُوهُ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا لَا فَحَلَالٌ كَذَا عَنْ شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ لِلَّقَانِيِّ (رِزْقٌ) فِي اللُّغَةِ الْحَظُّ الْمُعْطَى وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَطَاءِ وَقِيلَ: هُوَ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالْكَسْرِ اسْمٌ وَفِي الْعُرْفِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْحَيَوَانُ وَقَدْ يُرَادُ بِالتَّغَذِّي وَغَيْرِهِ وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِلُزُومِ كَوْنِ الْعَوَارِيِّ زِرْقًا وَيَلْزَمُ أَكْلُ شَخْصٍ رِزْقَ غَيْرِهِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الرِّزْقَ اسْمٌ لِمَا يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْحَيَوَانِ فَيَأْكُلُهُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا (وَكُلٌّ يَسْتَوْفِي رِزْقَ نَفْسِهِ وَلَا يَأْكُلُ أَحَدٌ رِزْقَ غَيْرِهِ وَلَا غَيْرُهُ رِزْقَهُ) وَبِالْجُمْلَةِ لِلرِّزْقِ مَعْنَيَانِ: خَاصٌّ بِالْمَأْكُولِ وَعَامٌّ لِمُطْلَقِ الِانْتِفَاعِ وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]- لَعَلَّ الْخَاصَّ شَامِلٌ لِلْحَرَامِ وَهُوَ الْمَرَامُ هُنَا وَالْعَامُّ خَاصٌّ بِالْمِلْكِ الْحَلَالِ وَمِنْ هُنَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ نِزَاعُ الْمُعْتَزِلِيِّ فِي أَنَّ الْحَرَامَ لَيْسَ بِرِزْقٍ لَفْظِيًّا إذْ هُوَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَخِيرِ.

(وَعَذَابُ الْقَبْرِ) التَّخْصِيصُ بِالْقَبْرِ إمَّا عَلَى الْغَالِبِ أَوْ يُرَادُ مِنْ الْقَبْرِ مُطْلَقُ الْبَرْزَخِ وَإِلَّا فَالْغَرِيقُ فِي الْمَاءِ وَالْمَصْلُوبُ وَالْمُحَرَّقْ إلَى إنْ كَانَ رَمَادًا وَالْمَأْكُولُ لِلْحَيَوَانِ وَنَحْوِهَا مُعَذَّبٌ إنْ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّتِهِ فَقِيلَ: عَنْ النِّهَايَةِ يُعَذَّبُ بِلَا حَيَاةٍ إذْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي ثُبُوتِ الْأَلَمِ وَقِيلَ: بِحَيَاةٍ فَقِيلَ: يُجْعَلُ الرُّوحُ فِي جَسَدِهِ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا فَيَجْلِسُ وَيُسْأَلُ وَقِيلَ: السُّؤَالُ لِلرُّوحِ فَقَطْ وَقِيلَ: يَدْخُلُ الرُّوحُ فِي جَسَدِهِ إلَى صَدْرِهِ وَقِيلَ: يَدْخُلُ بَيْنَ كَفَنِهِ وَجَسَدِهِ وَجَاءَ فِي كُلِّ ذَلِكَ آثَارٌ وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَرَّ بِأَصْلِهِ وَلَا يُشْتَغَلَ بِكَيْفِيَّتِهِ وَقِيلَ: الْأَصَحُّ مَحَلُّ الْعَذَابِ الرُّوحُ وَالْبَدَنُ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَذَا فِي النَّعِيمِ - قَالَ الْعَلَّامَةُ الثَّانِي فِي التَّهْذِيبِ وَبِالْجُمْلَةِ فَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي الدِّينِ هُوَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ نَوْعَ حَيَاةٍ قَدْرَ مَا يَتَأَلَّمُ وَيَتَلَذَّذُ وَهَلْ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ الرُّوحِ إلَيْهِ أَوْ بِالْحَالَةِ الَّتِي يُسَمَّى زَوَالُهَا مَوْتًا، فِيهِ تَرَدُّدٌ.

وَقَالَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ الْعَذَابُ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ (لِلْكَافِرِينَ) أَيْ كُلِّهِمْ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْجَمْعِ مَعَ اللَّامِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَهْدِ الِاسْتِغْرَاقُ.

قَالَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ يُرْفَعُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَشَهْرِ رَمَضَانَ بِحُرْمَةِ هَذَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا رُفِعَ عَنْهُمْ مَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا بِحُرْمَتِهِ (وَلِبَعْضِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ) فَغَيْرُ الْعَاصِي يَعْنِي الْمُطِيعَ وَبَعْضُ الْعُصَاةِ وَهُمْ مَنْ لَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى تَعْذِيبَهُمْ لِأَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ لَا يُعَذَّبُ بَلْ يُنَعَّمُ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ هُنَا لَكِنْ فِي الْبَحْرِ إنَّ الْمُطِيعَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَذَابٌ لَكِنْ لَهُ ضَغْطَةٌ فَيَجِدُ هَوْلَ ذَلِكَ وَخَوْفَهُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «كَيْفَ حَالُك عِنْدَ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ ثُمَّ قَالَ يَا حُمَيْرَاءُ إنَّ ضَغْطَةَ الْقَبْرِ لِلْمُؤْمِنِ كَغَمْزِ الْأُمِّ رِجْلَ وَلَدِهَا بِيَدِهَا وَسُؤَالَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْإِثْمِدِ لِلْعَيْنِ إذَا رَمِدَتْ» وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: كَيْفَ حَالُك إذَا أَتَاك فَتَّانَا الْقَبْرِ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَنَا أَكُونُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَيَكُونُ مَعِي عَقْلِي فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ فَقَالَ عُمَرُ: إذًا لَا أُبَالِي وَالْعَذَابُ لِلْعَاصِي وَالضَّغْطَةُ لِلْمُطِيعِ يَزُولُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهُ ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَتَهُ يَكُونُ الْعَذَابُ وَالضَّغْطَةُ سَاعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يَزُولُ وَلَا يَرْجِعُ أَيْضًا» انْتَهَى مُلَخَّصًا لَعَلَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَإِلَّا فَالْعُمُومُ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ وَقِيلَ: هَذَا الْعَذَابُ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ إكْرَامًا لَأَنْ يَنْتَهِيَ عَذَابُهُمْ فِي الْقَبْرِ وَالْأَصَحُّ الْعُمُومُ وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْعَذَابِ وَكَذَا التَّنْعِيمُ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ مُتَوَاتِرَةٌ مَعْنًى - {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]- {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح: 25]{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ - يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 46 - 170]«الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» .

«إذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مَلَكَانِ» الْحَدِيثَ وَبِالْجُمْلَةِ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ. لَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ النُّصُوصِ عَلَى عَذَابِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ كُلًّا وَبَعْضًا لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ إلَّا أَنْ يُدَّعَى دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فَافْهَمْ.

ص: 173

(وَتَنْعِيمُ أَهْلِ الطَّاعَةِ فِيهِ) أَيْ الْقَبْرِ (بِمَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُرِيدُهُ) مِنْ أَنْوَاعِ الْأَلْطَافِ وَأَصْنَافِ الْإِحْسَانِ عَلَى حَسَبِ صَلَاحِ الْمُؤْمِنِ وَعَلَى رُتْبَةِ اسْتِحْقَاقِهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» .

قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ وَهَذَا يَعْنِي ذِكْرُ التَّنْعِيمِ أَوْلَى مِمَّا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى إثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِيهِ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْقُبُورِ كُفَّارٌ وَعُصَاةٌ فَالتَّعْذِيبُ بِالذِّكْرِ أَجْدَرُ ثُمَّ إنَّهُ هَلْ يَكْفُرُ جَاحِدُ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى كَالتَّتَارْخَانِيَّةِ يَكْفُرُ وَفِي بَعْضِهَا كَالصَّيْرَفِيَّةِ لَا يَكْفُرُ وَهُوَ مُشْكِلٌ مَعَ دَعْوَى تَوَاتُرِ أَحَادِيثِهَا كَمَا سَبَقَ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ.

قَالَ الدَّوَانِيُّ: الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ هُنَا بَالِغَةٌ إلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ وَكَذَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لِلسَّعْدِ وَقَدْ سَمِعْتَ الْإِجْمَاعَ أَيْضًا (وَسُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ مَنْ رَآهُ لِعَدَمِ شَبَهِهِ بِخَلْقٍ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْحَيَوَانِ لِأَنَّهُمَا أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ

ص: 174

فَإِنَّهُ جَعَلَهُمَا نَكِرَةً لِلْمُؤْمِنِ لِيُبَصِّرَهُ وَيُثَبِّتَهُ وَعَذَابًا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا كَذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِ بَلْ بِالنَّظْرَةِ الْحَسَنَةِ.

نُقِلَ عَنْ الْعِصَامِ النَّكِيرُ أَهْيَبُ مِنْ الْمُنْكَرِ لِدَلَالَةِ الصِّيغَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا جِنْسَانِ وَإِلَّا فَفِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَّفِقُ أَمْوَاتٌ بِأَطْرَافِ الْعَالَمِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْأَلَا الْجَمِيعَ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي تَنْكِيرِهِمَا الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا، لَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْأُخْرَوِيَّةِ كُلِّهَا إنَّمَا هِيَ بِالسَّمْعِ وَلَا مَدْخَلَ لِلدِّرَايَةِ فِيهَا فَإِنَّ أَحْكَامَ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ لَا تُقَاسُ عَلَى أَحْوَالِ الْمِلْكِ وَالنَّاسُوتِ فَإِنَّهَا تَعْجَزُ الْعُقُولُ عَنْ الْوُصُولِ بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ حَقِيقَةَ أُمُورِ الْآخِرَةِ مُلْحَقَةٌ بِالْمُتَشَابِهَاتِ ثُمَّ إنَّ السُّؤَالَ هَلْ يَكُونُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصِّبْيَانِ نَقَلَ التَّفْتَازَانِيُّ عَنْ السَّيِّدِ أَبِي شُجَاعٍ أَنَّهُ نَعَمْ وَقِيلَ: لَا يُسْأَلُ الْأَنْبِيَاءُ وَلَكِنْ يُسْأَلُ الصِّبْيَانُ لِحِكْمَةِ فَاعِلِهِ وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ أَيْضًا كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الدَّوَانِيُّ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَالْآخَرِ نَكِيرٌ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْت تَقُولُ فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَيَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولَانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك تَقُولُ هَذَا ثُمَّ يُفْسَحُ فِي قَبْرِهِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ذِرَاعٍ ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إلَّا حِبُّ أَهْلِهِ إلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فَيَقُولُ سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُمْ، لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك تَقُولُ ذَلِكَ فَيُقَالُ لِلْأَرْضِ الْتَئِمِي عَلَيْهِ فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ فَتَخْتَلِفُ أَضْلَاعُهُ فَلَا يَزَالُ فِيهِ مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ» .

(وَالْبَعْثُ) وَهُوَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ الْمَوْتَى مِنْ الْقُبُورِ بِإِعَادَةِ الْبَدَنِ الْمَعْدُومِ بِعَيْنِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَيْ أَكْثَرِهِمْ وَبِأَنْ يَجْمَعَ أَجْزَاءَهُ الْمُتَفَرِّقَةَ كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَهُمْ يَرَوْنَ امْتِنَاعَ إعَادَةِ الْمَعْدُومِ كَالْفَلَاسِفَةِ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ حَشْرَ الْأَجْسَادِ بِالْإِعَادَةِ بَعْدَ الِانْعِدَامِ أَوْ بِالْجَمْعِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَأَنَّ الْمَذَاهِبَ فِي الْبَعْثِ خَمْسَةٌ ثُبُوتُ الْجُسْمَانِيِّ فَقَطْ لِأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ النَّافِينَ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ وَثُبُوتُ الرُّوحَانِيِّ فَقَطْ لِلْفَلَاسِفَةِ الْمُتَأَلِّهِينَ وَثُبُوتُهُمَا مَعًا لِأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ وَعَدَمُ شَيْءٍ مِنْهُمَا لِقُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الطَّبِيعِيِّينَ وَالتَّوَقُّفُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِجَالِينُوسَ وَدَلِيلُ أَهْلِ الْحَقِّ إجْمَاعُ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ الْمُتَكَثِّرَةُ الظَّاهِرَةُ بِحَيْثُ لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى - {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 16]- {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]- نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّ الْإِنْصَافَ عَدَمُ الْجَمْعِ بَيْنَ إيمَانِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ إنْكَارِ الْحَشْرِ فَالْمُنْكِرُ كَافِرٌ قَطْعًا.

(وَالْوَزْنُ) هُوَ مُسَاوَاةُ شَيْءٍ بِآخَرَ بِآلَةٍ مَخْصُوصَةٍ هِيَ الْمِيزَانُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُعْرَفُ بِهِ مَقَادِيرُ الْأَعْمَالِ وَالْعَقْلُ قَاصِرٌ عَنْ إدْرَاكِ كَيْفِيَّتِهِ فَنُؤْمِنُ بِهِ وَنُفَوِّضُ كَيْفِيَّتَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ: تُوزَنُ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ وَقِيلَ: تُجْعَلُ الْحَسَنَاتُ أَجْسَامًا نُورَانِيَّةً وَالسَّيِّئَاتُ ظُلْمَانِيَّةً وَقِيلَ: يُوزَنُ الْعَبْدُ مَعَ عَمَلِهِ مَرَّةً بِالْخَيْرِ وَمَرَّةً بِشَرِّهِ وَالْحِكْمَةُ فِي الْوَزْنِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِتَفَاصِيلِ أَعْمَالِ عِبَادِهِ إظْهَارُ فَضَائِلِ الْمُطِيعِينَ وَمَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِحِ الْعُصَاةِ وَمَثَالِبِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْعَرَصَاتِ تَتْمِيمًا لِمَسَرَّةِ الْأَوَّلِينَ وَحَسْرَةِ الْآخِرِينَ وَإِظْهَارُ كَمَالِ عَدَالَتِهِ تَحَاشِيًا عَنْ صُورَةِ الظُّلْمِ فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ الْعُصَاةِ لِمَا يُعَذَّبُونَ بِهِ وَمِثْلُهُ فَائِدَةُ الْحِسَابِ وَشَهَادَةِ الْأَعْضَاءِ وَكُتُبِ الْمَلَائِكَةِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ الْمِيزَانُ وَاحِدٌ لَهُ كِفَّتَانِ وَلِسَانٌ وَسَاقَانِ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ - {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء: 47]- لِلِاسْتِعْظَامِ قَالَ فِي الْبَحْرِ قَدْ يُذْكَرُ الْجَمْعُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى

ص: 175

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]- وَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ وَمَحَلُّ الْمِيزَانِ وَكَذَا الْحِسَابُ.

قَالَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ عَلَى الصِّرَاطِ بِشَهَادَةِ ظَوَاهِرِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لَكِنَّ الْمُتَبَادِرَ هُوَ الْعَرَصَاتُ قَبْلَ السَّوْقِ إلَى الصِّرَاطِ، وَزَمَانُهُ قِيلَ: قَبْلَ قِرَاءَةِ الْكُتُبِ بِإِشَارَةِ بَعْضِ الْأَخْبَارِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ التَّعَيُّنِ.

(وَالْكِتَابُ) الَّذِي كَتَبَهُ الْحَفَظَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْعِصْيَانِ يُؤْتَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَيْمَانِهِمْ وَلِلْكُفَّارِ بِشَمَائِلِهِمْ وَوَرَاءِ ظُهُورِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13]{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19]- الْآيَةُ وَكَيْفِيَّةُ كِتَابَةِ الْحَفَظَةِ عَنْ الضَّحَّاكِ لِكُلِّ يَوْمٍ يَنْزِلُ مَلَكَانِ مَعَ صَحِيفَتَيْنِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ لِسَانُكَ قَلَمُهُمَا وَرِيقُكَ مِدَادُهُمَا وَبَدَنُك كِتَابُهُمَا.

قَالَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مَلَكَانِ بِاللَّيْلِ وَمَلَكَانِ بِالنَّهَارِ وَيَنْزِلُ مَلَكُ النَّهَارِ وَيَذْهَبُ مَلَكُ اللَّيْلِ فَإِنْ قِيلَ: الْمُؤْمِنُ الْفَاسِقُ كَيْفَ يُعْطَى كِتَابُهُ قُلْنَا: الْمَشْهُورُ بِجَانِبِ الْيَمِينِ وَقِيلَ: بِالشِّمَالِ وَقِيلَ: بِالتَّوَقُّفِ وَقِيلَ: الْفَاسِقُ بِالشِّمَالِ وَالْكَافِرُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ.

(وَالسُّؤَالُ) لَا سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ حَتَّى يُتَوَهَّمَ التَّكْرَارُ بَلْ سُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقِيَامَةِ حِينَ الْحِسَابِ قِيلَ: اُخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا السُّؤَالِ أَيْ الْحِسَابِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَحَدِهَا بِعِلْمِهِمْ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ عُلُومًا ضَرُورِيَّةً بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ ثَوَابًا وَعِقَابًا وَثَانِيهَا بِإِيتَاءِ كُتُبِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَثَالِثِهَا بِأَنْ يُكَلِّمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ أَعْمَالِهِمْ وَمَا لَهَا مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ نُقِلَ عَنْ الْفَخْرِ أَيْضًا إمَّا بِأَنْ يُسْمِعَهُمْ كَلَامَهُ الْقَدِيمَ أَوْ يُسْمِعَ عِبَادَهُ صَوْتًا يَدُلُّ عَلَيْهِ.

قَالَ فِي بَحْرِ النَّسَفِيِّ لَيْسَ لِلْأَنْبِيَاءِ حِسَابٌ وَلَا عَذَابُ الْقَبْرِ وَلَا سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَكَذَلِكَ الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرَةُ يَعْنِي حِسَابَ الْمُنَاقَشَةِ الَّذِي بِطَرِيقِ لِمَ فَعَلْت كَذَا وَأَمَّا حِسَابُ الْعَرْضِ الَّذِي هُوَ فَعَلْتَ كَذَا وَعَفَوْتُ عَنْك فَثَابِتٌ لَهُمْ لَعَلَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَهُمْ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ كَمَا يُشِيرُ إلَى قَوْله تَعَالَى - {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون: 102]- {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] .

(وَالْحَوْضُ) جِسْمٌ مَخْصُوصٌ طُولُهُ وَعَرْضُهُ سَوَاءٌ يَصُبُّ فِيهِ مِيزَابَانِ فِي الْجَنَّةِ كَذَا نُقِلَ عَنْ اللَّقَانِيِّ.

وَفِي الْمُنَاوِيِّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ إلَّا صَالِحًا عليه الصلاة والسلام فَإِنَّ حَوْضَهُ ضَرْعُ نَاقَتِهِ قَالَ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ يَشْهَدُ فَهَذَا لَمْ يَخْتَصَّ بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَمَا اُشْتُهِرَ مِنْ الِاخْتِصَاصِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْكَوْثَرِ الَّذِي يُصَبُّ مِنْ مَائِهِ فِي حَوْضِهِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ أَكْثَرُ مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا» فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُشْرَبَ بَعْدَ مَرَّةً وَاحِدَةً لِعَدَمِ الظَّمَأِ وَالْعَطَشِ بَعْدَ

ص: 176

شُرْبِهِ أَبَدًا قُلْنَا: قَالَ فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ: لَا تَنْحَصِرُ فَائِدَةُ الشُّرْبِ عَلَى دَفْعِ الْعَطَشِ بَلْ يَشْرَبُ لِنَحْوِ التَّلَذُّذِ وَالتَّغَذِّي.

وَقَالَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي السَّعْدِيَّةِ: يَجُوزُ لِلشُّرْبِ نَفْعٌ آخَرُ غَيْرُهُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ وَقُدِّرَ لَهُ دُخُولُ النَّارِ لَا يُعَذَّبُ فِيهَا بِالظَّمَأِ أَبَدًا وَقِيلَ: هُوَ اثْنَانِ، فِي الْقِيَامَةِ وَفِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: رَأْسُهُ فِي الْجَنَّةِ وَأَسْفَلُهُ يَكُونُ حَوْضًا فِي الْعَرَصَاتِ وَقِيلَ: مَا فِي الْعَرَصَاتِ هُوَ مَا فِي الْجَنَّةِ يُنْقَلُ مِنْ الْجَنَّةِ إلَى الْعَرَصَاتِ ثُمَّ مِنْ الْعَرَصَاتِ إلَى الْجَنَّةِ.

وَفِي الْخَبَرِ «يُؤْتَى بِعَالِمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى فَيُرْسِلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ جَبْرَائِيلُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى شَطِّ حَوْضِهِ يَسْقِي أُمَّتَهُ بِالْأَوَانِي فَيَسْقِي الْعَالِمَ بِكَفَّيْهِ وَيَقُولُ: كَانَ يَشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ حِينَ يَشْتَغِلُ النَّاسُ بِالتِّجَارَةِ» .

(وَالصِّرَاطُ) جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ يَرِدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ حُمِلَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71]- «لَا طَرِيقَ لِلْجَنَّةِ إلَّا عَلَيْهِ وَالنَّبِيُّ قَائِمٌ عَلَيْهِ قَائِلًا يَا رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ وَالنَّاسُ فِي جَوَازِهِ مُتَفَاوِتُونَ عَلَى حَسَبِ إيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَمِنْهُمْ كَالرِّيحِ وَمِنْهُمْ كَالْجَوَادِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَرُّ مِنْ رِجْلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَبُّ عَلَى وَجْهِهِ»

وَرُوِيَ أَيْضًا «يَكُونُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ وَعَلَى بَعْضٍ مِثْلُ الْوَادِي الْوَاسِعِ بَلْ بَعْضٌ يَمُرُّ عَلَيْهِ وَلَا يَعْلَمُهُ» .

وَفِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ أَفْوَاجٌ الْمُرْسَلُونَ ثُمَّ النَّبِيُّونَ ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ ثُمَّ الْمُحْسِنُونَ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ الْعَارِفُونَ وَيَبْقَى الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ الْمَكْبُوبُ لِوَجْهِهِ وَمِنْهُمْ الْمَحْبُوسُ فِي الْأَعْرَافِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرُوا عَنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَجُوزُ عَلَى مِائَةِ عَامٍ وَآخَرُ عَلَى أَلْفِ عَامٍ إلَى آخِرِ مَا قَالَ وَعَنْ أَبِي الْفَرَجِ الْجَوْزِيِّ أَكْثَرُ مَنْ يَزِلُّ عَلَيْهِ النِّسَاءُ

(وَشَفَاعَةُ) فِي اللُّغَةِ الْوَسِيلَةُ وَالطَّلَبُ وَفِي الْعُرْفِ سُؤَالُ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ مِنْ الشَّفْعِ ضِدُّ الْوَتْرِ كَأَنَّ الشَّافِعَ ضَمَّ سُؤَالَهُ إلَى سُؤَالِ الْمَشْفُوعِ لَهُ كَذَا نُقِلَ عَنْ اللَّقَانِيِّ (الرُّسُلِ) قِيلَ: وَلَوْ رُسُلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلِّهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَالْأَخْيَارِ) لِدَفْعِ الْعَذَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ عَلَى إجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثٌ الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالشُّهَدَاءُ» .

قَالَ الْمُنَاوِيُّ: لَمَّا كَانَ الْعُلَمَاءُ أَفْنَوْا نَفَائِسَ أَوْقَاتِهِمْ فِي الْعِلْمِ لِلْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ بِهِ أَكْرَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِوِلَايَةِ مَقَامِ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ بِالشَّفَاعَةِ جَزَاءً وِفَاقًا

وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48]- وقَوْله تَعَالَى - {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]- فَأُجِيبُ بِأَنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ يَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِالْكُفَّارِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَدِلَّةَ الْمُثْبِتِينَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]- وَقَوْلُهُ - {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]- وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» وقَوْله تَعَالَى - {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [طه: 109]- وقَوْله تَعَالَى - {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]- عَلَى طَرِيقِ الْإِشَارَةِ وَأَدِلَّةُ النَّفْيِ عَلَى طَرِيقِ الْعِبَارَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِبَارَةَ تُرَجَّحُ عَلَى الْإِشَارَةِ وَأَيْضًا أَدِلَّةُ النَّفْيِ نُصُوصٌ أَوْ مُفَسِّرَاتٌ وَأَدِلَّةُ الْإِثْبَاتِ مُؤَوِّلَاتٌ أَوْ ظَوَاهِرُ وَقَدْ قُرِّرَ أَيْضًا رُجْحَانُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يُعَارِضُ نَصَّ الْقُرْآنِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَا يَنَالُ شَفَاعَتِي أَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» فَمُقْتَضَى جَمْعِ الْأَدِلَّةِ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ بِحَمْلِ النَّفْيِ عَلَى نَحْوِ الْكَبِيرَةِ، وَالْإِثْبَاتِ لِلصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَلِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَقُولُ: الْمَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ عِنْدَ عَدَمِ الْجَمْعِ وَالتَّوْفِيقِ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ خَبَرُ الْوَاحِدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَا

ص: 177

احْتَمَلَ النَّصُّ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ صَاحِب النِّهَايَةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْمُؤَيَّدَ بِالْحُجَّةِ الْقَطْعِيَّةِ يَصِحُّ إضَافَةُ الْغَرَضِ إلَيْهِ وَإِنْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِأَنَّ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ يُضَافُ إلَى ذَلِكَ الْقَطْعِيِّ لَكِنْ دُفِعَ بِأَنَّ مِنْ الْمُقَرَّرَاتِ صِحَّةَ إضَافَةِ الْحُكْمِ الْمُبَيِّنِ إلَى الْبَيَانِ أَيِّ بَيَانٍ كَانَ وَبِالْجُمْلَةِ يَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الْكِتَابِ وَإِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُبَيِّنِ لَهُ وَلَوْ مِنْ جِهَةِ دَفْعِ احْتِمَالِهِ الْقَادِحِ فِي مُفَسَّرِيَّتِهِ أَوْ مُحَكَّمِيَّتِهِ فَاحْفَظْ هَذِهِ اللَّطَائِفَ النَّفِيسَةَ تَنْفَعُك فِي الْمَوَاضِعِ الصَّعْبَةِ وَبِالْجُمْلَةِ يَصِحُّ إضَافَةُ شَفَاعَةِ الْكَبِيرَةِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ لَا يَنَالُ فَبَعْدَ مَا أَشَارَ النَّسَفِيُّ إلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ قَالَ: مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِحْلَالِ ذَلِكَ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي أُمَّتِي لَا تُلَائِمُهُ (لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَغَيْرِهِمْ) كَأَهْلِ الصَّغَائِرِ وَلِرِفْعَةِ الدَّرَجَةِ، وَأَعْظَمُ الشَّفَاعَاتِ شَفَاعَةُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم قَالَ الْمُحَقِّقُ الدَّوَانِيُّ عَنْ الْغَيْرِ: هُوَ عليه الصلاة والسلام مُشَفَّعٌ فِي جَمِيعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إلَّا أَنَّ شَفَاعَتَهُ لِلْكُفَّارِ لِتَعْجِيلِ فَصْلِ الْقَضَاءِ فَيُخَفِّفُ عَنْهُمْ أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِلْعَفْوِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فَشَفَاعَتُهُ عَامَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]- وَلَا يُرَدُّ مَطْلُوبُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]- وَلِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ: اشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ» وَهُوَ عليه الصلاة والسلام لَا يَرْضَى إلَّا بِإِخْرَاجِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ مِنْ النَّارِ هَذَا هُوَ الشَّفَاعَةُ الْكُبْرَى الَّتِي خَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ بِهَا.

قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي مَوَاهِبِهِ الشَّفَاعَةُ خَمْسٌ وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ اللَّقَانِيِّ بِبَعْضِ زِيَادَةِ قُيُودِهَا، الْأَوَّلُ فِي الْإِرَاحَةِ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ أَعْظَمُهَا وَأَعْمَلُهَا.

الثَّانِي فِي إدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَهُمَا مُخْتَصَّانِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

الثَّالِثُ: فِيمَنْ اسْتَوْجَبَ النَّارَ.

الرَّابِعُ: فِي إخْرَاجِ مَنْ دَخَلَ النَّارَ.

الْخَامِسُ: فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ

وَنُقِلَ عَنْ السُّيُوطِيّ زِيَادَةُ سَادِسَةٍ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَمَّنْ اسْتَحَقَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ فِي حَقِّ أَبِي طَالِبٍ «لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ» وَفِي شِفَاءِ الْقَاضِي «أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحْفَظُك وَيَنْصُرُك وَيُبْغِضُ لَك فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنْ النَّارِ فَأَخْرَجْتُهُ إلَى ضَحْضَاحٍ» وَزَادَ فِي الْمَوَاهِبِ سَابِعَةً وَهِيَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ.

(وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ الْمَوْجُودَتَانِ الْآنَ) لِأَنَّ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ فِي بَيَانِهِمَا أَشْهَرُ مِنْ أَنْ لَا تَخْفَى وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَلِقِصَّةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُهُمَا مَرَّةً لَا يُحْكَمُ عَلَى عَدَمِهِمَا مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَإِلَّا صَحَّ عَدَمُ تَعَيُّنِ مَكَانِهِمَا.

قَالَ الدَّوَانِيُّ: وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْجَنَّةَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَتَحْتَ

ص: 178

الْعَرْشِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 14]{عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15]- وَأَنَّ النَّارَ تَحْتَ الْأَرْضِينَ وَعَنْ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَالْحَقُّ تَفْوِيضُ عِلْمِهِمَا إلَى الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ.

وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ هِرَقْلَ كَتَبَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا مُحَمَّدُ أَرَأَيْت جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ فَأَيْنَ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ اللَّيْلُ إذَا جَاءَ النَّهَارُ» (الْبَاقِيَتَانِ لَا تَفْنَيَانِ وَلَا) يَفْنَى (أَهْلُهُمَا) لِأَنَّهُمْ مُؤَبَّدُونَ مُخَلَّدُونَ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88]- فَهَلَاكٌ لَحْظِيٌّ لَا يَضُرُّنَا وَلِهَذِهِ الْآيَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ الْعَضُدِيَّةِ لِلدَّوَّانِيِّ قَالَ أَيْضًا فِيهِ عَنْ الْجَاحِظِ وَعَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيِّ أَنَّ الْخُلُودَ لِلْكَافِرِ الْمُعَانِدِ وَأَمَّا الْمُبَالِغُ فِي الِاجْتِهَادِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَإِنْ لَمْ يَهْتَدِ فَلَا يَخْلُدْ إذْ لَا تَقْصِيرَ مِنْهُ وَ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .

وَفِي الْمُنْقِذِ لِلْإِمَامِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ كَلَامٌ يَقْرَبُ مِنْهُ بَعْضَ الْقُرْبِ انْتَهَى وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ وَصَلَ إلَيْهِ الشَّرْعُ فَلَهُ تَقْصِيرٌ وَوُسْعٌ وَإِلَّا فَرَاجِعٌ إلَى مَسْأَلَةِ زَمَانِ الْفَتْرَةِ وَشَاهِقِ الْجَبَلِ وَأَمَّا أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ الدَّوَانِيُّ هُمْ فِي النَّارِ وَقِيلَ: مَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ عَلَى تَقْدِيرِ بُلُوغِهِ فَفِي الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ عَلِمَهُ عَلَى خِلَافِهِ فَفِي النَّارِ وَعَنْ النَّوَوِيِّ هُمْ فِي الْجَنَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ خُدَّامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

وَقِيلَ: فِي الْأَعْرَافِ، لَعَلَّ الصَّحِيحَ التَّوَقُّفُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ أَدِلَّةَ كُلٍّ لَا تُفِيدُ الظَّنَّ فَضْلًا عَنْ الْقَطْعِ فَمَا ذَكَرُوا إمَّا بِالرَّأْيِ أَوْ الْقِيَاسِ أَوْ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَخْبَارِ الْوَاهِيَةِ وَمَسْأَلَةُ أُصُولِ الدِّينِ لَا تُتَلَقَّى إلَّا مِمَّنْ يَنْقَطِعُ الْعُذْرُ دُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا نُقِلَ عَنْ التوربشتي فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ.

(وَالْمِعْرَاجُ) وَهُوَ السُّلَّمُ وَالْمِصْعَدُ وَعَرَجَ عُرُوجًا ارْتَقَى كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الِانْتِقَالِ صُعُودًا حَتَّى يَشْمَلَ الْإِسْرَاءَ فَإِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَعْلَى مِنْ مَكَّةَ كَمَا قَالُوا (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فَإِنْ قِيلَ: الْمَفْهُومُ مِنْهُ اخْتِصَاصُ الْمِعْرَاجِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ مُطْلَقًا حُجَّةٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ اتِّفَاقًا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَحَمْلُ الْإِضَافَةِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ بَعِيدٌ

قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ عَدَمِ كَوْنِ الْمِعْرَاجِ مِنْ خَوَاصِّهِ عليه الصلاة والسلام الْمُرَادُ الْمِعْرَاجُ الثَّابِتُ عِنْدَنَا وَمِعْرَاجُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَنَا وَلَوْ بِطَرِيقِ آحَادٍ صَحِيحٍ (فِي الْيَقَظَةِ) ضِدُّ الْمَنَامِ وَمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ رُؤْيَا صَالِحَةٌ وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مَا فُقِدَ جَسَدُ مُحَمَّدٍ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الرُّؤْيَا بِالْعَيْنِ وَمَا فَقَدَ جَسَدُهُ رُوحَهُ بَلْ بِجَمِيعِهِمَا أَوْ الْمِعْرَاجُ تَكَرَّرَ مَرَّةً بِشَخْصِهِ وَمَرَّةً بِرُوحِ جَسَدِهِ (بِشَخْصِهِ) صُورَتِهِ الْجُسْمَانِيَّةِ لَا بِالرُّوحِ فَقَطْ كَمَا زُعِمَ (مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أَيْ مِنْ حَطِيمِهِ أَوْ مِنْ حَجَرِهِ عَلَى شَكِّ رُوَاتِهِ كَمَا نُقِلَ الْحَدِيثُ فِي الْمَوَاهِبِ عَنْ الْبُخَارِيِّ (إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصْفُهُ بِالْأَقْصَى قِيلَ: لِبُعْدِهِ عَنْ مَكَّةَ.

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ وَرَاءَهُ مَسْجِدٌ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ أَقْصَى فِي الْفَضْلِ حِينَئِذٍ بَلْ الْآنِ وَلَوْ إضَافِيًّا لِأَنَّ أَفْضَلَ الْمَسَاجِدِ الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ وَلَوْ كَانَ الْأَفْضَلُ فِيهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ هَذَا الْقَدْرُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ فَمُنْكِرُهُ كَافِرٌ (ثُمَّ) مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى (إلَى السَّمَاءِ) أَيْ جَمِيعِ السَّمَاءِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَوْ جِنْسِهَا لِيَشْمَلَ السَّبْعَ بَلْ التِّسْعَ وَلَوْ مَجَازًا هَذَا بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَمُنْكِرُهُ مُبْتَدِعٌ وَدَعْوَى امْتِنَاعِ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فَمَا يُمْكِنُ لِلْبَعْضِ مُمْكِنٌ لِلْبَاقِي (ثُمَّ إلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْعُلَى) كَالْعَرْشِ

ص: 179

وَالْكُرْسِيِّ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَقَامِ قَابَ قَوْسَيْنِ، أَبْهَمَهُ لِكَثْرَتِهِ أَوْ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْأُمُورِ الْمُفَخَّمَةِ هَذَا بِطَرِيقِ الْآحَادِ كَمَا هُوَ عِنْدَ التَّفْتَازَانِيِّ وَوَقْتُ الْمِعْرَاجِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَقِيلَ: بِخَمْسِ سِنِينَ وَقِيلَ وَقِيلَ.

وَفِي الْمَوَاهِبِ

ص: 180

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِسْرَاءِ هَلْ هُوَ وَاحِدٌ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ يَقَظَةً أَوْ مَنَامًا أَوْ إسْرَاءَانِ فِي لَيْلَةٍ مَرَّةً بِرُوحِهِ وَبَدَنِهِ يَقَظَةً وَمَرَّةً مَنَامًا أَوْ يَقَظَةً بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ثُمَّ مَنَامًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْعَرْشِ أَوْ هِيَ أَرْبَعَةُ إسْرَاءَاتٍ ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ إسْرَاءٌ وَاحِدٌ بِمَجْمُوعِ رُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنْ قِيلَ: أَيُّمَا أَفْضَلُ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ أَوْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوْ لَيْلَةُ الْمِيلَادِ الشَّرِيفِ.

قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ أَفْضَلُ فِي عَمَلِ الْأُمَّةِ إذْ عَمَلُهَا خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ ثَمَانِينَ سَنَةً وَلَمْ يُرْوَ فِي عَمَلِ الْإِسْرَاءِ وَفَضْلِهَا خَبَرٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ وَأَمَّا لَيْلَةُ مَوْلِدِهِ فَقَالَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ فَأَفْضَلُ بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مُخْتَصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَيْلَةُ الْمِيلَادِ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ مُشَرَّفَةٌ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَهَذِهِ مُشَرَّفَةٌ بِظُهُورِهِ عليه الصلاة والسلام وَلَيْلَةُ الْمَوْلِدِ لَيْلَةُ ظُهُورِهِ عليه الصلاة والسلام وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ مُعْطَاةٌ لَهُ.

(وَ) جَمِيعُ (مَا أَخْبَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَشْرَاطِ) جَمْعُ شَرَطٍ بِالتَّحْرِيكِ أَيْ الْعَلَامَةُ (السَّاعَةِ) أَيْ الْقِيَامَةِ (مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ) فِي الْمُنَاوِيِّ وَهُوَ مَهْدِيُّ الْيَهُودِ وَيَنْتَظِرُونَهُ كَمَا يَنْتَظِرُ الْمُؤْمِنُ الْمَهْدِيَّ.

وَنُقِلَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ رَجُلٌ طَوِيلٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ مَطْمُوسٌ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ مَعَهُ جَبَلٌ مِنْ خُبْزٍ وَجَبَلٌ مِنْ أَجْنَاسِ الْفَوَاكِهِ، وَأَرْبَابُ الْمَلَاهِي جَمِيعًا يَضْرِبُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالطُّبُولِ وَالْعِيدَانِ وَالْمَعَازِفِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلَّا تَبِعَهُ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ.

وَمِنْ أَمَارَاتِ خُرُوجِهِ أَنْ يَهُبَّ رِيحٌ كَرِيحِ عَادٍ وَيَسْمَعُونَ صَيْحَةً عَظِيمَةً وَذَلِكَ عِنْدَ تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَكَثْرَةِ الزِّنَا وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَرُكُوبِ الْعُلَمَاءِ إلَى الظَّلَمَةِ وَالتَّرَدُّدِ إلَى أَبْوَابِ الْمُلُوكِ، وَيَخْرُجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ مِنْ قَرْيَةٍ تُسَمَّى سَرَابَادِينَ أَوْ مَدِينَةِ الْأَهْوَازِ أَوْ مَدِينَةِ أَصْبَهَانَ وَيَخْرُجُ عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ السَّحَابَ بِيَدِهِ وَيَخُوضُ الْبَحْرَ إلَى كَعْبِهِ وَيَسْتَظِلُّ فِي أُذُنِ حِمَارِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَطْلُعُ الشَّمْسُ يَوْمًا حَمْرَاءَ وَيَوْمًا صَفْرَاءَ وَيَوْمًا سَوْدَاءَ ثُمَّ يَصِلُ الْمَهْدِيُّ وَعَسْكَرُهُ إلَى الدَّجَّالِ فَيَلْقَاهُ وَيَقْتُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَيَنْهَزِمُ الدَّجَّالُ ثُمَّ يَهْبِطُ عِيسَى عليه الصلاة والسلام وَهُوَ مُتَعَمِّمٌ بِعِمَامَةٍ خَضْرَاءَ مُتَقَلِّدٌ بِسَيْفٍ رَاكِبٍ عَلَى فَرَسٍ وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ فَيَأْتِي إلَيْهِ فَيَطْعَنُهُ بِهَا فَيَقْتُلُهُ.

(وَ) خُرُوجِ (دَابَّةِ الْأَرْضِ) هِيَ دَابَّةٌ رَأْسُهَا رَأْسُ ثَوْرٍ وَعَيْنُهَا عَيْنُ خِنْزِيرٍ وَأُذُنُهَا أُذُنُ فِيلٍ وَقَرْنُهَا قَرْنُ إيَّلٍ وَصَدْرُهَا صَدْرُ أَسَدٍ وَلَوْنُهَا لَوْنُ نَمِرٍ وَخَاصِرَتُهَا خَاصِرَةُ هِرَّةٍ وَذَنَبُهَا ذَنَبُ كَبْشٍ وَقَوَائِمُهَا قَوَائِمُ بَعِيرٍ بَيْنَ كُلِّ مِفْصَلَيْنِ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّحَابَ وَرِجْلَاهَا فِي الْأَرْضِ وَتَذْهَبُ سَائِحَةً فِي الْأَرْضِ لَا يُدْرِكُهَا طَالِبٌ وَلَا يَعْجِزُهَا هَارِبٌ وَمَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانَ وَعَصَا مُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَسِمُ الرَّجُلَ فِي وَجْهِهِ فَيُعْرَفُ الْكَافِرُ مِنْ الْمُؤْمِنِ.

(وَ) خُرُوجِ (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) وَهُمَا أُمَّتَانِ مُضِرَّتَانِ كَافِرَتَانِ مِنْ نَسْلِ يَافِثِ بْنِ نُوحٍ وَالْقَوْلُ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ مَنِيِّ آدَمَ عليه الصلاة والسلام الْمُخْتَلِطِ بِالتُّرَابِ عَنْ الْمُنَاوِيِّ أَنَّهُ غَرِيبٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَحْكِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَاب وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ أُمَّةً مِنْهُمْ آمَنُوا فَتَرَكَهُمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ حِينَ بَنَى السَّدَّ بِإِرْمِينِيَّةَ فَتَرَكَهُمْ فَسُمُّوا بِالتُّرْكِ وَيُقَالُ: أَنَّهُمْ تِسْعَةُ أَعْشَارِ بَنِي آدَمَ وَثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ، مِنْهُمْ مَنْ طُولُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَمِنْهُمْ مَنْ طُولُهُ وَعَرْضُهُ سَوَاءٌ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَرِشُ أُذُنَهُ وَيَلْتَحِفُ بِالْأُخْرَى يَشْرَبُونَ أَنْهَارَ الْمَشْرِقِ وَبُحَيْرَةَ طَبَرِيَّةَ لَا يَمُرُّونَ بِفِيلٍ وَلَا وُحُوشٍ إلَّا أَكَلُوهَا وَعِنْدَ انْتِهَائِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَقُولُونَ: قَتَلْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السَّمَاءِ فَيَرْمُونَ سِهَامَهُمْ فَيَرُدُّ اللَّهُ سِهَامَهُمْ مَخْضُوبَةً فَيَدْعُو اللَّهَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام فَيُهْلِكُهُمْ اللَّهُ فِي أَدْنَى سَاعَةٍ وَلَا يُتَحَمَّلُ نَتِنُ جِيَفِهِمْ فَتَطْرَحُهُمْ طُيُورٌ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِدَعْوَةِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام وَتَفْصِيلُهُ فِي شَرْحِ

ص: 181

الْمَصَابِيح لِابْنِ مَلِكٍ.

(وَنُزُولِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام مِنْ السَّمَاءِ) إلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ أَنَّهَا مَنَارَةُ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ وَيُبْطِلُ الْجِزْيَةَ وَحَوَارِيُّوهُ أَصْحَابُ الْكَهْفِ وَيُقَرِّرُ أُمُورَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَيَتَزَوَّجُ وَيُولَدُ لَهُ وَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَيُدْفَنُ فِي رَوْضَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَفِي رِسَالَةِ إعْلَامِ نُزُولِ عِيسَى لِلسُّيُوطِيِّ حَاصِلُهُ إنْ قُلْت هَلْ عَمَلُ عِيسَى عليه الصلاة والسلام بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ بِاجْتِهَادِهِ أَوْ بِتَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ قُلْت: لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ لِمُجْتَهِدٍ فَضْلًا عَنْ تَقْلِيدِ نَبِيٍّ لِمُجْتَهِدٍ فَإِمَّا بِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ يَعْلَمُونَ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ، وَإِمَّا بِأَنْ يَسْتَخْرِجَ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ مِنْ الْقُرْآنِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى الْأَحَادِيثِ، وَإِمَّا بِأَنَّ عِيسَى عليه الصلاة والسلام مَعَ بَقَائِهِ عَلَى نُبُوَّتِهِ مَعْدُودٌ فِي أُمَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَاخِلٌ فِي زُمْرَةِ صَحَابَتِهِ وَقَدْ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُخَالِفُ الْإِنْجِيلَ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ السُّبْكِيُّ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُ نَبِيِّ أُمَّةٍ نَبِيَّ أُخْرَى وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْأُمِّيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَقْتَضِي الْمَعْدُودِيَّةُ الْحَقِيقَةَ بَلْ الْمُرَادُ تَجَوُّزٌ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ، نَعَمْ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُعَبَّرَ بِمَا يُوهِمُ مَا لَا يَجُوزُ وَإِمَّا بِأَنْ يَعْمَلَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشَافَهَةً وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ السُّبْكِيُّ.

وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ وَالْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ خَبَرٌ غَرِيبٌ (وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا) فَيَمْتَنِعُ قَبُولُ التَّوْبَةِ قِيلَ فِي وَجْهِهِ أَنَّ النَّاسَ حِينَئِذٍ كَالْيَائِسِينَ الْمُحْتَضَرِينَ فَكَمَا لَا يُقْبَلُ إيمَانُ الْيَأْسِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ التَّوْبَةُ وَقِيلَ عَنْ اللَّقَانِيِّ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام مَعَ مُحَاجَّةِ نُمْرُودَ فَإِنَّ الْمَلَاحِدَةَ وَالْمُنَجِّمِينَ أَنْكَرُوا إمْكَانَ إتْيَانِ الشَّمْسِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَلَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ عَلَى النُّمْرُودِ فَيُرِي سبحانه وتعالى قُوَّةَ قُدْرَتِهِ قَبْلُ وَكَذَا حِكْمَةُ سَائِرِ آيَاتِهِ وَقِيلَ: عَنْ إخْرَاجِ أَبِي نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ فِي الْفِتَنِ يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ هَذَا الطُّلُوعِ مِائَةٌ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقِيلَ: عَنْ التَّوْفِيقِ أَوَّلُ هَذِهِ الْآيَاتِ الطُّلُوعُ وَالدَّابَّةُ تَخْرُجُ عَلَى النَّاسِ ضُحًى وَلَا نَصَّ فِي تَرْتِيبِ الْغَيْرِ.

وَفِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدَ الْغِفَارِيِّ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهَا أَيْ السَّاعَةَ لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ فَذَكَرَ الدُّخَّانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه الصلاة والسلام وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلَاثَ خَسُوفَاتٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إلَى مَحْشَرِهِمْ» وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي هَذِهِ الْأَشْرَاطِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَقَدْ رُوِيَ أَحَادِيثُ فِي تَفَاصِيلِهَا انْتَهَى. (وَنَحْوِ ذَلِكَ) كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ وَكَرَفْعِ الْقُرْآنِ مِنْ الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ وَهَدْمِ الْكَعْبَةِ هَذِهِ هِيَ الْأَشْرَاطُ الْكُبْرَى.

وَأَمَّا الصُّغْرَى فَمَا فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ «مِنْ رَفْعِ الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ وَفُشُوِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَذَهَابِ الرِّجَالِ وَبَقَاءِ النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةٍ قَيِّمٌ وَاحِدٌ» وَأَيْضًا فِي الْحَدِيثِ «مِنْهَا كَثْرَةُ الْمَسَاجِدِ وَقِلَّةُ الْجَمَاعَةِ وَتَطْوِيلُ الْأَبْنِيَةِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَكَثْرَةُ الْغِيبَةِ وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِمَارَةُ الْأَشْرَارِ وَاشْتِغَالُ الرِّجَالِ بِالرِّجَالِ وَتَجْصِيصُ الْقُبُورِ وَتَشَرُّفُ الْفَاسِقِ وَضَعْفُ الْمُؤْمِنِ وَبَيْعُ الْحُكْمِ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ وَقَطْعُ الْأَرْحَامِ وَاتِّخَاذُ الْقُرْآنِ مَكْسَبَةً وَمَزَامِيرَ» وَنَحْوُهَا (كُلُّهُ حَقٌّ) أَيْ كُلُّ

ص: 182

وَاحِدٍ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَعَذَابُ الْقَبْرِ لَا الْمَجْمُوعُ، مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ لَا يُقَالُ: إنْ أُرِيدَ مِنْ الْحَقِّ الْقَطْعِيِّ الَّذِي مُنْكِرُهُ كَافِرٌ فَلَا يَصْدُقُ عَلَى نَحْوِ الْأَشْرَاطِ وَأَنَّ الظَّنِّيَّ الَّذِي مُنْكِرُهُ لَا يَكْفُرُ بَلْ يُضَلَّلُ فَلَا يَصْدُقُ عَلَى نَحْوِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِنْ أُرِيدَ مَجْمُوعُهُمَا فَلَا يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ لِجَمِيعِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِأَنَّا نَقُولُ بِإِرَادَةِ عُمُومِ الْمَجَازِ نَحْوَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَقِّ وَمُطْلَقُ الثَّابِتِ (تَتْمِيمٌ) لَازِمٌ عَلَيْنَا أَنْ نُلْحِقَ حَاصِلَ رِسَالَةِ.

