الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِثْلُ الْأَوَّلِ.
أَمَّا الْقَارِئُ إنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ لَكِنْ لَا بِهَذَا الْأَجْرِ إنْ اعْتَقَدَ وَإِلَّا فَكَافِرٌ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا «أَدْخَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» بِسَبَبِهِ أَوْ بِشَفَاعَتِهِ «الْجَنَّةَ» هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ قِرَاءَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى كَثِيرٍ فَظَاهِرُ اللَّفْظِ جَانِبُ الْكِفَايَةِ فِي أَصْلِ هَذَا الْأَجْرِ نَعَمْ الْكَثْرَةُ فِي الْقِرَاءَةِ مُؤَثِّرَةٌ فِي قُوَّةِ الْمُسَابَقَةِ إلَى الْجَنَّةِ وَالشَّفَاعَةِ فَإِنْ زِدْتُمْ زِدْنَا لَكِنْ، إنْ حَافَظَ حُدُودَ الْقُرْآنِ وَقْتَ تِلَاوَتِهِ ثُمَّ أَتَى بِمُنَافَاتِهِ هَلْ يُمْحَى مَا كُتِبَ مِنْ الْأَجْرِ الْمَوْعُودِ أَوْ لَا؟
فَقَاعِدَةُ عَدَمِ حُبُوطِ طَاعَةِ الْمُؤْمِنِ بِمَعْصِيَتِهِ يُلَائِمُ الثَّانِي وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ مِثْلُهُ عَلَى الْقُيُودِ وَالشُّرُوطِ بِدَلَالَةِ بَعْضِ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ إذْ الْفِسْقُ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ الدُّخُولِ وَقَدْ قَالُوا إنَّ الِاعْتِبَارَ بِخَوَاتِيمِ الْأَعْمَالِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ أَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ الِاسْتِمْرَارُ وَالدَّوَامُ عَلَيْهِ وَقَدْ يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الدَّالَّةِ عَلَى التَّحَقُّقِ وَتَحَقُّقِهِ وَثَبَاتِهِ إنَّمَا يَكُونُ بِاسْتِمْرَارٍ فَإِنَّ الزَّائِلَ لَيْسَ لَهُ تَحَقُّقٌ «وَشَفَّعَهُ» قَبِلَ شَفَاعَتَهُ «فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» وَهُمْ سُكَّانُ بَيْتِهِ أَبْنَاؤُهُ وَآبَاؤُهُ وَأَزْوَاجُهُ وَكُلُّ مِنْ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ قِبَلِ آبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ الذُّكُورِ لَا قَوْمُ الْأُمِّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُعَدُّ مِنْ قَوْمِ الْأَبِ لَا مِنْ قَوْمِ الْأُمِّ.
وَاخْتُلِفَ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ كَمَا نُقِلَ عَنْ وَقْفِ الْفِقْهِيَّةِ لَكِنْ فِي التَّتَارْخَانِيَّة إنْ أُرِيدَ بَيْتُ السُّكْنَى فَهُوَ مَنْ يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ وَإِنَّ بَيْتَ النَّسَبِ فَهُوَ جَمِيعُ أَوْلَادِهِ الْمَعْرُوفِينَ «كُلِّهِمْ قَدْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ» بِالْمَعَاصِي يَعْنِي بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ الْأَصْلِيِّ لَا مُطْلَقًا فَلَا يَضُرُّ هَذَا الْوُجُوبُ جَوَازَ عَدَمِ تَعْذِيبِهِ تَعَالَى بِمَشِيئَتِهِ فَضْلًا وَعَدَمُ التَّنَافِي بِشَفَاعَةٍ مِنْ الْغَيْرِ.
[النَّوْعُ الثَّانِي فِي الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ]
لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَوَّلِ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ شَرَعَ فِي ثَانِيهِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ فَقَالَ (الْآيَاتُ) أَيْ هَذِهِ هِيَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ وَهِيَ سَبْعَ عَشْرَ آيَةً عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْمُصَنِّفِ أَوْ تَعَلَّقَ رَأْيُهُ بِإِتْيَانِهَا فَلَا يَضُرُّ زِيَادَتُهَا فِي نَفْسِهَا مِنْهَا فِي آلِ عِمْرَانَ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31]- نَزَلَتْ حِينَ قَالَتْ قُرَيْشٌ إنَّمَا نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ حُبًّا لَهُ تَعَالَى لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى وَقِيلَ نَزَلَتْ حِينَ قَالَ نَصَارَى نَجْرَانَ هَذَا الْقَوْلَ فِي عِيسَى حُبًّا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ.
وَقِيلَ فِي حَقِّ الْيَهُودِ حِينَ قَوْلِهِمْ {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]- يَعْنِي نَحْنُ فِي الْمَنْزِلَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبْنَاءِ - وَأَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31]- يَعْنِي إنْ صَدَقْتُمْ فِي دَعْوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ {فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا تَكُونُ بِاتِّبَاعِي فَإِنِّي رَسُولُهُ إلَيْكُمْ وَحُجَّتِي وَاضِحَةٌ لَدَيْكُمْ فَوَجَبَ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ مُتَابَعَتِي فِيمَا آمُرُ وَأُنْهِي
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ الْمَحَبَّةُ مَيْلُ النَّفْسِ إلَى الشَّيْءِ لِكَمَالٍ أُدْرِكَ فِيهِ بِحَيْثُ يَحْمِلُهَا عَلَى مَا يُقَرِّبُهَا إلَيْهِ وَالْعَبْدُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْكَمَالَ الْحَقِيقِيَّ لَيْسَ إلَّا لِلَّهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا يَرَاهُ كَمَالًا مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَإِلَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حُبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي إرَادَةَ طَاعَتِهِ وَالرَّغْبَةَ فِيمَا يُقَرِّبُهُ فَلِذَلِكَ فُسِّرَتْ الْمَحَبَّةُ بِإِرَادَةِ الطَّاعَةِ وَجُعِلَتْ الطَّاعَةُ مُسْتَلْزِمَةً لِاتِّبَاعِ الرُّسُلِ فِي عِبَادَتِهِ وَالْحِرْصِ عَلَى مُطَاوَعَتِهِ {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ مَنُوطَةٌ بِاتِّبَاعِي قَالَ فِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ مَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَبْدَهُ إرَادَتُهُ بِأَنْ يَخُصَّهُ بِالْقُرْبِ وَالْأَحْوَالِ الْعَلِيَّةِ وَقِيلَ هِيَ مَدْحُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِالْجَمِيلِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ قَالَ لِجَبْرَائِيلَ عليه السلام إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يَضَعُ لَهُ الْقَبُولَ فِي الْأَرْضِ» .
وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ عِنْدَ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَقِيلَ الْمَحَبَّةُ الْمَيْلُ الدَّائِمُ بِالْقَلْبِ الْهَائِمِ
وَقِيلَ هِيَ إيثَارُ الْمَحْبُوبِ عَلَى جَمِيعِ الْمَصْحُوبِ وَقِيلَ مُوَافَقَةُ الْحَبِيبِ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ وَقِيلَ مُوَاطَأَةُ الْقَلْبِ لِمَوَارِدِ الرَّبِّ وَقَالَ الْبِسْطَامِيُّ الْمَحَبَّةُ اسْتِقْلَالُ الْكَثِيرِ مِنْ نَفْسِك وَاسْتِكْثَارُ الْقَلِيلِ مِنْ حَبِيبِك وَقَالَ سَهْلٌ الْحُبُّ مُعَانَقَةُ الطَّاعَةِ وَمُبَايَنَةُ الْمُخَالَفَةِ.
وَقَالَ الشِّبْلِيُّ
قُدِّسَ سِرُّهُ - سُمِّيَتْ الْمَحَبَّةُ لِأَنَّهَا تَمْحُو مِنْ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ هِيَ مَا لَا يَنْقُصُ بِالْجَفَاءِ وَلَا يَزِيدُ بِالْبِرِّ وَقَالَ الْجُنَيْدُ إذَا صَحَّتْ الْمَحَبَّةُ سَقَطَتْ شُرُوطُ الْأَدَبِ
وَقَالَ ابْنُ مَسْرُوقٍ رَأَيْت سَحْنُونًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَحَبَّةِ فَتَكَسَّرَتْ قَنَادِيلُ الْمَسْجِدِ وَقِيلَ جَلَسَ الشِّبْلِيُّ فَدَخَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَقَالَ مَنْ أَنْتُمْ قَالُوا: مُحِبُّوك فَأَقْبَلَ يَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ فَفَرُّوا فَقَالَ إنْ ادَّعَيْتُمْ مَحَبَّتِي فَاصْبِرُوا عَلَى بَلَائِي.
وَقِيلَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى عِيسَى عليه السلام إنِّي إذَا اطَّلَعْت عَلَى قَلْبِ عَبْدٍ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ حُبَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَلَأْته مِنْ حُبِّي وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ مِنْ الْحُبِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً بِلَا حُبٍّ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ جَرَتْ مَسْأَلَةٌ فِي الْمَحَبَّةِ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ فَتَكَلَّمَ الشُّيُوخُ فِيهَا وَكَانَ الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقَالَ عَبْدٌ ذَاهِبٌ عَنْ نَفْسِهِ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ رَبِّهِ قَائِمٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ نَاظِرٌ إلَيْهِ بِقَلْبِهِ أَحْرَقَ قَلْبَهُ أَنْوَارُ هَوِيَّتِهِ وَصَفَا شِرْبُهُ مِنْ وَرْدِ كَأْسِهِ وَانْكَشَفَ لَهُ الْجَبَّارُ مِنْ أَسْتَارِ غَيْبِهِ فَإِنْ تَكَلَّمَ فَبِاَللَّهِ وَإِنْ سَكَنَ فَهُوَ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ وَمَعَ اللَّهِ فَبَكَى الشُّيُوخُ وَقَالُوا مَا عَلَى هَذَا مَزِيدٌ جَبَرَك اللَّهُ يَا تَاجَ الْعَارِفِينَ
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ اُعْذُرْنِي فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى شَغَلَتْنِي عَنْ مَحَبَّتِك فَقَالَ يَا مُبَارَكُ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ فَقَدْ أَحَبَّنِي.
وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ أَكْثَرُ فَسَادِ الْعَارِفِينَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فِسْقِ الْعَارِفِينَ وَخِيَانَةِ الْمُحِبِّينَ وَكَذِبِ الْمُرِيدِينَ وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ فِسْقُ الْعَارِفِينَ إطْلَاقُ الطَّرْفِ وَاللِّسَانِ وَالسَّمْعِ إلَى أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا وَخِيَانَةِ الْمُحِبِّينَ اخْتِيَارُ أَهْوَائِهِمْ عَلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ وَكَذِبِ الْمُرِيدِينَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْخَلْقِ وَرُؤْيَتُهُمْ تَغْلِبُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُؤْيَتِهِ وَالْكُلُّ مِنْ رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] فَيُحْبِبْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ جَوَابُ الْأَمْرِ أَيْ يَرْضَ عَنْكُمْ وَيَكْشِفْ الْحُجُبَ عَنْ قُلُوبِكُمْ بِالتَّجَاوُزِ عَمَّا فَرَّطَ مِنْكُمْ فَيُقَرِّبْكُمْ مِنْ جَنَابِ عِزِّهِ وَيُبَوِّئْكُمْ فِي جِوَارِ قُدْسِهِ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَحَبَّةِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ الْمُقَابَلَةِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ فَمَنْ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَمْ يَتَّبِعْ رَسُولَ اللَّهِ فَهُوَ كَذَّابٌ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]
فَحَاصِلُ رَبْطِ الْآيَةِ بِالْمَقْصُودِ الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ تَبَعِيَّةُ الرَّسُولِ، وَتَبَعِيَّتُهُ شَيْءٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَمَغْفِرَتُهُ وَكُلُّ مَا شَأْنُهُ كَذَا فَهُوَ وَاجِبٌ فَالِاعْتِصَامُ وَاجِبٌ وَقَوْلُهُ غَفُورٌ فِي مَقَامِ الْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ {يَغْفِرْ لَكُمْ} [الأحقاف: 31] وَقَوْلُهُ {رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] لِقَوْلِهِ {يُحْبِبْكُمُ} [آل عمران: 31] فَمِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ وَفِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا {قُلْ} [آل عمران: 32] وَحِينَ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ الْمُنَافِقُ لِأَصْحَابِهِ إنَّ مُحَمَّدًا يَجْعَلُ طَاعَتَهُ كَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَأْمُرُنَا أَنْ نُحِبَّهُ كَمَا أَحَبَّ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَأَنْزَلَ {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 32] أَجْمِعُوا بَيْنَهُمَا فِي الطَّاعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَإِنَّ طَاعَتَكُمْ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَاعَتُكُمْ لِي. وَأَمَّا أَنْ تُطِيعُونِي وَتَعْصُوا مُحَمَّدًا فَلَنْ أَقْبَلَ مِنْكُمْ نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [آل عمران: 32] أَيْ عَنْ طَاعَتِهِمَا {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] لَا يَرْضَى عَنْهُمْ وَلَا يَغْفِرُ لَهُمْ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لَا يُحِبُّهُمْ لِقَصْدِ الْعُمُومِ أَوْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّوَلِّيَ كُفْرٌ وَأَنَّ مَحَبَّتَهُ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ
أَقُولُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ إقَامَةِ دَلِيلِ التَّالِي مَوْضِعَ التَّالِي إذْ الْمَعْنَى فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاَللَّهُ لَا يُحِبُّهُمْ لِأَنَّ التَّوَلِّيَ كُفْرٌ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ فَمِنْ قَبِيلِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ الْبَدِيعِيِّ.
وَعَنْ الْخَازِنِ عَنْ، أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا وَمَنْ أَبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» وَفِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] لِكَيْ تُرْحَمُوا وَلَا تُعَذَّبُوا.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ لَعَلَّ وَعَسَى فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ دَلِيلُ عِزَّةِ التَّوَصُّلِ إلَى مَا جُعِلَ خَبَرًا لَهُ فَلَمْ يَكْفِ فِي الرَّحْمَةِ مُجَرَّدُ طَاعَتِهِ تَعَالَى بَلْ مَجْمُوعُهُمَا وَأَيْضًا فِي آلِ عِمْرَانَ {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 164] الْمَنُّ إمَّا بِمَعْنَى الْإِحْسَانِ وَالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَوْ بِمَعْنَى الِامْتِنَانِ أَوْ التَّنْبِيهِ
وَتَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِ مَعَ أَنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ عَامَّةٌ لِلْكُلِّ لِزِيَادَةِ انْتِفَاعِهِمْ أَوْ أَنَّ الْبَعْثَةَ وَإِنْ كَانَتْ نِعْمَةً لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا بِحَسَبِ أَصْلِهَا لَكِنْ نِقْمَةً بِحَسَبِ الْوَاقِعِ وَالْخَارِجِ {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] مِنْ جِنْسِهِمْ لِيَسْهُلَ اسْتِئْنَاسُهُمْ وَأُلْفَتُهُمْ وَيُعِينَ عَلَى فَهْمِ كَلَامِهِ وَأَخْذِ حِكْمَتِهِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ جِنْسُهُمَا مُخْتَلِفًا لَرُبَّمَا تَقَعُ الْوَحْشَةُ وَالْمُنَافَرَةُ بَيْنَهُمَا وَأَيْضًا يَسْرُعُ فَهْمُ النُّبُوَّةِ فِي الْمُجَانَسَةِ مِنْ عِلْمِ حَالِهِ فِي الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَقُرِئَ {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] أَيْ أَشْرَفِهِمْ.
وَعَنْ الْخَازِنِ وَقِيلَ أَرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ بِالْإِيمَانِ وَالشَّفَقَةِ لَا بِالنَّسَبِ وَمِنْ جِنْسِهِمْ لَيْسَ بِمِلْكٍ وَلَا أَحَدَ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ.
وَوَجْهُ مَنِّهِ تَعَالَى بِالرَّسُولِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ دَاعٍ إلَى مَا يُنَجِّيهِمْ مِنْ الْمَخَاوِفِ وَهَادٍ إلَى مَا هُوَ مَحْبُوبُهُمْ بِالذَّاتِ وَوَجْهُ الِامْتِنَانِ بِكَوْنِ الرَّسُولِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ آنِفًا مِنْ سُهُولَةِ فَهْمِ نُبُوَّتِهِ وَأَخْذِ شَرِيعَتِهِ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ فَالِامْتِنَانُ هُنَا بِشَيْئَيْنِ أَصْلِ الرِّسَالَةِ وَالْمُجَانَسَةِ بَلْ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَعْظَمِيَّةِ الْمُجَانَسَةِ فِي الْمِنَّةِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِفَادَةِ فِي الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ هُوَ بِاعْتِبَارِ قَيْدِهِ {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران: 164] لِيَهْدِيَهُمْ إلَى صِرَاطٍ سَوِيٍّ {وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 164] يُطَهِّرُهُمْ مِنْ نَجَسِ الْكُفْرِ وَدَنَسِ الْمَعْصِيَةِ وَوَسَخِ الْخَبَائِثِ وَفُحْشِ الطِّبَاعِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ لَعَلَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ يَعْنِي إنَّمَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ لِيُزَكِّيَهُمْ.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164] فُسِّرَ الْكِتَابُ بِالْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةُ بِالسُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَقِيلَ بِالسُّنَّةِ الَّتِي سَنَّهَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِتَعْلِيمِ الْكِتَابِ نَظْمُهُ وَبِالْحِكْمَةِ مَعَانِيهِ وَأَسْرَارُهُ وَقَدْ عَرَفْت مَعَانِي الْحِكْمَةِ فِي الْخُطْبَةِ {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} [آل عمران: 164] الْبَعْثَةِ {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] لَفِي جَهَالَةٍ وَحِيرَةٍ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَظَاهِرٌ لَا يُرْتَابُ فِيهِ وَإِنْ فِيهِ مُخَفَّفَةٌ وَاللَّامُ فَارِقَةٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ إنْ النَّافِيَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمُقَدَّرُ وُجُوبًا وَبِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ خَبَرُهَا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ الِاسْمِ وَالْخَبَرِ حَالٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ اعْتِصَامُ السُّنَّةِ
وَالْحَاصِلُ مِنْ الْآيَةِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ غَايَتُهُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ إذْ زُبْدَتُهُ النَّبِيُّ مَبْعُوثٌ بِتِلَاوَةِ الْآيَاتِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَكُلُّ مَا شَأْنُهُ كَذَا فَالتَّمَسُّكُ بِهِ لَازِمٌ دَلِيلُ الْكُبْرَى أَدِلَّةُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْكَلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ بِالسُّنَّةِ وَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ جُزْءُ الْآيَةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَصْوِيرُ الْمَقَامِ هَكَذَا الْحِكْمَةُ يَعْنِي السُّنَّةَ شَيْءٌ بُعِثَ الرَّسُولُ بِتَعْلِيمِهِ وَمَا شَأْنُهُ كَذَا فَالِاعْتِصَامُ بِهِ لَازِمٌ
وَفِي النِّسَاءِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} [النساء: 59] قِيلَ فِي فَرَائِضِهِ {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] قِيلَ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ أَقُولُ لَيْسَ الْفَرْضُ مُخْتَصًّا بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا السُّنَّةِ بِرَسُولِ اللَّهِ بَلْ الْفَرْضُ يَحْصُلُ مِنْ السُّنَّةِ أَيْضًا وَالسُّنَّةُ مِنْ الْكِتَابِ أَيْضًا إذْ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِدَلِيلٍ وَفِي تَخْصِيصِ الْأَمْرِ بِالْإِطَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَأَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ بِالْفُرُوعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مُحَقِّقِي الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَالشَّافِعِيَّةِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ فَإِذَا وَجَبَ إطَاعَةُ الرَّسُولِ وَجَبَ الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ لَكِنْ هَذَا ظَاهِرٌ فِي السُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ.
وَأَمَّا الْفِعْلِيَّةُ وَالسُّكُوتِيَّةُ فَلَعَلَّهَا مُلْحَقَةً بِالْقَوْلِيَّةِ أَوْ الْإِطَاعَةُ عَامَّةٌ لِلْجَمِيعِ تَحْقِيقًا أَوْ تَأْوِيلًا {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَأَطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ لَعَلَّهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا فِي الْإِطَاعَةِ بَلْ مُقَيَّدَةٌ وَمَشْرُوطَةٌ بِمُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ وَلِهَذَا يُقَالُ لَا مَعْصِيَةَ لِلْخَالِقِ بِأَمْرِ الْمَخْلُوقِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُغَيِّرَ مَا عَيَّنَهُ الشَّرْعُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا فَضْلًا عَنْ الْأُضْحِيَّةِ.
وَقَدْ نَزَلَتْ فِي أَمِيرِ سَرِيَّةٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَكَذَا فِي رِوَايَةِ السُّدِّيَّ فِي حَقِّ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حِينَ بَعَثَهُ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ وَفِيهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَمَّارٍ قَدْ أَسْلَمَ فَأَمَّنَهُ فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَأَخَذَهُ خَالِدٌ فَقَالَ عَمَّارٌ إنِّي أَمَّنْته وَقَدْ أَسْلَمَ فَقَالَ خَالِدٌ تَجَرَّأَ عَلَيَّ وَأَنَا الْأَمِيرُ فَتَنَازَعَا عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَازَ أَمَانَ عَمَّارٍ وَنَهَاهُ أَنْ يَجْرَأَ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأَمِيرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ قُلْنَا هَذَا إنَّمَا يَرِدُ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ
الصِّيغَةِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ لِاحْتِجَاجِ الصَّحَابَةِ فِي وَقَائِعَ بِعُمُومِ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي أَسْبَابٍ خَاصَّةٍ.
وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي خَصُّوهَا عَلَى أَسْبَابِهَا فَبِدَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ قَالُوا مِنْ فَوَائِدِ أَسْبَابِ النُّزُولِ تَفْسِيرُ النَّصِّ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ وَلِهَذَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْآيَةِ بِدُونِ الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّتِهَا وَبَيَانِ نُزُولِهَا قُلْت لَعَلَّ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْعِلْمِ بِالسَّبَبِ مُفْضِيًا إلَى الْعِلْمِ بِالْمُسَبَّبِ أَوْ الْمُرَادُ بِالتَّفْسِيرِ هُوَ بِوَجْهٍ مَا لَا عَلَى التَّفْصِيلِ.
وَقَدْ عَرَفْت هَاهُنَا أَنَّ التَّفْسِيرَ بِالْعُلَمَاءِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَغَيْرِهِ فَيُمْكِنُ أَنَّهُ حَدِيثٌ أُرْسِلَ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} [النساء: 59] أَنْتُمْ وَأُولُو الْأَمْرِ مِنْكُمْ {فِي شَيْءٍ} [النساء: 59] وَخُصَّ بِأُمُورِ الدِّينِ لَعَلَّ الْأَظْهَرَ تَعْمِيمُهُ بِهِ وَبِأُمُورِ الدُّنْيَا {فَرُدُّوهُ إِلَى} [النساء: 59] كِتَابِ {اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] مَا دَامَ حَيًّا وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ قِيلَ إنْ وُجِدَ فِي الْكِتَابِ أُخِذَ بِهِ وَإِلَّا فَبِالسُّنَّةِ وَإِلَّا أَيْضًا فَبِاجْتِهَادٍ فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الْأَخِيرُ زِيَادَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ قُلْنَا الِاجْتِهَادُ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ لَيْسَ بِمُثْبِتِ حُكْمٍ بَلْ مُظْهِرٌ أَنَّ النَّصَّ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ شَامِلٌ لِصُورَةِ الْمَقِيسِ يَعْنِي الْفَرْعَ وَأَنَّ مَوَاضِعَ الْقُرْآنِ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَافْهَمْ {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59] .
قِيلَ عَنْ الْخَازِنِ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ وَالْآخِرِ لِمَنْ لَا يَعْتَقِدُ بِوُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ قُلْت هَذَا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَنَا {ذَلِكَ} [النساء: 59] أَيْ الرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ {خَيْرٌ} [النساء: 59] مِنْ التَّنَازُعِ {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] أَجْمَلُ مِنْ تَأْوِيلِكُمْ وَحَمْدُ عَاقِبَةٍ وَالْعَاقِبَةُ تُسَمَّى تَأْوِيلًا لِأَنَّهَا مَآلُ الْأَمْرِ.
وَفِيهِ إشَارَةٌ لِتَأْيِيدِ مَذْهَبِ السَّلَفِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَتَفْوِيضِهَا إلَى اللَّهِ كَمَا قِيلَ لَكِنْ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ مَعْنَى النِّزَاعِ بِالْمُتَشَابِهَاتِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ النِّزَاعَ فِي الْمُتَشَابِهِ مِنْ إفْرَادِ مُطْلَقِ التَّنَازُعِ الْمُشَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي رَدَّ الْأَمْرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْوَاجِبُ رَدُّ جَمِيعِ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قُلْنَا هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا وَأَنَّ شَأْنَ الْغَيْرِ الْمُتَنَازَعِ أَنْ يَجِيءَ مِنْ اللَّهِ لِأَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَخْلُو عَنْ الِاخْتِلَافِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الرَّدِّ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِمَدْلُولِهَا التَّضَمُّنِيِّ مِنْ قَوْلِهِ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.
وَمِنْ قَوْلِهِ وَالرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَأَصْلُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَقَدْ أُكِّدَ بِقَوْلِهِ {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [النساء: 59]- بَلْ بِتَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} [النساء: 59] وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَيْضًا {فَلا} [النساء: 65] أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ آمَنُوا وَهُمْ يُخَالِفُونَ حُكْمَك ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ وَقَالَ {وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] وَقِيلَ لَفْظَةُ (لَا) مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ أَوْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي لَا يُؤْمِنُونَ وَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء: 65] أَيْ يَجْعَلُوكَ حَكَمًا كَذَا قِيلَ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَيْ يَرْضَوْا حُكْمَك {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] .
