المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الباب الثالث: القول في أحوال المسند ‌ ‌حذف المسند: أغراض الحذف: أما تركه - بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة - جـ ١

[عبد المتعال الصعيدي]

الفصل: ‌ ‌الباب الثالث: القول في أحوال المسند ‌ ‌حذف المسند: أغراض الحذف: أما تركه

‌الباب الثالث: القول في أحوال المسند

‌حذف المسند:

أغراض الحذف: أما تركه فلنحو ما سبق في باب المسند إليه1.

من تخييل العدول إلى أقوى الدليلين.

ومن اختبار تنبه السامع عند قيام القرينة، أو مقدار تنبهه.

ومن الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر2؛ إما مع ضيق المقام كقوله:

فإني وقَيَّار بها لغريب3

أي: وقيار كذلك4. وكقوله "من المنسرح":

1 أي: في الكلام على حذفه، والتعبير بالترك هنا بدل "الحذف" هناك من التفنن في العبارة.

2 كان الأحسن أن يذكر هذا الغرض في أول الأغراض؛ ليجعله مطردا في جميعها كما صنع في حذف المسند إليه.

3 هو لضابئ بن الحارث البرجمي من قوله "من الطويل":

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيار بها لغريب

وكان عثمان رضي الله عنه حبسه في المدينة لهجائه قوما في شعره، والرحل: المنزل والمأوى، وقيار: اسم فرسه أو غلامه، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما بعد الفاء عليه، وتقديره:"فقد حسنت حاله وساءت حالي".

4 فهو من عطف الجمل، ولا يصح جعل "قيار" معطوفا على محل اسم "إن"؛ لامتناع العطف على محل اسمها قبل مضي خبرها، ولا يصح أن يكون "غريب" خبرا عن "قيار" والمحذوف خبر "إن" لاقترانه بلام الابتداء، وخبر المبتدأ لا يقترن بها في الفصيح إلا إذا كان منسوخا. وضيق المقام في البيت بسبب الشعر والسجن.

ص: 155

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راضٍ والرأي مختلف1

أي: نحن بما عندنا راضون. وكقول أبي الطيب "من الكامل":

قالت وقد رأت اصفراري: من به؟

وتَنَهّدتْ، فأجبتها: المتنهِّد2

أي: المتنهد هو المطالَب به3، دون: المطالب به هو المتنهد، إن فسر بمن المطالب به؟ لأن مطلوب السائلة -على هذا- الحكم على شخص معين بأنه المطالب به ليتعين عندها، لا الحكم على المطالب به بالتعيين، وقيل: معناه من فعل به؟ فيكون التقدير: فعل به المتنهد4.

وإما بدون الضيق، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] على وجه؛ أي: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، ويجوز أن يكون جملة واحدة، وتوحيد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله، فكانا في حكم مَرضِيّ

1 هو لعمرو بن امرئ القيس الخزرجي، أو لقيس بن الخطيم، وقبله "من المنسرح":

يا مال والسيد المعمم قد

يُبطره بعض الرأي والسَّرَف

يخاطب مالك بن العجلان حين رد قضاءه في واقعة للأوس والخزرج، مال: ترخيم مالك، وأراد بـ "والرأي مختلف" أن يتبع كل منهما رأيه على اختلافهما؛ لرضا كل منهما برأيه، وعدم انقياده لصاحبه. وضيق المقام هنا بسبب الشعر، وعدم استعداد المخاطَب لقبول الكلام، وقد حذف في هذا البيت من الأول لدلالة الثاني، على عكس البيت السابق.

2 هو لأحمد بن الحسين المعروف بأبي الطيب المتنبي. وقد عنى اصفراره مما يلقاه من حبها، وقوله:"به" متعلق بمحذوف تقديره المطالب، وقوله:"وتنهدت" يعني به أنها تنهدت لما رأته من اصفراره.

3 فيكون من حذف المسند لا المسند إليه. وقد أجاز السكاكي كلا من التقديرين؛ لأنه إذا جُعلت "من" مبتدأ على مذهب سيبويه والمحذوف خبرا، فالأحسن أن يقدر:"المتنهد هو المطالب به"؛ ليطابق الجواب السؤال، وإذا جعلتَ "من" خبرا مقدما فالأحسن أن يقدر:"المطالب به هو المتنهد" ليطابق الجواب السؤال أيضا.

4 هو من حذف المسند أيضا، ولكنه "فعلَ" على هذا التقدير.

ص: 156

واحد؛ كقولنا: "إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني"1، وكقولك:"زيد منطلق وعمرو" أي: وعمرو كذلك، وعليه قوله تعالى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي: واللائي لم يحضن مثلهن، وقولك:"وخرجت فإذا زيد"2، وقولك لمن قال: هل لك أحد، إن الناس إِلب عليك:"إن زيدا وإن عمرا" أي: إن لي زيدا وإن لي عمرا3. وعليه قوله:

إن محلا وإن مرتحلا4

أي: إن لنا محلا في الدنيا، وإن لنا مرتحلا عنها إلى الآخرة. وقوله تعالى:{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} 5 [الإسراء: 100] تقديره: "لو تملكون تملكون

" مكررا لفائدة التأكيد، فأُضمر "تملك" الأول إضمارا على شريطة التفسير، وأُبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل وهو "أنتم"؛ لسقوط ما يتصل به

1 فإفراد الضمير فيه؛ لأن إحسانه وإجماله بمعنى واحد.

2 أي: موجود أو حاضر أو بالباب أو ما أشبه ذلك، والحذف هنا لإتباع الاستعمال مع الاختصار والاحتراز عن العبث؛ لأنه يطرد حذف المسند إليه بعد "إذا" الفجائية؛ لأنها تدل على مطلق وجود، وقد توجد معها قرائن تدل على نوع خصوصية؛ كلفظ الخروج في المثال.

3 الحذف فيه أيضا لإتباع الاستعمال مع الاختصار والاحتراز عن العبث؛ لأنه يطرد حذف المسند مع تكرير "إن" وتعدد اسمها.

4 هو لميمون بن قيس، المعروف بالأعشى من قوله "من المنسرح":

إن محلا وإن مرتحلا

وإن في السفر إذ مضوا مهلا

محلا ومرتحلا: مصدران ميميان بمعنى الحلول والارتحال، والسفر: اسم جمع بمعنى المسافرين وقد أراد بهم الموتى، والمهل: مصدر بمعنى الإمهال وطول الغيبة. والمعنى: إن في غيبة الموتى طولا وبعدا؛ لأنهم مضوا مضيا لا رجوع معه إلى الدنيا. وروي: "إذ مضوا مثلا" والحذف هنا لإتباع الاستعمال وضيق المقام مع الاختصار والاحتراز عن العبث.

5 هذا من حذف المسند إلى الفاعل.

ص: 157

من اللفظ؛ فـ "أنتم" فاعل الفعل المضمر، و"تملكون" تفسيره. قال الزمخشري: هذا ما يقتضيه علم الإعراب، فأما ما يقتضيه علم البيان1 فهو أن {أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون بالشحّ المتبالغ2. ونحوه قول حاتم:"لو ذات سوار لطمتْني"3، وقول المتلمس:

ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي4

وذلك لأن الفعل الأول5 لما سقط لأجل المفسِّر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر.

وكقوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] أي: كمن لم يزين له سوء عمله. والمعنى: أفمن زين له سوء عمله من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما

1 يعني بعلم البيان ما يشمل علم المعاني.

2 رُدّ هذا على الزمخشري بأن الاختصاص إنما يكون في الجملة الاسمية التي يُقدَّم فيها المسند إليه على خبره الفعلي كما سبق، وما هنا ليس كذلك؛ لأنه من الجملة الفعلية، وبأنه على تسليم ذلك يكون معناه: لو اختصصتم بملك تلك الخزائن لأمسكتم، هذا لا يقتضي اختصاصهم بالشح، وإنما يقتضي ذلك أن يقال:"أنتم لو تملكون ذلك لأمسكتم".