ص: 183

النَّجْمِ مُحَمَّدٍ الْغَيْطِيِّ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْوَالِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ تَارِكًا أَسْئِلَتَهَا مَعَ أَسَانِيدِهَا وَمُكْتَفِيًا بِمَقْصُودِ أَجْوِبَتِهَا وَذَلِكَ اثْنَا عَشَر أَمْرًا (1) الشُّهَدَاءُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ بِالْحَيَاةِ الْجَسَدِيَّةِ لَا بِالرُّوحِ فَقَطْ إكْرَامًا لَا احْتِيَاجًا وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ الْبَدَنِ بِالْفِعْلِ، فَالْعِلْمُ وَالسَّمَاعُ كَسَائِرِ الْإِدْرَاكَاتِ ثَابِتٌ لِجَمِيعِ الْمَوْتَى (2) يَعْرِفُونَ الزُّوَّارَ وَيَسْمَعُونَ نِدَاءَهُمْ وَيَرُدُّونَ سَلَامَهُمْ قِيلَ: مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَبِيَوْمٍ قَبْلَهُ وَبِيَوْمٍ بَعْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ الزَّائِرُ وَاقِفًا عَلَى الْقَبْرِ أَوْ عَلَى قَرِيبِهِ أَوْ بَعِيدًا بِطَرَفِ الْجَبَّانَةِ (3) وَهُمْ يَتَزَاوَرُونَ وَلَوْ مَعَ تَبَاعُدِ الْأَمْكِنَةِ لَكِنَّ الْمُعَذَّبَةَ مَحْبُوسَةٌ مَشْغُولَةٌ (4) يَأْنَسُونَ بِالزَّائِرِ وَيَفْرَحُونَ بِزِيَارَتِهِ بِلَا تَوْقِيتٍ فِي ذَلِكَ (5) وَيَعْتِبُونَ عَلَى مَنْ لَمْ يَزُرْهُمْ وَأَرْوَاحُهُمْ تَأْتِي مَنَازِلَ الْأَحْيَاءِ وَيَعْرِفُونَ أَعْمَالَهُمْ وَيَتَأَلَّمُونَ بِإِسَاءَتِهِمْ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِحَسَنَاتِهِمْ تَارَةً بِعَرْضِ ذَلِكَ إلَيْهِمْ وَأُخْرَى بِالِاسْتِخْبَارِ عَمَّنْ مَاتَ بَعْدَهُمْ وَقَدْ وَرَدَ عَرْضُ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فَيَفْرَحُونَ بِالْحَسَنَاتِ وَيَحْزَنُونَ بِالسَّيِّئَاتِ (6) يَتَأَلَّمُونَ بِشِكَايَةِ الْحَيِّ مِنْ أَحَدٍ ظُلْمًا وَأَذِيَّةً (7) الْأَرْوَاحُ مُرْسَلَةٌ تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَأَرْوَاحُ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَفْنِيَةِ قُبُورِهِمْ قِيلَ: هَذَا أَصَحُّ وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ فِي قَبْرِهِ وَمِنْهُمْ مِنْ يُحْبَسُ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَصِلْ رُوحُهُ إلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَبَعْضٌ فِي نَهْرِ الدَّمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ (8) عَدَمُ سُؤَالِ الْقَبْرِ مُخْتَصٌّ بِشُهَدَاءِ الْمَعْرَكَةِ وَقِيلَ: بِالْعُمُومِ جَمِيعًا (9) أَطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ يَتَزَوَّجُونَ فِي الْآخِرَةِ كَالْبَنَاتِ اللَّوَاتِي مِتْنَ أَبْكَارًا (10) يُعَذَّبُونَ بِالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ (11) بِنَاءُ الْبَيْتِ أَوْ الْقُبَّةِ أَوْ نَحْوِهِمَا مَكْرُوهٌ (12) أَنَّ أَحَدَ الصَّدِيقَيْنِ إذَا أَذْنَبَ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً تَنْقَلِبُ صَدَاقَتُهُمَا عَدَاوَةٌ.

(وَالْكَبِيرَةُ) قِيلَ: عَنْ أَبِي الْبَقَاءِ هِيَ مِنْ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ الَّتِي لَا تَكَادُ يُذْكَرُ الْمَوْصُوفُ مَعَهَا، وَالْأَقْرَبُ

ص: 184

أَنَّهَا كُلُّ ذَنْبٍ رَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ حَدًّا أَوْ صَرَّحَ بِالْوَعِيدِ.

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: قَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهَا فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهَا تِسْعٌ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ وَالزِّنَا وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ وَالسِّحْرُ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَالْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ وَزَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَكْلَ الرِّبَا وَزَادَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - السَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ انْتَهَى - وَأَقُولُ وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ وَزَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الْإِيَاسَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَالْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الرُّجُوعَ إلَى الْأَعْرَابِيَّةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ اسْتِحْلَالَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتَكُمْ، مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ لَمْ يَعْمَلْ هَؤُلَاءِ الْكَبَائِرَ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ إلَّا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ فِي دَارٍ مَصَارِعُ أَبْوَابِهَا مِنْ ذَهَبٍ.

زَادَ الدَّوَانِيُّ عَنْ الرُّويَانِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ اللِّوَاطَةَ وَأَخْذَ الْمَالِ غَصْبًا قِيمَتُهُ دِينَارٌ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَالْإِفْطَارَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَقَطْعَ الرَّحِمِ وَالْخِيَانَةَ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَتَقْدِيمَ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرَهَا عَنْ وَقْتِهَا وَضَرْبَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْدًا وَسَبَّ الصَّحَابَةِ وَكِتْمَانَ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ وَأَخْذَ الرِّشْوَةِ وَالْقِيَادَةَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالسِّعَايَةَ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَمَنْعَ الزَّكَاةِ وَتَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَنِسْيَانَ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ وَإِحْرَاقَ الْحَيَوَانِ وَامْتِنَاعَ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ وَالْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِهَانَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ، وَالظِّهَارَ وَأَكْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ - فَإِنْ قِيلَ: أَنَّ الْعَدَدَ الْوَاقِعَ فِي كُلِّ رِوَايَةٍ سِيَّمَا مَا صَرَّحَ فِيهَا بِنَحْوِ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ يَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِمَا وَقَعَ فِيهِ فَكَيْفَ التَّطْبِيقُ بَيْنَهُمَا - قُلْنَا: قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْقَاضِي: لَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ عَدَدُ الْكَبَائِرِ هُنَا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ سَبْعًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْحَصْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ لَا يُفِيدُ الْحَصْرَ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي النَّصِّ لَا يَرِدُ ابْتِدَاءً.

وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَصَعْبٌ إذْ مَفْهُومُ اللَّقَبِ وَمَفْهُومُ الْعَدَدِ وَاقِعٌ لَيْسَ لَهُمَا مِنْ دَافِعٍ وَأَيْضًا إذَا ثَبَتَ مَا قِيلَ: أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا فَالْإِشْكَالُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مَعًا إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَفْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمَنْطُوقَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ كُلِّ حَدِيثٍ لِوَاقِعَةٍ أَوْ جَوَابٍ لِحَادِثَةٍ - فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عَرَفْنَا مِمَّا ذَكَرْت أَنَّ بَعْضَهَا بِالْأَحَادِيثِ وَبَعْضَهَا بِغَيْرِهَا كَمَا نَقَلَ الدَّوَانِيُّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الرَّأْيُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ - قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ كُلُّ ذَلِكَ أَوْ بَعْضُهُ مِنْ أَحَادِيثَ لَمْ نَقِفْ عَلَيْهَا وَعَدَمُ وِجْدَانِنَا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى عَدَمِ الْوُجُودِ مُطْلَقًا وَيَجُوزُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ نَصُّ كُلِّ عَامٍّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ كُلُّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَفْرَادِهِ وَمِصْدَاقِهِ (لَا تُخْرِجُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْإِيمَانِ) وَلَوْ مُصِرًّا عَلَيْهَا لِبَقَاءِ التَّصْدِيقِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ فَإِنْ قِيلَ: وَكَذَا عِنْدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ قُلْنَا: مُرَادُهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ مُجَاهِرٍ وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ بِكَافِرٍ مُطْلَقًا (وَلَا تُدْخِلُهُ فِي الْكُفْرِ) خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا الْمُذْنِبُ كَافِرٌ (وَلَا تُخَلِّدُهُ) أَيْ الْكَبِيرَةُ (فِي النَّارِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ الْإِحْسَانِ وقَوْله تَعَالَى - {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]- خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ هَذَا إنْ قُدِّرَ لَهُ الدُّخُولُ إذْ يَجُوزُ لِبَعْضٍ أَنْ لَا يَدْخُلَ أَصْلًا لِأَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.

(وَلَا تُحْبِطُ طَاعَتَهُ)

ص: 185

أَيْ لَا تُبْطِلُ طَاعَتَهُ قَالَ بَعْضُ الْأَسَاتِذَةِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا حُبُوطَ لِطَاعَةِ الْمُؤْمِنِ بِمَعْصِيَتِهِ وَلَا لِمَعْصِيَتِهِ بِطَاعَتِهِ وَمَنْ قَالَ بِحَبْطِ الْأَقَلِّ بِالْأَكْثَرِ كَأَبِي هَاشِمٍ أَوْ بِدُونِهِ كَأَبِي عَلِيٍّ فَقَدْ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ الْحَبْطِ وَالْإِبْطَالِ هُوَ الِانْتِفَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ فَالْمُؤْمِنُ الْمُذْنِبُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ فَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ فَلَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا يَكُونُ الْمُخَالِفُ مُخْتَصًّا بِمَا ذَكَرَهُ قَالَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ الْخَوَارِجُ تُكَفِّرُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَتْلِ الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ لِارْتِكَابِهِ كَبِيرَةً وَأَيْضًا نَعَمْ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَبْطُ لَكِنْ ضَرَرُ الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا مَعَ الْإِيمَانِ مُتَحَقِّقٌ كَتَحَقُّقِ نَفْعِ الطَّاعَةِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ (وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ) بِمَحْضِ عَدْلِهِ (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لَعَلَّ الْمُرَادَ مُطْلَقُ الْكُفْرِ مَجَازًا بِذِكْرِ الْخَاصِّ وَإِرَادَةِ الْعَامِّ أَوْ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ مُرَادٌ بِالْمُقَايَسَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ فَافْهَمْ وَقِيلَ: هُنَا وَلَوْ نَبِيَّنَا، بِدَلِيلِ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] أَقُولُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ بَلْ فَرْضُ مُحَالٍ وَهُوَ مُحَالٌ وَالْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ هُوَ التَّعْرِيضُ.

قَالَ فِي الْإِتْقَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ خِطَابُ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَيْرُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى - {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} [يونس: 94]- حَاشَاهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الشَّكِّ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ التَّعْرِيضُ بِالْكُفَّارِ فَحَاشَا ثُمَّ حَاشَا مِنْ احْتِمَالِ صُدُورِ الشَّكِّ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَدَمُ جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا عَقْلًا فَقِيلَ: يَجُوزُ وَقِيلَ: لَا لِاسْتِلْزَامِهِ عَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ وَالْحِكْمَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّفْرِقَةِ وَالْكُفْرُ نِهَايَةٌ فِي الْجِنَايَةِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ وَكَذَا وَكَذَا وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ التَّفْرِقَةِ مُتَضَمِّنًا لِحِكَمٍ خَفِيَّةٍ كَمَا فِي خَلْقِ الْكُفْرِ وَالشُّرُورِ وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بِنَحْوِ إحْسَانٍ لِلْمُحْسِنِ وَبِلَا إحْسَانٍ لِلْمُسِيءِ وَنِهَايَةُ الْكَرَمِ تَقْتَضِي الْعَفْوَ عَنْ نِهَايَةِ الْجِنَايَةِ (وَيَغْفِرُ) بِفَضْلِهِ وَلُطْفِهِ (مَا دُونَ ذَلِكَ) أَيْ الشِّرْكِ أَيْ مُطْلَقِ الْكُفْرِ (لِمَنْ يَشَاءُ) مِنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَلَوْ بِلَا تَوْبَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ كَمَا لَا يَجِبُ الثَّوَابُ عَلَى الطَّاعَةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ فِي الْكَبِيرَةِ بِلَا تَوْبَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ وَأَوْعَدَ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ بِالْعِقَابِ فَلَوْ لَمْ يُعَاقِبْ لَزِمَ الْخُلْفُ فِي وَعِيدِهِ وَالْكَذِبُ فِي خَبَرِهِ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ عُمُومِ الْوَعِيدِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ دُونَ الْوُجُوبِ أُورِدَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ جَوَازُ الْخُلْفِ وَالْكَذِبِ وَهُمَا مُحَالَانِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمْكَانُ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَدُفِعَ بِأَنَّهُمَا مِنْ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الَّتِي تَشْمَلُهَا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَرُدَّ بِأَنَّهُمَا نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ فَلَا تَشْمَلُهُمَا الْقُدْرَةُ كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ أَقُولُ: إنَّ النَّقْصَ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى وَأَمَّا فِي نَفْسِهِ فَمُمْكِنٌ وَإِنْ مُمْتَنِعًا فِي ذَاتِهِ كَانَ صُدُورُهُ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى مُحَالًا فَالْمُحَالُ إنَّمَا هُوَ مُحَالٌ بِالْغَيْرِ لَا مُحَالٌ ذَاتِيٌّ وَالْمُحَالُ بِالْغَيْرِ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الْمُمْكِنِ الذَّاتِيِّ ثُمَّ قِيلَ: الْجَوَابُ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ مُطْلَقَاتِ النُّصُوصِ مُقَيَّدَاتٌ وَمُفَسَّرَاتٌ بِقُيُودِ مُقَيِّدَاتِهَا فَتُقَيَّدُ الْوَعِيدَاتُ بِعَدَمِ مَشِيئَةِ الْعَفْوِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]- مَثَلًا وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إنْشَاءُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَا الْإِخْبَارُ وَأُجِيبُ أَيْضًا بِحَمْلِ نُصُوصِ

ص: 186

الْوَعِيدِ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ لَا الْوُقُوعِ وَالِاسْتِيجَابِ أَوْ عَلَى اعْتِقَادِ الْحِلِّ أَوْ بِحَمْلِ النَّصِّ عَلَى صُدُورِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ مِنْ الْكَافِرِ بِقَرِينَةِ نُزُولِهِ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي سَبَبِ نُزُولِ - {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93]- الْآيَةُ وَاعْلَمْ أَنَّ خُلْفَ الْوَعْدِ لَيْسَ بِجَائِزٍ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ خِلَافُ الْكَرَمِ وَحَقُّ الْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ إحْسَانًا وَأَمَّا خُلْفُ الْوَعِيدِ فَظَاهِرُ مَا فِي بَحْرِ النَّسَفِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَجَائِزٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ وَعِيدِهِ يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ وَأَنْ يَغْفِرَ وَلَا يُعَاقِبَ.

وَحَاصِلُ مَا نَقَلَ الدَّوَانِيُّ عَنْ الْوَسِيطِ لِلْوَاحِدِيِّ جَوَازُهُ لِمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلِهِ ثَوَابًا فَهُوَ مُنَجَّزٌ لَهُ وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلِهِ عِقَابًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّ ذَلِكَ عَيْبًا بَلْ كَرَمًا وَفَضْلًا بَلْ هُوَ مُسْتَحْسَنٌ عِنْدَ كُلٍّ كَمَا قَالَ الْمَوْصِلِيُّ

إذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أَنْجَزَ وَعْدَهُ

وَإِنْ أَوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُهُ

، وَلَقَدْ أَحْسَنَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ بِقَوْلِهِ إنَّ الْوَعْدَ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَخْلُفُ وَالْوَعِيدُ حَقُّهُ عَلَى الْعِبَادِ فَإِنْ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَأَوْلَاهُمَا الْعَفْوُ وَالْكَرَمُ لِأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: الْمُحَقِّقُونَ عَلَى خِلَافِهِ كَيْفَ وَهُوَ تَبْدِيلٌ لِلْقَوْلِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] وَقَالَ الْخَيَالِيُّ: بَلْ كَذِبٌ مُنْتَفٍ بِالْإِجْمَاعِ.

ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ مُرَادَهُمْ الْكَرِيمُ إذَا أَخْبَرَ بِالْوَعِيدِ فَاللَّائِقُ بِشَأْنِهِ أَنْ يَبْقَى إخْبَارُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْوَعْدِ فَلَا كَذِبَ وَلَا تَبْدِيلَ انْتَهَى وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْبَعْضِ أَنَّهُ لَا كَذِبَ فِي الْمُسْتَقِلِّ وَإِنْ أُورِدَ عَلَيْهِ وَحَاصِلُ كَلَامِ الدَّوَانِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِخُلْفٍ لِأَنَّ نُصُوصَ الْوَعِيدِ إمَّا إنْشَاءُ تَهْدِيدٍ أَوْ مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ أَيْ الْمُذْنِبُ الْمَغْفُورُ بِالدَّلَائِلِ الْمُفَصَّلَةِ أَوْ بَيَانٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ لَا الْوُقُوعِ فَحَاصِلُ كَلَامِ الدَّوَانِيِّ هُوَ الْجَوَازُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقِ الْخُلْفِ (وَيَجُوزُ الْعِقَابُ عَلَى الصَّغِيرَةِ) .

قَالَ الْخَيَالِيُّ: مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِالْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ لِعَدَمِ قِيَامِ الدَّلِيلِ وَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مِنْ الْأَدِلَّةِ فَلِإِثْبَاتِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الدَّعْوَى مَعَ أَنَّ الْخَصْمَ لَا يُنْكِرُهُ فَتَأَمَّلْ انْتَهَى.

وَأَدِلَّةُ الشَّارِحِ قَوْله تَعَالَى - {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]- لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ جَوَازِ الْعِقَابِ وقَوْله تَعَالَى - {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]- وَالْإِحْصَاءُ إنَّمَا يَكُونُ لِلسُّؤَالِ وَالْمُجَازَاةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَغْفِرْ الصَّغِيرَ وَلَمْ يَقَعْ الْعَذَابُ عَلَيْهَا فَأَيْنَ يَظْهَرُ كَوْنُهَا عِصْيَانًا وَأَيْضًا الْمُجَازَاةُ عَيْنُ وُقُوعِ الْعِقَابِ وَأَنَّ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]- يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فَتَأَمَّلْ عَلَى مِثْلِ مَا ذَكَرَ (وَلَوْ مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ) وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]- فَمَحْمُولٌ عَلَى الْكُفْرِ إذْ الْكَبِيرَةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ الْكُفْرُ لِكَمَالِهِ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَمَالِ وَبِهِ تَنْدَفِعُ شُبْهَةُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ التَّعْذِيبِ (وَالْعَفْوُ) أَيْ تَرْكِ الْعُقُوبَةِ وَالسَّتْرُ عَلَيْهِ (عَنْ الْكَبِيرَةِ وَلَوْ بِلَا تَوْبَةٍ) قِيلَ: إنَّ الْكَبِيرَةَ كُفْرٌ فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا مَقْبُولَةٌ قَطْعًا وَإِنْ مِنْ غَيْرِهَا فَمَرْجُوَّةٌ أَقُولُ: ظَاهِرُ النُّصُوصِ هُوَ الْقَطْعُ مُطْلَقًا بِلَا تَفْرِقَةٍ إلَّا إذَا لَمْ تُقَارَنْ بِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا ثُمَّ وَجْهُ الْعَفْوِ بِلَا تَوْبَةٍ أَنَّ الْعِقَابَ حَقُّهُ تَعَالَى فَلَهُ إسْقَاطُهُ وَيَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ مِثْلُ {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ - وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 25 - 15] إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا (وَاَللَّهُ تَعَالَى يُجِيبُ الدَّعَوَاتِ) وَلَوْ مِنْ كَافِرٍ عِنْدَ بَعْضٍ (وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ مَشْرُوطٌ بِالطَّلَبِ وَالثَّانِي وَلَوْ بِلَا طَلَبٍ (تَفَضُّلًا) عَلَى عِبَادِهِ لَا وُجُوبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]- {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة: 186]

ص: 187

- {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ» .

«الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ» لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَ شَرَائِطَ قَبُولِ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّرَةَ فِي كُتُبِ الْعُلَمَاءِ كَالْحِصْنِ لِلْجَزَرِيِّ وَيَنْفِي مَوَانِعَهُ الْمُقَرَّرَةَ فِي أَلْسِنَتِهِمْ وَيُقَارِنُ فِي أَوْقَاتِ قَبُولِهِ بَلْ فِي أَمْكِنَتِهِ حَتَّى يَكُونَ فِي مَظِنَّةِ الْقَبُولِ وَحَيِّزِهِ.

وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا نَفْعَ لِلدُّعَاءِ قَدْ كَانَ مَا هُوَ كَائِنٌ وَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ وَأُجِيبُ بِنَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُهْدُوا إلَى مَوْتَاكُمْ الدُّعَاءَ وَالصَّدَقَةَ» اعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ يُسَهِّلُ الْقَضَاءَ الْمُبْرَمَ وَيَدْفَعُ نَفْسَ الْقَضَاءِ الْمُعَلَّقَ نَزَلَ أَوْ تَهَيَّأَ لِلنُّزُولِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ تَغْيِيرَ قَضَائِهِ تَعَالَى مُمْتَنِعٌ فَالسَّعْيُ لِدَفْعِهِ بِنَحْوِ الدُّعَاءِ مِنْ عَدَمِ اعْتِرَافِ قَضَائِهِ تَعَالَى.

وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ» قُلْت: إنَّ الدُّعَاءَ أَيْضًا مِنْ قَضَائِهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْمُسَبَّبُ مَعَ سَبَبِهِ مِنْ قَضَائِهِ تَعَالَى فَاَللَّهُ تَعَالَى قَضَى بِكَوْنِ الدُّعَاءِ سَبَبًا مُزِيلًا.

وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ» وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَيَسْتَعْمِلُ الْعَبْدُ الْحَذَرَ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ وَأَدْوِيَةِ الْأَمْرَاضِ إلَى آخِرِهِ فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ عَلَيْهِ خِلَافَ قَضَائِهِ وَعِلْمِهِ أَوْ كَانَ قَضَاءً مُبْرَمًا فَلَا يَنْفَعُ قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْعُهُ مُؤَخَّرًا إلَى الْآخِرَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهُ تَعَالَى عَنْ الدُّعَاءِ الْمَرْعِيِّ شَرَائِطُهُ وَالْمَنْفِيُّ مَوَانِعُهُ وَلَا يَلْزَمُ الْجَبْرُ عَلَى قَاعِدَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الْجَبْرِ الْمُتَوَسِّطِ فَإِنْ قِيلَ: رُبَّ مُضْطَرٍّ وَضَرِيرٍ عَاجِزٍ يَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ الْقَبُولِ طُولَ عُمُرِهِ.

قُلْنَا يَخْرُجُ لَهُ الْجَوَابُ مِمَّا ذَكَرْنَا وَأَنَّ بَعْضَ الْمُسْتَجَابِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَفِيًّا بِحَيْثُ لَوْلَاهُ لَتَظْهَرُ الْمَخَاوِفُ وَالْمَكَارِهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا فِي حَقِّ شَيْءٍ آخَرَ أَنْفَعَ لَهُ وَأَنْ يَكُونَ وَقْتُهُ بَعِيدًا فَيَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يُقْبَلْ وَقَدْ قُبِلَ لَكِنْ ظَهَرَ أَثَرُهُ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ كَمَا قِيلَ: فِي اسْتِجَابَةِ دُعَاءِ نُوحٍ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ ظَهَرَ أَثَرُهُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَاضْمَحَلَّ بِهِ الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْله تَعَالَى - {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]- أَنَّ لَفْظَةَ كُلٍّ تَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالِاسْتِغْرَاقَ وَرُبَّ شَخْصٍ يَدْعُو كَثِيرًا وَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ الْقَبُولِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى مَا يُقَالُ أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ سُؤَالٍ لَكِنَّ الْبَعْضَ لَا يَصِلُ لِلْمَوَانِعِ وَالْحَجْبِ لِعَدَمِ الْقَابِلِيَّةِ وَبِلَا احْتِيَاجٍ إلَى تَخْصِيصِ خِطَابِهِ - مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَإِنْ قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّ مُعْظَمَ الْأَدْعِيَةِ وَأَكْثَرَهَا لِدَفْعِ الْبَلَايَا وَالْمَصَائِبِ وَهُوَ مُنَافٍ لِلصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى اللَّهِ قُلْنَا: وَإِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الزُّهَّادِ إلَى أَفْضَلِيَّةِ تَرْكِ الدُّعَاءِ اسْتِسْلَامًا لِلْقَضَاءِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ

ص: 188

الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ الْفَتَاوَى أَفْضَلِيَّةُ الدُّعَاءِ واستحبابيته كَمَا نُقِلَ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَأَنَا أَقُولُ: الْمُنَافِي لِلصَّبْرِ هُوَ التَّضَجُّرُ وَالتَّشَكِّي وَعَدَمُ تَحَمُّلِ الْمِحَنِ لَا الْمُبَاشَرَةُ لِلسَّبَبِ الْعَادِيِّ مِنْهُ تَعَالَى وَأَيْضًا صَرَّحَ بِعَدَمِ تَنَافِي التَّشَبُّثِ بِالْأَسْبَابِ الْوَهْمِيَّةِ لِلتَّوَكُّلِ كَالْكَيِّ بِهَذَا الشَّرْطِ فَضْلًا عَنْ الظَّنِّيَّةِ بَلْ الْقَطْعِيَّةِ وَبِالْجُمْلَةِ الْمُبَاشَرَةُ لِلْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَوْ ظَنِّيَّةً بَلْ وَهْمِيَّةً لَا تُنَافِي التَّوَكُّلَ وَأَمَّا إجَابَةُ دَعْوَةِ الْكَافِرِ فَمَنَعَهَا الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} [الرعد: 14]- وَلِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ.

وَالصَّحِيحُ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَنَا هُوَ الْجَوَازُ لِحَدِيثِ «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ» وَلِأَنَّهُ تَعَالَى حِينَ قَالَ إبْلِيسُ - {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14]{قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الأعراف: 15]- فَأَجَابَ دُعَاءَهُ وَظَاهِرُ مَا فِي التتارخانية هُوَ الْإِطْلَاقُ وَصَرَّحَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِ الْأَمَالِي بِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقْبَلُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا قِيلَ: وَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي تَوْفِيقِ النُّصُوصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَاحِدٌ) قَالَ فِي تَهْذِيبِ الْكَلَامِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَبِالْعَكْسِ وَأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ وَمَرْجِعُهُمَا إلَى الْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ لَكِنْ لِتَغْيِيرِ مَفْهُومِهِمَا قَدْ يَتَعَاطَفَانِ مِثْلُ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35]- {وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] وَلِإِطْلَاقِ الْإِسْلَامِ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ الظَّاهِرِ، قَدْ ثَبَتَ مَعَ الْإِسْلَامِ نَفْيُ الْإِيمَانِ مِثْلُ - {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]- وَلِكَوْنِ السُّؤَالِ عَنْ مُتَعَلِّقِ الْإِيمَانِ وَعَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ» إلَى آخِرِهِ «وَالْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» إلَى آخِرِهِ.

(وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْوَاحِدُ (تَصْدِيقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وَالتَّصْدِيقُ إدْرَاكُ الْحُكْمِ أَيْ الْوُقُوعِ أَوْ اللَّا وُقُوعٍ يَعْنِي الْجُزْءَ الْأَخِيرَ لِلْقَضِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ التَّفْتَازَانِيِّ فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّصْدِيقُ اللُّغَوِيُّ وَالْمِيزَانِيُّ وَالْإِيمَانِيُّ لَا مُجَرَّدُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلِ لِبَعْضِ الْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]- وَقَوْلُهُ - {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18]- وَقَوْلُهُ - {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]- لَكِنْ أَوْرَدَ بِأَنَّ عَدَمَ إيمَانِهِمْ لِنَحْوِ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ لِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقُولُ: يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ رُكْنٍ آخَرَ لِلْإِيمَانِ أَوْ لِعَدَمِ شَرْطِهِ كَالْإِقْرَارِ شَطْرًا أَوْ شَرْطًا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ أَوْ لِإِنْكَارِ مَا عَلِمَهُ أَوْ لِإِنْكَارِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُعْتَقَدَاتِ الضَّرُورِيَّةِ

وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ الْإِذْعَانُ فِي الْمِيزَانِيِّ وَكَانَ عِلْمًا مُجَرَّدًا لَزِمَ عَدَمُ كَوْنِ الْإِيمَانِ الِاسْتِدْلَالِيِّ إيمَانًا إذْ اللَّازِمُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ حِينَئِذٍ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِلَا قَبُولٍ وَالْمَطْلُوبُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ مَعَ الْقَبُولِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ رَئِيسِهِمْ ابْنِ سِينَا اعْتِبَارُ الْقَبُولِ فِي التَّصْدِيقِ فَمَا يُقَالُ فِي الْجَوَابِ الْعِلْمُ الْمُجَرَّدُ نَتِيجَةُ الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ التَّسْلِيمُ وَالرِّضَا يَعْنِي الْقَبُولَ تَكَلُّفٌ بَارِدٌ وَخِلَافُ نَصِّ رَئِيسِهِمْ وَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ مِنْ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ مَكَانَ التَّصْدِيقِ فَالْمُرَادُ هُوَ الْعِلْمُ التَّصْدِيقِيُّ.

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ نَقْلٌ وَلِهَذَا يَمْتَثِلُونَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَاسْتِفْسَارٍ وَإِنَّمَا خَصَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ مَخْصُوصَةٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ نُقِلَ إلَى مَعْنًى آخَرَ لَمَا جَازَ الْخِطَابُ بِلَا بَيَانٍ وَبَيَانُ التَّفْسِيرِ فِي مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ تَأَخُّرُهُ

فَإِنْ قِيلَ: التَّصْدِيقُ قِسْمٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ فِي مُخْتَارِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ مَأْمُورًا وَالْمَأْمُورُ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا قُلْنَا: قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ بَلْ أَنْ يَصِحَّ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِهِ وَكَسْبِهِ بِالِاخْتِيَارِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ كَيْفِيَّةً كَالْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَغَيْرِهِمَا كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَغَايَتُهُ كَوْنُ التَّصْدِيقِ حَاصِلًا بِالِاخْتِيَارِ وَمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ وَأَمَّا أَنَّهُ مَعْنًى غَيْرُ مَا جُعِلَ فِي الْمَنْطِقِ مُقَابِلًا لِلتَّصَوُّرِ وَفُسِّرَ بكر ويدن فَلَا

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا اُعْتُبِرَ الِاخْتِيَارُ فِي التَّصْدِيقِ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ إيمَانُ نَحْوِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ لَزِمَهُ التَّصْدِيقُ ضَرُورَةً بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الْمُعْجِزَةِ قُلْنَا: إمَّا مُكْتَسِبٌ بِالِاخْتِيَارِ

ص: 189

غَايَتُهُ لَا يَعْلَمُ كَسْبَهُ أَوْ مَأْمُورٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَحْصِيلِهِ بِالِاخْتِيَارِ (فِي جَمِيعِ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ) احْتِرَازٌ عَمَّا خَفِيَ كَالِاجْتِهَادِيَّاتِ (مَجِيئُهُ بِهِ) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فُسِّرَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ بِقَوْلِهِ اُشْتُهِرَ كَوْنُهُ مِنْ الدِّينِ بِحَيْثُ يَعْلَمُهُ الْعَامَّةُ بِلَا افْتِقَارٍ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ كَوُجُودِ الصَّانِعِ وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَيَكْفِي الْإِجْمَالُ فِيمَا لُوحِظَ إجْمَالًا فَلَا يَنْحَطُّ عَنْ دَرَجَةِ الْإِيمَانِ التَّفْصِيلِيِّ وَيُشْتَرَطُ التَّفْصِيلُ فِيمَا لُوحِظَ تَفْصِيلًا حَتَّى لَوْ لَمْ يُصَدِّقْ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عِنْدَ السُّؤَالِ كَانَ كَافِرًا وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا لَوْ جَهِلَ بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ (وَالْإِقْرَارُ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْجَمِيعِ بِاللِّسَانِ حَقِيقَةً لِلْقَادِرِ أَوْ حُكْمًا لِلْعَاجِزِ كَالْأَخْرَسِ

اعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ أَنَّ الْإِيمَانَ هَلْ هُوَ مِنْ الْمَاهِيَّاتِ الْبَسِيطَةِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ فَقَطْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عَلَمِ الْهُدَى أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ لَعَلَّ هَذَا مَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ إلَى أَنَّهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ فِي الدُّنْيَا وَعَبَّرَ عَنْهُ حَفِيدُهُ هُوَ مُخْتَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَوْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ إقْرَارٌ بِلَا تَرْكٍ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ فَمُسْلِمٌ أَوْ مِنْ الْمُرَكَّبَةِ وَحِينَئِذٍ إمَّا ثُنَائِيَّةٌ أَعْنِي التَّصْدِيقَ وَالْإِقْرَارَ وَلَوْ مَرَّةً وَخَفِيَّةً وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فِي بَحْرِ النَّسَفِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ.

وَقَالَ حَفِيدٌ السَّعْدُ: مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ لَكِنْ قَالَ فِي الْأُصُولِ التَّصْدِيقُ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَالْإِقْرَارُ رُكْنٌ زَائِدٌ قَدْ يَحْتَمِلُهُ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ وَأَمَّا فِي حَالِ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ فَالتَّصْدِيقُ بَاقٍ فِي الْقَلْبِ غَايَتُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِعِلْمِهِ وَأَنَّ الْمُحَقَّقَ الَّذِي لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ نَافِيهِ فَهُوَ بَاقٍ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ.

قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ هُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَإِمَّا ثُلَاثِيَّةً وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِالْجِنَانِ وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ.

قَالَ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ: هُوَ مَذْهَبُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمَحْكِيُّ عَنْ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَيَتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ لَعَلَّ مُرَادَهُمْ مِنْ الْعَمَلِ غَيْرُ النَّوَافِلِ فَمَنْ أَخَلَّ بِالِاعْتِقَادِ فَمُنَافِقٌ وَبِالْإِقْرَارِ فَكَافِرٌ وَبِالْأَعْمَالِ فَفَاسِقٌ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ جُزْءٌ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ الْمُنَجِّي لَا مِنْ أَصْلِهِ كَمَا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ (وَالْأَعْمَالُ خَارِجَةٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ) لَا عَنْ كَمَالِهِ كَمَا عَرَفْت خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.

قَالَ الدَّوَانِيُّ: هُنَا احْتِمَالَاتٌ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ إمَّا جُزْءٌ مُقَوِّمٌ لِلْإِيمَانِ عَلَى أَنْ يُعْدَمَ بِعَدَمِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَّا جُزْءٌ مُكَمِّلٌ وَمُحَسِّنٌ لَا يُعْدَمُ بِعَدَمِهَا كَأَغْصَانِ الشَّجَرِ وَهُوَ

ص: 190

مَذْهَبُ السَّلَفِ فَالْإِيمَانُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّصْدِيقِ فَقَطْ وَبَيْنَ مَجْمُوعِ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ وَإِمَّا خَارِجَةٌ عَنْ الْإِيمَانِ لَكِنْ يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الْإِيمَانِ مَجَازًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي إلَّا بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَإِمَّا خَارِجَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ مَنْ يَقُولُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ مَعْصِيَةٌ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْخَوَارِجِ

ثُمَّ هُنَا مَذَاهِبُ أُخَرَ فَإِنَّهُ عِنْدَ الشِّيعَةِ الْمَعْرِفَةُ فَقَطْ وَعِنْدَ النَّظَّامِيَّةِ التَّسْلِيمُ فَقَطْ بِخَبَرِ إنْسَانٍ وَعِنْدَ الْكَرَّامِيَّةِ مُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ بِدُونِ التَّصْدِيقِ وَعِنْدَ الرَّقَاشِيِّ هُوَ الْإِقْرَارُ فَقَطْ بِشَرْطِ الْمَعْرِفَةِ وَبِشَرْطِ التَّصْدِيقِ عِنْدَ الْقَطَّانِ

فَجُمْلَةُ الْأَقْوَالِ تَحْقِيقًا وَاعْتِبَارًا أَحَدَ عَشَرَ لِأَنَّهُ إمَّا بَسِيطٌ وَهُوَ سَبْعَةٌ التَّصْدِيقُ فَقَطْ وَالْإِقْرَارُ فَقَطْ بِلَا شَرْطٍ وَبِشَرْطِ الْمَعْرِفَةِ وَبِشَرْطِ التَّصْدِيقِ وَالْأَعْمَالُ فَقَطْ وَالْمَعْرِفَةُ فَقَطْ وَالتَّسْلِيمُ فَقَطْ وَإِمَّا ثُنَائِيٌّ وَهُوَ اثْنَانِ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ وَكَوْنُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ التَّصْدِيقِ فَقَطْ وَبَيْنَ مَجْمُوعِ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ وَإِمَّا ثُلَاثِيٌّ وَهُوَ اثْنَانِ أَيْضًا التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ جُزْءًا مِنْ أَصْلِهِ أَوْ مِنْ كَمَالِهِ نُقِلَ عَنْ الْكَرْمَانِيِّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ هَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَهُوَ الْكَلِمَةُ فَإِذَا قَالَهَا حَكَمْنَا بِإِيمَانِهِ اتِّفَاقًا وَإِذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ خَارِجَةً عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ (فَلَا يَزِيدُ) حَقِيقَتُهُ بِالطَّاعَاتِ (وَلَا يَنْقُصُ) بِالْمَعَاصِي فَهَذَا فَرْعُ خُرُوجِ الْأَعْمَالِ عَنْ مَاهِيَّتِه كَمَا نُقِلَ عَنْ الرَّازِيّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلتَّصْدِيقِ الْبَالِغِ حَدَّ الْجَزْمِ وَالْإِذْعَانِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ احْتِمَالَ النَّقِيضِ وَالتَّصْدِيقُ الْيَقِينِيُّ لَا يَحْتَمِلُهُ وَأَنَّ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ تَقْتَضِي نُقْصَانَ الْكُفْرِ وَنُقْصَانُهُ زِيَادَةَ الْكُفْرِ وَهُوَ مُحَالٌ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ وَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.

قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ وَالْحَقُّ قَبُولُ التَّصْدِيقِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ كَإِيمَانِ النَّبِيِّ وَأُمَّتِهِ وَإِيمَانِ الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُقَلِّدِ بَلْ إيمَانِ الْوَاصِلِ بِالْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وَقَدْ قَسَّمُوا الْيَقِينَ إلَى حَقِّ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ وَعِلْمِ الْيَقِينِ لَكِنَّ الشَّرِيفَ الْعَلَّامَةَ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ الْعَضُدُ عَلَى إرَادَةِ بَيَانِ مُرَادِهِ صَرَّحَ بِعَدَمِ التَّفَاوُت قُوَّةً وَضَعْفًا فِي الْيَقِينِيَّاتِ بِخِلَافِ الظُّنُونِ وَالسَّابِقُ إلَى الْخَاطِرِ كَوْنُهُ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عِنْدَهُمْ فَرْعُ دُخُولِ الْأَعْمَالِ فِي الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَقَدْ عَرَفْت التَّحْقِيقَ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ أَصْلِهِ بَلْ مِنْ كَمَالِهِ وَكَوْنُهَا جُزْءًا مِنْ الْكَمَالِ لَيْسَ مَنْفِيًّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا بَلْ هُوَ مُتَّفَقٌ فَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَرَّحَ إمَامُنَا الْأَعْظَمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ إيمَانُ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ جِهَةِ الْمُؤْمَنِ بِهِ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ فَمُرَادُ الْإِمَامِ مِنْ عَدَمِ الزِّيَادَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمُؤْمَنِ بِهِ لَا مِنْ قُوَّةِ ذَاتِهِ وَضَعْفِهِ وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ ذِكْرُ لُزُومِ الْجَزْمِ الْيَقِينِيِّ فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّيَّاتِ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَلِمَا نُقِلَ عَنْ صَاحِبِ النِّهَايَةِ الْأَصْلُ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ الْحَقُّ الْيَقِينِيُّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُخَالِفُهُ بَاطِلًا يَقِينًا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ - {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]- وَقَوْلِهِ - {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]- وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ الَّذِي يَخْطِرُ مَعَهُ احْتِمَالُ النَّقِيضِ بِالْبَالِ إيمَانٌ حَقِيقِيٌّ وَأَنَّ الْإِيمَانَ التَّقْلِيدِيَّ رَاجِعٌ إلَى

ص: 191

الظَّنِّ حَقِيقَةً.

وَفِي شَرْحِ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ الِاعْتِقَادُ الْمَشْهُورُ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ وَمُرَادُهُ مِنْهُ أَنَّهُ الرَّاجِعُ إلَى الظَّنِّ وَلَا نِزَاعَ فِي كِفَايَةِ الظَّنِّ فِي بَعْضِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ كَمَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَصِفَةِ التَّكْوِينِ وَتَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ بَلْ إثْبَاتِ صِفَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنَحْوِهَا وَأَيْضًا جَعَلُوا التَّصْدِيقَ الْإِيمَانِيَّ وَالْمِيزَانِيَّ مُتَّحِدَيْنِ وَالْمِيزَانِيُّ شَامِلٌ لِلظَّنِّ أَيْضًا وَأَنَّ اللَّازِمَ لِلِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ قَدْ يَكُونُ ظَنًّا فَلْيُتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ.

(وَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ مَنْ وُجِدَا) التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ (فِيهِ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا) لِتَحَقُّقِ الْإِيمَانِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِأَنْ كَانَ شَاكًّا أَوْ مُتَرَدِّدًا أَوْ خَالِي الذِّهْنِ لَكَانَ كَافِرًا وَمَنْ شَكَّ فِي إيمَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ (وَلَا يَنْبَغِي) أَيْ لَا يَلِيقُ بَلْ يَجُوزُ (أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْعُقُودِ فَيَرْفَعُ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ لِلتَّأَدُّبِ أَوْ التَّبَرُّكِ وَالْإِحَالَةِ إلَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ أَوْ لِلشَّكِّ فِي عَاقِبَتِهِ أَوْ التَّبَرِّي مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَالْإِعْجَابِ بِحَالِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ لَكِنْ الْأَوْلَى تَرْكُهُ لِإِيهَامِ الشَّكِّ وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّقَاءِ مَوَاضِعِ التُّهَمِ.

وَبِالْجُمْلَةِ نِزَاعُ الْفَرِيقَيْنِ رَاجِعٌ إلَى اللَّفْظِ (وَالْإِيمَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى) أَيْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ (مَخْلُوقٌ) كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ (كَسْبِيٌّ) أَيْ حَاصِلٌ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ بِالِاخْتِيَارِ كَصَرْفِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَقَدْ عَرَفْت حَالَ مَا يَحْصُلُ بِالضَّرُورَةِ (وَأَمَّا) الْإِيمَانُ (بِمَعْنَى هِدَايَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ إلَى مَعْرِفَتِهِ) بِلَا كَيْفٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ (فَغَيْرُ مَخْلُوقٍ) لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مِنْ التَّكْوِينِ وَهُوَ قَدِيمٌ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ قِيلَ: عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَكَذَا عَكْسُهُ.

قَالَ النَّسَفِيُّ الْإِيمَانُ فِعْلُ الْعَبْدِ بِهِدَايَةِ الرَّبِّ فَمَا مِنْ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ وَمَا مِنْ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ (وَإِيمَانُ الْمُقَلِّدِ) لِلْغَيْرِ كَالْآبَاءِ وَأَفْوَاهِ الرِّجَالِ فِي الْأَسْوَاقِ بِلَا اسْتِدْلَالٍ.

قَالَ فِي التتارخانية الْمُقَلِّدُ هُوَ الَّذِي اعْتَقَدَ جَمِيعَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بِلَا دَلِيلٍ (صَحِيحٌ) عِنْدَنَا إنْ كَانَ مُصِيبًا جَازَ مَا فِي الْحَالِ وَإِنْ احْتَمَلَ نَقِيضَهُ فِي الْمَآلِ لَكِنْ عِنْدَ خُطُورِ ذَلِكَ النَّقِيضِ بِنَحْوِ تَشْكِيكِ الْمُشَكِّكِ يَكْفُرُ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ قِيلَ: وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا تَقْلِيدَ فِي الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَنُسِبَ إلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ وَلِذَا قِيلَ: الْمُقَلِّدُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ أَصْلًا

وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي قَوْله تَعَالَى - {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} [البقرة: 170]- قُوَّةُ هَذِهِ الْآيَةِ تُعْطِي إبْطَالَ التَّقْلِيدِ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى إبْطَالِهِ فِي الْعَقَائِدِ وَعَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ لَا ضَالَّ أَضَلَّ مِنْ الْمُقَلِّدِ وَعَنْ الْقَاضِي أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي التَّوْحِيدِ أَقُولُ حُكِيَ عَنْ الزَّرْكَشِيّ أَنَّهُ حَكَى عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ صِحَّةَ إيمَانِ الْمُقَلِّدِ وَعَنْ ابْنِ نَاجِيٍّ وَأَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ نِسْبَةُ الصِّحَّةِ إلَى الْجُمْهُورِ قِيلَ: إنَّ عَلَيْهِ مُحَقِّقِي أَهْلِ السُّنَّةِ وَقِيلَ: الِاتِّفَاقُ عَلَى قَبُولِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى قَبُولِهِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]

ص: 192

- وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَدَخَلَ مَسْجِدَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ» وَأَنَّ الْإِيمَانَ مُطْلَقُ التَّصْدِيقِ لَا التَّصْدِيقُ الْمُقَيَّدُ بِحُصُولِهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - يَكْتَفُونَ بِالْإِقْرَارِ وَالِانْقِيَادِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ طَلَبُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَيْفَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ تَحْتَ ظِلِّ السَّيْفِ وَظَاهِرُ عَدَمِ حُصُولِ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا ذَكَرَ الدَّوَانِيُّ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَنْفِي صِحَّةَ أَصْلِ الْإِيمَانِ بَلْ يَنْفِي كَمَالَهُ وَيُوجِبُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا كَمَا هُوَ الْمُلْتَزَمُ هُنَا وَأَيْضًا عَدَمُ الصِّحَّةِ مُسْتَلْزِمٌ لِإِكْفَارِ جَمِيعِ الْعَوَامّ وَارْتِدَادِهِمْ وَحُرْمَةِ ذَبِيحَتِهِمْ وَأَنْكِحَتِهِمْ

ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ مُرَادَ النَّافِينَ نَفْيُ الصِّحَّةِ الْكَامِلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ إثْمٌ وَمُرَادُ الْمُصَحِّحِينَ هُوَ أَصْلُ الْجَوَازِ وَإِنْ كَانَ آثِمًا وَبِهِ تَنْدَفِعُ شُبْهَةُ أَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُخَالِفِينَ (وَلَكِنَّهُ) أَيْ الْمُقَلِّدَ (آثِمٌ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ) لِتَرْكِهِ النَّظَرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَضُدُ فِي عَقَائِدِهِ أَجْمَعَ السَّلَفُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ شَرْعًا.

وَقَالَ الدَّوَانِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50]- {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]- إلَى آخِرِهِ وَبِهِ يَبْطُلُ مَا يُقَالُ: إنَّهُ لَيْسَ بِآثِمٍ أَصْلًا وَأَمَّا مَا يُقَالُ: إنَّ الْإِثْمَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ لَهُ أَهْلِيَّةُ فَهْمِ النَّظَرِ فَلَعَلَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ بِمُلَاحَظَةِ قَاعِدَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا نُقِلَ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَالْقُشَيْرِيِّ وَالْعَارِفِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَابْنِ رَشِيدٍ وَجَمَاعَةٍ غَيْرِ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مِنْ شُرُوطِ الْكَمَالِ فَقَطْ لَعَلَّ مُرَادَهُمْ نَفْيُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُحَرَّرَةِ بِتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَرِعَايَةِ شَرَائِطِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ تَفْصِيلًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَيْنًا وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كِفَايَةً وَإِلَّا فَإِمَّا يَلْزَمُ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ أَوْ جَهَالَةُ مُدَّعِي الْإِجْمَاعِ فَالنَّظَرُ نَحْوَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَا ذُكِرَ وَالْآخَرَ أَنْ يَحْصُلَ إجْمَالُ النَّظَرِ وَمَآلُهُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَقْرِيرِهِ عِنْدَ السُّؤَالِ بِعِبَارَةٍ مُهَذَّبَةٍ كَالِانْتِقَالِ مِنْ الْأَثَرِ إلَى الْمُؤَثِّرِ.