أَيْ فِيمَا اُخْتُلِفَ بَيْنَهُمْ مِنْ التَّشَاجُرِ بِمَعْنَى التَّنَازُعِ وَمِنْهُ الشَّجَرُ لِتَدَاخُلِ أَغْصَانِهِ {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65] أَيْ شَكًّا وَضِيقًا وَحَذَفَ النُّونَ فِي لَا يَجِدُونَ لِعَطْفِهِ عَلَى يُحَكِّمُوك كَأَنَّ حَاصِلَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِرِضَا حُكْمِ النَّبِيِّ وَعَدَمِ اسْتِصْعَابِهِ فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِهِ أَوْ رَضِيَ لَكِنَّهُ اسْتَصْعَبَهُ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مُؤْمِنًا فَالتَّمَسُّكُ وَالِاعْتِصَامُ بِحُكْمِهِ لَازِمٌ وَلَوْ الْتِزَامًا فَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مُطْلَقُ السُّنَّةِ وَاللَّازِمُ مِنْ الدَّلِيلِ السُّنَّةُ الْمُقَيَّدَةُ بِحُكْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يُقَالَ وُجُودُ الْخَاصِّ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْعَامِّ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَايَسَةِ أَوْ دَلَالَةِ النَّصِّ {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] أَيْ يَنْقَادُوا لِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِك انْقِيَادًا بِالْخُلُوصِ وَالرِّضَا.
وَفِي النِّسَاءِ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء: 69] نَزَلَتْ فِي ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلِيلَ
الصَّبْرِ حَتَّى تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَنَحَلَ جِسْمُهُ وَعُرِفَ الْحُزْنُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام مَا غَيَّرَ لَوْنَك فَقَالَ مَا بِي مَرَضٌ وَلَا وَجَعٌ إلَّا إنِّي إذَا لَمْ أَرَك اسْتَوْحَشْت وَحْشَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَلْقَاك ثُمَّ إنِّي إذَا ذَكَرْت الْآخِرَةَ أَخَافُ أَنْ لَا أَرَاك لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِك أَوْ لِعَدَمِ دُخُولِي الْجَنَّةَ.
نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَقِيلَ إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ بَكَى فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا يُبْكِيك فَقَالَ بِاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي وَمَالِي وَوَلَدِي أَذْكُرُك وَأَنَا فِي أَهْلِي فَيَأْخُذُنِي مِثْلُ الْجُنُونِ حَتَّى أَرَاك وَذَكَرْت مَوْتِي وَأَنَّك تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَأَنِّي وَإِنْ دَخَلْت الْجَنَّةَ كُنْت أَدْنَى مَنْزِلَةً فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء: 69] جَمْعُ صِدِّيقٍ فِعِّيلٌ مِنْ أَوْزَانِ الْمُبَالَغَةِ كَثِيرُ الصِّدْقِ وَهُمْ أَتْبَاعٌ خَاصَّةٌ لِلرُّسُلِ حَتَّى لَحِقُوا بِهِمْ وَقِيلَ هُنَا أَفَاضِلُ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نُقِلَ هَذَا عَنْ الْخَازِنِ.
وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ كُلُّ مَنْ صَدَقَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُدَاخِلُهُ شَكٌّ وَصَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ فَهُوَ صِدِّيقٌ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُمْ الَّذِينَ صَعِدَتْ نُفُوسُهُمْ تَارَةً بِمَرَاقِي النَّظَرِ فِي الْحِجَجِ وَالْآيَاتِ وَأُخْرَى بِمَعَارِجِ التَّصْفِيَةِ وَالرِّيَاضَاتِ إلَى أَوْجِ الْعِرْفَانِ حَتَّى اطَّلَعُوا عَلَى الْأَشْيَاءِ وَأَخْبَرُوا عَنْهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ {وَالشُّهَدَاءِ} [النساء: 69] مُطْلَقًا وَقِيلَ شُهَدَاءُ أُحُدٍ أَوْ بَدْرٍ {وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] مَنْ اسْتَوَتْ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ فِي الْخَيْرِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُمْ الَّذِينَ صَرَفُوا أَعْمَارَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْوَالَهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ وَقِيلَ وَلَك أَنْ تَقُولَ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَارِفُونَ وَهَؤُلَاءِ إنْ بَلَغُوا دَرَجَةَ الْعِيَانِ بِكَمَالِ الْقُرْبِ فَالْأَنْبِيَاءُ وَأَنْ يَقْرُبَ فِي الْجُمْلَةِ فَالصِّدِّيقُونَ وَإِنْ وَقَفُوا فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ فَالْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ وَبِالْأَمَارَاتِ وَالْإِقْنَاعَاتِ الَّتِي تَطْمَئِنُّ بِهَا نُفُوسُهُمْ فَالصَّالِحُونَ فَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لِلصَّالِحِينَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ فِي الْمَآلِ مُقَلِّدِينَ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ كُلُّهَا مِنْ الْمُقَرَّبِينَ {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] فِي مَعْنَى التَّعَجُّبِ بِمَنْزِلَةِ مَا أَحْسَنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا بِمَعْنَى الْجَمْعِ نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ الْحَالِ مِنْ الِارْتِفَاقِ بِمَعْنَى الصُّحْبَةِ.
وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ وَحَدُّ الرَّفِيقِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ فِي التَّمْيِيزِ يَنُوبُ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَفِي النِّسَاءِ أَيْضًا {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] لِأَنَّ أَمْرَهُ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا هُوَ أَمْرُ اللَّهِ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الرِّسَالَةِ وَالسِّفَارَةِ قَالَ الْحَسَنُ جَعَلَ اللَّهُ طَاعَةَ رَسُولِهِ طَاعَتَهُ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلُّ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعْلَمُ بِلَا بَيَانِ كَيْفِيَّةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ قِيلَ فَالِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ عَيْنُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ فَمَا وَجْهُ عَدِّ أَحَدِهِمَا مُغَايِرًا لِلْآخَرِ بَلْ لَا تَكُونُ السُّنَّةُ مُطْلَقًا دَلِيلًا مُقَابِلًا لِلْكِتَابِ وَقَدْ جَعَلَ الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ كُلًّا مِنْهُمَا دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا قُلْنَا نَعَمْ فِي التَّحْقِيقِ كَذَلِكَ لَكِنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ لَمَّا كَانَ خَفِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا أُضِيفَ بَعْضُ الْأَحْكَامِ إلَى السُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنْ قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ إطَاعَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَّةٌ لِلْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ وَالتَّقْرِيرِيِّ وَأَيْضًا لِجَمِيعِ أَفْرَادِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَجِبُ الِاتِّبَاعُ فِيهِ كَالْمُبَاحِ بَلْ لَا يَجُوزُ كَمَا يَكُونُ مِنْ خَوَاصِّهِ وَقَدْ جَوَّزُوا السَّهْلَ وَالزَّلَّةَ قُلْنَا الْأَصْلُ الِاتِّبَاعُ إلَّا بِقَرِينَةِ عَدَمِهِ لَكِنْ فِيهِ زِيَادَةُ كَلَامٍ لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ.
وَفِي الْأَعْرَافِ {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] أَيْ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالرَّحْمَةِ إنْ خُصَّ بِأُمُورِ الدُّنْيَا فَظَاهِرٌ وَإِنْ عَمَّ لَهُ وَلِأَمْرِ الْآخِرَةِ فَسَعَةُ الرَّحْمَةِ بِبَيَانِ طَرِيقِ الْحَقِّ كَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَمُكْنَةِ اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَتَسْهِيلِ طَرِيقِهِ كَإِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَقَبُولِ التَّوْبَةِ قِيلَ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ قَالَ اللَّعِينُ أَنَا دَاخِلٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ فَأَقْنَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {فَسَأَكْتُبُهَا} [الأعراف: 156] فَسَأُثْبِتُهَا فِي الْآخِرَةِ {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف: 156] قِيلَ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَافَتِهَا وَلِأَنَّهَا أَشَقُّ عَلَيْهِمْ
{وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156] .
فَقَالَتْ الْيَهُودُ هَذِهِ الرَّحْمَةُ لَنَا لِإِيمَانِنَا بِآيَاتِ اللَّهِ يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَإِيتَائِنَا الزَّكَاةَ فَأَخْرَجَهُمْ بِقَوْلِهِ {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ} [الأعراف: 157] رِسَالَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ وَنُبُوَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادِ وَيُمْكِنُ رِسَالَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كِتَابِهِ الَّذِي هُوَ الْوَحْيُ الظَّاهِرُ وَنُبُوَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَحْيِ الْغَيْرِ الْمَتْلُوِّ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ الصِّفَةُ الْعَامَّةُ لَا تَأْتِي بَعْدَ الْخَاصَّةِ.
وَالْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} [مريم: 51]- مُجَابٌ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَالٌ لَا صِفَةٌ فَنَقُولُ هُنَا بِعَدَمِ عُمُومِ النَّبِيِّ لِتَرَادُفِهِمَا أَوْ تَسَاوِيهِمَا أَوْ نَقُولُ لَمَّا كَانَ مَقَامُ التَّبَعِيَّةِ أَدْعَى وَأَنْسَبَ لِجِهَةِ الرِّسَالَةِ قَدَّمَ الرَّسُولَ وَقَدْ قَالُوا وَقَدْ يَعْرِضُ أَمْرٌ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْ الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ {الأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ وَالْكِتَابَةُ مِنْ خَوَاصِّهِ الْمُحَرَّمَةِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ لِعَدَمِ إيهَامِ اتِّهَامِ أَخْذٍ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَلِاقْتِضَاءِ الْأُسْتَاذِيَّةِ السَّبْقَ عَلَيْهِ فِي الْفَضْلِ وَقِيلَ لِكَوْنِ نَشْأَتِهِ فِي صِغَرِهِ مَعَ أُمِّهِ نُسِبَ إلَيْهَا وَقِيلَ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى أُمِّ الْقُرَى يَعْنِي مَكَّةَ.
وَلَعَلَّ الْأَوْجَهَ مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ لِكَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْدَأَ الشَّرِيعَةِ وَمَنْشَأَ الْأَحْكَامِ كَانَ كَالْأُمِّ {الَّذِي يَجِدُونَهُ} [الأعراف: 157] أَيْ وَصْفَهُ وَنُبُوَّتَهُ {مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] وَلَكِنَّهُمْ كَتَمُوهُ وَبَدَّلُوهُ حَسَدًا وَخَوْفًا عَلَى زَوَالِ رِيَاسَتِهِمْ وَقَدْ وَقَعُوا عَلَى مَا خَافُوا لِذُلِّهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْت أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ أَجَلْ إنَّهُ مَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ مَا فِي الْقُرْآنِ - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك بِالْمُتَوَكِّلِ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ لَا يُجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا وَالصَّخَّابُ الْكَثِيرُ الصِّيَاحِ {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الأعراف: 157] إنْ أُرِيدَ مِنْ الْأَمْرِ الْإِيجَابُ كَمَا هُوَ حَقِيقَتُهُ وَتَبَادُرُهُ فَالْمَعْرُوفُ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ عِصْيَانًا كَالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَأَنَّ نَحْوَ النَّدْبِ فَالْمَعْرُوفُ شَامِلٌ لِكُلِّ الْفَضَائِلِ الْأُوَلِ لِنَيْلِ الثَّوَابِ وَخَلَاصِ الْعِقَابِ وَالثَّانِي لِكَمَالِ الثَّوَابِ وَرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الْمُرَادُ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَثَرٌ وَإِلَّا فَالتَّخْصِيصُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ ظَاهِرُهُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ وَذَا فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَلَوْ كَانَ بِحَدِيثٍ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا إذْ التَّقْيِيدُ زِيَادَةٌ وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] الْكَلَامُ بَيْنَ النَّهْيِ وَالْمُنْكَرِ كَالْكَلَامِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْمَعْرُوفِ وَخُصَّ أَيْضًا بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَقَطْعِ الْأَرْحَامِ قِيلَ كَانَ عَادَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرِّفْقَ وَاللِّينَ وَالنُّصْحَ إنْ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَالْعُنْفَ وَالْغِلْظَةَ إنْ لِلْعُمُومِ فَالتَّغْلِيظُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِدْعَةٌ وَإِنْ ظَهَرَ مُنْكَرُهُ إذْ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَسْتُرُ أَبْلَغَ الْمُنْكَرِ وَهُوَ الْكُفْرُ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] الَّتِي حُرِّمَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ وَغَيْرِهِمَا قِيلَ الطَّيِّبُ هُوَ الْحَلَالُ وَقِيلَ أَخَصُّ مِنْهُ إذْ الْمَالُ الَّذِي أُخِّرَتْ الصَّلَاةُ أَوْ تُرِكَتْ الْجَمَاعَةُ عِنْدَ كَسْبِهِ حَلَالٌ لَيْسَ بِطَيِّبٍ وَنَحْوِهِ {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] أَيْ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ
وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ الْأَوَّلُ شَامِلٌ لِكُلِّ الْحَرَامِ بَلْ لَمَّا لَمْ يُشْرَعْ كَالشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالرِّيَاءِ وَالرِّشْوَةِ وَقِيلَ كُلُّ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الطَّبْعُ وَتَسْتَقْذِرُهُ النَّفْسُ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ خِلَافُ الْأَصْلِ فِي اللَّامِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعَهْدُ الْخَارِجِيُّ ثُمَّ الِاسْتِغْرَاقُ وَادَّعَى مَعْهُودِيَّةَ مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ ثُمَّ قَالَ مَنْ أَثْبَتَ بِهِ حَرَامًا جَدِيدًا لَمْ يُصِبْ لِعَدَمِ عُمُومِهِ حَيْثُ تَعَيَّنَ لِعَهْدٍ خَارِجِيٍّ كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ التَّعْرِيضَ عَلَى مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى خُبْثِ الدُّخَّانِ لِاسْتِخْبَاثِ الطَّبْعِ وَاسْتِقْذَارِ النَّفْسِ السَّلِيمَةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ صَرِيحُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَرِسَالَتِهِ الْمَوْضُوعَةِ لِإِبَاحَةِ الدُّخَّانِ وَأَقُولُ كَوْنُ الْعَهْدِ أَصْلًا مَشْرُوطٌ بِالْقَرِينَةِ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْقَرِينَةِ لِنَحْوِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَوْ فُرِضَ
فَهْمُ الْقَرِينَةِ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ يَرُدُّهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِعُمُومِ الصِّيغَةِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ وَلَوْ سَلِمَ الْعَهْدُ فِيمَا ادَّعَاهُ لَا شَكَّ فِي قِيَامِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ لِأَجْلِهِ خَبِيثًا وَهَذَا الْمَعْنَى يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فَلَا يَخْلُو عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْقِيَاسِ وَدَعْوَى انْقِرَاضِ الِاجْتِهَادِ أَمْرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ {وَيَضَعُ} [الأعراف: 157] أَيْ يُزِيلُ {عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] ثِقَلَهُمْ وَالْمُرَادُ الْعَهْدُ الَّذِي أُخِذَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَكَانَتْ تِلْكَ شَدِيدَةً.
نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَعَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ شِدَّةُ الْعِبَادَةِ {وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] مِنْ الْأَفَاعِيلِ الشَّاقَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ الشَّرَائِعِ كَتَعْيِينِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَحُرْمَةِ الدِّيَةِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْخَاطِئَةِ وَقَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ وَقَتْلِ النَّفْسِ فِي التَّوْبَةِ وَقَرْضِ الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ بِالْمِقْرَاضِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ فِي السَّبْتِ وَعَدَمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْكَنَائِسِ وَتَتَبُّعِ الْعُرُوقِ مِنْ اللَّحْمِ وَإِحْرَاقِ الْغَنَائِمِ وَفَرْضِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَصَرْفِ رُبْعِ الْمَالِ لِلزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا تَشْبِيهٌ بِالْغَلِّ فِي مَنْعِ الْفِعْلِ أَوْ بِالْأَغْلَالِ الَّتِي تَجْمَعُ الْيَدَ إلَى الْعُنُقِ وَكَانَتْ هَذِهِ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ فِي شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَاءِ» .
{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} [الأعراف: 157] أَيْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَعَزَّرُوهُ} [الأعراف: 157] وَقَّرُوهُ وَعَظَّمُوهُ وَأَصْلُ التَّعْزِيرِ الْمَنْعُ لِمَنْعِهِ عَنْ إعَادَةِ مِثْلِهِ وَهُنَا مَنْعُ الْأَعْدَاءِ بِالنُّصْرَةِ وَالتَّعْظِيمِ {وَنَصَرُوهُ} [الأعراف: 157] بِالرِّمَاحِ وَالسِّهَامِ وَبِالْأَمْوَالِ أَيْضًا {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157] أَيْ الْقُرْآنَ لِاسْتِنَارَةِ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ بِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعُلُومِ وَالْعِرْفَانِ أَوْ لِظُهُورِ النُّبُوَّةِ بِهِ أَوْ لِظُهُورِ الْأَحْكَامِ مِنْهُ وَيَجُوزُ تَعَلَّقَ مَعَهُ بِاتَّبَعُوا وَالضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّ {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] الْفَائِزُونَ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ وَفِي الْأَعْرَافِ أَيْضًا مُتَّصِلًا بِاَلَّتِي قَبْلَهَا {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] لَا إلَى بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ كَالْأَنْبِيَاءِ السَّالِفَةِ تَصْرِيحٌ فِي كَوْنِهِ مَبْعُوثًا إلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا النَّهْجِ {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 158] .
قَوْلُهُ الَّذِي خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ صِفَةٌ لِلْجَلَالَةِ قِيلَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْخَفَاءِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ الْمُفَادَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَعَمْ قَدْ يُمْكِنُ فَهْمُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأعراف: 158] تَأَمَّلْ ثُمَّ إنَّهُ إذَا اخْتَصَّ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي جَمِيعَ الْمُمْكَنَاتِ وَالتَّخْصِيصُ عَلَى حَسَبِ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ اُخْتُصَّ لَهُ أُلُوهِيَّتُهُمَا حَسْبَمَا يُشِيرُ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فَلِذَا عَقَّبَ بِقَوْلِهِ {لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الأعراف: 158] .
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ الْعَالَمَ كَانَ هُوَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَا غَيْرُهُ وَفِي قَوْلِهِ {يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الأعراف: 158] مَزِيدُ تَقْدِيرٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَنُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إرْسَالِ الرُّسُلِ إلَى خَلْقِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ كَوْنُهُ رَسُولًا بِالْفِعْلِ وَاللَّازِمُ مِمَّا ذُكِرَ كَوْنُهُ رَسُولًا بِالْقُوَّةِ لَا أَنْ يُقَالَ الْمَطْلُوبُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ إثْبَاتُ الْإِمْكَانِ فَقَطْ وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَثَابِتٌ بِالْمُعْجِزَةِ وَعَلَيْهِ يَدُورُ تَفْرِيعُ.
قَوْلِهِ {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأعراف: 158] التَّفْرِيعُ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّسُولِ فَمُحْتَاجٌ إلَى التَّأْوِيلِ السَّابِقِ
{النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] آيَاتِهِ أَوْ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ عِيسَى لِخَلْقِهِ يَكُنْ تَعْرِيضًا لِلْيَهُودِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِبَعْضِ نَبِيٍّ لَمْ يُعْتَبَرْ إيمَانُهُ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ التَّكَلُّمِ إلَى الْغَيْبَةِ لِإِجْرَاءِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُ {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ إلَّا مَا عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّهِ {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] فِي جَعْلِ رَجَاءِ الِاهْتِدَاءِ إثْرَ الْإِيمَانِ وَالِاتِّبَاعِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ صَدَّقَهُ وَلَمْ يُتَابِعْهُ فِي الْتِزَامِ شَرْعِهِ فَهُوَ يُعَدُّ فِي الضَّلَالَةِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَفِي الْأَنْبِيَاءِ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ أَيْ ذُو رَحْمَةٍ أَوْ مُبَالِغٌ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى كَأَنِّي عَيْنُهَا لِأَنَّ الرَّحْمَةَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا النَّفْعُ وَذَاتُهُ كَذَلِكَ فَالْمَعْنَى مَا أَنَا إلَّا ذُو رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ أَهْدَاهَا اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِمْ فَمَنْ قَبِلَ هِدَايَتَهُ أَفْلَحَ وَنَجَا وَمَنْ أَبَى خَابَ وَخَسِرَ.
وَقَالَ أَيْضًا فِي شَرْحِ حَدِيثِ «إنَّمَا بُعِثْت رَحْمَةً وَلَمْ أُبْعَثْ عَذَابًا» لِأَنَّهُ غُشِيَ بِالرَّحْمَةِ وَاسْتَنَارَ قَلْبُهُ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ رَحْمَةً وَمَفْزَعًا وَمَأْمَنًا فَالْعَذَابُ لَمْ يُقْصَدْ مِنْ بِعْثَتِهِ ثُمَّ إنَّهُ قِيلَ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بَلْ الثَّانِي أَيْضًا.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ عَامٌّ لِلْكَافِرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ وَرَفْعِ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ وَالِاسْتِئْصَالِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ التَّفْتَازَانِيِّ مَعَ الْخَيَالِيِّ كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْفَرِيقَيْنِ لِبَيَانِهِ لَهُمَا طَرِيقَ الْحَقِّ لَكِنَّ الْكَافِرَ لَمْ يَهْتَدِ بِهِدَايَتِهِ وَقَالَ فِي شِفَاءِ عِيَاضٍ عَنْ السَّمَرْقَنْدِيِّ يَعْنِي لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَقِيلَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ
أَقُولُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ ظَاهِرِ صِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ مَعَ عَدَمِ الْعَهْدِ وَدَلِيلِ الْجِنْسِ فَيَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ كَمَا فِي الشِّفَاءِ أَيْضًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِجِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام هَلْ أَصَابَك مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ شَيْءٌ قَالَ نَعَمْ كُنْت أَخْشَى الْعَاقِبَةَ فَأَمِنْت لِثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] » وَيَشْمَلُ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا فِي الْمَوَاهِبِ الْقَسْطَلَّانِيَّة أَنَّ قَبُولَ تَوْبَةِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا هُوَ بِتَوَسُّلِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام اسْتِشْفَاعَهُ بِرُوحِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ وَكَتَبَهُ عَلَى أَعْلَى عَتَبَةِ أَبْوَابِ الْجِنَانِ.
وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ آدَمَ عليه الصلاة والسلام حِينَ أَرَادَ التَّنَاوُلَ بِحَوَّاءَ وَقْتَ النِّكَاحِ مَنَعَهُ جَبْرَائِيلُ عليه الصلاة والسلام لِلْمَهْرِ فَقَالَ مَهْرُهَا أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام عَشْرَ مَرَّاتٍ فَفَعَلَ فَحَلَّتْ لَهُ وَإِنَّ أُمَمَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ مُشَفَّعُونَ بِشَفَاعَتِهِ الْعُظْمَى وَرَحْمَةُ الْأُمَّةِ رَحْمَةٌ لِنَبِيِّهِمْ كَذَا قِيلَ وَقِيلَ كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ أَهْلَ الْعَرَصَاتِ حِينَ اشْتِدَادِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ فِي الْعَرَقِ يَسْتَشْفِعُونَ مِنْ كُلِّ نَبِيٍّ فَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ مِنْ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام لَا غَيْرُ فَيَنْتَفِعُ مِنْ تِلْكَ الشَّفَاعَةِ كُلُّ ذِي رُوحٍ حَتَّى الدَّوَابُّ وَالْحَشَرَاتُ وَالْجِنُّ وَالْكُفَّارُ وَقِيلَ كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلشَّيَاطِينِ نَحْوُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عُيِّنَ مَلَكٌ عَلَى إبْلِيسَ يَضْرِبُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً لَا يَنْقَطِعُ أَلَمُ كُلِّ ضَرْبَةٍ إلَى الْأُخْرَى فَعِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتَغَاثَ إنِّي مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِ فَلَا تَحْرِمْنِي مِنْ رَحْمَتِك عَلَى وَعْدِك فَخَلَصَ مِنْهُ بِحُرْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقِيلَ أَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً لِنَحْوِ الدَّوَابِّ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ رُفِعَ الْقَحْطُ الْعَظِيمُ الَّذِي وَقَعَ فِي سَنَةِ وِلَادَتِهِ عليه الصلاة والسلام بِسَبَبِ وِلَادَتِهِ وَأَيْضًا كُلَّمَا وَقَعَ قَحْطٌ يَنْدَفِعُ بِدُعَائِهِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْأَفْلَاكِ فَلِمَا قِيلَ فِي بَعْضِ حِكْمَةِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ بِسَبَبِ اسْتِشْرَافِ الْأَفْلَاكِ مِنْ قُدُومِهِ عليه الصلاة والسلام.
وَأَمَّا كَوْنُهُ لِلْأَرْضِ فَلِمَنْعِ الْعَذَابِ عَلَى الْأَرْضِ بِسَبَبِ الْعِصْيَانِ الَّذِي كَانَ يَقَعُ بِمِثْلِهِ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَفِي النُّورِ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] فَإِنْ قِيلَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا تَعَيَّنَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ الضَّمِيرُ لِلَّهِ أَوْ لِلرَّسُولِ بِلَا تَرْجِيحِ جَانِبِ الرَّسُولِ وَقَدْ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَأَنَّهُ كَالْمُشْتَرَكِ فِي تَزَاحُمِ الْمَعَانِي فَلَا يُحْتَجُّ بِلَا تَرْجِيحٍ قُلْنَا قَالَ فِي التَّلْوِيحِ أَيْضًا الْعِبَادَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ
فَإِنْ قِيلَ الْمَطْلُوبُ مُطْلَقُ مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاللَّازِمُ مِنْ هَذِهِ
الْآيَةِ هُوَ الْوُجُوبُ الْمَفْهُومُ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ لَا غَيْرِهِ مِنْ النَّدْبِ وَالسُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ إذْ الْفِتْنَةُ وَالْعَذَابُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ وَالنَّدْبِ قُلْنَا يَجُوزُ كَوْنُ الْمَقْصُودِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْمَطْلُوبِ أَوْ الْخَاصِّ يَسْتَلْزِمُ الْعَامَّ قِيلَ لَفْظَةُ عَنْ صِلَةٌ أَيْ زَائِدَةٌ لِتَضْمِينِ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] فِي الدُّنْيَا مَفْعُولُ يَحْذَرُ أَيْ لِئَلَّا يُصِيبَهُمْ بَلَاءٌ أَوْ مِحْنَةٌ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالْوَلَدِ أَوْ عُقُوبَةٌ أَوْ زَلَازِلُ وَأَهْوَالٌ وَتَسْلِيطُ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ إسْبَاغُ النِّعَمِ اسْتِدْرَاجًا أَوْ قَسْوَةُ الْقَلْبِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَعْرُوفِ أَوْ طَبْعُ الْقُلُوبِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَتَكْرَارُ الْمُنْكَرِ كَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ نَحْوُ الْقَحْطِ وَالْغَلَاءِ وَحَبْسِ الْمَطَرِ وَتَسْلِيطِ الْمَضَرَّاتِ كَالْجَرَادِ وَنَحْوِهَا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] مُؤْلِمٌ وَجِيعٌ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ هُوَ الْقَتْلُ.
