المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أغراض حذف المسند إليه: - بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة - جـ ١

[عبد المتعال الصعيدي]

الفصل: ‌أغراض حذف المسند إليه:

‌الباب الثاني: القول في أحوال المسند إليه

‌أغراض حذف المسند إليه:

أما حذفه: فإما لمجرد الاختصار1 والاحتراز عن العبث بناء2 على الظاهر.

وإما لذلك مع ضيق المقام3.

وإما لتخييل4 أن في تركه تعويلا على شهادة العقل، وفي ذكره تعويلا على شهادة اللفظ من حيث الظاهر، وكم بين الشهادتين!

وإما لاختبار تنبه السامع له عند القرينة5، أو مقدار تنبهه6.

1 الحذف: هو حال المسند إليه، وكذا ما سيأتي من الذكر والتعريف والتنكير والتقديم والتأخير، ومجرد الاختصار وما عُطف عليه هي الأحوال الداعية إلى الحذف، وهذا يقال في الحذف مما يأتي، وهذه الأحوال تسمى أغراضا أيضا.

والاختصار غرض مطرد في الحذف؛ فتارة يكون وحده، وتارة يكون مع غيره من أغراض الحذف، وحذف المسند إليه يشمل حذف المبتدأ وحذف الفاعل مع إنابة المفعول عنه.

2 بناء: حال من العبث، أي: حال كون العبث مبنيا على الظاهر بأن تكون هناك قرينة تدل على المحذوف؛ لأنه لا يصح حذفه من غير قرينة تدل عليه، وظاهره أن الاختصار والاحتراز عن العبث غرضان لا ينفصل أحدهما عن الآخر.

3 ضيق المقام قد يكون بسبب شعر أو ضجر أو خوف فوات فرصة أو نحو ذلك.

4 إنما قال: "تخييل"؛ لأن الدال حقيقة عند الحذف هو اللفظ المدلول عليه بالقرينة، وهذه نكتة فلسفية أتى بها السكاكي في أغراض الحذف، وليست في شيء من البلاغة العربية.

5 هذا كأن يزورك رجلان سبقت لأحدهما صحبة لك، فتقول لمن معك:"وَفِيّ" تريد: الصاحب وَفِيّ.

6 هذا كأن يزورك رجلان أحدهما أقدم صحبة من الآخر، فتقول لمن معك:"جدير بالإحسان" تريد: الأقدم صحبة جدير بالإحسان، والفرق بين هذا وما قبله أن اختيار مقدار التنبه لا يكون إلا في القرائن الخفية. وهذا الغرض بقسميه من تكلفاتهم أيضا.

ص: 69

وإما لإيهام أن في تركه تطهيرا له عن لسانك، أو تطهيرا للسانك عنه1.

وإما ليكون لك سبيل إلى الإنكار إن مست إليه حاجة2.

وإما لأن الخبر لا يصلح إلا له، حقيقة أو ادعاء3.

وإما لاعتبار آخر مناسب لا يهتدي إلى مثله إلا العقل السليم والطبع المستقيم4، كقول الشاعر "من الخفيف":

قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل

سهر دائم وحزن طويل5

1 قيل: إن لفظ "إيهام" هنا لا داعي إليه، وكذلك لفظ "تخييل" فيما سبق؛ لأن ذلك يقع حقيقة لا تخييلا ولا إيهاما، والأول كقولك:"خاتم الأنبياء" أي: محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني سيأتي في أمثلة الإيضاح.

2 هذا كقولك: "فاجر" تريد رجلا معروفا، فلا تذكره لتقول عند الحاجة ما أردته.

3 الأول كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9]، والثاني كقولك:"وَهّاب الألوف" تريد كريما، لا تذكره ادعاء لتعينه وشهرته.

4 من ذلك تعجيل المسرة أو المساءة كقولك للسائل: "دينار". ومنه المحافظة على وزن أو سجع؛ كقولهم: "من طابت سريرته حمدت سيرته". فلو قيل: "حمد الناس سيرته" لفات السجع، وإني أرى أن هذا غرض يراعى من أجل محسن بديعي، فلا يفوت بتركه إلا ذلك المحسن، ولا يكون مقامه في البلاغة كغيره، وقد ذكر بعضهم من أغراض الحذف اتباع الاستعمال الوارد على تركه، كما في قولهم:"رمية من غير رام" أو على ترك نظائره؛ كالرفع على المدح أو الذم في النعت المقطوع، واعتُرض عليه بأن الحذف في ذلك ليس لأغراض بلاغية، وإنما يرجع إلى اقتضاء العربية له، وأجيب بأن هذا الحذف مع وجوبه عربية لا يصار إليه إلا لغرض بلاغي يقتضيه، وهو جواب ظاهر الضعف؛ لأنه لا معنى لتوقف الحذف على الغرض البلاغي مع وجوبه في ذاته؛ إذ لا بد منه، وجد هذا الغرض أو لم يوجد.