قِيلَ: هَذَا حَاصِلٌ لِأَكْثَرِ الْعَوَامّ حَتَّى الصِّبْيَانِ وَهَذَا قَرِيبٌ لِمَا فِي التتارخانية الْإِيمَانُ بِالتَّفْصِيلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ إذَا آمَنَ فِي الْجُمْلَةِ كَفَى وَفِيهِ عَنْ النَّوَازِلِ إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعِبَارَةَ وَهُوَ بِحَالٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ قَرَّرَ الْمُعْتَقِدَاتِ وَقَالَ: كُنْت عَرَفْت أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا كَانَ مُؤْمِنًا وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ بِذَلِكَ فَلَا دِينَ لَهُ وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَيُجَدِّدُ نِكَاحَهُ وَفِيهِ أَيْضًا وَإِذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ كَلِمَاتِ الْإِيمَانِ وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ لَا دِينَ لَهُ وَإِذَا آمَنَ جَدَّدَ نِكَاحَهُ وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَعَلِمَ جَمِيعَ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفَسِّرُهَا وَلَكِنْ يَتَعَقَّلُ أَمْرَ مَعَاشِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ وَفَارَقَ امْرَأَتَهُ وَلَا يَرِثُ مِنْ أَبَوَيْهِ وَنُقِلَ عَنْ الكواشي عَنْ الْفَتَاوَى لَا يَصِحُّ نِكَاحُ بَالِغَةٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى وَصْفِ الْإِيمَانِ بِوَلَدْ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَوْ بِمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ وَلَوْ بَلَغَتْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ ارْتَفَعَ نِكَاحُهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ وَهَذِهِ بَلْوَى عَظِيمَةٌ وَلَهَا كَثْرَةُ عُمُومٍ وَالنَّاسُ عَنْهَا غَافِلُونَ انْتَهَى

فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْت مُنَافٍ لِمَا فِي بَعْضِ أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ رحمهم الله مِنْ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ تَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَنِسْبَةِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيِّ وَنِسْبَةِ وُجُوبِ التَّقْلِيدِ وَحُرْمَةِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ إلَى طَائِفَةٍ قُلْنَا: ذَلِكَ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا بَلْ يُؤَيِّدُهُ إذْ مَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ إثْمًا.

قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ وَأَثَرُ الْأَقْدَامِ عَلَى الْمَسِيرِ فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ هَلَّا تَدُلَّانِ عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ حِينَ سُئِلَ: بِمَ عَرَفْت رَبَّك؟ عَرَفْت بِوَارِدَاتٍ تَعْجِزُ النَّفْسُ عَنْ عَدَمِ قَبُولِهَا.

وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: - عَلَى آبَائِهِ الْكِرَامِ وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَرَفْت اللَّهَ تَعَالَى بِنَقْضِ الْعَزَائِمِ وَفَسْخِ الْهِمَمِ عَلَى مَا فِي شَرْحِ عَقَائِدِ الْعَضُدِ.

وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ تَرْكَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاكْتِفَاءَ بِالتَّقْلِيدِ وَإِنْ جَازَ فِي أَصْلِهِ لَكِنْ

ص: 193

قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ خَطَرِ الزَّوَالِ إذْ يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِمُجَرَّدِ تَشْكِيكِ الْمُشَكِّكِ سِيَّمَا عِنْدَ ضَعْفِ الْعَقْلِ بِقُوَّةِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَقُوَّةِ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْ زَوَالِ الْإِيمَانِ أَعَاذَنَا اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

(وَفِي)(إرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ) - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ إنْسَانٌ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْخَلْقِ لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ وَقَدْ يُشْتَرَطُ فِي الرَّسُولِ الْكِتَابُ بِخِلَافِ النَّبِيِّ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ قَالَ فِي الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ.

وَقَدْ رُوِيَ بَيَانُ عَدَدِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى عَدَدٍ فِي التَّسْمِيَةِ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ عَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. وَفِي رِوَايَةٍ مِائَتَا أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا» وَقِيلَ: الرُّسُلُ مِنْهُمْ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ وَأَوْرَدَ بِأَنَّ الْكُتُبَ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَصْحَابُهَا مُتَعَيِّنَةٌ غَيْرُ بَالِغَةٍ إلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ تَعْيِينِهِمْ وَلَوْ سُلِّمَ فَالْأَصَحُّ عَدَمُ قَصْرِ الْكُتُبِ بِهَذَا الْمَبْلَغِ وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجُوزُ تَكْرَارُ النُّزُولِ وَقِيلَ: الْخِلَافُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ أَرْبَعَةٌ تَبَايُنٌ وَتَوَافُقٌ وَعُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ وَعُمُومٌ مُطْلَقٌ.

(بِالْمُعْجِزَاتِ) جَمْعُ مُعْجِزَةٍ أَمْرٌ يَظْهَرُ بِخِلَافِ الْعَادَةِ عَلَى يَدِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ عِنْدَ تَحَدِّي الْمُنْكِرِينَ عَلَى وَجْهٍ يَعْجِزُ الْمُنْكِرُونَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (وَالْكُتُبِ) الْإِلَهِيَّةِ مُدَوَّنَةً أَوْ صُحُفًا (الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ) أَيْ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اخْتِيَارِ جَانِبِ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ (وَمِنْ الْبَشَرِ إلَى) سَائِرِ (الْبَشَرِ) أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ (حِكْمَةٌ) مَصْلَحَةٌ وَمَنْفَعَةٌ وَعَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ الْحِكْمَةُ بِالْكَسْرِ الْعَدْلُ وَالْعِلْمُ وَأَحْكَمَهُ أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ عَنْ الْفَسَادِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ (بَالِغَةٌ) عَظِيمَةٌ كَامِلَةٌ كَعَدَمِ التَّنَافُرِ وَحُسْنِ الِائْتِلَافِ وَالْإِلْفُ وَالْأُنْسُ بَيْنَ التَّجَانُسِ دُونَ التَّخَالُفِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بَيْنَ أَصْنَافِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ فَضْلًا عَنْ الْمُخَالِفِ فِي الْجِنْسِ فَإِنْ قِيلَ: الرُّسُلُ مِنْ الْبَشَرِ لَيْسَ إلَى الْبَشَرِ فَقَطْ بَلْ إلَى الْجِنِّ أَيْضًا بَلْ نَقُولُ: الرُّسُلُ لَيْسَتْ مِنْ الْبَشَرِ فَقَطْ بَلْ مِنْ الْجِنِّ كَمَا قِيلَ: فِي قَوْله تَعَالَى - {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130]- بُعِثَ إلَى كُلٍّ مِنْ الثَّقَلَيْنِ رُسُلٌ مِنْ جِنْسِهِمْ قُلْنَا: لَعَلَّ فِي لَفْظِ الْبَشَرِ الثَّانِي تَغْلِيبًا أَوْ أَنَّ الْجِنَّ مَفْهُومٌ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ أَوْ الِاكْتِفَاءِ لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ وَجْهُ الْحِكْمَةِ وَكَوْنُ الرُّسُلِ مِنْ الْجِنِّ لَيْسَ بِمُعْتَدٍّ بِهِ أَشَارَ إلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ عِنْدَ تِلْكَ الْآيَةِ لَعَلَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ لِرَدِّ مَنْ يَجْعَلُ الْإِرْسَالَ مُمْتَنِعًا كَالسَّمْنِيَّةِ وَالْبَرَاهِمَةِ وَمَنْ يَجْعَلُهُ مُمْكِنًا يَسْتَوِي طَرَفَاهُ كَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلِتَقْرِيرِ كَوْنِ الْإِرْسَالِ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا بِمَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ قَضِيَّةَ الْحِكْمَةِ تَقْتَضِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ.

كَمَا ذَكَرَ التَّفْتَازَانِيُّ فَالتَّخْصِيصُ لِمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي الْعِيَانِ يُدْرِكُهُ كُلٌّ بِالْبَيَانِ وَمِنْ شَرَائِطِ النُّبُوَّةِ كَمَالُ الْعَقْلِ وَقُوَّةُ الرَّأْيِ وَالسَّلَامَةُ عَمَّا يُنَفِّرُ الطَّبِيعَةَ السَّلِيمَةَ أَوْ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَحِكْمَةِ الْبِعْثَةِ كَمَا فِي تَهْذِيبِ الْكَلَامِ وَبِهِ يَبْطُلُ إفْرَاطُ مَا نُقِلَ فِي مَرَضِ أَيُّوبَ عليه الصلاة والسلام مِنْ نَفْرَةِ قَوْمِهِ وَقَرَابَتِهِ إلَى أَنْ أَخْرَجُوهُ مِنْ مَحَلَّتِهِ وَيَقْرَبُ إلَى ذَلِكَ مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَنْبِيَاءِ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ وَالتَّبْلِيغُ وَالْفَطَانَةُ.

(وَهُمْ) الْأَنْبِيَاءُ (مُبَرَّءُونَ) مِنْ الْبَرَاءَةِ أَيْ النَّزَاهَةِ يَعْنِي مُطَهَّرُونَ

ص: 194

(عَنْ الْكُفْرِ) بِأَنْوَاعِهِ جَلِيًّا وَخَفِيًّا (وَالْكَذِبِ) عَمْدًا بِالْإِجْمَاعِ وَسَهْوًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ (مُطْلَقًا) قَيْدٌ لَهُمَا أَيْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا كَمَا قِيلَ: فَيُرَدُّ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كُتُبِ الْقَوْمِ أَنَّ امْتِنَاعَ الْكَذِبِ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ وَجْهَ الِامْتِنَاعِ مُنَافَاةُ مُقْتَضَى الْمُعْجِزَةِ فَلَعَلَّ ذَلِكَ إمَّا قَيْدٌ لِلْكُفْرِ فَقَطْ أَوْ لِلْكَذِبِ فَقَطْ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِطْلَاقِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ فِي بَابِ التَّبْلِيغِ أَوْ التَّبْلِيغِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى التَّقْيِيدِ بِالْعَمْدِ.

(وَعَنْ الْكَبَائِرِ) وَلَوْ سَهْوًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّرِيفِ الْعَلَّامَةِ خِلَافًا لِصَاحِبِ الْمَوَاقِفِ فَإِنَّهُ قَالَ: صُدُورُهَا سَهْوًا وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ فِي التَّأْوِيلِ جَائِزٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَالتَّفْتَازَانِي قَيَّدَ بِالتَّعَمُّدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلًا وَاحِدًا فِي تَهْذِيبِهِ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ (وَالصَّغَائِرِ الْمُنَفِّرَةِ) أَيْ الصَّغِيرَةِ الَّتِي يَنْفِرُ عَنْهَا طِبَاعُ غَيْرِهِمْ (كَسَرِقَةِ) بِفَتْحٍ وَكَسْرٍ أَوْ بِفَتْحٍ أَوْ كَسْرٍ وَسُكُونٍ (لُقْمَةٍ) مِنْ الطَّعَامِ الْمُرَادُ مِنْ السَّرِقَةِ لَيْسَ مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَخْذِ مُكَلَّفٍ خُفْيَةً قَدْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً إلَخْ بَلْ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ خُفْيَةً (وَتَطْفِيفِ) بَخْسِ وَتَنْقِيصِ (حَبَّةٍ) مِنْ حُبُوبِ الْبِيَاعَاتِ وَإِنَّمَا تُنَفِّرُ الطَّبْعَ لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخِسَّةِ وَالدَّنَاءَةِ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْضًا أَيْ عَمْدًا وَسَهْوًا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ تَجْوِيزِهِ سَهْوًا لَكِنْ بِشَرْطِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ.

(وَ) مِنْ (تَعَمُّدِ الصَّغَائِرِ غَيْرِهَا) أَيْ الْمُنَفِّرَةِ (بَعْدَ الْبِعْثَةِ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا اخْتَارَهُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ مِنْ قَوْلِهِ وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَتَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ فَتَأَمَّلْ فَفِي التَّقْيِيدِ بِالْعَمْدِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ الصَّغَائِرِ سَهْوًا كَمَا قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْوَحْيِ.

وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ صُدُورِ الْكَبِيرَةِ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ بِامْتِنَاعِ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَلَوْ قَبْلَ الْوَحْيِ وَكَذَا الْمُعْتَزِلَةُ.

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ مُوجِبًا لِلنَّفْرَةِ كَزِنَا الْأُمَّهَاتِ فِي الْكَبِيرَةِ وَأَنَّ مُوجِبًا لِلْخِسَّةِ فِي الصَّغِيرَةِ فَمُمْتَنِعٌ وَلَوْ قَبْلَ الْوَحْيِ.

قَالَ الدَّوَانِيُّ: وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْ الصَّغَائِرِ عَمْدًا وَالْكَبَائِرِ مُطْلَقًا بَعْدَ الْبِعْثَةِ فَمَا نُقِلَ مِنْ الْكَذِبِ وَالْمَعْصِيَةِ إنْ بِطَرِيقِ الْآحَادِ فَمَرْدُودٌ وَإِنْ بِالتَّوَاتُرِ فَمُؤَوَّلٌ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى السَّهْوِ أَوْ تَرْكِ الْأَوْلَى أَوْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ كُلُّهُ عَلَى نَهْجِ مَا فِي الْكَلَامِيَّةِ

ثُمَّ لَا عَلَيْنَا أَنْ نُلْحِقَ إجْمَالَ مَا فِي شِفَاءِ الْقَاضِي عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الْحَظْرِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ أَمَّا الِاعْتِقَادِيَّاتُ فَهُمْ فِي أَعْلَى مَرْتَبَةِ عِلْمِ الْيَقِينِ بِذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ فَيَمْتَنِعُ الْجَهْلُ وَالشَّكُّ عَلَيْهِمْ إجْمَاعًا وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام -

ص: 195

{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] فَلَيْسَ لِلشَّكِّ فِي إحْيَاءِ الْمَوْتَى بَلْ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ فَالْعِلْمُ الْأَوَّلُ بِوُقُوعِهِ وَالثَّانِي بِكَيْفِيَّتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ أَوْ لِاخْتِبَارِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ أَوْ لِأَنَّ الْيَقِينَ يَقْبَلُ الْقُوَّةَ وَالضَّعْفَ فَيَزِيدُ التَّرَقِّي مِنْ مَرْتَبَةِ عِلْمِ الْيَقِينِ إلَى مَرْتَبَةِ عَيْنِ الْيَقِينِ أَوْ لِإِرَاءَةِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ إلْزَامًا أَوْ الْمُرَادُ أَقْدِرْنِي عَلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى أَوْ أَرَى صُورَةَ الشَّكِّ مَعَ الْيَقِينِ تَوَاضُعًا وَتَأَدُّبًا لِازْدِيَادِ الْقُرْبِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} [يونس: 94]- فَلَيْسَ لِوُجُودِ الشَّكِّ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ كَمَا وَهِمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بَلْ الْمُرَادُ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلشَّاكِّ إنْ كُنْت فِي شَكٍّ إلَى آخِرِهِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} [يونس: 104] الْآيَةُ

وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ مِنْ قَبِيلِ - {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]- الْآيَةُ وَقِيلَ وَقِيلَ وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» فَلَيْسَ لِلرَّيْبِ وَوَسْوَسَةِ الْقَلْبِ بَلْ الْمُرَادُ مِنْ الْغَيْنِ ذُهُولُ الْقَلْبِ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ وَمُدَاوَمَةِ الذِّكْرِ لِاشْتِغَالِهِ بِأَدَاءِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ مَعَ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهِ هَذَا وَإِنْ كَانَ طَاعَةُ رَبِّهِ لَكِنْ تَفَرُّدُهُ بِرَبِّهِ أَعْلَى مِنْهُ فَيَعُدُّهُ نَقْصًا فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِأُمَّتِهِ أَوْ لِتَعْلِيمِهِمْ أَوْ لِإِعْلَامِ طَرِيقِ عَدَمِ الْأَمْنِ أَوْ لِمُجَرَّدِ الْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35]- وَلِنُوحٍ عليه الصلاة والسلام {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]- لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْجَهْلِ لَهُمَا بِصِفَتِهِ تَعَالَى فِي هَاتَيْنِ بَلْ الْمُرَادُ هُوَ الْوَعْظُ بِعَدَمِ التَّشْبِيهِ فِي الْأُمُورِ بِسِمَاتِ الْجَاهِلِينَ وَقِيلَ: الْخِطَابُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى لِنَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَالصَّوَابُ أَيْضًا عِصْمَتُهُمْ عَنْ الْجَهْلِ بِذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ مُنْذُ وُلِدُوا وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنْ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ نِسْبَةَ كُفْرٍ إلَى نَبِيٍّ مَعَ قُوَّةِ مُعَادَاتِهِمْ وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ - هَذَا رَبِّي - فَقِيلَ: فِي سِنِّ الطُّفُولِيَّةِ وَابْتِدَاءِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَقَبْلَ تَكْلِيفِ الشَّرْعِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ هَذَا رَبِّي عَلَى الْإِنْكَارِ وَعَنْ الزَّجَّاجِ هَذَا رَبِّي عَلَى قَوْلِكُمْ وَمُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا قَالَهُ تَبْكِيتًا وَإِلْزَامًا وَتَوْبِيخًا اسْتِدْلَالًا عَلَيْهِمْ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} [الضحى: 7]- فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُوَ الْكُفْرُ بَلْ بِمَعْنَى الضَّالِّ أَيْ الْغَائِبِ عَنْ النُّبُوَّةِ أَوْ وَجَدَك بَيْنَ أَهْلِ الضَّلَالِ فَعَصَمَك أَوْ ضَالًّا عَنْ شَرِيعَتِك أَيْ لَا تَعْرِفُهَا فَهَدَاك إلَيْهَا بِالْوَحْيِ مَتْلُوًّا أَوْ غَيْرَ مَتْلُوٍّ أَوْ الضَّلَالُ الْحِيرَةُ الَّتِي فِي غَارِ حِرَاءٍ وَالْهِدَايَةُ هِدَايَةُ الْإِسْلَامِ أَوْ لَا تَعْرِفُ الْحَقَّ إلَّا مُجْمَلًا فَهَدَاك إلَيْهِ مُفَصَّلًا أَوْ ضَالًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَهَدَاك إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ الْمَعْنَى وَوَجَدَك هَادِيًا فَهَدَى بِك ضَالًّا وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ {وَوَجَدَكَ ضَالا} [الضحى: 7]- عَنْ مَحَبَّتِي لَك فِي الْأَزَلِ أَيْ لَا تَعْرِفُهَا فَمَنَنْت عَلَيْك بِمَحَبَّتِي بِمَعْرِفَتِي وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَوَجَدَك ضَالٌّ - بِالرَّفْعِ - فَهَدَى - أَيْ اهْتَدَى أَوْ الضَّالُّ بِمَعْنَى الْمُحِبِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95]- يَعْنِي مُحِبًّا لِمَعْرِفَتِي وَعَنْ الْجُنَيْدِ أَيْ وَجَدَك مُتَحَيِّرًا فِي بَيَانِ مَا أُنْزِلَ إلَيْك فَهَدَاك لِبَيَانِهِ وَقِيلَ: ضَالًّا أَيْ لَمْ يَعْرِفْ نُبُوَّتَك أَحَدٌ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52]- فَعَنْ السَّمَرْقَنْدِيِّ أَيْ لَا تَعْرِفُ قَبْلَ الْوَحْيِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَلَا دَعْوَةَ الْخَلْقِ إلَى الْإِيمَانِ وَقَالَ الْقَاضِي وَلَا الْإِيمَانُ أَيْ الْفَرَائِضُ وَالْأَحْكَامُ

وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ أَذَى الشَّيْطَانِ بِجِسْمِهِمْ وَعَنْ وَسْوَسَتِهِ بِقَلْبِهِمْ وَلِذَا.

قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَكِنَّهُ تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَأَسْلَمُ» بِالضَّمِّ أَيْ فَأَسْلَمُ أَنَا مِنْهُ وَفِي رِوَايَةٍ «فَأَسْلَمَ» يَعْنِي صَارَ مُسْلِمًا وَفِي رِوَايَةٍ «فَاسْتَسْلَمَ» فَإِذَا كَانَ حَالُ الْمُسَلَّطِ كَذَا فَحَالُ الْغَيْرِ أَوْلَى وَلِعَجْزِ اللَّعِينِ عَنْ أَذَاهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسَبَّبَ بِالتَّوَسُّطِ فِي مَجِيئِهِ عَلَى قُرَيْشٍ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي صُورَةِ الشَّيْخِ

ص: 196

النَّجْدِيِّ لِلْمُشَاوَرَةِ مَعَهُمْ فِي حَقِّهِ عليه الصلاة والسلام فَحَفِظَهُ تَعَالَى بِخَبَرِ جَبْرَائِيلَ عليه الصلاة والسلام وَأَنْزَلَ قَوْله تَعَالَى - {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30]- إلَى قَوْلِهِ - {وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]- وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [الأعراف: 200]- الْآيَةُ فَقِيلَ: أَيْ يَسْتَخِفَّنَّكَ يَعْنِي يُزْعِجَنَّكَ وَيَحْمِلُك عَلَى الْخِفَّةِ وَيُزِيلُ حِلْمَك غَضَبٌ يَحْمِلُك عَلَى تَرْكِ الْإِعْرَاضِ مَثَلًا عَنْهُمْ - {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200]- وَلَا تُطِعْ مَنْ سِوَاهُ وَقِيلَ: يَنْزَغَنَّكَ يُغْرِيَنَّكَ وَيُحَرِّكَنَّكَ وَالنَّزْغُ أَدْنَى الْوَسْوَسَةِ فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى تَحَرَّكَ عَلَيْهِ الْغَضَبُ عَلَى عَدُوِّهِ أَوْ رَامَ الشَّيْطَانُ مِنْ إغْرَائِهِ وَخَوَاطِرُ أَدْنَى وَسَاوِسِهِ مَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ سَبِيلٌ إلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ فَيُكْفَى أَمْرُهُ فَيَكُونُ سَبَبَ تَمَامِ عِصْمَتِهِ إذْ لَمْ يُسَلَّطْ بِأَكْثَرَ مِنْ التَّعَرُّضِ لَهُ وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ قُدْرَةً عَلَيْهِ

وَأَمَّا أَقْوَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا فِي بَابِ التَّبْلِيغِ فَمَعْصُومٌ عَمْدًا إجْمَاعًا أَوْ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ غَلَطًا أَيْ خَطَأً وَأَمَّا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَكَذَا أَيْضًا مَعْصُومٌ عَلَى الْخِلَافِ عَمْدًا وَنِسْيَانًا وَخَطَأً حَالَ رِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَجِدِّهِ وَمَزْحِهِ وَصِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ - وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ يَقُولُ «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعَصْرِ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَقَصَرْت الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيت؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَا قَصَرْت الصَّلَاةَ وَلَا نَسِيت» فَأَخْبَرَ بِنَفْيِ الْحَالَيْنِ وَقَدْ كَانَ أَحَدَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَا يَتَوَجَّهُ شَيْءٌ عَلَى مَنْ جَوَّزَ الْوَهْمَ وَالْغَفْلَةَ فِي غَيْرِ بَابِ التَّبْلِيغِ وَإِنْ زَيَّفَ.

وَقِيلَ: أَنَّهُ عَامِدٌ لِصُورَةِ النِّسْيَانِ لِتَعْلِيمِ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْقَصْرِ وَحَقِيقَةِ النِّسْيَانِ لَكِنْ مِثْلُ هَذَا الْقَصْدِ لِأَجْلِ مِثْلِ إعْلَامِ تَشْرِيعِ هَذَا الْحُكْمِ بَعِيدٌ وَقِيلَ: نَفْيُ النِّسْيَانِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ عليه الصلاة والسلام أَوْ بِحَسَبِ نَفْيِ السَّلَامِ وَإِنْ ثَبَتَ السَّهْوُ فِي الْعَدَدِ أَوْ النَّفْيِ بِحَسَبِ مَجْمُوعِ الْقَصْرِ وَالنِّسْيَانِ يَعْنِي لَمْ يَجْمَعْ الْقَصْرُ وَالنِّسْيَانُ أَوْ الْمَنْفِيُّ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام هُوَ النِّسْيَانُ لَا السَّهْوُ فَالْوَاقِعُ هُوَ السَّهْوُ لَا النِّسْيَانُ لِأَنَّ النِّسْيَانَ غَفْلَةٌ وَآفَةٌ وَالسَّهْوَ شَغْلٌ فَيَسْهُو فِي صَلَاتِهِ وَلَا يَغْفُلُ

وَأَمَّا الْأَعْمَالُ فَشَامِلَةٌ لِلْأَقْوَالِ الْغَيْرِ التَّبْلِيغِيَّةِ فَهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الْفَوَاحِشِ وَالْكَبَائِرِ إجْمَاعًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي عِصْمَتِهِمْ اخْتِيَارًا أَوْ بِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي - وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ وَمَنَعَ الْمُحَقِّقُونَ كَالْكَبَائِرِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لِتَنَافِي الِاتِّبَاعِ الْمُطْلَقِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ بِلَا حَاجَةَ إلَى قَرِينَةٍ وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ نَدْبًا أَوْ إبَاحَةً وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ الِاتِّبَاعَ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فَالْحَظْرُ وَالْكَرَاهَةُ مُنَافٍ لِلتَّبَعِيَّةِ

وَأَمَّا قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي صُدُورِ مُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُهَا كَيْفَ وَتَصَوُّرُ الْمَسْأَلَةِ كَالْمُمْتَنِعِ فَإِنَّ الْحُرْمَةَ فَرْعُ الشَّرْعِ وَلَا شَرْعَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي تَعَبُّدِ نَبِيِّنَا قَبْلَ الشَّرْعِ هَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِشَرْعٍ أَمْ لَا وَأَمَّا السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ فِي التَّبْلِيغِ وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ فَكَالْأَقْوَالِ فِي الِامْتِنَاعِ عِنْدَ الْإسْفَرايِينِيّ لِمُنَافَاتِهِ التَّبَعِيَّةَ الْمَأْمُورَةَ أَيْضًا وَأَحَادِيثُ السَّهْوِ مُؤَوَّلَةٌ وَجَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَعَنْ النَّوَوِيِّ وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ السَّهْوَ فِي الْأَفْعَالِ لِعَدَمِ كَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ الْمُعْجِزَةِ لَا يُنَافِيهَا كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيت فَذَكِّرُونِي» وَأَنَّ ذَلِكَ دَاعِيًا إلَى تَقْرِيرِ شَرْعٍ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «إنِّي لَأَنْسَى أَوْ أُنْسَى لِأَسُنَّ» بَلْ قَدْ رُوِيَ «لَسْت أَنْسَى وَلَكِنْ أُنْسَى لِأَسُنَّ» فَمِنْ بَابِ تَمَامِ النِّعْمَةِ لَا النَّقْصِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ تَقْرِيرِهِمْ عَلَى هَذَا السَّهْوِ وَالْغَلَطِ بَلْ يُنَبَّهُ فَوْرًا.

وَأَمَّا فِي غَيْرِ التَّبْلِيغِ وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ مِمَّا يُوجِبُ التَّبَعِيَّةَ فَالْأَكْثَرُ عَلَى الْجَوَازِ لِلِاشْتِغَالِ بِأَحْوَالِ الْإِنْذَارِ وَالتَّكْلِيفِ وَمُحَافَظَةِ الْأُمَّةِ وَلَكِنْ بِلَا تَكْرَارٍ وَدَوَامٍ بَلْ بِالنُّدْرَةِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً أَوْ مِائَةَ مَرَّةً» وَعِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَصْحَابِ عِلْمِ الْقُلُوبِ وَالْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ مَنْعُ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَالْغَفَلَاتِ وَالْفَتَرَاتِ مُطْلَقًا عَلَى تَأْوِيلِ مِثْلِ آثَارِ السَّهْوِ السَّابِقَةِ كَحِكْمَةِ بَيَانِ حُكْمِ مِثْلِ هَذِهِ

ص: 197

الْوَقْعَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ أَبْلَغُ مِنْ الْقَوْلِ لِأَنَّهُ أَرْفَعُ لِلِاحْتِمَالِ أَوْ أَنَّ السَّهْوَ وَالنِّسْيَانَ فِي الْفِعْلِ جَائِزٌ فِيهِ عليه الصلاة والسلام لِعَدَمِ تَنَافِي الْمُعْجِزَةِ دُونَ الْقَوْلِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِنْ نَسِيت فَذَكِّرُونِي» كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى جَوَازِ الصَّغَائِرِ مِنْ ظَوَاهِرِ بَعْضِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مُفْضٍ إلَى جَوَازِ الْكَبِيرَةِ وَخَرْقِ الْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُ مِمَّا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَخْلُو عَنْ تَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ فِي مُقْتَضَاهُ وَلَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ فَكُلُّ مَا احْتَجُّوهُ مُتَأَوَّلٌ أَمَّا قَوْله تَعَالَى - {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]- فَقِيلَ: الْمُتَقَدِّمُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَالْمُتَأَخِّرُ هُوَ الْعِصْمَةُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَقِيلَ: أُمَّتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: مَا بِسَهْوٍ وَغَفْلَةٍ وَتَأْوِيلُهُ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَقِيلَ: مَا تَقَدَّمَ لِأَبِيك آدَمَ وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذُنُوبِ أُمَّتِك وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى - {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد: 19]- وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ.

وَقِيلَ: ذَنْبُك مَغْفُورٌ لَوْ كَانَ فِيك ذَنْبٌ وَلَا يَقْتَضِي هَذَا وُجُودَ الذَّنْبِ وَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ تَبْرِئَةُ الْعُيُوبِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 2]- فَقِيلَ: مَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِك قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقِيلَ: حَفِظْنَاك قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِنْ الذُّنُوبِ لِئَلَّا يَثْقُلَ عَلَيْك أَعْبَاءُ النُّبُوَّةِ وَقِيلَ: مَا أَثْقَلَ ظَهْرَهُ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَقِيلَ: حَطَطْنَا عَنْك ثِقَلَ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقِيلَ: ثِقَلَ شَغْلِ سِرِّك وَحِيرَتِك وَطَلَبِ شَرِيعَتِك حَتَّى شَرَعْنَا ذَلِكَ لَك وَقِيلَ: الْوِزْرُ الشَّيْءُ الَّذِي صَدَرَ مِنْ النَّبِيِّ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَحُرِّمَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا وَاهْتَمَّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَقُلَ عَلَيْهِ مِنْ كَمَالِ خَشْيَتِهِ أَوْ الشَّيْءُ الَّذِي لَوْ صَدَرَ لَكَانَ ذَنْبًا أَوْ ثِقَلُ الرِّسَالَةِ أَوْ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]- فَأَمْرٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ نَهْيٌ حَتَّى يُعَدَّ ذَنْبًا فَغَلِطَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمُعَاتَبَةِ فَعَفَا لَيْسَ بِمَعْنَى غَفَرَ بَلْ بِمَعْنَى لَمْ يُلْزِمْك ذَنْبًا أَيْ وَضَعَ عَنْك شَيْئًا لَوْ لَمْ يُوضَعْ لَكَانَ ذَنْبًا وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ مِثْلُ أَعَزَّك اللَّهُ وَعَنْ السَّمَرْقَنْدِيِّ أَيْ عَافَاكَ اللَّهُ مِنْ الْمُعَافَاةِ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى فِي أَسَارَى بَدْرٍ - {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67]- الْآيَتَيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ ذَنْبٍ بَلْ تَكْرِيمٌ بِمَا خُصَّ بِهِ مِنْ حِلِّ الْغَنَائِمِ بِمَعْنَى مَا كَانَ هَذَا الشَّيْءُ لِغَيْرِك مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا «قَالَ عليه الصلاة والسلام حُلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلِي» وَالْخِطَابُ فِي تُرِيدُونَ لِبَعْضِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَرَادُوا مُجَرَّدَ اسْتِكْثَارِ الدُّنْيَا وَإِنْ اسْتَعَانُوا بِهَا عَلَى الْعُقْبَى لِكَوْنِهِ أَدْنَى مِنْ تَارِكِي الدُّنْيَا لَا لِلنَّبِيِّ وَأَشْرَافِ أَصْحَابِهِ وَمَعْنَى - {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68]- لَوْ لَمْ يَسْبِقْ مِنِّي عَدَمُ الْعَذَابِ بِلَا نَهْيٍ لَعَذَّبْتُكُمْ وَقِيلَ: لَوْ لَمْ يَسْبِقْ إيمَانُكُمْ بِالْكِتَابِ يَعْنِي الْقُرْآنَ لَعُوقِبْتُمْ أَوْ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ فِي اللَّوْحِ عَدَمُ حِلِّ الْغَنَائِمِ لَعُوقِبْتُمْ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1]- الْآيَاتِ فَلَيْسَ فِيهِ إثْبَاتُ ذَنْبٍ لَهُ عليه الصلاة والسلام بَلْ إعْلَامُ عَدَمِ تَزَكِّي الْمُتَصَدِّي لَهُ وَأَنَّ الْأَوْلَى إقْبَالُ الْأَعْمَى وَتَصَدِّيهِ وَاسْتِئْلَافُهُ لِلْكَافِرِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ بَلْ تَبْلِيغٌ وَطَاعَةٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ عَبَسَ وَتَوَلَّى الْكَافِرُ وَأَمَّا قِصَّةُ آدَمَ عليه الصلاة والسلام وَقَوْلُهُ - {فَأَكَلا} [طه: 121]- بَعْدَ قَوْلِهِ - {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35]- وَتَصْرِيحُهُ بِالْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]- أَيْ جَهِلَ وَقِيلَ: أَخْطَأَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ بِعُذْرِهِ بِقَوْلِهِ {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] .

قَالَ ابْنُ زَيْدٍ نَسِيَ عَدَاوَةَ إبْلِيسَ لَهُ وَمَا عَهِدَ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117]- الْآيَةَ قِيلَ: نَسِيَ ذَلِكَ بِمَا أَظْهَرَ لَهُمَا وَقِيلَ: نَسِيَ ذَلِكَ بِمَا أَظْهَرَ الشَّيْطَانُ مِنْ النَّصِيحَةِ وَالْحَلِفِ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ كَاذِبًا وَقِيلَ: الْأَكْلُ عِنْدَ السُّكْرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَصْفِهِ تَعَالَى خَمْرَ الْجَنَّةِ بِعَدَمِ السُّكْرِ وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقِيلَ: بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ الَّذِي حَاصِلُهُ كَتَرْكِ الْأَوْلَى وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُونُسَ عليه الصلاة والسلام {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]- عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِلْزَامِ الظُّلْمِ تَقَدُّمَ الذَّنْبِ فَالظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَوَضْعُ حُبِّ غَيْرِ رَبِّهِ فِي صَدْرِهِ ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ بَلْ عَدَّ الصُّوفِيَّةُ الْغَفْلَةَ عَنْ اللَّهِ وَإِرَادَةَ مَا سِوَاهُ ظُلْمًا أَوْ خُرُوجِهِ عَنْ قَوْمِهِ بِلَا إذْنِهِ أَوْ لِضَعْفِهِ عَنْ تَحَمُّلِ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ أَوْ لِدُعَائِهِ عَلَى قَوْمِهِ وَأَمَّا قِصَّةُ دَاوُد مَعَ أُورْيَا فَمَأْخُوذَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهَا خَبَرٌ صَحِيحٌ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ حَدَّثَكُمْ بِحَدِيثِ دَاوُد عليه الصلاة والسلام عَلَى

ص: 198

مَا يَرْوِيهِ الْقَصَّاصُ جُلِدَ تِسْعُمِائَةٍ وَسِتِّينَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24] إلَى قَوْلِهِ {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] وَقَوْلُهُ أَوَّابٌ فَتَنَّاهُ أَيْ اخْتَبَرْنَاهُ وَأَوَّابٌ أَيْ مُطِيعٌ وَإِنَّمَا الصَّادِرُ مِنْ دَاوُد قَوْلُهُ لِأُورْيَا تَلْوِيحًا انْزِلْ لِي عَنْ امْرَأَتِك أَيْ طَلِّقْهَا وَأَكْفِلْنِيهَا أَيْ أَعْطِنِيهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِ فَأَنْكَرَهُ تَعَالَى لِكَوْنِهِ شَغْلًا بِالدُّنْيَا وَتَرْكًا لِلْأَوْلَى وَقِيلَ: خَطَبَهَا عَلَى خِطْبَتِهِ وَقِيلَ: هُوَ مَحَبَّةُ الْقَلْبِ فَقَطْ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ دَاوُد أَرْسَلَ أوريا فِي الْمَهَالِكِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِيُقْتَلَ فَيَتَزَوَّجُ زَوْجَتَهُ لَا يَصْدُرُ مِنْ أَهْلِ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنْ بَعْضِ أَعْلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَمَّا قِصَّةُ يُوسُفَ عليه الصلاة والسلام وَإِخْوَتِهِ فَلَيْسَ عَلَى يُوسُفَ تَعَقُّبٌ وَلَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّةُ إخْوَتِهِ بَلْ هُمْ صِغَارٌ عِنْدَ هَذَا الْوَقْتِ وقَوْله تَعَالَى - {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]- الْهَمُّ عِنْدَ كَثِيرٍ لَيْسَ فِيهِ مُؤَاخَذَةٌ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَبِّهِ إذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» وَالتَّحْقِيقُ إنْ تَوَطَّنَ الْهَمُّ فِي النَّفْسِ فَسَيِّئَةٌ وَإِلَّا فَلَا.

وَهَمُّ يُوسُفَ مِنْ عَدَمِ التَّوَطُّنِ وَقَوْلُهُ - {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53]- أَيْ مِنْ هَذَا الْهَمِّ أَوْ لِلتَّوَاضُعِ أَوْ الِاعْتِرَافِ لِتَزْكِيَتِهِ قِيلَ: لِعَدَمِ صُدُورِ الْهَمِّ كَمَا حُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَمَّا خَبَرُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام مَعَ قَتِيلِهِ وَوَكْزِهِ فَقَبْلُ النُّبُوَّةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْقَتْلَ بَلْ أَرَادَ دَفْعَ ظُلْمِهِ وَقَوْلُهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَقَوْلُهُ ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُلَ بِلَا إذْنٍ وَأَمْرٍ وَقَوْلُهُ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] الْمُرَادُ ابْتِلَاؤُهُ مَعَ فِرْعَوْنَ أَوْ إلْقَاؤُهُ فِي التَّابُوتِ وَالْيَمِّ أَيْ الْبَحْرِ وَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ جَاءَهُ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَفَقَأَهَا» الْحَدِيثَ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ مَلَكًا وَقَدْ أَرَادَ إهْلَاكَهُ عَلَى صُورَةِ إنْسَانٍ ثُمَّ بَعْدَ عِلْمِهِ اسْتَسْلَمَهُ وَهَذَا أَقْوَى الْأَجْوِبَةِ وَأَمَّا قِصَّةُ سُلَيْمَانَ عليه الصلاة والسلام وَمَا حُكِيَ مِنْ ذَنْبِهِ وَقَوْلُهُ - {وَلَقَدْ فَتَنَّا} [ص: 34]- أَيْ ابْتَلَيْنَاهُ وَابْتِلَاؤُهُ مَا حُكِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ يَأْتِينَ بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ» فَقِيلَ: الشِّقُّ الْجَسَدُ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ وَهِيَ عُقُوبَةٌ وَمِحْنَةٌ وَقِيلَ: ذَنْبُهُ حِرْصُهُ عَلَى جِنْسِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْكَامِلَ لَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ: عَدَمُ اسْتِثْنَائِهِ وَقِيلَ: عُقُوبَتُهُ سَلْبُ مُلْكِهِ وَذَنْبُهُ مَحَبَّتُهُ كَوْنَ الْحَقِّ لِأَصْهَارِهِ عَلَى خَصْمِهِمْ وَقِيلَ: أُخِذَ بِذَنْبٍ اكْتَسَبَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ بِغَيْرِ اطِّلَاعِهِ وَرُدَّ بِعَدَمِ جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَنْبِ الْغَيْرِ وَدُفِعَ بِجَوَازِ تَقْصِيرِهِ فِي أَمْرِهِنَّ بِنَحْوِ تَأْخِيرِ صَلَاةٍ أَوْ نِيَاحَةٍ مَكْرُوهَةٍ لَا نَحْوَ فِعْلِ فَاحِشَةٍ وَإِلَّا فَسَبٌّ وَأَذِيَّةٌ وَمُنَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] .

وَحُكِيَ عَنْ الْأَنْطَاكِيِّ أَنَّ الشَّيَاطِينَ مَثَّلُوا لِبَعْضِ نِسْوَانِهِ صُورَةَ أَبِيهَا فَعَبَدَتْهَا فَأُخْبِرَ فَكَسَرَ الصُّورَةَ وَعَاقَبَ الْمَرْأَةَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى فَلَاةٍ تَائِبًا وَلَا يَصِحُّ مَا نَقَلَهُ الْأَخْبَارِيُّونَ مِنْ تَشْبِيهِ الشَّيْطَانِ وَتَسَلُّطِهِ عَلَى مُلْكِهِ وَالْجَوْرِ فِي حُكْمِهِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّسَلُّطِ الشَّيْطَانِيِّ وَقَوْلُهُ - {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]- لَيْسَ لِغِيرَةِ الدُّنْيَا بَلْ لِعَدَمِ تَسَلُّطِ أَحَدٍ عَلَيْهِ أَوْ لِيَكُونَ لَهُ مِنْ خَوَاصِّهِ كَمَا يَكُونَ لِكُلِّ نَبِيٍّ خَاصَّةً كَلِينِ الْحَدِيدِ لِأَبِيهِ دَاوُد وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِعِيسَى عليه الصلاة والسلام.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عليه الصلاة والسلام {وَإِلا تَغْفِرْ لِي} [هود: 47]- الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37] فَلَيْسَ فِيهِ إثْبَاتُ ذَنْبٍ وَطَلَبُ ابْنِهِ لِفَهْمِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {وَأَهْلَكَ} [هود: 40]- مُطْلَقُ الْأَهْلِ أَوْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كُفْرَ ابْنِهِ فَعَاتَبَهُ تَعَالَى فِي هَذَا الطَّلَبِ لِكَوْنِهِ بِلَا إذْنٍ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ ابْنَهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى نَجَاتَهُ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ أَكْثَرَ خَوْفِهِمْ هُوَ خَوْفُ الْعَظَمَةِ وَالْمَهَابَةِ الَّتِي هِيَ مَقَامُ قُوَّةِ الْقُرْبِ وَالْمَعْرِفَةِ وَإِنَّ أَكْثَرَ خَوْفِهِمْ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمُبَاحَةِ لِكَوْنِهَا مَيْلًا إلَى مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى هَذَا الْجِنْسِ يُحْمَلُ اعْتِرَافُ الْأَنْبِيَاءِ بِالذُّنُوبِ وَتَوْبَتُهُمْ وَبُكَاؤُهُمْ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْجَهْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ عَقْلًا وَإِجْمَاعًا وَقَبْلَهَا سَمْعًا وَنَقْلًا وَعَنْ الْجَهْلِ فِي الْأُمُورِ التَّبْلِيغِيَّةِ قَطْعًا وَشَرْعًا وَعَقْلًا وَعَنْ الْكَذِبِ وَخُلْفِ الْقَوْلِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ قَصْدًا

ص: 199

وَغَيْرَ قَصْدٍ شَرْعًا وَإِجْمَاعًا نَظَرًا وَبُرْهَانًا وَقَبْلَ النُّبُوَّةِ قَطْعًا وَعَنْ الْكَبَائِرِ إجْمَاعًا وَعَنْ الصَّغَائِرِ تَحْقِيقًا وَعَنْ اسْتِدَامَةِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ تَدْقِيقًا وَاسْتِمْرَارِ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ حَالَ غَضَبٍ وَرِضًا وَجِدٍّ وَمَزْحٍ.

(وَأَوَّلُهُمْ) أَيْ الْأَنْبِيَاءُ (آدَم عليه الصلاة والسلام) نُبُوَّتُهُ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ حَتَّى يَكْفُرَ جَاحِدُهَا كَبَعْضِ الْبَرَاهِمَةِ وَكَالسُّمَنِيَّةِ وَأَكْثَرُ الْبَرَاهِمَةِ فِي مُطْلَقِ النُّبُوَّةِ وَبَعْضُ الْبَرَاهِمَةِ يَقْصِرُ النُّبُوَّةَ عَلَى آدَمَ عليه الصلاة والسلام فَقَطْ وَالصَّابِئِيَّةَ عَلَى شِيثٍ وَإِدْرِيسَ فَقَطْ وَالْيَهُودُ عَلَى مُوسَى فَقَطْ وَجُمْهُورُ الْيَهُودِ وَالْمَجُوس وَالنَّصَارَى يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبَعْضُ الْيَهُودِ يَقْصِرُ رِسَالَتَهُ عَلَى الْعَرَبِ فَقَطْ (وَآخِرُهُمْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]- «وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» (وَأَفْضَلُهُمْ) لِقَوْلِهِ - {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110]- وَقَدْ تَقَدَّمَ (مُحَمَّدٌ عليه الصلاة والسلام وَلَا يُعْرَفُ يَقِينًا عَدَدُهُمْ) وَإِنْ عُرِفَ ظَنًّا لِكَوْنِ دَلِيلِهِ خَبَرُ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَفِي رِوَايَةٍ مِائَتَا أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مَعَ عَدَمِ مَعْلُومِيَّةِ وُجُودِ شَرَائِطِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُقْتَصَرَ عَلَى عَدَدٍ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]- وَلَا يُؤْمَنُ فِي ذِكْرِ الْعَدَدِ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ أَوْ يُخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِيهِمْ.

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ عَلَى تَقْدِيرِ اشْتِمَالِ خَبَرِ الْوَاحِدِ شَرَائِطَ الرِّوَايَةِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ خُصُوصًا إذَا اشْتَمَلَ عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَةٍ

ص: 200

وَكَانَ الْقَوْلُ بِمُوجِبِهِ مِمَّا يُفْضِي إلَى مُخَالَفَةِ ظَاهِرِ الْكِتَابِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ.

(وَلَا تَبْطُلُ رِسَالَتُهُمْ بِمَوْتِهِمْ) وَلِهَذَا كَانَتْ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةً لَنَا إذَا قَصَّهَا الشَّارِعُ بِلَا نَسْخٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً لِذَلِكَ النَّبِيِّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً لِرَسُولِنَا أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا كَأَبِي مَنْصُورٍ وَأَبِي زَيْدٍ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْعَزْلَ وَالْإِبْطَالَ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ شَرِيعَةً لِمُتَعَدِّدٍ ابْتِدَاءً وَاسْتِقْلَالًا وَأَنَّ نُبُوَّتَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُمَّتِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى أُمَّةِ نَبِيٍّ مِنْ بَعْدِهِمْ وَحُجَّتُهُمْ قَائِمَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُمَّتِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَإِنْ انْقَطَعَ تَكَالِيفُهُمْ فَكَمَا أَنَّ النُّبُوَّةَ وَكَذَا الْوِلَايَةُ لَا تَنْعَزِلُ بِالنَّوْمِ فَكَذَا بِالْمَوْتِ وَقِيلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ بُطْلَانُ الرِّسَالَةِ بِالْمَوْتِ وَإِنْ بَقِيَ حُكْمُهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ عَدَمِ بَقَاءِ الْأَعْرَاضِ زَمَانَيْنِ وَأَنَّ الرِّسَالَةَ عَرَضٌ وَرُدَّ بِظُهُورِ دَوَامِ بَعْضِ الْأَعْرَاضِ كَالْأَلْوَانِ عَلَى أَنَّ الشَّرْعِيَّاتِ مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ الْجَوَاهِرِ، لَعَلَّ الْحَقَّ فِي الْإِيرَادِ أَنَّ مَوْتَهُمْ كَنَوْمِهِمْ فَكَمَا لَا تَبْطُلُ بِالنَّوْمِ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَحَدِيثُ عَدَمِ بَقَاءِ الْأَعْرَاضِ كَمَا لَا يَضُرُّ بِالنَّوْمِ لَا يَضُرُّ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ مَوْتَهُمْ صُورِيٌّ بَلْ لَا يَمُوتُونَ أَبَدًا وَلِذَا أَجْسَادُهُمْ الشَّرِيفَةُ لَا تَبْلَى وَقِيلَ: الرِّسَالَةُ قَائِمَةٌ بِأَرْوَاحِهِمْ وَهِيَ بَاقِيَةٌ فَتَبْقَى بِبَقَائِهَا لَعَلَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَخْذِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَقَاوِيلِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ وَقَدْ كَانَ الْأَصَحُّ غَيْرَ هَذَا فِي مَحَلِّهِ.

(وَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ) الظَّاهِرُ الشُّمُولُ لِلنَّبِيِّ وَالرَّسُولِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهُ التَّفْصِيلِ سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْلِيمُ آدَمَ لَهُمْ الْأَسْمَاءَ وقَوْله تَعَالَى - {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]- وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِ وَأَنَّ طَاعَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى قَهْرِ دَوَاعِي النَّفْسِ أَشَقُّ وَعِبَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مُوجِبِ طِبَاعِهِمْ وَالْأَشَقُّ أَفْضَلُ قَالَ الْخَيَالِيُّ

فَإِنْ قُلْت لِلْمَلَائِكَةِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِ الْبَشَرِ صِفَاتٌ فَاضِلَةٌ يَضْمَحِلُّ فَضْلُ الْعَمَلِ فِي حَقِّهَا قُلْت: هَذَا الِادِّعَاءُ مِمَّا لَمْ يُقْبَلْ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعِنْدَ بَعْضِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ أَرْوَاحٌ مُجَرَّدَةٌ مُبَرَّأَةٌ عَنْ مَوَادِّ الشُّرُورِ كَظُلُمَاتِ الْهُيُولِيِّ قَوِيَّةٌ عَلَى الْأَفْعَالِ الْعَجِيبَةِ وَلِأَنَّهُمْ مُعَلِّمُو الْأَنْبِيَاءِ وَلِإِطْرَادِ الْقُرْآنِ عَلَى تَقْدِيمِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} [البقرة: 285] الْآيَةَ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] فَإِنَّ

ص: 201

أَهْلَ اللِّسَانِ يَفْهَمُ مِنْهُ التَّرَقِّي عَلَى عِيسَى عليه الصلاة والسلام وَالْجَوَابُ عَنْ الْكُلِّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ (الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ) تَعَالَى يَسْتَغْرِقُونَ بِعِبَادَتِهِ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ لَا أَبْنَاؤُهُ كَمَا زَعَمَ الْكَفَرَةُ (مُكَرَّمُونَ) لِأَنَّهُمْ كِرَامٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عز وجل (وَلَا يَسْبِقُونَهُ) تَعَالَى (بِالْقَوْلِ) يَعْنِي لَا يَتَجَاوَزُونَ أَمْرَهُ فَقَوْلُهُ (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) كَالتَّفْسِيرِ لَهُ وَيَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ إذْ مَفْهُومُ كُلٍّ يُؤَكِّدُ مَنْطُوقَ الْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ (وَلَا يُوصَفُونَ بِمَعْصِيَةٍ) كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ كَالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِي الشِّفَاءِ وَاتَّفَقُوا أَنَّ حُكْمَ مُرْسَلِيهِمْ حُكْمُ النَّبِيِّينَ فِي الْعِصْمَةِ.

وَأَمَّا فِي غَيْرِ مُرْسَلِيهِمْ فَقِيلَ: بِعِصْمَتِهِمْ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6]- {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164]{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165]{وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 166]- و {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16] وَقِيلَ: بِجَوَازِ ذَلِكَ وَالصَّوَابُ عِصْمَةُ الْجَمِيعِ فَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ مِنْ تَرْجِيحِ كَوْنِ إبْلِيسَ مِنْ الْمَلَكِ وَمَا فِي بَحْرِ النَّسَفِيِّ مِنْ أَنَّهُ فِي الْمَلَائِكَةِ كَافِرٌ مُعَذَّبٌ كَإِبْلِيسَ وَعَاصٍ غَيْرُ كَافِرٍ كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ خِلَافُ الصَّوَابِ.

قَالَ الدَّوَانِيُّ الْأَكْثَرُ أَنَّ إبْلِيسَ لَيْسَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى - {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]- وَأَسَانِيدُ قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ لَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ.

وَقَالَ فِي الشِّفَاءِ لَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ لَا صَحِيحٌ وَلَا سَقِيمٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَمْرٌ يُعْلَمُ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ وَإِنْ وَقَعَ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ وَالتَّعْذِيبُ الْمَفْهُومُ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاتَبَةِ كَالْأَنْبِيَاءِ عَلَى السَّهْوِ وَتَعْلِيمِ السِّحْرِ لَيْسَ بِكُفْرٍ كَاعْتِقَادِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ وَهُوَ تَفْرِيقُ مُعْجِزَةِ النَّبِيِّ عَنْ سِحْرِ الْمُتَنَبِّي لِشُيُوعِ السِّحْرِ بَيْنَهُمْ، فَقِصَّةُ الزُّهْرَةِ مَعَ كَوْنِهَا مُحَالًا فِي الْعَقْلِ مَأْخُوذَةٌ عَنْ الْيَهُودِ (وَلَا بِذُكُورَةٍ وَلَا أُنُوثَةٍ) إذْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ نَقْلٌ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ عَقْلٌ كَذَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى مُقَدِّمَةِ كُلِّ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ يَجِبُ نَفْيُهُ وَهَذَا وَإِنْ جَائِزًا فِي فُرُوعِ الشَّافِعِيَّةِ لَكِنْ.

قَالَ فِي الْمَوَاقِفِ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ وَقُوَّتِهِ وَأَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ سَمْعًا وَعَقْلًا كَمَا يَجْرِي فِي جَانِبِ النَّفْيِ يَجْرِي فِي جَانِبِ إثْبَاتِهِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ وَالتَّكْوِينِ لَا مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ وَالتَّوْلِيدِ (وَلَا) يُوصَفُونَ (بِأَكْلٍ وَلَا بِشُرْبٍ وَلَوَازِمِهِمَا) مِنْ الْبَوْلِ وَالتَّغَوُّطِ وَالْمُخَاطِ وَالرِّيحِ وَنَحْوِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ بَلْ السَّقَمِ.

ص: 202

وَالضَّعْفِ وَإِنَّمَا قُوتُهُمْ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ عَنْ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ «إنَّ طَعَامَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ الدَّجَّالِ طَعَامُ الْمَلَائِكَةِ التَّسْبِيحُ وَالتَّقْدِيسُ فَمَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ يَوْمَئِذٍ التَّسْبِيحَ وَالتَّقْدِيسَ أَذْهَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْجُوعَ» (وَرُسُلُ الْمَلَائِكَةِ) أَيْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْهِمْ فِي تَبْلِيغِ أَحْكَامِهِ إلَيْهِمْ أَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْإِنْسِ مِنْ حَدِيثِ التَّدْبِيرِ لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي السُّعُودِ أَنَّ مُدَبِّرَ الْأُمُورِ غَيْرُ الْمُقَرَّبِينَ حَيْثُ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ شَأْنُهُمْ الِاسْتِغْرَاقُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالتَّنَزُّهُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ وَهُمْ الْقَلِيلُونَ الْمُقَرَّبُونَ، وَقِسْمٌ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ حَسْبَمَا جَرَى عَلَيْهِ قَلَمُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَهُمْ الْمُدَبِّرَاتُ أَمْرًا وَمِنْهُمْ سَمَاوِيَّةٌ وَمِنْهُمْ أَرْضِيَّةٌ وَرُسُلُ الْمَلَائِكَةِ (أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الْبَشَرِ) هُمْ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَلَوْ أَوْلِيَاءَ وَصِدِّيقِينَ وَشُهَدَاءَ (الَّذِينَ هُمْ) وَصْفٌ لِعَامَّةِ الْبَشَرِ (أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الْمَلَائِكَةِ) كَالْحَفَظَةِ وَالْمُوَكَّلِينَ بِالْأَرْزَاقِ وَالْأَمْطَارِ وَقَيَّدَ عَامَّةَ الْبَشَرِ فِي التتارخانية بِالْمُتَّقِينَ وَعِنْدَ بَعْضِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ عَامَّةُ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الْبَشَرِ كَرُسُلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى رُسُلِ الْبَشَرِ وَعَنْ شَرْحِ الصَّحَائِفِ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِحَسَبِ نَفْسِهِ النَّاطِقَةِ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ فَأَفْعَالُهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ كَأَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ إذَا صَفَا عَنْ الْكُدُورَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَبِحَسَبِ بَدَنِهِ آلَةٌ لِاكْتِسَابِ الْكَمَالَاتِ فَكَمَالُهُ بِصُدُورِهِ مَعَ الْعَوَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ وَمَنْعُ الْأَضْدَادِ الْعُنْصُرِيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ كَمَالِ الْمَلَائِكَةِ لِخُلُوِّهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الشَّوَائِبِ.

(وَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ) جَمْعُ وَلِيٍّ مِنْ الْوِلَايَةِ إمَّا فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ بِمَعْنَى الْمَنْصُورِ لِنُصْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ بِدَوَامِ الطَّاعَاتِ أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لِنُصْرَتِهِ نَفْسَهُ بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ أَوْ مِنْ الْوَلِيِّ بِمَعْنَى الْقُرْبِ أَوْ ضِدِّ الْعَدُوِّ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَمَّا فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَالْعَلِيمِ بِمَعْنَى مَنْ تَوَالَتْ طَاعَاتُهُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ مَعْصِيَةٍ أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْجَرِيحِ لِكَوْنِهِ مَحْفُوظًا دَائِمًا بِطَاعَتِهِ تَعَالَى

وَالْوَلِيُّ هُنَا إنْسَانٌ عَارِفٌ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ حَسْبَمَا مَا يُمْكِنُ الْمُوَاظِبُ عَلَى الطَّاعَاتِ الْمُجْتَنِبُ عَنْ الْمَعَاصِي الْمُعْرِضُ عَنْ الِانْهِمَاكِ فِي اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ اعْلَمْ أَنَّ الْخَوَارِقَ ثَمَانِيَةٌ مُعْجِزَةٌ وَكَرَامَةٌ وَإِعَانَةٌ وَإِهَانَةٌ وَسِحْرٌ وَابْتِلَاءٌ وَإِصَابَةُ عَيْنٍ وَإِرْهَاصٌ وَالْكَرَامَةُ أَمْرُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ يَظْهَرُ عَلَى يَدِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي الْعَارِفِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ الْمُتَوَجِّهِ بِكُلِّيَّةِ قَلْبِهِ إلَى جَنَابِ قُدْسِهِ غَيْرَ مَقْرُونٍ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَفَوَائِدُ الْقُيُودِ غَيْرُ خَافِيَةٍ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنَّا وَالْمُعْتَزِلَةُ يُنْكِرُونَ الْكَرَامَاتِ لِلُزُومِ الِاشْتِبَاهِ بِالْمُعْجِزَةِ فَيَنْسَدُّ بَابُ إثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَرُدَّ بِأَنَّهَا تَمْتَازُ بِعَدَمِ مُقَارَنَةِ التَّحَدِّي وَبِأَنَّهَا مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ وَمِنْ فُرُوقِهِمَا أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ مَأْمُورٌ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ دُونَ الْوَلِيِّ بَلْ يَجِبُ سَتْرُهَا وَأَنَّ الْمُعْجِزَةَ يَقْطَعُ صَاحِبُهَا بِكَوْنِهَا مُعْجِزَةً دُونَ الْكَرَامَةِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا مَكْرًا وَقِيلَ: شَرَائِطُ الْمُعْجِزَةِ كُلًّا أَوْ كَثْرَةً شَرَائِطُ لِلْكَرَامَةِ إلَّا دَعْوَى النُّبُوَّةِ ثُمَّ الْكَرَامَةُ قَدْ تَكُونُ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا وَقَدْ تَكُونُ إلْجَائِيًّا وَلَا يَجُوزُ إظْهَارُهَا بِاخْتِيَارِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهَا وَهَلْ يَجُوزُ عِلْمُ الْوَلِيِّ بِكَوْنِهِ وَلِيًّا قِيلَ: لَا لِاسْتِلْزَامِ الْأَمْنِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ الْأَصَحُّ نَعَمْ لِبَقَاءِ خَوْفِ الْخَاتِمَةِ وَخَوْفِ الْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ وَقِيلَ: بِبَقَاءِ الْكَرَامَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ الِانْعِزَالِ عَنْ الْوِلَايَةِ بِالْمَوْتِ كَالنَّبِيِّ.

وَقِيلَ: لَا لِظَاهِرِ نَحْوِ حَدِيثِ «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» الْحَدِيثُ نُقِلَ عَنْ الزَّيْلَعِيِّ وَيَجُوزُ التَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِغَاثَةُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ وَالْكَرَامَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِمْ وَعَنْ الرَّمْلِيِّ أَيْضًا بِعَدَمِ انْقِطَاعِ الْكَرَامَةِ بِالْمَوْتِ وَعَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَلَا يُنْكِرُ الْكَرَامَةَ وَلَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ إلَّا رَافِضِيٌّ وَعَنْ الْأُجْهُورِيِّ الْوَلِيُّ فِي الدُّنْيَا كَالسَّيْفِ فِي غِمْدِهِ فَإِذَا مَاتَ تَجَرَّدَ مِنْهُ فَيَكُونُ أَقْوَى فِي التَّصَرُّفِ كَذَا نُقِلَ عَنْ نُورِ الْهِدَايَةِ لِأَبِي عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ (حَقٌّ)

ص: 203

لِثُبُوتِهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْحِكَايَاتِ

أَمَّا الْكِتَابُ فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ آصَفِ بْنِ بَرْخِيَا - {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40]- أَحْضَرَ عَرْشَ بِلْقِيسَ مِنْ مَسَافَةٍ كَثِيرَةٍ قَبْلَ ارْتِدَادِ الطَّرْفِ وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (مِنْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فِي الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ) وَلِإِمْكَانِ ذَلِكَ.

قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي وَجْهِ ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِ غَرْبِيَّةٍ كَانَ زَوْجُهَا شَرْقِيًّا لِثُبُوتِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ عَنْ الزَّعْفَرَانِيِّ وَهُوَ يَحْكِي عَنْ ابْنِ مُقَاتِلٍ مِنْ كُفْرِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ رُئِيَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِالْكُوفَةِ وَبِمَكَّةَ لَكِنَّهُ عِنْدِي لَيْسَ بِكُفْرٍ بَلْ جَهْلٌ وَكُفْرٌ أَيْضًا مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ إذْ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مُعْجِزَاتِ الْكِبَارِ مُخْتَصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ فَلَوْ جَازَ لِغَيْرِهِمْ لَمْ يَبْقَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ فَلَيْسَ بِمَرْضِيٍّ مُطْلَقًا لِمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ فِي كَلَامِ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى مَا يَدُلُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ.

وَأَيْضًا فِي صُرَّةِ الْفَتَاوَى الْإِنْصَافُ مَا ذَكَرَهُ النَّسَفِيُّ حِينَ سُئِلَ عَمَّا يُحْكَى أَنَّ الْكَعْبَةَ تَزُورُ وَاحِدًا مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فَقَالَ نَقْضُ الْعَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَامَةِ لِأَهْلِ الْوِلَايَةِ جَائِزٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ الْمَقَاصِدِ انْتَهَى وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ زِيَارَةَ الْكَعْبَةِ مَعَ كَوْنِهَا أَعْظَمَ إذَا جَازَ فَبِالْأَوْلَى فِي قَطْعِ الْمَسَافَةِ وَأَقُولُ إنَّ كَرَامَةَ الْوَلِيِّ مُعْجِزَةٌ لِنَبِيِّهِ وَإِنَّ السَّابِقَ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّهُ لَا تُوجِبُ الْعَظَمَةُ فِي الْخَارِقِ التَّفَوُّقَ فِي الْفَضْلِ وَالسَّبَقِيَّةَ فِي الشَّرَفِ لَعَلَّ وَجْهَ الْإِكْفَارِ مُخْتَصٌّ بِمَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ مَزِيَّةَ رُتْبَةِ هَذَا الْوَلِيِّ عَلَى النَّبِيِّ كَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ جُهَلَاءِ الصُّوفِيَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنْ فَتَاوَى ابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فِي بَلْدَةٍ وَكَانَ صَاحِبَ خُطْوَةٍ فَحَضَرَ مَطْلَعًا آخَرَ لَمْ تَغْرُبْ فِيهِ بَعْدَمَا صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْبَلَدِ الْأَوَّلِ لَا يَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا (وَظُهُورِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ) كَمَا فِي قِصَّة مَرْيَمَ - {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37]- الْآيَةَ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ فِي النُّبُوَّةِ فَلَيْسَتْ بِنَبِيَّةٍ.

وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ قَالَ لِي رَاهِبٌ هَاتِ مَا عِنْدَك فَقَدْ جُعْنَا فَقُلْت: إلَهِي لَا تَفْضَحْنِي مَعَ هَذَا الْكَافِرِ فَرَأَيْت طَبَقًا عَلَيْهِ خُبْزٌ وَلَحْمٌ وَشِوَاءٌ وَرُطَبٌ وَكُوزٌ فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا وَمَشَيْنَا ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: يَا رَاهِبُ هَاتِ مَا عِنْدَكَ انْتَهَتْ النَّوْبَةُ إلَيْكَ فَاتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ وَدَعَا فَإِذَا بِطَبَقَيْنِ عَلَيْهِمَا أَضْعَافُ مَا كَانَ عَلَى طَبَقِي فَتَحَيَّرْتُ وَتَغَيَّرْتُ وَأَبَيْتُ أَنْ آكُلَ فَأَلَحَّ عَلَيَّ وَلَمْ أُجِبْهُ فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي أُبَشِّرُكَ بِبِشَارَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَحَلَّ الزُّنَّارَ وَالْأُخْرَى إنِّي قُلْتُ اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ خَطِيرًا عِنْدَكَ فَافْتَحْ عَلَيَّ بِهَذَا فَفَتَحَ قَالَ فَأَكَلْنَا وَمَشَيْنَا وَحَجَّ ثُمَّ مَاتَ فِي مَكَّةَ.

(وَاللِّبَاسِ عِنْدَ الْحَاجَةِ) وَعَنْ ابْنِ بَشْكُوَالٍ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ أَنَّهُ رَأَى جَعْفَرًا الصَّادِقَ صَعِدَ أَبَا قُبَيْسٍ وَاسْتَغَاثَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ الْجُوعِ وَالْعُرَى فَنَزَلَتْ سَلَّةٌ فِيهَا عِنَبٌ وَدَرَجَانِ مِنْ الْقَمِيصِ (وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ) قِيلَ: كَمَا

ص: 204

نُقِلَ عَنْ جَعْفَرٍ الطَّيَّارِ وَلُقْمَانَ السَّرَخْسِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَيُقِرُّ بِهِ مَا فِي الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْوَاسِطِيِّ قَالَ: انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ وَبَقِيت أَنَا وَامْرَأَتِي عَلَى لَوْحٍ وَقَدْ وَلَدَتْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ صَبِيَّةً فَصَاحَتْ بِي وَقَالَتْ: يَقْتُلُنِي الْعَطَشُ فَإِذَا رَجُلٌ فِي الْهَوَاءِ جَالِسٌ وَفِي يَدِهِ سِلْسِلَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِيهَا كُوزٌ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ وَقَالَ: هَاكِ اشْرَبَا قَالَ: فَأَخَذْت الْكُوزَ وَشَرِبْنَا مِنْهُ فَإِذَا هُوَ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَأَبْرَدُ مِنْ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَالَ عَبْدٌ لِمَوْلَاكَ فَقُلْت: بِمَ وَصَلْت إلَى هَذَا؟ فَقَالَ: تَرَكْت هَوَايَ لِمَرْضَاتِهِ فَأَجْلَسَنِي فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ غَابَ عَنِّي (وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ) كَبِشْرٍ الْحَافِيِّ يَعْبُرُ عَلَى الدِّجْلَةِ وَيَضَعُ سَجَّادَتَهُ وَيُصَلِّي عَلَيْهَا كَمَا فِي الْقُشَيْرِيِّ أَيْضًا.

(وَكَلَامِ الْجَمَادِ وَالْعَجْمَاءِ) كَالْبَهِيمَةِ وَالطَّيْرِ وَكَتَسْبِيحِ الْقَصْعَةِ بَيْنَ يَدَيْ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ وَكَتَكَلُّمِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَكَشِكَايَةِ بَقَرَةٍ حُمِلَ عَلَيْهَا حِمْلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا إنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ (وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِرَسُولِهَا مُعْجِزَةً) مِنْ الْخَوَارِقِ لِلْأَوْلِيَاءِ كَرُؤْيَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ بِنَهَاوَنْدَ وَقَدْ هَجَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ فَقَالَ: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ الْجَبَلَ وَسَمِعَ سَارِيَةُ كَلَامَهُ وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَكَجَرَيَانِ النِّيلِ بِكِتَابِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْكِتَابَةُ " إنْ كُنْت تَجْرِي بِأَمْرِك فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِك وَإِنْ كُنْت تَجْرِي بِأَمْرِ اللَّهِ فَاجْرِ " فَلَمَّا أَلْقَى إلَيْهِ الْمَكْتُوبَ جَرَى بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْآنِ وَكَإِلْصَاقِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَدَ الْأَسْوَدِ الَّذِي قُطِعَتْ يَدُهُ فَالْتَصَقَتْ وَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ.

وَقِيلَ: أَرَادَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ فَأَبَوْا إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُمْ دِينَارًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّهُمْ قَدْ سَأَلُونِي مَا لَيْسَ عِنْدِي فَصَارَ الرَّمْلُ دَنَانِيرَ.

وَقِيلَ: إنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ بِالْبَصْرَةِ فَاشْتَرَى حَبِيبٌ الْعَجَمِيُّ طَعَامًا بِالنَّسِيئَةِ وَفَرَّقَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَخَاطَ كِيسًا وَجَعَلَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَلَمَّا جَاءُوا يَتَقَاضَوْنَهُ أَخَذَهُ فَإِذَا هُوَ مَمْلُوءٌ دَرَاهِمُ فَقَضَى مِنْهَا دُيُونَهُمْ.

وَعَنْ أَبِي تُرَابٍ النَّخْشَبِيِّ شَكَا أَصْحَابُهُ مِنْ الْعَطَشِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَضَرَبَ بِرِجْلِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَإِذَا عَيْنٌ مِنْ زُلَالٍ وَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَنَاوَلَتْهُ قَدَحًا مِنْ زُجَاجٍ أَبْيَضَ وَمَا زَالَ الْقَدَحُ مَعَنَا إلَى مَكَّةَ.

وَفِي حَلِّ الرُّمُوزِ تَكَلَّمَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ يَوْمًا فِي الذِّكْرِ فَقَالَ إنَّ ذَاكِرَ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَوْ هَمَّ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى لَفَعَلَ وَمَسَحَ يَدَهُ عَلَى عَلِيلٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فَبَرِئَ.

وَمِنْ الْكَرَامَاتِ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: دَخَلْت الدَّارَ فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ فَقُلْت: مَنْ أَنْتَ دَخَلْت بِغَيْرِ إذْنِي فَقَالَ أَخُوك الْخَضِرُ فَقُلْت لَهُ اُدْعُ اللَّهَ لِي فَقَالَ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْك طَاعَتَهُ فَقُلْت زِدْنِي فَقَالَ وَيَسَّرَهَا عَلَيْك.

وَمِنْهَا: أَنَّ فُضَيْلًا كَانَ عَلَى جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ هَذَا الْجَبَلَ أَنْ يَمِيدَ لَمَادَ فَتَحَرَّكَ الْجَبَلُ فَقَالَ اُسْكُنْ لَمْ أُرِدْك بِهَذَا فَسَكَنَ الْجَبَلُ

وَمِنْهَا: أَنَّ جَابِرًا الرَّحَبِيَّ قَالَ إنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الرَّحْبَةِ عَلَى إنْكَارِ الْكَرَامَاتِ فَرَكِبْت الْأَسَدَ يَوْمًا وَدَخَلْت الرَّحْبَةَ وَقُلْت أَيْنَ الَّذِينَ

ص: 205

يُكَذِّبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَمِنْهَا أَنَّ حَبِيبًا الْعَجَمِيَّ يُرَى بِالْبَصْرَةِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيُرَى يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ.

وَمِنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْكِتَّانِيَّ قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ رَجُلٌ وَقَالَ: يَا شَيْخُ لِمَ لَا تَجْلِسْ مَجْلِسَ مَنْ يَرْوِي الْأَحَادِيثَ، قُلْت عَمَّنْ يَرْوِي؟ قَالَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْت إنَّ قَلْبِي يُحَدِّثُنِي عَنْ رَبِّي، فَقَالَ الرَّجُلُ لَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ.

قَالَ الشَّيْخُ حُجَّتِي هِيَ أَنْتَ الْخَضِرُ.

قَالَ الْخَضِرُ: فَعَلِمْت أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا أَعْرِفُهُمْ فَإِنَّهُ عَرَفَنِي وَمَا أَنَا عَرَفْتُهُ

وَمِنْهَا: أَنَّ إبْرَاهِيمَ الرَّقِّيِّ قَالَ: قَصَدْت التِّبْيَانِيَّ مُسَلِّمًا عَلَيْهِ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ لَكِنْ لَا كَمَا يَنْبَغِي فَقُلْت فِي نَفْسِي ضَاعَ سَفَرِي فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ خَرَجْت لِلطَّهَارَةِ فَقَصَدَنِي سَبُعٌ فَفَرَرْت إلَيْهِ وَقُلْت لَهُ قَصَدَنِي الْأَسَدُ فَخَرَجَ وَصَاحَ عَلَى الْأَسَدِ قَائِلًا أَلَمْ أَقُلْ لَا تَتَعَرَّضْ لِضِيفَانِي فَتَمَلَّقَ لَهُ الْأَسَدُ وَتَنَحَّى عَنْ الطَّرِيقِ ثُمَّ تَطَهَّرْت وَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقَالَ اشْتَغَلْتُمْ بِتَقْوِيمِ الظَّاهِرِ فَخِفْتُمْ الْأَسَدَ وَنَحْنُ اشْتَغَلْنَا بِتَقْوِيمِ الْقَلْبِ فَخِفْنَا الْأَسَدَ لَا يَخْفَى مَا فِيهَا مِنْ الْمَحْمَلِ الصَّحِيحِ

وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَالَ: حَمَلْت إلَى رَجُلٍ فَقِيرٍ أَسْوَدَ يَسْكُنُ فِي خَرِبَةِ الْجِدَارِ فِي عَبَّادَانِ شَيْئًا فَلَمَّا وَقَعَ عَلَيَّ بَصَرُهُ تَبَسَّمَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْأَرْضِ فَرَأَيْت الْأَرْضَ كُلَّهَا ذَهَبًا تَلْمَعُ ثُمَّ قَالَ هَاتِ مَا مَعَك فَنَاوَلْتُهُ وَهَالَنِي أَمْرُهُ فَفَرَرْت وَمِنْهَا فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ فِي بَابِ الْكَرَامَاتِ أَيْضًا.

وَفِي الْمُنَاوِيِّ الْكَبِيرِ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قِيلَ: كَانَ لِجَعْفَرٍ الْخُلْدِيِّ فَصٌّ فَوَقَعَ يَوْمًا فِي الدِّجْلَةِ وَكَانَ عِنْدَهُ دُعَاءٌ مُجَرَّبٌ لِلضَّالَّةِ فَدَعَا بِهِ فَوَجَدَ الْفَصَّ فِي وَسَطِ أَوْرَاقٍ عِنْدَ أَبِي نَصْرٍ السِّرَاجِ وَالدُّعَاءُ يَا جَامِعَ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ اجْمَعْ عَلَيَّ ضَالَّتِي

وَمِنْهَا: هَجَمَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ أَسَدٌ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشَيْبَانَ الرَّاعِي فَقَالَ سُفْيَانُ أَمَا تَرَى هَذَا السَّبُعَ فَقَالَ: لَا تَخَفْ فَأَخَذَ شَيْبَانُ رَأْسَهُ فَعَرَكَهَا فَبَصْبَصَ وَحَرَّكَ ذَنَبَهُ فَقَالَ سُفْيَانُ مَا هَذِهِ الشُّهْرَةُ فَقَالَ: لَوْلَا مَخَافَةُ الشُّهْرَةِ لَوَضَعْت زَادِي عَلَى ظَهْرِهِ إلَى مَكَّةَ عَامَّةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ الْقُشَيْرِيَّةِ كَمَا أُشِيرُ

وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ فَصْلِ الْخِطَابِ لِخَوَاجَهْ مُحَمَّدٍ بَارْسَا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ تَلَامِذَةِ حَضْرَةِ الْجُنَيْدِ - قُدِّسَ سِرُّهُ - يَدْخُلُ الدِّجْلَةَ لِأَجْلِ الْغُسْلِ فَيَرَى نَفْسَهُ فِي دِيَارِ الْهِنْدِ فَيَتَزَوَّجُ وَيَحْصُلُ لَهُ أَوْلَادٌ فَيَدْخُلُ الْمَاءَ مَرَّةً أُخْرَى فَيَجِدُ نَفْسَهُ فِي سَاحِلِ الدِّجْلَةِ فَيَلْبَسُ ثِيَابَهُ وَيَجِيءُ زَاوِيَتَهُ وَأَصْحَابُهُ يَتَوَضَّئُونَ الْوُضُوءَ.

وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ السَّمْنَانِيِّ - قُدِّسَ سِرُّهُ - قَالَ: أَكْثَرُ أَوْقَاتِي يَمُرُّ عَلَيَّ إنِّي بَعْدَ أَدَاءِ أَوْرَادِي بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ أَتَوَجَّهُ وَأَنْخَلِعُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ دَاخِلًا فِي عَالَمٍ آخَرَ وَأَكُونُ فِيهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً مُتَعَبِّدًا وَمُسْتَغْرِقًا فِي عِبَادَتِهِ تَعَالَى كُلُّ سَنَتِهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا أُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمِهَا خَمْسًا وَأَصُومُ شَهْرًا فِي كُلِّ سَنَتِهَا فَعِنْدَ فَرَاغِي مِنْ تَوَجُّهِي أَرْفَعُ رَأْسِي فَالشَّمْسُ إمَّا طَالِعَةٌ أَوْ يَكُونُ وَقْتَ الْإِشْرَاقِ وَفَهْمُ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُمْكِنُ إلَّا لِأَهْلِ الْبَاطِنِ كَمِعْرَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ خَوَاجَهْ مُحَمَّدٌ بَارْسَا فَعِنْدَ وُصُولِ السَّالِكِ إلَى هَذَا يَعْبُدُ اللَّهَ فِي نَفَسٍ مِقْدَارَ أَلْفِ سَنَةٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ بِالتَّجْوِيدِ وَالتَّرْتِيلِ مَا بَيْنَ وَضْعِ قَدَمَيْهِ فِي الرِّكَابِ.

وَفِي مَجَالِسِ الرُّومِيِّ: لَدَغَ عَقْرَبٌ جَبِينَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ فَقَصَدَ التَّلَامِذَةُ قَتْلَهُ فَمَنَعَهُمْ لِتَجْرِبَةِ أَنَّهُ هَلْ هُوَ مِنْ مِصْدَاقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لُحُومُ الْعُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ» فَضَعُفَ سَاعَةً فَسَاعَةً حَتَّى مَاتَ حُكِيَ أَنَّ خُلَفَاءَ بَغْدَادَ يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ الرُّومِ فَجَمَعَ قَيْصَرُ عُلَمَاءَهُ فَاسْتَشَارَ مَعَهُمْ فَأَرْسَلَ إلَى بَغْدَادَ فَلْتَتَبَاحَثُ عُلَمَاؤُنَا مَعَ عُلَمَائِكُمْ فَإِنْ غَلَبْنَا فَاعْطُوَا لَنَا الْجِزْيَةَ وَإِلَّا فَنَحْنُ عَلَى الرَّسْمِ الْقَدِيمِ فَجَمَعَ أَرْبَعَمِائَةٍ مِنْ أَحْبَارِهِمْ فَأَرْسَلَهُمْ وَأَنْزَلَهُمْ الْخَلِيفَةُ عِنْدَ الدِّجْلَةِ فَبَعْدَ اسْتِرَاحَتِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَلَسَ عُلَمَاءُ الرُّومِ بِطَرَفٍ وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِطَرَفٍ فَتَبَاحَثُوا فَكَثُرَ الْقِيلُ وَالْقَالُ وَرُفِعَ الصِّيَاحُ وَالْأَصْوَاتُ إلَى أَنْ لَا يَتَمَيَّزَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فَنَادَى الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنْ اخْتَارُوا وَاحِدًا مِنْ أَعْلَمِكُمْ لِوَاحِدٍ مِنَّا لِيَسْتَمِعَ الْبَوَاقِي وَلَمْ يُمْكِنْ أَيْضًا فَقَامَ الشَّافِعِيُّ وَرَفَعَ سَجَّادَتَهُ عَلَى كَتِفِهِ قَائِلًا فَلْيَحْضُرْ أَحَدُكُمْ حَتَّى نَتَكَلَّمَ مُنْفَرِدًا وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ وَبَسَطَ سَجَّادَتَهُ عَلَيْهِ وَقَعَدَ عَلَيْهَا فَتَحَيَّرُوا وَفِيهِمْ رُهْبَانٌ مُرْتَاضٌ يَدَّعِي الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيَ عَلَى الْمَاءِ

ص: 206

فَكَلَّفُوهُ عَلَيْهِ وَقَامَ وَمَشَى عَلَيْهِ خُطْوَتَيْنِ وَغَرِقَ فِي الثَّالِثَةِ فَلَمْ يَجِدْهُ الْغَوَّاصُ فَلَمَّا رَآهُ الْأَحْبَارُ أَسْلَمُوا لِلَّهِ فَسَمِعَ قَيْصَرُ وَشَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَنَا لَاضْمَحَلَّ دِينُنَا

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عِصْمَةُ الْوَلِيِّ كَمَا تَجِبُ عِصْمَةُ النَّبِيِّ لَكِنَّ عِصْمَتَهُ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا لَا تَصْدُرُ عَنْهُ زَلَّةٌ أَصْلًا وَلَا امْتِنَاعَ مِنْ صُدُورِهَا وَقِيلَ لِلْجُنَيْدِ هَلْ يَزْنِي الْعَارِفُ فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ.

وَقَالَ {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38](وَلَا يَبْلُغُ) أَيْ لَا يَصِلُ الْوَلِيُّ (دَرَجَةَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام) قَالَ الْقُشَيْرِيُّ لِلْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ قَالَ مَا حَصَلَ لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمِثْلِ زِقٍّ فِيهِ عَسَلٌ تَرْشَحُ مِنْهُ قَطْرَةٌ فَتِلْكَ الْقَطْرَةُ مِثْلُ مَا لِجَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا فِي الظَّرْفِ مِثْلُ مَا لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ النَّبِيَّ مَعْصُومٌ عَنْ الذَّنْبِ وَخَوْفِ الْخَاتِمَةِ وَمُكَرَّمٌ بِالْوَحْيِ فَمَا جَوَّزَهُ بَعْضُ الْكَرَّامِيَّةِ مِنْ تَفْضِيلِ الْوَلِيِّ كُفْرٌ نَعَمْ قَدْ يَتَرَدَّدُ بِأَنَّ جِهَةَ الْوِلَايَةِ مِنْ النَّبِيِّ أَفْضَلُ أَوْ جِهَةَ نُبُوَّتِهِ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ.

وَمَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ بِتَعَلُّمِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام مِنْ الْخَضِرِ وَلَا شَكَّ فِي فَضْلِ الْمُعَلِّمِ فَأُجِيبُ: أَوَّلًا بِكَوْنِ الْخَضِرِ نَبِيًّا، وَثَانِيًا بِأَنَّهُ ابْتِلَاءٌ لِمُوسَى وَلَوْ سَلِمَ فَيُمْنَعُ فَضْلُ الْمُعَلِّمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ قَدْ يَكُونُ الْمُتَعَلِّمُ أَفْضَلَ، وَثَالِثًا بِمَنْعِ كَوْنِ مُوسَى هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ نَبِيًّا لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَقُولُونَ هُوَ مُوسَى بْنُ مَاثَانَ لَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ (وَلَا) يَصِلُ الْوَلِيُّ أَيْضًا فِي مَقَامِ الْقُرْبِ (إلَى حَيْثُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ) بِالْمَعْرُوفِ (وَالنَّهْيُ) لِعُمُومِ الْخَطَابِيَّاتِ

ص: 207

وَلِلْإِجْمَاعِ وَقَالَ بَعْضُ الْإِبَاحِيِّينَ إذَا بَلَغَ الْعَبْدُ غَايَةَ الْحُبِّ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَلَا تُدْخِلُهُ الْكَبِيرَةُ النَّارَ.

وَبَعْضُهُمْ ذَهَبَ إلَى سُقُوطِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ عِبَادَتُهُ هِيَ التَّفَكُّرُ فَهَذَا كُفْرٌ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ وَبَعْضُهُمْ ذَهَبَ إلَى إبَاحَةِ نَحْوِ مَالِ الْغَيْرِ وَكُلِّ النِّسَاءِ فَعِنْدَ الِاحْتِيَاجِ يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ مَالِ الْغَيْرِ وَنِسَائِهِ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ الْإِبَاحَةَ بِنِسْوَةِ الْغَيْرِ، وَبَعْضُهُمْ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْغَايَةَ إذَا فَعَلَ الْكَبَائِرَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَبَعْضُهُمْ عَمَّ إلَى كُلِّ مَا اشْتَهَى وَالتَّفْصِيلُ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ.

(وَأَفْضَلُهُمْ) أَيْ الْأَوْلِيَاءِ بِمَعْنَى الْأَكْثَرِ ثَوَابًا بِمَا كَسَبَ مِنْ الْخَيْرِ لَا أَنَّهُ أَعْلَمُ وَأَشْرَفُ نَسَبًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يُنَافِي رُجْحَانَ الْغَيْرِ فِي آحَادِ الْفَضَائِلِ الْأُخَرِ وَلَا فِي مَجْمُوعِ الْفَضَائِلِ مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ (أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ أَبِي قُحَافَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَاسْمُ أُمِّهِ أُمُّ الْخَيْرِ سَلْمَى بِنْتُ صَخْرٍ مَاتَتْ مُسْلِمَةً وَاسْتُدِلَّ عَلَى فَضْلِهِ فِي الْمَوَاقِفِ بِوُجُوهٍ.

أَوَّلُهَا: قَوْله تَعَالَى {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 17 - 18] وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ فَهُوَ أَتْقَى فَهُوَ أَكْرَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]

ثَانِيهَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» وَالْمُقْتَدَى بِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُقْتَدِي.

وَثَالِثُهَا: «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ عَلَى رَجُلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ» .

رَابِعُهَا: «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ هُمَا سَيِّدَا كُهُولِ الْجَنَّةِ مَا خَلَا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» .

خَامِسُهَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا يَنْبَغِي لِقَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ» .

سَادِسُهَا: تَقْدِيمُهُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ وَقَوْلُهُ «يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا أَبَا بَكْرٍ» حِينَ تَقَدَّمَ عُمَرُ فِي الصَّلَاةِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ.

سَابِعُهَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ أُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ» .

ثَامِنُهَا: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا دُونَ رَبِّي لَاتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنْ هُوَ شَرِيكِي فِي دِينِي وَصَاحِبِي الَّذِي أَوْجَبْت لَهُ صُحْبَتِي فِي الْغَارِ وَخَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي» .

تَاسِعُهَا: «قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام وَقَدْ ذُكِرَ عِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَأَيْنَ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَصَدَّقَنِي وَآمَنَ وَزَوَّجَنِي ابْنَتَهُ وَجَهَّزَنِي بِمَالِهِ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَجَاهَدَ مَعِي سَاعَةَ الْحُزْنِ» .

عَاشِرُهَا قَوْلُ عَلِيٍّ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ اللَّهُ أَعْلَمُ وَذُكِرَ عِنْدَ عُمَرَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَبَكَى وَقَالَ وَدِدْت أَنَّ عَمَلِي كُلَّهُ مِثْلُ عَمَلِهِ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِهِ وَلَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيَالِيِهِ أَمَّا اللَّيْلَةُ فَلَيْلَةُ الْغَارِ فَدَخَلَ قَبْلَهُ

ص: 208

- عليه الصلاة والسلام لَأَنْ يُخَلِّيَ الْمُؤْذِيَاتِ وَشَقَّ أَزَارَهُ وَسَدَّ بِشُقُوقِهِ الثُّقُوبَ فَبَقِيَ ثُقْبَانِ فَأَلْقَمَهُمَا رِجْلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ عليه الصلاة والسلام وَوَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهِ وَنَامَ فَلُدِغَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِجْلِهِ مِنْ الْحُجْرِ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ فَسَقَطَتْ دُمُوعُهُ عَلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَالَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ قَالَ: لُدِغْتُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي فَتَفَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَهَبَ مَا يَجِدُهُ ثُمَّ انْتَقَضَ عَلَيْهِ قِيلَ: وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ. وَأَمَّا الْيَوْمُ فَارْتَدَّتْ فِيهِ الْعَرَبُ وَامْتَنَعَتْ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَقَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ فَقُلْت: تَأَلَّفْ وَارْفُقْ بِهِمْ فَقَالَ: أَجَبَّارٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَخَوَّارٌ فِي الْإِسْلَامِ إنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ الْوَحْيُ وَتَمَّ الدِّينُ أَيَنْقُصُ وَأَنَا حَيٌّ.

وَزَادَ أَنَسٌ فِي حَدِيثِ الْغَارِ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَبَا بَكْرٍ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْحَى اللَّهُ عز وجل إلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ اسْتَجَابَ لَكَ» .

(ثُمَّ)(عُمَرُ الْفَارُوقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) لِكَوْنِهِ فَارِقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِرَأْيِهِ الصَّائِبِ وَلِظُهُورِ الْإِسْلَامِ يَوْمَ إسْلَامِهِ وَلِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ قَالَ عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ» ، أَوْ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى رَأْيِهِ غَالِبًا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ مَعِي وَأَنَا مَعَهُ وَالْحَقُّ بَعْدِي مَعَ عُمَرَ حَيْثُ كَانَ» ، أَوْ لِقَتْلِهِ مُنَافِقًا لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام فِي الْمَشَارِقِ عَنْ الْبُخَارِيِّ «قَدْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلِّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ وَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ» وَالْمُكَلِّمُونَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى مَا فِي شَرْحِهِ وَفِيهِ أَيْضًا قِيلَ:

لَهُ فَضَائِلُ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ

إلَّا عَلَى أَكْمَهَ لَا يَعْرِفُ الْقَمَرَا

ص: 209

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ» .

«وَعَنْ عُمَرَ اسْتَأْذَنْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمْرَةٍ فَأَذِنَ لِي وَقَالَ: لَا تَنْسَنَا يَا أَخِي مِنْ دُعَائِك أَوْ قَالَ: أَشْرِكْنَا يَا أَخِي فِي دُعَائِك» وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» .

وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَشَدُّ أُمَّتِي فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عُمَرُ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي حَدِيثِ «لَوْ كَانَ بَعْدِي» إلَخْ فِيهِ إبَانَةُ مَا فِي عُمَرَ مِنْ فَضْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَرُتْبَةِ قُرْبِهِ مِنْهُمْ.

فَلَوْ كَانَتْ النُّبُوَّةُ بِالْأَوْصَافِ الْمُكْتَسَبَةِ لَا بِالْفَضْلِ الْإِلَهِيِّ لَكَانَ نَبِيًّا لِجَمْعِهِ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْأَنْبِيَاءِ كَقُوَّتِهِ فِي دِينِ اللَّهِ وَبَذْلِهِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ الدُّنْيَا مَعَ تَمَكُّنِهِ ثُمَّ قَالَ وَخَصَّ عُمَرَ مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ إيذَانًا بِأَنَّ النُّبُوَّةَ بِالِاصْطِفَاءِ لَا بِالْأَسْبَابِ ذَكَرَهُ الْكَلَابَاذِيُّ وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ لِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ الْوَاقِعَاتِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا وَوَقَعَ لَهُ بَعْدَهُ عِدَّةُ إصَابَاتٍ انْتَهَى.

(ثُمَّ)(عُثْمَانُ) كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ذُو النُّورَيْنِ) لِجَمْعِهِ بَيْنَ النُّورَيْنِ بِنْتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُقَيَّةَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَأُمِّ كُلْثُومٍ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالْأُولَى وَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ

وَالثَّانِيَةُ لَمْ تَلِدْ لَهُ وَحِينَ مَوْتِهَا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَتْ عِنْدَنَا ثَالِثَةٌ لَزَوَّجْتُهَا عُثْمَانَ» .

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ «لَوْ كَانَ لِي أَرْبَعُونَ ابْنَةً زَوَّجْتُهُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ» .

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه لَيَدْخُلَنَّ بِشَفَاعَةِ عُثْمَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا كُلُّهُمْ قَدْ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ» .

وَفِي الْمَشَارِقِ عَلَى تَخْرِيجِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَلَا أَسْتَحْيِي مِمَّنْ تَسْتَحِيُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُ» مِنْهُ يَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ.

قَالَ شَارِحُهُ: الْمُرَادُ مِنْ الِاسْتِحْيَاءِ التَّوْقِيرُ وَالتَّعْظِيمُ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «لِكُلِّ نَبِيٍّ خَلِيلٌ فِي أُمَّتِهِ وَإِنَّ خَلِيلِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ» عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ أَيْضًا «لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَرَفِيقِي فِيهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ» وَعَنْ جَابِرٍ «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجِنَازَةِ رَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَاك تَرَكْت الصَّلَاةَ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَ هَذَا قَالَ: إنَّهُ يُبْغِضُ عُثْمَانَ فَأَبْغَضَهُ اللَّهُ» .

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوَّجْت فَاطِمَةَ خَيْرًا مِنْ زَوْجِي قَالَ: زَوَّجْتُك مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ قَالَ: وَأَزِيدُك لَوْ قَدْ دَخَلْت الْجَنَّةَ فَرَأَيْت مَنْزِلَهُ لَمْ تَرِي أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي يَعْلُوهُ فِي مَنْزِلِهِ» .

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «اللَّهُمَّ قَدْ رَضِيت عَنْ عُثْمَانَ فَارْضَ عَنْهُ» (ثُمَّ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى) لِارْتِضَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ خَلِيفَةً فِي الْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ

ص: 210

فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَالَ: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» أَوْ لِارْتِضَاءِ النَّبِيِّ أَفْعَالَهُ أَوْ لِأُخُوَّتِهِ وَصُحْبَتِهِ وَفَضَائِلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ الْمَوَاقِفِ بِوُجُوهٍ:

أَوَّلُهَا: آيَةُ الْمُبَاهَلَةِ {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران: 61] لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنْفُسِ عَلِيٌّ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلِيًّا إلَى هَذَا الْمَقَامِ.

ثَانِيهَا: خَبَرُ الطَّيْرِ «حِينَ أُهْدِيَ إلَيْهِ طَائِرٌ مَشْوِيٌّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِك إلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي هَذَا الطَّيْرَ فَأَتَى عَلِيٌّ وَأَكَلَ مَعَهُ» .

ثَالِثُهَا: «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الثُّدَيَّةِ يَقْتُلُهُ خَيْرُ الْخَلْقِ» وَقَدْ قَتَلَهُ عَلِيٌّ.

رَابِعُهَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخِي وَوَزِيرِي وَخَيْرُ مَنْ أَتْرُكُهُ بَعْدِي يَقْضِي دَيْنِي وَيُنَجِّزُ وَعْدِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ» .

خَامِسُهَا: «قَوْلُهُ لِفَاطِمَةَ أَمَا تَرْضِينَ أَنِّي زَوَّجْتُك مِنْ خَيْرِ أُمَّتِي» .

سَادِسُهَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ مَنْ أَتْرُكُهُ بَعْدِي عَلِيٌّ» .

سَابِعُهَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ وَسَيِّدُ الْعَرَبِ وَعَلِيٌّ سَيِّدُ الْعَرَبِ» .

ثَامِنُهَا: «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَاخْتَارَ مِنْهُمْ أَبَاك فَاتَّخَذَهُ نَبِيًّا ثُمَّ اطَّلَعَ ثَانِيَةً وَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَعْلَك» أَيْ زَوْجَك.

تَاسِعُهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا آخَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ اتَّخَذَهُ أَخًا لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ وَفَضْلِهِ.

عَاشِرُهَا: «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَمَا بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَى خَيْبَرَ فَرَجَعَا مُنْهَزِمَيْنِ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ الْيَوْمَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَرَّارًا غَيْرَ فَرَّارٍ وَأَعْطَاهَا عَلِيًّا» .

حَادِيَ عَشَرَهَا: قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ النَّبِيِّ {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] وَالْمُرَادُ بِصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ كَمَا نَقَلَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ.

ثَانِيَ عَشَرَهَا: قَوْلُهُ «- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى آدَمَ فِي عِلْمِهِ وَإِلَى نُوحٍ فِي تَقْوَاهُ وَإِلَى إبْرَاهِيمَ فِي حِلْمِهِ وَإِلَى مُوسَى فِي هَيْبَتِهِ وَإِلَى عِيسَى فِي عِبَادَتِهِ فَلْيَنْظُرْ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ» ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَمَالَاتٍ يَكَادُ أَنْ لَا تَجْتَمِعَ فِي غَيْرِهِ نَحْوَ كَوْنِهِ أَعْلَمَ النَّاسِ وَأَحْرَصَهُمْ عَلَى التَّعَلُّمِ وَكَانَ فِي صِغَرِهِ فِي حِجْرِهِ وَفِي كِبَرِهِ خَتَنًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَأَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا» وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ نَهَاهُ عَلِيٌّ عَنْ رَجْمِ مَنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَرَجْمِ الْحَامِلَةِ: لَوْلَا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ.

وَإِنَّ جَمِيعَ الْفِرَقِ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَكَذَا الْمُتَصَوِّفَةُ فِي تَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَئِيسُ الْمُفَسِّرِينَ تِلْمِيذُهُ وَعِلْمُهُ وَفَصَاحَتُهُ وَفِقْهُهُ فِي الدَّرَجَةِ الْقُصْوَى، وَأَنَّهُ أَزْهَدُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا مَعَ اتِّسَاعِ أَبْوَابِ الدُّنْيَا وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الدُّنْيَا، وَتَخَشَّنَ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ حَتَّى قَالَ لِلدُّنْيَا طَلَّقْتُك ثَلَاثًا وَأَنَّهُ أَكْرَمُ النَّاسِ وَأَسْخَاهُمْ حَتَّى يُؤْثِرَ الْمَحَاوِيجَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، حَتَّى تَصَدَّقَ فِي الصَّلَاةِ بِخَاتَمِهِ وَتَصَدَّقَ فِي لَيَالِيِ صِيَامِهِ الْمَنْذُورِ بِمَا كَانَ فُطُورَهُ وَنَزَلَ فِيهِ {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] وَأَنَّهُ أَشْجَعُ النَّاسِ فِي الْحُرُوبِ حَتَّى «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْأَحْزَابِ لَضَرْبَةُ عَلِيٍّ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ» .