وَفِي الْأَحْزَابِ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ} [الأحزاب: 21] اللَّامُ تَوْطِئَةُ قَسَمٍ أَيْ وَاَللَّهِ قِيلَ الْخِطَابُ لِلْمُنَافِقِينَ {فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] أَيْ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ أَيْ اقْتَدُوا بِهِ اقْتِدَاءً حَسَنًا بِنَصْرِ دِينِهِ وَعَدَمِ تَخَلُّفِهِ وَصَبْرِ شَدَائِدِهِ كَنَفْسِهِ عليه الصلاة والسلام إذْ كُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ وَجُرِحَ وَجْهُهُ وَقُتِلَ عَمُّهُ وَأُوذِيَ بِضُرُوبٍ مِنْ الْأَذَى فَصَبَرَ وَسَامَحَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَافْعَلُوا أَنْتُمْ كَذَلِكَ أَيْضًا وَاسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ قَالَهُ الْخَازِنُ {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} [الأحزاب: 21] قِيلَ بَدَلٌ مِنْ لَكُمْ لَعَلَّ الْأَوْجَهَ صِلَةٌ لِحَسَنَةٍ أَوْ صِفَةٌ لَهَا كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ وَلِقَاؤُهُ قِيلَ أَوْ يَخَافُونَ حِسَابَهُ {وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 21] أَيْ نَعِيمَ الْآخِرَةِ أَوْ يَخْشَى يَوْمَ الْبَعْثِ الَّذِي فِيهِ الْجَزَاءُ {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ بِاللِّسَانِ أَوْ الْقَلْبِ أَوْ بِهِمَا فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَفِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَقَرَنَ بِالرَّجَاءِ كَثْرَةَ الذِّكْرِ الْمُؤَدِّيَةِ لِمُلَازَمَةِ الطَّاعَةِ فَإِنَّ الْمُؤْتَسِيَ بِالرَّسُولِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إمَّا بِحَسَبِ الْأَمْرِ الْمُفَادِ الْمَذْكُورِ أَوْ مِنْ إشَارَةِ قَوْلِهِ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ إلَخْ فَحَاصِلُ التَّوْجِيهِ مَثَلًا الِاقْتِدَاءُ الْحَسَنُ بِرَسُولِ اللَّهِ اعْتِصَامٌ بِالسُّنَّةِ وَالِاقْتِدَاءُ وَاجِبٌ فَيُنْتَجُ مِنْ الشَّكْلِ الثَّالِثِ الِاعْتِصَامُ وَاجِبٌ أَمَّا الصُّغْرَى فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا الْكُبْرَى فَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أَمْرَ اقْتَدُوا اقْتِدَاءً حَسَنًا وَأَمْرَ اسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ.
وَقِسْ عَلَيْهِ وَجْهَ الْأَمْرِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَفِي الْأَحْزَابِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45] لِلرُّسُلِ بِالتَّبْلِيغِ أَوْ لِلْخَلْقِ كَافَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ شَاهِدًا لِوَحْدَانِيِّتِنَا {وَمُبَشِّرًا} [الأحزاب: 45] بِرَحْمَتِنَا أَوْ لِلْمُحْسِنِينَ بِرِضَانَا أَوْ لِمَنْ آمَنَ بِالْجَنَّةِ {وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] لِمَنْ كَذَّبَ بِالنَّارِ أَوْ بِنِقْمَتِنَا أَوْ لِلْعُصَاةِ بِعِقَابِنَا {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 46] إلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ أَوْ دَاعِيًا الْخَلْقَ إلَى بَابِ اللَّهِ {بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 46] بِأَمْرِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ أَوْ بِالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ بِإِذْنِهِ أَوْ بِتَيْسِيرِ الدَّعْوَةِ إيذَانًا بِأَنَّهُ أَمْرٌ صَعْبٌ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمَعُونَةٍ مِنْ جَنَابِ قُدْسِهِ لِأَنَّ دَعْوَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ إلَى التَّوْحِيدِ أَمْرٌ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] أَيْ كِتَابًا مُبِينًا أَيْ ذَا سِرَاجٍ مُنِيرٍ وَقِيلَ وَسِرَاجًا حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ لِحَضْرَتِنَا أَوْ هَدْيًا لَهُمْ إلَى أَنْوَارِ الْأُنْسِ مُنِيرًا عَلَيْهِمْ ظُلُمَاتِ النَّفْسِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ مُنِيرًا يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ وَتُقْتَبَسُ مِنْ نُورِهِ أَنْوَارُ الْبَصَائِرِ.
وَعَنْ الْخَازِنِ إنَّمَا سَمَّاهُ سِرَاجًا مُنِيرًا لِأَنَّهُ جَلَا بِهِ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَاهْتَدَى بِهِ الضَّالُّونَ كَمَا يُجْلَى ظَلَامُ اللَّيْلِ بِالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ وَقِيلَ أَيْ أَمَدَّ اللَّهُ بِنُورِ نُبُوَّتِهِ نُورَ الْبَصَائِرِ كَمَا يُمَدُّ بِنُورِ السِّرَاجِ نُورُ الْإِبْصَارِ وَصَفَهُ بِالْإِنَارَةِ لِأَنَّ مِنْ السِّرَاجِ مَا لَا يُضِيءُ لِفُتُورِهِ قِيلَ فِي وَجْهِ تَسْمِيَتِهِ بِالسِّرَاجِ مَعَ أَنَّ الشَّمْسَ أَنْوَرُ هُوَ أَنَّ نُورَ الشَّمْسِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ وَنُورُ السِّرَاجِ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنْوَارٌ كَثِيرَةٌ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الشَّمْسِ وَأَيْضًا أَنْوَارُ النُّجُومِ عَلَى رَأْيِ الْبَعْضِ فَقِيلَ فِي الْوَجْهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السِّرَاجِ هُوَ الشَّمْسُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى
{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] .
أَقُولُ إنَّ اسْتِفَادَةَ نُورِ الْقَمَرِ مِنْ الشَّمْسِ قَوْلٌ فَلْسَفِيٌّ لَا ثُبُوتَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَوْ سُلِّمَ فَثُبُوتُهُ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ يَعْرِفُ بُرُوجَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَتَقَارُبَهُمَا وَتَقَابُلَهُمَا وَهَذَا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَأَكْثَرُ مُخَاطَبَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى مُقْتَضَى فَهْمِ الْكُلِّ أَوْ الْأَكْثَرِ وَالْمُفْرَدُ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ وَبِهِ تَبَيَّنَ فَسَادُ حَالِ أَنْوَارِ النُّجُومِ فَإِنَّهُ لَا إمْكَانَ لِكَوْنِهَا مِنْ الْحَدَثَاتِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْحُكْمِيَّةِ وَالْمِيزَانِيَّةِ ثُمَّ يُرْجَعُ الْكَلَامُ بَعْدَ تَسْلِيمِ مَا أَرَادَ مِنْ الْمَرَامِ إلَى وَجْهِ تَعْبِيرِهِ عَنْ الشَّمْسِ بِالسِّرَاجِ ثُمَّ أَقُولُ لَعَلَّ الْوَجْهَ الْوَجِيهَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالسِّرَاجِ هُوَ الْقُرْبِيَّةُ وَسُهُولَةُ الْأَخْذِ وَاخْتِصَاصُهُ لِلْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ وَهُوَ الْمُؤْمِنُونَ وَإِيقَادُهُ وَقْتَ قَصْدِ الِانْتِفَاعِ وَنَحْوِهَا وَفِي الْأَحْزَابِ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] يَعِيشُ فِي الدُّنْيَا حَمِيدًا.
وَفِي الْآخِرَةِ سَعِيدًا يَعْنِي يَظْفَرُ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ وَفِي الْحَشْرِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] فَسَّرُوا بِمَالِ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] مِنْ الْغُلُولِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ يَرِدُ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ الِاعْتِصَامُ الْمُطْلَقُ وَتَفْسِيرُ الْمُفَسِّرِينَ يَخْتَصُّ بِنَحْوِ الْغَنِيمَةِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ إمَّا تَخْصِيصُ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ إرَادَةُ تَعْمِيمِ الْمُصَنِّفِ فَتَأَمَّلْ حَتَّى يَظْهَرَ لَك وَجْهُ الْمُصَنِّفِ أَوْ نَقُولَ الدَّلَالَةُ حَاصِلَةٌ بِمُلَاحَظَةِ قَوْلِهِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 7] فَإِنَّهُ فُسِّرَ بِمُطْلَقِ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ وَكَذَا قَوْلُهُ {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] لِمَنْ خَالَفَهُ مُطْلَقًا فَهَذِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ آيَةً لِلِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ.
(وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ) الدَّالَّةُ عَلَيْهِ أَيْضًا عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْمُصَنِّفِ وَاخْتِيَارِهِ فَعِشْرُونَ حَدِيثًا وَهِيَ قَوْلُهُ (الْإِخْبَارُ) الْأَوَّلُ (د) مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (عَنْ الْعِرْبَاضِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ (بْنِ سَارِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ» أَيْ نَفْسَ يَوْمٍ أَوْ لَفْظَةُ ذَاتَ مُقْحَمَةٌ لِتَحْسِينِ اللَّفْظِ وَالتَّأْكِيدِ أَوْ مِنْ إضَافَةِ الْمُسَمَّى إلَى اسْمِهِ مِثْلُ ذَاتَ مَرَّةٍ وَمُؤَنَّثُ ذُو أَصْلُهَا ذَوِي فَحُذِفَتْ الْيَاءُ مِنْهُ فَبَقِيَ ذُو وَعُوِّضَ التَّاءُ عَنْهَا فَصَارَتْ ذَوَتْ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ أَلْفًا فَصَارَ ذَاتَ وَقَدْ قُطِعَتْ عَنْ الْإِضَافَةِ وَالْوَصْفِيَّةِ وَأُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ الْمُسْتَقِلَّةِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِي النِّسْبَةِ إلَيْهَا ذَاتِيٌّ بِإِثْبَاتِ التَّاءِ.
وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَهُوِيَّتِه وَعَلَى مَا يُقَابِلُ الْوَصْفَ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ النَّفْسِ وَالشَّيْءِ وَلِذَا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ كَذَا فِي الْمَوَاهِبِ «ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا» قِيلَ نَقْلًا عَنْ الْمَوَاهِبِ فِي وَجْهِ لَفْظِ ثُمَّ إنَّ الْإِقْبَالَ بَعْدَ الْأَذْكَارِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَبَادَرَ فِي هَذِهِ الْأَذْكَارِ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ الْمَسْنُونُ الْمُتَوَارَثُ مِنْ التَّسْبِيحَاتِ وَالتَّحْمِيدَاتِ وَالتَّكْبِيرَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْبَالَ لَيْسَ بَعْدَهَا بَلْ عِنْدَهَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ بِمَعْنَى الْفَاءِ.
كَمَا نُقِلَ عَنْ الْكُوفِيِّينَ أَوْ مُقْحَمٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْأَخْفَشِ أَوْ لَيْسَ لَهُ هُنَا مُهْلَةٌ كَمَا فِي نَحْوِ {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ} [السجدة: 7 - 8]- فَتَأَمَّلَ «بِوَجْهِهِ» حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ «فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً» عَظِيمَةً «بَلِيغَةً» أَيْ مُجْتَهِدًا غَيْرَ قَاصِرٍ فِيهَا أَوْ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ فَصِيحٍ أَوْ مَوْعِظَةٍ تَامَّةٍ كَامِلَةٍ أَوْ بِكَلَامٍ مُطَابِقٍ لِمُقْتَضَى الْحَالِ مَعَ فَصَاحَتِهِ «ذَرَفَتْ فِيهَا الْعُيُونُ» سَالَ دَمْعُهَا مِنْ الْبُكَاءِ وَقِيلَ لَفْظُ فِي هُنَا لِلسَّبَبِيَّةِ
كَمَا فِي حَدِيثِ «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ» .
«وَوَجِلَتْ» بِكَسْرِ الْجِيمِ بِمَعْنَى الْخَوْفِ «مِنْهَا» تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْضًا «الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ» مِنْ الْحَاضِرِينَ لِشِدَّةِ اهْتِمَامِهِ خِلَافَ عَادَتِهِ «يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ» الْمَوْعِظَةَ «مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ» أَيْ كَمَوْعِظَةِ مُوَدِّعٍ أَوْ هِيَ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ لِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ حِينَ إرَادَةِ السَّفَرِ بِنَصَائِحَ يُحْتَاجُ إلَيْهَا غَايَةَ الِاحْتِيَاجِ فَرْطًا لِحُبِّهِ وَحِرْصِهِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَضِلَّ بَعْدَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ صَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ مُوَدِّعٍ لِهَوَاهُ مُوَدِّعٍ لِعُمْرِهِ وَسَائِرٌ إلَى مَوْلَاهُ وَقِيلَ يَعْنِي صَلِّ صَلَاةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ بَعْدَهُ فَيُصَلِّي بِاسْتِفْرَاغٍ فِي إحْكَامِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يَسْتَفْرِغَ جَهْدَهُ فِي إفَادَةِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَتَقْيِيدُ ذَلِكَ وَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّخْوِيفُ وَالتَّشْدِيدُ أَحْيَانًا «فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا» أَيْ تُوصِينَا.
قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْعَهْدُ الْوَصِيَّةُ «قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ» .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي آخَرَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ «وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ» لِوُلَاةِ الْأُمُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] يُقَالُ فُلَانٌ سَمِعَ مِنْ فُلَانٍ أَيْ امْتَثَلَ «وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا» يَعْنِي وَلَوْ كَانَ أَمِيرُكُمْ حَقِيرًا ذَلِيلًا كَالْعَبْدِ الْحَبَشِيِّ يَجِبُ عَلَيْكُمْ الطَّاعَةُ لَكِنْ هَذَا إنْ كَانَ أَمْرُهُ عَلَى نَهْجِ الشَّرْعِ وَإِلَّا فَلَا طَاعَةَ لِلْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.
قَالَ فِي الْفَتَاوَى وَكُلُّ مَأْمُورٍ بِإِطَاعَةِ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ إنْ عَلَى الشَّرْعِ فَبِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الشَّرْعِ فَإِنْ أَدَّى عِصْيَانُهُ إلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ فَيُطِيعُ فِيهِ أَيْضًا إذْ الضَّرَرُ الْأَخَفُّ يُرْتَكَبُ لِلْخَلَاصِ مِنْ الضَّرَرِ الْأَشَدِّ وَالْأَعْظَمِ وَكَذَا فِي كُلِّ مَفْسَدَتَيْنِ مُتَفَاوِتَتَيْنِ كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ أَمَرَ بِهِ الْإِمَامُ لِمَصْلَحَةٍ دَاعِيَةٍ لِذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ إتْيَانُهُ وَأَيْضًا لَا يُلَائِمُ لِجَوَابِ الْمُجِيبِ تَعْلِيلَهُ بِقَوْلِهِ «فَإِنَّهُ» أَيْ الشَّأْنَ «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا» .
الظَّاهِرُ مِنْ السِّيَاقِ أَيْ فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ كَمَا فِي عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَمِنْ السِّيَاقِ أَيْ فِي مُطْلَقِ الْأُمُورِ كَخِلَافِيَّاتِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ مَا قَالَ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمُغَيَّبَاتِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ «فَعَلَيْكُمْ» أَيْ الْزَمُوا «بِسُنَّتِي» .
الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُطْلَقِ وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ إلَّا أَنْ يُقَالَ نَفْهَمُ الْمُطْلَقَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ أَوْ الْمُقَيَّدُ خَاصٌّ وَالْمُطْلَقُ عَامٌّ فَالتَّقْرِيبُ تَامٌّ فَافْهَمْ «وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ» أَيْ خُلَفَائِي فِي الْقَامُوسِ الْخَلِيفَةُ السُّلْطَانُ الْأَعْظَمُ.
وَعَنْ الرَّاغِبِ الْخِلَافَةُ النِّيَابَةُ عَنْ الْغَيْرِ لِغَيْبَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ أَوْ مَوْتِهِ أَوْ عَجْزِهِ أَوْ تَشْرِيفِ الْمُسْتَخْلَفِ وَعَلَى الْأَخِيرِ اسْتَخْلَفَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ وَالْمُرَادُ الْخِلَافَةُ الْكَامِلَةُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً» الَّتِي انْتَهَتْ بِشَهَادَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَمَا قِيلَ مِنْ تَجْوِيزِ مَنْ بَعْدَهُمْ إنْ سَارُوا سِيرَتَهُمْ مِنْ الْأَوْصَافِ الْآتِيَةِ فَكَالرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ إذْ بَعْضُ الْحَدِيثِ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ الْآخَرَ عَلَى أَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ «ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ» .
وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَقَدْ يُزَادُ «عَضُوضًا» يَأْبَى عَنْ ذَلِكَ وَأَيْضًا لَا يُلَائِمُ ذَيْلَ هَذَا الْحَدِيثِ
فَإِنْ قِيلَ الْمَرْجِعُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ إلَى السُّنَّةِ فَقَطْ بَلْ مَجْمُوعُ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ السُّنَّةِ أَقُولُ لَعَلَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ شُمُولِ السُّنَّةِ بِهَا وَلَوْ مَجَازًا أَيْ بِطَرِيقَتَيْ وَلَوْ قِيَاسًا.
«الرَّاشِدِينَ» الرُّشْدُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ «الْمَهْدِيِّينَ» صِيغَةُ مَفْعُولٍ قِيلَ أَيْ هَدَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَاهْتَدَوْا لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إشَارَةٌ إلَى عِلَّةِ أَمْرِ السَّابِقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخُلَفَاءِ وَتَمْهِيدٌ لِبَعْضِ الْأَمْرِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ «تَمَسَّكُوا بِهَا» أَيْ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ السُّنَّتَيْنِ كَأَنَّهُ تَكْرِيرٌ لِزِيَادَةِ تَثْبِيتٍ وَتَأْكِيدٍ لِصُعُوبَةِ الْأَخْذِ بِالسُّنَّةِ خُصُوصًا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ وَفِي إفْرَادِ الضَّمِيرِ إشَارَةٌ إلَى رُجُوعِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إلَى سُنَّتِهِ عليه الصلاة والسلام وَأَخْذِهَا مِنْهَا لَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَإِنْ قِيلَ اتِّخَاذُ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إمَّا لِكَوْنِهِمْ خُلَفَاءَ أَوْ لِكَوْنِهِمْ رَاشِدِينَ أَوْ لِمَجْمُوعِهِمَا فَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ عَدَمُ الِاتِّخَاذِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَ خِلَافَتِهِمْ وَأَيْضًا يَجْرِي فِي سَائِرِ الْخُلَفَاءِ وَعَلَى الثَّانِي يَقْتَضِي اتِّخَاذَ سُنَّةِ كُلِّ مَنْ كَانَ رَاشِدًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً.
وَعَلَى الثَّالِثِ لَمْ يَقُلْ بِهَذَا الِاخْتِصَاصِ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ بَلْ كَلَامُهُمْ فِي مُطْلَقِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ صَحَابِيٍّ وَصَحَابِيٍّ نَعَمْ قَدْ يُشْتَرَطُ فِي الْإِجْمَاعِ إجْمَاعُهُمْ لَكِنَّهُ خِلَافُ الصَّحِيحِ وَلَوْ خُصَّ بِأُمُورِ الْخِلَافَةِ كَالسِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ أَوْ تَدْبِيرِ نِظَامِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ لَا يُلَائِمُ السِّيَاقَ وَالسِّيَاقَ قُلْت يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُهُمَا مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ أَوْ سُنَّةٍ لِرَسُولٍ إشَارَةٌ إلَى الدِّينِيِّ وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إلَى الْعَادِيِّ وَالْوَصْفَانِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ تَبَعِيَّتَهُمْ مُقَيَّدَةٌ بِكَوْنِهِمْ عَلَى الرُّشْدِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَبَعْدُ فِيهِ تَأَمُّلٌ.
«وَعَضُّوا عَلَيْهَا» أَيْ مُطْلَقِ السُّنَّةِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَى تَيْنِك السَّنَتَيْنِ ( «بِالنَّوَاجِذِ» هِيَ أَقْصَى الْأَضْرَاسِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ أَوْ هِيَ الْأَنْيَابُ أَوْ الَّتِي تَلِي الْأَنْيَابَ أَوْ هِيَ الْأَضْرَاسُ كُلُّهَا جَمْعُ نَاجِذَةٍ وَالنَّجْذُ شِدَّةُ الْعَضِّ بِهَا كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَهُوَ مَثَلٌ فِي شِدَّةِ الِاسْتِمْسَاكِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى غَايَةِ إتْعَابِ الْمُسْتَمْسِكِ بِالسُّنَّةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَالْمُجَاهِدِينَ مَعَ الْمُخَالِفِينَ وَتَصْعُبُ كَلِمَةُ الْحَقِّ وَيَتْعَبُ فِي الْحَلَالِ قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ كَمَا هُوَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا فِي الْأُصُولِ أَقُولُ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الدَّلَالَةَ إنَّمَا هِيَ لِلْخُلَفَاءِ لَا الصَّحَابِيِّ وَأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ وُجُوبَ التَّقْلِيدِ وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ وَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ مَعْلُومِيَّةِ خِلَافِهِمْ وَوِفَاقِهِمْ.
وَأَمَّا عِنْدَ مَعْلُومِيَّةِ خِلَافِهِمْ فَلَا يَجِبُ إجْمَاعًا وَأَمَّا عِنْدَ مَعْلُومِيَّةِ عَدَمِ خِلَافِهِمْ فَيَجِبُ إجْمَاعًا نَعَمْ قَالُوا كُلُّ مَا ثَبَتَ فِيهِ اتِّفَاقُ الشَّيْخَيْنِ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ» أَيْ اتَّقُوا وَاحْذَرُوا الْأَخْذَ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ السُّنَّتَيْنِ مِنْ الْأُمُورِ الْحَادِثَةِ الَّتِي لَا إشَارَةَ لَهَا بِالْإِذْنِ مِنْ الشَّارِعِ وَسَيُفَصِّلُ. «فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» هَذَا شَكْلٌ أَوَّلٌ مَذْكُورُ الْمُقَدَّمَتَيْنِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مُبَاحًا وَوَاجِبًا وَمُسْتَحَبًّا وَالتَّخْصِيصُ بِالدِّينِ لَيْسَ بِمُفِيدٍ إذْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ إنَّمَا هِيَ فِي أَمْرِ الدِّينِ لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَفَائِدَتُهُ إنَّمَا تَظْهَرُ لَا الْعَادِيَّاتُ أَقُولُ سَيُوَضِّحُهُ الْمُصَنِّفُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِإِذْنٍ مِنْ الشَّارِعِ فَلَا بِدْعَةَ مُطْلَقًا.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» قِيلَ عَنْ الْغَيْرِ بِأَنَّهُ عَامٌّ خَصَّهُ
حَدِيثُ «فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَحَدِيثُ «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» فَاَلَّذِي اجْتَمَعَ عَلَى حَسَنِهِ الْمُسْلِمُونَ وَرَأَوْهُ حَسَنًا لَيْسَ بِضَلَالَةٍ بَلْ مَثُوبَةٌ كَصَلَاةِ الْقَدْرِ بِالْجَمَاعَةِ وَالتَّصْلِيَةِ وَالتَّرْضِيَةِ
حَالَ الْخُطْبَةِ وَالْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ وَدَوَرَانِ الصُّوفِيَّةِ.
وَالذِّكْرِ عِنْدَ الْجِنَازَةِ وَالْعَرَائِسِ وَالسُّؤَالِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالذَّبْحِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَاتِّخَاذِ الطَّعَامِ لِرُوحِ الْمَيِّتِ فِي الْأَيَّامِ الْمُعْتَادَةِ عِنْدَ النَّاسِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِي أَصْلِهِ وَمُثَابٌ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ ثُمَّ قَالَ فَنَهْيُ الْمُصَنِّفِ فِتْنَةً فِي الدِّينِ ثُمَّ أُجِيبَ عَنْ تَفَاصِيلِ كُلِّ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ أَقُولُ بِإِجْمَالِ يُقْنَعُ بِهِ عَنْ التَّفْصِيلِ وَهُوَ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ حَمَلُوهُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْكَامِلِ وَالْأُمَّةِ الْكَامِلَةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَاعِدَةُ انْصِرَافِ الْمُطْلَقِ إلَى الْكَمَالِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُمَّةَ الْكَامِلَةَ وَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ عَلَى مَنْعٍ وَخِلَافٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَلِذَا كَانَ دَلِيلُ الْمُقَلِّدِ هُوَ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ لَا النُّصُوصُ إذْ اسْتَخْرَجَ الْأَحْكَامَ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا مَنْصِبُ الْمُجْتَهِدِ وَقَدْ قَالُوا إذَا تَعَارَضَ النَّصُّ وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ إذْ يُحْتَمَلُ كَوْنُ النَّصِّ اجْتِهَادِيًّا وَلَهُ مُعَارِضٌ قَوِيٌّ وَتَأْوِيلٌ وَتَخْصِيصٌ وَنَاسِخٌ وَغَيْرُهَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْمُجْتَهِدُ وَأَنَّ ذَلِكَ كَالرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ إذْ الْمَنْعُ عَنْ كُلِّ مَا ذَكَرَهُ صَرِيحٌ فِي الْفِقْهِيَّةِ.