3 رواه الأصمعي: "لو غير ذات سوار لطمتني" على أن حاتما مر ببلاد عنزة، فناداه أسير لهم: يا أبا سفانة، أكلني الإسار والقمل، ولم يكن مع حاتم شيء، فساومهم به. ثم قال: أطلقوه واجعلوا يدي في القيد مكانه، ففعلوا، ثم جاءته امرأة ببعير ليفصده، فنحره، فلطمته، فقال لها ذلك القول؛ يعني أنه لا يقتص من النساء. وقيل: إن التي ضربته كانت أمة لهم، فقال لها:"لو ذات سوار لطمتني" يعني حرة من النساء، وهو أظهر لتأنيث الفعل.

4 هو لجرير بن عبد المسيح، المعروف بالمتلمس من قوله "من الطويل":

ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي

جعلت لهم فوق العَرانين مِيسما

والعرانين: جمع عرنين وهو الأنف كله أو ما صلب منه، والميسم: العلامة، وهو على تقدير: ولو أراد غير إخواني

إلخ.

5 في قوله تعالى: {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} [الإسراء: 100] ، وهذا تعليل لإفادة الاختصاص.

ص: 158

-الذين كفروا، والذين آمنوا- كمن لم يزين له سوء عمله؟ ثم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له ذلك قال: لا، فقيل:{فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] . وقيل: المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرات؟ فحذف الجواب1 لدلالة: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أو "المعنى": أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله؟ فحذف لدلالة: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .

وأما قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]، وقوله تعالى:{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور: 1]، وقوله:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53] فكل منها يحتمل الأمرين: حذف المسند إليه، وحذف المسند؛ أي: فأمري صبر جميل، أو: فصبر جميل أجمل2، و: هذه سورة أنزلناها، أو: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، و: أمركم أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها، أو: طاعتكم طاعة معروفة، أي: بأنها بالقول دون الفعل، أو: طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة.

ومما يحتمل الوجهين قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} [النساء: 171] قيل: التقدير: ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة، ورد بأنه تقرير لثبوت "آلهة"؛ لأن النفي إنما يكون للمعنى المستفاد من الخبر دون معنى المبتدأ، كما تقول:"ليس أمراؤنا ثلاثة" فإنك

1 على هذا تكون "مَنْ" شرطية.

2 أي: من الصبر الذي ليس بجميل بأن يكون معه شكاية، ولكنه مع هذا خير من عدمه، فيصح تفضيل الصبر الجميل عليه.

ص: 159

تنفي به أن تكون عدة الأمراء ثلاثة، دون أن تكون لكم أمراء، وذلك1 إشراك، مع أن قوله تعالى بعده:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يناقضه.

والوجه: أن {ثَلَاثَةٌ} صفة مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف مميزه، لا خبر مبتدأ، والتقدير:"ولا تقولوا لنا -أو في الوجود- آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة"2 ثم حُذف الخبر كما حُذف من "لا إله إلا الله"، و"ما من إله إلا الله"، ثم حذف الموصوف أو المميز كما يحذفان في غير هذا الموضع؛ فيكون النهي عن إثبات الوجود لآلهة، وهذا ليس فيه تقرير لثبوت إلهين، مع أن ما بعده أعني قوله:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ينفي ذلك، فيحصل النهي عن الإشراك والتوحيد من غير تناقض؛ ولهذا يصح أن يتبع نفي الاثنين فيقال:"ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان"؛ لأنه كقولنا: "ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان" وهذا صحيح، ولا يصلح أن يقال على التقدير الأول:"ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة، ولا اثنان"؛ لأنه كقولنا: "ليست آلهتنا ثلاثة ولا اثنين" وهذا فاسد، ويجوز أن يقدر:"ولا تقولوا: الله والمسيح وأمه ثلاثة3؛ أي: لا تعبدوهما كما تعبدونه"؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] فيكون المعنى "ثلاثة مستوون في الصفة والرتبة"؛ فإنه قد استقر في العرف أنه إذا أريد إلحاق اثنين بواحد في وصف وأنهما شبيهان له أن يقال: "هم ثلاثة"، كما يقال إذا أريد إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه: هما اثنان.

واعلم أن الحذف لا بد له من قرينة؛ كوقوع الكلام جوابا عن سؤال: إما

1 أي: تقرير ثبوت "آلهة".

2 التقدير الأول على أنها صفة مبتدأ، والثاني على أنها مبتدأ محذوف مميزه.

3 فيكون من حذف المسند إليه، والمعنى صحيح بخلاف التقدير الذي أبطله، وقد أُجيب عنه بأن السالبة تحتمل نفي موضوعها كما تحتمل نفي محمولها وحده، فيكون المعنى عليه محتملا لنفي الثلاثة والاثنين أيضا، ولكن الحمل على هذا نادر.

ص: 160

محقق1 كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وقوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63] ، وإما مقدر، نحو:

ليُبْكَ يزيد ضارع لخصومة2

وقراءة من قرأ: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ} [النور: 36] وقوله: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 3] ببناء الفعل "يسبَّح، ويوحَى" للمفعول3. وفضل هذا التركيب على خلافه -أعني نحو: "ليبك يزيد ضارع" ببناء الفعل للفاعل، ونصب "يزيد"- من وجوه: أحدها أن هذا التركيب يفيد إسناد الفعل إلى الفاعل مرتين؛ إجمالا ثم تفصيلا، والثاني أن نحو "يزيد" فيه ركن الجملة لا فضلة4، والثالث أن أوله غير مطمع للسامع في ذكر الفاعل، فيكون عند ورود ذكره كمن تيسرت له غنيمة من حيث لا يحتسب، وخلافه بخلاف ذلك.

ومن هذا الباب -أعني: الحذف الذي قرينته وقوع الكلام جوابا عن سؤال مقدر- قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: 100] على وجه5؛ فإن {لِلَّهِ شُرَكَاءَ} إن جعلا مفعولين لـ "جعلوا"، فـ "الجن" يحتمل وجهين: أحدهما ما ذكره الشيخ عبد القاهر6 من أن يكون منصوبا بمحذوف دل عليه سؤال مقدر، كأنه قيل: من جعلوا لله شركاء؟ فقيل: الجن، فيفيد الكلام إنكار الشرك مطلقا، فيدخل اتخاذ الشريك من غير الجن في الإنكار، دخول اتخاذه من الجن، والثاني: ما ذكره الزمخشري، وهو أن ينتصب {الْجِنَّ} بدلا من {شُرَكَاءَ} ، فيفيد إنكار الشريك مطلقا أيضا كما مر7، وإن جُعل {لِلَّهِ} لغوا8 كان {شُرَكَاءَ الْجِنَّ} مفعولين، قدم ثانيهما على الأول، وفائدة التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك مَلَكا كان أو جِنِّيا أو غيرهما، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء، ولو لم يُبْنَ الكلام على التقديم وقيل:"وجعلوا الجن شركاء لله" لم يفد إلا إنكار جعل الجن شركاء، والله أعلم.

ومنه ارتفاع المخصوص في باب "نعم وبئس" على أحد القولين9.

1 السؤال المحقق هو المذكور في الكلام، والمقدر بخلافه.