وَتَوَاتَرَتْ وَقْعَتُهُ فِي خَيْبَرَ وَغَيْرِهِ وَأَنَّهُ اُشْتُهِرَ حُسْنُ خُلُقِهِ وَمَزِيدُ قُوَّتِهِ فِي بَدَنِهِ حَتَّى قَلَعَ بَابَ خَيْبَرَ بِيَدِهِ «وَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ جَعَلْتَنِي خَلِيفَةً لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» الْحَدِيثَ.

«وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ شَكَوْا مِنْ عَلِيٍّ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ مَا تُرِيدُونَ عَلِيًّا ثَلَاثًا إنَّ عَلِيًّا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي» .

وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخِذًا بِيَدِ عَلِيٍّ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُ وَلِيِّي وَأَنَا وَلِيُّكَ» .

وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: إنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتَا فِي كِفَّةٍ ثُمَّ وُضِعَ إيمَانُ عَلِيٍّ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ لَرَجَحَ إيمَانُ عَلِيٍّ» وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ لَأَبْعَثَنَّ رَجُلًا مِنِّي أَوْ مِثْلَ نَفْسِي فَلَيَضْرِبَنَّ أَعْنَاقَكُمْ إلَى آخِرِهِ قَالَ عُمَرُ مَا تَمَنَّيْت الْإِمَارَةَ إلَّا يَوْمَئِذٍ فَالْتَفَتَ إلَى عَلِيٍّ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ هُوَ

ص: 211

هَذَا هُوَ هَذَا» .

وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ احْتِضَارِهِ اُدْعُوا إلَيَّ حَبِيبِي فَدَعَوْت لَهُ أَبَا بَكْرٍ فَنَظَرَ إلَيْهِ وَقَالَ اُدْعُوا إلَيَّ حَبِيبِي فَدَعَوْا لَهُ عُمَرَ فَنَظَرَ إلَيْهِ فَقَالَ: اُدْعُوا إلَيَّ حَبِيبِي فَقُلْت: وَيْلُكُمْ اُدْعُوا عَلِيًّا فَلَمَّا رَآهُ أَفْرَدَ الثَّوْبَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَلَمْ يَزَلْ مُحْتَضِنَهُ حَتَّى قُبِضَ وَيَدُهُ عَلَيْهِ» .

وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ مَنَاقِبَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَارِجَةٌ عَنْ طَوْقِ الْقَلَمِ وَإِحَاطَةِ الْبَيَانِ وَلِهَذَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: الْإِنْصَافُ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْأَفْضَلِيَّةِ كَثْرَةُ مَا يَعُدُّهُ ذَوُو الْعُقُولِ مِنْ الْفَضَائِلِ فَلَا يَتَوَقَّفُ فِي أَفْضَلِيَّةِ عَلِيٍّ لَكِنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا جَاءَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْفَضَائِلِ مَا جَاءَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى مَا ذُكِرَ يَلْزَمُ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ عَلَى الْكُلِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ.

قُلْنَا: قَدْ أُجِيبَ فِي الْمَوَاقِفِ عَنْ أَكْثَرِ مَا ذُكِرَ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ عَلِيٍّ لَكِنَّ الْكَثْرَةَ لَا تُفِيدُ الظَّنَّ فَضْلًا عَنْ الْقَطْعِ وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ أَيْضًا وَالنُّصُوصُ الْمَذْكُورَةُ لِتَعَارُضِهَا لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ مَعَ أَنَّ الْمَطْلَبَ لِكَوْنِهِ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّاتِ لَا مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ يَقِينِيٌّ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ وَلِأَنَّ الْأَخْبَارَ بِأَسْرِهَا آحَادٌ مَعَ كَوْنِهَا مُتَعَارِضَةً وَأَنَّ الثَّوَابَ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَهُ أَنْ لَا يُثِيبَ الْمُطِيعَ وَيُثِيبَ غَيْرَهُ ثُمَّ قَالَ لَكِنْ وَجَدْنَا السَّلَفَ فِي تَرْتِيبِ الْفَضْلِ هَكَذَا فَلَوْ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ لَمَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُمْ وَتَفْوِيضُ الْحَقِّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِي شَرْحِهِ أَيْضًا قَدْ تَكُونُ فَضِيلَةٌ وَاحِدَةٌ أَرْجَحَ مِنْ فَضَائِلَ كَثِيرَةٍ فَلَا جَزْمَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ الْمُرَادُ هُنَا مِنْ كَثْرَةِ الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ السَّلَفُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَفْضِيلِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ وَقَالَ الدَّوَانِيُّ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ التَّوَقُّفُ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ.

وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ وَالْإِنْصَافُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ كَثْرَةُ الثَّوَابِ فَالِلتَّوَقُّفِ فِيهِ جِهَةٌ وَإِنْ أُرِيدَ كَثْرَةُ مَا يَعُدُّهُ ذَوُو الْعُقُولِ مِنْ الْفَضَائِلِ فَلَا وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالنَّظَرِ وَخَبَرُ الرَّسُولِ آحَادٌ مَعَ كَوْنِهَا مُتَعَارِضَةً وَرُبَّ عَمَلٍ قَلِيلٍ يَكْثُرُ ثَوَابُهُ مِنْ أَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ.

(وَخِلَافَتُهُمْ) أَيْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ (عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَيْضًا) كَمَا فِي تَرْتِيبِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ شَرْطُ الْأَفْضَلِيَّةِ فِي الْإِمَامَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَكِنْ يُشِيرُ إلَى كَوْنِ ذَلِكَ أَوْلَى بِدُونِ وُجُوبٍ وَهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ بِلَا نَصٍّ خِلَافًا لِلْبَكْرِيَّةِ فِي أَبِي بَكْرٍ وَالشِّيعَةِ فِي عَلِيٍّ (ثُمَّ) بَعْدَهُمْ فِي الْفَضْلِ (سَائِرُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ فِي أُصُولِ الْحَدِيثِ وَأَفْضَلُهُمْ الْأَرْبَعَةُ

ص: 212

عَلَى التَّرْتِيبِ ثُمَّ الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرَةُ ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ ثُمَّ أَهْلُ أُحُدٍ ثُمَّ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ ثُمَّ أَهْلُ الْعَقَبَتَيْنِ (وَنَكُفُّ) أَلْسِنَتَنَا وَقُلُوبَنَا.

(عَنْ ذِكْرِهِمْ إلَّا بِخَيْرٍ) فَلَا نَذْكُرُ مَا يُوهِمُ ذَمَّهُمْ وَمَا يُشْعِرُ بِمُسَاوِيهِمْ فَضْلًا عَنْ تَصْرِيحِ ذَلِكَ لِلْأَوَامِرِ بِتَعْظِيمِهِمْ وَالنَّهْيِ وَالتَّهْدِيدِ فِي بُغْضِهِمْ فَلَيْسَ عَلَيْنَا إلَّا حُبُّهُمْ وَتَوْقِيرُهُمْ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُذْكَرَ قِصَصُ نَحْوِ صِفِّينَ وَالْجَمَلِ بَلْ الْمَدَارُ عَلَى اسْتِلْزَامِ الشَّيْنِ فِي طَرَفٍ مَا وَلَا ضَرُورَةَ دَاعِيَةٌ لِلذِّكْرِ وَلِهَذَا تَرَاهُمْ لَا يَذْكُرُونَهَا فِي كُتُبِهِمْ وَمَنْ ذَكَرَهَا إمَّا بِمُلَاحَظَةِ التَّأْوِيلِ أَوْ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لِنَفْيِ مَا زَادُوا وَأَفْرَطُوا قَالُوا: إنَّ مِثْلَ تِلْكَ الْمُخَاصَمَاتِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْمُخْطِئُ فِي الِاجْتِهَادِ لَا يُؤَاخَذُ بَلْ يُؤْجَرُ نِصْفُ مَا لِلْمُصِيبِ.

قَالَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ مِنْ الْخُلَاصَةِ اللَّعْنُ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ وَكَذَا عَلَى الْحَجَّاجِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الزَّاهِدِ الصَّفَارِيِّ يَحْكِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: لَا تَلْعَنُوا مُعَاوِيَةَ وَلَا بَأْسَ بِاللَّعْنِ عَلَى يَزِيدَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ انْتَهَى وَنُقِلَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ جَوَازُ لَعْنِهِ لِكُفْرِهِ بِأَمْرِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ.

قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ: وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ اللَّعْنِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ أَوْ أَجَازَ وَرَضِيَ بِهِ وَالْحَقُّ أَنَّ رِضَا يَزِيدَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَاسْتِبْشَارَهُ بِذَلِكَ وَإِهَانَةَ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَتْ تَفَاصِيلُهُ آحَادًا فَنَحْنُ لَا نَتَوَقَّفُ فِي شَأْنِهِ بَلْ فِي إيمَانِهِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنْصَارِهِ وَأَعْوَانِهِ انْتَهَى لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَتْلِ أَوْ الْأَمْرِ بِلَا اسْتِحْلَالٍ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِ فِي إيجَابِ الْكُفْرِ تَحَكُّمٌ وَاسْتِلْزَامُ إهَانَةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام لَيْسَ بِمَعْلُومٍ وَلَوْ سَلِمَ الِاسْتِلْزَامُ فَالْأَكْثَرُ أَنَّ لُزُومَ الْكُفْرِ لَيْسَ بِكُفْرٍ بَلْ الْكُفْرُ الْتِزَامُ الْكُفْرِ وَلَوْ سَلِمَ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ اللُّزُومِ بَيِّنًا بَلْ بِمَعْنَى الْأَخَصِّ وَلَوْ سَلِمَ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ تَائِبًا بَعْدَهُ.

وَقَدْ قَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى مُعَيَّنٍ غَيْرُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ كَأَبِي لَهَبٍ وَأَبِي جَهْلٍ لَعَلَّ هَذَا لَمْ يُكَفِّرْ قَاتِلَ عُثْمَانَ مَعَ كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْ الْحُسَيْنِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِكْفَارَ إنَّمَا هُوَ لِاسْتِحْلَالِهِ الْخَمْرَ وَقَوْلُهُ إنْ لَمْ نَشْرَبْ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ فَلْنَشْرَبْ عَلَى دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَلِقَوْلِهِ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ فِي دِيوَانِهِ الْمَنْحُوسِ رَأْسُهُ الشَّرِيفُ الطَّيِّبُ الْمُبَارَكُ لِمَ لَمْ تُخَلِّصْك مَا اغْتَرَرْت عَلَيْهِمْ مِنْ أَبَوَيْك وَجَدِّك فَالْآنَ انْطَفَأَتْ حَرَارَتِي الْحَاصِلَةُ مِنْ قَتْلِ أَبِيك سَبْطِي فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَنَحْوُهُ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ ثُبُوتُهُ فَلَعَلَّ لِذَلِكَ كُلِّهِ ذَهَبَ السَّلَفُ وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْخَلَفِ عَلَى عَدَمِ لَعْنِهِ لَكِنْ إنْ صَدَرَ جِنْسُ مَا ذُكِرَ مِنْهُ وَدَامَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتُبْ فَنُكَفِّرْهُ أَلْبَتَّةَ وَإِلَّا فَلَا نُكَفِّرُهُ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ عَلِمَ صُدُورَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ تَوْبَتُهُ فَمُقْتَضَى قَاعِدَةِ الِاسْتِصْحَابِ نَعَمْ وَمُقْتَضَى عَدَمِ جَوَازِ تَعْيِينِ اللَّعْنِ كَمَا مَرَّ آنِفًا لَا فَلَعَلَّ الْأَسْلَمَ هُوَ التَّوَقُّفُ.

وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ

ص: 213

عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَزَالُ أَمْرُ أُمَّتِي قَائِمًا بِالْقِسْطِ حَتَّى يَكُونَ أَوَّلُ مِنْ نَثْلِهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ» قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ: الْأَحَادِيثُ فِي ذَمِّ مُعَاوِيَةَ وَكَذَا فِي فَضَائِلِهِ وَذَمِّ يَزِيدَ مَوْضُوعَةٌ.

(وَنَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ لِلْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ) بَشَّرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ وَهُمْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَسَعِيدٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ.

قِيلَ: عَنْ الْكَرْمَانِيِّ فِي وَجْهِ التَّخْصِيصِ بِالْعَشَرَةِ مَعَ أَنَّ الْمَحْكُومَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ أَكْثَرُ كَمَا سَيُذْكَرُ إمَّا لِكَوْنِ تَبْشِيرِهِمْ دُفْعَةً أَوْ لِوُقُوعِهِ بِلَفْظِ الْبِشَارَةِ أَوْ لِأَنَّ التَّعْيِينَ بَعْدَهُ لَا يُنَافِي مَا عَدَاهُ وَأَقُولُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ شُيُوعَ ذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ تَبْشِيرِ مَنْ سِوَاهُمْ (وَفَاطِمَةُ) بِنْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لِنَحْوِ مَا رَوَى خُزَيْمَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ لَمْ يَنْزِلْ الْأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ وَيُبَشِّرَنِي أَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» .

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَهَبَ بِي إلَى بَابِ فَاطِمَةَ لِلْعِيَادَةِ عِنْدَ مَرَضِهَا فَاسْتَأْذَنَ قَالَتْ: نَعَمْ يَا أَبَتَاهُ فَوَاَللَّهِ مَا عَلَيَّ إلَّا عَبَاءَةٌ فَقَالَ لَهَا اصْنَعِي بِهَا كَذَا وَكَذَا فَعَلَّمَهَا كَيْفَ تَسْتَتِرُ فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا عَلَى رَأْسِي خِمَارٌ فَأَخَذَ خَلْقَ مُلَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ اخْتَمِرِي بِهَا ثُمَّ أَذِنْت فَدَخَلَا فَقَالَ: كَيْفَ نَجِدُك يَا بُنَيَّةُ فَقَالَتْ: إنِّي وَجِعَةٌ وَأَنَّهُ لِيَزِيدَنِي أَنَّهُ مَا لِي طَعَامٌ آكُلُهُ قَالَ: يَا بُنَيَّةُ أَمَا تَرْضِينَ أَنَّكِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ قَالَتْ: يَا أَبَتِ فَأَيْنَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ قَالَ: تِلْكَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِهَا وَأَنْتِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِك أَمَا وَاَللَّهِ زَوَّجْتُك سَيِّدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» .

وَفِي رِوَايَةٍ «أَمَا إنَّهَا سَيِّدَةُ النِّسَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -» وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَبِيهَا (وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَعَنْ أَبَوَيْهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ خُزَيْمَةَ.

وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «شَبَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَمْسَةٌ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ وَابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ»

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنَ إلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» .

«وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا» (وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ بَشَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) كَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ أُمِّ فَاطِمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ»

وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «سَيِّدَاتُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثٌ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أَوَّلُ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ إسْلَامًا»

قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ أَيْ وَمَرْيَمُ وَيُحْتَمَلُ عَائِشَةُ وَفِيهِ أَيْضًا «سَيِّدَاتُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ مَرْيَمُ وَفَاطِمَةُ وَخَدِيجَةُ وَآسِيَةُ» .

وَفِي شَرْحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَةُ ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ آسِيَةُ فَالظَّاهِرُ مَرَاتِبُ الْفَضْلِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ تَفْضِيلُ فَاطِمَةَ عَلَى خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهن وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَصَايَاهُ صَرِيحٌ فِي تَفْضِيلِ عَائِشَةَ بَعْدَ خَدِيجَةَ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَظَاهِرٌ فِي تَفْضِيلِ خَدِيجَةَ عَلَى عَائِشَةَ.

وَكَلَامُ بَدْءِ الْأَمَالِي صَرِيحٌ فِي تَفْضِيلِ عَائِشَةَ عَلَى فَاطِمَةَ بِخُصُوصِهَا وَوُجِّهَ بِكَثْرَةِ رِوَايَتِهَا وَدِرَايَتِهَا وَبِمَعِيَّتِهَا بِالنَّبِيِّ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ: بِتَفْضِيلِ فَاطِمَةَ عَلَى عَائِشَةَ لِكَوْنِهَا جُزْءَ النَّبِيِّ أَقُولُ: مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ تَرْجِيحُ جَانِبِ فَاطِمَةَ إذْ لَا مَسَاغَ لِلدِّرَايَةِ هُنَا وَالرِّوَايَةُ مُقْتَضِيَةٌ قُوَّةَ هَذَا الْجَانِبِ كَمَا سُمِعَتْ أَخْبَارُ فَاطِمَةَ.

وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ عَلَى تَفْضِيلِ عَائِشَةَ بِنَحْوِ حَدِيثِ «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ بِاللَّحْمِ» وَحَدِيثِ «فَضْلُ الثَّرِيدِ عَلَى الطَّعَامِ كَفَضْلِ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ» فَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي رُجْحَانَهَا عَلَى فَاطِمَةَ لِقُوَّةِ أَدِلَّةِ فَاطِمَةَ ثُبُوتًا وَدَلَالَةً نَعَمْ إنَّ تَفْضِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِهِ أَقْدَمَ وَأَعْلَمَ وَأَوْثَقَ وَأَوْرَعَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَهُ دَلِيلٌ رَاجِحٌ غَايَتُهُ عَدَمُ اطِّلَاعِنَا وَعَدَمُ الْوِجْدَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْوُجُودِ.

اعْلَمْ

ص: 214

أَنَّهُ قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَضُدُ فِي عَقَائِدِهِ: وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَأَهْلُ غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ الدَّوَانِيُّ وَقَدْ عَدَّ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّحِيحِ وَقَدْ سَمِعْنَا مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ مُسْتَجَابٌ وَقَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ انْتَهَى ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ تَقْدِيمِهِ تَفْضِيلُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ لَكِنَّ صَرِيحَ كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فِي تَرْتِيبِ تَفْضِيلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ ثُمَّ بَاقِي الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ ثُمَّ أَهْلِ بَدْرٍ ثُمَّ أَهْلِ أُحُدٍ ثُمَّ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ ثُمَّ مَنْ لَازَمَ النَّبِيَّ وَقُتِلَ تَحْتَ لِوَائِهِ لَكِنْ مَا قَالُوا مِنْ أَنَّ أَعْدَادَ أَهْلِ بَدْرِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ.

وَمَا عَدَّهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لَيْسَ بِبَالِغٍ إلَى هَذَا الْمَبْلَغِ إذْ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الصَّحِيحِ هُوَ هَذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْقُرَشِيُّ خَلَّفَهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَلَى ابْنَتِهِ وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ، حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفُ الْقُرَشِيِّ، حَارِثَةُ بْنُ رَبِيعٍ الْأَنْصَارِيُّ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَحَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ كَانَ فِي النَّظَّارَةِ، حَبِيبُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ، خُنَيْسُ بْنُ حَذَافَةَ السَّهْمِيُّ، رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ رِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، أَبُو لُبَابَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ الْقُرَشِيُّ، زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ، أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ، سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الزُّهْرِيُّ، سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ الْقُرَشِيُّ، سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو نُفَيْلٍ الْقُرَشِيُّ، سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ، ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ الْقُرَشِيُّ، عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيُّ، عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ حَلِيفُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، عُتْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنَزِيُّ، عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيُّ، عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ، قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ قَتَادَةُ بْنُ نُعْمَانَ الْأَنْصَارِيُّ، مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، مُعَوِّذُ ابْنُ عَفْرَاءَ، وَأَخُوهُ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَبُو السَّيِّدِ الْأَنْصَارِيُّ، مِسْطَحُ بْنُ أَثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ مُرَادَةُ بْنُ رَبِيعٍ الْأَنْصَارِيُّ، مَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ، مِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ الْأَنْصَارِيُّ

وَأَمَّا أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَقِيلَ: أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَقِيلَ: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَقِيلَ: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ وَقِيلَ: أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ (لَا) نَشْهَدُ (لِغَيْرِهِمْ بِعَيْنِهِ) وَأَمَّا بِلَا تَعْيِينٍ نَحْوَ كُلُّ مُؤْمِنٍ فِي الْجَنَّةِ فَنَشْهَدُ بِهِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ زَيْدًا مُؤْمِنٌ وَقَدْ ذَكَرْت أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فِي الْجَنَّةِ فَيُنْتَجُ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ زَيْدٌ فِي الْجَنَّةِ أَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ الْمُؤْمِنِ فِي الصُّغْرَى مَا يَكُونُ حَالًّا وَفِي الْكُبْرَى مَا فِي الْمَآلِ وَالْخَاتِمَةِ فَإِنْ قِيلَ: فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذَا الشَّخْصُ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَيُنْتَجُ هَذَا الْمُعَيَّنُ فِي الْجَنَّةِ فَنَقُولُ بَعْدَ تَسْلِيمِ كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى لَا نُسَلِّمُ الصُّغْرَى إذْ كَوْنُ الْمُرَادِ مِنْ الْكَلَامِ مَا هُوَ الْمَلْفُوظُ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ إذْ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ مَا فِي الْفُؤَادِ وَلَا يُعْلَمُ حَالُ الْفُؤَادِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ شُرُوطٌ كَالتَّوَجُّهِ التَّامِّ إلَى عَالَمِ الْقُدْسِ وَالْإِعْرَاضِ التَّامِّ عَنْ مُيُولَاتِ عَالَمِ الرِّجْسِ مِنْ الشَّهَوَاتِ وَدَوَاعِي الْهَوَى.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا فِي الْخَاتِمَةِ مِنْ أَهْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حَالًّا وَمَآلًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حَتَّى نُوَدِّعَ الدُّنْيَا غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إلَيْهَا وَمُحِبِّينَ لِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (ثُمَّ) بَعْدَ الصَّحَابَةِ الْأَفْضَلُ (التَّابِعُونَ) لَهُمْ بِإِحْسَانٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ تَابِعُ التَّابِعِينَ» مِنْهُمْ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ لِاجْتِمَاعِهِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَنَحْوِهِمْ.

(وَالْمُسْلِمُونَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ) نَصْبِ (إمَامٍ) سُلْطَانٍ لِأَنَّ مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَعُ الْقُرْآنُ وَلِتَوَقُّفِ أَكْثَرِ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِ كَالْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ وَلِذَا قَدَّمَ الْأَصْحَابُ نَصْبَهُ عَلَى دَفْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ

ص: 215

(قَادِرٍ عَلَى تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ) الشَّرْعِيَّةِ بِشَوْكَتِهِ وَعِلْمِهِ (مُسْلِمٍ) لِعَدَمِ وِلَايَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ (حُرٍّ) لِعَدَمِ وِلَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ (مُكَلَّفٍ) عَاقِلٍ بَالِغٍ وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ الصَّبِيُّ لَكِنَّهُ فِي الِاسْمِ فَقَطْ لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ.

وَفِي الرَّسْمِ وَزِيرُهُ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ فَلَا تَقْلِيدَ لِلْقَضَاءِ مِنْهُ وَتَوْكِيلُ إمَامِ الْجُمُعَةِ (ظَاهِرٍ) لِيُرْجَعَ إلَيْهِ وَقْتَ الْحَاجَةِ كَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ وَإِحْقَاقِ الْحُقُوقِ وَقَهْرِ الْمُتَغَلِّبَةِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَسَدِّ الثُّغُورِ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ (وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ هَاشِمِيًّا وَلَا مَعْصُومًا) لِامْتِنَاعِهِ عَادَةً فِي الْأُمَّةِ (وَلَا أَفْضَلَ زَمَانِهِ) لِأَنَّ مَنْصِبَ الْخِلَافَةِ هُوَ تَدْبِيرُ الْمَمْلَكَةِ وَالْمُحَارَسَةُ وَذَلِكَ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي الْأَفْضَلِ وَكَثِيرًا مَا فِي الْمَفْضُولِ

ص: 216

(وَلَا يَنْعَزِلُ بِفِسْقٍ وَجَوْرٍ) أَيْ ظُلْمٍ فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَتِهِ فِي الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ وَإِنْ ظَالِمًا فِي نَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ.

وَفِي قَاضِي خَانْ أُمِرْنَا بِإِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْر إذْ عَزْلُ الظَّالِمِ وَنَصْبُ الْعَادِلِ مُفْضٍ إلَى فَسَادَاتٍ وَسَفْكِ دِمَاءٍ وَفِتَنٍ كَثِيرَةٍ وَلِذَا كَانَ السَّلَفُ يَنْقَادُونَ لِأَوَامِرِ فَسَقَةِ الْأُمَرَاءِ وَظَلَمَتِهِمْ وَيُقِيمُونَ الْجُمُعَةَ وَالْأَعْيَادَ بِإِذْنِهِمْ.

وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «لَا تَسُبُّوا الْأَئِمَّةَ وَادْعُوا اللَّهَ لَهُمْ بِالصَّلَاحِ فَإِنَّ صَلَاحَهُمْ لَكُمْ صَلَاحٌ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ إذْ بِهِمْ حِرَاسَةُ الدِّينِ وَسِيَاسَةُ الدُّنْيَا وَحِفْظُ مَنَاهِجِ الْمُسْلِمِينَ وَتَمْكِينُهُمْ مِنْ الْعَمَلِ وَلِذَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: لَوْ كَانَ لِي دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ مَا صَيَّرْتُهَا إلَّا فِي الْإِمَامِ لِأَنِّي لَوْ جَعَلْتُهَا لِنَفْسِي لَمْ تُجَاوِزْنِي وَلَوْ لَهُ كَانَتْ لِلْعِبَادِ وَالْبِلَادِ وَسُئِلَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَك اللَّهُ أَقْبَلُ لَك وَاحِدًا فَقَطْ مِنْ الدُّعَاءِ لِمَ تَصْرِفُهُ قَالَ لِدُعَاءِ الْأُمَرَاءِ وَمِنْ حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «لَا تَسُبُّوا السُّلْطَانَ فَإِنَّهُ فَيْءٌ» أَيْ ظِلُّ «اللَّهِ فِي أَرْضِهِ» .

(وَتَجُوزُ)(الصَّلَاةُ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ) بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ صَالِحٍ فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِالْحَجَّاجِ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا لَكِنَّ أَصْلَ الْجَوَازِ لَا يُنَافِي كَرَاهَةَ إمَامَةِ الْفَاسِقِ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ وَتُكْرَهُ إمَامَةُ الْفَاسِقِ رَجُلَانِ فِي الْعِفَّةِ وَالصَّلَاحِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَقْرَأُ فَقَدَّمَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ الْآخَرَ فَقَدْ أَسَاءُوا وَتُكْرَهُ إمَامَةُ الْمَفْضُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْفَاضِلِ إنْ كَرِهَ الْقَوْمُ إمَامَتَهُ خِلَافًا لِلرَّوَافِضِ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عِنْدَهُمْ وَإِنَّمَا أَوْرَدَ جِنْسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ مَعَ أَنَّهَا مِنْ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ رَدًّا لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ الْمُخَالِفِينَ وَجَعَلَهَا مِنْ الْأُصُولِ (وَيُصَلَّى عَلَيْهِ) .

(وَيَجُوزُ)(الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ)(فِي الْحَضَرِ) يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ نَقْضِ الْوُضُوءِ (وَالسَّفَرِ) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا كَذَلِكَ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ لِكَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى

ص: 217

كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَقَدْ أَثْبَتَ مَشَايِخُنَا كَوْنَ أَخْبَارِهِ مَشْهُورَةً وَالزِّيَادَةُ بِهِ جَائِزَةٌ بَلْ قِيلَ: مِنْ قَبِيلِ مُتَوَاتِرِ الْمَعْنَى حَتَّى قَالَ الْكَرْخِيُّ: أَخَافُ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ.

وَفِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَقَالَ: أَنْ تُحِبَّ الشَّيْخَيْنِ وَلَا تَطْعَنَ فِي الْخَتَنَيْنِ وَتَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَفِي غَيْرِهِ تَفْضِيلُ الشَّيْخَيْنِ وَتَوْقِيرُ الْخَتَنَيْنِ وَتَعْظِيمُ الْقِبْلَتَيْنِ وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ وَالْإِمْسَاكُ عَنْ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَتَيْنِ وَإِثْبَاتُ الْقَدَرَيْنِ وَعِلْمُ الْمَقْرُونَيْنِ وَتَرْكُ الْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامَيْنِ وَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْإِمَامَيْنِ.

(وَلَا يَحْرُمُ)(نَبِيذُ الْجَرِّ) جَمْعُ جَرَّةٍ وَهِيَ إنَاءٌ مِنْ فَخَّارٍ وَنَبِيذُهَا بِأَنْ يُلْقِيَ التَّمْرَ أَوْ الزَّبِيبَ فَتَجْذِبَ حَلَاوَتَهُمَا إلَى الْمَاءِ (إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا) فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَ ذَلِكَ وَالتَّفْضِيلُ فِي أَشْرِبَةِ الْفِقْهِيَّةِ.

(وَفِي)(دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ لِلْأَمْوَاتِ وَصَدَقَتِهِمْ عَنْهُمْ)(نَفْعٌ لَهُمْ) فِي الْبَحْرِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ قُرْآنًا أَوْ ذِكْرًا أَوْ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً أَوْ طَوَافًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْحَجِّ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.

وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَيَكْفِيَك صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَمَا ذَكَرَهَا مِنْ حَدِيثِ «إنَّ الْعَالِمَ وَالْمُتَعَلِّمَ إذَا مَرَّا عَلَى قَرْيَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ الْعَذَابَ عَنْ مَقْبَرَةِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» مُفْتَرًى لِمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ فَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ الْحَافِظِ الْجَلَالِ: لَا أَصْلَ لَهُ وَنَقَلَ عَنْ شَرْحِ الصُّدُورِ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ عَنْ الْغَيْرِ أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ لِلْقَارِئِ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ الِاسْتِمَاعِ وَلِذَلِكَ تَلْحَقُهُ الرَّحْمَةُ وَلَا يَبْعُدُ فِي كَرَمِ اللَّهِ أَنْ يَلْحَقَهُ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ وَالِاسْتِمَاعِ مَعًا وَيَلْحَقُهُ ثَوَابُ مَا يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ.

ص: 218

(وَفَضْلُ الْأَمَاكِنِ حَقٌّ) ثَابِتٌ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ كَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» وَإِنَّ شَرَفَهَا إنَّمَا هُوَ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِشَرَفِ الْمَكِينِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ «وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْبِقَاعِ خَيْرٌ وَأَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي فَسَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي فَقَالَ لَهُ: سَلْ رَبَّك فَسَأَلَهُ فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدِ وَشَرُّ الْبِقَاعِ الْأَسْوَاقُ» قَالَ فِي الدُّرِّ مُحْتَجًّا بِهَذَا الْأَثَر أَنْ لَا أَدْرِيَ مِنْ الْكَمَال.

وَفِي أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ كُلِّ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ الْجَهَالَةِ.

(وَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ الْعَقْلِ) لِأَنَّ الْعَقْلَ كَالْوَسِيلَةِ وَالْعِلْمَ كَالْمَقْصُودِ وَأَنَّ مَسْلُوبَ الْعَقْلِ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِمُجَرَّدِ تَبَعِيَّةِ

ص: 219

الدَّارِ أَوْ الْوَالِدَيْنِ أَوْ الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَمَّا الْجَهْلُ سِيَّمَا لِذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ مَعَ وُجُودِ الْعَقْلِ فَكُفْرٌ وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]- خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ لَعَلَّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَقِيلَ عَنْ الْعَيْنِيِّ بِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْعَقْلُ عِنْدَ بَعْضٍ، وَقِيلَ: الْعَقْلُ بَعْضُ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَقِيلَ: هُوَ قُوَّةٌ يُمَيِّزُ بِهَا مِنْ حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ فَافْهَمْ.

(وَأَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ لَا يُدْرَى أَهُمْ فِي الْجَنَّةِ) لِتَبَعِيَّةِ الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَوْ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ (أَمْ فِي النَّارِ) لِتَبَعِيَّةِ الْوَالِدَيْنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَعَدَمُ الدِّرَايَةِ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ أَحَدُ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي تَوَقَّفَ فِيهَا قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ: تَوَقَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ثَمَانٍ

أَوَّلُهَا سُؤْرُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ ثَانِيهَا الْكَلْبُ مَتَى يَكُونُ مُعَلَّمًا ثَالِثُهَا الْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ أَمْ الْأَنْبِيَاءُ رَابِعُهَا أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ أَمْ فِي النَّارِ خَامِسُهَا فِي الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَالْبَقَرِ الْجَلَّالَةِ وَالْغَنَمِ مَتَى يَطِيبُ لَحْمُهُمْ سَادِسُهَا مَتَى وَقْتُ الْخِتَانِ سَابِعُهَا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى ثَامِنُهَا تَفْسِيرُ الدَّهْرِ وَقَدْ يُزَادُ عَلَى هَذِهِ وَقَدْ يَنْقُصُ وَنُقِلَ عَنْ التَّوْشِيحِ لِلسُّيُوطِيِّ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ أَيْضًا

أَوَّلُهَا فِي الْجَنَّةِ ثَانِيهَا خُدَّامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثَالِثُهَا فِي بَرْزَخٍ بَيْنَ النَّارِ وَالْجَنَّةِ رَابِعُهَا فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى خَامِسُهَا يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَةِ سَادِسُهَا يَصِيرُونَ تُرَابًا سَابِعُهَا فِي النَّارِ ثَامِنُهَا الْوَقْفُ لَكِنَّ الدَّوَانِيَّ نَقَلَ عَنْ النَّوَوِيِّ الصَّحِيحُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ،

وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ إنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا بِلَا ذَنْبٍ لَعَلَّ لِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ فِي النَّارِ بِلَا عَذَابٍ، لَعَلَّ الصَّحِيحَ هُوَ التَّوَقُّفُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا أَهْلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مِنْ جُمْلَتِهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمْ فِي النَّارِ حِينَ سَأَلَتْهُ خَدِيجَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنْ أَطْفَالِهَا الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ سَمِعَتْ عَدَمَ الْعَذَابِ بِلَا ذَنْبٍ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .

(وَلِلْكَفَرَةِ حَفَظَةٌ) جَمْعُ حَافِظٍ لِحِفْظِهِمْ وَضَبْطِهِمْ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10]- وَقَوْلِهِ - {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]- وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُمْ حَفَظَةٌ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ قُلْنَا: مِنْ جُمْلَةِ الْفَائِدَةِ إظْهَارُ كَمَالِ الْعَدَالَةِ وَالتَّسْجِيلُ عَلَيْهِمْ وَإِكْمَالُ السَّآمَةِ وَالْمَلَامَةِ وَإِنَّ ذَلِكَ رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ نَصٍّ وَاحْتِجَاجٌ فِي الْمَطْلَبِ النَّقْلِيِّ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَحَمْلُ النُّصُوصِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَاجِبٌ إنْ وَقَعَتْ فِي أَمْرٍ مُمْكِنٍ وَلَا شَكَّ فِي إمْكَانِ ذَلِكَ (وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ) لِأَنَّ الشَّيْءَ ثَابِتٌ وَالْمَعْدُومَ لَيْسَ بِثَابِتٍ

ص: 220

خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ إذْ الْمُمْكِنُ الْمَعْدُومُ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ عِنْدَهُمْ فَالْمُمْتَنِعُ لَيْسَ بِشَيْءٍ اتِّفَاقًا لَعَلَّ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ يَصْدُقُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مُسَاوِيًا لِلْإِمْكَانِ الْعَامِّ وَيَقْسِمُونَ الشَّيْءَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَمُمْتَنِعٍ فَمَعْنَى الشَّيْءِ عِنْدَهُمْ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ وَيُخْبَرَ بِهِ.

وَعَلَى مَا نُقِلَ عَنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ شُمُولُهُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَمُطْلَقِ الْمَعْدُومِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الشَّائِي فَيَنْدَفِعُ مَا أُورِدَ عَلَيْهِ بِعَدَمِ كَوْنِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الَّتِي يَجُوزُ إطْلَاقُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجْهُ الدَّفْعِ التَّرَادُفُ بِالْمُرِيدِ وَالْجَوَابُ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ يُرَدُّ بِنَحْوِ {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 16]{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ} [البقرة: 15] بِهِمْ لِعَدَمِ إطْلَاقِ نَحْوِ الْمُسْتَهْزِئِ عَلَيْهِ تَعَالَى فَتَأَمَّلْ اعْلَمْ أَنَّ النِّزَاعَ فِي كَوْنِهِ مَعْنًى حَقِيقِيًّا وَإِلَّا فَنَحْنُ قَائِلُونَ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْدُومِ مَجَازًا.

وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]- {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} [النحل: 40] بِالْمَجَازِ الْأَوْلَى مَثَلًا فَيَضْمَحِلُّ احْتِجَاجُ الْمُعْتَزِلَةِ لَعَلَّ هَذَا حَاصِلُ مَا أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَكُونُ مَوْجُودًا حِينَ حُصُولِهِ أَوْ لِغَايَةِ تَحَقُّقِهِ كَالْمُحَقَّقِ فِي الْحَالِ أَوْ أَنَّهُ مُحَقَّقٌ فِي الْحَالِ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى لَكِنْ يَرِدُ أَنَّ الْأَصْلَ كَوْنُهُ مَعْنًى حَقِيقِيًّا وَالْمَجَازُ خِلَافُهُ.

فَإِنْ أُرِيدَ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى النَّقْلِ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ أَوْ كُتُبِهِمْ وَأَنَّ الِاصْطِلَاحِيَّةَ فَيُعْلَمُ بِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِلَا قَرِينَةٍ فَافْهَمْ قِيلَ: فَائِدَةُ الْخِلَافِ لُزُومُ قِدَمِ الْأَشْيَاءِ وَتَعْطِيلُ الصَّانِعِ عِنْدَ كَوْنِ الْمَعْدُومِ شَيْئًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الدَّهْرِيَّةِ والأفلاكية.

(وَالسِّحْرُ) عَنْ الْمُنَاوِيِّ هُوَ إتْيَانُ نَفْسٍ شِرِّيرَةٍ بِخَارِقٍ عَنْ مُزَاوَلَةِ مُحَرَّمٍ إمَّا كُفْرٌ أَوْ كَبِيرَةٌ قِيلَ هُوَ خَمْسَةٌ فِي الْمَشْهُورِ: النِّيرِنْجُ، لِرُقْيَةِ الحلقطيرات الشَّعْبَذَةُ، الطَّلْسَمُ (وَاقِعٌ) كَوُقُوعِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قِيلَ إنَّهُ اسْتَمَرَّ إلَى سَبْعَةِ أَشْهُرٍ حَتَّى نَزَلَ الْمُعَوِّذَتَانِ كَمَا سَبَقَ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّوَافِضِ فِي حَمْلِهِمْ عَلَى الْأَوْهَامِ، وَالْخَيَالَاتِ بِلَا حَقِيقَةٍ لَهُ وَلَنَا الْكِتَابُ النَّاطِقُ بِأَنَّهُ مِمَّا يُتَعَلَّمُ وَمِمَّا يُكَفِّرُ، وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَالسُّنَّةُ كَسِحْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْإِجْمَاعُ قَبْلَ الْمُخَالِفِ.

(وَإِصَابَةُ الْعَيْنِ جَائِزَةٌ) ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ نَحْوَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَيْنُ حَقٌّ تَسْتَنْزِلُ الْحَالِقَ» أَيْ الْجَبَلَ الْعَالِيَ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقٌ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» يَعْنِي لَوْ أَمْكَنَ زَوَالُ شَيْءٍ وَفَنَاؤُهُ قَبْلَ أَوَانِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ

ص: 221

«وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْتَسِلُوا» خِطَابٌ لِلْعَائِنِ يَعْنِي إذَا طَلَب الْمَعْيُونُ مِمَّنْ يَتَّهِمُ أَنَّهُ عَائِنٌ غَسْلَ أَطْرَافِهِ وَمَا تَحْتَ إزَارِهِ لِيَصُبَّ غُسَالَتَهُ عَلَيْهِ فَلْيَفْعَلْ الْعَائِنُ ذَلِكَ نَدْبًا وَقِيلَ وُجُوبًا؛ لِأَنَّ تِرْيَاقَ سَمِّ الْحَيَّةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ لَحْمِهَا يُؤْخَذُ عِلَاجُ ذَلِكَ مِنْهُ فَفِي الِاغْتِسَالِ إطْفَاءٌ لِذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَا يَنْفَعُ ذَلِكَ لِلْمُنْكِرِ وَلَا لِمَنْ يَفْعَلُ لِلتَّجْرِبَةِ قَالَ الْحُكَمَاءُ فِي وَجْهِهِ إنَّ الْقُوَّةَ السُّمَيَّةَ تَنْبَعِثُ مِنْ عَيْنِ الْعَائِنِ إلَى الْمُعِينِ نَفْسًا أَوْ مَالًا فَيَهْلَكُ، وَقِيلَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَبْعَثَ جَوَاهِرَ لَطِيفَةً غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ إلَى الْمُعَيَّنِ فَيَهْلِكُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَفْهُومُ مِنْ حَدِيثِ:«الْعَيْنُ حَقٌّ يَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ، وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ» أَنَّ السَّبَبَ إعْجَابُ الشَّيْطَانِ بِلَا رُجُوعٍ إلَى اللَّهِ وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ بِغَفْلَتِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى

(تَنْبِيهٌ) نُقِلَ عَنْ بَعْضٍ مَنْعُ الْعَائِنِ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ وَلُزُومِ بَيْتِهِ كَالْمَجْذُومِ بَلْ أَوْلَى وَنَفَقَةُ الْفَقِيرِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ مُتَعَيَّنٌ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ تَصْرِيحٌ بِخِلَافِهِ وَفُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ رَتَّبُوا وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ بِهَا أَقُولُ وَلَا يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ سِيَّمَا حَدِيثُ «الْعَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَتُدْخِلُ الْجَمَلَ الْقِدْرَ» .

(فَائِدَةٌ) أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِأَنَّ سَعِيدًا النَّاجِيَّ قَالَ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا حِينَ قِيلَ لَهُ: احْفَظْ نَاقَتَك مِنْ فُلَانٍ الْعَائِنِ فَعَانَهَا فَاضْطَرَبَتْ فَأُخْبِرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ حَبْسٌ حَابِسٌ وَشِهَابٌ قَابِسٌ رَدَدْت عَيْنَ الْعَائِنِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَحَبِّ النَّاسِ إلَيْهِ، وَعَلَى كَبِدِهِ وَكُلْوَتَيْهِ رَشِيقٌ، وَفِي مَالِهِ يَلِيقُ {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3] الْآيَةَ.

فَخَرَجَتْ حَدَقَتَا الْعَائِنِ وَسَلِمَتْ النَّاقَةُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَشُرُوحِهَا مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَشَرْحِهِ وَقِيلَ: «حِينَ أَصَابَتْ الْعَيْنُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَلَّمَ جَبْرَائِيلُ النَّبِيَّ التَّعْوِيذَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَهِيَ: اللَّهُمَّ ذَا السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ، وَالْمَنِّ الْقَدِيمِ، وَالْكَلِمَاتِ التَّامَّاتِ، وَالدَّعَوَاتِ الْمُسْتَجَابَاتِ عَافِ الْحَسَنَ، وَالْحُسَيْنَ مِنْ أَنْفُسِ الْجِنِّ وَأَعْيُنِ الْإِنْسِ فَقَالَهَا لَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَا يَلْعَبَانِ» .

وَفِي الشِّرْعَةِ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ بِتَسْوِيدِ حُفْرَةِ ذَقَنِ صَبِيٍّ مَلِيحٍ، وَفِيهِ عَنْهُ أَيْضًا أَمَرَ الْعَائِنَ بِالْغُسْلِ أَوْ الْوُضُوءِ لِيَغْتَسِلَ بِهِ الْمُعَيَّنُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة مِنْ نَصْبِ عِظَامِ الرُّءُوسِ فِي الْمَزَارِعِ، وَالْكُرُومِ لِيَتَعَلَّقَ عَلَيْهَا نَظَرُ الْعَائِنِ ابْتِدَاءً فَتَنْكَسِرُ سَوْرَةُ عَيْنِهِ.

وَفِي الشِّرْعَةِ أَيْضًا: وَالسُّنَّةُ لِمَنْ خَافَ مِنْ نَفْسِهِ إصَابَةَ عَيْنِهِ أَنْ يَقُولَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، ثُمَّ تُبَارِكَ عَلَيْهِ فَيَقُولُ بَارَكَ اللَّهُ فِيك وَعَلَيْك.

(وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ) مِنْ الِاجْتِهَادِ وَظَاهِرُ كَلَامِ التَّفْتَازَانِيِّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ جَرَيَانُ الِاجْتِهَادِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالشَّرْعِيَّاتِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْفَرْعِيَّةِ.

وَفِي التَّلْوِيحِ عَدَمُ شُمُولُهُ إلَى الْأُصُولِ، وَالْعَقَائِدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا بِمُنَاسِبِ كُلٍّ مِنْ الْفَنَّيْنِ (مُصِيبٌ ابْتِدَاءً) أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْحُكْمِ هَذَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُخْتَارُ.

وَعِنْدَ الْبَعْضِ قِيلَ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ أَبِي مَنْصُورٍ مُصِيبٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَقَوْلُهُ (بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ) يَكُونُ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: ابْتِدَاءً لِبَذْلِ تَمَامِ وُسْعِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَرَعْيِ شَرَائِطِهِ، وَمِنْ هُنَا لَا يُعَاتَبُ الْمُخْطِئُ بَلْ مَأْجُورٌ إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الصَّوَابِ بَيِّنًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَحْكُمُ عَلَى أَنَّك إنْ أَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ» (وَقَدْ يُخْطِئُ فِي الِانْتِهَاءِ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ) كَالتَّفْسِيرِ لِلِانْتِهَاءِ (لِأَنَّ الْحَقَّ) عِنْدَ اللَّهِ (وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ) لَا مَا أَدَّى

ص: 222

إلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ كَانَ مَيْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إلَيْهِ حَتَّى يَلْزَمَ إصَابَةُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَيَتَعَدَّدُ الْحَقُّ هَذَا فِي الْفُرُوعِ، وَأَمَّا فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ فَالْحَقُّ وَاحِدٌ إجْمَاعًا فَيُعَاتَبُ الْمُخْطِئُ بَلْ يُكَفَّرُ أَوْ يُضَلَّلُ.

وَفِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الْمُصَفَّى إذَا سُئِلْنَا مَذْهَبُنَا مَعَ مُخَالِفِينَا فَنُجِيبُ أَنَّ مَذْهَبَنَا صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَمَذْهَبُ مُخَالِفِينَا خَطَأٌ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مُنَافٍ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ وَأَمَّا إذَا سُئِلْنَا فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ فَيَجِبُ أَنَّ نَقُولَ: الْحَقُّ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَالْبَاطِلُ مَا عَلَيْهِ خُصُومُنَا كَمَا قَرَّرَ الْمُصَنِّفُ فِي وَصَايَاهُ التُّرْكِيَّةِ لَعَلَّك عَرَفْتَ حُكْمَ الِانْتِقَالِ مِنْ تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ إلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ.

(وَالنُّصُوصُ) كِتَابًا أَوْ سَنَةً (تُحْمَلُ) بِالضَّرُورَةِ (عَلَى ظَوَاهِرِهَا) الْمَفْهُومَةِ لُغَةً أَوْ اصْطِلَاحًا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا إذَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ (إنْ أَمْكَنَتْ) كَاَلَّتِي تُشْعِرُ ظَوَاهِرُهَا بِالْجِسْمِيَّةِ، وَالْجِهَةِ كَمَسْلَكِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْمُتَشَابِهِ (وَالْعُدُولُ عَنْهَا) عَنْ الظَّوَاهِرِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ (إلَى مَعَانٍ يَدَّعِيهَا أَهْلُ الْبَاطِنِ) الْمُسَمَّاةِ بِالْبَاطِنِيَّةِ، وَالْمَلَاحِدَةِ كُفْرٌ كَمَا سَيَأْتِي خَبَرُ الْكُلِّ.

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: لِكَوْنِهِ تَكْذِيبًا لِلنَّبِيِّ فِيمَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِالضَّرُورَةِ وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَمَعَ ذَلِكَ فِيهَا إشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إلَى دَقَائِقَ تَنْكَشِفُ عَلَى أَرْبَابِ السُّلُوكِ يُمْكِنُ التَّطْبِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُرَادَةِ فَهُوَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَمَحْضِ الْعِرْفَانِ انْتَهَى.

(وَرَدُّ النُّصُوصِ) لَعَلَّ إظْهَارَهُ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِمُغَايَرَةِ مَا سَبَقَ إذْ هُوَ بِمَعْنَى مُطْلَقِ النَّظْمِ الشَّامِلِ لِلْكُلِّ، وَالظَّاهِرُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُتَّضِحِ الْمَعْنَى الشَّامِلِ لِلْمُحْكَمِ، وَالْمُفَسَّرِ، وَالظَّاهِرِ، وَالنَّصِّ الْمُقَابِلِ لِلْمَذْكُورَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْقَطْعِيَّةُ ثُبُوتًا كَعَامَّةِ الْقُرْآنِ وَمُتَوَاتَرِ الْأَحَادِيثِ وَلَوْ مَعْنًى وَدَلَالَةً كَمَا ذُكِرَ آنِفًا فَتَأَمَّلْ فِيهِ.