(د ت) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ (عَنْ الْمِقْدَادِ) بْنِ مَعْدِي كَرِبَ وَهُوَ الشَّهِيرُ بِابْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيِّ ثُمَّ قِيلَ هُوَ بِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ
بَيْنَهُمَا أَلِفٌ لَكِنْ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ عَنْ التُّحْفَةِ وَأَيْضًا عَنْ التَّنْقِيحِ آخِرُهُ مِيمٌ (رضي الله عنه «أَلَا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ.
«إنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ» أَيْ تَنَبَّهُوا وَتَحَقَّقُوا إنِّي أُعْطِيت الْقُرْآنَ مِنْ الْوَحْيِ الْمَتْلُوِّ «وَمِثْلَهُ مَعَهُ» أَيْ وَأُوتِيت مِثْلَ الْقُرْآنِ مَعَهُ يَعْنِي آتَانِيَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَهُ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْإِيتَاءِ هُوَ الْوَحْيُ فَالْقُرْآنُ الْوَحْيُ الْمَتْلُوُّ وَالسُّنَّةُ بِأَنْوَاعِهَا وَلَوْ حَدِيثًا قُدْسِيًّا بَلْ قِيَاسُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْيٌ غَيْرُ مَتْلُوٍّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]{إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]-.
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «كَانَ جَبْرَائِيلُ عليه الصلاة والسلام يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ يُعَلِّمُهُ إيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ» فَالْمُرَادُ بِالْمُمَاثَلَةِ الِاتِّحَادُ فِي مُطْلَقِ الْوَحْيِ لَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ إذْ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ صِفَةً لَهُ تَعَالَى مُعْجِزٌ لَفْظًا وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ أَيْضًا مُعْجِزًا مَعْنًى وَدَالًّا قَطْعِيًّا فَمَضْمُونُ الْحَدِيثِ قَطْعِيٌّ كَالْقُرْآنِ وَلِهَذَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْحَدِيثِ إنْ ثَبَتَتْ حَدِيثِيَّتُهُ فَلَا يَشْكُلُ بِنَحْوِ مَا يُخَصُّ بِالْقُرْآنِ مِنْ جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَثَوَابِ التِّلَاوَةِ وَحُرْمَةِ مَسِّ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ.
«أَلَا يُوشِكُ» بِالْكَسْرِ مُضَارِعٌ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ مِنْ أَوْشَكَ يُوشِكُ إيشَاكًا إذَا قَرُبَ وَالْمَعْنَى يَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ «رَجُلٌ» اسْمُ يُوشِكُ وَخَبَرُهُ يَقُولُ قِيلَ التَّرْكِيبُ لِلنُّدْرَةِ «شَبْعَانَ» صِفَتُهُ مِنْ الشِّبَعِ ضِدُّ الْجُوعِ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَغْرُورِ الْغَافِلِ الْمُنْهَمِكِ بِشَهْوَتِهِ فَتَقْيِيدُهُ بِالشِّبَعِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ الْحَامِلُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمَرْدُودِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّ الشِّبَعَ سَبَبُ الْحَمَاقَةِ وَالْغَفْلَةِ وَلِهَذَا لَمْ يَشْبَعْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا فِي الشِّفَاءِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «لَمْ يَمْتَلِئْ جَوْفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِبَعًا قَطُّ» «عَلَى أَرِيكَتِهِ» .
فِي الْقَامُوسِ الْأَرِيكَةُ كَسَفِينَةٍ، سَرِيرٌ فِي حَجَلَةٍ، أَوْ كُلُّ مَا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ مِنْ سَرِيرٍ وَمِنَصَّةٍ وَفِرَاشٍ، أَوْ سَرِيرٌ مُتَّخَذٌ مُزَيَّنٌ فِي قُبَّةٍ أَوْ بَيْتٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَرِيرٌ فَهُوَ حَجَلَةٌ، جَمْعُهُ أَرَائِكُ انْتَهَى. فَالْمَعْنَى أَلَا يَقْرُبُ رَجُلٌ صَاحِبُ عَيْشٍ وَافِرٍ وَرَفَاهِيَةٍ جَالِسًا عَلَى تَخْتِهِ وَكُرْسِيِّهِ أَنْ «يَقُولَ» بِطَرِيقِ الْوَعْظِ أَوْ لِاحْتِجَاجِ بَعْضِ أَغْرَاضِهِ «عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ» فَقَطْ أَيْ لَا تَلْتَفِتُوا إلَى غَيْرِهِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَالسِّيَاقُ.
«فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ» أَيْ اتَّخِذُوهُ وَاحْكُمُوا بِحِلِّهِ «وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ» اعْتَقِدُوا حُرْمَتَهُ حَاصِلُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ الْغَافِلُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي أَخْذِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَيُرِيدُ الْمَنْعَ عَنْ أَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ أَيْ السُّنَّةِ وَهَذَا زَعْمٌ بَاطِلٌ مِنْهُ إذْ تُؤْخَذُ الْأَحْكَامُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِهِ كَالسُّنَّةِ وَلِهَذَا رَدَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ» يُرِيدُ نَفْسَهُ أَيْ وَإِنَّ مَا حَرَّمْت لَعَلَّ إظْهَارَهُ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِلْإِشَارَةِ إلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ إذْ مُلَاحَظَةُ عِنْوَانِ الرِّسَالَةِ يَجْعَلُ الْحُكْمَ ضَرُورِيًّا «كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ» يَعْنِي الْأَحْكَامَ
الْمَدْلُولَةَ مِنْ الْكِتَابِ كَالْأَحْكَامِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ السُّنَّةِ فِي لُزُومِ الِاتِّبَاعِ وَإِيجَابِ الْعَمَلِ بِلَا تَفَاوُتٍ بَلْ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ عَيْنُهَا وَالْمُغَايَرَةُ لَيْسَ إلَّا فِي الظَّاهِرِ
فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّجُلُ الْقَائِلُ الْمَذْكُورُ مُصِيبًا وَقَدْ رَدَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْت نَعَمْ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْقَائِلِ كَذَلِكَ بَلْ مُرَادُهُ نَفْيُ الْمُرَاجَعَةِ بِالسُّنَّةِ وَالِاكْتِفَاءُ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ كَافِلًا لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَكِنْ لَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ عَلَى فَهْمِهِ غَيْرِ الْمُؤَيَّدِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِأَنْوَارِ الْوَحْيِ وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِجَانِبِ الْحُرْمَةِ مَعَ أَنَّ جَانِبَ الْحِلِّ كَذَلِكَ إمَّا لِعِظَمِ خَطَرِ جَانِبِ الْحُرْمَةِ أَوْ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ فِيهَا لِمَجْبُولِيَّةِ النَّفْسِ عَلَى حُبِّ الْهَوَى أَوْ يُرَادُ تَعْمِيمُ الْحُرْمَةِ عَلَى مَا بِوَاسِطَةِ تَرْكِ الْمَشْرُوعَاتِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ مِنْ الْحُرْمَةِ مُطْلَقُ الْمَنْعِ لِيَشْمَلَ نَحْوَ الْكَرَاهَةِ بَلْ تَرْكُ الْأَوْلَى وَأَيْضًا نَحْوُ السُّنَنِ بَلْ الْآدَابِ فَتَأَمَّلْ.
«أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ» أَيْ أَكْلُهُ لَا اسْتِعْمَالُهُ وَالتَّقْيِيدُ بِالْأَهْلِيِّ لِأَنَّ الْوَحْشِيَّ حَلَالٌ وَالْأَهْلِيُّ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ هَذَا قِيلَ النَّهْيُ وَقَعَ يَوْمَ خَيْبَرَ هَذَا تَعْدَادٌ لِبَعْضِ مَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ وَدَلَّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْقَصْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ لَيْسَ لِلِانْحِصَارِ فِيمَا ذُكِرَ بَلْ لَعَلَّهُ لِخُصُوصِيَّةٍ اقْتَضَتْهُ الْوَاقِعَةُ وَالْحَادِثَةُ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِوُرُودِ الْحَدِيثِ وَأَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا فِي الْأَدِلَّةِ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُد «أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ» فَقِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ مُخْتَلِفُ الْأَسَانِيدِ وَلَوْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاضْطِرَارِ وَقِيلَ عَلَى ثَمَنِهَا وَأُجْرَتِهَا
وَأَقُولُ حَدِيثُ الْحُرْمَةِ صَحِيحٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ بَلْ قَرِيبٌ إلَى الْمَشْهُورِ بِالْمَعْنَى فَلَا يُتَوَهَّمُ التَّعَارُضُ «وَلَا» يَحِلُّ أَكْلُ «كُلِّ ذِي نَابٍ» إذْ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ صِفَةُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ لَا الْأَعْيَانِ «مِنْ السِّبَاعِ» النَّابُ هُوَ السِّنُّ خَلْفَ الرُّبَاعِيَّةِ الْمُرَادُ سَبْعٌ يَصِيدُ بِسِنِّهِ لَعَلَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ تَعْدَادَ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَإِلَّا فَيَحْرُمُ أَيْضًا كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَكَذَا حَشَرَاتُ الْأَرْضِ كَالْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَالْعَقْرَبِ فَإِنْ قِيلَ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَعْرِضُ بَيَانٍ وَمَوْضِعُ تَعْدَادٍ قَالُوا كُلٌّ مِنْهُمَا يُفِيدُ الْحَصْرَ قُلْنَا لَا يُعْمَلُ بِالْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ فِي الْأَدِلَّةِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ مَالِكٍ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145]- الْآيَةَ فَمَا لَا يُذْكَرُ فِي الْآيَةِ لَا يَكُونُ مُحَرَّمًا وَذُو النَّابِ وَالْمِخْلَبِ لَا يُذْكَرَانِ فِيهَا وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ لَكِنْ يُرَدُّ مِنْ طَرَفِ مَالِكٍ مُوجِبُ الْآيَةِ الْحَصْرَ عَلَى الْمَذْكُورِ فَالزِّيَادَةُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِجَائِزٍ لِأَنَّهُ نُسِخَ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْخَبَرَ الْوَاحِدَ لَا يُفِيدُ الْحَرَامَ الْقَطْعِيَّ بَلْ مَا أَفَادَهُ ظَنِّيٌّ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْكَرَاهَةِ لَعَلَّك لَا تَجِدُ مُخَلِّصًا مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِادِّعَاءِ شُهْرَةِ الْحَدِيثِ وَلَوْ مَعْنًى وَقَدْ قَالُوا الزِّيَادَةُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ إذْ يُمْكِنُ شُهْرَتُهُ إذْ فِي الزَّيْلَعِيِّ عَنْ مُسْلِمٍ وَابْنِ دَاوُد وَجَمَاعَةٍ أُخَرَ.
وَعَنْ الْبُخَارِيِّ وَعَنْ النَّوَوِيِّ أَيْضًا وَغَيْرِهِمْ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ رِوَايَةُ النَّهْيِ عَنْ ذِي نَابٍ وَمِخْلَبٍ.
لَكِنْ دَعْوَى الشُّهْرَةِ أَيْضًا فِي مِثْلِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيّ وَالْبَغْلِ وَالْيَرْبُوعِ وَابْنِ عُرْسٍ وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ وَنَحْوِهَا بَعِيدٌ إلَّا أَنْ يُدَّعَى الْقِيَاسُ فِي بَعْضِهَا وَدَلَالَةُ النَّصِّ فِي بَعْضِهَا
«وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهَدٍ» أَيْ ذِمِّيٍّ إذْ سَبَقَ مَعَهُ عَهْدُ عِصْمَةِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَاللُّقَطَةُ مَالٌ أُخِذَ مِنْ الْأَرْضِ لِلرَّدِّ إلَى صَاحِبِهِ وَالتَّفْصِيلِ فِي الْفِقْهِيَّةِ وَبِعُمُومِ هَذِهِ الْعِلَّةِ يَدْخُلُ فِيهِ مَالُ الْمُسْتَأْمَنِ وَالتَّقْيِيدِ بِالذِّمَّةِ مَعَ إنَّ الْمُسْلِمَ كَذَلِكَ لِوُضُوحِ الْأَمْرِ فِيهِ أَوْ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مَظَانُّ إبَاحَةِ مَالِهِ أَوْ لَأَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً ثُمَّ حُكْمُ أَخْذِ اللُّقَطَةِ الْوُجُوبُ إنْ خِيفَ الضَّيَاعُ وَإِلَّا فَمُسْتَحَبٌّ وَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ بِالطَّمَعِ فَالْأَفْضَلُ تَرْكُهَا وَحُكْمُ الرَّدِّ إلَى صَاحِبِهَا الْوُجُوبُ أَيْضًا إنْ أُقِيمَ بُرْهَانٌ وَإِنْ ذَكَرَ عَلَامَةً فَقَطْ فَيَجُوزُ بِلَا وُجُوبٍ وَحُكْمُ حِفْظِهَا حُكْمُ أَمَانَةٍ فَلَا يُضْمَنُ بِلَا تَعَدٍّ إنْ أَشْهَدَ.
«إلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا» أَيْ اللُّقَطَةِ «صَاحِبُهَا» لِحَقَارَتِهَا كَتَمْرَةٍ وَقِشْرِ الرُّمَّانِ وَعَلَفِ الدَّوَابِّ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا وَإِنْ وَصَلَ إلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَهَا أَبَاحَ لِكُلِّ مَنْ أَخَذَهَا فَيَحِلُّ «وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ» أَيْ صَارَ ضَيْفًا عِنْدَهُمْ «فَعَلَيْهِمْ» بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ إنْ مُضْطَرًّا وَإِلَّا فَنُدِبَ «أَنْ يَقْرُوهُ» يُضَيِّفُوهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ قَرَيْت الضَّيْفَ إذَا أَحْسَنْته فَإِنْ لَمْ يُحْسِنُوهُ فَلَهُ أَخْذٌ قَدْرِهِ الْمُتَعَارَفِ فِي مِثْلِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا مِنْ الضِّيَافَةِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يُصْرَفُ مِنْ ثَمَنِ طَعَامٍ يُشْبِعُهُ لَيْلَتَهُ
قَالَ الطِّيبِيُّ فَالضَّيْفُ يَسْتَحِقُّ لِذَاتِهِ فَالْمَنْعُ ظُلْمٌ لِعَدَمِ إعْطَاءِ حَقِّهِ لَكِنْ يُعْطَى بَدَلُهُ بَعْدَهُ وَعِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لَا يَضْمَنُ إذْ هُوَ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَبِالْجُمْلَةِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى الضَّرُورَةِ وَقِيلَ مُخْتَصٌّ بِأَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَنُسِخَ «وَلَهُ» أَيْ يَجُوزُ لَهُ «أَنْ يُعْقِبَهُمْ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَالْعُقْبَى جَزَاءُ الْأَمْرِ فَالْمَعْنَى أَنْ يُجَازِيَهُمْ عَلَى مَنْعِهِمْ حَقَّهُ.
«بِمِثْلِ قِرَاهُ» أَيْ يَأْخُذُ مِثْلَ ضِيَافَتِهِ عَلَى قَدْرِ اضْطِرَارِهِ وَقِيلَ مُخْتَصٌّ عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لِفَقْرِهِمْ ثُمَّ نُسِخَ كَمَا عَرَفْت وَلَوْ لَمْ أَكُنْ رَأَيْت عَامَّةَ شُرَّاحِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا النَّهْجِ لَقُلْت فِي شَرْحِهِ وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا كَمَا مَرَّ أَنْ يَقْرُوهُ بِالضِّيَافَةِ وَسَائِرِ مَحَاوِيجِ الضَّيْفِ وَلَهُ أَيْ لِلضَّيْفِ يَجِبُ أَوْ يَنْدُبُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ أَيْ يُكَافِئَهُمْ وَيُقَابِلَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ أَيْ ضِيَافَتِهِ وَإِكْرَامِهِ عَلَى وَفْقِ {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]-.
(دت) أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ (عَنْ أَبِي رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا أُلْفِيَنَّ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ
وَكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ لَا أَجِدَنَّ «أَحَدَكُمْ» مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لِأَجِد «مُتَّكِئًا» أَيْ مُعْتَمِدًا مَفْعُولُهُ الثَّانِي «عَلَى أَرِيكَتِهِ» سَرِيرِهِ «يَأْتِيهِ» جُمَلٌ حَالِيَّةٌ مِنْ الْفَاعِلِ أَيْ يَصِلُ إلَيْهِ «أَمْرِي» أَيْ شَأْنِي «مِمَّا أَمَرْت بِهِ أَوْ نَهَيْت عَنْهُ» صِيغَتَا مَعْلُومٌ أَوْ مَجْهُولٌ عَلَى طَرِيقِ الْخِلَافَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ لَا بَيَانٌ لِأَمْرِي «فَيَقُولَ» مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ فِي جَوَابِ النَّهْيِ أَوْ النَّفْيِ.
«لَا أَدْرِي» أَيْ أَمْرَ الرَّسُولِ يَعْنِي لَا أَعْرِفُ أَمْرَ الرَّسُولِ الَّذِي لَمْ أَجِدْهُ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى مُرِيدًا قَصْرَ الْعَمَلِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ «وَمَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَا» .
إذْ مَعْنَاهُ مَا الْتَزَمْنَا تَبَعِيَّتَهُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ لَا غَيْرُ كَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَحَاصِلُ الْحَدِيثِ لَا تَقْصُرُوا الْمُتَابَعَةَ عَلَى الْكِتَابِ بَلْ أَجْمَعُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُنَّتِي وَفِيهِ أَمْرٌ أَكِيدٌ بِمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى إذَا وَصَلَ إلَيْكُمْ أَمْرِي أَوْ نَهْيِي وَلَمْ يُوجَدْ فِي صَرِيحِ كِتَابِ اللَّهِ فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَقُولُوا لَا نَتَّبِعُ لِأَنَّ مَا لَزِمَنَا تَبَعِيَّتُهُ إنَّمَا هُوَ مَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَالِاسْتِشْهَادُ مِنْ لُزُومِ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ حَاصِلٌ بِمَا ذُكِرَ فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ لَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]- قُلْت هَذَا عَلَى وَفْقِ مَا عَدُّوا السُّنَّةَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا مُقَابِلًا لِلْكِتَابِ وَإِلَّا فَالْجَمِيعُ رَاجِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى الْكِتَابِ وَقَدْ عَرَفْت مِمَّا مَرَّ فِي مَحَلِّهِ جَوَازَ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ عِنْدَنَا فَتَأَمَّلْ (د) .
(عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه) وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ يُكَنَّى أَبَا نَجِيحٍ سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ «قَامَ فِينَا» خَطِيبًا «رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ» فِي خُطْبَتِهِ «أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ» حَالَ كَوْنِهِ «مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَظُنُّ» تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِيَحْسَب بِمُرَادِفِهِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ بَدَلَ كُلٍّ لَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ فِي مِثْلِهِ لَا يُعْتَبَرُ الْقُيُودُ وَالْمُتَعَلِّقَاتُ بَعْدَ تَمَامِ أَصْلِ الْجُمْلَةِ بِنَفْسِ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ أَوْ يُعْتَبَرُ قَيْدُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ وَإِلَّا فَلَا تَتَّحِدُ الْجُمْلَتَانِ فَلَا يَظْهَرُ صِحَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا فَتَأَمَّلْ.
«إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا» وَكَذَا لَمْ يُحِلَّ اكْتَفَى بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ الْتِزَامًا أَوْ عَلَى طَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ أَوْ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا وَاكْتَفَى بِعَدَمِ الْحُرْمَةِ لَكِنْ ذَكَرَ عَدَمَ الْحِلِّ وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَمَ الْحُرْمَةِ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحِلَّ إلَخْ فَكَأَنَّهُ كَانَ كَالِاحْتِبَاكِ.
«إلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ» حَاصِلُهُ لَا تَظُنُّوا انْحِصَارَ الْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ بِمَا فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَحْصُلُ مِنْ سُنَّتِي مُمَاثِلًا لِمَا فِي الْقُرْآنِ بَلْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ.
«أَلَا وَإِنِّي قَدْ أَمَرْت وَوَعَظْت وَنَهَيْت» عَلَى صِيَغِ الْمَعْلُومِ «عَنْ أَشْيَاءَ» قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ تَقْرِيرًا أَوْ سُكُوتًا فَهَذَا تَعْلِيلٌ أَوْ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ السَّابِقِ مِنْ عَدَمِ انْحِصَارِ الْأَحْكَامِ بِالْقُرْآنِ وَمَا يَسْبِقُ إلَى الْوَهْمِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَوْ الْمُبَيِّنَ نَفْيُ انْحِصَارِ الْحُرْمَةِ بِالْقُرْآنِ وَصَرِيحِ الْعِلَّةِ أَوْ الْبَيَانِ لَيْسَ عَلَى وَفْقِهِ بَلْ زَائِدٌ عَلَيْهِ بِمَضْمُونِ قَوْلِهِ أَمَرْت وَوَعَظْت إذْ الْحُرْمَةُ إنَّمَا هِيَ مِنْ النَّهْيِ فَالدَّلِيلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ مُسْتَدْرَكَةٍ وَالْبَيَانُ لَيْسَ عَنْ الْمُبَيَّنِ فَمَدْفُوعٌ بِمَا أُشِيرَ آنِفًا إذْ الْمَطْلُوبُ عَامٌّ لِلْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ بَلْ قَرِينَةٌ لِلْعُمُومِ فَيَخْرُجُ لَك تَأْيِيدٌ لِمَا ذُكِرَ هُنَالِكَ.
وَأَمَّا الْوَعْظُ أَيْ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ وَالتَّبْشِيرُ وَالْإِنْذَارُ فَإِنَّمَا هُوَ لِتَرْوِيجِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ «أَنَّهَا» أَيْ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا أَمْرِي وَنَهْيِي وَوَعْظِي
الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ «مِثْلُ الْقُرْآنِ» فِي الْكَمِّ وَالْعَدَدِ أَوْ فِي الْقُوَّةِ لَكِنْ لَا يَحْسُنُ مَعَ قَوْلِهِ «أَوْ أَكْثَرَ» إلَّا أَنْ تُؤَوَّلَ كَثْرَةُ الْقُوَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلْمِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ الْخَفَاءُ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ أَكْثَرُ وَالْوُضُوحُ فِي دَلَالَةِ السُّنَّةِ أَكْثَرُ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْقُرْآنِ فِي صِفَةِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فَإِنْ أَرَادَ مِنْ حَيْثُ الثُّبُوتُ فَنُسَلِّمُ ذَلِكَ إذْ الْقُرْآنُ كُلُّهُ ثَابِتٌ تَوَاتُرًا وَالْحَدِيثُ يَعِزُّ فِيهِ التَّوَاتُرُ اللَّفْظِيُّ أَوْ يَنْعَدِمُ عَلَى أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِنْ أُوجِدَ التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ لَكِنْ لَا يُفِيدُ إذْ الْكَلَامُ فِي ذَاتِ الْحَدِيثِ لَا فِي سَنَدِهِ وَطَرِيقِهِ وَإِنْ أَرَادَ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ إذْ قَدْ عَرَفْت فِيمَا مَرَّ وَفِي مَحَلِّهِ أَنَّ السُّنَّةَ تَكُونُ نَاسِخَةً لِلْقُرْآنِ نَعَمْ يُرَجَّحُ الْكِتَابُ عَلَى السُّنَّةِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا لَكِنْ هُوَ كَلَامٌ آخَرُ لَا يَضُرُّ الْمَقْصُودُ هُنَا وَبِمَا ذُكِرَ هُنَالِكَ أَمْكَنَ لَك أَنْ تَقُولَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقُوَّةِ وَالْأَكْثَرِيَّةُ فِي الْعَدَدِ فَإِنْ قِيلَ مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ مُعَارَضٌ بِمِثْلِ حَدِيثِ «فَإِذَا رُوِيَ عَنِّي حَدِيثٌ فَأَعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ وَمَا خَالَفَ فَرُدُّوهُ» .
وَحَدِيثُ الْبَيْهَقِيّ «إنَّ الْحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي فَمَا آتَاكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ عَنِّي» .
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهَا تَكُونُ بَعْدِي رُوَاةٌ يَرْوُونَ عَنِّي الْحَدِيثَ فَأَعْرِضُوا حَدِيثَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ فَمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ فَحَدِّثُوهُ وَمَا لَمْ يُوَافِقْ الْقُرْآنَ فَلَا تَأْخُذُوا بِهِ» قُلْت قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ أَنَّ مِثْلَهَا مَحْمُولٌ عَلَى حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي مَوْضُوعَاتِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي نَعْرِفُ بِهَا كَوْنَ الْحَدِيثِ مَوْضُوعًا مُخَالَفَتُهُ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ.
وَلِهَذَا كَانَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ قَطْعِيًّا كَالْخَاصِّ وَالْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّ وَالْحَدِيثُ ظَنِّيًّا ثُبُوتًا كَخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ دَلَالَةً كَالْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ بِاعْتِبَارِ الْخَفَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأُصُولِيَّةِ وَنَحْوِهَا وَبَقِيَ أَنَّهُ قِيلَ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ لِابْنِ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ لِأَنَّ عِلْمَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُكَاشَفَاتِهِ كَانَ يَزِيدُ لَحْظَةً فَلَمَّا رَأَى زِيَادَةَ عِلْمِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ أَنَّهَا مِثْلُ الْقُرْآنِ قَالَ مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ أَكْثَرَ أَيْ بَلْ أَكْثَرَ أَقُولُ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْحُكْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ لَا عَنْ عِلْمٍ فَلَا يُنَاسِبُ مَنْصِبَهُ الْعَالِيَ نَعَمْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهُ {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]- {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9]- فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ ثُمَّ التَّحْقِيقُ فِي الْأَحَادِيثِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْقُرْآنِ إنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَبِحَسَبِ نَظَرِ الْأُمَّةِ.