2 هو للحارث بن ضرار النهشلي، أو الحارث بن نهيك من قوله في رثاء يزيد بن نهشل "الطويل":

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح

وقبله:

سقى جَدَثا أمسى بدوحة ثاويا

من الدلو والجوزاء غادٍ ورائح

قوله: "ليبك" بالبناء للمفعول، والضارع: الذليل، والمختبط: الذي يأتي إليك للمعروف من غير وسيلة، وقوله:"تطيح" بمعنى تذهب وتهلك، والطوائح: جمع مطيحة على غير القياس، وقياسه: مطاوح أو مطيحات وهي النوازل الصعبة، والشاهد في حذف فعل "ضارع" إذ التقدير: يبكيه ضارع. يصفه بأنه كان ملجأ الذليل، وعون المحتاج.

3 فيكون كل من لفظ الجلالة "الله" و"رجال" في الآيتين فاعلا لفعل محذوف تقديره: يوحي ويسبِّح.

4 كونه ركن الجملة يفيد الاعتناء بشأنه، ويناسب مقام رثائه.

5 هو الوجه الذي سينقله عن عبد القاهر، لا الوجهان المذكوران بعده.

6 دلائل الإعجاز ص187، 188.

7 لأنه يكون بدل بعض من كل، والتقدير: الجن منهم.

8 أي: جارا ومجرورا متعلقا بـ {شُرَكَاءَ} مقدما عليه.

9 هو قول من يجعله مبتدأ محذوف الخبر، فيكون التقدير في قولك "نعم الرجل زيد": زيد الممدوح، وهو واقع جواب سؤال مقدر أيضا، كأنه قيل: من الممدوح؟ وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف، وقيل: إنه بدل من الفاعل قبله، فالأقوال أربعة لا اثنان.

ص: 161

أغراض الذكر:

وأما ذكره: فإما لنحو ما مر في باب المسند إليه من زيادة التقرير، وللتعريض بغباوة السامع، والاستلذاذ، والتعظيم، والإهانة، وبسط الكلام1.

1 زيادة التقرير كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، والتعريض بغباوة السامع كما في قولك:"محمد نبينا" في جواب سؤال: من نبيكم؟ والاستلذاذ كما في قولك: "هي سعاد" في جواب: هل هذه سعاد؟ وهكذا، ولا بد في الذكر من قرينة كما سبق في ذكر المسند إليه.

ص: 162

وإما ليتعين كونه اسما، فيستفاد منه الثبوت1، أو كونه فعلا، فيستفاد منه التجدد2، أو كونه ظرفا3، فيورِث احتمال الثبوت والتجدد4، وإما لنحو ذلك.

قال السكاكي5: وإما للتعجيب من المسند إليه بذكره؛ كما إذا قلت: "زيد يقاوم الأسد" مع دلالة قرائن الأحوال6.

وفيه نظر؛ لحصول التعجيب بدون الذكر إذا قامت القرينة7.

1 أي: الدلالة على النسبة من غير تقييد بزمان.

2 أي: الدلالة على الحدوث بعد العدم.

3 أو جارا أو مجرورا.

4 لأن نحو: "زيد في الدار" تقديره: زيد مستقر أو استقر في الدار. وهذا وما قبله معانٍ أصلية للاسم والفعل والظرف، فليست في شيء من البلاغة.

5 المفتاح ص111.

6 بأن يكون جواب سائل: "من يقاوم الأسد؟! ".

7 أجيب عنه بأن القرينة على المسند لا على التعجيب، وإنما يحصل التعجيب بذكره مع الاستغناء عنه.

ص: 163

تمرينات على الذكر والحذف:

تمرين1:

1-

لِمَ حُذف المسند في قول الشاعر:

ولولا المشقة ساد الناس كلهم

الجود يُفْقِر والإقدام قتال؟

2-

لِمَ ذكر المسند بعد "بل" في قوله تعالى: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 62، 63] ؟

تمرين 2:

1-

لِمَ حذف المسند الأول وأعيد ذكر الثاني في قول الشاعر:

لولا التقا لجعلت قبركَ كعبتي

وجعلت قولك سنّتي وكتابي؟

2-

لِمَ حذف المسند في قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] ؟

تمرين3:

1-

لِمَ حذف المسند أولا ثم المسند إليه ثانيا في قول الشاعر:

والناس هذا حظه مال وذا

علم وذاك مكارم الأخلاق؟

2-

بين المحذوف والداعي إلى حذفه في قول الشاعر:

والطير أقعدها الكَرَى

والناس نامت والوجود

تمرين4:

1-

لماذا حذف المسند في قولهم: "أحَشْفًا وسُوءَ كيلة؟! "؟

2-

لماذا أعيد ذكر المسند في قول الخنساء:

أعينيّ جودا ولا تجمدا

ألا تبكيان لصخر الندى

ألا تبكيان الجواد الجميل

ألا تبكيان الفتى السيدا؟

ص: 164

أغراض المسند:

أغراض الإفراد: وأما إفراده فلكونه غير سببي مع عدم إفادة تقوي الحكم1؛ كقولك: "زيد منطلق، وقام عمرو" والمراد بالسببي نحو: "زيد أبوه منطلق"2.

قال السكاكي3: وأما الحالة المقتضية لإفراده فهي إذا كان فعليا ولم يكن المقصود من نفس التركيب تقوي الحكم، وأعني بالمسند الفعلي ما يكون مفهومه محكوما به بالثبوت للمسند إليه أو بالانتفاء عنه، كقولك:"أبو زيد منطلق، والكُرّ4 من البُرّ بستين، وضُرب أخو عمرو، ويشكرك بكر إن تعطه، وفي الدار خالد"؛ إذ تقديره: "استقر أو حصل في الدار" على أقوى الاحتمالين5؛ لتمام الصلة بالظرف، كقولك:"الذي في الدار أخوك"6.

وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن ما ذكره في تفسير المسند الفعلي يجب أن يكون تفسيرا للمسند مطلقا7، والظاهر أنه إنما قصد به الاحتراز عن المسند السببي، إذ فسر المسند السببي بعد هذا بما يقابل تفسير المسند الفعلي، ومثّله بقولنا:"زيد أبوه منطلق أو انطلق، والبر الكر منه بستين" فجعل -كما ترى- أمثلة السببي مقابلة لأمثلة الفعلي مع الاشتراك في أصل المعنى8. والثاني أن الظرف الواقع خبرا إذا كان مقدرا بجملة -كما اختاره- كان قولنا: "الكر من البر بستين" تقديره: "الكر من البر استقر بستين"، فيكون المسند جملة، ويحصل تقوي الحكم كما مر، وكذا إذا كان: "في الدار خالد" تقديره: "استقر في الدار خالد" كان المسند جملة أيضا؛ لكون "استقر" مسندا إلى ضمير "خالد" لا إلى "خالد" على الأصح؛ لعدم اعتماد الظرف على شيء9.

1 نحو: "زيد قائم" وإنما يكون ذلك عند اقتضاء المقام له بأن يكون المخاطَب خالي الذهن من الحكم؛ فلا يؤتى له بصورة تفيد تقويته، وهي صورة تقديم الاسم على الخبر الفعلي كما سبق في المسند إليه. وإنما اختص إفراده بذلك؛ لأنه إذا كان سببا أو مفيدا للتقوي كان جملة لا مفردا.

2 فالسببي كل جملة عُلقت على مبتدأ بعائد لا يكون مسندا إليه في تلك الجملة؛ لأنه إذا كان مسندا إليه فيها كان من صورة تقوية الحكم نحو: "زيد ينطلق"، والسببي نسبة إلى السبب وهو ضمير الربط.

3 المفتاح ص111.

4 الكر: مكيال مقداره أربعون إردبا، وقيل غير ذلك.

5 الاحتمال الثاني تقديره اسما، أي: مستقر أو حاصل.

6 فإن تقديره: الذي استقر أو حصل في الدار أخوك، ولا يصح تقدير: حاصل أو مستقر فيه؛ لأن الصلة لا تتم به، ولكن تعين هذا في الصلة لا يوجب أرجحيته في غيرها.