(وَاسْتِحْلَالُ الْمَعْصِيَةِ) صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً ظَاهِرَةُ الْإِطْلَاقِ لَكِنَّ الدَّوَانِيَّ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ التَّقْيِيدِ بِكَوْنِ تَحْرِيمِهَا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَالْحُرْمَةُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَكَذَا لَوْ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَلَمْ يَشْتَهِرْ إلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ فَجَعَلَ مَدَارَ الْكُفْرِ هُوَ الضَّرُورِيَّاتُ الدِّينِيَّةُ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ بَعْضِ الْفَتَاوَى مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ حَرَامًا لَعَيْنِهِ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَعَيْنِهِ وَإِنْ ثَابِتًا بِقَطْعِيٍّ أَوْ ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ لَكِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَلَيْسَ بِكُفْرٍ.

وَعِنْدَ الْبَعْضِ إنْ عُلِمَتْ حُرْمَتُهُ بِقَطْعِيٍّ وَلَوْ حَرَامًا لِغَيْرِهِ فَكُفْرٌ، وَعَلَى هَذَا يَتَفَرَّعُ مَا رُوِيَ عَنْ السَّرَخْسِيِّ وَوَقَعَ فِي التتارخانية مُشِيرًا إلَى عِلَّتِهِ بِإِنْكَارِ النَّصِّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَلَّ وَطْءَ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ يَكْفُرُ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْأَوَّلِ مَا فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ عَدَمِ الْكُفْرِ لِكَوْنِ حُرْمَتِهِ مِنْ الْغَيْرِ وَهُوَ الْأَذَى وَإِلَى الثَّانِي يَمِيلُ كَلَامُ الْعَلَّامَةِ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ حَيْثُ قَالَ: كَوْنُ الِاسْتِحْلَالِ كُفْرًا بِاسْتِلْزَامِهِ التَّكْذِيبَ الْمُنَافِيَ لِلتَّصْدِيقِ.

ص: 223

(وَالِاسْتِخْفَافِ بِالشَّرِيعَةِ) كُفْرٌ أَيْضًا أَيْ تَخْفِيفُهَا وَكَذَا اسْتِهْزَاؤُهَا وَفُسِّرَ بِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِأَحْكَامِهَا وَإِهَانَتِهَا وَاحْتِقَارِهَا، وَنَقَلَ عَنْ الْبَحْرِ الرَّائِقِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا غَيْرَ نَاوٍ لِلْقَضَاءِ وَغَيْرَ خَائِفٍ مِنْ الْعُقُوبَاتِ يَكْفُرُ.

قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ يَرْتَكِبُ صَغِيرَةً فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ تُبْ فَقَالَ " مِنْ جه كردم تَأْتُو بِهِ مي با يدكردن " يَكْفُرُ.

(وَالْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى) كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (وَالْأَمْنُ مِنْ عَذَابِهِ وَسَخَطِهِ) أَيْ غَضَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ.

(وَتَصْدِيقُ الْكَاهِنِ) أَيْ الْمُخْبِرِ عَنْ الْمُغَيَّبَاتِ (فِيمَا يُخْبِرُهُ مِنْ الْغَيْبِ كُلُّهُ كُفْرٌ) خَبَرٌ لِقَوْلِهِ، وَالْعُدُولُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» ، وَالْكَاهِنُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْ الْكَوَائِنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

وَعَنْ النَّوَوِيِّ الْكِهَانَةُ ثَلَاثَةٌ

الْأَوَّلُ: لِلْإِنْسَانِ وَلِيٌّ يُخْبِرُهُ بِمَا يَسْتَرِقُ مِنْ السَّمْعِ مِنْ السَّمَاءِ هَذَا بَطَلَ بِبَعْثِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

الثَّانِي: أَنْ يُخْبِرَهُ بِمَا يَطْرَأُ أَوْ يَكُونُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَمَا خَفِيَ عَنْهُ مِمَّا قَرُبَ أَوْ بَعُدَ أَنْكَرَهُمَا الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِادِّعَاءِ الِاسْتِحَالَةِ

الثَّالِثُ: الْمُنَجِّمُونَ، وَالْكَذِبُ فِيهِ أَغْلَبُ وَمِنْهُ الْعَرَّافَةُ اسْتِدْلَالٌ بِالْأَسْبَابِ، وَالْمُقَدِّمَاتِ كُلُّهَا كِهَانَةٌ، وَالشَّرْعُ أَكْذَبَ الْكُلَّ انْتَهَى.

لَا يَخْفَى خَفَاءُ الْكُفْرِ فِي الْكِهَانَةِ عَلَى هَذِهِ التَّفَاسِيرِ، وَأَيْضًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ حُجِبَتْ عَنْهُ التَّوْبَةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَإِنْ صَدَّقَهُ بِمَا قَالَ كَفَرَ» .

قَالَ الْمُنَاوِيُّ إنْ صَدَّقَ فِي دَعْوَاهُ الْغَيْبَ يَكْفُرُ حَقِيقَةً وَإِلَّا فَكُفْرَانُ نِعْمَةٍ لَا يَخْفَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْن الْحَقِيقَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ نَعَمْ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ إتْيَانُ الْكَاهِنِ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ حَتَّى فِي السَّابِقَةِ قَالَ فِي السِّفْرِ الثَّانِي مِنْ التَّوْرَاةِ لَا تَتْبَعُوا الْعَرَّافِينَ، وَالْقَافَةِ وَلَا تَنْطَلِقُوا إلَيْهِمْ وَلَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ لِئَلَّا تُنَجَّسُوا بِهِمْ.

وَفِي السِّفْرِ الثَّالِثِ: مَنْ تَبِعَهُمْ وَضَلَّ بِهِمْ أُنْزِلُ بِهِ غَضَبِي وَأُهْلِكُهُ مِنْ شَعْبِهِ انْتَهَى، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْعَلَّامَةِ السَّعْدِ الِاسْتِدْلَال بِالْأَمَارَةِ عِنْدَ إمْكَانِهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ يُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْفَتَاوَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هَالَّةِ الْقَمَرِ يَكُونُ مَطَرٌ مُدَّعِيًا عِلْمَ الْغَيْبِ لَا بِعَلَامَةٍ كُفْرٌ.

قَالَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ لِلَّهِ عَادَةً جَمِيلَةً فِي تَكْذِيبِ الْمُنَجِّمِينَ» وَقَدْ قِيلَ الْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ، وَالْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ، وَالسَّاحِرُ كَالْكَافِرِ فِي النَّارِ، لَعَلَّ الْكُفْرَ إنَّمَا هُوَ فِي التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ لَا الِاعْتِقَادِ عَلَى الشَّكِّ بَلْ الظَّاهِرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَالَ فِي التتارخانية) كَأَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ الْإِثْبَاتُ أَرَادَ بَيَانَ أَحْكَامِهَا مِنْ حَيْثُ النَّفْيُ، وَالْإِنْكَارُ (مَنْ قَالَ بِحُدُوثِ صِفَةٍ) الظَّاهِرُ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ كَالْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ (مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى) خِلَافًا لِلْكَرَامِيَّةِ فِي حُدُوثِ جَمِيعِ الصِّفَاتِ (فَهُوَ كَافِرٌ) لِإِثْبَاتِ النَّقْصِ لَهُ تَعَالَى

ص: 224

لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ تَعَالَى مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ خُلُوَّهُ تَعَالَى عَنْ الْكَمَالِ فِي الْأَزَلِ إذْ كُلُّ صِفَةٍ لَهُ تَعَالَى كَمَالٌ لَهُ (وَفِيهَا) أَيْ فِي التتارخانية (سُئِلَ) أَيْ مُصَنِّفُهَا (عَنْ قَوْمٍ ذَات باري جَلَّتْ قُدْرَتُهُ مَحَلَّ حَوَادِثِ ميكويند) أَيْ يَقُولُونَ بِأَنَّ ذَاتَ الْبَارِي مَحَلٌّ لِلْحَوَادِثِ (مَا حُكْمُهُمْ) .

(قَالَ) فِي الْجَوَابِ (كافرشوند) أَيْ صَارُوا كَافِرِينَ (بِي شك) بِلَا شَكٍّ إذْ عَدَمُ كَوْنِهِ تَعَالَى مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ ثَابِتٌ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ (وَفِيهَا سُئِلَ عَنْ)(مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَاتِهِ) أَيْ ذَاتُهُ عَيْنُ عِلْمِهِ (وَلَا يَقُولُ لَهُ الْعِلْمُ قَادِرٌ بِذَاتِهِ وَلَا يَقُولُ لَهُ الْقُدْرَةُ) وَكَذَا سَائِرُ صِفَاتِهِ (وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ) وَكَذَا الْفَلَاسِفَةُ إذْ عِنْدَهُمَا أَنَّ جَمِيعَ صِفَاتِهِ تَعَالَى عَيْنُ ذَاتِهِ (هَلْ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِمْ أَمْ لَا قَالَ يُحْكَمُ) بِكُفْرِهِمْ (لِأَنَّهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ)(وَمَنْ نَفَى الصِّفَاتِ فَهُوَ كَافِرٌ) أَقُولُ إنَّمَا يَلْزَمُ الْكُفْرُ لَوْ كَانَ إنْكَارُهُمْ أَصْلَهَا وَأَثَرَهَا.

وَأَمَّا لَوْ كَانَ إنْكَارُهُمْ إيَّاهَا مَعَ إثْبَاتِ نَتَائِجِهَا وَغَايَاتِهَا فَلِزُومُ الْكُفْرِ قَابِلٌ لِلْكَلَامِ إذْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الذَّاتَ كَافٍ فِي الِانْكِشَافِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى أَمْرٍ آخَرَ بَلْ مُرَادُهُمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوْحِيدِ، وَالْكَمَالِ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ الدَّوَانِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ زِيَادَةِ الصِّفَاتِ وَعَدَمِ زِيَادَتِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا تَكْفِيرُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بَلْ إنَّمَا يُدْرَكُ أَمْثَالُهَا بِالْكَشْفِ وَمَنْ أَسْنَدَ إلَى غَيْرِ الْكَشْفِ فَعَلَى اعْتِقَادِهِ بِغَالِبِ ظَنِّهِ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْفِكْرِيِّ فَلَا بَأْسَ فِي اعْتِقَادِ أَحَدِ طَرَفَيْ النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ انْتَهَى فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهَا.

(وَفِيهَا إنْ)(اعْتَقَدَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى رِجْلًا)(وَهِيَ الْجَارِحَةُ) الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلْجِسْمِيَّةِ قَيَّدَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ إذْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إطْلَاقُ الْقَدَمِ عَلَيْهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَطْلُبُ النَّارُ الزِّيَادَةَ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ» فَقِيلَ لِلتَّعْظِيمِ وَقِيلَ وَقِيلَ.

(يَكْفُرُ وَفِيهَا وَمَنْ)(قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ) الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَكَانَ لَهَا طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ (فَهُوَ مُبْتَدِعٌ) لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ وَلِإِيهَامِهِ الْجِسْمَ الْمَنْفِيَّ (وَلَيْسَ بِكَافِرٍ) ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِمَعْنَى الذَّاتِ أَوْ النَّفْسِ أَوْ الشَّيْءِ وَإِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ تَعَالَى جَائِزٌ وَهَذَا إنَّمَا لَا يَكُونُ كُفْرًا إذَا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ خَوَاصِّ الْجِسْمِ كَالْحَيِّزِ، وَالْجِهَةِ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى إلَّا اسْمُ الْجِسْمِ وَإِلَّا فَكُفْرٌ أَيْضًا.

(وَفِيهَا وَمَنْ)(قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ فِي السَّمَاءِ)(إنْ أَرَادَ بِهِ الْمَكَانَ كَفَرَ) لِاسْتِلْزَامِهِ احْتِيَاجَهُ تَعَالَى إلَى السَّمَاءِ، وَقِدَمِهِ إذْ قِدَمُ الْمُتَمَكِّنِ يَسْتَلْزِمُ

ص: 225

قِدَمَ مَكَانِهِ (وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مُجَرَّدَ الْحِكَايَةِ عَمَّا جَاءَ فِي ظَاهِرِ الْأَخْبَارِ) ؛ لِأَنَّ بَاطِنَهَا يَسْتَحِيلُ كَوْنُهَا حَقِيقَةً سَمَاءً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» (لَا يَكْفُرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ) مِنْ السَّمَاءِ وَمِنْ الْحِكَايَةِ (يَكْفُرُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ) فَإِنْ قِيلَ إنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِائَةُ احْتِمَالٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ كُفْرٌ وَوَاحِدٌ لَيْسَ بِكُفْرٍ فَحَمْلُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ عَلَى جَانِبِ عَدَمِ الْكُفْرِ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ شَيْءٌ عَظِيمٌ فَمَهْمَا أَمْكَنَ لَا يُحْمَلُ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ بَلْ بِالْقُوَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْوَاحِدِ قُوَّةٌ غَالِبَةٌ عَلَى تِلْكَ الْكَثْرَةِ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ لَفْظَ السَّمَاءِ صَرِيحٌ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ فَعِنْدَ إطْلَاقِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ وَإِنَّمَا الِاحْتِيَاجُ عِنْدَ كَوْنِهِ خَفِيًّا وَكِنَايَةً فَقُوَّةُ

ص: 226

هَذَا الِاحْتِمَالِ بِعَدَمِ الِاحْتِمَالِ الْآخَرِ.

(وَفِي التَّحْبِيرِ) بِالْفَوْقِيَّةِ فَالْمُهْمَلَةِ فَالْمُوَحَّدَةِ فَالتَّحْتِيَّةِ اسْمُ كِتَابٍ (وَهُوَ) أَيْ الْكُفْرُ (الْأَصَحُّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي التَّجَسُّمِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا، يَشْكُلُ ذَلِكَ بِمَا قَالُوا: إنَّهُ لَا يُفْتَى بِالْكُفْرِ فِي مَسْأَلَةٍ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهَا كُفْرًا، وَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ الْأَصَحُّ أَنَّ وَرَاءَهُ قَوْلًا آخَرَ صَحِيحًا وَهَذَا أَصَحُّ مِنْهُ.

قَالَ فِي تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ وَلَا يُفْتَى بِتَكْفِيرِ مُسْلِمٍ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ أَوْ كَانَ فِي كُفْرِهِ خِلَافٌ وَلَوْ رِوَايَةً ضَعِيفَةً وَنُقِلَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ عَنْ الطَّحَاوِيِّ لَا يُكَفَّرُ مُسْلِمٌ مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ الرِّدَّةُ إذْ الْإِسْلَامُ الثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ مَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ لَا يُبَادِرَ بِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّهُ يُقْضَى بِصِحَّةِ إسْلَامِ الْمُكْرَهِ.

وَعَنْ النَّوَوِيِّ يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ إخْوَانَهُ عَلَى مَحَامِلَ حَسَنَةٍ فِي كُلِّ نُقْصَانٍ إلَى السَّبْعِينَ وَحَاصِلُ مَا نُقِلَ عَنْ السُّبْكِيّ لَا يُجْتَرَأُ عَلَى إكْفَارِ مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ إذْ التَّكْفِيرُ أَمْرٌ هَائِلٌ عَظِيمُ الْخَطَرِ كَالْحُكْمِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَإِبَاحَةِ الدَّمِ، وَالْمَالِ، وَحُرْمَةِ النِّكَاحِ وَعَدَمِ إجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حَيًّا وَمَيِّتًا ثُمَّ إكْفَارُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَغَيْرِهَا فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ لِكَثْرَةِ الشِّعَابِ وَاخْتِلَافِ الْقَرَائِنِ وَتَفَاوُتِ الدَّوَاعِي وَخَفَاءِ التَّأْوِيلِ وَفَرْقِ الْأَلْفَاظِ الْمُؤَوَّلَةِ عَنْ غَيْرِهَا وَطُرُقِ التَّأْوِيلِ مِنْ الْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ وَأَنْوَاعِ الْمَجَازَاتِ، وَالِاسْتِعَارَاتِ، وَوُجُوهِ الْكِنَايَاتِ فَالتَّكْفِيرُ لَيْسَ إلَّا لِمَنْ صَرَّحَ بِالْكُفْرِ عَلَى وَجْهٍ يَنْسَدُّ بِهِ أَبْوَابُ التَّأْوِيلِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ لَا يُفْتَى بِتَكْفِيرِ مُسْلِمٍ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ أَوْ كَانَ فِي كُفْرِهِ اخْتِلَافٌ وَلَوْ رِوَايَةً ضَعِيفَةً فَأَكْثَرُ أَلْفَاظِ التَّكْفِيرِ لَا يُفْتَى بِهَا، وَقَدْ أَلْزَمْت نَفْسِي أَنْ لَا أُفْتِيَ بِشَيْءٍ مِنْهَا انْتَهَى.

قَالَ فِي الْمَوَاقِفِ: وَلَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إلَّا بِمَا فِيهِ نَفْيُ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ أَوْ بِشِرْكٍ أَوْ إنْكَارِ مَا عُلِمَ مَجِيئَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ ضَرُورَةً أَوْ إنْكَارِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ كَاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ.

قَالَ الشَّارِحُ الشَّرِيفُ أَيْ الَّتِي أُجْمِعَ عَلَى حُرْمَتِهَا وَكَانَتْ مِمَّا عُلِمَ ضَرُورَةً وَإِلَّا فَإِنْ إجْمَاعًا ظَنًّا فَلَا كُفْرَ وَإِنْ قَطْعِيًّا فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ ثُمَّ قَالَ مُصَنِّفُهُ وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَالْقَائِلُ بِهِ مُبْتَدِعٌ غَيْرُ كَافِرٍ وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ خِلَافٌ هُوَ خَارِجٌ عَنْ فَنِّنَا هَذَا انْتَهَى.

وَنَقَلَ الدَّوَانِيُّ عَنْ أَوَّلِ شَرْحِ الْمَوَاقِفِ أَنَّ جَمِيعَ مَا كَفَّرَ بِهِ الْفُقَهَاءُ رَاجِعٌ إلَى أَحَدِ مَا ذُكِرَ انْتَهَى فَعَلَى هَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ فَنِّنَا فَافْهَمْ.

(وَفِيهَا) أَيْ التتارخانية (لَوْ قَالَ: إنَّهُ مَكَانِي) أَيْ لَا مَكَانَ (زتو) أَوْ مِنْك وَالْخِطَابُ لَهُ تَعَالَى (خَالِي) يَعْنِي لَيْسَ مَكَانٌ خَالٍ مِنْك (نه تو) مَا أَنْتَ (در هيج مكاني) أَيْ فِي مَكَان وَاحِدٍ (فَهَذَا كُفْرٌ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ نِسْبَةَ الْمَكَانِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.

قِيلَ رَأَيْت فِي حَوَاشِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ أَنَّ هَذَا مِصْرَاعٌ مِنْ غَزْلٍ يُتَغَنَّى بِهِ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَتَغَنَّوْنِ فِي مَجَالِسِ عُلَمَاءِ الزَّمَانِ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَالْفُقَهَاءُ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ انْتَهَى.

وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى مَا فُصِّلَ آنِفًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُكَفَّرَ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ نَفْيُهُ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ إثْبَاتِهِ نَحْوُ شُمُولِ عِلْمِهِ وَأَثَرِ قُدْرَتِهِ وَدُخُولِهِ تَحْتَ تَصَرُّفِ حُكْمِهِ لَعَلَّ مُرَادَ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَصْرِيحِ الْقَائِلِ بِعَدَمِ إرَادَةِ نَحْوِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ وَتَصْرِيحِهِ بِإِرَادَةِ ظَاهِرِهِ أَوْ بِإِثْبَاتِ خَوَاصِّهِ وَلَوَازِمِهِ (وَفِيهَا رَجُلٌ) .

(قَالَ عِلْم خِدَا) أَيْ اللَّهُ (دِرْهَمه مَكَانِي هُسَّتْ) مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَكَان (هَذَا خَطَأٌ) ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْعِلْمِ فِي الْمَكَانِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْعَالَمِ فِيهِ إذْ وُجُودُ الصِّفَةِ فِي مَحَلٍّ فَرْعُ وُجُودِ الْمَوْصُوفِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ يَشْكُلُ ذَلِكَ بِمَا فِي حَاشِيَةِ الْخَيَالِيِّ عَنْ الْغَيْرِ أَنَّ اللُّزُومَ غَيْرُ الِالْتِزَامِ وَلَا كُفْرَ إلَّا بِالِالْتِزَامِ وَيُجَابُ بِمَا أَجَابَ هُوَ أَنَّ لُزُومَ الْكُفْرِ الْمَعْلُومِ كُفْرٌ أَيْضًا وَلِذَا.

قَالَ فِي الْمَوَاقِفِ مَنْ يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ انْتَهَى ظَاهِرُهُ أَنَّ الْجَهْلَ عُذْرٌ، لَعَلَّ الْحَقَّ أَنَّ الْمَبْنِيَّ أَنَّ اللُّزُومَ إنْ بَيَّنَّا لَا سِيَّمَا بِمَعْنَى الْأَخَصِّ فَكُفْرٌ وَإِلَّا فَلَا ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَمُحِيطٌ بِهَا، لَعَلَّ مُرَادَ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عِنْدَ هَذَا

ص: 227

الظَّاهِرِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الَّذِي اعْتَبَرْت هُوَ مَعْنًى مَجَازِيٌّ وَمَا اعْتَبَرُوهُ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ فَكَيْفَ يَكُونُ ظَاهِرًا قُلْت: لَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ حَقِيقَةٍ ظَاهِرًا أَوْ لَا كُلُّ مَجَازٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ بَلْ قَدْ يَكُونُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فَإِنَّ صُدُورَ ذَلِكَ عَنْ الْمُسْلِمِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ حَقِيقَتِهِ بَلْ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَةِ نَحْوِ ذَلِكَ الْمَجَازِ وَقَدْ عَرَفْت قَرِيبًا عَدَمَ إكْفَارِ مُسْلِمٍ مَا لَمْ تَنْسَدَّ أَبْوَابُ التَّأْوِيلِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْمَعْقُولِ أَيْضًا لَا يَنْبَغِي تَخْطِئَةُ كَلَامٍ يُمْكِنُ إصْلَاحُهُ وَلَوْ بِاحْتِمَالٍ ضَعِيفٍ.

(وَفِي النِّصَابِ) أَيْ كِتَابِ نِصَابِ الِاحْتِسَابِ (وَالصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ شَيْءٍ مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعَالَى) ؛ لِأَنَّهُ مِصْدَاقُ قَوْله تَعَالَى - {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]- لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا السَّوْقِ إنْ أَرَادَ الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِالْعِبَارَةِ الْأُولَى كَفَرَ لَا بِالثَّانِيَةِ وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنَّ الْقَائِلَ عِنْدَ قَصْدِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ لَيْسَ يَكْفُرُ أَلْبَتَّةَ لِتَحَمُّلِ اللَّفْظِ عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ.

(وَفِيهَا)(رَجُلٌ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالْفَوْقِ أَوْ بِالتَّحْتِ)(فَهَذَا تَشْبِيهٌ) أَيْ بِالْأَجْسَامِ فَتَجْسِيمٌ (وَكُفْرٌ) لَعَلَّهُ إنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ الْفَوْقِ هُوَ الْعُلُوُّ، وَالرِّفْعَةُ، وَالْقَهْرُ، وَالْغَلَبَةُ فَلَا يَكْفُرُ بَلْ يَنْبَغِي إجْرَاءُ التَّفْصِيلِ السَّابِقِ مِنْ إرَادَةِ حِكَايَةِ مَا فِي الْأَخْبَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] .

(وَفِيهَا)(رَجُلٌ قَالَ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِعْلًا لَا حِكْمَةَ فِيهِ)(يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالسَّفَهِ) وَالْعَبَثِ إذْ كُلُّ فِعْلٍ خَالٍ عَنْ الْمَصْلَحَةِ، وَالْفَائِدَةِ فَهُوَ عَبَثٌ (وَهُوَ كُفْرٌ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَاعَى الْحِكْمَةَ فِيمَا خَلَقَ وَأَمَرَ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا حِكْمَةُ بَعْضِ أَفْعَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ يَشْكُلُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ وُجُوبُ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ فِي وُقُوعِ فِعْلٍ بِلَا حِكْمَةٍ لَبَعُدَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ فَتَأَمَّلْ.

(وَفِيهَا: وَلَوْ)(قَالَ خداي بود) أَيْ كَانَ اللَّهُ (وَهَيْج نبود) وَمَا كَانَ شَيْءٌ (وَبِأَشَدْ) أَيْ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا (وَهِيج نباشد) أَيْ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ أَصْلًا (فَقَدْ قِيلَ الشَّطْرُ الثَّانِي) وَهُوَ وَيَكُونُ اللَّهُ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ أَصْلًا (مِنْ كَلَامِ الْمَلَاحِدَةِ) الْكَافِرِينَ بِالتَّمَسُّكِ بِبَاطِنِ الْقُرْآنِ فَقَطْ دُونَ ظَاهِرِهِ لِغَرَضِ إبْطَالِ الشَّرَائِعِ كَمَا فُهِمَ مِنْ تَفْسِيرِ بَعْضٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هُمْ الْبَاطِنِيَّةُ الَّذِينَ سُمُّوا بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ لَكِنْ ظَاهِرُهُ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ ظَنَّهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ وَمَا فِيهَا مِنْ الْحُورِ الْعِينِ لِلْفَنَاءِ) يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَلَاحِدَةُ هُمْ الْجَهْمِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ، وَالنَّارِ وَفَنَاءِ أَهْلِهِمَا.

(وَهُوَ) أَيْ هَذَا الظَّنُّ (كُفْرٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ) ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ (وَخَطَأٌ عَظِيمٌ) لَيْسَ بِكُفْرٍ (عِنْدَ الْبَعْضِ) لَكِنْ يُخَافُ مِنْهُ الْكُفْرُ لِاحْتِمَالِ حِكَايَةِ ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] .

قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي هُنَا ثَلَاثَةُ

ص: 228

أَشْيَاءَ: الْكُفْرُ فَيَحْبَطُ جَمِيعَ عَمَلِهِ وَيُجَدِّدُ إيمَانَهُ وَنِكَاحَهُ وَمَا فِيهِ خَوْفُ الْكُفْرِ فَيُجَدِّدُ الْإِيمَانَ، وَالنِّكَاحَ وَمَا فِيهِ خَطَأٌ عَظِيمٌ فَيَسْتَغْفِرُ فَقَطْ.

(وَفِيهَا)(مَنْ أَنْكَرَ الْقِيَامَةَ) الظَّاهِرُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ لِقَوْلِهِ (أَوْ الْجَنَّةَ أَوْ النَّارَ أَوْ الْمِيزَانَ أَوْ الْحِسَابَ أَوْ الصِّرَاطَ أَوْ الصَّحَائِفَ الْمَكْتُوبَةَ) مِنْ الْحَفَظَةِ فِي الدُّنْيَا (فِيهَا أَعْمَالَ الْعِبَادِ) الْمُكَلَّفِينَ مِنْهُمْ (يَكْفُرُ) لِإِنْكَارِ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ ضَرُورَةً كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا.

(وَفِيهَا) أَيْ التتارخانية أَيْضًا (وَمَنْ)(قَالَ: إنَّ الْمِيزَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَدْلِ فَقَطْ) لَيْسَ وَرَاءَهُ مِيزَانٌ حَقِيقِيٌّ (وَلَا يَكُونُ مِيزَانٌ يُوزَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ)(فَهُوَ مُبْتَدِعٌ) لِحَمْلِ النُّصُوصِ عَلَى خِلَافِ تَبَادُرِهَا، وَالْوَاجِبُ حَمْلُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَتَبَادُرِهَا بِلَا دَاعٍ (وَلَيْسَ بِكَافِرٍ) لِاحْتِمَالِ النُّصُوصِ وَلَوْ ضَعِيفًا وَقَدْ عَرَفْت سَابِقًا أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْوَاهِيَ يَكُونُ مَدَارًا لِلْخَلَاصِ عَنْ الْكُفْرِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَشْكُلُ بِمَا سَبَقَ مِنْ الْمُنْصِفِ أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ إلَى مَعَانٍ يَدَّعِيهَا أَهْلُ الْبَاطِلِ كُفْرٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ فَرْقٌ بَيْنَ مَا ادَّعُوا وَبَيْنَ هَذَا إذْ الْأَوَّلُ مُؤَدٍّ إلَى إبْطَالِ الشَّرِيعَةِ وَإِنْكَارِ الْقِيَامَةِ، وَالثَّانِي عَلَى إثْبَاتِ الْقِيَامَةِ وَإِبْقَاءِ الشَّرِيعَةِ.

(وَفِيهَا وَمَنْ)(أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ)(فَهُوَ مُبْتَدِعٌ) ؛ لِأَنَّ أَدِلَّتَهُ إمَّا مُحْتَمَلَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ فَلَا قَطْعَ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ: لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ أَخْبَارَ آحَادٍ فَلَا يَخْلُو عَنْ الِاحْتِمَالِ أَيْضًا وَلَا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِ الْمُحْتَمَلِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي الْمَوَاقِفِ وَتَهْذِيبِ الْكَمَالِ وَشَرْحِ الْعَقَائِدِ مِنْ التَّصْرِيحِ أَنَّ أَحَادِيثَ عَذَابِ الْقَبْرِ بَالِغَةٌ إلَى التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، وَأَيْضًا قَالُوا بِأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ بِالْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدًا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ فَلَا يَضُرُّ وُقُوعُ الْخِلَافِ لِتَقَرُّرِ الْإِجْمَاعِ إذْ الِاخْتِلَافُ اللَّاحِقُ لَا يَضُرُّ الْإِجْمَاعَ السَّابِقَ بَلْ نَفْسُ الْخِلَافِ سَاقِطٌ لِكَوْنِهِ خَرْقَ إجْمَاعٍ وَخَرْقُ الْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ.

فَأَقُولُ وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَاعِدَةُ هُوَ كُفْرُ إنْكَارِ عَذَابِ الْقَبْرِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورَاتِ الدِّينِيَّةِ يَعْرِفُهُ الْعَامِّيُّ، وَالْخَاصِّيُّ وَاحْتِمَالُ ظَوَاهِرِ بَعْضِ النُّصُوصِ عَلَى عَدَمِ الْعَذَابِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56]- فَمَعَ كَوْنِهِ مُجَابًا فِي مَحَلِّهِ مُرْتَفِعٌ بِالْإِجْمَاعِ وَقَدْ قِيلَ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ لِلْكِتَابِ مَعَ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ لِلْآحَادِ يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ وَقِيلَ أَيْضًا إنَّ جَمِيعَ أَخْبَارِ الْآحَادِ الْمُوَافِقَةِ لِلْكِتَابِ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ فَيَنْتَظِمُ بِهَا الِاسْتِدْلَال عَلَى الْفَرْضِيَّةِ مُطَّرِدًا فَاحْفَظْهَا فَتَنْفَعْك فِي مَوَاضِعَ شَتَّى.

(وَمَنْ أَنْكَرَ شَفَاعَةَ الشَّافِعِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(فَهُوَ كَافِرٌ) ظَاهِرُهُ سَوَاءً كَانَتْ لِلْأَنْبِيَاءِ أَوْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الصُّلَحَاءِ إذْ الْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ ظَاهِرٌ فِي الْإِفْرَادِيِّ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مُطْلَقُ الشَّفَاعَةِ إجْمَالًا بِلَا تَفْصِيلٍ أَوْ شَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا فِي مُطْلَقِ الْقِيَامَةِ، وَإِلَّا فَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ فِي بَعْضِ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ وَأَيْضًا الْمُرَادُ الشَّفَاعَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ إجْمَاعًا وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى خِلَافِ الْمُعْتَزِلَةِ لِكَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ الدَّلِيلِ.

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: بَلْ الْأَحَادِيثُ فِي بَابِ الشَّفَاعَةِ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى وَلَكِنْ يَنْبَغِي احْتِمَالُ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48]- وَقَوْلُهُ - {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]-، وَالِاحْتِمَالُ وَلَوْ ضَعِيفًا يُؤَثِّرُ فِي عَدَمِ الْكُفْرِ كَمَا مَرَّ مِرَارًا وَمَا أَتَوْهُ فِي بَيَانِهِمَا وَنَحْوِهِمَا مَمْنُوعٌ قَطْعِيَّتُهُ حَتَّى تَكُونَا مُفَسَّرَتَيْنِ بَلْ يُحْتَمَلُ كَوْنُ بَيَانِهِمَا ظَنِّيًّا فَتَكُونَانِ مُؤَوَّلَتَيْنِ، نَعَمْ تَوَاتُرُ الْأَحَادِيثِ الْقَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ رَاجِحٌ عَلَى ظَنِّيِّ الدَّلَالَةِ مِنْ الْكِتَابِ أَقُولُ لَعَلَّ الْأَقْرَبَ الِاسْتِمْسَاكُ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ.

(وَفِيهَا وَمَنْ)(قَالَ بِتَخْلِيدِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ) الَّذِينَ مَاتُوا بِلَا تَوْبَةٍ (فِي النَّار) كَالْمُعْتَزِلَةِ (فَهُوَ مُبْتَدِعٌ) لَيْسَ بِكَافِرٍ لِاحْتِمَالِ ظَوَاهِرِ بَعْضِ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] الْآيَةَ - وَلَوْ احْتِمَالًا فَاسِدًا لِتَعَارُضِ أَدِلَّةٍ أَقْوَى مِنْهَا كَمَا فُصِّلَ فِي مَحَلِّهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ التَّفْتَازَانِيِّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ قَطْعِيَّةُ عَدَمِ التَّخْلِيدِ فَافْهَمْ.

(وَفِيهَا وَلَوْ)(أَنْكَرَ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى)(بَعْدَ الدُّخُولِ) لَعَلَّ قَبْلَ الدُّخُولِ كَمَا فِي الْقِيَامَةِ وَإِنْ ثَبَتَتْ الرُّؤْيَةُ لَكِنْ بِالْآحَادِ فَلَا يَكْفُرُ (فِي الْجَنَّةِ يَكْفُرُ) لِثُبُوتِهَا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ

ص: 229

وَأَشْكَلَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْهُ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ عَدَمِ إكْفَارِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَبَيْنَ إكْفَارِ مُحِيلِ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِمَا مُتَعَذَّرٌ أَقُول قَدْ سَمِعْتَ الْمَنْقُولَ عَنْ الْمَوَاقِفِ وَعَرَفْتَ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ أَمْثَالَ مَا ذُكِرَ دَاخِلٌ فِي أَحَدِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إذَا خَلَا عَنْ الْمَوَانِعِ وَسَلِمَ مِنْ الْمَنَافِي أَوْ مَا دَامُوا فِي كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِرِعَايَةِ شَرَائِطِ الْأَهْلِيَّةِ وَنَفْيِ مُنَافِيهَا.

(وَكَذَا لَوْ قَالَ لَا أَعْرِفُ عَذَابَ الْقَبْرِ فَهُوَ كَافِرٌ) نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ كَوْنِهِ مُبْتَدِعًا فَيُحْمَلُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ لَا يَخْفَى فِي إبَاءِ سَوْقِ الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ وَقِيلَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كَوْنِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا يَكْفُرُ عِنْدَ قَوْلِهِ لَا أَعْرِفُ الشَّرْعَ لِمَنْ قَالَ: أَمْرُ الشَّرْعِ كَذَا لِلِاسْتِخْفَافِ لَا خَفَاءَ فِي بُعْدِهِمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ السَّوْقَ فِي مِثْلِهِ يَأْبَى عَنْ الْبِنَاءِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ لَعَبَّرَ بِنَحْوِ قِيلَ أَوْ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُنَا مَسْأَلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَيْسَتْ بِمُرْتَبِطَةٍ بِشَيْءٍ آخَرَ يُفَادُ مِنْهُ نَحْوَ الِاسْتِخْفَافِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ رَاجِعٌ إلَى الْقَيْدِ فَقَطْ دُون الْمُقَيَّدِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْعَذَابَ فِي نَفْسِهِ وَاقِعٌ لَكِنِّي لَا أَعْرِفُهُ فَيَسْتَلْزِمُ اسْتِحْقَارَ عَذَابِهِ أَوْ اسْتِهْزَاءَهُ لَمْ يَبْعُدْ غَايَةَ بُعْدٍ.

(وَفِيهَا يَجِبُ إكْفَارُ)(الْقَدَرِيَّةِ) إمَّا فِرْقَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُتَشَعِّبَةٌ إلَى إحْدَى عَشْرَةَ أَوْ نَوْعٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ (فِي نَفْيِهِمْ كَوْنَ الشَّرِّ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى) بَلْ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ لِلشَّيْطَانِ أَوْ لِلْعَبْدِ

وَأَمَّا لَوْ قَالُوا التَّقْدِيرُ مِنْ اللَّهِ، وَالتَّحْرِيكُ، وَالتَّسَبُّبُ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ أَوْ الشَّيْطَانِ أَوْ أَرَادُوا التَّحَاشِيَ عَنْ نِسْبَةِ الشَّرِّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَأَدُّبًا مُعْتَقِدًا خَلْقَهُ تَعَالَى فَلَا يَكْفُرُونَ بَلْ لَا يَضِلُّونَ لَكِنْ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ تَمَسُّكَهُمْ إذَا كَانَ ظَاهِرًا نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]- فَلَا أَقَلُّ مِنْ مُحْتَمَلِ النَّصِّ، وَلَوْ كَانَ ضَعِيفًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ عَدَمُ الْكُفْرِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ أَدِلَّةَ شُمُولِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْوِينُهُ عَقْلًا وَنَقْلًا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَاحْتِمَالُ تَمَسُّكِهِمْ مِنْ النَّصِّ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ (وَفِي دَعْوَاهُمْ) أَيْ الْقَدَرِيَّةِ (إنَّ كُلَّ فَاعِلٍ) مِنْ الْإِنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ خَيْرًا أَوْ شَرًّا (خَالِقٌ فِعْلَ نَفْسِهِ) دُونَ اللَّهِ تَعَالَى إذْ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْجَوَاهِرِ.

وَأَمَّا الْأَعْرَاضُ فَتُحْدِثُهَا الْأَجْسَامُ إمَّا إيجَابًا كَحَرْقِ النَّارِ أَوْ اخْتِيَارًا كَحَرَكَةِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْ أَجْلِ إسْنَادِهِمْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا إلَى قُدْرَةِ الْعِبَادِ سُمُّوا بِالْقَدَرِيَّةِ وَهُمْ الَّذِينَ أَشَارَ إلَيْهِمْ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ «الْقَدَرِيَّةِ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» وَقَوْلِهِ:«هُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ» كَمَا فِي الْمَوَاقِفِ وَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ الْمَجُوسَ يَنْسُبُونَ الْكَوَائِنَ إلَى إلَهَيْنِ يَزْدَانُ فَاعِلُ الْخَيْرِ وَأُهْرِمَنْ فَاعِلُ الشَّرِّ نُقِلَ عَنْ مِنْهَاجِ الزَّمَخْشَرِيِّ الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ، وَالْمَعْصِيَةُ مِنْ الْعَبْدِ وَاَللَّهُ بَرِيءٌ مِنْهَا فَعَلَى مَا ذُكِرَ يَلْزَمُ إكْفَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ.

(وَفِيهَا يَجِبُ إكْفَارُ الْكَيْسَانِيَّةِ) صِنْفٌ مِنْ الشِّيعَةِ أَوْ مِنْ الرَّوَافِضِ (فِي إجَازَتِهِمْ الْبَدَاءَ) بِالْفَتْحِ، وَالْمَدِّ بِمَعْنَى ظُهُورِ الرَّأْيِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ (عَلَى اللَّهِ تَعَالَى) لِاسْتِلْزَامِ الْجَهْلِ بَلْ النَّدَمُ وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ تُجَوِّزْ الْيَهُودُ نَسْخَ الشَّرَائِعِ لَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ لُزُومِ الْكُفْرِ كُفْرًا، وَلَوْ لَمْ يَلْزَمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ اللُّزُومُ بَيِّنًا فَلَيْسَ بِكُفْرٍ ابْتِدَاءً.

(وَيَجِبُ إكْفَارُ الرَّوَافِضِ فِي قَوْلِهِمْ: بِرَجْعِ الْأَمْوَاتِ إلَى الدُّنْيَا)

ص: 230

وَقَوْلِهِمْ (بِتَنَاسُخِ الْأَرْوَاحِ) أَيْ مِنْ جَسَدٍ إلَى جَسَدٍ عَلَى الْأَبَدِ (وَانْتِقَالِ رُوحِ الْإِلَهِ إلَى الْأَئِمَّةِ) الِاثْنَا عَشَرَ رضي الله عنهم مِنْ أَوْلَادِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ - وَهُمْ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ وَزَيْنُ الْعَابِدِينَ وَمُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَمُوسَى الْكَاظِمُ وَعَلِيٌّ الرِّضَا وَمُحَمَّدٌ التَّقِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّقِيُّ، وَالْحَسَنُ الْعَسْكَرِيُّ وَمُحَمَّدُ الْمُنْتَظَرُ الْمَهْدِيُّ (وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ) الْمَذْكُورِينَ عِنْدَهُمْ (آلِهَةٌ) لِحُلُولِ الْإِلَهِ فِيهِمْ، وَلَا شَكَّ فِي اسْتِلْزَامِهِ إنْكَارَ الْقِيَامَةِ وَاعْتِقَادَ الْحُلُولِ فِيهِ تَعَالَى (وَبِقَوْلِهِمْ بِخُرُوجِ إمَامٍ بَاطِنٍ) اخْتَفَى مِنْ الشُّرُورِ، وَالطُّغْيَانِ لِفَسَادِ الزَّمَانِ سَيَخْرُجُ عِنْدَ صَلَاحِ الزَّمَانِ (وَتَعْطِيلِهِمْ الْأَمْرَ، وَالنَّهْيَ) وَلِعَدَمِ شَرْعِيَّةِ أَحْكَامِهِمْ أَصْلًا (إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ الْبَاطِنُ) قَالُوا الْإِمَامَةُ مَنْصُوصَةٌ لِعَلِيٍّ وَأَوْلَادِهِ إلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُمْ عَلَى ابْنِهِ مُوسَى الْكَاظِمِ فَعَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا فَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّقِيِّ فَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّكِيِّ فَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُنْتَظَرُ خُرُوجُهُ، وَالْمَخْفِيُّ الْمَذْكُورُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِ ذَلِكَ كُفْرًا (وَبِقَوْلِهِمْ) أَيْ الرَّافِضَةِ (أَنَّ جَبْرَائِيلَ عليه الصلاة والسلام غَلِطَ فِي الْوَحْيِ إلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) فَالنَّبِيُّ حَقِيقَةً هُوَ عَلِيٌّ وَيَلْعَنُونَ صَاحِبَ رِيشٍ يَعْنِي جَبْرَائِيلَ وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يَجْعَلُونَ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام مَعَ عَلِيٍّ شَرِيكًا فِي النُّبُوَّةِ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مَعَ مُوسَى (وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ خَارِجُونَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامُهُمْ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ) .

(وَيَجِبُ إكْفَارُ الْخَوَارِجِ) الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ إطَاعَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَهُمْ أَوَّلُ فِرْقَةٍ تَفَرَّقَتْ فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ كَانُوا فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَلَمَّا وَقَعَ التَّحْكِيمُ تَبَرَّءُوا مِنْ عَلِيٍّ فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ ابْنَ مَسْعُودٍ لِإِزَالَةِ شُبْهَتِهِمْ فَقَبِلَ الْبَعْضُ وَأَصَرَّ الْآخَرُونَ فَقَتَلَهُمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَفَرَّ الْبَاقُونَ وَانْضَمَّ إلَيْهِمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ وَقَتَلُوا الْعِبَادَ وَغَلَبُوا عَلَى بَعْضِ الْبِقَاعِ، وَالْقِلَاعِ فَمَذَاهِبُهُمْ: خُلُودُ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ فِي النَّارِ وَإِكْفَارُ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ثُمَّ دَسُّوا عَلَى قَتْلِ عَلِيٍّ فِي الْكُوفَةِ وَقَتْلِ مُعَاوِيَةَ فِي الشَّامِ وَقَتْلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي مِصْرَ وَعَيَّنُوا لِقَتْلِ عَلِيٍّ ابْنَ مُلْجِمٍ فَضَرَبَهُ بِسَيْفٍ مَسْمُومٍ وَقْتَ الصُّبْحِ وَهُوَ يَؤُمُّ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ

ص: 231

ثُمَّ هَزَمَهُمْ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَقَاتَلَهُمْ فِي خِلَافَةِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ وَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبٌ تَعَاضَدَتْ شَوْكَتُهُمْ فَأَضَرُّوا الْعِبَادَ فَبَعَثَ إلَيْهِمْ الْحَجَّاجُ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ وَامْتَدَّ الْحَرْبُ إلَى نَحْوِ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْغَلَبَةُ فِي الْأَكْثَرِ لِلْخَوَارِجِ مَعَ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمْ يُقَصِّرْ فِي الْإِمْدَادِ إلَى أَنْ انْهَزَمُوا فَانْقَطَعَ شَرُّهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَوَّلُ ظُهُورِهِمْ أَوَاخِرُ صِفِّينَ وَآخِرُ مُدَّتِهِمْ أَوَاخِرُ مُدَّةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ (فِي إكْفَارِهِمْ جَمِيعَ الْأُمَّةِ) الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَرْضَوْا أَفْعَالَهُمْ.

(وَفِي إكْفَارِهِمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) وَابْنَ عَبَّاسٍ وَمَنْ قَعَدَ عَنْ الْقِتَالِ مَعَهُمْ، وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ وَأَبَاحُوا قَتْلَ صِبْيَانِ مُخَالِفِيهِمْ وَنِسْوَانِهِمْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِكَوْنِ أَوَّلِهِمْ عِنْدَ وَقْعَةِ التَّحْكِيمِ فِي صِفِّينَ، لَعَلَّ أَوَّلَهُمْ عِنْدَ وَقْعَةِ عُثْمَانَ حِين خَرَجُوا عَلَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَوْقَعُوا حَرْبَ الدَّارِ إلَى شَهَادَةِ عُثْمَانَ كَمَا قِيلَ، لَعَلَّ تَخْصِيصَهُمْ بِمَا ذُكِرَ قِصَّةُ حَرْبِ الْجَمَلِ إذْ أَرْبَابُ الرَّأْيِ فِي تِلْكَ الْحَرْبِ هُمْ هَؤُلَاءِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، لَعَلَّ وَجْهَ الْإِكْفَارِ بِإِكْفَارِهِمْ هَذَا اسْتِلْزَامُ إنْكَارِ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ مُبَشَّرُونَ بِالْجَنَّةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ إكْفَارَ مُسْلِمٍ مُطْلَقًا، وَالرِّضَا بِكُفْرِهِ كُفْرٌ وَهَذَا مُشْتَرَكٌ فِي الْجَمِيعِ نَعَمْ إنَّ الْكُفْرَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ وَهُنَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ.

(وَيَجِبُ إكْفَارُ الْيَزِيدِيَّةِ) فِرْقَةٌ مِنْ الْخَوَارِجِ أَصْحَابُ يَزِيدَ بْنِ أُنَيْسَةَ (فِي انْتِظَارِ نَبِيٍّ مِنْ الْعَجَمِ يَنْسَخُ مِلَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِكِتَابٍ يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى دِينِ الصَّابِئَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَجْهُ الْكُفْرِ وَاضِحٌ إذْ كَوْنُهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَبَقَاءُ شَرِيعَتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثَابِتٌ بِأَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ بَلْ مِنْ الضَّرُورَاتِ الدِّينِيَّةِ.

(وَيَجِبُ إكْفَارُ النَّجَّارِيَّةِ) أَصْحَابُ حُسَيْنِ بْنِ النَّجَّارِ (فِي نَفْيِهِمْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى) كَالْمُعْتَزِلَةِ فَالْكَلَامُ كَالْكَلَامِ (وَفِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقُرْآنَ جِسْمٌ إذَا كُتِبَ) فَكَاغِدٌ وَحِبْرٌ (وَعَرَضٌ إذَا قُرِئَ) لِاسْتِلْزَامِهِ حُدُوثَ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ تَعَالَى مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ.

(وَفِيهَا) أَيْ التتارخانية (وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي)(إكْفَارِ الْمُجْبِرَةِ) أَيْ الْجَبْرِيَّةِ بِقَوْلِهِمْ يَكُونُ الْعَبْدُ مَجْبُورًا فِي أَفْعَالِهِ فَيَكُونُ فِعْلُ الْعَبْدِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ فَقَطْ بِلَا قُدْرَةٍ مِنْ الْعَبْدِ أَصْلًا خِلَافَ الْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِ فِعْلِ الْعَبْدِ بِخَلْقِ الْعَبْدِ بِلَا قُدْرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَأَهْلُ الْحَقِّ مُتَوَسِّطٌ كَمَا بُيِّنَ فِي مَحِلِّهِ (فَمِنْهُمْ مَنْ أَكْفَرَهُمْ) لِاسْتِلْزَامِهِ إبْطَالَ قَاعِدَةِ التَّكْلِيفِ وَكَوْنَ تَكْلِيفِهِ سَفَهًا (وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى إكْفَارَهُمْ)

ص: 232

لِاحْتِمَالِ بَعْضِ النُّصُوصِ وَتَأْوِيلِهِ نَحْوَ {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]{لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم: 18] وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلًا بَاطِلًا (وَالصَّوَابُ إكْفَارُ مَنْ لَمْ يَرَ) أَيْ لَمْ يَعْتَقِدْ (لِلْعَبْدِ فِعْلًا أَصْلًا) لِاسْتِلْزَامِهِ كَوْنَ تَكْلِيفَاتِ الشَّرْعِ كَتَكْلِيفِ الْجَمَادِ.