وَأَمَّا بِحَسَبِ التَّحْقِيقِ فَهِيَ مُفَسِّرَاتٌ لِخَفَاءِ الْقُرْآنِ، وَاطِّلَاعُهَا مُخْتَصٌّ بِمَنْ هُوَ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ وَأَمَّا الْغَيْرُ وَإِنْ وَلِيًّا صَاحِبَ كَشْفٍ أَوْ عَالِمًا صَاحِبَ اجْتِهَادٍ فَلَا يَصِلُ إلَى مَا وَصَلَ إلَيْهِ كَمَا أُشِيرَ سَابِقًا «وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى» بِالْكَسْرِ «لَمْ يُحِلَّ» مِنْ الْإِحْلَالِ «لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ» مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَذَا غَيْرُهُمَا كَالْمُشْرِكِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَوْ الْمُقَايَسَةِ لِاشْتِرَاكِ الْعِلَّةِ الْمُشَارَةِ فِي قَوْلِهِ إذَا أَعْطَوْكُمْ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مُطْلَقُ الذِّمِّيِّ بِعُمُومِ الْمَجَازِ بِتِلْكَ الْقَرِينَةِ «إلَّا بِإِذْنٍ» .
قِيلَ عَنْ عَلِيٍّ الْقَارِيّ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ إلَّا بِإِذْنِهِمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ «وَلَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ» أَيْ بِلَا إذْنٍ أَيْضًا لَعَلَّهُ تَرَكَهُ لِانْفِهَامِهِ مِنْ الْقَيْدِ السَّابِقِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إيذَاءٌ بِهِمْ وَإِيذَاؤُهُمْ لِقَبُولِ الْجِزْيَةِ كَإِيذَاءِ الْمُسْلِمِ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِذِمِّيٍّ يَا كَافِرُ يَأْثَمُ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ وَيَلْزَمُهُ التَّعْزِيرُ كَمَا فِي الْفَتَاوَى فَأَمْكَنَ لَك أَنْ تُرِيدَ بِهَا النَّهْيَ عَنْ مُطْلَقِ مَا يُؤْذِيهِمْ إذْ قَدْ يَنْتَقِلُ مِنْ عُمُومِ الْعِلَّةِ إلَى عُمُومِ الْحُكْمِ وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمَّا لِاقْتِضَاءِ حَادِثَةٍ خَاصَّةٍ فِي وُرُودِ الْحَدِيثِ أَوْ لِابْتِلَاءِ الْخَلْقِ فِي زَمَانِهِ.
فَإِنْ قِيلَ قَدْ أُمِرْنَا فِي الشَّرْعِ بِأُمُورٍ مَعَهُمْ يَلْزَمُ فِيهَا الْأَذَى بِهِمْ كَعَدَمِ إرْكَابِهِمْ دَابَّةً إلَّا حِمَارَ الضَّرُورَةِ وَعَدَمِ إلْبَاسِ الْعَمَائِمِ وَالْإِنْزَالِ فِي الْمَجَامِعِ وَالتَّضْيِيقِ فِي الْمُرُورِ وَنَحْوِهَا الْمُفَصَّلَةِ فِي الْفِقْهِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِهَانَةِ وَالْخُصُومَةِ قُلْت لَعَلَّ مِثْلَ هَذَا ثَابِتٌ بِأَدِلَّةٍ خِلَافَ الْقِيَاسِ أَوْ أَنَّ ثُبُوتَ الْأَذَى الشَّرْعِيِّ
فِي جِنْسِ مَا ذُكِرَ مَمْنُوعٌ «إذَا أَعْطَوْكُمْ الَّذِي عَلَيْهِمْ» مِنْ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ فَإِنَّهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ فِي حُرْمَةِ دِمَائِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ رَاجِعٌ إلَى مَجْمُوعِ الثَّلَاثَةِ وَمَا قِيلَ فِي الْأُصُولِيَّةِ مِنْ أَنَّ نَحْوَ الِاسْتِثْنَاءِ وَكَذَا الشَّرْطُ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخِيرَةِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَيْسَ فِي حَقِّ الْوُجُوبِ بَلْ فِي الظُّهُورِ.
قَالَ فِي التَّلْوِيحِ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ رَدِّهِ إلَى الْجَمِيعِ وَإِلَى الْأَخِيرَةِ خَاصَّةً وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الظُّهُورِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْعَوْدِ إلَى الْجَمِيعِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى التَّوَقُّفِ وَبَعْضُهُمْ إلَى التَّفْصِيلِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْعَوْدِ إلَى الْأَخِيرَةِ.
وَأَمَّا إذَا أَبَوْا عَنْهَا فَلَا تُنْقَضُ ذِمَّتُهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَتُؤْخَذُ جَبْرًا وَأَمَّا لَوْ أَبَوْا عَنْ قَبُولِهَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ كَمَا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ مُطْلَقًا فَتَجْرِي فِيهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَمَا قِيلَ أَنَّهُ إذَا أَبَوْا بَطَلَتْ ذِمَّتُهُمْ فِي قَوْلٍ فَلَيْسَ بِحَسَنٍ (م عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه) هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ مَاتَ فِي الْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَسِنُّهُ تِسْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَا رَوَى عَنْ الْحَدِيثِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا خَطَبَ» فِي الْجَمْعِيَّةِ جُمُعَةً أَوْ عِيدًا أَوْ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الْوَقَائِعِ مُطْلَقًا.
وَفِي بَعْضِ الْأُصُولِيَّةِ " إنَّ " كَانَ إذَا أُطْلِقَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ لِلدَّوَامِ أَوْ الْكَثْرَةِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الشَّأْنَ فِيهِ الْعُرْفُ فَإِنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَصْدُقَ وَلَوْ عَلَى مَرَّةٍ أَقُولُ الْأَصْلُ فِي " كَانَ " هُوَ الِاسْتِمْرَارُ سِيَّمَا إذَا قُرِنَ بِقَرِينَةِ الِاسْتِمْرَارِ كَلَفْظِ إذَا فِي إذَا خَطَبَ سِيَّمَا فِي الْخَطَابِيَّةِ كَمَا فِي كُتُبِ الْمَعَانِي وَلِهَذَا قَدْ يُقَالُ أَنَّ إذَا سُوِّرَ لِلْكُلِّيَّةِ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ إنَّ إذَا قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِمْرَارِ فِي الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ وَالْمُسْتَقْبِلَةِ نَحْوُ {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 14]- وَبِالْجُمْلَةِ الْمُتَبَادَرُ فِي أَمْثَالِهِ هُوَ الْكُلِّيَّةُ أَوْ الْأَكْثَرُ «احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ» الظَّاهِرُ حُدُوثُ الِاحْمِرَارِ فِي خُصُوصِ هَذَا الْوَقْتِ لَا احْمِرَارُهُمَا الْأَصْلِيُّ الَّذِي هُوَ غَلَبَةُ الِاحْمِرَارِ عَلَى بَيَاضِ عَيْنَيْهِ كَمَا تُوُهِّمَ وَذَا لِكَمَالِ شَجَاعَتِهِ فِي تَبْلِيغِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
«وَعَلَا صَوْتُهُ» لِتَنْفِيذِ دَعْوَتِهِ إلَى الْجَوَانِبِ «وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ» لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ خَالَفَ زَوَاجِرَهُ فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ عِيَاضٍ هَذَا شَأْنُ الْمُنْذِرِ الْمَخُوفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِنَهْيٍ خُولِفَ فِيهِ شَرْعُهُ «كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ» مُخَوِّفُهُمْ أَيْ كَمَنْ يُنْذِرُ قَوْمًا مِنْ جَيْشٍ عَظِيمٍ قَصَدُوا الْإِغَارَةَ عَلَيْهِمْ «يَقُولُ» حَالَ كَوْنِهِ يَقُولُ أَوْ صِفَةُ مُنْذِرٍ «صَبَّحَكُمْ» بِالتَّشْدِيدِ أَيْ أَدْرَكَكُمْ الْعَدُوُّ فِي الصُّبْحِ «وَمَسَّاكُمْ» أَتَاكُمْ وَقْتَ الْمَسَاءِ.
فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الطِّيبِيِّ شَبَّهَ فِي خُطْبَتِهِ وَإِنْذَارِهِ بِقُرْبِ الْقِيَامَةِ وَتَهَالُكِ النَّاسِ بِحَالِ مَنْ يُنْذِرُ قَوْمَهُ عِنْدَ غَفْلَتِهِمْ بِجَيْشٍ قَرِيبٍ يَقْصِدُ الْإِحَاطَةَ بِهِمْ بَغْتَةً بِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَكَمَا أَنَّ الْمُنْذِرَ مِنْ كَمَالِ غَيْرَتِهِ يَرْفَعُ صَوْتَهُ وَتَحْمَرُّ عَيْنَاهُ وَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ عَلَى تَغَافُلِهِمْ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْخَطِيبِ فِي أَمْرِ الْخُطْبَةِ أَنْ يَحْمَرَّ عَيْنُهُ وَيَرْفَعَ صَوْتَهُ وَيُحَرِّكَ كَلَامَهُ
وَعَنْ النَّوَوِيِّ وَلَعَلَّ اشْتِدَادَ غَضَبِهِ كَانَ عِنْدَ إنْذَارِهِ أَمْرًا عَظِيمًا وَعَنْ الْمَطَامِحِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إغْلَاظِ الْعَالِمِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ وَالْوَاعِظِ عَلَى الْمُسْتَمِعِ وَشِدَّةِ التَّخْوِيفِ أَقُولُ هَذَا عِنْدَ أَمَارَةِ الرَّدِّ وَشِدَّةِ الْإِصْرَارِ أَوْ لِبَيَانِ مُطْلَقِ الْجَوَازِ وَإِلَّا فَالرِّفْقُ وَاللِّينُ شَرْطٌ «وَيَقُولُ بُعِثْت أَنَا وَالسَّاعَةُ» أَيْ الْقِيَامَةُ «كَهَاتَيْنِ» فِي شِدَّةِ الْقُرْبِ وَبَيْنَ الرَّاوِي الْمُشَارُ إلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ بِقَوْلِهِ.
«وَيَقْرُنُ» أَيْ يَجْمَعُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَيُفَرَّقُ مِنْ التَّفْرِيقِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْوَاوِ وَاَلَّذِي لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ أَنَا وَالسَّاعَةُ وَلِلثَّانِي أَيْضًا وَجْهٌ وَالْمُعْتَمَدُ فِي مِثْلِهِ عَلَى صِحَّةِ الرِّوَايَةِ لَا مَسَاغَ لِلدِّرَايَةِ فِيهِ «بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى» قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى بَقَاءِ شَرِيعَتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِلَى عَدَمِ تَخَلُّلِ شَرِيعَةٍ أُخْرَى لِعَدَمِ تَخَلُّلِ شَيْءٍ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا أَنَّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ
مِقْدَارُ فَضْلِ الْوُسْطَى عَلَى السَّبَّابَةِ.
أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ بَلْ إلَيْهِ إشَارَةٌ وَتَنْبِيهٌ بِالْمُرَادِ «وَيَقُولُ» فِي الْخُطْبَةِ «أَمَّا بَعْدُ» قَدْ عَرَفْت فِي الدِّيبَاجَةِ أَنَّهُ فَصْلُ خِطَابٍ يُؤْتَى بِهِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَا بَعْدَ مَقْصُودٌ فِي الْكَلَامِ وَمَا قَبْلَهُ كَتَمْهِيدٍ لِمَا بَعْدَهُ.
«فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ» أَيْ كُلِّ حَدِيثٍ وَكَلَامٍ مِمَّا يُتَحَدَّثُ بِهِ «كِتَابُ اللَّهِ» الْقُرْآنُ وَقَدْ عَرَفْت وَجْهَ خَيْرِيَّتِهِ نَظْمًا وَمَعْنًى ( «وَخَيْرَ الْهَدْيِ» بِفَتْحِ الْهَاءِ جَمْعُ هَدِيَّةٍ بِمَعْنَى سِيرَةِ كَالْخَلْقِ «هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ) الْمُرَادُ مِنْ سِيرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ سُنَّتُهُ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا قَالَ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وَقِيلَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْهُدَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الدَّالِ بِمَعْنَى الْإِرْشَادِ وَالدَّلَالَةِ إلَى الْخَيْرِ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي خَيْرِيَّةَ هِدَايَةِ الْحَدِيثِ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ تَأَمَّلْ.
«وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا» الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا إشَارَةٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى إذْنِهَا أَوْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ بَلْ بَعْدَ التَّابِعِينَ فَهَذَا كَعَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ شَرَّ الْأُمُورِ فَمَا وُجِدَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا أَوْ قَوْلًا أَوْ تَقْرِيرًا أَوْ سُكُوتًا فَخَيْرُهَا «وَكُلَّ مُحْدَثٍ» أَيْ فِي الْعِبَادَةِ كَمَا فُهِمَ آنِفًا «بِدْعَةٌ» قَبِيحَةٌ عَلَى خِلَافِ الْمِلَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ «وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» خِلَافُ طَرِيقِ السُّنَّةِ.
وَبِمَا حُرِّرَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ بِنَحْوِ تَدْوِينِ عُلُومِ الشَّرْعِ وَآلَاتِهَا وَبِنَاءِ الْمَنَارَةِ وَالْمَدْرَسَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ مُرَخَّصَةٌ وَمَأْذُونَةٌ مِنْ جَانِبِ الشَّرْعِ كَمَا يُفَصَّلُ فِي مَحَلِّهِ
(تَنْبِيهٌ) : نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْقَيِّمِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْمِنْبَرِ وَالْبَعِيرِ وَلَا يَفْتَتِحُ إلَّا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَفْتَتِحُ فِي خُطْبَةِ الِاسْتِسْقَاءِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَكَثِيرًا مَا يَخْطُبُ بِالْقُرْآنِ وَيَخْطُبُ عِنْدَ كُلِّ حَاجَةٍ وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ الْعَارِضَةُ أَطْوَلَ مِنْ الرَّاتِبَةِ.
(خ) يَعْنِي خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ نِسْبَةً إلَى بُخَارَى بَلْدَةٌ مِنْ بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وُلِدَ فِيهَا وَصَارَ كَالْعَلَمِ لَهُ وَلِكِتَابِهِ وَيُقَالُ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ فِي حِفْظِ الْحَدِيثِ وَإِتْقَانِهِ وَفَهْمِ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَحِدَّةِ ذِهْنِهِ وَدِقَّةِ نَظَرِهِ وَوُفُورِ فِقْهِهِ وَكَمَالِ زُهْدِهِ وَغَايَةِ وَرَعِهِ وَكَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى طُرُقِ الْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ كَانَ فِي حِفْظِهِ مِائَةُ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ غَيْرُ صَحِيحٍ مِمَّا يُطْلِقُ السَّلَفُ عَلَيْهِ حَدِيثًا وَفِي صِبَاهُ كَانَ فِي حِفْظِهِ سَبْعُونَ أَلْفَ حَدِيثٍ وَبِنَظَرٍ وَاحِدٍ يَحْفَظُ مَا فِي الْكِتَابِ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ لَوْ قَدَرْت أَنْ أَزِيدَ مِنْ عُمْرِي فِي عُمْرِ الْبُخَارِيِّ لَفَعَلْت قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيِّ كُنْت بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ فَرَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقَالَ يَا أَبَا زَيْدٍ إلَى مَتَى تَدْرُسُ كِتَابَ الشَّافِعِيِّ وَلَا تَدْرُسُ كِتَابِي قُلْت وَمَا كِتَابُك قَالَ جَامِعُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ أَنَّهُ أُلْهِمَ طَلَبَ الْحَدِيثِ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ وَلَمَّا بَلَغَ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً رَدَّ عَلَى بَعْضِ مَشَايِخِهِ غَلَطًا وَفِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً حَفِظَ كُتُبَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَوَكِيعٌ وَعَرَفَ كَلَامَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله ارْتَحَلَ لِلْحَدِيثِ إلَى الشَّامِ وَمِصْرَ مَرَّتَيْنِ وَإِلَى الْبَصْرَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْحِجَازِ بِلَا إحْصَاءٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ مَا وَضَعْت فِي صَحِيحِي حَدِيثًا إلَّا بَعْدَ غُسْلٍ وَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ وَصَنَّفْته فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَجَعَلْته حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى وَصَنَّفْته فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا أَدْخَلْت فِيهِ حَدِيثًا إلَّا بِاسْتِخَارَةٍ وَرَكْعَتَيْنِ فَيَتَيَقَّنُ صِحَّتَهُ. وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ مَا قُرِئَ فِي شِدَّةٍ إلَّا فُرِجَتْ وَمَا رُكِبَ بِهِ فِي مَرْكَبٍ فَغَرِقَ وَأَنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ وَلَقَدْ دَعَا لِقَارِئِهِ وَيُسْتَسْقَى بِقِرَاءَتِهِ قِيلَ وَهُوَ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضٍ أَنَّهُ قَرَأَ الْبُخَارِيَّ لِمُهِمَّاتٍ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ مَرَّةً وَقَضَى حَاجَاتِهِ وَعَنْ ابْنِ خُزَيْمَةَ مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ دَائِمُ التَّصَدُّقِ لِلْفُقَرَاءِ وَالطَّلَبَةِ وَهُوَ نَفْسُهُ يَقْنَعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِلَوْزَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَقِيلَ لَمْ يَأْكُلْ الْإِدَامَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قِيلَ أَرْسَلَ إلَيْهِ الْأَمِيرُ نَائِبُ الْخِلَافَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ يَتَلَطَّفُ مَعَهُ وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالصَّحِيحِ وَيُحَدِّثَهُمْ فِي قَصْرِهِ فَامْتَنَعَ وَقَالَ لِرَسُولِهِ قُلْ لَهُ إنِّي لَا أُذِلُّ الْعِلْمَ وَلَا أَحْمِلُهُ إلَى أَبْوَابِ السَّلَاطِينِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ فَلْيَحْضُرْنِي فِي مَسْجِدِي وَقَالَ الْعِلْمُ يُؤْتَى وَلَا يَأْتِي فَرَاسِلْهُ أَنْ يَعْقِدَ مَجْلِسًا لِأَوْلَادِهِ وَلَا يَحْضُرُ غَيْرُهُمْ فَامْتَنَعَ أَيْضًا وَقَالَ لَا يَسَعُنِي أَنْ أَخُصَّ بِالسَّمَاعِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ فَاسْتَعَانَ الْأَمِيرُ بِعُلَمَاءِ بُخَارَى عَلَيْهِ حَتَّى تَكَلَّمُوا فِي مَذْهَبِهِ فَنُفِيَ عَنْ الْبَلَدِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ أَرِنِي مَا قَصَدُونِي بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ فَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ فَلَمْ يَأْتِ شَهْرٌ إلَّا أَرْكَبُوا الْأَمِيرَ عَلَى الْحِمَار فَنُودِيَ عَلَيْهِ وَحُبِسَ إلَى أَنْ مَاتَ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ سَاعَدَهُ إلَّا وَابْتُلِيَ بِبَلِيَّةٍ شَدِيدَةٍ وَتُوُفِّيَ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ بِسَمَرْقَنْدَ بِلَا وَلَدٍ ذُكِرَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً وَلَمَّا وُضِعَ فِي حُفْرَتِهِ فَاحَ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ كَالْمِسْكِ وَكَانَ يَتَوَارَدُ النَّاسُ مُدَّةً لِأَخْذِ تُرَابِهِ الْكُلُّ مُلَخَّصٌ مِنْ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ لِعَلِيٍّ الْقَارِيّ
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أُمَّتِي» ظَاهِرُ الْإِضَافَةِ الظَّاهِرَةِ فِي الِاسْتِشْرَافِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ وَبِهِ يَتِمُّ الْمَقْصُودُ الَّذِي هُوَ الِاسْتِشْهَادُ لِلِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ خِلَافًا لِمَنْ رَجَّحَ جَانِبَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ بِشَهَادَةِ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا حِينَئِذٍ دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ حِينَئِذٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ لِكَوْنِهِ مُتَّصِلًا أَيْضًا.
«يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَوْ مُطْلَقًا فَافْهَمْ «إلَّا مَنْ أَبَى» امْتَنَعَ عَنْ الْجَنَّةِ إمَّا بِتَرْكِ الطَّاعَةِ أَوْ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ فَعَلَى الْأَوَّلِ الِامْتِنَاعُ عَنْ الدُّخُولِ الْأَوَّلِيِّ وَعَلَى الثَّانِي هُوَ الْمُطْلَقُ أَوْ عَلَى الْأَوَّلِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ زِيَادَةُ تَغْلِيظٍ وَزَجْرٍ عَنْ الْمَعَاصِي لِإِيهَامِ ظَاهِرِ الصِّيغَةِ حِرْمَانَ صَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ عَنْ الْجَنَّةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِي لَفْظِ الْإِبَاءِ ذِكْرٌ لِمُسَبِّبٍ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ إذْ الْإِبَاءُ مُسَبَّبٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْإِبَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ هُوَ الِارْتِدَادُ عَلَى أَنْ يُرَادَ مَنْ أَطَاعَنِي دَامَ فِي الْإِيمَانِ بِي «قِيلَ» تَعَجُّبًا مَنْ هَذَا الْآبِي «وَمَنْ أَبَى» عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ يَعْنِي نَعْرِفُ مَنْ يَدْخُلُ وَمَنْ أَبَى مِنْهَا.
«قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي» بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ «دَخَلَ الْجَنَّةَ» مَعَ السَّابِقِينَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَوْ مُطْلَقًا «وَمَنْ عَصَانِي» بِعَدَمِ التَّصْدِيقِ أَوْ بِارْتِكَابِ الْمُنْكَرِ «فَقَدْ أَبَى» عَنْ الدُّخُولِ الْأَوَّلِيِّ أَوْ الْمُطْلَقِ عَلَى حَسَبِ إرَادَةِ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ أَوْ الدَّعْوَةِ.
قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الطِّيبِيِّ وَحَقُّ الْجَوَابِ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى فَعَدَلَ إلَى مَا ذَكَرَهُ تَنْبِيهًا بِهِ عَلَى أَنَّهُمْ مَا عَرَفُوا ذَاكَ وَلَا هَذَا إذْ التَّقْدِيرُ مَنْ أَطَاعَنِي وَتَمَسَّكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَزَالَ عَنْ الصَّوَابِ وَضَلَّ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ دَخَلَ النَّارَ فَوَضَعَ أَبَى مَوْضِعَهُ وَضْعًا لِلسَّبَبِ مَوْضِعَ الْمُسَبَّبِ وَهَذَا قَرِيبٌ إلَى مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ الْقَارِيّ أَنَّ الْعُدُولَ لِإِرَادَةِ التَّفْصِيلِ أَقُولُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ فِي الْجَوَابِ إشَارَةً إلَى أَنَّ اللَّائِقَ بِحَالِ السَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مَجْمُوعِهِمَا لَا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَإِنَّ مَعْرِفَةَ السَّائِلِ الْأُمَّةَ الدَّاخِلَةَ فِي الْجَنَّةِ كُلًّا مَعْرِفَةٌ إمَّا لِعَدَمِ عِلْمِهِ سَبَبَ الدُّخُولِ فَأَجَابَ أَنَّ سَبَبَهُ هُوَ طَاعَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْكِتَابَ أَيْ الْقُرْآنَ كَافٍ فِي الدُّخُولِ بِلَا حَاجَةٍ إلَى السُّنَّةِ فَأَجَابَ بِمَا تَرَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ إنَّمَا يَتِمُّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ مِنْ إطَاعَةِ الرَّسُولِ حَاصِلُ التَّقْرِيرِ مَثَلًا الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ إطَاعَةً لِلرَّسُولِ وَإِطَاعَةُ الرَّسُولِ مُوجِبَةٌ وَلَوْ عَادِيَّةً لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَمَا شَأْنُهُ كَذَا فَوَاجِبٌ
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ الْمَرْمُوزُ لَهُ بِقَوْلِهِ (حك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) هُوَ سَعِيدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيِّ الْخُدْرِيِّ كَانَ مِنْ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ الْعُلَمَاءِ الْفُضَلَاءِ وَأَوَّلِ مُشَاهَدِهِ الْخَنْدَقِ وَغَزَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَرَوَى أَلْفًا وَمِائَةً وَسَبْعِينَ حَدِيثًا (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا» .
قِيلَ الطَّيِّبُ هُوَ الْحَلَالُ وَقِيلَ أَخَصُّ مِنْهُ إذْ الْحَلَالُ يَصْدُقُ عَلَى مَا فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ دُونَ الطَّيِّبِ وَمَثَّلَ بِأَنَّ الْكَسْبَ الَّذِي أَخَّرَ فِيهِ الصَّلَاةَ أَوْ تَرَكَ الْجَمَاعَةَ أَوْ الزَّرْعَ الَّذِي حَمَلَ الْبَقَرُ فِيهِ فَوْقَ طَاقَتِهِ وَكَذَا مُطْلَقُ تَحْمِيلِ الدَّابَّةِ أَوْ الدَّيْنِ الَّذِي أَخَّرَ أَدَاءَهُ عَنْ وَقْتِهِ سِيَّمَا بَعْدَ طَلَبِ دَائِنِهِ حَلَالٌ لَيْسَ بِطَيِّبٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
«وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ» أَيْ جَعَلَ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ ظَرْفًا مُسْتَوْعَبًا لِعَمَلِهِ فَلَا يَخْرُجُ دَقِيقَةٌ مِنْ عَمَلِهِ عَنْ السُّنَّةِ بِلَا ابْتِدَاعٍ قَالَ الْمُنَاوِيُّ نَكَّرَهَا أَيْ السُّنَّةَ لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ سُنَّةٍ وَرَدَتْ فِيهِ «وَأَمِنَ النَّاسُ» أَيْ كُلُّ النَّاسِ وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ ذِمِّيًّا لَعَلَّ الْمُرَادَ غَيْرُ مَنْ يَلْزَمُ أَذَاهُ لِانْزِجَارِ مَعَاصِيهِ وَإِجْرَاءِ لَوَازِمِ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ «بَوَائِقَهُ» مَفْعُولُ أَمِنَ جَمْعُ بَائِقَةٍ بِمَعْنَى الدَّاهِيَةِ الْمُرَادُ الشُّرُورُ كَالظُّلْمِ وَالْإِيذَاءِ وَالْغِشِّ.