5 لا يعلم قائله، والشاهد في قوله:"عليل"؛ لأن التقدير: أنا عليل، وفي قوله:"سهر دائم"؛ لأن التقدير: حالي سهر دائم، والحذف فيه للاختصار والاحتراز عن العبث مع ضيق المقام بسبب الضجر والشعر.

ص: 70

وقوله "من الطويل":

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي

أيادي لم تُمْنَن وإن هي جلت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت1

وقوله "من الطويل":

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

نجوم سماء كلما انقض كوكب

بدا كوكب تأوي إليه كواكبه2

وقول بعض العرب في ابن عم له موسر، سأله، فمنعه، وقال: كم أعطيك مالي وأنت تنفقه فيما لا يعنيك، والله لا أعطينّك. فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم وهو فيهم، فشكاه إلى القوم وذمه، فوثب إليه ابن عمه فلطمه، فأنشأ يقول "من الطويل":

سريع إلى ابن العم يلطم وجهه

وليس إلى داعي الندى بسريع

1 هما لعبد الله بن الزبير الأسدي في مدح عمرو بن عثمان بن عفان، وقيل: إنهما لإبراهيم بن العباس الصولي، وقيل غير هذا في نسبتهما، وأيادي بدل اشتمال من عمرو، والتقدير: أيادي له، وهي جمع أيدي بمعنى النعم، وأيدي جمع يد، وقوله:"لم تمنن" معناه لم تقطع أو لم تخلط بمنة، وقوله:"إذا النعل زلت" كناية عن نزول الشر، وزلت بمعنى زلقت. والشاهد في قوله:"فتى"؛ لأن التقدير هو فتى، والحذف فيه للاختصار والاحتراز عن العبث مع ضيق المقام بسبب الشعر، وقد قيل: إنه لصون المحذوف عن لسان المادح، وقيل: إنه لادعاء تعينه، وكلاهما ضعيف؛ لأنه صرح باسمه قبله.

2 قيل: إنهما لحنظلة بن الشرفي، المعروف بأبي الطمحان القيني، وقيل: للقيط بن زرارة في مدح "بني لأم" من طيئ، وهو الصحيح، وكان في أسر بجير بن أوس الطائي فأطلقه فمدحه بذلك. والجزع: خرز فيه بياض وسواد، والشاهد في قوله:"نجوم سماء"؛ لأن التقدير: هم نجوم سماء، والحذف فيه للاختصار والاحتراز عن العبث مع ضيق المقام بسبب الشعر، وقيل: إنه لصون المحذوف عن لسان المادح. هذا، وبعضهم يأخذ على البيت الأول ما فيه من المبالغة التي جاوزت الحد، وبعضهم يعجب به ويقول: هو أمدح بيت قيل في الجاهلية.

ص: 71

حريص على الدنيا مضيع لدينه

وليس لما في بيته بمضيع1

وعليه قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 10، 11] ، وقيام القرينة شرط في الجميع2.

أغراض ذكر المسند إليه:

وأما ذكره؛ فإما لأنه الأصل، ولا مقتضي للحذف3.

1 هما للمغيرة بن عبد الله، المعروف بالأقيشر الأسدي. والندى: الكرم.

والشاهد في قوله: "سريع إلى ابن العم"؛ لأن التقدير: هو سريع، والحذف فيه لصون اللسان عن المحذوف مع الاختصار والاحتراز عن العبث.

2 أي: في جميع أغراض الحذف؛ لأنه لا يصح الحذف إلا معه، واعتبار البلاغة إنما يكون بعد اعتبار الصحة، وقد يغني عن هذا قوله فيما سبق:"بناء على الظاهر".

هذا، وقد ترك أمثلة حذف المسند إليه الفاعل مع إنابة المفعول عنه، ومن ذلك هذه الأمثلة:

-

سُبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها

مُنعنا بها من جيئة وذهوب "الطويل"

-

نبئت أن أبا قابوس أوعدني

ولا قرار على زأر من الأسد "البسيط"

-

أسرت وما صحبي بعُزل لدى الوغى

ولا فرسي مهر ولا ربه غمر "الطويل"

-

لئن كنت قد بلغت عني خيانة

لمبلغك الواشي أغش وأكذب "الطويل"

والحذف في الأول للعلم بالمحذوف، وفي الثاني للخوف عليه، وفي الثالث لضيق المقام، وفي الرابع لاحتقار المحذوف.

3 إنما قدم أغراض الحذف على أغراض الذكر؛ لأن الأولى أهم في البلاغة من الثانية، والذكر الذي يُبحث عن أغراضه هو الذي يصح الاستغناء عنه لوجود القرينة، فوجودها شرط في الذكر كما هو شرط في الحذف؛ لأنه مع فقدها يتعين الذكر، وإنما يُبحث في هذا العلم عن الأغراض المرجحة كما سبق. وقد اعتُرض على هذا الغرض بأنه مع وجود القرينة يكون مقتضى الحذف موجودا، ويكون الأصل الحذف، لا الذكر، وأجيب بأنه يريد لا مقتضى الحذف في قصد المتكلم وإن كان موجودا في نفسه. وإني أرى أنه متى وجدت القرينة يتعين الحذف بلاغة، ولا يصح الذكر لمثل هذا الغرض؛ فالأولى الاقتصار على ما بعده. وقيل: إن مراده أن الذكر هو الأصل عند فقد القرينة؛ ويكون ما بعده من الأغراض عند وجودها، ولا يخفى ضعف هذا الجواب أيضا.