7 لأنه يشمل المسند إذا كان فعلا أو غيره، نحو: انطلق زيد، وزيد منطلق، وزيد أبوه منطلق.

8 يعني به المعنى الذي ذكره للفعلي؛ لأنه يشمل كل مسند كما سبق، فيدخل فيه السببي، وإذا كان داخلا في معنى الفعلي لم تصح المقابلة بين أمثلتهما.

9 مقابل الأصح يجعل خالدا فاعلا لمتعلق الظرف، فلا تكون جملة مركبة من مبتدأ وخبر، وهذا إنما يأتي في الأصح إذا اعتمد الظرف على نفي أو شبهة نحو: أَوَفِي الدار خالد؟

ص: 165

أغراض كون المسند فعلا أو اسما:

وأما كونه فعلا: فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة على أخصر ما يمكن1 مع إفادة التجدد2.

وأما كونه اسما: فلإفادة عدم التقييد3 والتجدد، ومن البين فيهما قول الشاعر "من البسيط":

لا يألف الدرهم المضروب صرتنا

لكن يمر عليها وهو منطلق4

وقوله "من الكامل":

أَوَكلما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إلي عريفهم يتوسم5

إذ معنى الأول على انطلاق ثابت للدرهم مطلقا من غير اعتبار تجدده وحدوثه، ومعنى الثاني على توسم وتأمل ونظر يتجدد6 من العريف هناك.

1 نكتة الاختصار هي في الحقيقة مرجع البلاغة في هذا الغرض؛ لأن دلالة الفعل على الأزمنة الثلاثة بأصل وضعه، ووجه الاختصار بأن قولك:"قام زيد أو زيد قام" يفيد مع الاختصار معنى قولك: "زيد حصل منه القيام في الزمن الماضي" ولكن هذا الاختصار لا يكاد يمتاز به بليغ عن غيره، والذي يدخل منه في معنى البلاغة دلالته على الاستمرار التجددي كما سيأتي.

2 المراد بالتجدد حصول الشيء بعد عدمه، والفعل يدل عليه بأصل وضعه أيضا، وإنما تعرّض لإفادته ذلك؛ لأن من الأسماء ما يشارك الفعل في الدلالة على أحد الأزمنة، كاسم الفاعل، فإنه حقيقة في الحال، مجاز في الاستقبال.

3 أي: بأحد الأزمنة؛ لأنه يدل على الثبوت فقط، وهي دلالة وضعية لا يصح عدها من وجوه البلاغة، وإنما الذي يصح عده دلالته على الدوام بمعونة القرائن إذا كان المقام يقتضي كمال المدح أو الذم ونحوهما، وكما سيأتي في البيت الآتي.

4 هو للنضر بن جؤية؛ والمشهور نصب "صرتنا" على أنه مفعول، ولكن الأحسن نصب "الدرهم" ليكون عدم الإلف من جانب الصرة، فيدل على غناهم وإنفاقهم، أما الأول فيحتمل أن عدم إلف الدرهم صرتهم لفقرهم، مع أنه يقصد التمدح بغناهم وجودهم؛ ولهذا حمل بعضهم الجملة الاسمية "وهو منطلق" على إفادة الدوام ليكون المدح أكمل.

5 هو لطريف بن تميم العنبري، وعكاظ: سوق بين نخلة والطائف، والعريف: القيّم الذي يقوم بأمر القوم، ويريد أنهم يبعثون إليه عريفهم من أجل شهرته وعظمته.

6 يريد به الدوام التجددي، والفعل إنما يُدل عليه بمعونة القرائن؛ لأن التجدد الذي يدل الفعل عليه بأصل وضعه هو حصول الشيء بعد عدمه، والبلاغة في الفعل إنما تكون بدلالته على الدوام التجددي، ومما يتبين الفرق فيه بين المسند الفعلي والمسند الاسمي قوله تعالى:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} بعد قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14، 15] ؛ لأن دلالة الأول على الاستمرار التجددي، وهو أبلغ.

ص: 166

أغراض تقييد الفعل بمفعول ونحوه، وترك تقييد الفعل:

وأما تقييد الفعل بمفعول ونحوه فلتربية الفائدة1 كقولك: "ضربت ضربا شديدا، وضربت زيدا، وضربت يوم الجمعة، وضربت أمامك، وضربت تأديبا، وضربت بالسوط، وجلست والساريةَ، وجاء زيد راكبا، وطاب زيد نفسًا، وما ضرب إلا زيد، وما ضربت إلا زيدا"2.

والمقيد في نحو: "كان زيد قائما" هو "قائما" لا "كان"3.

وأما ترك تقييده فلمانع من تربية الفائدة4.

1 أي: تكثيرها، ولا يخفى أن تقييد الفعل بذلك من أحوال متعلقات الفعل، فلا معنى لذكره هنا، ولا يخفى أيضا أن هذا التقييد يرجع إلى أصل معاني تلك المتعلقات، فيجب أن يكون اعتبار ذلك هنا عند وجود القرينة التي تغني عن ذكرها، كما اعتُبر وجود القرينة في ذكر المسند إليه والمسند، ومثال ذلك هنا أن يقال لك: هل تحب هندا؟ فتقول: أحب هندا.

2 الاستثناء في الأول من الفاعل، وفي الثاني من المفعول، وقيد الفعل فيهما هو المستثنى؛ لأنه في الحقيقة منسوب إلى المستثنى منه المحذوف، فيكون المستثنى قيدا فيهما، وإن كان في الأول هو الفاعل في الظاهر.

3 لأن "قائما" هو المسند، فهو الذي يدل على الحدث المراد إسناده، و"كان" تدل على زمانه؛ فكأنك قلت: زيد قائم في الزمان الماضي.

4 كخوف انقضاء فرصة، أو ضيق مقام، أو نحو ذلك من أغراض الحذف. وبهذا يرجع اعتبار التقييد وتركه إلى اعتبارَيِ الحذف والذكر. ومِنْ ترك التقييد لخوف انقضاء فرصة قولُ الصائد لمن معه:"حُبس الصيد" فلا يقول: "في الشَّرَك" ليبادر إليه قبل فواته بالفرار أو موته قبل ذبحه.

ص: 167

أغراض تقييد الفعل بالشرط: إن، وإذا، ولو

وأما تقييده1 بالشرط: فلاعتبارات لا تعرف إلا بمعرفة ما بين أدواته من التفصيل، وقد بُيِّن ذلك في علم النحو2، ولكن لا بد من النظر ههنا في:"إن، وإذا، ولو".

1 أي: الفعل مسندا في الجزاء؛ فالشرط قيد لحكم الجزاء؛ كالمفعول ونحوه؛ لأن قولك: "إن جئتني أكرمك" بمنزلة: أكرمك وقت مجيئك.

2 لا يخفى أن تلك الاعتبارات اعتبارات نحوية، وليست في شيء من اعتبارات البلاغة إلا أن ينظر إلى دلالة أدوات الشرط على تعليق الجزاء بالشرط في أخصر عبارة، فتكون نظير حروف العطف فيما سبق، وذلك وجه ضعيف من وجوه البلاغة.

ص: 168

أما "إن وإذا" فهما للشرط في الاستقبال1، لكنهما يفترقان في شيء: وهو أن الأصل في "إن" ألا يكون الشرط فيها مقطوعا بوقوعه2؛ كما تقول لصاحبك: "إن تكرمني أكرمك" وأنت لا تقطع بأنه يكرمك.