(وَيَجِبُ إكْفَارُ مَعْمَرٍ) مِنْ الْقَدَرِيَّةِ (فِي قَوْلِهِ: إنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ الْجَسَدِ) ، وَالْإِنْسَانُ هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ، وَالْحَيَوَانُ جِسْمٌ نَامٍ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ، وَالْجِسْمُ هُوَ الْجَسَدُ قِيلَ هَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ كَوْنِ الْجَسَدِ مُكَلَّفًا وَقَدْ ثَبَتَ بِالْقَطْعِيِّ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا فَيَسْتَلْزِمُ إنْكَارَ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ أَقُولُ النَّصُّ عَلَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُكَلَّفًا لَا عَلَى كَوْنِ الْجَسَدِ مُكَلَّفًا وَلَا عَلَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ جَسَدًا فَيَجُوزُ كَوْنُ غَيْرِ الْجَسَدِ إنْسَانًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْغَزَالِيِّ، وَالرَّاغِبِ، وَالصُّوفِيَّةِ الْمُكَاشِفِينَ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ، وَلَوْ سَلِمَ مَنْصُوصُ التَّكْلِيفِ لِلْبَدَنِ أَعْنِي الْجَسَدَ فَيَجُوزُ لِكَوْنِهِ مُتَعَلَّقَ الْجَوْهَرِ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْإِنْسَانُ هُوَ الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ.

وَعِنْدَ الرَّاوَنْدِيِّ جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْقَلْبِ، وَعِنْدَ النَّظَّامِ جِسْمٌ لَطِيفٌ سَارٍ فِي الْبَدَنِ بَاقٍ مِنْ أَوَّلِ الْعُمْرِ إلَى آخِرِهِ - وَقِيلَ قُوَّةٌ فِي الدِّمَاغِ مَبْدَأٌ لِلْحِسِّ، وَالْحَرَكَةِ وَقِيلَ قُوَّةٌ لِلْقَلْبِ مَبْدَأٌ لِلْحَيَاةِ فِي الْبَدَنِ وَقِيلَ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيُّ ثَلَاثُ قُوًى فِي الدِّمَاغِ هِيَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ، وَفِي الْقَلْبِ هِيَ النَّفْسُ الْغَضَبِيَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالنَّفْسِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَفِي الْكَبِدِ هِيَ النَّفْسُ النَّبَاتِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ التَّغَذِّي الْمُسَمَّاةُ بِالشَّهْوَانِيَّةِ، وَهِيَ الْأَخْلَاطُ الْأَرْبَعَةُ الْمُعْتَدِلَةُ، وَقِيلَ هِيَ الْمِزَاجُ وَاعْتِدَالُ الْأَخْلَاطِ وَقِيلَ هِيَ الدَّمُ الْمُعْتَدِلُ وَقِيلَ هِيَ الْهَوَاءُ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْمَوَاقِفِ بَعْدَمَا عَدَّ مَا ذَكَرَ وَأَشَارَ إلَى غَيْرِهِ قَالَ إنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْوِيلِ عَلَيْهِ انْتَهَى.

وَأَيْضًا صَرَّحَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ آرَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ جِسْمٌ لَطِيفٌ سَارٍ فِي الْبَدَنِ لَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَتَحَلَّلُ لَعَلَّهُ مَا نُسِبَ إلَى النَّظَّامِ وَحَاصِلُ رِسَالَةِ ابْنِ الْكَمَالِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَإِبْطَالُ كَوْنِ الْإِنْسَانِ هَذَا الْهَيْكَلَ الْمَخْصُوصَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذُكِرَ يُوجِبُ عَدَمَ الْكُفْرِ (وَأَنَّهُ حَيٌّ قَادِرٌ مُخْتَارٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَرِّكٍ وَلَا سَاكِنٍ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَوْصَافِ الْجَائِزَةِ عَلَى الْأَجْسَامِ) مِنْ الْكِبَرِ، وَالصِّغَرِ، وَالطُّولِ، وَالْقِصَرِ، وَالِاتِّصَالِ، وَالِانْفِصَالِ وَغَيْرِهَا قِيلَ فِي وَجْهِ الْكُفْرِ هُوَ إثْبَاتُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْأُلُوهِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ لِلْإِنْسَانِ لَيْسَ إلَّا مِنْ خَوَاصِّ الْوَاجِبِ، لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا رَاجِعٌ إلَى كَوْنِهِ جَوْهَرًا مِنْ الْمَذَاهِبِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَجْمَعُوا عَلَى إسْلَامِهِمْ.

وَقِيلَ إنَّ فَاعِلَ الشُّرُورِ هُوَ الْجِسْمُ الْمُتَحَرِّكُ، وَالسَّاكِنُ، وَالْمُؤَاخَذُ بِالْعَذَابِ فِي ذَلِكَ هُوَ الْإِنْسَانُ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ تَعْذِيبُ غَيْرِ فَاعِلِ الشَّرِّ وَهُوَ ظُلْمٌ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ وَأَنْتَ خَبِيرٌ إنَّمَا يَلْزَمُ الظُّلْمُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ وَرَابِطَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَعَلُّقٌ كَمَا مَرَّ، وَالْمُؤَاخَذَةُ بِذَلِكَ التَّعَلُّقِ وَقِيلَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَوْنَ امْتِثَالِ التَّكَالِيفِ بِمُجَرَّدٍ نَحْوَ التَّفَكُّرِ بِدُونِ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ وَهَذَا يَقْتَضِي إلْغَاءَ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ كُفْرٌ وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ التَّجَرُّدَ لَا يُوجِبُ وَلَا يُنَافِي مَا أَوْجَبَهُ عَلَى أَنَّك قَدْ عَرَفْت مِنْ جَوَازِ كِفَايَةِ نَحْوَ التَّعَلُّقِ، لَعَلَّ وَجْهَ الْكُفْرِ لَيْسَ مَا ذُكِرَ هُنَا فَقَطْ بَلْ لَهُمْ كَلَامٌ آخَرُ اقْتَضَى مَجْمُوعُهُ الْكُفْرَ وَمَا ذُكِرَ هُنَا بَعْضُ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَيَجِبُ إكْفَارُ قَوْمٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرَى شَيْئًا وَلَا يُرَى) فَإِنَّ الْأَوَّلَ إنْكَارٌ لِصِفَةِ الْبَصَرِ أَوْ الْعِلْمِ، وَالثَّانِي لِكَوْنِهِ تَعَالَى مَرْئِيًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] وَقَالَ {أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] وَقَالَ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22]{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] الْآيَةَ لَعَلَّ الْكُفْرَ بِمَجْمُوعِ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْأَوَّلِ عَلَى عَدَمِ التَّأْوِيلِ بِالرُّجُوعِ إلَى صِفَةِ

ص: 233

الْعِلْمِ وَإِلَّا فَالْأَشَاعِرَةُ قَائِلُونَ بِعَدَمِ صِفَةِ السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ عَلَى مَا قِيلَ.

(وَيَجِبُ إكْفَارُ الشَّيْطَانِيَّةِ الطَّارِقِ) قِيلَ الصَّوَابُ شَيْطَانُ الطَّارِقِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَقَبُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ رَأْسِ النُّعْمَانِيَّةِ مِنْ فِرَقِ غُلَاةِ الرَّافِضَةِ وَقِيلَ مِنْ الشِّيعَةِ (فِي قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ شَيْئًا إلَّا إذَا أَرَادَهُ وَقَدَّرَهُ) فَمَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِرَادَةُ كَذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَجَمِيعِ الْمُمْتَنِعَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ حَالَ عَدَمِهَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَهُ تَعَالَى فَيَلْزَمُ الْجَهْلُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا.

(وَفِيهَا مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ جَهْمٍ) ابْنِ صَفْوَانَ عَنْ حَاشِيَةِ الْمُصَنِّفِ قَالَ لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا وَاَللَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَأَنَّ عِلْمَهُ حَادِثٌ لَا فِي مَحَلٍّ وَأَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِمَا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَنَّ الْجَنَّةَ، وَالنَّارَ تَفْنَيَانِ انْتَهَى.

فَلَا تَكْرَارَ كَمَا تُوُهِّمَ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِهِ بِالْمُجْبِرَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْمَقَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ بَلْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَقَالِ قِيلَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَكَانَ فَصِيحَ اللِّسَانِ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ، وَيُجَالِسُ الدَّهْرِيَّةَ وَيَقُولُ الرَّبُّ هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ فَقُتِلَ عَلَى بِدْعَتِهِ بِأَصْبَهَانَ قِيلَ فَاسْوَدَّ وَجْهُهُ لَكِنْ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أُسْنِدَ إلَى الْجَهْمِيَّةِ كَلِمَاتٌ أُخَرَ نَحْوَ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ بِكُلِّ مَكَان لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]- وَأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِلَا اعْتِبَارِ إقْرَارٍ (فَهُوَ خَارِجٌ عِنْدَنَا مِنْ الدِّينِ فَلَا نُصَلِّي عَلَيْهِ وَلَا نَتْبَعُ جِنَازَتَهُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمَيِّتِ وَبِالْكَسْرِ نَعْشٌ وَعَلَيْهِ الْمَيِّتُ، وَقِيلَ اسْمٌ لِهَذَا بِالْفَتْحِ أَيْضًا وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ قِيلَ ذُكِرَ جَهْمٌ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ عَجِبْت لِشَيْطَانٍ إلَى النَّاسِ دَاعِيًا إلَى النَّارِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ جَهَنَّمَ.

(وَأَمَّا صِنْفُ)(الْقَدَرِيَّةِ) مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ النَّافِينَ لِلْقَدَرِ (يَرُدُّونَ الْعِلْمَ) لَهُ تَعَالَى (فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا) خَارِجُونَ عَنْ الدِّينِ (وَتَفْسِيرُ رَدِّ الْعِلْمِ) أَيْ بَيَانُهُ (أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ عِنْدَ كَوْنِهِ) أَيْ عِنْدَ وُجُودِهِ (وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ) يُوجَدُ (عِنْدَ كَوْنِهِ) وُجُودِهِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا سَبَقَ.

(وَأَمَّا الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ) لَمْ يُوجَدْ (فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يَكُونَ فَهَؤُلَاءِ) الظَّاهِرُ كُلُّ مَا ذَكَرَ هُنَا لَا الْأَخِيرُ فَقَطْ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ وَحُكْمِهِ مِنْ قَوْلِهِ (كُفَّارٌ لَا نَتَزَوَّجُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَلَا نُزَوِّجُهُمْ) لِلُزُومِ إجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ عَلَيْهِمْ (وَلَا نَتْبَعُ جِنَازَتَهُمْ) .

(وَأَمَّا)(الْمُرْجِئَةُ فَإِنَّ ضَرْبًا مِنْهُمْ يَقُولُونَ نُرْجِئُ) أَيْ نَكِلُ (أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَافِرِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى) خِلَافَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فِي الْجَنَّةِ وَأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فِي النَّارِ عَلَى مُقْتَضَى

ص: 234

خَبَرِهِ وَوَعْدِهِ بِلَا إيجَابٍ (فَيَقُولُونَ الْأَمْرُ) مِنْ الْعَفْوِ، وَالتَّعْذِيبِ (فِيهِمْ) فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَافِرِينَ (مُفَوَّضٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى) فَإِنَّهُ (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) كَمَا هُوَ عِنْدَنَا فِي الذُّنُوبِ غَيْرِ الشِّرْكِ (وَالْكَافِرِينَ) وَقَدْ امْتَنَعَ بِالنُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ مَغْفِرَةُ الْكَافِرِ وَاَللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) مُؤْمِنًا وَلَوْ صَالِحًا أَوْ كَافِرًا، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ الْمُطِيعَ أَشَارَ إلَى دَلِيلِهِمْ عَلَى حُكْمِهِمْ بِقَوْلِهِ (وَيَقُولُونَ لَهُ تَعَالَى الْآخِرَةُ، وَالْأُولَى) .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} [الليل: 13] فَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ فَهَذَا (كَمَا نَرَى) نَعْتَقِدُ (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا) بِالْفَقْرِ، وَالْمَرَضِ، وَالْمَصَائِبِ (وَيُنَعِّمُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْكَافِرِينَ) بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ وَضُرُوبِ الْإِحْسَانِ كُلِّهَا اسْتِدْرَاجًا وَمَقْتًا (وَذَلِكَ) أَيْ فِعْلُهُ مَعَ الْفَرِيقَيْنِ (عَدْلٌ فَكَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ) فَيَجُوزُ تَنْعِيمُهُ لِلْكَافِرِ وَتَعْذِيبُهُ لِلْمُؤْمِنِ.

وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ يَمْتَنِعُ تَنْعِيمُ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ نَصَّا وَإِجْمَاعًا وَكَذَا تَعْذِيبُ مُطْلَقِ الْمُؤْمِنِ خُلُودًا، وَالْمُؤْمِنُ الْمُطِيعُ أَصْلًا عَلَى مُقْتَضَى وَعْدِهِ وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يَجُوزُ خُلْفُ الْوَعْدِ مِنْهُ تَعَالَى (فَيُسَوُّونَ حُكْمَ الْآخِرَةِ، وَالْأُولَى) فِي الْمُؤْمِنِ، وَالْكَافِرِ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَالْمُؤَاخَذَةِ (فَهَؤُلَاءِ ضَرْبٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ (وَهُمْ كُفَّارٌ) لِتَسْوِيَتِهِمْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَيَلْزَمُهُمْ عَدَمُ نَفْعِ الْإِيمَانِ، وَالطَّاعَةِ وَعَدَمُ ضَرَرِ الْكُفْرِ، وَالْفِسْقِ.

(وَكَذَلِكَ) فِي الْإِكْفَارِ (الضَّرْبُ الْآخَرُ مِنْهُمْ)(الَّذِينَ يَقُولُونَ حَسَنَاتُنَا مَقْبُولَةٌ وَسَيِّئَاتُنَا مَغْفُورَةٌ) فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ كَمَا لَا يُفِيدُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ (وَالْأَعْمَالُ) الَّتِي اعْتَقَدْنَا فِي شَرِيعَتِنَا قَالُوا (لَيْسَتْ بِفَرَائِضَ) بَلْ كُلُّهَا نَوَافِلُ فَالْعَبْدُ مُخَيَّرٌ فِي إتْيَانِهَا (وَلَا يُقِرُّونَ) مِنْ الْإِقْرَارِ (بِفَرَائِضِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ الْفَرَائِضِ) كَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ تَخْصِيصٌ بَعْدَ التَّعْمِيمِ (وَيَقُولُونَ هَذِهِ) كُلُّ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ (فَضَائِلُ مَنْ عَمِلَ بِهَا فَحَسَنٌ) يُثَابُ عَلَيْهِ (وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) مِنْ الْعَذَابِ، وَالْعِقَابِ (فَهَؤُلَاءِ أَيْضًا كُفَّارٌ) لِإِنْكَارِهِمْ النُّصُوصَ الْقَطْعِيَّةَ.

(وَأَمَّا)(الْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا نَتَوَلَّى) لَا نَتَّخِذُ أَوْلِيَاءَ (الْمُؤْمِنِينَ الْمُذْنِبِينَ وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ)(فَهَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةُ) مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ فَالْأَوْلَى فَهَؤُلَاءِ

ص: 235

هُمْ الْمُبْتَدِعَةُ أَوْ مُبْتَدِعَةٌ (وَلَا تُخْرِجُهُمْ بِدْعَتُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْكُفْرِ) أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ إذْ ظَاهِرُهُ هُوَ الْبُغْضُ فِي اللَّهِ لِعِصْيَانِهِ بَلْ اللَّائِقُ عَدَمُ اتِّخَاذِ الْفُسَّاقِ أَوْلِيَاءَ وَأَنْ يَعْرِضَ كُلَّ الْإِعْرَاضِ كَمَا يَعْرِضُ عَنْ الْكُفَّارِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ بَعِيدٌ عَنْ ظَاهِرِهِ وَتَأْوِيلٌ لِجَلْبِ مَفْسَدَةٍ، وَالتَّأْوِيلُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ.

(وَأَمَّا)(الْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ نُرْجِئُ) أَيْ نُفَوِّضُ (أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا نُنْزِلُهُمْ) أَيْ لَا نَحْكُمُ بِأَنَّ لَهُمْ (جَنَّةً وَلَا نَارًا وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ وَنَتَوَلَّاهُمْ) الظَّاهِرُ وَلَوْ فُسَّاقًا (فِي الدِّينِ فَهُمْ عَلَى السُّنَّةِ) فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَيْضًا الْإِعْرَاضُ عَنْ الْفَسَقَةِ، وَالظَّلَمَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ هَذَا بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ (فَالْزَمْ قَوْلَهُمْ، وَخُذْ بِهِ) صِيغَتَا أَمْرٍ.

(وَأَمَّا)(الْخَوَارِجُ)(فَمَنْ لَمْ يَرُدَّ قَوْلَهُمْ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى) وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (وَكَانَ خَطَؤُهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ) بِصَرْفٍ عَنْ ظَاهِرِهِ (يَتَأَوَّلُونَ أَنَّ الْأَعْمَالَ) أَيْ الصَّالِحَةَ (إيمَانٌ يَقُولُونَ إنَّ الصَّلَاةَ إيمَانٌ وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ، وَالزَّكَاةُ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْفَرَائِضِ، وَالطَّاعَاتِ) وَلَوْ نَوَافِلُ (فَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وَكَذَا سَائِرُ مَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِالضَّرُورَةِ (وَ) أَتَى بِفِعْلِ (جَمِيعِ الطَّاعَاتِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الطَّاعَاتِ) الْمَفْرُوضَةِ (كَفَرَ) لِفَقْدِ الْكُلِّ بِفَقْدِ جُزْئِهِ، وَمِنْ الطَّاعَاتِ تَرْكُ الْمَعَاصِي.

وَأَمَّا النَّوَافِلُ فَلَعَلَّهَا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمُكَمِّلَةِ (وَيَقُولُونَ الزَّانِي يَكْفُرُ حِينَ يَزْنِي وَشَارِبُ الْخَمْرِ يَكْفُرُ حِينَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ) أَخْذًا بِظَوَاهِرِ نَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وَ «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» (وَكَذَا يَقُولُونَ فِي جَمِيعِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ حِينَ فِعْلِهِ (يُكَفِّرُونَ النَّاسَ) أَيْ الْمُسْلِمِينَ (بِتَرْكِ الْعَمَلِ) مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ (فَهَؤُلَاءِ تَأَوَّلُوا) الْأَخْبَارَ الشَّرْعِيَّةَ (وَأَخْطَئُوا) فِي تَأْوِيلِهِمْ (فَهُمْ مُبْتَدِعَةٌ) لَيْسُوا بِكَافِرِينَ لِكَوْنِ إكْفَارِهِمْ اغْتِرَارًا بِظَاهِرِ النَّصِّ لَا بِمُجَرَّدِ هَوًى لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا قَالُوا: إنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ تُكَفِّرُنَا فَنُكَفِّرُهُمْ وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ بِكَافِرٍ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ مِنْ الظَّنِّيِّ الَّذِي لَا يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ (فَإِيَّاكَ وَقَوْلَهُمْ) وَتَبَاعَدْ وَاحْذَرْ عَنْهُ (وَلَا تَقُلْ بِقَوْلِهِمْ وَاجْتَنِبْهُمْ وَاحْذَرْهُمْ وَفَارِقْهُمْ وَخَالِفْهُمْ) إذْ حَالُ الْمُتَسَنِّنِ مَعَ الْمُبْتَدِعَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَتَأَمَّلْ

ص: 236

مَا سَبَقَ.

(وَأَمَّا)(مَنْ لَمْ يَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ) مِنْ الرَّوَافِضِ، وَالشِّيعَةِ وَيَرَوْنَ الْمَسْحَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ عُرْيَانَةً (فَقَدْ رَغِبَ) أَعْرَضَ (عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ عِنْدَنَا مُبْتَدِعٌ) إنْ مُتَأَوِّلًا وَيُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ إنْ مُنْكِرًا لِكَوْنِ ثُبُوتِهِ قَرِيبًا إلَى التَّوَاتُرِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ يُنْكِرُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَيَكْفُرُ إنْ كَرَاهَةً لَهَا، وَقِيلَ إنْ كَسَلًا أَيْضًا (فَلَا تَتَّخِذْهُ إمَامًا فِي صَلَاتِك) فَإِنْ قِيلَ الْمُبْتَدِعُ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَقَدْ قَرَّرَ جَوَازَ إمَامَةِ الْفَاسِقِ قُلْنَا النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ فَإِنَّ إمَامَتَهُ وَإِنْ جَائِزَةً فِي نَفْسِهَا لَكِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ وَقَدْ أُشِيرَ آنِفًا أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلِ عُرْيَانَةً فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ أَوْ لِاحْتِمَالِ مَا يُوجِبُ تَكْفِيرَهُ وَحَمْلُ الْبِدْعَةِ عَلَى الْكُفْرِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ بَعِيدٌ عَنْ حَلَاوَةِ السَّوْقِ (وَلَا تُوَقِّرْهُ) التَّوْقِيرُ التَّعْظِيمُ (وَلَا تَخْتَلِفْ إلَيْهِ) لَا تَرَدُّدٌ وَلَا تَخْتَلِطُ إلَيْهِ (فَإِنَّهُ صَاحِبُ بِدْعَتِهِ) وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ مِمَّنْ يَجِبُ إهَانَتُهُ وَبُغْضُهُ.

قَالَ فِي الشِّرْعَةِ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُفَاتَحَةِ الْقَدَرِيَّةِ بِالسَّلَامِ أَيْ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَنَهَى عَنْ عِيَادَةِ مَرْضَاهُمْ وَشُهُودِ مَوْتَاهُمْ وَنَهَى عَنْ اسْتِمَاعِ كَلَامِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ أَجْمَعِينَ فَإِنْ قَدَرْت عَلَى زَجْرِهِمْ بِأَشَدِّ الْقَوْلِ وَإِهَانَتِهِمْ بِأَبْلَغِ الْإِذْلَالِ فَافْعَلْ فَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ انْتَهَرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا، وَمَنْ أَهَانَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ آمَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ» (انْتَهَى) كَلَامُ التتارخانية.

ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ جُمْلَةَ مُعْتَقَدَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَوَاضِعَ لُزُومِ الْكُفْرِ، وَالْإِكْفَارِ مِنْ فِرَقِ الْمُخَالِفِينَ نَبَّهَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَظَّمَ الْخَطَرَ فِي عَدَمِ الِاسْتِيقَانِ مُحْتَجًّا بِشَوَاهِدَ تَصْلُحُ لِلِاعْتِبَارِ وَتَدْعُو لِلِانْزِجَارِ فَقَالَ (فَعَلَيْك أَيُّهَا السَّالِكُ) إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى (بِالْجِدِّ) أَيْ الِاجْتِهَادِ وَكَثْرَةِ السَّعْيِ (وَالتَّشْمِيرِ) عَنْ الْمِصْبَاحِ فِي الْأَصْلِ الِاجْتِهَادُ مَعَ السُّرْعَةِ (فِي تَحْصِيلِ الْيَقِينِ) بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ دُونَ التَّقْلِيدِ أَوْ بِالنَّظَرِ الْفَاسِدِ صُورَةً أَوْ مَادَّةً (بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَالْإِذْعَانِ لَهُ) لِلْمَذْهَبِ الْمَذْكُورِ (وَغَايَةِ التَّيَقُّظِ) مِنْ غَبَاوَةِ الذُّهُولِ (وَالتَّنَبُّهِ) مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ (، وَالتَّضَرُّعِ) أَيْ التَّوَسُّلِ كَمَا قِيلَ.

(وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى) فَإِنَّ الْأَمْرَ صَعْبٌ، وَالْخَطَرَ عَظِيمٌ، وَالنَّفْعَ جَسِيمٌ مَعَ عَدَمِ طَاقَةِ الْقُوَى الْإِنْسَانِيَّةِ وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِهَا فِيهِ (حَتَّى لَا تَزِلَّ) مِنْ الزَّلَلِ هُوَ الْخَطَأُ (قَدَمُك) الْمَعْنَوِيَّةُ (وَلَا يَزُولَ اعْتِقَادُك) الْحَقَّ (بِإِضْلَالِ مُضِلٍّ) مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ (وَتَشْكِيكِ مُشَكِّكٍ) بِإِرَادَةِ شُبَهٍ فِي صُوَرِ أَدِلَّةٍ فَإِنَّ الْأَقْوَامَ بَعْدَمَا اهْتَدَوْا فِي حَقِّ الْمَقَامِ أَزَلُّوا فِي هَذَا الْبَابِ الْأَقْدَامَ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (فَإِنِّي قَدْ سَمِعْت) بِالذَّاتِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ بِقَدْرِ التَّحْقِيقِيَّةِ أَوْ بِوَاسِطَةٍ وَهِيَ

ص: 237

الْمُتَعَارَفَةُ الْغَالِبَةُ هَذَا يَصْلُحُ شَاهِدًا مُؤَبَّدًا لِمَا ذَكَرَهُ وَأَنَّ مَا ذَكَرَ لَيْسَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ بَلْ مِنْ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ.

(عَنْ بَعْضِ مُتَصَوِّفَةِ) أَيْ مُظْهِرِ الصَّفْوَةِ وَلَيْسَ لَهُ صَفْوَةٌ أَوْ هُمْ مُتَصَوِّفَةٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَعِنْدَ تَابِعِيهِمْ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ أَوْ الْإِطْلَاقُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَالْكَوْنِ وَإِلَّا فَإِطْلَاقُ الْمُتَصَوِّفَةِ عَلَى أَمْثَالِهِمْ افْتِرَاءٌ مَحْضٌ وَأَيْنَ الثُّرَيَّا مِنْ يَدِ الْمُتَنَاوِلِ (زَمَانِنَا) وَهُوَ عَصْرُ التِّسْعِمِائَةِ لَكِنَّ وَفَاتَهُ إحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعَمِائَةٍ لَيْسَ هَذَا غِيبَةً بَلْ تَنْفِيرٌ لِلْغَيْرِ وَإِظْهَارُ بُغْضٍ فِي اللَّهِ (حُكِيَ عَنْ شَيْخِهِ) الْمُتَبَادَرُ بِلَا وَاسِطَةٍ (أَنَّ وَاحِدًا مِنْ أَقْرِبَائِهِ) نَسَبًا أَوْ صِهْرًا أَوْ خِدْمَةً وَتَرَدُّدًا بِالشَّيْخِ (يَرَى اللَّهَ) الظَّاهِرُ بِهِمَّةِ الشَّيْخِ (كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) بِنَظَرِ الْعَيْنِ يَعْنِي عَيْنَ الرَّأْسِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ.

(وَأَنَّ مُوسَى عليه السلام مَعَ كَوْنِهِ كَلِيمَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ) وَحَمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَمْ يَبْقَ لِلْإِنْكَارِ مَجَالٌ.

رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كُنَّا نَتَرَاءَى اللَّهَ تَعَالَى ثَمَّةَ أَيْ نَطْلُبُ رُؤْيَتَهُ الْقَلْبِيَّةَ بِحُضُورِ شُهُودِهِ ثَمَّةَ وَإِنَّ الْكَشْفَ، وَالتَّجَلِّيَ بِالْبَصِيرَةِ مُمْكِنٌ بَلْ وَاقِعٌ غَيْرُ مُنْكَرٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَاطِنُ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ» الْحَدِيثَ.

وَقَوْلُهُ «إنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَصِلُهُ إلَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ» (وَقِيلَ لَهُ) مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] حِين طَلَبَ مُوسَى بِقَوْلِهِ {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فَهُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: رُؤْيَةُ الْبَصَرِ مِنْ مُوسَى وَمِنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ، وَرُؤْيَةُ الْبَصِيرَةِ مِنْهَا أَوْ الْبَصَرِ مِنْ مُوسَى، وَالْبَصِيرَةِ مِنْ الْوَاحِدِ، وَالْعَكْسُ فَالظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْبَصَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ وَكَذَا الْبَصَرُ مِنْ جَانِبِ الْوَاحِدِ، وَالْبَصِيرَةُ مِنْ جَانِبِ مُوسَى.

وَأَمَّا الْبَصِيرَةُ مِنْ الْوَاحِدِ، وَالْبَصَرُ مِنْ مُوسَى فَالظَّاهِرُ لَيْسَ بِكُفْرٍ لَكِنْ يَأْبَى عَنْهُ صَنِيعُ سَوْقِ ذَلِكَ الْمُتَصَوِّفِ وَإِنْ احْتَمَلَ فِي نَفْسِهِ وَأَمَّا الْبَصِيرَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلَا يُجَابِهُ تَفْصِيلُ غَيْرِ النَّبِيِّ عَلَى النَّبِيِّ فَكُفْرٌ أَيْضًا (وَهَذَا الْكَلَامُ رُبَّمَا يَسْمَعُهُ الْغَافِلُ) إمَّا لِعَدَمِ عِلْمِ أَحْوَالِهِ تَعَالَى وَأَحْوَالِ النَّبِيِّ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ لِعَدَمِ تَوَجُّهِهِ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ (بَغْتَةً) مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَأَمُّلٍ يَعْنِي غَفْلَةً وَفَجْأَةً (فَيَظُنُّ أَنَّهُ صَحِيحٌ) ، وَالظَّنُّ خَطَأٌ فَضْلًا عَمَّا فَوْقَهُ مِنْ الِاعْتِقَادِ (أَوْ يَشُكُّ) فِي صِحَّتِهِ وَسَبَبُهُ الْغَالِبُ لِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُدَّعِي الْقَائِلِ.

(وَهَذَا) ، وَالْحَالُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ (تَفْضِيلٌ لِغَيْرِ النَّبِيِّ عَلَى مُوسَى عليه السلام) الَّذِي هُوَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ (بَلْ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ) أَمَّا عَلَى مُوسَى؛ لِأَنَّهُ نَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ مَا لَمْ يَنَلْهُ مُوسَى مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ مَعَ قُوَّةِ حِرْصِهِ وَطَلَبِهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَمَّا سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا رُؤْيَةُ اللَّهِ وَإِنْ تَيَسَّرَ كَانَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ اخْتِلَافِيٌّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ (فَإِنَّ)(رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى) بِالْبَصَرِ (أَعْلَى الْمَرَاتِبِ) لَا مَرْتَبَةَ فَوْقَهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُوجَدُ بِالْقُرْبِ الْكَامِلِ إلَيْهِ تَعَالَى (وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا) ؛ لِأَنَّ الْبَصَرَ فَانٍ، وَالْحَقَّ بَاقٍ وَلَا يُرَى الْبَاقِي بِالْفَانِي.

وَأَمَّا فِي الْقِيَامَةِ فَالْعَيْنُ بَاقٍ أَيْضًا فَيَرَى الْبَاقِيَ بِالْبَاقِي كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ الشَّيْخِ عَلْوَانَ فَكَذَبَ مُدَّعِي الرُّؤْيَةَ هُنَا بِمَا كَادَ أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ لَا سِيَّمَا مِمَّنْ يَكُونُ مُتَمَسِّكًا بِالْأَوْهَامِ غَيْرَ مُتَخَلِّقٍ وَلَا مُتَحَقِّقٍ بِقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ فَفِسْقُهُ لِكَذِبِهِ وَافْتِرَائِهِ وَاضِحٌ انْتَهَى.

(سِوَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ)

ص: 238

وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ هَلْ هُوَ بِالْبَصَرِ أَوْ بِالْبَصِيرَةِ عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِ كِبَارِ الْأَصْحَابِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِعَيْنِ الرَّأْسِ وَتَصْحِيحُ التَّفْتَازَانِيِّ تَصْحِيحٌ بِالْفُؤَادِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ.

(وَقَدْ عَرَفْت فِيمَا سَبَقَ) فِي أَوَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ (أَنَّ اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ)(الْوَلِيَّ) مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، وَلَوْ فِي أَعْلَى دَرَجَةِ الْقُرْبِ (لَا يَبْلُغُ دَرَجَةَ النَّبِيِّ) سِيَّمَا الرَّسُولُ خُصُوصًا أُولِي الْعَزْمِ قَالُوا: إنَّ آخِرَ مَقَامَاتِ الْوَلَايَةِ أَوَّلُ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِيَّةِ وَآخِرَ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِيَّةِ أَوَّلُ دَرَجَاتِ النَّبَوِيَّةِ وَآخِرَهَا أَوَّلُ دَرَجَاتِ الرِّسَالَةِ وَآخِرَهَا أَوَّلُ دَرَجَاتِ أُولِي الْعَزْمِ الَّذِينَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ مُوسَى عليه السلام وَهُوَ لَمْ يَظْفَرْ بِالرُّؤْيَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ (فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا) إذْ مُقْتَضَى تِلْكَ الدَّعْوَى التَّجَاوُزُ لِمَرْتَبَةِ مُوسَى صَرِيحًا وَلِمَرَاتِبِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الْتِزَامًا أَوْ دَلَالَةً.

رُوِيَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى رُؤْيَةَ مَقَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ لَهُ إنَّكَ لَا تُطِيقُ؛ لِأَنَّ نُورَك ضَعِيفٌ فَأَلَحَّ فِي السُّؤَالِ.

قَالَ أَبُو يَزِيدَ فَفَتَحَ لِي مِنْ ذَلِكَ خُرْمَ إبْرَةٍ فَلَمْ أُطِقْ الثُّبُوتَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاحْتَرَقْت هَذَا قَوْلُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنْ قِيلَ قُرِّرَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ احْتِمَالِ عَدَمِهِ وَلَوْ احْتِمَالًا ضَعِيفًا فَالْبَصَرُ مِنْ جَانِبِ مُوسَى.

وَالْبَصِيرَةُ مِنْ جَانِبِ الْوَاحِدِ وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ السَّوْقُ لَيْسَ بِكُفْرٍ كَمَا أُشِيرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْفَضْلَ كَمَا رُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْمَشَايِخِ قِيلَ لَهُ لِمَ لَا تَمْشِي إلَى أَبِي يَزِيدَ فَتَرَاهُ فَقَالَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ رَأَيْت اللَّهَ وَأَغْنَانِي عَنْ أَبِي يَزِيدَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ لَأَنْ تَرَى أَبَا يَزِيدَ مَرَّةً خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَرَى اللَّهَ أَلْفَ مَرَّةٍ ثُمَّ اتَّفَقَ لَهُ بَعْدَ زَمَانٍ رُؤْيَةُ أَبِي يَزِيدَ فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْمَرِيدُ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَقِيلَ لِأَبِي يَزِيدَ عَنْهُ فَقَالَ كَانَ الْحَقُّ عِنْدَهُ عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْرُنَا أَعْظَمُ مِنْ قَدْرِهِ فَمَعْرِفَتُنَا بِاَللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَلَمَّا رَآنَا كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصِيرَتِهِ فَرَأَى الْحَقَّ عَلَى قَدْرِنَا لَا عَلَى قَدْرِهِ فَلَمْ يُطِقْ فَمَاتَ.

وَعَنْ الْإِحْيَاءِ قَالَ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: يَا غُلَامُ اذْهَبْ عِنْدَ أَبِي يَزِيدَ فَقَالَ لَيْسَ لِي عِنْدَهُ حَاجَةٌ لِأَنِّي أَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَقَالَ الشَّيْخُ لَأَنْ تَرَى أَبَا يَزِيدَ مَرَّةً أَحْسَنُ مِنْ أَنْ تَرَى اللَّهَ سَبْعِينَ مَرَّةً قُلْنَا فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ وَإِنَّ مُوسَى مَعَ كَوْنِهِ كَلِيمًا إلَى آخِرِهِ يَقْطَعُ عِرْقَ هَذَا الِاحْتِمَالِ إذْ هُوَ نَصٌّ فِي التَّفْضِيلِ وَآبٍ عَنْ التَّأْوِيلِ وَأَنَّ رُؤْيَةَ الْوَاحِدِ الْمَذْكُورِ كَالْغُلَامِ الْمَذْكُورِ تَارَةً لَا تَقْتَضِي عَدَمَ رُؤْيَةِ أَبِي يَزِيدَ أَوْ قِلَّتَهَا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَهُ مُسْتَغْرِقٌ فِي لُجَّةِ بَحْرِ أَنْوَارِ الْقُدْسِ، وَالْمُشَاهَدَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَمَا قِيلَ جَوَابًا عَنْ تَخْطِئَةِ الْمُصَنِّفِ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَصَوِّفِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ الْمَنْفِيَّةُ عَنْ مُوسَى، وَالْمُثْبَتَةُ لِلْوَاحِدِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَقْرِبَاءِ الشَّيْخِ هُمَا الرُّؤْيَةُ بِالْبَصِيرَةِ وَيَجُوزُ أَنْ نَيْلَ وَاحِدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ بِحُكْمِ الْوِرَاثَةِ لِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام لِلرُّؤْيَةِ أَتَمُّ مِنْهَا لِلنَّبِيِّ فَالرُّؤْيَةُ الْقَلْبِيَّةُ الَّتِي لَمْ يَنَلْهَا مُوسَى بَعْدَ طَلَبِهَا يَجُوزُ أَنْ يَنَالَهَا وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِسَبَبِ اقْتِبَاسِهِ مِنْ مِشْكَاةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا وَرَدَ أَنَّ مُوسَى عليه الصلاة والسلام قَالَ يَا رَبِّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَأَى وَصْفَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَأُيِّدَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَقَامَ نَبِيِّنَا جَامِعٌ لِمَقَامَاتِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنْ عُلُومِهِمْ فَوَلِيٌّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ يَعْلَمُ مَا لَمْ يَعْلَمْ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ بِحُكْمِ وِرَاثَتِهِ وَأَنَّ التَّقَدُّمَ فِي الْعِلْمِ، وَالسَّبْقَ فِيهِ لَا يَقْتَضِي السَّبْقَ فِي الْفَضْلِ كَهُدْهُدِ سُلَيْمَانَ {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] .

وَقِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى عليهما السلام مَعَ سَبْقِ مُوسَى فِي الْفَضْلِ بِلَا شَكٍّ قَدْ سَبَقَ الْخَضِرُ فِي الْعِلْمِ حَتَّى قَالَ مُوسَى {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] الْآيَاتِ فَخَطَأٌ ظَاهِرٌ وَعُذْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ ذَلِكَ الْمُتَصَوِّفِ إذْ مَقَامُ الرُّؤْيَةِ الْفُؤَادِيَّةِ كَالْبَصَرِيَّةِ يَقْتَضِي الْقُرْبِيَّةَ، وَالْأَفْضَلِيَّةُ لَيْسَتْ إلَّا بِالْأَقْرَبِيَّةِ فَيَلْزَمُهُ تَفْضِيلُ الْأُمَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ لُزُومًا بَيِّنًا فَيَلْزَمُهُ نَفْيُ مَا أَثْبَتَهُ صَرِيحًا بِقَوْلِهِ لَا يَقْتَضِي السَّبْقَ فِي الْفَضْلِ وَقِيَاسُهُ عَلَى الْعِلْمِ قِيَاسٌ فِقْهِيٌّ مَعَ الْفَارِقِ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْهُدْهُدِ لَيْسَ بِعِلْمٍ بَلْ خَبَرٍ عَمَّا يَرَاهُ وَلَمْ يَرَهُ سُلَيْمَانُ.

وَأَمَّا حَدِيثُ الْخَضِرِ فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَا كَلَامَ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْخَضِرِ أَعْلَمَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ كَوْنُهُ أَعْلَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ مُوسَى أَعْلَمُ

ص: 239

فِي أُمُورِ النُّبُوَّةِ، وَالْخَضِرُ أَعْلَمُ بِأُمُورٍ أُخَرَ، وَالْفَضْلُ إنَّمَا هُوَ بِعِلْمِ النُّبُوَّةِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ عليه الصلاة والسلام بِأَمْرِ نَبِيٍّ آخَرَ وَإِنْ ضَعُفَ، وَقِيلَ أَيْضًا إنَّمَا مَجِيءُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام إلَى الْخَضِرِ لِلتَّأْدِيبِ لَا لِلتَّعَلُّمِ.

وَقَالَ بَعْضٌ إنَّ مُوسَى هَذَا غَيْرُ مَنْ كَانَ نَبِيًّا وَأَنْتَ تَعْلَمُ سَخَافَةَ بَاقِي كَلَامِهِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى إيرَادِ كَلَامٍ لِإِبْطَالِ مَرَامِهِ وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَخْلُو مَجْمُوعُ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ لِحَاقِ شَيْنٍ وَازْدِرَاءٍ وَعَنْ التَّنْزِيلِ، وَالنَّقْصِ عَنْ الرُّتْبَةِ الْعَلِيَّةِ لِمُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَقَدْ ذَكَرَ) الشَّرِيفُ الْعَلَّامَةُ (فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ وَ) ذَكَرَ السَّعْدُ الْعَلَّامَةُ فِي (شَرْحِ الْمَقَاصِدِ) فِي التَّرْتِيبِ إيمَاءً إلَى تَفْضِيلِ الشَّرِيفِ عَلَى السَّعْدِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى عَكْسِهِ (أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ) بَلْ نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّ الْوَلَايَةَ أَعْلَى مِنْ النُّبُوَّةِ فَقِيلَ فِي بَيَانِ مُرَادِهِ عَنْ الْمَعَارِفِ الْجَامِي إنَّ جِهَةَ وِلَايَةِ نَبِيٍّ أَعْلَى مِنْ جِهَةِ نُبُوَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ إذْ كُلُّ نَبِيٍّ لَا يَكُونُ نَبِيًّا مَا لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا إذْ الْوَلَايَةُ كَسْبِيَّةٌ، وَالنُّبُوَّةُ وَهْبِيَّةٌ، وَالْكَسْبِيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَهْبِيَّةِ بَلْ قِيلَ إنَّ النُّبُوَّةَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالتَّهَيُّؤِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا وَذَلِكَ بِإِكْمَالِ الْوَلَايَةِ وَإِتْمَامِهَا فَدَرَجَةُ جِهَةِ الْوَلَايَةِ قُبَيْلَ وُقُوعِ النُّبُوَّةِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ دَرَجَاتِ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ كُلِّهَا إذْ وَلَايَتُهُمْ لَنْ تَعُدَّهُمْ إلَى النُّبُوَّةِ فَافْهَمْ.

(وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ أَنَّ تَفْضِيلَ الْوَلِيِّ عَلَى النَّبِيِّ) فَضْلًا عَنْ الرَّسُولِ (كُفْرٌ وَضَلَالٌ) أَشَارَ إلَى عِلَّتِهِ بِقَوْلِهِ (كَيْفَ وَهُوَ تَحْقِيرٌ لِلنَّبِيِّ) هَذَا دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ (وَخَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ) دَلِيلٌ نَقْلِيٌّ وَإِطْلَاقُ الْإِجْمَاعِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَمَالُهُ الَّذِي هُوَ الْقَطْعِيُّ دَلَالَةً وَثُبُوتًا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْبَزَّازِيُّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ الْأَصْلُ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَمَالِ الْخَالِي عَنْ الْعَوَارِضِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْجَوَازِ.

(وَسَمِعْت عَنْ بَعْضِ الْخَلْوَتِيَّةِ) الصُّوفِيَّةُ قِيلَ الْقِيَاسُ خَلْوِيٌّ، وَالْخَلْوَتِيَّةُ مِنْ الْغَلَطِ الْمَشْهُورِ يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ بِالتَّقْيِيدِ بِالْبَعْضِ إلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْخَلْوَتِيَّةِ لَيْسُوا بِقَائِلِينَ بِجِنْسِ هَذِهِ الْفُحْشِيَّاتِ فَالذَّمُّ مُخْتَصٌّ بِالْبَعْضِ لَا بِالْكُلِّ (أَنَّ مَا عَدَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَبْلُغُوا) فِي مَقَامِ الْكَشْفِ، وَالشُّهُودِ (مَرْتَبَةَ الِاسْمِ السَّابِعِ) الَّذِي وَقَعَ فِي تَرْتِيبِهِمْ (بَلْ وَقَفُوا فِي السَّادِسِ، وَلَمْ يَتَجَاوَزُهُ وَإِنَّا) مَعَاشِرَ الصُّوفِيَّةِ أَوْ الْخَلْوَتِيَّةِ (قَدْ جَاوَزْنَاهُ) أَيْ السَّادِسَ بِالْوُصُولِ إلَى السَّابِعِ وَثُبُوتُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إمَّا بِدَعْوَى الْكَشْفِ أَوْ بِادِّعَاءِ آثَارٍ وَأَخْبَارٍ أَوْ إشَارَةِ قُرْآنٍ.

(وَهَذَا) الْكَلَامُ (مِثْلُ الْأَوَّلِ) فِي كَوْنِهِ كُفْرًا وَضَلَالًا وَتَحْقِيرًا، وَخَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَوْقَ ذَلِكَ الِاسْمِ مِنْ أَطْوَارِ الْوَلَايَةِ لَا مِنْ مَقَامَاتِ النُّبُوَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ لِلْوَلِيِّ بِوِرَاثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمَ وَلَايَةٍ لَا يَحْصُلُ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَقَامِ وَلَايَتِهِمْ، وَإِنْ حَصَلَ فِي مَقَامِ نُبُوَّاتِهِمْ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِجَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ كَمَا مَرَّ قَرِيبًا وَعَرَفْت أَيْضًا أَنَّ وَلَايَةَ كُلِّ نَبِيٍّ فِي الْكَمَالِ فَوْقَ وَلَايَةِ كُلِّ وَلِيٍّ وَأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ ذَلِكَ هُوَ الْإِطْلَاقُ لَا التَّفْصِيلُ وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاحْتِمَالِ الْوَاهِي لَوْ كَانَ مَدَارًا لِلْخَلَاصِ عَنْ الْكُفْرِ لَمْ يَبْقَ لِمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الرِّدَّةِ مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ مَحَلٌّ يَقَعُ بَلْ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ الْغَيْرِ الْوَاقِعَةِ أَصْلًا هَذَا وَلَوْ حَمَلَ مُرَادَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنَّا قَدْ جَاوَزْنَا يَعْنِي جَاوَزْنَا مَعَ نَبِيِّنَا، وَالْمُتَجَاوِزُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ نَبِيُّنَا وَكَانَ الْحُكْمُ فِي الْمَجْمُوعِ بِسَبَبِ وُجُودِهِ فِي بَعْضِ أَجْزَائِهِ لَأَمْكَنَ عَدَمُ الْكُفْرِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ أَيْضًا.

(وَقَالَ) أَيْ الْقَائِلُ الْمَذْكُورُ مِنْ الْخَلْوَتِيَّةِ (إنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْإِرْشَادِ) إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْأَصْحَابِ يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَإِنَّا نَتَجَاوَزُ مَرْتَبَةَ الْأَصْحَابِ) أَيْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

ص: 240

وَمَا قِيلَ إنَّ الْإِرْشَادَ بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ وَفَضْلِ الصِّدِّيقِ عَلَى الْجَمِيعِ إنَّمَا هُوَ بِجِهَةِ غَيْرِ الْعِلْمِ فَمَزِيَّةُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ لَا تُوجِبُ مَزِيَّةَ فَضْلِهِ عَلَيْهِ كَبَابِ مَدِينَةِ الْعِلْمِ مَعَ كَوْنِهِ أَعْلَمَ مِنْ الصِّدِّيقِ كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ مِنْهُ فَلَا يُخْفَى مَا فِيهِ مِنْ السَّخَافَةِ إذْ دَعْوَاهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْإِرْشَادِ كَانَ بِأَمْرٍ غَيْرِ الْعِلْمِ كَتَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ وَتَجْلِيَةِ الرُّوحِ، وَالْوُصُولِ فِي مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْقُرْبِ الْإِلَهِيِّ.

وَالْقَوْلُ حِكَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ قَالَ قَدْ يُوجَدُ فِي غَيْرِ الصَّحَابِيِّ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَوَامِّ الصَّحَابَةِ، وَالْكَلَامُ مَعَ أَخَصِّ خَوَاصِّهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَتَعَيَّنَ التَّأْوِيلُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَحَمُّلِ الْمَقَامِ وَاحْتِمَالِ الْكَلَامِ لَا عِنْدَ تَدَاعِي الْقَرَائِنِ عَلَى سَدِّ التَّأْوِيل.

(وَهَذَا) فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ (قَدْحٌ فِي أَفْضَلِ الْأَوْلِيَاءِ) لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَطْ بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ (وَطَعْنٌ فِي أَفَاضِلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ) عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَالْأَوَّلُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ وَمَدْلُولٍ مُطَابِقِيٍّ، وَالثَّانِي بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَالْتِزَامِيٍّ (بَلْ) طَعْنٌ (فِي سَيِّدِنَا وَسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ رَسُولِ اللَّهِ وَحَبِيبِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِاسْتِلْزَامِ هَذَا الْكَلَامِ دَعْوَى الْمُسَاوَاةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبُلُوغِ إلَى مَرْتَبَةِ الِاسْمِ السَّابِعِ.