وَعَنْ الطِّيبِيِّ تَنْكِيرُ سُنَّةٍ لِإِرَادَةِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ بِحَسَبِ إفْرَادِهِ وَفَائِدَتُهُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ وَرَدَتْ فِيهِ سُنَّةٌ يَنْبَغِي رِعَايَتُهَا حَتَّى قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى انْتَهَى لَا يَخْفَى مَا فِي ظَاهِرِهِ مِنْ بَحْثٍ أُصُولِيٍّ وَأَيْضًا مَا فِي وَجْهِ دَلَالَةِ لَفْظِ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.
«دَخَلَ الْجَنَّةَ» دُخُولًا أَوَّلِيًّا عَادِيًّا وَتَفَضُّلِيًّا بِلَا إيجَابٍ بِلَا عَذَابٍ فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ السُّنَّةُ ظَرْفَ جَمِيعِ عَمَلِهِ كَانَ مِنْ السَّابِقِينَ فِي الطَّاعَةِ فَكَانَ مِنْ السَّابِقِينَ إلَى الْجَنَّةِ إذْ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا لَا يَكْتَسِبُ خَطِيئَةً مُبْعِدَةً فَالتَّقْيِيدُ بِأَنْ يَقُولَ إنْ لَمْ يَقْتَرِفْ سَيِّئَةً وَلَمْ يَتْرُكْ فَرْضًا إلَّا إنْ تَابَ وَإِلَّا فَهُوَ فِي خَطَرِ الْمَشِيئَةِ ذُهُولٌ عَنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ وَسِرُّهُ نَعَمْ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِالسُّنَّةِ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُعَذَّبُ أَوْ يُعْفَى «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا فِي أُمَّتِك الْيَوْمَ كَثِيرٌ» لِكَوْنِهِمْ خَيْرَ الْقُرُونِ وَلِسُطُوعِ نُورِ النُّبُوَّةِ وَلِعَدَمِ حُدُوثِ الْبِدَعِ.
«قَالَ وَسَيَكُونُ فِي قَوْمٍ بَعْدِي» لَمْ يَقُلْ وَكَثِيرٌ مِنْ بَعْدِي لِقِلَّتِهِمْ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» وَأَيْضًا الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ فِي قَوْمٍ يُشْعِرُ بِذَلِكَ فَتَنْكِيرُ قَوْمٍ لِلتَّقْلِيلِ وَقِيلَ لِلتَّعْظِيمِ فَإِنْ قِيلَ الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِاكْتِفَاءِ سِينِ سَيَكُونُ أَوْ قَوْلُهُ بَعْدِي قُلْت لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِشَارَةِ إلَى اسْتِمْرَارِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا يُؤَيِّدُهُ نَصُّ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] الْآيَةَ وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ إنَّ خِطَابَهُ تَعَالَى بِمِثْلِهِ فِي الْقُرْآنِ عَامٌّ لِلْحَاضِرِينَ وَقْتَ النُّزُولِ وَلِلْغَائِبِينَ الْمَوْجُودِينَ بَعْدَهُ إمَّا بِالنَّصِّ أَوْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالتَّغْلِيبِ قِيلَ عَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ فَلَا يَخْتَصُّ بِالْقَرْنِ الْأَوَّلِ بَلْ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ انْتَهَى.
(هق) (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَمَسَّكَ» أَيْ اعْتَصَمَ وَتَحَفَّظَ «بِسُنَّتِي» اعْتِقَادًا وَفِعْلًا وَقَوْلًا لَفْظُ السُّنَّةِ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ فَيَشْمَلُ الْهَدْيَ وَالرَّوَاتِبَ وَالزَّائِدَ وَالظَّاهِرُ إضَافَتُهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ إذْ لَا قَرِينَةَ لِلْعَهْدِ وَلَا دَلِيلَ لِلْجِنْسِ فَالْأَجْرُ الْمَوْعُودُ إنَّمَا هُوَ لِإِتْيَانِ الْجَمِيعِ إذْ قَدْرُ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ نَعَمْ قَوْلُهُ «عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي» يُلَائِمُ اخْتِصَاصَهُ بِسُنَّةٍ يُوجِبُ تَرْكُهَا الْفَسَادَ إلَّا إنْ اتَّسَعَ فِي الْفَسَادِ وَيَعُمُّ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْبِدَعِ إلَى ارْتِكَابِ مَكْرُوهٍ وَلَوْ تَنْزِيهًا أَوْ تَرْكِ أَوْلَى فَتَأَمَّلْ
«فَلَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ» مَقْتُولٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِإِعْزَازِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ لِأَنَّ إتْيَانَ السُّنَّةِ حِينَئِذٍ كَالْمُجَاهِدِ الْمُقَاتِلِ فِي الْغُزَاةِ وَالصَّبْرِ عَلَى إتْيَانِ السُّنَّةِ أَشَقُّ مِنْ الصَّبْرِ فِي الْمَعْرَكَةِ إذْ الْبَلِيَّةُ إذَا عَمَّتْ طَابَتْ وَإِذَا خَصَّتْ أَتْعَبَتْ وَشَقَّتْ وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ إنَّ جِهَادَ النَّفْسِ هُوَ الْجِهَادُ الْأَعْظَمُ وَفِي الْحَدِيثِ إنَّ «خَيْرَ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا وَأَجْرُكُمْ بِقَدْرِ تَعَبِكُمْ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَمْسِكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ اخْتِلَافِ أُمَّتِي كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» .
وَقَالَ «حِفْظُ الدِّينِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَالْجَمْرِ فِي الْيَدَيْنِ إنْ وَضَعَهُ طَفِئَ وَإِنْ أَمْسَكَهُ احْتَرَقَ» كَمَا حَرَّرَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي خواجه زَادَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وَعَنْ الْمَوَاهِبِ: وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْمُجَاهَدَةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْمَأْلُوفِ وَفِيهِ قَهْرُ النَّفْسِ وَالْمُحَارَبَةُ لَهَا وَالْجِهَادُ مَعَهَا جِهَادٌ أَكْبَرُ
دِيَةُ مَقْتُولِ الْخَلْقِ أَلْفُ دِينَارٍ
…
وَدِيَةُ مَقْتُولِ الْحَقِّ رُؤْيَةُ الْغَفَّارِ
ثُمَّ أَقُولُ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمِائَةِ هُوَ بَيَانُ قَدْرِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ لَا الْحَصْرِ بِهِ بَلْ قَدْ يَزِيدُ وَقَدْ لَا يَبْلُغُ عَلَى حَسَبِ تَمَسُّكِ الْمُتَمَسِّكِ وَحَالِهِ إذْ التَّمَسُّكُ يَقْتَضِي زَمَانًا مُتَمَادِيًا بِتَمَادِي الْعُمْرِ فَرُبَّ نَفْسٍ يَقْتُلُهَا صَاحِبُهَا كَثِيرًا وَرُبَّ نَفْسٍ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ أَقَلُّ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «مَنْ تَمَسَّكَ بِالسُّنَّةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ مَعَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَإِلَّا فَالْمُبْتَدِعُ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ آخِرًا ثُمَّ قَالَ عَنْ الْبِسْطَامِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ هَمَمْت أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ كِفَايَةَ مُؤْنَةِ الطَّعَامِ ثُمَّ قُلْت كَيْفَ يَجُوزُ لِي أَنْ أَسْأَلَ مَا لَمْ يَسْأَلْهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام.
وَعَنْ الدَّارَانِيِّ رُبَّمَا وَقَعَ فِي قَلْبِي نُكْتَةٌ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ أَيَّامًا فَلَا أَقْبَلُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَعَنْ الْجُنَيْدِ - قُدِّسَ سِرُّهُ - الطُّرُقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَنْ الْخَلْقِ إلَّا عَلَى مَنْ اقْتَفَى أَثَرَ الْمُصْطَفَى.
وَعَنْ ابْنِ قِوَامٍ اسْتَأْذَنْت شَيْخِي فِي الْمُضِيِّ لِوَالِدِي فَأَذِنَ وَقَالَ سَيَحْدُثُ لَك اللَّيْلَةَ أَمْرٌ عَجِيبٌ فَاثْبُتْ وَلَا تَجْزَعْ فَخَرَجْت فَسَمِعْت صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَإِذَا أَنْوَارٌ مُتَسَلْسِلَةٌ فَالْتَفَتَ عَلَى ظَهْرِي حَتَّى أَحْسَسْت بِبَرْدِهَا فَرَجَعْت فَأَخْبَرْت الشَّيْخَ فَقَالَ هَذِهِ سِلْسِلَةُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ صَحَابِيٌّ مَاتَ فِي وِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ الدِّينَ» هُوَ مِلَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ وَضْعٌ إلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ بِاخْتِيَارِهِمْ الْمَحْمُودِ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ بِالذَّاتِ «بَدَأَ» بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَيْ ابْتَدَأَ أَوْ بَدَا بِالْأَلِفِ أَيْ ظَهَرَ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ بَدَا الْأَمْرُ بُدُوًّا مِثْلُ قَعَدَ قُعُودًا أَيْ ظَهَرَ وَأَبْدَيْته أَظْهَرْته «غَرِيبًا» مُسْتَغْرَبًا يَسْتَغْرِبُ أَحْكَامَهُ كُلُّ أَحَدٍ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ وَائْتِلَافٍ بِهِ أَوْ هُوَ كَرَجُلٍ غَرِيبٍ لَا أَنِيسَ لَهُ وَلَا صَاحِبَ وَلَا حَافِظَ لَهُ وَلَا حَامِيَ يُوَاسِي أُمُورَهُ وَيَسْعَى فِي مَصَالِحِهِ «وَيَرْجِعُ غَرِيبًا» وَيَعُودُ إلَى الْغُرْبَةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَقِلُّ صَاحِبُهُ وَيَكْثُرُ مُخَالِفُهُ وَلَا يُوجَدُ نَاصِرُهُ بَلْ يُهَانُ آتِيهِ وَعَامِلُهُ فَيَصِيرُ كَالْمُسْلِمِ بَيْنَ الْكَافِرِ كَمَا فِي أَوَّلِهِ.
«فَطُوبَى» فُعْلَى مِنْ الطِّيبِ قَلَبُوا الْيَاءَ وَاوًا لِلضَّمَّةِ قَبْلَهَا وَيُفَسَّرُ بِالْجَنَّةِ وَالْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ وَالسَّلَامَةِ السَّرْمَدِيَّةِ وَالْخَصْلَةِ الْحَسَنَةِ وَغَايَةِ الْأُمْنِيَّةِ وَبِاسْمِ شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ «لِلْغُرَبَاءِ» جَمْعُ غَرِيبٍ هُوَ شَخْصٌ مُفَارِقٌ عَنْ وَطَنِهِ وَالْمُرَادُ هُنَا مَا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ» ضِدُّ الْإِفْسَادِ «مَا أَفْسَدَهُ النَّاسُ» الْعَوَامُّ الَّذِينَ رَضُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ بِإِيثَارِهِمْ مَا يَفْنَى مِنْ النِّعَمِ الْعَاجِلَةِ عَلَى مَا يَبْقَى مِنْ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ
الْآجِلَةِ.
«مِنْ بَعْدِي» مُتَعَلِّقٌ بِأَفْسَدَ «مِنْ سُنَّتِي» بَيَانٌ لِ " مَا "، وَالْإِصْلَاحُ إمَّا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالنَّصَائِحِ الْحَسَنَةِ وَالْمَوَاعِظِ الْمُسْتَحْسَنَةِ أَوْ بِالْعَمَلِ عَلَى السُّنَّةِ مُخَالِفًا لِجُمْهُورِ الْمُخَالِفِينَ أَوْ بِتَصْنِيفِ كُتُبٍ أَوْ تَدْرِيسِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِ دِينٍ وَفُسِّرَ الْغُرَبَاءُ فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» .
قَالَ شَارِحُهُ وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ يُبْغِضُهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ» وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الثَّوْرِيُّ إذَا رَأَيْت الْعَالِمَ كَثِيرَ الْأَصْدِقَاءِ فَمُخْتَلِطٌ لِأَنَّهُ لَوْ نَطَقَ بِالْحَقِّ لَأَبْغَضُوهُ (م) مُسْلِمٌ (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) هُوَ الْحَارِثِيُّ الْأَنْصَارِيُّ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا لِصِغَرِ سِنِّهِ وَشَهِدَ أُحُدًا وَأَكْثَرُ الْمَشَاهِدِ وَأَصَابَهُ سَهْمٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا أَشْهَدُ لَك يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَانْتَقَضَتْ جِرَاحَتُهُ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَلَهُ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَقِيلَ مَاتَ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ حَدِيثًا (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتُمْ أَعْلَمُ» أَكْثَرُ عِلْمًا «بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِكُمْ بِذَلِكَ وَعَدَمِ اشْتِغَالِي لِعَدَمِ قَدْرِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْحَقُ بِهِ نَقْصٌ بَلْ يَزِيدُ كَمَالًا إذْ الدُّنْيَا مَعَ مَا فِيهَا مَلْعُونَةٌ إلَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِلْمُ نَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ.
وَعِنْدَ وُقُوعِ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ هَكَذَا زَادَ الْمُنَاوِيُّ عَلَيْهِ مُشْعِرًا بِكَوْنِهِ حَدِيثًا هَكَذَا «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ مِنِّي وَأَنَا أَعْلَمُ بِأَمْرِ أُخْرَاكُمْ مِنْكُمْ» فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ إنَّمَا بُعِثُوا لِإِنْقَاذِ الْخَلَائِقِ مِنْ الشَّقَاوَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَفَوْزِهِمْ بِالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ قَالَ بَعْضُهُمْ فَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَإِنْ كَانُوا أَحْذَقَ النَّاسِ فِي أَمْرِ الْوَحْيِ وَالدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُمْ أَشْرَحُ النَّاسِ قُلُوبًا مِنْ جِهَةِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَجَمِيعُ مَا يُشَرِّعُونَهُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوَحْيِ وَلَيْسَ لِلْأَفْكَارِ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ» فِعْلًا أَوْ كَفًّا أَوْ مُطَابَقَةً وَالْتِزَامًا إذْ النَّهْيُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَمْرِ فَمَعْنَى لَا تَشْرَبْ الْخَمْرَ اُكْفُفْ عَنْهُ لَا يَخْفَى أَنَّ لَفْظَ شَيْءٍ نَكِرَةٌ فِي الْمُثْبَتِ فَخَاصٌّ وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ إذْ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ إذَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَخُذُوهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا يَعُمُّ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ إذْ الظَّرْفُ الْمُسْتَقِرُّ صِفَةٌ لِشَيْءٍ وَالْمُتَكَلِّمُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ فَالنَّبِيُّ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ «فَخُذُوا بِهِ» تَمَسَّكُوا وَاعْتَصِمُوا بِهِ فَالِاسْتِشْهَادُ حَاصِلٌ بِهِ.
(ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ» أَيْ إيمَانًا كَامِلًا وَنَفْيُ اسْمِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى نَفْيِ كَمَالِهِ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ وَيُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إذْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا مَنْ لَا يُحِبُّ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ «حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ» أَيْ مَيْلُهُ وَمَحَبَّتُهُ «تَبَعًا» تَابِعًا «لِمَا جِئْت بِهِ» مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الشَّرَائِعِ فَلَا يَخْتَارُ شَيْئًا بِلَا إذْنٍ شُرِعَ فَيَجْعَلُ هَوَاهُ تَابِعًا لِلشَّرْعِ وَلَا يَجْعَلُ الشَّرْعَ تَابِعًا لِهَوَاهُ (خ م) الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «وَاَللَّهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي» فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْقَاضِي إمَّا أُمَّةُ دَعْوَةٍ فَيَشْمَلُ الْكَافِرَ أَوْ أُمَّةُ إجَابَةٍ فَيَخُصُّ بِالْمِلَلِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.
وَعَنْ الطِّيبِيِّ فِي التَّعَدِّيَةِ بِلَفْظِ عَلَى إشَارَةٌ إلَى غَلَبَةِ الْهَلَاكِ «كَمَا أَتَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ» مِنْ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ.
وَعَنْ بَعْضِ شُرَّاحِ التِّرْمِذِيِّ الْكَافُ فِي كَمَا اسْمِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ يَضْحَكْنَ عَنْ كَالْبَرَدِ بِمَعْنَى مِثْلُ وَمَحَلُّهُ مِنْ الْإِعْرَابِ رُفِعَ لِأَنَّهُ فَاعِلُ لَيَأْتِيَن أَيْ مِثْلُ الَّذِي أَتَى «حَذْوَ» بِالنَّصْبِ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يَحْذُونَهُمْ حَذْوَ «النَّعْلِ» الْحَذْوُ الْقَطْعُ وَالتَّقْدِيرُ يُقَالُ حَذَوْت النَّعْلَ
«بِالنَّعْلِ» إذَا قَدَرَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَى صَاحِبَتِهَا لِتَكُونَا عَلَى السَّوَاءِ وَالْمَعْنَى لَيَأْتِيَن عَلَى أُمَّتِي مُخَالَفَةٌ مِثْلُ الْمُخَالَفَةِ الَّتِي أَتَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حَتَّى أَهْلَكَتْهُمْ فَتَكُونُ هَذِهِ الْأُمَّةُ تَابِعَةً آثَارَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِيمَا عَمِلُوا بِهِ فِي أَدْيَانِهِمْ وَأَحْدَثُوا فِيهَا مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ.
«حَتَّى» لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَقِيلَ ابْتِدَائِيَّةٌ «إنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى» زَنَى «أُمَّهُ عَلَانِيَةً» جِهَارًا فَهَذَا غَايَةٌ فِي الْمَعْصِيَةِ وَنِهَايَةٌ فِي الْفَضَاحَةِ وَالْقَبَاحَةِ وَقِيلَ الْمُرَادُ زَوْجَةُ الْأَبِ مُطْلَقًا أَوْ مُطْلَقُ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِرَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ فَفِيهِ نَظَرٌ إذْ الْمَصِيرُ إلَى الْمَجَازِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ وَالْمُتَعَذِّرُ هُنَا هُوَ الْمَجَازُ إذْ الْمَقْصُودُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْفَصَاحَةِ كَمَا عَرَفْت «لَكَانَ» اللَّامُ جَوَابٌ لِأَنَّ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى لَوْ كَمَا أَنَّ لَوْ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى إنْ قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الطِّيبِيِّ.
«مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ» وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي أُمَّتِي ( «وَإِنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً» بِالْكَسْرِ الشَّرِيعَةُ وَالدِّينُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ.
وَعَنْ الطِّيبِيِّ ثُمَّ اتَّسَعَتْ فِي الشَّرَائِعِ الْبَاطِلَةِ فَقِيلَ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ «وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي» الظَّاهِرُ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ وَيَحْتَمِلُ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ عَدَمُ مُلَاءَمَةِ آخِرِ الْحَدِيثِ
وَقِيلَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَنَّ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ أَكْثَرُ افْتِرَاقًا فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَدُّ عَلَيْهِ إنْ أُرِيدَ كَثْرَةُ الْأُصُولِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَإِنْ أُرِيدَ كَثْرَةُ الْفُرُوعِ فَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَقَدْ أَوْرَدَ بِهِ عَلَيْهِ وَأُجِيبَ أَنَّ الْمُرَادَ الْفُرُوعُ لَكِنْ يَكْفِي بُلُوغُهُ إلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَإِنْ تَجَاوَزَ فِي بَعْضِ حِينٍ آخَرَ «عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً» فَإِنْ قِيلَ تَفَرُّقُ بَنِي إسْرَائِيلَ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ وَتَفَرُّقُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ فَكَيْفَ أَمْرُ الْمُمَاثَلَةِ وَقَدْ قَالَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ قُلْت لَعَلَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا لَا يَرْضَى عَنْهُ فَقَطْ كَمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً فَقَدْرُ جَمِيعِ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى قَدْرِ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
«كُلُّهُمْ فِي النَّارِ» بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ وَإِنْ جَازَ عَدَمُ الدُّخُولِ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى عَفْوُهُ أَوْ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ فَيَكُونُ لِلتَّطْهِيرِ فَلَا يُخَلَّدُ وَإِنْ أُرِيدَ الدَّعْوَةُ فَالنَّارُ لِلتَّكْفِيرِ فَيُخَلَّدُ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ مِنْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ مَنْ يَكْفُرُ كَالْمُجَسِّمَةِ وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ تَفْصِيلَهُ فَيَلْزَمُ إمَّا أَنْ يُقَالَ إنْ بَلَغَ ابْتِدَاعُهُ إلَى الْكُفْرِ فَخَارِجٌ عَنْ الْإِجَابَةِ أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ مِنْ النَّارِ هُوَ الْمُطْلَقُ خُلُودًا وُجُوبًا أَوْ دُخُولًا جَوَازًا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ هَذَا مَعَ كَوْنِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَحْمَةً كَمَا حَدِيثُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» .
قُلْت الْمُرَادُ مِنْ الْأُمَّةِ الْمُجْتَهِدُ وَلَا اجْتِهَادَ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ فِي وَلَوْ سَلِمَ الِاخْتِلَافُ فَالْمُرَادُ فِي الْفُرُوعِ وَالْأَحْكَامِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ تَفْسِيرِ الْقَاضِي وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الْبَيْهَقِيّ «اخْتِلَافُ أَصْحَابِي لَكُمْ رَحْمَةٌ» وَلَا شَكَّ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ لَيْسَ إلَّا فِي الْأَحْكَامِ كَمَا نُقِلَ عَنْ السَّمْهُودِيِّ وَقِيلَ الْمُرَادُ الِاخْتِلَافُ فِي الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا خُصُوصَ لِلْأُمَّةِ بَلْ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ.
وَعَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْمَنَاصِبِ وَالدَّرَجَاتِ وَرُدَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الِاخْتِلَافِ
فَإِنْ قُلْت ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]- شَامِلٌ لِلْكُلِّ أَقُولُ يَجِبُ تَوْفِيقُ النُّصُوصِ الْمُتَعَارِضَةِ مَا أَمْكَنَ عَلَى أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا الْمُرَادُ هُوَ الِاخْتِلَافُ عَلَى الرُّسُلِ وَأَيَّدُوا بِحَدِيثِ «إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ كَثْرَةِ اخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ اخْتِلَافَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْفُرُوعِ مَغْفُورٌ لِمَنْ أَخْطَأَ بَلْ لَهُ أَجْرٌ وَلِلْمُصِيبِ أَجْرَانِ إلَّا أَنْ يُقَصِّرَ فِي الِاجْتِهَادِ بِأَنْ يُخْطِئَ مَعَ بَيِّنَةِ الْحَقِّ.
فَإِنْ قِيلَ كَوْنُ اخْتِلَافِ الْأُمَّةِ رَحْمَةً مُنَافٍ لِمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ أَنَّ مَنْ قَلَّدَ مُجْتَهِدًا مُعَيَّنًا لَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ عَنْ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْآمِدِيِّ مَنْ عَمِلَ فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ إمَامٍ لَيْسَ لَهُ الْعَمَلُ فِيهَا بِقَوْلِ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا قُلْت قَالَ الْمُنَاوِيُّ إنْ أَرَادَ الِاتِّفَاقَ الْأُصُولِيَّ فَلَا يَلْزَمُ اتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ وَالْكَلَامُ فِيهِ وَإِلَّا فَمَرْدُودٌ وَزَعْمُ الِاتِّفَاقِ بَاطِلٌ أَوْ مَفْرُوضٌ فِيمَا لَوْ بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْعَمَلِ الْأَوَّلِ مَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ حَقِيقَتِهِ ثُمَّ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الِانْتِقَالِ أَحْوَالٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَعْتَقِدَ بِهِ مَذْهَبَ الْغَيْرِ فَيَجُوزُ عَمَلُهُ بِالرَّاجِحِ الثَّانِي أَنْ لَا يَعْتَقِدَ رُجْحَانَ شَيْءٍ فَيَجُوزُ الثَّالِثُ أَنْ يَقْصِدَ الرُّخْصَةَ فِيمَا يَحْتَاجُهُ لِحَاجَةٍ لَحِقَتْهُ أَوْ ضَرُورَةٍ أَرْهَقَتْهُ فَيَجُوزُ الرَّابِعُ أَنْ يَقْصِدَ مُجَرَّدَ
التَّرَخُّصِ فَيَمْتَنِعُ لِأَنَّهُ مُسْتَتْبِعٌ لِهَوَاهُ لَا لِدِينٍ الْخَامِسُ أَنْ يَكْثُرَ ذَلِكَ وَيَجْعَلَ اتِّبَاعَ الرُّخَصِ دَيْدَنَهُ فَيَمْتَنِعُ لِمَا ذُكِرَ وَلِزِيَادَةِ فُحْشِهِ السَّادِسُ أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ مُرَكَّبَةٌ مُمْتَنِعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيَمْتَنِعُ السَّابِعُ أَنْ يَعْمَلَ بِتَقْلِيدِ الْأَوَّلِ كَحَنَفِيٍّ يَدَّعِي شُفْعَةَ جِوَارٍ فَيَأْخُذُهَا بِمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ ثُمَّ تُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيُرِيدُ تَقْلِيدَ الشَّافِعِيِّ فَيَمْتَنِعُ لِخَطَئِهِ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ مُكَلَّفٌ وَكَلَامُ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ مَصْلَحَةً دِينِيَّةً فَلَا يُمْنَعُ فِي الِانْتِقَالِ ثُمَّ قَالَ وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى مَنْعِ الِانْتِقَالِ مُطْلَقًا قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الْمُنْتَقِلُ بِاجْتِهَادٍ وَبُرْهَانٍ آثِمٌ وَيُعَزَّرُ وَبِدُونِهَا أَوْلَى وَقَدْ انْتَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ لِغَيْرِهِ كَالطَّحَاوِيِّ مِنْ الشَّافِعِيِّ إلَى الْحَنَفِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ مِنْ الْحَنَفِيِّ إلَى الشَّافِعِيِّ.
وَتَمَامُهُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَهُ لَكِنْ عَنْ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّهُ لَا نَصَّ لِأَحَدٍ فِي تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ مُعَيَّنٍ فَلِكُلٍّ أَنْ يُقَلِّدَ فِي أَيِّ مَسْأَلَةٍ لِأَيِّ مُجْتَهِدٍ وَفِي بَعْضِ أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ إذَا عَمِلَ الْعَامِّيُّ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ اتِّفَاقًا.
وَأَمَّا فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ الْمُخْتَارُ جَوَازُهُ «إلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً» قِيلَ إنْ أُرِيدَ مِنْ الِافْتِرَاقِ فِي الِاعْتِقَادِ فَقَطْ فَالْمُسْتَثْنَاةُ لَا تَدْخُلُ النَّارَ أَصْلًا مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ وَإِنْ جَازَ دُخُولُهَا النَّارَ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ وَإِنْ أُرِيدَ أَعَمُّ مِنْهُ وَمِنْ الْعَمَلِ كَمَا يَتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى إنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً إلَخْ فَلَا تَدْخُلُ النَّارَ أَصْلًا مُطْلَقًا أَقُولُ وَمِنْ الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ عَدَمُ الْعَمَلِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي النُّصُوصِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلْيُتَأَمَّلْ.
«قَالُوا مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا» أَيْ مِلَّةُ «أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» وَهِيَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَالْأَشَاعِرَةِ فَإِنْ قِيلَ كُلُّ فِرْقَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قُلْنَا ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِالدَّعْوَى بَلْ بِتَطْبِيقِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَانِنَا إنَّمَا يُمْكِنُ بِمُطَابَقَةِ صِحَاحِ الْأَحَادِيثِ كَكُتُبِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي أُجْمِعَ عَلَى وَثَاقَتِهَا كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ فَإِنْ قِيلَ فَمَا حَالُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ قُلْنَا لِاتِّحَادِ أُصُولِهِمَا لَمْ يُعَدَّ مُخَالَفَةً مُعْتَدَّةً إذْ خِلَافُ كُلِّ فِرْقَةٍ لَا يُوجِبُ تَضْلِيلَ الْأُخْرَى وَلَا تَفْسِيقَهَا فَعُدَّتَا مِلَّةً وَاحِدَةً.
وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي الْفَرْعِيَّاتِ وَإِنْ كَانَ كَثْرَةَ اخْتِلَافٍ صُورَةً لَكِنْ مُجْتَمِعَةً فِي عَدَمِ مُخَالَفَةِ الْكُلِّ كِتَابًا نَصًّا وَلَا سُنَّةً قَائِمَةً وَلَا إجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا صَحِيحًا عِنْدَهُ وَأَنَّ الْكُلَّ صَارِفٌ غَايَةَ جَهْدِهِ وَكَمَالَ وُسْعِهِ فِي إصَابَةِ السُّنَّةِ وَإِنْ أَخْطَأَ بَعْضٌ لِقُوَّةِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ وَلِهَذَا يُعْذَرُ وَيُعْفَى بَلْ يُؤْجَرُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ عَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُؤَلِّفُ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ (ت) التِّرْمِذِيُّ.
«عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -» خَادِمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِي يَا بُنَيَّ» تَصْغِيرُ ابْنٍ النِّدَاءُ لِلْإِكْرَامِ وَالْإِشْفَاقِ «إنْ قَدَرْت» إنْ اسْتَطَعْت وَالْمُرَادُ صَرْفُ غَايَةِ الْجَهْدِ «أَنْ تُصْبِحَ» أَيْ فِي صُبْحِ كُلِّ عُمْرِك «وَتُمْسِيَ» كَذَلِكَ.
«وَ» الْحَالُ ( «لَيْسَ فِي قَلْبِك غِشٌّ» بِالْكَسْرِ اسْمٌ مِنْ غَشَّهُ لَمْ يُمْحِضْهُ النُّصْحُ أَوْ أَظْهَرَ لَهُ خِلَافَ مَا أَضْمَرَ مِنْ الْقَامُوسِ «لِأَحَدٍ» التَّنْكِيرُ لِلتَّكْثِيرِ فَيَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ وَالْمُوَافِقَ وَالْمُخَالِفَ وَغَيْرَهَا وَقِيلَ الْإِنْسَانُ وَغَيْرُهُ فَفِيهِ نَظَرٌ «فَافْعَلْ» أَيْ اسْتِمْرَارُ عَدَمِ الْغِشِّ فِي الْقَلْبِ لِيَطْهُرَ الْقَلْبُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ بِالدَّنَسِ.
«ثُمَّ قَالَ يَا بُنَيَّ» تَكْرِيرُ النِّدَاءِ مَعَ تَصْغِيرِ الِابْنِ لِلِاسْتِشْفَاقِ وَأَنَّ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ مِنْ آثَارِ الشَّفَقَةِ «وَذَلِكَ» أَيْ دَوَامُ بَرَاءَةِ الْقَلْبِ مِنْ الْغِشِّ «مِنْ سُنَّتِي» بَعْضِ سُنَّتِي.
«وَمَنْ أَحَبَّ سُنَّتِي» وَالْمَحَبَّةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالْإِتْيَانِ بِهَا فَدَعْوَى الْمَحَبَّةِ بِلَا إتْيَانٍ دَعْوَى دَلَّ الْبُرْهَانُ عَلَى خِلَافِهَا إلَّا لِمَانِعٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَيَكُونُ الْمَقَامُ اسْتِدْلَالِيًّا كَالْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ وَالْحَدِيثُ الْمُعَادُ الْمُعَرَّفُ عَيْنُ الْأَوَّلِ أَصْلٌ قَدْ يَعْدِلُ عَنْهُ وَلَوْ سَلِمَ فَيَشْتَمِلُ الْكُلَّ أَيْضًا إمَّا بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ.
«فَقَدْ أَحَبَّنِي» لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحِبَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُمْكِنُ مَحَبَّةُ سُنَّتِهِ فَمَحَبَّةُ السُّنَّةِ إنَّمَا تَنْشَأُ عَنْ مَحَبَّةِ صَاحِبِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَحَبَّةَ السُّنَّةِ وَسِيلَةٌ إلَى مَحَبَّةِ صَاحِبِهَا فَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ كَمَالُ مَحَبَّتِهِ عليه الصلاة والسلام فَلْيُوَاظِبْ عَلَى سُنَّتِهِ فَيَحْصُلُ مَحَبَّتُهُ بِالِاضْطِرَارِ كَمَا قَالَ الْمَشَايِخُ
إنَّ طَرِيقَ اسْتِحْصَالِ مَحَبَّتِهِ تَعَالَى هُوَ ذِكْرُهُ فَبِكَثْرَةِ الذِّكْرِ تَحْصُلُ الْمَحَبَّةُ الْإِلَهِيَّةُ.
نُقِلَ عَنْ مَوَاهِبِ الْقَسْطَلَّانِيِّ وَمِنْ عَلَامَاتِ مَحَبَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحَبَّةُ سُنَّتِهِ وَقِرَاءَةُ حَدِيثِهِ فَإِنَّ مَنْ دَخَلَتْ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ إذَا سَمِعَ كَلِمَةً مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشَرَّبَتْهَا رُوحُهُ وَقَلْبُهُ وَنَفْسُهُ فَتَعُمُّهُ تِلْكَ الْكَلِمَةُ وَتَشْمَلُهُ فَتَصِيرُ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنْهُ وَكُلُّ ذَرَّةٍ مِنْهُ بَصَرًا فَيَسْمَعُ الْكُلَّ بِالْكُلِّ وَيُبْصِرُ الْكُلَّ بِالْكُلِّ حِينَئِذٍ يَسْتَنِيرُ الْقَلْبُ وَيَشْرَقُ سِرُّهُ وَتَتَلَاطَمُ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ التَّحْقِيقِ عِنْدَ ظُهُورِ الْبَرَاهِينِ وَيَرْتَوِي بِرِيِّ عَطْفِ مَحْبُوبِهِ الَّذِي لَا شَيْءَ أَرْوَى لِقَلْبِهِ مِنْ عَطْفِهِ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ أَشَدُّ لِلْهَيْبَةِ وَحَرِيقِهِ مِنْ إعْرَاضِهِ عَنْهُ وَلِهَذَا كَانَ عَذَابُ أَهْلِ النَّارِ بِاحْتِجَابِ رَبِّهِمْ أَشَدَّ مِنْ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ كَمَا أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ بِرُؤْيَتِهِ تَعَالَى وَسَمَاعِ خِطَابِهِ وَرِضَاهُ وَإِقْبَالِهِ أَعْظَمُ النَّعِيمِ الْجُسْمَانِيِّ.
قِيلَ عَنْ وَابْنِ مَالِكٍ فِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّ فِي مَحَبَّةِ سُنَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ سُنَّتِهِ مَحَبَّةٌ لَهُ عليه الصلاة والسلام لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ مَحَبَّةِ السُّنَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَكْفِي فِي مَحَبَّتِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَجَزِّئَةٍ فَالْوَاحِدَةُ تَسْتَلْزِمُ الْكُلَّ وَإِلَّا فَكَاذِبَةٌ «وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» لِأَنَّ «الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» كَمَا فِي الْحَدِيثِ.
وَفِي آخَرَ «مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حُشِرَ مَعَهُمْ» وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ اتِّحَادِيَّةَ الدَّرَجَةِ الْمُفَادَةِ مِنْ الْمَعِيَّةِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ الْمُرَادُ هُوَ التَّقَارُبُ وَقِيلَ لَيْسَ الْمَعِيَّةُ فِي الْمَنْزِلَةِ مُرَادَةً بَلْ الْمُرَادُ اطِّلَاعُهُ لَهُ عليه الصلاة والسلام وَكَاشِفٌ عَنْهُ مَعَ كَيْنُونَةِ كُلٍّ فِي مَنْزِلَتِهِ.
عَنْ النَّوَوِيِّ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ فِيهِ فَضْلُ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْخَيْرِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَحَبَّةِ الصَّالِحِينَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُمْ إذْ لَوْ عَمِلَهُ لَكَانَ مِنْهُمْ انْتَهَى أَقُولُ وَسَيُصَرِّحُ الْمُصَنِّفُ بِنَحْوِهِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ شَرْطِيَّةِ تَمَامِ الْعَمَلِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ التَّعْلِيلُ فَيَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ عَدَمُ إتْيَانِ الْمُحِبِّ مَا يَكْرَهُهُ الْمَحْبُوبُ وَمِنْ جُمْلَتِهِ إتْيَانُ عَمَلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى تَمَامِ قَدْرٍ وَإِلَّا فَدَعْوَى الْمَحَبَّةِ تَحَكُّمٌ وَكَذِبٌ (دز) إنْ بِزَايٍ مُعْجَمَةٍ فَالرَّمْزُ لِأَبِي دَاوُد وَالْبَزَّارِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ وَإِنْ بِرَاءٍ مُهْمَلَةٍ فَلِلدَّارِمِيِّ وَهُوَ الْأَكْثَرُ لَكِنْ حَقِيقَةُ الْحَقِّيَّةِ إنَّمَا تَظْهَرُ بِالْوِجْدَانِ فِي أَيِّهِمَا أَوْ فِي كِلَيْهِمَا (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) الظَّاهِرُ أَنَّهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ الَّذِي هُوَ ابْنُ أُخْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ أَتَاهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ إنَّا نَسْمَعُ أَحَادِيثَ» أَيْ أَخْبَارَ الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ.
«مِنْ يَهُودَ» قِيلَ عَنْ الصَّاغَانِيِّ هُوَ ابْنُ يَعْقُوبَ عليه الصلاة والسلام قَالَ فِي الْإِتْقَانِ مُعَرَّبٌ أَعْجَمِيٌّ مَنْسُوبُونَ إلَى يَهُودِ بْنِ يَعْقُوبَ وَهُمْ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْآنَ أَنَّهُمْ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَفْظَةُ يَهُودُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْقَبِيلَةِ.
وَعَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ الْأَصْلُ فِي يَهُودَ وَمَجُوسٍ أَنْ يُسْتَعْمَلَ بِغَيْرِ لَامِ التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُمَا عَلَمَانِ خَاصَّانِ لِقَبِيلَتَيْنِ انْتَهَى لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ «تُعْجِبُنَا» صِفَةُ أَحَادِيثَ أَوْ حَالٌ مِنْهَا أَيْ تَرَى تِلْكَ الْأَحَادِيثَ لَنَا حَسَنًا، لَعَلَّهُ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ «أَفَتَرَى» أَيْ أَفَتُجِيزُ مِنْ الرَّأْيِ وَمِمَّا عُدَّ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْعَاطِفِ تَنْبِيهًا عَلَى أَصَالَتِهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ مِثْلُ {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] كَمَا فِي الْإِتْقَانِ ثُمَّ الْعَطْفُ هَلْ هُوَ عَلَى مَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ أَوْ قَبْلَهَا فِيهِ خِلَافٌ أَيْ أَتَأْذَنُ لَنَا فَتَرَى ثُمَّ قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ فِي أَمْثَالِهِ زَائِدٌ لِاسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى بَعْدَ إسْقَاطِهِ.
«أَنْ نَكْتُبَ» مِنْ الْكِتَابَةِ قِيلَ أَيْ نَجْمَعَ «بَعْضَهَا» لِلِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ «فَقَالَ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ» أَيْ مُتَحَيِّرُونَ وَيُقَالُ لِلْوُقُوعِ فِي الشَّيْءِ بِقِلَّةِ مُبَالَاةٍ «كَمَا تَهَوَّكَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» جَمْعُ نَصْرَانِيٍّ وَهُمْ يَزْعُمُونَ الْآنَ أَنَّهُمْ مِنْ أُمَّةِ
عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ قِيلَ فِي تَهَوُّكِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَا سَبَقَ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ مِنْ مَضْمُونِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنْ تَفَرُّقِهِمَا إلَى الْفِرَقِ الْكَثِيرَةِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ السِّيَاقِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّهَوُّكِ مِنْ جِنْسِ عَدَمِ الْقَنَاعَةِ بِمَا فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ الْكِتَابِ وَأَنَّ التَّهَوُّكَ لَا يُلَائِمُ التَّفَرُّقَ بَلْ مُوجِبُ التَّفَرُّقِ هُوَ الْقَطْعُ وَالْحُكْمُ لَا الشَّكُّ وَالْحِيرَةُ
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّائِلَ هُوَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَطْ وَالْجَوَابُ النَّبَوِيُّ وَقَعَ لِلْجَمْعِ وَأَنَّ مَا اسْتَجَازَهُ عُمَرُ إنْ وَافَقَ الْقُرْآنَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تُعْجِبُنَا فَكَيْفَ التَّشْبِيهُ بِتَهَوُّكِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَإِنْ خَالَفَ فَكَيْفَ تُتَصَوَّرُ الِاسْتِجَازَةُ مِنْ عُمَرَ وَأَنَّ السُّؤَالَ بِمُجَرَّدِ الْيَهُودِ وَزِيدَ فِي الْجَوَابِ النَّصَارَى وَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي كُتُبِ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ كَالْغَزَالِيِّ النَّقْلُ عَنْ الْإِنْجِيلِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّات مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ
أَقُولُ لَعَلَّ الْأَوَّلَ أَنَّ السَّائِل وَإِنْ كَانَ عُمَرُ فَقَطْ لَكِنَّ سَامِعَ الْحَدِيثِ مِنْ الْيَهُودِ هُوَ الْجَمَاعَةُ كَمَا يُؤَيِّدُهُ صِيَغُ نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ وَيَجُوزُ حُضُورُ جَمَاعَةٍ عِنْدَ سُؤَالِ عُمَرَ وَلَعَلَّ الثَّانِيَ لِخَوْفِ السِّرَايَةِ إلَى الْغَيْرِ الْمَشْرُوعِ لِلتَّجَانُسِ وَلِخَوْفِ سِرَايَةِ الْأَخْذِ وَالْكِتَابَةِ لِلضُّعَفَاءِ وَالْعَوَامِّ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَمْيِيزِ مَا وَافَقَ شَرْعَنَا مِمَّا لَا يُوَافِقُهُ وَإِنَّهُ يُوجِبُ اسْتِحْسَانَ الْمِلَّةِ الْمَنْسُوخَةِ الَّتِي لَبَّسُوا فِي أَكْثَرِهَا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْأُلْفَةَ وَالْأُنْسَ وَاتِّخَاذَ الْوِلَايَةِ لِعَدُوِّ اللَّه وَعَدُوِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ الْمَيْلُ إلَى الْمَرْجُوحِ الضَّعِيفِ الْقَاصِرِ عِنْدَ وُجُودِ الرَّاجِحِ الْقَوِيِّ التَّامِّ الْكَامِلِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ التَّعْبِيرُ فِي الْجَوَابِ النَّبَوِيِّ
وَلَعَلَّ الثَّالِثَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْكَارِ وَسَدِّ طُرُقِ الِاحْتِمَالِ وَأَمَّا الرَّابِعُ فَإِمَّا يُحْمَلُ الْمَنْعُ عَلَى أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ فَبَعْدَ التَّقْوَى وَالتَّكَامُلِ لَا ضَرَرَ فِي أَخْذِ الْأَحَادِيثِ الْمُوَافِقَةِ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ لَكِنْ هَذَا مُحْتَاجٌ إلَى الرِّوَايَةِ إذْ لَا يُفِيدُ الدِّرَايَةَ وَإِمَّا يُرَدُّ عَلَى مَنْ أَتَى ذَلِكَ وَإِمَّا الْحَمْلُ عَلَى تَخْصِيصِ الْمَنْعِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ وَالنَّقْلِ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ دُونَ الْأَحْكَامِ فَبَعِيدٌ مُخَالِفٌ لِلْإِطْلَاقِ وَلَا يُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ كَمَا يُؤَيِّدُهُ قَاعِدَةُ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهَا اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَ بِهَا الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
«لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا» أَيْ بِمَعَانِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُعْجِبُكُمْ أَوْ بِبَدَلِهَا وَقِيلَ أَيْ بِالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ بِعَوْنِ الْمَقَامِ «بَيْضَاءَ» أَيْ نَقِيَّةً خَالِيَةً عَنْ التَّحْرِيفِ وَمَحْفُوظَةً عَنْ التَّغْيِيرِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَمَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الَّتِي تُعْجِبُكُمْ وَقِيلَ أَيْ مُنِيرَةٌ مُشْرِقَةٌ بِأَلْفَاظٍ فَصِيحَةٍ وَمَعَانٍ وَاضِحَةٍ وَقِيلَ سَالِمَةً عَنْ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ «نَقِيَّةً» خَالِصَةً مِنْ شَوْبِ الْخَفَاءِ وَالِالْتِبَاسِ خِلَافُ أَهْلِ الْكِتَابِ قِيلَ هُنَا نَقْلًا عَنْ الْمَوَاهِبِ الْفَتْحِيَّةِ فَإِذَا نَهَى عُمَرُ عَنْ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ كَوْنِهِ كِتَابًا إلَهِيًّا فَالنَّهْيُ عَنْ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ أَحَقُّ.
وَقَدْ غَلَبَ الِاشْتِغَالُ بِجَهَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَسَمَّوْهَا حِكْمَةً وَجَهَّلُوا مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْكَمَلَةُ وَيَعْكُفُونَ عَلَى دِرَاسَتِهَا وَلَا تَكَادُ تَلْقَى أَحَدًا مِنْهُمْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا حَدِيثًا هُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُسَمُّوا سُفَهَاءَ إذْ هُمْ أَعْدَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَهُمْ أَضَرُّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى انْتَهَى مُلَخَّصًا وَسَيُفَصَّلُ عِنْدَ تَصْرِيحِ الْمُصَنِّفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
«وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ» أَيْ مَا جَازَ لَهُ «إلَّا اتِّبَاعِي» إذْ هُوَ نَبِيُّ الْأَنْبِيَاءِ وَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ نُوَّابُهُ وَأَنَّ شَرِيعَتَهُ مَنْسُوخَةٌ كَعِيسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَدْ سَمِعْت سَابِقًا أَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ بِمُتَابَعَتِهِمْ إيَّاهُ إنْ لَقِيَهُمْ.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ قَالَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام -
لَمَّا رَأَى صِفَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَحْمَدِيَّةِ فِي التَّوْرَاةِ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْهَا فَمُجَاسَرَةُ أَمْرٍ عَظِيمٍ إذْ قَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا بِعَدَمِ جَوَازِ كَوْنِ نَبِيِّ أُمَّةٍ نَبِيَّ آخَرَ وَإِنْ الْأُمَّةَ وَلَوْ وَلِيًّا مُقَرَّبًا لَنْ تَبْلُغَ دَرَجَةَ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ لِلْكَلِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَسْتَكْمِلَ بِالْأُمِّيَّةِ وَيَسْأَلُ ذَلِكَ وَلَوْ صَحَّ سَنَدُهُ فَيَلْزَمُ تَأْوِيلُهُ أَوْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا لَا يَجُوزُ ثُبُوتُ الْمُتَشَابِهِ بِالْآحَادِ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى الْمَنْعِ عَنْ النَّظَرِ فِي مُطْلَقِ سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ وَلَوْ بِنِيَّةِ الِانْتِصَاحِ لِكَوْنِهَا مَشْحُونَةً بِالتَّحْرِيفَاتِ وَلِهَذَا جَوَّزَ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ الِاسْتِنْجَاءَ بِهَا إذَا خَلَتْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى
وَعَنْ عَلْوَانَ الْحَمَوِيِّ لَا حُرْمَةَ لِلْكُتُبِ الْمَنْسُوخَةِ وَلَا يَجُوزُ الْإِيمَانُ بِالْمُحَرَّفِ بَلْ بَالَغَ بَعْضٌ إلَى أَنْ جَوَّزَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالتَّوْرَاةِ فِي أَيْدِي الْيَهُودِ وَفِيهِ نَظَرٌ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ تَحْرِيفُهُ بِالْكُفْرِيَّاتِ انْتَهَى.
وَعَنْ شَمْسِ الدِّينِ الْمَيْدَانِيِّ وَهُوَ الْحَقُّ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ وَاجِبُ الِاحْتِرَامِ وَالشَّكُّ الطَّارِئُ لَا يَرْفَعُ ذَلِكَ الِاحْتِرَامَ بَلْ الْمُحَرَّفُ أَقَلُّهَا وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ لَعَلَّ لِهَذَا كُرِهَ قِرَاءَةُ التَّوْرَاةِ لِلْجُنُبِ احْتِرَامًا وَقِيلَ عَنْ بَعْضٍ أَنَّهُ دَخَلَ الْكَنِيسَةَ وَاسْتَهَانَ التَّوْرَاةَ حَتَّى بَصَقَ فِيهَا ثُمَّ لَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْكُبُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ حَتَّى مَاتَ أَقْبَحَ مَيْتَةٍ حَتَّى أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَجُوزُ إهَانَةُ تِلْكَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَنْسُوخَةِ وَلَا قِرَاءَتُهَا وَلَا مُطَالَعَتُهَا (حذر) أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبَزَّارُ.
(عَنْ مُجَاهِدٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بْنِ جَبْرٍ التَّابِعِيِّ (أَنَّهُ قَالَ «كُنَّا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي سَفَرٍ فَمَرَّ بِمَكَانٍ فَحَادَ» بِالْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ أَعْرَضَ وَمَالَ «عَنْهُ» أَيْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ حَادَ يَحِيدُ إذَا مَالَ وَأَعْرَضَ عَنْ الشَّيْءِ «فَسُئِلَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «لِمَ فَعَلْت ذَلِكَ» الْإِعْرَاضَ «قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ» اتِّبَاعًا لَهُ وَهَذَا مِنْ زِيَادَةِ مُتَابَعَتِهِ لَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَمِثْلُ هَذِهِ السُّنَّةِ الْعَادِيَّةِ يُقَالُ لَهَا السُّنَّةُ الزَّائِدَةُ قِيلَ لَا حَرَجَ فِي فِعْلِ هَذِهِ السُّنَّةِ بَلْ فِعْلُهَا حَسَنٌ وَتَرْكُهَا مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ كَكَوْنِ تَرْكِ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ قَرِيبًا إلَى الْحَرَامِ وَمُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ حِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ تَنَلْهُ شَفَاعَتِي» .