والأصل في "إذا" أن يكون الشرط فيها مقطوعا بوقوعه3 كما تقول: إذا زالت الشمس آتيك. ولذلك كان الحكم النادر موقعا لـ "إن"؛ لأن النادر غير مقطوع به في غالب الأمر، وغلب لفظ الماضي مع "إذا" لكونه أقرب إلى القطع بالوقوع نظرا إلى اللفظ4؛ قال الله تعالى:{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] أتى5 في جانب الحسنة بلفظ "إذا"؛ لأن المراد بالحسنة الحسنة المطلقة التي حصولها مقطوع به؛ ولذلك عرفت تعريف الجنس6.

وجوز السكاكي7 أن يكون تعريفها للعهد، وقال:"وهذا أقصى لحق البلاغة"،

1 أي: لتعليق حصول الجزاء بحصول الشرط في الاستقبال.

2 بأن يُتردد في وقوعه، أو يُظن عدم وقوعه، أما القطع بعدم وقوعه لاستحالته فلا تُستعمل فيه "إن" إلا لنكتة كما سيأتي في قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81] . ومثل "إن" في دلالتها على ذلك باقي أدوات الشرط كما ذكره الدسوقي في حاشيته على المختصر.

3 مثل القطع في ذلك ظن وقوعه، ولا يخفى أن الأداتين تدلان على ذلك بأصل الوضع، ولكن إيثار إحداهما على الأخرى في موضع يصلح لهما قد يكون لاعتبارات دقيقة كما سيأتي في أمثلتهما.

4 إنما كان هذا بالنظر إلى اللفظ؛ لأن الماضي معها يُنقل إلى الاستقبال.

5 هذه الاعتبارات تأتي في كلام الله تعالى؛ لأنه وارد على أساليب كلام البشر، وإن لم يتصور فيه جزم ولا عدمه، فيراعى في ذلك، على فرض أنه لمخلوق يجوز عليه الجزم والتردد.

6 يعني الحقيقة في ضمن فرد مبهم، بدليل إسناد المجيء إليها.

7 المفتاح ص130.

ص: 169

وفيه نظر1. وأتى في جانب السيئة بلفظ "إن"؛ لأن السيئة نادرة بالنسبة إلى الحسنة المطلقة؛ ولذلك نكرت2.

ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] أتى بـ "إذا" في جانب الرحمة، وأما تنكيرها فجعله السكاكي3 للنوعية نظرا إلى لفظ الإذاقة، وجعله للتقليل نظرا إلى لفظ الإذاقة -كما قال- أقرب4. وأما قوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} [الروم: 33] بلفظ "إذا" مع الضر فللنظر إلى لفظ "المس"، وإلى تنكير "الضر" المفيد في المقام التوبيخي القصد إلى اليسير من الضر، وإلى الناس المستحقين أن يلحقهم كل ضر، وللتنبيه على أن مساس قدر يسير من الضر لأمثال هؤلاء حقه أن يكون في حكم المقطوع به، وأما قوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] بعد قوله عز وجل: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي: أعرض عن شكر الله وذهب بنفسه وتكبر وتعظم؛ فالذي تقتضيه البلاغة أن يكون الضمير في "مسه" للمعرض المتكبر، ويكون لفظ "إذا" للتنبيه على أن مثله يحق أن يكون ابتلاؤه بالشر مقطوعا به.

1 وجهه أنه ذكر أن المراد الحسنة المطلقة، والإطلاق ينافي العهد، وأجيب عنه بأنه يريد العهد على مذهبه من تنزيل الحقيقة منزلة المعهود لاعتبار من الاعتبارات، والذي ينافي الإطلاق العهد الحقيقي الذي يراد فيه فرد معين، وإنما كان ذلك أقضى لحق البلاغة؛ لأن المعهود أقرب إلى التحقق من الجنس الذي لا عهد فيه، ولكن هذا لا يخلو من تكلف.

2 لأن التنكير في أصله يفيد التقليل؛ لدلالته على الوحدة، بخلاف "ال" الجنسية.

3 المفتاح ص136.

4 لأن الإذاقة أثرها أضعف من غيرها، وقد اعتُرض على هذا بأنه ينافي ما ذكره في الآية السابقة من أن إطلاق الحسنة المفيد للتكثير هو الذي يناسب "إذا"؛ فلا يكون التقليل هنا في الرحمة مناسبا لها.

ص: 170

قال الزمخشري: وللجهل بموقع "إن" و"إذا" يزيغ كثير من الخاصة عن الصواب فيغلطون؛ ألا ترى إلى عبد الرحمن بن حسان1 كيف أخطأ بهما الموقع في قوله يخاطب بعض الولاة، وقد سأله حاجة فلم يقضها، ثم شفع له فيها فقضاها "من الطويل":

ذُمِمْت ولم تحمد وأدركت حاجتي

تولى سواكم أجرها واصطناعها

أبى لك كسب الحمد رأي مقصر

ونفس أضاق الله بالخير باعها

إذا هي حثته على الخير مرة

عصاها وإن همت بشر أطاعها

فلو عكس لأصاب2.

وقد تستعمل "إن" في مقام القطع بوقوع الشرط لنكتة:

كالتجاهل؛ لاستدعاء المقام إياه3.

وكعدم جزم المخاطب؛ كقولك لمن يُكذّبك4 فيما تخبر: إن صدقتُ فقل لي ماذا تفعل؟

وكتنزيله منزلة الجاهل5؛ لعدم جريه على موجب العلم، كما تقول لمن يؤذي أباه:"إن كان أباك فلا تؤذه".

وكالتوبيخ على الشرط، وتصوير أن المقام لاشتماله على ما يقلعه عن أصله لا

1 قيل: إن هذه القصة وما فيها من الشعر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان.

2 يعني بالعكس أن يقول: "إن هي حثته، وإذا همت" ووجه الصواب فيه أنه هو المناسب لما يقصده من الهجاء، وأجيب عنه بأنه يقصد في "إذا" إثبات حث نفس الوالي له على الخير وأنه مع ذلك يعصيها، وهو أبلغ في الذم، وبأنه يقصد في "إن" أنه يبادر إلى الشر بمجرد توهم نفسه له، وهو أبلغ في الذم أيضا.

3 كأن يُسأل خادم عن سيده: هل هو في الدار؟ وهو يعلم أنه فيها، فيقول:"إن كان فيها أُخبرك" فيتجاهل خوفا من سيده.

4 أي: لمن يجوّز كذبك؛ لأن المقام في عدم جزم المخاطَب.

5 يعني به الشاكّ؛ لأنه هو الأصل في استعمال "إن"، والفرق بين هذا وما قبله أن الشك غير حقيقي هنا، وفيما قبله حقيقي.

ص: 171

يصلح إلا لفرضه كما يفرض المحال لغرض1، كقوله تعالى:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} 2 فيمن قرأ "إِنْ" بالكسر لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب الإسراف، وتصوير أن الإسراف من العاقل في هذا المقام واجب الانتفاء، حقيق ألا يكون ثبوته له إلا على مجرد الفرض.

وكتغليب غير المتصف بالشرط على المتصف به3، ومجيء قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] بـ "إن"، يحتمل أن يكون للتوبيخ على الريبة لاشتمال المقام على ما يقلعها عن أصلها، ويحتمل أن يكون لتغليب غير المرتابين من المخاطَبين على المرتابين منهم4؛ فإنه كان فيهم من يعرف الحق؛ وإنما ينكر عنادا5، وكذلك قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج: 5] .

1 كإرخاء العنان لإلزام الخصم.

2 [الزخرف: 5] بقراءة: {أَنْ كُنْتُمْ} .

3 يعني تغليب المشكوك في اتصافه بالشرط على المجزوم باتصافه به، ولا يعني تغليب المجزوم بعدم اتصافه به على المجزوم فيه بذلك؛ لأن كلا منهما ليس هو المقام الأصلي لها، والمراد تغليب مقامها الأصلي على غيره.