ص: 72

وإما للاحتياط لضعف التعويل على القرينة1. وإما للتنبيه على غباوة السامع2. وإما لزيادة الإيضاح والتقرير3. وإما لإظهار تعظيمه أو إهانته كما في بعض الأسامي المحمودة أو المذمومة4. وإما للتبرك بذكره5. وإما لاستلذاذه6. وإما لبسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب؛ كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {هِيَ عَصَايَ} [طه: 18] ؛ ولهذا زاد على الجواب7. وإما لنحو ذلك8.

1 هذا عند خفاء القرينة؛ كما تقول: "من حضر ومن سافر؟ " فيقال: "الذي حضر زيد، والذي سافر عمرو"، ولا يقال: زيد وعمرو؛ لأن السامع قد يجهل تعيين ذلك من السؤال.

2 هذا عند ظهور القرينة، كما تقول: من حضر؟ فيقال: "الذي حضر زيد".

3 نحو قول الشاعر "من الوافر":

وقد علم القبائل من معد

إذا قُبَب بأبطحها بُنينا

بأنا المطعمون إذا قدرنا

وأنا المهلكون إذا ابتُلينا

وأنا المانعون لما أردنا

وأنا النازلون بحيث شينا

وأنا التاركون إذا سخطنا

وأنا الآخذون إذا رضينا

4 الأول نحو: "أمير المؤمنين حاضر"، والثاني نحو:"السارق اللئيم حاضر" جوابا لمن سأل عنهما.

5 كقولك لمن سألك: هل الله يرضى هذا؟ الله يرضاه.

6 نحو قول الشاعر "من البسيط":

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاي منكن أم ليلى من البشر

7 فقال: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ، وكل هذا لأن الكلام مع رب العزة، وإصغاء المخاطب في مثل هذا مطلوب للمتكلم، والإصغاء محال على الله تعالى، ولكن كلامه يجري على أساليب العربية، بقطع النظر عن كونه كلامه.

وقد يطلب بسط الكلام لغير ذلك من مقامات المدح والرثاء والفخر ونحوها؛ كقول الشاعر "من الوافر":

فعباس يصد الخطب عنا

وعباس يجير من استجارا

8 كالتسجيل على السامع حتى لا يتأتى له الإنكار، ومنه قول الفرزدق في علي بن الحسين رضي الله عنهما حين أنكر هشام بن عبد الملك معرفته "من البسيط":

هذا ابن خير عباد الله كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العَلَم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجده أنبياء الله قد خُتموا

ص: 73

قال السكاكي1: "وإما لكون الخبر عام النسبة إلى كل مسند إليه، والمراد تخصيصه بمعين2؛ كقولك: "زيد جاء، وعمرو ذهب، وخالد في الدار" وقوله "من الكامل":

الله أنجح ما طلبت به

والبر خير حقيبة الرحل3

وقوله "من الكامل":

النفس راغبة إذا رغبتها

وإذا تُرد إلى قليل تقنع"4

وفيه نظر؛ لأنه إن قامت قرينة تدل عليه إن حُذف، فعموم الخبر وإرادة تخصيصه بمعين وحدهما لا يقتضيان ذكره، وإلا فيكون ذكره واجبا5.

1 المفتاح ص95.

2 أي: ذكر مسند إليه خاص يسند إليه الخبر، فلا يريد بالتخصيص قصر الخبر عليه؛ لأنه لا قصر فيما ذكره من الأمثلة، وقيل: إنه يريد به القصر على ما سيأتي في تقديم المسند إليه. ورُدّ بأن هذا خلاف مذهب السكاكي؛ لأنه يرى أن المبتدأ إذا كان اسما ظاهرا لا يفيد القصر كما سيأتي.

3 هو لامرئ القيس بن حندج بن حجر، واختار صاحب الأغاني أنه لامرئ القيس بن عابس. وأنجح: أفعل تفضيل من: "أنجح الله طلبته" على مذهب سيبويه في تجويز بنائه من المزيد، و"ما" في قوله:"ما طلبت به" نكرة موصوفة، بمعنى شيء، والبر: الطاعة، والحقيبة: ما يوضع فيه الزاد ونحوه، والرحل: الرحيل.

4 هو لخويلد بن خالد، المعروف بأبي ذؤيب الهذلي، وقوله: رغبتها بمعنى: أطمعتها. ورواية الجمهرة: "والنفس" بالواو.

5 أجيب عن هذا النظر بأنه لا مانع من أن يكون ذكره لعدم القرينة وللتخصيص بمعين معا، ولا يخفى ضعف هذا الجواب؛ لما سبق من وجوب القرينة في الذكر، كالحذف.

ص: 74