كَذَا فِي التَّوْضِيحِ وَالتَّلْوِيحِ فَمَا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ تَرْكَ سُنَّةِ الْهُدَى يُوجِبُ كَرَاهَةً كَالْجَمَاعَةِ لَا تَرْكَ سُنَّةِ الزَّوَائِدِ كَسِيَرِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لِبَاسِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ لَا مُطْلَقِ الْكَرَاهَةِ وَإِنْ أَوْهَمَهُ إطْلَاقُ النَّفْيِ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ التَّنْزِيهِيَّ مَا لَا يُمْنَعُ عَنْ فِعْلِهِ لَكِنْ تَرْكُهُ أَوْلَى فَكُلُّ شَيْءٍ تَرْكُهُ أَوْلَى فَتَنْزِيهٌ فَفِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ
فَإِنْ قِيلَ مَحَلُّ الِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْأَثَرِ إمَّا مِنْ حَيْثُ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ حَيْثُ مُتَابَعَةُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَالْأَوَّلُ قَالُوا إنَّ فِعْلَهُ الْمُطْلَقَ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عِنْدَ بَعْضٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ أَوْ زَلَّةٌ وَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ الْإِبَاحَةُ وَعِنْدَ الْبَعْضِ الِاتِّبَاعُ وَظَاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ السُّنَنِ الزَّوَائِدِ لَا يُوجِبُ الِاتِّبَاعَ فَلَا يُفِيدُ لُزُومَ الِاعْتِصَامِ وَالتَّمَسُّكَ عَلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ فَلَا يَصْلُحُ لَأَنْ يُحْتَجَّ بِهِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ إتْيَانَ صَحَابِيٍّ سُنَّةً مِنْ الزَّوَائِدِ لَا يُوجِبُ إتْيَانَ الْغَيْرِ لَا فِي حَقِّ هَذَا الْمَحَلِّ وَلَا فِي الْجَمِيعِ وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَسْأَلَةِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ تَقْلِيدُهُ وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ كَالْبَرْذَعِيِّ وَالرَّازِيِّ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ كَالْكَرْخِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ إلَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ قُلْنَا لَعَلَّ الْمَطْلُوبَ مُطْلَقُ الِاعْتِصَامِ الشَّامِلِ لِلْأَوْلَى وَهَذَا الْأَثَرُ دَلِيلٌ لَهُ بِحَسَبِ هَذَا الِاعْتِبَارِ وَتَحْرِيضٌ عَلَى اتِّبَاعِ مُطْلَقِ السُّنَّةِ (ز) الْبَزَّارُ.
«عَنْ) عَبْدِ اللَّهِ (بْنِ عُمَرَ» - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَانَ شَدِيدَ الِاتِّبَاعِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي شَجَرَةً بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَيَقِيلُ تَحْتَهَا» مِنْ الْقَيْلُولَةِ أَيْ يَنَامُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَقْتَ قَيْلُولَةٍ وَالنَّوْمُ فِي هَذَا الْوَقْتِ نُدِبَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ وَبِالْقَيْلُولَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ»
أَيْ مِنْ التَّهَجُّدِ وَنَحْوِهِ مِنْ ذِكْرٍ وَقِرَاءَةٍ فَإِنَّ النَّفْسَ إذَا أَخَذَتْ حَظَّهَا مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ اسْتَقْبَلَتْ السَّهَرَ بِنَشَاطٍ وَقُوَّةِ انْبِسَاطٍ فَوَجْهُ النَّدْبِ هُوَ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ فَنَوْمُ الْعَالِمِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الْجَاهِلِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ «وَيُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ» الظَّاهِرُ مِنْ كَانَ هُوَ الْكَثْرَةُ «يَفْعَلُ ذَلِكَ» وَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ السُّنَّةِ الْعَادِيَّةِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمَطْلُوبِ كَمَا سَمِعْت الِاهْتِمَامُ وَالِالْتِزَامُ عَلَى إتْيَانِ جَمِيعِ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى مُتَابَعَتِهِ عليه الصلاة والسلام
وَرُوِيَ عَنْ الْبَيْهَقِيّ «أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ إذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا أَجْدَرُ أَنْ لَا يَزِيدَ فِيهِ وَلَا يُنْقِصَ مِنْهُ وَيَتَّبِعَ لِأَوَامِرِهِ مِنْ ابْنِ عُمَرَ» فِي حَدِيثٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَتَّبِعُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآثَارَهُ وَحَالَهُ وَيَهْتَمُّ بِهِ حَتَّى كَانَ قَدْ خِيفَ عَلَى عَقْلِهِ مِنْ اهْتِمَامِهِ بِذَلِكَ (م) مُسْلِمٌ.
(عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ رَغِبَ» أَعْرَضَ «عَنْ سُنَّتِي» لِاتِّبَاعِ هَوًى وَمَيْلِ نَفْسٍ وَتَرْجِيحِ بَاطِلٍ وَإِيثَارِ لَذَّةٍ فَانِيَةٍ عَاجِلَةٍ عَلَى بَاقِيَةٍ آجِلَةٍ دَائِمَةٍ وَالسُّنَّةُ الطَّرِيقَةُ وَالسِّيرَةُ أَقْوَالًا أَوْ أَفْعَالًا «فَلَيْسَ مِنِّي» أَيْ مِنْ مِلَّتِي وَدِينِي أَوْ مِنْ أُمَّتِي الْكَامِلَةِ أَوْ فَلَيْسَ لَهُ شَفَاعَةٌ مِنِّي قِيلَ فَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهَا مُعْتَقِدًا لَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ فَاسِقٌ وَإِنْ لَمْ يَرَهَا حَقًّا وَتَهَاوَنَ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ لَا يَخْفَى أَنَّ تَارِكَ السُّنَّةِ مُعْتَقِدًا سُنِّيَّتَهَا لَا يَكُونُ فَاسِقًا لَا سِيَّمَا السُّنَّةَ الْمُطْلَقَةَ الشَّامِلَةَ لِلزَّوَائِدِ وَأَنَّ مُعْتَقِدَ عَدَمِ حَقِّيَّةِ السُّنَّةِ إنَّمَا يَكْفُرُ إنْ مُتَوَاتِرًا فَلَعَلَّ الْكُفْرَ إمَّا فِي التَّوَاتُرِ مُطْلَقًا أَوْ فِي الِاسْتِهَانَةِ وَالِاسْتِحْقَارِ إنْ اعْتَرَفَ سُنِّيَّتَهَا ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ السُّنَّةِ إمَّا مَا ثَبَتَ بِمُطْلَقِ السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِمَعْنَى مُطْلَقِ النَّدْبِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُقَابِلِ لِلْوُجُوبِ وَنَحْوِهِ وَالظَّاهِرُ الْمُطْلَقُ الشَّامِل لَهُمَا (حب) ابْنُ حِبَّانَ
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ آخِرُهُ وَبِعَلَامَةِ وَاوٍ بَعْدَ رَاءٍ عُمَرَ فِي بَعْضِهَا فَعَلَى الثَّانِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعَلَى الْأَوَّلِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
(أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِكُلِّ عَمَلٍ» خَيْرًا وَشَرًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا «شِرَّةٌ» بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ نَشَاطٌ وَرَغْبَةٌ وَالظَّاهِرُ الْمُرَادُ الشَّوْقُ وَالنَّشَاطُ فِي قَصْدِ الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ التَّرْجِيحُ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ الدَّاعِي لِإِتْيَانِهِ.
«وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ» بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فُتُورٌ وَضَعْفٌ وَسُكُونٌ بَعْدَ حِدَّةٍ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ غَلَبَ نَشَاطُهُ إلَى شَيْءٍ مُطْلَقًا لَا بُدَّ وَأَنْ يَضْعُفَ مِنْهُ لِعَدَمِ عِلْمٍ وَغَفْلَةٍ لِمَا فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ فَلَوْ عَلِمَ كَمَالًا وَلَوْ شَرًّا وَضُرًّا فِي نَفْسِهِ أَقْبَلْت عَلَيْهِ وَأَقْدَمْت وَلَا تَنْدَفِعُ بِدُونِ رَأْيِ وَجْهٍ مِنْ النَّقْصِ.
«فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ» أَيْ فُتُورُهُ «إلَى سُنَّتِي» بِتَرْكِ الْإِقْبَالِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِالِاشْتِغَالِ إلَى السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ «فَقَدْ اهْتَدَى» يَعْنِي مَنْ كَانَ فُتُورُهُ عَنْ كُلِّ أَعْمَالٍ لِلدُّخُولِ إلَى السُّنَّةِ أَوْ كَانَ ضَعْفُهُ وَعِيُّهُ لِأَجْلِ كَوْنِ حَالِهِ وَعَمَلِهِ مِنْ سُنَّةٍ إلَى سُنَّةٍ فَقَدْ اهْتَدَى أَيْ فَازَ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ «وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ» أَيْ فُتُورُهُ وَضَعْفُ طَلَبِهِ مِنْ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ «إلَى غَيْرِ ذَلِكَ» أَيْ غَيْرِ السُّنَّةِ كَالْبِدْعَةِ فَقَدْ هَلَكَ بِالضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْحَسْرَةِ فِي الْآخِرَةِ.
(طك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (حب) وَابْنُ حِبَّانَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ فَالْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ (حك) وَالْحَاكِمُ (عَنْ عَائِشَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «سِتَّةٌ» صَحَّ كَوْنُهَا مُبْتَدَأً لِوَصْفٍ مُقَدَّرٍ أَوْ لِمُضَافٍ إلَيْهِ «لَعَنْتُهُمْ»
اللَّعْنُ الطَّرْدُ وَالْبُعْدُ عَنْ الرَّحْمَةِ ضِدُّ الرَّحْمَةِ «وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ» فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَا وَاوٍ.
فَقَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْقَاضِي لَمْ يَعْطِفْهُ عَلَى جُمْلَةِ مَا قَبْلَهُ إمَّا لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَمَا قَبْلَهُ خَبَرٌ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ عِبَارَةً عَمَّا قَبْلَهُ فِي الْمَعْنَى بِأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ هِيَ لَعْنَةُ رَسُولِهِ وَبِالْعَكْسِ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ اللَّعْنُ عَلَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ كَإِبْلِيسَ.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَلْعَنْهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ لَعْنُهُمْ كَمَا فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلنَّوَوِيِّ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» .
وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا» وَفِيهِ أَيْضًا «لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد «إنَّ الْعَبْدَ إذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتْ اللَّعْنَةُ إلَى السَّمَاءِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا ثُمَّ تَهْبِطُ إلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إلَى الَّذِي لَعَنَ إنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ وَإِلَّا رَجَعَتْ إلَى قَائِلِهَا» هَذَا الْمُعَيَّنِ وَأَمَّا لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ لِأَصْحَابِ الْمَعَاصِي فَجَائِزٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]-
وَمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْته أَوْ سَبَبْته فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا» وَفِي رِوَايَةٍ «أَوْ جَلَدْته فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً» وَنَحْوَهُمَا فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَكَذَا السَّبُّ وَاللَّعْنُ لِحَدِيثِ «فَأَيَّمَا أَحَدٍ دَعَوْت عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ فَاجْعَلْهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً» فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الدُّعَاءُ عَلَى أَحَدٍ بِلَا اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام أُجِيبَ تَارَةً يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ أَهْلًا فِي الظَّاهِرِ وَتَارَةً أَنَّ نَحْوَ السَّبِّ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ جَارٍ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِ تَرِبَتْ يَمِينُك وَلَا كَبُرَتْ سِنُّك فَيُخَافُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إجَابَتِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِيهَامِ فَيَتَدَارَكُ بِدَعْوَةٍ نَحْوِ الْقُرْبَةِ وَالْكَفَّارَةِ
«وَ» لَعَنَ «كُلُّ نَبِيٍّ» وَقَدْ كَانَ شَأْنُهُمْ «مُجَابُ الدَّعْوَةِ» لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مُجَابٌ لَا بَعْضٌ مِنْهُمْ فَالْوَصْفُ لَا لِلتَّخْصِيصِ بَلْ نَحْوُ التَّوْضِيحِ فَمَا قِيلَ إنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ عَطْفٌ عَلَى سِتَّةٌ لَعَنْتهمْ أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَعَنْتهمْ وَلَا يَصِحُّ عَطْفُ كُلُّ عَلَى فَاعِلِ لَعَنْتهمْ وَمُجَابُ صِفَةٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ كَوْنُ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَ مُجَابِ الدَّعْوَةِ.
ذَكَرَهُ الْقَاضِي فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا قِيلَ قَوْلُهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إمَّا إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَإِمَّا إنْشَاءُ اللَّعْنِ أَيْ الدُّعَاءِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْوَاوُ اسْتِئْنَافٌ وَيُنَاسِبُهُ الْإِخْبَارُ بَعْدَهُ بِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مُجَابُ الدَّعْوَةِ وَقَوْلُهُ كُلُّ نَبِيٍّ إمَّا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَعَنْتهمْ أَوْ عَطْفٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ مُجَابُ الدَّعْوَةِ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ الْأَوَّلُ مِنْ السِّتَّةِ «الزَّائِدُ» الَّذِي زَادَ «فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» يَعْنِي الْقُرْآنَ مَا لَيْسَ مِنْهُ نَظْمًا أَوْ خَطًّا أَوْ مَعْنًى أَوْ كَيْفِيَّةً وَأَدَاءً كُلُّ ذَلِكَ عَمْدًا وَكَذَا إدْخَالُ مَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً أَوْ اكْتِفَاءً
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ بِالسُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقِيَاسِ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْكِتَابِ وَمَأْخُوذَةٌ مِنْهُ أَوْ دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى كَوْنِ كُلٍّ مِنْهَا حُجَّةً وَيَدْخُلُ فِيهِ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ غَيْرِ مُحَافَظٍ فِيهِ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ وَلَوَازِمَ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ» وَمِنْ هَاهُنَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ لَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِأَحَدٍ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَدِيبًا مُتَّسِعًا فِي مَعْرِفَةِ الْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ إلَّا بِرِوَايَةٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ جَامِعًا لِلْعُلُومِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُفَسِّرُ إلَيْهَا كَاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ وَعُلُومِ الْبَيَانِ وَالْقِرَاءَاتِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَأَسْبَابِ النُّزُولِ وَالْقَصَصِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالْفِقْهِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُبَيِّنَةِ لِتَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبْهَمِ وَالْخَامِسَ عَشَرَ عِلْمُ الْمَوْهِبَةِ الَّذِي يُورِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ حَدِيثُ «مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» وَسَيُفَصَّلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقِيلَ مَعْنَى الزِّيَادَةِ هُوَ التَّأْوِيلُ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ لِتَرْوِيجِ هَوَاهُ وَبِدْعَتِهِ
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَيُحْتَمَلُ سِيَاقُهُ وَسِيَاقُهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلشَّرْعِ فَمُرَخَّصٌ
«وَ» الثَّانِي «الْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللَّهِ» تَعَالَى وَقَضَائِهِ أَيْ مُنْكِرُهُ مِنْ كَذَّبَ بِالْأَمْرِ تَكْذِيبًا أَنْكَرَهُ كَالْقَدَرِيَّةِ الْمُنْكِرِينَ كَوْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِقَضَائِهِ تَعَالَى بَلْ يَقُولُونَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ بِدُونِ مَدْخَلٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ» كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» الْحَدِيثَ.
«وَ» الثَّالِثُ «الْمُتَسَلِّطُ» مِنْ التَّسْلِيطِ وَهُوَ الْإِطْلَاقُ وَالسَّلِيطُ الشَّدِيدُ وَاللِّسَانُ الطَّوِيلُ وَالطَّوِيلُ اللِّسَانِ وَقَدْ سَلُطَ كَكَرُمَ وَسَمِعَ سَلَاطَةً وَسُلُوطَةً بِالضَّمِّ كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَالْمَعْنَى الْمُطْلِقُ قَهْرَهُ وَقُدْرَتَهُ أَوْ الْمُطْلِقُ لِسَانَهُ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ «عَلَى أُمَّتِي» الْإِجَابَةِ وَالْمُعَاهَدِينَ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ «بِالْجَبَرُوتِ» بِالْبَاطِلِ وَالْغُرُورِ هُوَ فَعَلُوتٌ مِنْ الْجَبْرِ لِلْمُبَالَغَةِ كَالْعَظَمُوتِ مِنْ الْعَظَمَةِ أَيْ الَّذِي يَتَسَلَّطُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ الظَّلَمَةِ وَالْجَبَابِرَةِ «لِيُذِلَّ مَنْ أَعَزَّ اللَّهُ تَعَالَى» بِعِلْمٍ أَوْ دِينٍ أَوْ صَلَاحٍ بِدُنْيَا كَمَالٍ حَلَالٍ وَصَنْعَةٍ وَحُسْنِ خُلُقٍ «وَيُعِزَّ مَنْ أَذَلَّ اللَّهُ» تَعَالَى بِنَحْوِ الْجَهْلِ وَالْفِسْقِ وَالْفَسَادِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَيَدْخُلُ فِيهِ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ «وَ» الرَّابِعُ «الْمُسْتَحِلُّ» الْمُسْتَبِيحُ «لِحَرَمِ اللَّهِ» بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ أَيْ حَرَمِ مَكَّةَ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَضَمُّ الْحَاءِ عَلَى أَنَّهَا جَمْعُ حُرْمَةٍ تَصْحِيفٌ يَعْنِي مَنْ فَعَلَ فِي حَرَمِ اللَّهِ مَا يَحْرُمُ فِعْلُهُ كَاصْطِيَادٍ وَنَحْوِهِ وَاسْتَغْرَبَهُ الْمُنَاوِيُّ وَقَالَ إنَّ الضَّمَّ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَعَمَّ قَالَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ كَمَا قَالَ وَلَمْ يَثْبُتْ كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَشَرْحِهِ لِلْمُنَاوِيِّ لَكِنْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُسْتَحِلُّ حُرْمَةَ اللَّهِ وَفَسَّرَهُ أَيْ يَسْتَحِلُّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَيَعْتَقِدُ حِلَّهُ فَلِذَلِكَ كَافِرٌ ثُمَّ مِقْدَارُ حَرَمِ مَكَّةَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ وَمِنْ الْجَانِبِ الثَّانِي اثْنَا عَشَرَ مِيلًا وَمِنْ الثَّالِثِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ.
وَمِنْ الرَّابِعِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَذَكَرَ أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ أُخْرِجَ مِنْ الْجَنَّةِ وَلَهُ ضَوْءٌ فَكُلُّ مَوْضِعٍ بَلَغَ ضَوْءُهُ كَانَ حَرَمًا مُحْتَرَمًا فَوَجَبَ تَعْظِيمُهُ أَبْلَغَ وَجْهٍ «وَ» الْخَامِسُ «الْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي» بِالْكَسْرِ نَسْلُ الرَّجُلِ وَرَهْطُهُ أَوْ عَشِيرَتُهُ الْأَدْنَوْنَ مِمَّنْ مَضَى وَمَنْ سَيَأْتِي قِيلَ وَالْمَعْنَى مِنْ ذُرِّيَّتِي وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِي الثَّابِتِ نَسَبُهُمْ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ أَوْ الشُّهْرَةِ أَوْ حُكْمِ الْحَاكِمِ كَأَنْ صَارَ وَاقِعَةً شَرْعِيَّةً وَثَبَتَتْ بِالْبَيِّنَةِ وَإِلَّا فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى الظَّنِّ «مَا» قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ ظَنًّا «حَرَّمَ اللَّهُ» .
أَيْ حَكَمَ اللَّهُ بِحُرْمَتِهِ يَعْنِي مَنْ فَعَلَ بِأَقَارِبِي مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ مِنْ إيذَائِهِمْ أَوْ تَرْكِ
تَعْظِيمِهِمْ فَإِنْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ فَكَافِرٌ خَصَّهُمَا بِاللَّعْنِ لِتَأْكِيدِ حَقِّ الْحَرَمِ وَالْعِتْرَةِ وَعِظَمِ قَدْرِهِمَا بِإِضَافَتِهِمَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَذَا الْمُنَاوِيُّ وَقِيلَ يَدْخُلُ فِيهِ الْقَاذِفُ لَهُمْ وَالشَّاتِمُ وَاَلَّذِي ظَنَّ بِهِمْ سُوءًا أَوْ اغْتَابَهُمْ أَوْ ظَلَمَهُمْ وَغَيْرَهَا فَإِثْمُهُ أَبْلَغُ مِنْ إثْمِ مَنْ فَعَلَ بِغَيْرِهِمْ حَيْثُ تَأَذَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَذَاهُمْ وَلِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ مَرْجِعُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَأَكْثَرُ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تُعْرَفُ مِنْ قِبَلِهِمْ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]«وَ» السَّادِسُ «التَّارِكُ لِسُنَّتِي» الَّذِي يَتْرُكُ سُنَّتِي.
قَالَ الْمُنَاوِيِّ بِأَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ تَرَكَ بَعْضَهَا اسْتِخْفَافًا أَوْ قِلَّةَ احْتِفَالٍ بِهَا وَالْمُرَادُ بِاللَّعْنِ الْإِبْعَادُ عَنْ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ فَإِنَّ مَنْ قَامَ فِي مَعْصِيَتِهِ بَعِيدٌ عَنْهُمَا.
وَقِيلَ نَقْلًا عَنْ التَّوْفِيقِ الَّذِي يَتْرُكُ سُنَنَ الْهُدَى عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَرَغْبَةً عَنْهَا وَاسْتِخْفَافًا فَهُوَ مَلْعُونٌ فَيَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَالْعِتَابَ وَقِيلَ يَكْفُرُ فَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ انْتَهَى يُشِيرُ كَلَامُ الْمُنَاوِيِّ إلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ سُنَّةٍ لَا يَكُونُ مَعْصِيَةً مُوجِبَةً لِلْإِبْعَادِ عَنْ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَظَاهِرٌ أَنَّ تَرْكَ سُنَّةٍ وَاحِدَةٍ مُوجِبٌ لِإِبْعَادِ خَيْرٍ مَنُوطٍ بِتِلْكَ السُّنَّةِ وَكَذَا الرَّحْمَةُ وَإِنْ تَرَكَ السُّنَّةَ اسْتِخْفَافًا لَيْسَ بِكُفْرٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كُفْرٌ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الْإِبْعَادِ عَنْ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ مَا يَعُمُّ الْكُفْرَ وَبِهِ يَظْهَرُ الْمَنْقُولُ عَنْ التَّوْفِيقِ إذْ اسْتِخْفَافُ السُّنَّةِ بِلَا تَأْوِيلٍ كُفْرٌ وَالْكَلَامُ فِيمَا أُقِرَّتْ سُنِّيَّتُهُ.
وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ إذْ مَا كَانَ ثُبُوتُهَا قَطْعًا كَالتَّوَاتُرِ فَمُنْكِرُهَا كَافِرٌ وَمَا كَانَ ثُبُوتُهَا شُهْرَةً فَمُفَسَّقٌ وَمَا كَانَ آحَادًا فَإِنْ وُجِدَتْ شُرُوطُ الرِّوَايَةِ مِنْ نَحْوِ الْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ وَالْمَعْرُوفِ فِيهِ فَمُلْحَقٌ بِالشُّهْرَةِ وَإِلَّا فَلَا يُوجِبُ الْعِقَابَ وَالْعِتَابَ فَلْيُتَأَمَّلْ (خ م) الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أَنَّهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤْمِنُ» إيمَانًا كَامِلًا كَمَا نُقِلَ عَنْ فَتْحِ الْبَارِي أَوْ إيمَانًا صَحِيحًا كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ الْمُرَادُ بِنَفْيِهِ نَفْيُ بُلُوغِ حَقِيقَتِهِ وَنِهَايَتِهِ مِنْ قَبِيلِ خَبَرِ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» «أَحَدُكُمْ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَخُصُّوا بِالْخِطَابِ لِأَنَّهُمْ الْمَوْجُودُونَ إذْ ذَاكَ وَالْحُكْمُ عَامٌّ «حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ» غَايَةً لِنَفْيِ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَمَنْ كَمُلَ إيمَانُهُ عَلِمَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِتَرْجِيحِ حُبِّهِ عَلَى حُبِّ كُلٍّ «مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» وَلَفْظُ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ» الْمَقْصُودُ قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ وَتَقْدِيمُ الْوَلَدِ لِمَزِيدِ الشَّفَقَةِ إذْ كُلُّ أَحَدٍ لَهُ وَالِدٌ وَلَا عَكْسَ وَتَخْصِيصُهُمَا لِأَنَّهُمَا أَعَزُّ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَالِ بَلْ عِنْدَ الْبَعْضِ وَمِنْ نَفْسِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ النَّفْسَ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَشَمِلَ لَفْظُ الْوَالِدِ الْأُمَّ أَوْ لِلدَّلَالَةِ أَوْ الْمُقَايَسَةِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ عَنْ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ بِالْآخَرِ وَعُطِفَ عَلَيْهِ عَطْفَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ قَوْلُهُ «وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» حُبًّا اخْتِيَارِيًّا إيثَارًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ رُجْحَانَهُ مِنْ حُبِّهِ احْتِرَامًا وَإِجْلَالًا وَإِنْ كَانَ حُبُّ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ مَرْكُوزًا فِي غَرِيزَتِهِ فَسَقَطَ اسْتِشْكَالُهُ بِأَنَّ الْمَحَبَّةَ أَمْرٌ غَرِيزِيٌّ لَا يَدْخُلُهُ الِاخْتِيَارُ فَكَيْفَ يُكَلَّفُ بِهِ إذْ الْمُرَادُ حُبُّ الِاخْتِيَارِ الْمُسْتَنِدُ إلَى الْإِيمَانِ فَمَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُؤْثِرَ رِضَايَ عَلَى هَوَى وَالِدَيْهِ وَأَوْلَادِهِ.
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَمَحَبَّةُ الرَّسُولِ إرَادَةُ طَاعَتِهِ وَتَرْكُ مُخَالَفَتِهِ وَهُوَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ وَالْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ أَصْنَافَ الْمَحَبَّةِ الثَّلَاثَةِ مَحَبَّةُ إجْلَالٍ كَمَحَبَّةِ الْوَالِدِ وَالْعُلَمَاءِ وَمَحَبَّةُ رَحْمَةٍ وَإِشْفَاقٍ كَمَحَبَّةِ الْوَلَدِ وَمَحَبَّةُ مُشَاكَلَةٍ كَمَحَبَّةِ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةً رَاجِحَةً عَلَى ذَلِكَ كَمَحَبَّةِ النَّاسِ أَجْمَعِينَ وَشَاهِدُ صِدْقِ ذَلِكَ بَذْلُ النَّفْسِ فِي رِضَا الْمَحْبُوبِ وَإِيثَارُهُ عَلَى كُلِّ مَصْحُوبٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِي الْحَدِيثِ تَلْمِيحٌ إلَى قَضِيَّةِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَالْمُطْمَئِنَّةِ فَمَنْ رَجَّحَ جَانِبَ الْمُطْمَئِنَّةِ كَانَ حُبُّهُ لِنَبِيِّهِ رَاجِحًا وَمَنْ رَجَّحَ الْأَمَّارَةَ كَانَ بِالْعَكْسِ.
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ أَحَبَّ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بِمَعْنَى