4 اعترض على هذا بأن ما هنا جمع بين مرتاب يقينا وغير مرتاب يقينا، وكل منهما لا تستعمل فيه "إن"؛ فالوجه أن يجعل من تغليب من يشك في ارتيابه كالمنافقين على غيرهم. ويمكن أن يجعل من تغليب غير المرتابين على المرتابين، على أنه بعد التغليب صار الجميع بمنزلة غير المرتابين، فصار الشرط قطعيّ الانتفاء، فاستعمل "إن" فيه على سبيل الفرض للتبكيت والإلزام، ولا يخفى ما في هذا من التكلف.

5 هؤلاء هم غير المرتابين.

هذا، وكما تستعمل "إن" في مقام القطع بوقوع الشرط لنكتة، تستعمل في مقام القطع بعدم وقوعه لنكتة أيضا، وذلك كالتبكيت، وإلزام الخصم، والمبالغة، ونحو ذلك. ومن هذا الاستعمال قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] .

وقد تستعمل "إذا" في مقام الشك لنكتة؛ كالإشعار بأن الشك في الشرط لا ينبغي أن يكون؛ كقولك لمن قال: لا أدري هل يتفضل علي الأمير: إذا تفضل عليك فكيف يكون شكرك؟ للإشعار بأن الأمير لا ينبغي الشك في تفضله. وقد تستعمل في ذلك أيضا لتغليب المتصف بالشرط على غير المتصف به، ولكن استعمال "إذا" في مقام الشك نادر، بخلاف استعمال "إن" في مقام الجزم.

ص: 172

استطراد إلى التغليب:

والتغليب باب واسع1 يجري في فنون كثيرة2؛ كقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] أُدخل شعيب عليه السلام في: {لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} بحكم التغليب؛ إذ لم يكن شعيب في ملتهم أصلا. ومثله قوله تعالى: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89]، وكقوله تعالى:{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] عدت الأنثى من الذكور بحكم التغليب3، وكقوله تعالى:{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة: 34] عد إبليس من الملائكة

1 لا يخفى أن التغليب معدود في المحسنات البديعية، فلا معنى لذكره هنا، وهو إعطاء أحد المتصاحبين أو المتشابهين حكم الآخر بجعله موافقا له في الهيئة أو المادة؛ فالأول كقوله تعالى:{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} ، والثاني كالأبوين للأب والأم، وكالقمرين للقمر والشمس. وقيل: إن التغليب من المجاز المرسل لعلاقة المجاورة، أو من باب عموم المجاز، بأن يراد من "القانتين" مثلا الذوات المتصفة بالقنوت، ويصح بهذا أن يُلحَق التغليب بعلم البيان، والحق أنه ليس من المجاز؛ لأن المجاز نقل اللفظ من معنى إلى آخر، أما التغليب فهو كالمشاكَلَة الآتية في البديع، فإنما ينقل فيه المعنى من لباس إلى لباس لا اللفظ، وهذا إلى أنه لا علاقة فيه من مجاورة أو غيرها؛ لأن علاقة المجاورة تكون بين مدلولي اللفظين لا بين اللفظين.

2 أي: يجري في أساليب من الكلام لاعتبارات مختلفة غير محدودة ولا مضبوطة، وشأنه في ذلك شأن غيره من المحسنات البديعية.

3 هذا على أن "مِنْ" تبعيضية، ويجوز جعلها ابتدائية على أن المراد بالقانتين آباؤها الأولون كإبراهيم وإسحاق، والأول أبلغ لما في التغليب من الإشعار بأنها بلغت في طاعتها مبلغ أولئك الرجال القانتين حتى عدت منهم.

ص: 173

بحكم التغليب، وكقوله تعالى:{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] بتاء الخطاب، غُلِّب جانب "أنتم" على جانب "قوم"1. ومثله:{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] فيمن قرأ بالتاء2. وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] غلب المخاطبون في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} على الغائبين3 في اللفظ، والمعنى على إرادتهما جميعا؛ لأن "لعل" متعلقة بـ "خلقكم" لا بـ "اعبدوا"4، وهذا من غوامض التغليب. وكقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] فإن الخطاب فيه5 شامل للعقلاء والأنعام، فغلب فيه المخاطبون6 على الغُيَّب7 والعقلاء8 على الأنعام9. وقوله تعالى {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي: يبثّكم ويُكثركم في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد

1 قيل: إن ذلك التفات من الغيبة إلى الخطاب، ورُدّ بأن الخطاب فيه مسبوق بخطاب مثله، فلم يجر على خلاف السياق حتى يكون التفاتا.

2 غلب فيها خطاب النبي في قوله تعالى قبل ذلك: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} على من ورد ذكرهم قبله في قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} .

3 في قوله: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . والمخاطبون هم الناس في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهم أمة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

4 فلو تعلقت به لم يكن ذلك من التغليب؛ لأنه يراد به المخاطبون وحدهم.

5 أي: في قوله: {يَذْرَؤُكُمْ} .

6 أي: في قوله: {جَعَلَ لَكُمْ} .

7 هم: الأنعام.

8 هم: المخاطَبون.

9 لأنه جمع ما لا يعقل؛ فالأفصح فيه إفراد الضمير العائد عليه، لكنه غلب عليه العقلاء، فجمع الضمير.

ص: 174

والتناسل، فجعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبثّ والتكثير؛ ولذلك قيل:{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} ولم يقل: "به" كما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 1.

واعلم أنه لما كانت هاتان الكلمتان لتعليق أمر بغيره -أعني الجزاء بالشرط- في الاستقبال2، امتنع في كل واحدة من جملتيهما الثبوت، وفي أفعالهما المضي؛ أعني: أن يكون كلتا الجملتين أو إحداهما اسمية، أو كلا الفعلين أو أحدهما ماضيا، ولا يخالف ذلك لفظا3؛ نحو:"إن أكرمتني أكرمتك، وإن أكرمتني أكرمك، وإن تكرمني أكرمتك، وإن تكرمني فأنت مكرم، وإن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس" إلا لنكتة ما4؛ مثل إبراز غير الحاصل في صورة الحاصل؛ إما لقوة الأسباب المتآخذة في وقوعه، كقولك:"إن اشترينا كذا" حال انعقاد الأسباب في ذلك، وإما لأن ما هو للوقوع كالواقع؛ كقولك:"إن مت كان كذا وكذا" كما سبق، وإما للتفاؤل، وإما

1 سورة البقرة: 179، فقد جعل القصاص كالمنبع للحياة.

2 متعلق بمحذوف تقديره: كائنين في الاستقبال، ولا يتعلق بالمصدر، وهو "تعليق" لأنه حاصل في الحال لا في الاستقبال.

3 أما في المعنى: فالاستقبال باقٍ على حاله، ولو قلت:"إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس" لأن معناه: إن تعتدّ بإكرامي الآن أعتد بإكرامك أمس، وكذلك قوله تعالى:{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] ؛ لأن جواب الشرط فيه محذوف تقديره: فاصبر. وقد تستعمل "إن" في الماضي لفظا ومعنى باطّراد مع "كان" كقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116]، وعلى قلة مع غيرها؛ كقول أبي العلاء "من الطويل":

فيا وطني إن فاتني بك سابق

من الدهر فلينعم لساكنك البال

وقد تستعمل "إذا" في الماضي كذلك، كما في قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا} [الكهف: 96] ، وهذا استعمال لغوي لهما لا يحتاج إلى نكتة؛ كاستعمالها في الماضي لفظا فقط.

4 المثال الأخير على تقدير: "إن تعتد بإكرامي الآن أعتد بإكرامك أمس" كما سبق.