وَقِيلَ لِاسْتِلْزَامِهِ كَذِبَ النَّبِيِّ فِي خَبَرِهِ بِأَنَّ النَّبِيَّ وَالصَّحَابِيَّ أَفْضَلُ مِمَّنْ سِوَاهُمْ (وَقَدْ خَرَّجَ خ م عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوْلَى تَقْدِيمُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ عِمْرَانَ وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فِي الْإِسْلَامِ وَغَزَا مَعَهُ غَزَوَاتٍ وَمِنْ فُضَلَاءِ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَى أَنْ اكْتَوَى لِمَرَضٍ فَانْقَطَعَ تَسْلِيمُهُمْ فَأَبَى عَنْ الِاكْتِوَاءِ فَأَعَادُوا السَّلَامَ لَكِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقْدَمُ مِنْهُ سَادِسُ الْإِسْلَامِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَجَمِيعَ الْمَشَاهِدِ وَصَاحِبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبُ وِسَادِهِ وَسِوَاكِهِ وَنَعْلَيْهِ، وَأَفْقَهُ الصَّحَابَةِ وَأَعْلَمُهُمْ وَأَزْهَدُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ تَرَدُّدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى عُدَّ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ وَلَا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَرِوَايَتُهُ ثَمَانُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا، وَرِوَايَةُ عِمْرَانَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» أَيْ عَصْرِي مِنْ الِاقْتِرَانِ يَعْنِي أَصْحَابِي أَوْ مَنْ رَآنِي أَوْ مَنْ كَانَ حَيًّا فِي عَهْدِي وَمُدَّتُهُمْ مِنْ الْبَعْثِ نَحْوَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً سُمِّيَتْ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ قَرْنًا لِتَقَدُّمِهَا الَّتِي بَعْدَهَا كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ وَقِيلَ الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً أَوْ عَشْرٌ أَوْ عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ أَوْ خَمْسُونَ أَوْ سِتُّونَ أَوْ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ أَوْ مِائَةٌ أَوْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ.

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغُلَامٍ عِشْ قَرْنًا فَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ» كَذَا فِي الْقَامُوسِ انْتَهَى لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ هُنَا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي إلَّا أَقَلُّهَا «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» أَيْ يَقْرَبُونَ مِنْهُمْ وَهُمْ التَّابِعُونَ وَهُمْ مِنْ مِائَةٍ إلَى نَحْو تِسْعِينَ «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ وَهُمْ إلَى حُدُودِ الْعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ ثُمَّ ظَهَرَتْ الْبِدَعُ وَأَطْلَقَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَلْسِنَتَهَا وَرَفَعَتْ الْفَلَاسِفَةُ رُءُوسَهَا وَلَمْ يَزَلْ الْأَمْرُ فِي نَقْصٍ إلَى الْآنَ ( «ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» يَظْهَرُ وَيَشِيعُ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «، وَالْقَرْنُ الرَّابِعُ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ شَيْئًا فَلَا تَعْتَمِدُوا أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ» إذْ شَأْنُ الْكَذِبِ عَدَمُ الِاعْتِمَادِ، وَالِاغْتِنَاءِ بِهِ؛ لِأَنَّ غَالِبَهَا بِدَعٌ وَضَلَالَاتٌ وَقَدْ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ كَمَا فِي حَدِيثٍ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ»

ص: 241

الْحَدِيثَ.

لَعَلَّ الْحُكْمَ بِالْأَكْثَرِ وَالْأَغْلَبِ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ وَإِلَّا فَمَا ظَهَرَ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ كَزَمَانِ يَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ، وَمَا ظَهَرَ مِنْ الرَّابِعِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ الْمُجْمَعِ عَلَى اسْتِقَامَتِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا يَشْكُلُ عَلَى الْحَدِيثِ ثُمَّ إنَّمَا كَانَ قَرْنُهُ خَيْرَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ حِينَ كَفَرَ النَّاسُ وَصَدَّقُوهُ حِينَ كَذَّبُوهُ وَنَصَرُوهُ حِين خَذَلُوهُ وَجَاهَدُوا وَآوَوْا وَنَصَرُوا وَتَنَوَّرُوا بِأَنْوَارِ النُّبُوَّةِ.

ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ إتْيَانِ الْحَدِيثِ إثْبَاتُ لُزُومِ الْقَدْحِ فِي سَيِّدِنَا مِنْ حَيْثُ لُزُومُ الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ وَإِثْبَاتُ كَوْنِ الصَّحَابَةِ أَفَاضِلَ الْأُمَّةِ إذْ الْخَيْرِيَّةُ فِي قَرْنِهِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْفَضْلِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَتْ الْأَفْضَلِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَفْرَادِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَجْمُوعِ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِي زَمَنِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ أَنْفَقَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِسَبَبِهِ لَا يَعْدِلُهُ فِي الْفَضْلِ أَحَدٌ بَعْدَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ فَلَا يَتِمُّ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ذَلِكَ فَمَحَلُّ بَحْثٍ.

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ التَّابِعِيُّ الْكَبِيرُ الْمُجْمَعُ عَلَى جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ لَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا يُرِيدُ الصَّحَابَةَ كُنَّا فِي جَنْبِهِمْ لُصُوصًا (وَخَرَجَ م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا « (أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِمْ) ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِيهِ بَدَلُ فِيهِمْ وَهُمْ الصَّحَابَةُ. (ثُمَّ الثَّانِي) التَّابِعُونَ (ثُمَّ الثَّالِثُ) » أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ (وَخَرَّجَا) أَيْ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ خَرَّجَا خ م فَالظَّاهِرُ مِنْ سَهْوِ النَّاسِخِ وَإِنْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ فَأَخَذَهُ (عَنْ) أَبِي سَعِيدٍ (الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي» ، وَفِي الْمَشَارِقِ عَلَى رَمْزِ مُسْلِمٍ فَقَطْ عَلَى تَكْرَارِ هَذَا الْقَوْلِ.

وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ تَكْرَارُهُ لِلتَّأْكِيدِ وَلِغَايَةِ قُبْحِ سَبِّهِمْ قَالَ الْجُمْهُورُ مَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يُعَزَّرُ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يُقْتَلُ.

وَفِي فَتَاوَى أَبِي السُّعُودِ فِيمَنْ اسْتَفْتَى عَنْ سَبِّ مُعَاوِيَةَ وَطَعْنِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَجَابَ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَالْحَبْسِ عَلَى التَّأْبِيدِ إلَى أَنْ يُظْهِرَ سِيمَاءَ الصَّلَاحِ، وَالتَّوْبَةَ الصَّادِقَةَ «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ» أَيْ كُلَّ أَحَدٍ مِنْكُمْ «لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا» يَعْنِي لَوْ تَصَدَّقَ ذَهَبًا مِقْدَارَ جَبَلِ أُحَدٍ ( «مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ» بِضَمِّ الْمِيم.

وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا رُبْعُ الصَّاعِ ( «وَلَا نَصِيفُهُ» وَهُوَ لُغَةٌ فِي النِّصْفِ كَالْخَمِيسِ فِي الْخَمْسِ وَقِيلَ النَّصِيفُ مِكْيَالٌ أَيْضًا دُونَ الْمُدِّ يَعْنِي تَصَدُّقُ قَدْرَ الْمُدِّ مِنْ الطَّعَامِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَصَدُّقِ ذَهَبٍ مِثْلِ أُحُدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ إنْفَاقَهُمْ بِصِدْقِ النِّيَّةِ وَمَزِيدِ الْإِخْلَاصِ مَعَ مَا كَانُوا فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ وَكَثْرَةِ الْحَاجَةِ إلَى نُصْرَةِ الدَّيْنِ وَهَذَا مَعْدُومٌ بِعَدَمِهِمْ وَكَذَا سَائِرُ طَاعَاتِهِمْ.

فَإِنْ قُلْت الْمُخَاطَبُونَ إنْ كَانُوا الصَّحَابَةَ فَغَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ كَانُوا مَنْ بَعْدَهُمْ فَهُمْ غَيْرُ مَوْجُودِينَ قُلْت يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ مِنْ الْعَوَامّ الَّذِينَ لَمْ يُصَاحِبُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُفْهَمُ مِنْهُ خِطَابُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَذَا فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْخِطَابَ يُوجِبُ الرُّؤْيَةَ، وَالرُّؤْيَةُ تُوجِبُ الصُّحْبَةَ فَيَرْجِعُ إلَى الشِّقِّ الْأَوَّلِ الَّذِي حُكِمَ فِيهِ بِعَدَمِ الِاسْتِقَامَةِ وَكَذَا مَا أُجِيبَ عَنْهُ أَيْضًا بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِعَوَامِّ الصَّحَابَةِ أَوْ مَعَ صِغَارِ الصَّحَابَةِ أَوْ مَعَ الَّذِينَ سَيُوجَدُونَ وَأَكْثَرُ الشَّرَائِعِ عَلَى هَذَا النَّهْجِ وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ «كَانَ

ص: 242

بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَبَيْنَ خَالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - شَيْءٌ فَسَبَّهُ خَالِدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَسُبُّوا» .

إلَى آخِرِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ خَالِدًا مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ حَتَّى سَمَّاهُ صلى الله عليه وسلم سَيْفَ اللَّهِ وَسَيْفَ الْأَرْضِ وَبَعَثَهُ فِي سَرَايَا وَشَهِدَ مَعَهُ غَزَوَاتِ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَتَبُوكَ وَحَجَّةَ الْوَدَاعِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ مُتَأَخِّرُو الصَّحَابَةِ وَعَوَامُّهُمْ مَعَ مُطْلَقِ مَنْ بَعْدَهُمْ وَمِنْ الصَّحَابَةِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَمَنْ نَزَلَ فِي فَضْلِهِمْ وَتَبْرِئَتِهِمْ الْقُرْآنُ كَأَهْلِ بَدْرٍ بِقَرِينَةِ سَبَبِ وُرُودِ الْحَدِيثِ فَتَأَمَّلْ.

(وَخَرَّجَ ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «اللَّهَ اللَّهَ فِي» حَقِّ «أَصْحَابِي» أَيْ: اتَّقُوا اللَّهَ فِيهِمْ وَلَا تَلْمِزُوهُمْ بِسُوءٍ أَوْ اُذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِمْ وَفِي تَعْظِيمِهِمْ، وَالتَّكْرِيرُ لِلْإِيذَانِ بِمَزِيدِ الْحَثِّ عَلَى الْكَفِّ عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِمُقْتَضٍ فَلَا يُنْظَرُ إلَى الْمُخَالَفَاتِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَالْحُرُوبِ الْمُنْبَعِثَةِ عَنْ الْحَمِيَّةِ الدِّينِيَّةِ فِي نُصْرَةِ الْأَحْكَامِ.

( «لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا» بِمُعْجَمَةٍ هَدَفًا تَرْمُوهُمْ بِقَبِيحِ الْكَلَامِ فَتَشْبِيهٌ بَلِيغٌ «مِنْ بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أُحِبُّهُمْ» أَيْ فَبِسَبَبِ حُبِّي لَهُ أَوْ حُبِّي إيَّاهُمْ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ أَحَدًا أَحَبَّ جَمِيعَ مَنْ يُحِبُّهُ ذَلِكَ «وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي» فَبِسَبَبِ بُغْضِهِ إيَّايَ «أَبْغَضُهُمْ» يَعْنِي إنَّمَا أَبْغَضُهُمْ لِبُغْضِهِ إيَّايَ «وَمَنْ آذَاهُمْ» بِمُطْلَقِ مَا يَسُؤْهُمْ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فَإِنَّ الْأَمْوَاتَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ الْأَحْيَاءُ.

«فَقَدْ آذَانِي» فَإِنَّ الْحَبِيبَ يَتَأَذَّى بِمَا يَتَأَذَّى بِهِ حَبِيبُهُ وَبِإِذَائِهِ «وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ تَعَالَى» ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الرَّسُولِ تَعْظِيمُ مُرْسِلِهِ وَكَذَا أَذَاهُ «وَمَنْ آذَى اللَّهَ تَعَالَى فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» أَيْ يُسْرِعَ انْتِزَاعِ رُوحِهِ أَخْذَةَ غَضْبَانَ مُنْتَقِمٍ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ جَبَّارٍ قَهَّارٍ - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13]- هَذَا عُدَّ مِنْ بَاهِرِ مُعْجِزَاتِهِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ بَعْدَ انْتِقَالِهِ مِنْ ظُهُورِ الْبِدَعِ وَإِيذَاءِ الْبَعْضِ لِحُبِّ بَعْضٍ آخَرَ.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (تَتِمَّةٌ)

اُخْتُلِفَ فِي سَابِّ الصَّحَابَةِ فَقَالَ عِيَاضٌ قَالَ الْجُمْهُورُ يُعَزَّرُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ يُقْتَلُ وَخَصَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ذَلِكَ بِالشَّيْخَيْنِ، وَالْحَسَنَيْنِ فَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَجْهَيْنِ، وَقَوَّاهُ السُّبْكِيُّ فِيمَنْ كَفَّرَ الشَّيْخَيْنِ وَمَنْ كَفَّرَ مَنْ صَرَّحَ الْمُصْطَفَى بِإِيمَانِهِ أَوْ تَبْشِيرِهِ بِالْجَنَّةِ وَأَطْلَقَ الْجُمْهُورُ التَّعْزِيرَ انْتَهَى.

قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: سَبُّ الشَّيْخَيْنِ وَلَعْنُهُمَا كُفْرٌ وَتَفْضِيلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا ابْتِدَاعٌ وَكُلُّ كَافِرٍ تَابَ فَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ إلَّا الْكَافِرَ بِسَبِّ نَبِيٍّ أَوْ بِسَبِّ الشَّيْخَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا (وَخَرَّجَ ت عَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - « (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) أَيْ أَخْبَرَ عَنْهُمَا» أَوْ قَالَ لَهُمَا ( «هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ» جَمْعُ كَهْلٍ مَنْ خَطَّهُ الشَّيْبُ أَوْ مَنْ جَاوَزَ الثَّلَاثِينَ وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ إلَى إحْدَى وَخَمْسِينَ «أَهْلِ الْجَنَّةِ» وَجْهُ الْكُهُولَةِ إمَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمَا كَهْلَيْنِ عِنْدَ وُرُودِ هَذَا الْأَثَرِ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَا عَلَيْهِ عِنْدَ خُرُوجِهِمَا مِنْ الدُّنْيَا كَمَا قِيلَ أَوْ كَمَا أَنَّ الْكُهُولَةَ أَمْرٌ وَسَطٌ بَيْنَ الشَّبَابِ، وَالشَّيْبِ كَذَلِكَ فَضْلُهُمَا مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ فَضْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِلَّا فَأَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ أَبْنَاءُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى سَمْتِ آدَمَ وَصُورَةِ يُوسُفَ وَقَلْبِ أَيُّوبَ وَلَوْ سِقْطًا أَوْ شَيْخًا هَرَمًا فَانِيًا.

«مِنْ الْأَوَّلِينَ» بَيَانٌ لِلْكُهُولِ «وَالْآخِرِينَ

ص: 243

إلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهِمَا عَلَى أَوْلِيَاءِ جَمِيعِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَلَوْ هُمْ مِمَّا اُخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ نُبُوَّتِهِمْ وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعِهِ بِمَا يُشْعِرُ فَضْلَهُ فَافْهَمْ (وَخَرَّجَ ت عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَلَهُ وَزِيرَانِ» الْوَزِيرُ وَلِيُّ الْعَهْدِ وَيَحْمِلُ الثِّقَلَ وَيُعِينُ بِالرَّأْيِ «مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَوَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ فَجَبْرَائِيلُ وَمِيكَائِيلُ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» .

«وَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَعَلَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِرُتْبَةِ الشَّرَفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَوَاقِي إذْ حَاصِلُ الْوَزَارَةِ التَّبَعِيَّةُ، وَالْإِعَانَةُ فَإِعَانَةُ أَبِي بَكْرٍ بِكَوْنِهِ سَابِقًا فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَعْيَانِ كِبَارِ الْأَصْحَابِ أَسْلَمُوا بِإِشَارَتِهِ وَإِعَانَةُ عُمَرَ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَهُمَا كَانَا خَلِيفَةً بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِعَانَةُ جَبْرَائِيلَ ظَاهِرَةٌ.

وَأَمَّا إعَانَةُ مِيكَائِيلَ فَلَعَلَّهُ فِي الْإِعَانَةِ فِي الْحُرُوبِ عِنْدَ إمْدَادِهِ تَعَالَى بِالْمَلَائِكَةِ أَوْ يُقَالُ هُمَا وِزَارَتُهُمَا فِي مَصَالِحِ الْمَلَكُوتِ، وَالْجَبَرُوتِ يَعْنِي فِي الْأُمُورِ الَّتِي بَيْنَهُ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَوِزَارَةُ الْعُمُرَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أُمَّتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَخَرَّجَ خ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ) بْنِ الْإِمَامِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ غَيْرِ فَاطِمَةَ مِنْ جَارِيَةٍ أَخَذَهَا عَلِيٌّ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ جَمَاعَةِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَيُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ الْأَكْبَرُ وَلِابْنٍ آخَرَ مُحَمَّدٌ الْأَوْسَطُ وَلِآخَرَ لَهُ مُحَمَّدٌ الْأَصْغَرُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ بِاسْمِ مُحَمَّدٍ لَعَلَّ لِغَايَةِ الْفَضْلِ فِي اسْمِ مُحَمَّدٍ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَإِنْ طَعَنَهُ بَعْضُهُمْ. وَيُقَالُ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ الْوَلَدِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا وَتِسْعَ عَشْرَةَ أُنْثَى (قُلْت لِأَبِي) يَعْنِي عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْت ثُمَّ مَنْ قَالَ عُمَرُ وَخَشِيت أَنْ أَقُولَ ثُمَّ مَنْ فَيَقُولَ عُثْمَانُ قُلْت ثُمَّ أَنْتَ قَالَ مَا أَنَا إلَّا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) وَقَعَتْ الرِّوَايَةُ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ هَكَذَا أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ عُمَرُ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ عُثْمَانُ قَالَ ثُمَّ مَنْ فَسَكَتَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَقَالَ لَوْ شِئْت لَأَنْبَأْتُكُمْ بِالرَّابِعِ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَنْتَ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَبُوك امْرُؤٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا سَكَتَ لِئَلَّا يُرِدْ مَدْحَ نَفْسِهِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي تَفْصِيلِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ الْإِجْمَاعِ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الْآخِرِينَ مَعَ كَوْنِ الْأَكْثَرِ، وَالْأَصَحِّ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَلَى وَفْقِ هَذَا التَّرْتِيبِ.

(وَخَرَّجَ ت عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَنْبَغِي لِقَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ» ؛ لِأَنَّ مَدَارَ الْإِمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ فَمَنْ هُوَ أَفْضَلُ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ كَمَا فَصَّلْت فِي الْفِقْهِيَّةِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْجَمِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ مِنْهُ الْإِمَامَةُ بِمَعْنَى الْخِلَافَةِ فَإِنْ قِيلَ قَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ فَيَلْزَمُ تَقْدِيمُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِمَامَةِ قُلْت قَرَّرَ فِيهِ أَيْضًا تَخْصِيصَ الْعَامِّ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ إذْ لَفْظُ قَوْمٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ

ص: 244

الْعُمُومُ فَلَا إشْكَالَ أَصْلًا ثُمَّ إنَّهُ لِهَذَا عَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْإِمَامَةِ فِي مَرَضِهِ فَلَمَّا أَمَّ عُمَرُ وَصَلَّى بِالنَّاسِ أَعَادُوا صَلَاتَهُمْ بِإِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ أَنَّهُ «لَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَاهُ بِلَالٌ إلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ غَائِبٌ وَعُمَرُ فِي النَّاسِ فَقُلْت يَا عُمَرُ قُمْ فَصَلِّ بِالنَّاسِ فَتَقَدَّمَ فَكَبَّرَ فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَوْتَهُ قَالَ فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ، فَبَعَثَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَاءَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى بِهِمْ عُمَرُ تِلْكَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «حِينَ سَمِعَ صَوْتَ عُمَرَ خَرَجَ حَتَّى أَطْلَعَ رَأْسَهُ مِنْ حُجْرَتِهِ ثُمَّ قَالَ لَا لَا لَا لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ يَقُولُ ذَلِكَ مُغْضَبًا» .

وَفِي بَحْرِ الْكَلَامِ فِي بَحْثِ الْخِلَافَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ الْمُشَاوَرَةِ ظَنَنْت أَنَّ عَلِيًّا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَأَرَدْت أَنْ أُتَابِعَ فَقَامَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَسَلَّ سَيْفَهُ وَقَالَ قُمْ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ: فَمَنْ ذَا الَّذِي يُؤَخِّرُك عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ خَلِيفَةً وَلَمْ يَأْمُرْنِي، وَقَالَ مُرْ أَبَا بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ رَضِينَا لِأَمْرِ دُنْيَانَا مَا رَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَمْرِ دِينِنَا.

(وَخَرَّجَ ت عَنْهَا أَيْضًا) عَائِشَةُ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا) لَهُ سِيَادَةٌ عَلَيْنَا (وَخَيْرُنَا) أَكْثَرُ خَيْرًا مِنَّا (وَأَحَبُّنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) تَعَلَّقَ الظَّرْفُ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ عَلَى التَّنَازُعِ مَعَ نِسْبِيَّةِ الثَّانِي وَجْهُ الْخَيْرِيَّةِ وَتَفَاصِيلُ الْأَحْبِيَةِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَ عُمَرَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَبَكَى، وَقَالَ وَدِدْت أَنَّ عَمَلِي كُلَّهُ مِثْلُ عَمَلِهِ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِهِ وَلَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيَالِيهِ يُرِيدُ لَيْلَةَ الْغَارِ.

وَأَمَّا الْيَوْمُ فَمَا تَقَدَّمَ حِينَ ارْتِدَادِ الْعَرَبِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلَّ الِاحْتِجَاجَ بِنَحْوِ قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ لَا سِيَّمَا عِنْدَ سُكُوتِ الْبَاقِينَ يَكُونُ إجْمَاعًا أَوْ أَنَّهُ كَتَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَتَعْدِيلِهَا.

(وَخَرَّجَ ت عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَا خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ بَعْدَ انْتِقَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ وَبَعْدَ إخْوَانِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يُتَوَهَّمُ تَفْضِيلُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الِاحْتِجَاجِ عَلَى فَضْلِ الصَّحَابَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا بِالْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ بِأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فَقَالَ.

(وَقَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة لَوْ)(قَالَ) قَائِلٌ (عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَمْ يَكُونُوا أَصْحَابًا)(لَا يَكْفُرُ) ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ

ص: 245

إنْكَارَ نَصٍّ قَطْعِيٍّ، وَالْقَوْلُ فِي التَّعْلِيلِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ صُحْبَتِهِمْ بِالتَّوَاتُرِ بَلْ بِالْآحَادِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ إذْ لَوْ سَلَّمَ عَدَمَ التَّوَاتُرِ اللَّفْظِيِّ فَثُبُوتُ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ قَطْعِيٌّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِي مَثَلًا (وَيَسْتَحِقُّ اللَّعْنَةَ) لِابْتِدَاعِهِ، وَكَذِبِهِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] فَهَذَا اللَّعْنُ لَيْسَ مَا يَقْتَضِيهِ الْكُفْرُ (وَلَوْ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصَّحَابَةِ كَفَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ صَاحِبًا) الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الصَّحَابَةِ (بِقَوْلِهِ {إِذْ يَقُولُ} [التوبة: 40] أَيْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40] أَيْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] .

قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ طَلَعُوا فَوْقَ الْغَارِ فَأَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عليه الصلاة والسلام «مَا ظَنُّك بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» فَأَعْمَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَرَوْهُ، يَشْكُلُ بِأَنَّ كَوْنَ الْمُرَادِ مِنْ الصَّاحِبِ هَذَا أَبَا بَكْرٍ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ، وَالْكُفْرُ يَقْتَضِي الْقَطْعِيَّةَ إذْ إنْكَارُ مَا يَكُونُ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ لَيْسَ بِكُفْرٍ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ عَلَى إرَادَةِ ذَلِكَ مِنْهُ.

(وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ) لِظَهِيرِ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيِّ (وَمَنْ أَنْكَرَ إمَامَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (فَهُوَ كَافِرٌ فِي الصَّحِيحِ) قِيلَ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خِلَافِ أَحَدٍ يُعْتَدُّ بِهِ وَقِيلَ لِنِسْبَةِ الْأُمَّةِ إلَى الضَّلَالَةِ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الضَّلَالَةِ لِحَدِيثِ «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» يَشْكُلُ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْكُفْرَ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِجْمَاعِ الَّذِي وَقَعَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَهَذَا كَالْإِجْمَاعِ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَلَوْ سُلِّمَ فَسَنَدُهُ الْقِيَاسُ عَلَى إمَامَتِهِ فِي الصَّلَاةِ نَصًّا وَقُرِّرَ أَيْضًا بِعَدَمِ الْكُفْرِ فِي الْإِجْمَاعِ الَّذِي سَنَدُهُ الْقِيَاسُ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي إكْفَارِ مُنْكِرِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ كُفْرٌ مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَلَيْسَ بِكُفْرٍ مُطْلَقًا وَكُفْرٌ فِي نَحْوِ الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ فِي كَوْنِهِ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَعَدَمِهِ فِي غَيْرِهَا قِيلَ هُوَ مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ فَتَأَمَّلْ وَيَشْكُلُ عَلَى الثَّانِي بِأَنَّ إنْكَارَ الْحَدِيثِ إنَّمَا يَكُونُ كُفْرًا إنْ مُتَوَاتِرًا، وَتَوَاتُرُ هَذَا الْحَدِيثِ مَمْنُوعٌ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الْإِنْكَارُ عَلَى مَا بَعْدَ إقْرَارِ حَدِيثِيَّتِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا احْتِمَالٌ وَلَا كُفْرَ مَعَ الِاحْتِمَالِ (وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ خِلَافَةَ عُمَرَ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ) قِيلَ لِإِنْكَارِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ أَيْضًا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ آنِفًا مَعَ عَدَمِ الِانْدِفَاعِ بِدَفْعِ مَا ذُكِرَ آنِفًا فَافْهَمْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ إنْ اتَّحَدَ حُكْمُهُمَا فِي الْكُفْرِ، وَالْأُضْحِيَّةِ فَالْأَوْلَى جَمْعُهُمَا إذْ الْفَصْلُ الْوَاحِدُ أَوْلَى مِنْ الْفَصْلَيْنِ (انْتَهَى) ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ نَقْلَ الْمُصَنِّفِ هُنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَالْآثَارَ وَأَقْوَالَ الْفُقَهَاءِ لِأَجْلِ إثْبَاتِ مُدَّعَاهُ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا قَدْحٌ فِي أَفْضَلِ الْأَوْلِيَاءِ إلَى آخِرِهِ فَإِذَا تَفَطَّنْت وَجَدْت عَدَمَ تَمَامِيَّةِ التَّقْرِيبِ فِي بَعْضِهَا وَعَدَمَ التَّقْرِيبِ أَصْلًا فِي بَعْضِهَا نَعَمْ يُمْكِنُ التَّقْرِيبُ لَكِنْ بِتَأْوِيلٍ خَفِيٍّ يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ، وَأَمَّا مُنْكِرُ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَمُبْتَدِعٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَعَنْ جَمِيعِ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(تَذْنِيبٌ)

لِلْمَسَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ بَيْنَ إمَامَيْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَثَّرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَمِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ، وَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَا جَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي رِسَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَبَعْضُ الْأَسَاتِذَةِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ مَعَ بَعْضٍ آخَرَ عَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ.

قَالَ جُمْهُورُ الْمَاتُرِيدِيَّةِ: الْأَوَّلُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَاجِبٌ عَقْلًا لَا شَرْعًا.

الثَّانِي وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَبْعَثْ لِلنَّاسِ رَسُولًا لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ تَعَالَى.

الثَّالِثُ: وَأَنَّهُ يُعْرَفُ الصَّانِعُ بِصِفَاتِهِ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ.

الرَّابِعُ: وَأَنَّ الْوُجُودَ وَالْوَاجِبَ عَيْنُ الذَّاتِ فِي التَّحْقِيقِ.

الْخَامِسُ: وَأَنَّ حُسْنَ بَعْضِ الْأُمُورِ وَقُبْحَهُ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ.

السَّادِسُ: وَأَنَّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا رَاجِعَةٌ إلَى صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ هِيَ التَّكْوِينُ وَهُوَ مَبْدَأُ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ فَالْفِعْلِيَّةُ كَالذَّاتِيَّةِ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا اعْتِبَارِيَّةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى.

السَّابِعُ: وَكُلُّ صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ وَاجِبَةِ الْوُجُودِ لَيْسَتْ بِمُمْكِنَةٍ.

الثَّامِنُ: وَأَنَّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ مِنْ نَحْوِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الرَّازِقِ لَهَا أَسْمَاءٌ غَيْرُ الْقُدْرَةِ بِلَا رُجُوعٍ إلَيْهَا بَلْ إلَى التَّكْوِينِ.

التَّاسِعُ: وَأَنَّ التَّكْوِينَ لَيْسَ عَيْنَ الْمُكَوَّنِ.

الْعَاشِرُ: وَأَنَّ الْبَقَاءَ لَيْسَ صِفَةً زَائِدَةً.

الْحَادِيَ عَشَرَ: وَالسَّمْعُ

ص: 246

وَالْبَصَرُ صِفَتَانِ غَيْرُ الْعِلْمِ بِالْمَسْمُوعِ، وَالْمُبْصَرِ.

الثَّانِي عَشَرَ: وَأَنَّ إدْرَاكَ الْمَشْمُومِ، وَالْمَذُوقِ، وَالْمَلْمُوسِ لَيْسَ صِفَةً غَيْرَ الْعِلْمِ فِي شَأْنِهِ تَعَالَى.

الثَّالِثَ عَشَرَ: وَأَنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْحِكَمِ، وَالْمَصَالِحِ.

الرَّابِعَ عَشَرَ: وَأَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الرِّضَا، وَالْمَحَبَّةَ.

الْخَامِسَ عَشَرَ: اللَّهُ مُتَكَلِّمٌ فِي الْأَزَلِ لَا مُكَلِّمٌ فِي الْأَزَلِ.

السَّادِسَ عَشَرَ: وَأَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ بَعْضٍ.

السَّابِعَ عَشَرَ: وَأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ الْأَزَلِيُّ بِالْمَعْدُومِ.

الثَّامِنَ عَشَرَ: وَأَنَّ وُجُودَ الْأَشْيَاءِ بِالْإِيجَادِ لَا بِخِطَابِ كُنْ.

وَعَنْ الْبَزْدَوِيِّ هُوَ بِالْخِطَابِ، وَالْإِيجَادِ مَعًا.

التَّاسِعَ عَشَرَ: وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَهُوَ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا.

الْعِشْرُونَ: وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ لَا يَجُوزُ حَالًا وَاسْتِقْبَالًا.

الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّ الشَّقِيَّ فِي الْحَالِ قَدْ يَسْعَدُ وَبِالْعَكْسِ.

الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ تَعَلُّقُ الرُّؤْيَةِ بِكُلِّ مَوْجُودٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعَلُّقُ السَّمَاعِ بِكُلِّ مَوْجُودٍ.

الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَسْمَعْ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ بَلْ سَمِعَ كَلَامًا مُؤَلَّفًا مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ.

الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ.

الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَتَنْعِيمُ الْكَافِرِ عَقْلًا لِمُخَالَفَةِ الْحِكْمَةِ وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَكَذَا تَخْلِيدُ الْمُؤْمِنِ فِي النَّارِ وَتَخْلِيدُ الْكَافِرِ فِي الْجَنَّةِ.

السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَى فِي الْمَنَامِ وَإِنْ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى خِلَافِهَا بَلْ أَوَّلُوا كَلَامَ الشَّيْخِ.

السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَأَنَّهُ لَيْسَ الرُّؤْيَا خَيَالًا بَاطِلًا بَلْ نَوْعُ مُشَاهَدَةٍ لِلرُّوحِ تَحْقِيقِيَّةً أَوْ بِمِثَالِهِ.

الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا الْعَبْدُ الطَّاعَةَ هِيَ بِعَيْنِهَا الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا الْمَعْصِيَةَ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْقُدْرَةُ الْوَاحِدَةُ صَالِحَةً لِلضِّدَّيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ.

التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّ الْعِلْمَ الْوَاحِدَ يَتَعَلَّقُ بِمَعْلُومَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ.

الثَّلَاثُونَ: وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَ مَوْتِهِمْ أَيْضًا أَنْبِيَاءُ حَقِيقَةً.

الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْوَحْيِ أَوْ الرَّأْيِ أَوْ الِاجْتِهَادِ وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي تَفْصِيلِهِ.

الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّ إيمَانَ الْمُقَلِّدِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ.

الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي الْإِيمَانِ الِاسْتِدْلَالِيِّ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى جَمِيعِ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ بَلْ يَكْفِي الِابْتِنَاءُ عَلَى قَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ فِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ.

الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّهُ لَيْسَ الِاسْمُ غَيْرَ الْمُسَمَّى بَلْ عَيْنُهُ.

الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّ الْحِكْمَةَ مَا لَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ، وَالسَّفَهُ عَلَى ضِدِّهِ لَا مَا وَقَعَ عَلَى قَصْدِ فَاعِلِهِ وَضِدِّهِ وَلَا مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْفَاعِلِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَضِدِّهِ.

السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: وَفِعْلُ الْعَبْدِ يُسَمَّى كَسْبًا لَا خَلْقًا أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا.

السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وَفِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى يُسَمَّى خَلْقًا لَا كَسْبًا فَهُوَ أَيْضًا كَمَا تَرَى.

الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: وَاسْمُ الْفِعْلِ يَشْمَلُهُمَا عَلَى سَبِيلٍ بِلَا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي خَلْقِ اللَّهِ وَمَجَازًا فِي كَسْبِ الْعَبْدِ.

التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّ مَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْآلَةِ فَخَلْقٌ وَبِالْآلَةِ فَكَسْبٌ وَقِيلَ مَا يَجُوزُ تَفَرُّدُ الْقَادِرِ بِهِ فَخَلْقٌ وَمَا لَا فَكَسْبٌ.

الْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ إحْسَاسَ الشَّيْءِ بِإِحْدَى الْحَوَاسِّ لَيْسَ عِلْمًا بِهِ بَلْ هُوَ آلَةٌ لَهُ.

الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطُ النُّبُوَّةِ.

الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ الْأَلَمِ عَقِيبَ الضَّرْبِ وَمِنْ الِانْكِسَارِ عَقِيبَ الْكَسْرِ لَيْسَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ لِاسْتِحَالَةِ اكْتِسَابِ مَا لَيْسَ بِقَائِمٍ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ.

الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ إفَادَةَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ بِمَجْمُوعِ الْكَسْبِ وَالْخَلْقِ لَا بِالْخَلْقِ فَقَطْ.

الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي فِعْلِهِ لَا أَنَّ لَهُ قُدْرَةً غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ.

الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ الْعِلَلَ وَالْأَسْبَابَ مِثْلُ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ مُؤَثِّرَةٌ حَقِيقَةً لَا عَادِيَةً فِيمَا يَبْدُو مِنْهَا مِنْ الْآثَارِ.

السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مَقْدُورٌ وَاحِدٌ بَيْنَ قُدْرَةِ قَادِرَيْنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَيْضًا.

السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ الْأَرْوَاحَ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا جُثْمَانِيٍّ بَلْ هِيَ أُمُورٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الْمَادَّةِ.

الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّهُ يَعْرِفُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ

ص: 247

بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الْعِلْمَ بِهِ إمَّا بِلَا كَسْبٍ كَوُجُوبِ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ وَحُرْمَةِ الْكَذِبِ الضَّارِّ وَإِمَّا مَعَ الْكَسْبِ بِالنَّظَرِ وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَقَدْ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ.

التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى بَاقِيَةٌ بِبَقَاءٍ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الصِّفَةِ.

الْخَمْسُونَ: وَأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْمُشَارَكَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ.

الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ جِنْسٌ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعِهِ مِنْ الْمُشَابَهَةِ، وَالْمُضَاهَاةِ، وَالْمُسَاوَاةِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ جَائِزٌ، وَفِيهِ كَلَامٌ.

الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: تُؤَوَّلُ الْمُشَابِهَاتُ إجْمَالًا وَيُفَوَّضُ تَفْصِيلُهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى.

الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ حُكْمَ الْمُتَشَابِهَاتِ انْقِطَاعُ رَجَاءِ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنْهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ.

الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ الْقَضَاءَ، وَالْقَدَرَ غَيْرُ الْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ.

الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُمْ حَكَمُوا بِكُفْرِ مَنْ يَقُولُ النَّبِيُّ يَعْلَمُ الْغَيْبَ.

السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، وَالْحَقُّ وَاحِدٌ.

السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ الدَّلِيلَ اللَّفْظِيَّ قَدْ يُفِيدُ الْيَقِينَ إنْ تَوَارَدَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ عَدَمِ صَارِفٍ.

الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ الْمَحَبَّةَ بِمَعْنَى الِاسْتِحْمَادِ لَا مُطْلَقِ إرَادَةٍ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الطَّاعَةِ.

التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُ يَنْعَمُ الْكَافِرُ فِي الدُّنْيَا.

السِّتُّونَ: وَأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْكَافِرُ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ.

الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنْ الصَّغَائِرِ عَمْدًا وَمِنْ الْكَبَائِرِ مُطْلَقًا.

الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّهُ يَصِحُّ إمَامَةُ الْمَفْضُولِ.

الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ الْمَوْتَ فَسَادُ بِنْيَةِ الْحَيَوَانِ لَا عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَوْ عَرْضٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ.

الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ الْأَعْرَاضَ لَا تُعَادُ.

الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ تَوْبَةَ الْيَأْسِ مَقْبُولَةٌ.

السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ مَا لَا يُقْبَلُ حُسْنُهُ أَوْ قُبْحُهُ السُّقُوطُ كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ.

السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ مَدْلُولَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيمَا يُدْرَكُ عَقْلًا وَعِنْدَ الْبَعْضِ مُطْلَقًا لِحِكْمَةِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي.

الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ الْإِقْرَارَ جُزْءُ الْإِيمَانِ وَإِنْ شَرْطًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَالْأَشَاعِرَةِ.

التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: وَإِنْ بَلَغَ فِي شَاهِقِ الْجَبَلِ وَلَمْ تَصِلْ إلَيْهِ الدَّعْوَةُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِالصَّانِعِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِدْلَالِ دُونَ الْأَعْمَالِ بِحَسَبِ وُجُودِهِ وَوَحْدَتِهِ وَاتِّصَافِهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ وَكَوْنِهِ مُحْدِثَ الْعَالَمِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ.

السَّبْعُونَ: وَأَنَّ الْعَقْلَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي إدْرَاكِ بَعْضِ الشَّرْعِيَّاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ.

الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: وَأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْحَالَ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ.

الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: وَأَنَّ إرْسَالَ الرُّسُلِ وَاجِبٌ بِمَعْنَى لِيَاقَةِ الْحِكْمَةِ فَقِيلَ فَنِزَاعٌ لَفْظًا.

الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ: وَالِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ. أَقُولُ فِيهِ شَيْءٌ يَظْهَرُ بِالرُّجُوعِ إلَى شَرْحِ الْعَقَائِدِ نَعَمْ قَدْ يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى بَعْضِ الْأَشَاعِرَةِ خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ هَذَا مَا يَحْضُرُ لَنَا مِنْ كُتُبِهِمْ إنْ كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَكَانَ بَعْضُ مَا ذُكِرَ رَاجِعًا إلَى بَعْضٍ آخَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.

(تَذْيِيلٌ) لَا عَلَيْنَا أَنْ نُشِيرَ إلَى أَقَاوِيلِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ إجْمَاعًا أَيْضًا لَأَنْ يُحْتَرَزَ عَنْهَا لِكَثْرَةِ اخْتِلَاطِهِمْ فِي الشَّرْعِيَّاتِ قَالُوا: الْأَوَّلُ أَنَّهُ تَعَالَى يَتَّصِفُ بِاللَّذَّةِ الْعَقْلِيَّةِ.

وَالثَّانِي وَأَنَّهُ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ فَمَعْنَى قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَفْعَلْ لَا بِمَعْنَى يَصِحُّ الْفِعْلُ، وَالتَّرْكُ.

الثَّالِثُ: وَأَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْهُيُولِيّ وَالصُّورَةِ لَا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْفَرْدَةِ.

الرَّابِعُ: وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ.

الْخَامِسُ: وَأَنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ بِهُيُولَاهَا وَصُوَرِهَا النَّوْعِيَّةِ نَوْعًا وَشَخْصًا.

السَّادِسُ: وَأَنَّ الْعَنَاصِرَ قَدِيمَةٌ بِهُيُولَاهَا وَصُوَرِهَا النَّوْعِيَّةِ جِنْسًا لَا نَوْعًا وَلَا شَخْصًا.

السَّابِعُ: وَأَنَّ بُطْلَانَ التَّسَلْسُلِ مَخْصُوصٌ بِالْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ الْمُرَتَّبَةِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي الْوُجُودِ لَا أَنَّهُ مُحَالٌ مُطْلَقًا.

الثَّامِنُ وَأَنَّ السَّبْقَ مُنْحَصِرٌ فِي خَمْسٍ لَا سَادِسَ. التَّاسِعُ: لَا عَالَمَ وَرَاءَ الْعَالَمِ.

الْعَاشِرُ: وَالْخَلَاءُ مُحَالٌ.

الْحَادِيَ عَشَرَ: وَالْمَكَانُ لَيْسَ بِبُعْدٍ مَوْهُومٍ بَلْ هُوَ السَّطْحُ الْبَاطِنُ مِنْ الْحَاوِي الْمُمَاسِّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ مِنْ الْمُحَوِّي.

الثَّانِي عَشَرَ: وَالْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ ثَابِتٌ.

الثَّالِثَ عَشَرَ: وَالْمَقُولَاتُ الْعَشْرُ مَوْجُودَاتٌ

ص: 248

خَارِجِيَّةٌ نَوْعًا أَوْ شَخْصًا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ.

الرَّابِعَ عَشَرَ: وَالْمُجَرَّدَاتُ ثَابِتَةٌ.

الْخَامِسَ عَشَرَ: وَحَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ أَمْرٌ مُجَرَّدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ.

السَّادِسَ عَشَرَ: وَالْجَوَاهِرُ خَمْسَةٌ الْهُيُولِيّ، وَالصُّورَةُ، وَالْجِسْمُ الْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا، وَالْعُقُولُ، وَالنُّفُوسُ.

السَّابِعَ عَشَرَ: وَالْجِنُّ، وَالشَّيَاطِينِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ إلَّا بِمُفَارَقَةِ النُّفُوسِ الْخَيِّرَةِ، وَالشِّرِّيرَةِ عَنْ أَبْدَانِهِمْ. الثَّامِنَ عَشَرَ، وَأَنَّ الْوُجُودَ عَيْنُ الذَّاتِ فِي الْوَاجِبِ زَائِدٌ فِي الْمُمْكِنِ لَا أَنَّهُ زَائِدٌ فِي الْكُلِّ.

التَّاسِعَ عَشَرَ وَأَنَّ إعَادَةَ الْمَعْدُومِ بِعَيْنِهِ مُمْتَنِعٌ.

الْعِشْرُونَ، وَالْحَادِثُ مُفْتَقِرٌ إلَى مَادَّةٍ وَمُدَّةٍ.

الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: وَالْحَشْرُ الْجُسْمَانِيُّ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ.

الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: وَالْمَعَادُ رُوحَانِيٌّ فَقَطْ.

الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: وَقِيَامُ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ جَائِزٌ.

الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: وَالْجَوْهَرُ لَا يَقْتَضِي التَّحَيُّزَ.

الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّ الْأَجْسَادَ الْبَسِيطَةَ الطِّبَاعِ مُتَّصِلَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا هِيَ عِنْدَ الْحِسِّ.

السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِي الثُّبُوتِ الْأَعْرَاضُ، وَالْأَحْوَالُ الْمُكْتَسَبَةُ بِالرِّيَاضَاتِ، وَالْمُجَاهَدَاتِ فِي الْخَلَوَاتِ، وَالِانْقِطَاعَاتِ، وَالِاسْتِعْدَادُ الذَّاتِيُّ مِنْ صَفَاءِ الْجَوْهَرِ وَذَكَاءِ الْفِطْرَةِ.

السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّ الْمَقَادِيرَ أَيْ الْجِسْمَ التَّعَلُّمِيَّ، وَالسَّطْحَ، وَالْخَطَّ أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْجِسْمِيَّةِ.

الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: وَالْحَوَادِثُ الَّتِي لَا أَوَّلَ لَهَا ثَابِتَةٌ.

التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: وَحَيَاتُهُ تَعَالَى صِحَّةُ اتِّصَافِهِ بِالْعِلْمِ فَهُوَ حَيٌّ لَا حَيَاةَ لَهُ.

الثَّلَاثُونَ: وَكَوْنُهُ سَمِيعًا وَبَصِيرًا وَهُوَ عِلْمُهُ تَعَالَى بِالْمَسْمُوعَاتِ، وَالْمُبْصِرَاتِ.

الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: وَالْحَوَاسُّ الْبَاطِنَةُ ثَابِتَةٌ فِي الْحَيَوَانِ.

الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: وَالْقَضَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا يَنْبَغِي سُمُوًّا بِالْعِنَايَةِ.

الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: وَالْقَدَرُ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ الْمَوْجُودَاتِ إلَى الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ بِأَسْبَابِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي الْقَضَاءِ.

الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ أَوْ نَفْسُ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ.

الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: وَالْعِلْمُ حُصُولُ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْلِ.

السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّ حُصُولَ الضَّرُورِيَّاتِ فِينَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّوَجُّهِ، وَالْإِحْسَاسِ وَغَيْرِهِمَا.

السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وَالْحَوَادِثُ الْأَرْضِيَّةُ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْأَوْضَاعِ الْفَلَكِيَّةِ.

الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: وَحُصُولُ الْعِلْمِ عَقِيبَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ إعْدَادِيٌّ فَالنَّظَرُ يُعِدُّ الذِّهْنَ، وَالنَّتِيجَةُ تُفِيضُ عَلَيْهِ.

التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّ التَّعَيُّنَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ.

الْأَرْبَعُونَ: وَالسَّبَبُ الْمُحْوِجُ فِي الْمُمْكِنِ إلَى الْعِلَّةِ هُوَ الْإِمْكَانُ لَا الْحُدُوثُ.

الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَأَنَّ الْوَحْدَةَ، وَالْكَثْرَةَ أَمْرَانِ مَوْجُودَانِ.

الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ وَمَعْنَى الْجَوْهَرِ مَاهِيَّةٌ إذَا وُجِدَتْ كَانَتْ لَا فِي مَوْضُوعٍ.

الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ، وَالْعَرْضُ مَاهِيَّةٌ إذَا وُجِدَتْ كَانَتْ فِي مَوْضُوعٍ.

الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَالْمَوْجُودَاتُ فِي الْمَقُولَاتِ الْعَشْرِ.

الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَالْإِمْكَانُ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ.

السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ، وَالْوَاحِدُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ.

السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَعَدَمُ الْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِعَدَمِ الْمَعْلُولِ.

الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَكُلٌّ مِنْ الْوُجُودِ، وَالْعَدَمِ يَحْتَاجُ إلَى عِلَّةٍ مُرَجَّحَةٍ.

التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَيَجِبُ الْإِبْصَارُ عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ بِشُرُوطِهِ وَكَذَا سَائِرُهَا، وَالْأَعْرَاضُ النِّسْبِيَّةُ كُلُّهَا مَوْجُودَاتٌ خَارِجِيَّةٌ.

الْخَمْسُونَ: وَصِفَاتُهُ تَعَالَى عَيْنُ ذَاتِهِ.

الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي فِعْلِ الْعَبْدِ قُدْرَةُ الْعَبْدِ بِالْإِيجَابِ وَامْتِنَاعُ التَّخَلُّفِ.

الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ بَلْ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ.

الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: وَالنَّفْسُ لَا تُدْرِكُ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَادِّيَّةَ بِالذَّاتِ.

الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ لِلْحَيَوَانِ أَجَلًا طَبِيعِيًّا عِنْدَ تَحَلُّلِ الرُّطُوبَةِ وَانْطِفَاءِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّتَيْنِ وَأَجَلًا احْتِرَامِيًّا بِحَسَبِ الْآفَاتِ، وَالْأَمْرَاضِ.

الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: وَرُسُلُ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ رُسُلِ الْبَشَرِ بَلْ الْمَلَائِكَةُ مُطْلَقًا أَفْضَلُ مِنْ الْبَشَرِ مُطْلَقًا.

السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعْلَمُ ذَاتُهُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُعْلَمُ غَيْرُهُ فَقَطْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُعْلَمُ غَيْرُ الْمُتَنَاهِي.

السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: وَالْخَرْقُ، وَالِالْتِئَامُ لِلْفُلْكِ مُمْتَنِعٌ.

الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ اللَّهِ غَيْرُ

ص: 249