ص: 175

لإظهار الرغبة في وقوعه1؛ نحو: "إن ظفرتَ بحسن العاقبة فهو المرام"؛ فإن الطالب إذا تبالغت رغبته في حصول أمر يكثر تصوره إياه، فربما يُخيل إليه حاصلا، وعليه قوله تعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] 2، وقد يَقْوَى هذا التخيل عند الطالب حتى إذا وَجَدَ حكم الحس بخلاف حكمه غلّطه تارة، واستخرج له محملا أخرى، وعليه قول أبي العلاء المعري "من البسيط":

ما سرتُ إلا وطيف منك يصحبني

سُرًى أمامي وتأويبا على أثري3

يقول: لكثرة ما ناجيت نفسي بكِ انتقشتِ في خيالي، فأعدكِ بين يدي مغلطا للبصر -بعلة الظلام- إذا لم يدركك ليلا أمامي، وأعدك خلفي إذا لم يتيسر لي تغليطه حين لا يدركك بين يدي نهارا.

وإما لنحو ذلك.

قال السكاكي4: أو للتعريض5؛ كما في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا

1 التفاؤل للسامع، وهو ذكر ما يسرّه، والرغبة من المتكلم، والمثال المذكور صالح لهما.

2 ومعنى إظهار الرغبة في حقه -تعالى- إظهار كمال رضاه؛ لتنزّهه -تعالى- عن الرغبة.

3 هو لأحمد بن عبد الله المعروف بأبي العلاء المعري، والطيف: الخيال، السرى: السير ليلا، والتأويب: السير نهارا، مشتق من الأوب؛ لأن الغالب أنهم يسيرون ليلا ويئوبون إلى منازلهم نهارا، وفي البيت تعقيد ظاهر.

4 المفتاح ص132.

5 معطوف على ما ذكره السكاكي من الأسباب السابقة لإبراز غير الحاصل في صورة الحاصل، وإنما صرح الخطيب باسم السكاكي في هذا السبب مع أن ما سبق منقول عنه؛ لأن التعريض يحصل في ذلك، ولو عبر بالمضارع بدل الماضي، فلا يصلح نكتة للتعبير بالماضي دونه كالأسباب السابقة. وأجيب عن السكاكي بأن ذكر المضارع في ذلك لا يفيد التعريض؛ لكونه على أصله. والحق أنه يفيد؛ لأن مبنى التعريض فيه على نسبة الفعل إلى من لا يصح وقوعه منه، وهي حاصلة في المضارع كالماضي.

ص: 176

لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 15] وقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 209] .

ونظيره في التعريض قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1. المراد: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟! والمنبه عليه {تُرْجَعُونَ} 2. وقوله تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 23، 24] إذ المراد: أتتخذون من دونه آلهة إن يردكم الرحمن بضر لا تغن عنكم شفاعتهم شيئا، ولا ينقذوكم إنكم إذًا لفي ضلال مبين؛ ولذلك قيل3:{آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} دون "بربي"، وأتبعه {فَاسْمَعُونِ} .

ووجه حسنه4 تطلّب إسماع المخاطبين -الذين هم أعداء المُسْمِع- الحق على وجه لا يورثهم مزيد غضب، وهو ترك التصريح بنسبتهم إلى الباطل، ومواجهتهم بذلك، ويعين على قبوله5؛ لكونه أدخل في إمحاض النصح لهم، حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، ومن هذا القبيل قوله تعالى:{قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25]، فإن من حق النسق من حيث الظاهر: "قل لا

1 سورة يس، آية 22. وإنما كان نظيره ولم يكن منه؛ لخلوه عن أداة الشرط.

2 لأنه لولا التعريض لكان المناسب للسياق: "وإليه أرجع". وقد سبق التمثيل بالآية للالتفات، ولا منافاة بينه وبين التعريض.

3 في قوله تعالى بعد الآيتين 23، 24 السابقتين:{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} .

4 أي: حسن هذا التعريض في قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} وما بعده. أما التعريض في قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] فيفيد نسبته إليهم على وجه أبلغ من التصريح بنسبته إليهم.

5 أي: قبول الحق.

ص: 177

تسألون عما عملنا ولا نسأل عما تجرمون". وكذا ما قبله1: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . قال السكاكي رحمه الله2: وهذا النوع من الكلام يسمى المُنْصِف.

ومما يتصل بما ذكرناه أن الزمخشري قدر قوله تعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] عطفا على جواب الشرط في قوله: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} ، وقال: الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب3، فإن فيه نكتة، كأنه قيل: وودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم؛ يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعا من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفارا. وردكم كفارا أسبق المضار عندهم وأولها؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم؛ لأنكم بذّالون لها دونه، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه. هذا كلامه، وهو حسن دقيق، لكن في جعل {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} عطفا على جواب الشرط نظر؛ لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم؛ فلا يكون في تقييدها بالشرط فائدة؛ فالأولى أن يجعل قوله:{وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} عطفا على الجملة الشرطية؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} 4.

لو: وأما "لو" فهي للشرط في الماضي مع القطع بانتفاء الشرط؛ فيلزم انتفاء الجزاء5؛ كانتفاء الإكرام في قولك: "لو جئتَني لأكرمتك" ولذلك قيل: هي لامتناع

1 الضمير في قوله: "قبله" يعود إلى قوله: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ

} الآية.

2 المفتاح ص133.

3 لأنه ينقلب فيه من المضي إلى المستقبل.

4 سورة آل عمران، آية 111، فإن قوله:{لَا يُنْصَرُونَ} معطوف على الجملة الشرطية.

5 يعني أن "لو" موضوعة للدلالة على امتناع الجزاء، وعلى أن امتناعه ناشئ عن امتناع الشرط، ولا يريد أن دلالتها على امتناع الشرط بالوضع، وعلى امتناع الجزاء باللزوم؛ فلا =

ص: 178

الشيء لامتناع غيره1، ويلزم كون جملتيها فعليتين، وكون الفعل ماضيا2؛ فدخولها على المضارع3 في نحو قوله تعالى:{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتا فوقتا4، كما في قوله تعالى:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] بعد قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} 5 وفي قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]6.

= يُعترض عليه بأن الشرط سبب في الجزاء، ولا يلزم من انتفاء السبب انتفاء المسبب؛ لأنه يجوز أن يكون له سبب آخر غيره. وإذا كان هذا معنى "لو" بالوضع؛ فإنه يلزمه أن العلم بامتناع الشرط لأجل العلم بامتناع الجزاء، وبهذا يكون لها معنيان: أحدهما وضعي، وهو الشائع في القرآن والحديث وأشعار العرب، كقول الحماسي "من المتقارب":

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنه لم يطر

وقول أبي العلاء "من الطويل":

ولو دامت الدُّولات كانوا كغيرهم

رعايا ولكن ما لهن دوام

وثانيهما عقلي، وهو المعتمد في علم المنطق، والشائع في مقام الاستدلال العقلي، وعليه قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ؛ لأن الغرض منه الاستدلال بامتناع الفساد على امتناع تعدد الآلهة دون العكس.

1 أي: لامتناع الجزاء لامتناع الشرط؛ لأن "لو" في كلامهم إنما تستعمل في الشرط الذي لا سبب سواه لجزائه، فإذا حصل حصل، وإذا انتفى انتفى.

2 ذهب المبرد إلى أنها قد تستعمل وضعا في المستقبل، فلا يلتمس لها فيه نكتة، كقول الشاعر "من الطويل":

ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا

ومن دون رَمْسَيْنا من الأرض سَبْسَب

لظل صدى صوتي وإن كنت رِمَّة

لصوت صدى ليلي يَهَش ويطرب

3 إذ لم يقل: "مما كسبوا" كما قال: "مما كتبت أيديهم"؛ لأن كسبهم يتجدد، بخلاف ما كتبوه.

4 هذا هو الذي يدخل في معنى البلاغة من استعمال "لو" وغيره استعمال وضعي لا بلاغي.

5 فيكون المعنى في الآية أن امتناع عنتهم بسبب امتناع استمراره على إطاعتهم.

6 فلم يقل: "الله مستهزئ بهم" كما قالوا: "نحن مستهزءون"؛ لأن المضارع يفيد استمرار الاستهزاء على سبيل التجدد، وهو أبلغ من الاستمرار والثبوت الذي تفيده الجملة الاسمية.

ص: 179

ودخولها عليه في نحو قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} [السجدة: 12]، وقوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31] ؛ لتنزيله منزلة الماضي؛ لصدوره عمن لا خلاف في إخباره، كما نُزِّل {يَوَدُّ} منزلة "ود" في قوله تعالى:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2]1. ويجوز أن يرد الغرض من لفظ "ترى" و"يود" إلى استحضار صورة2 رؤية المجرمين ناكسي الرءوس قائلين لما يقولون، وصورة رؤية الظالمين موقوفين عند ربهم متقاولين بتلك المقالات، وصورة وَدادة الكافرين لو أسلموا كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] . إذ قال: {فَتُثِيرُ سَحَابًا} استحضارا3 لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة، من إثارة السحاب مسخرا بين السماء والأرض، تبدو في الأول كأنها قطع قطن مندوف، ثم تتضامّ متقلبة بين أطوار حتى يَعُدْن ركاما. وكقول تأبط شرا4 "من الوافر":

1 لأن الفعل الواقع بعد "رب" المكفوفة يجب أن يكون ماضيا عند ابن السراج وأبي علي، والجمهور لا يوجبون ذلك.

2 الحق أن هذا إنما يكون في حكاية الحال الماضية، كما في قوله تعالى:{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 18] . ولم يثبت في كلامهم حكاية الحال المستقبلة كما هنا، وقيل: إن ما هنا من حكاية الحال الماضية بعد تنزيل المضارع منزلة الماضي، وهو تكلف ظاهر.

3 هذا من استحضار الحال الماضية، فلا يصح قياس ما سبق عليه.

4 هذا لقب غلب عليه، واسمه: ثابت بن جابر بن سفيان، وقيل: إن الأبيات لأبي الغول الطهوي.

ص: 180

ألا من مبلغ فتيان فهم

بما لاقيت عند رحا بطان1

بأني قد لقيت الغول تهوي

بسهب كالصحيفة صَحْصحان2

فقلت لها: كلانا نِضْو أرض

أخو سفر فخلي لي مكاني3

فشدت شدة نحوي فأهوت

لها كفي بمصقول يماني

فأضربها بلا دَهَش فخرت

صريعا لليدين وللجِران4

إذ قال: "فأضربها" ليصور لقومه الحالة التي تَشَجَّع فيها على ضرب الغول كأنه يُبصِّرهم إياها، ويتطلب منهم مشاهدتها، تعجيبا من جراءته على كل هول وثباته عند كل شدة. ومنه قوله تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] ؛ إذ قال: {كُنْ فَيَكُونُ} دون "كن فكان"، وكذا قوله تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] .

1 فهم: قبيلة تأبط شرا، ورحا بطان: موضع.

2 قوله: "تهوي" بمعنى تسرع، والسهب: الفلاة، والصحصحان: ما استوى من الأرض.

3 النضو: المهزول من كل شيء، فِعْل بمعنى مفعول، كأنه نُضي وأُخرج عن لحمه من جدبها.

4 صريعا: فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، والجران في الأصل: مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره.

ص: 181

تمرينات على إفراد المسند، واسميته، وفعليته، وتقييده، وترك تقييده

تمرين1:

1-

بين الداعي إلى فعلية المسند وظرفيته في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] .

2-

لِمَ أتى المتنبي بالمسند فعلا ثم ظرفا في قوله:

تدبر شرق الأرض والغرب كفه

وليس لها يوما عن الجود شاغل؟

تمرين2:

1-

بين ما يستفاد من اسمية المسند وفعليته في قول الشاعر:

سلام على القبر الذي لا يجيبنا

ونحن نحيي تربه ونخاطبه

يهوَى الثناء مبرز ومقصر

حب الثناء طبيعة الإنسان

تمرين3:

1-

افرق بين الدوام الذي تفيده اسمية المسند بمعونة القرائن، والدوام الذي تفيده فعليته بمعونة القرائن.

2-

أيهما أحسن في تقدير متعلق الظرف والجار والمجرور؟ وهل يدخل هذا في البلاغة أو لا يدخل؟

تمرين4:

1-

لِمَ عبر بـ "إن" في قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] ؟

2-

لِمَ عبر بـ "إذا" في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 1-3] ؟

ص: 182

أغراض تنكير المسند:

وأما تنكيره: فإما لإرادة عدم الحصر والعهد1؛ كقولك: "زيد كاتب، وعمرو شاعر"، وإما للتنبيه على ارتفاع شأنه أو انحطاطه على ما مر في المسند إليه؛ كقوله تعالى:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] أي: هدى لا يُكْتَنَه كُنْهُه2.

أغراض التخصيص بالإضافة والوصف، وتركه.

وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف: فلتكون الفائدة أتم كما مر3.

وأما ترك تخصيصه بهما فظاهر مما سبق4.

1 لأن تعريف المسند إذا كان بأداة عهدية أو بمضمر أو اسم إشارة أفاد العهد، وإذا كان بأداة جنسية أو بموصول أفاد الاستغراق المستلزم للحصر، وقد يفيد في هذا غير الحصر كما سيأتي.

2 فالتنكير في ذلك للتعظيم، ومن التنكير للتحقير قول قيس بن جروة يخاطب عمرو بن هند "من الطويل":

غدرت بأمر كنت أنت دعوتنا

إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد

وقد يترك الغدرَ الفتى، وطعامه

إذا هو أمسى، حلبة من دم الفَصْد

3 من أن زيادة الخصوص توجب تمام الفائدة، وإنما ذكر الإضافة هنا مع الوصف لاتحادها معه في ذلك الغرض، وقد ذكر السعد أن جعل معمولات المسند كالحال ونحوه من التقييد، وجعل الإضافة والوصف من التخصيص إنما هو مجرد اصطلاح؛ لأنه لا فرق بينهما في ذلك، ولا يخفى أن أغراض الإضافة والوصف في المسند إليه تأتي هنا أيضا. ومن التخصيص بالإضافة قول الشاعر "من الكامل":

حَمِيَ الحديد عليهم فكأنه

وَمَضَان برق أو شعاع شُموس

ومن التخصيص بالوصف قول الشاعر "من الطويل":

وكنت امرأ لا أسمع الدهر شِبْعة

أسب بها إلا كشفت غطاءها

4 أي: في ترك تقييد المسند من أنه يكون لمانع من تربية الفائدة، وذلك كقصد الإخفاء عن السامعين ونحو ذلك.

ص: 183

تعريف المسند:

غرض التعريف:

وأما تعريفه1 فلإفادة السامع إما حكما على أمر معلوم له بطريق من طرق التعريف بأمر آخر معلوم له كذلك2. وإما "لإفادته" لازم حكم بين أمرين كذلك3. تفسير هذا أنه قد يكون للشيء صفتان من صفات التعريف، ويكون السامع عالما باتصافه بإحداهما دون الأخرى4. فإذا أردت أن تخبره بأنه متصف بالأخرى تعمد إلى اللفظ الدال على الأولى وتجعله مبتدأ، وتعمد إلى اللفظ الدال على الثانية وتجعله خبرا، فتفيد السامع ما كان يجهله من اتصافه بالثانية، كما إذا كان للسامع أخ يسمى زيدا وهو يعرفه بعينه واسمه، ولكن لا يعرف أنه أخوه، وأردت أن تُعرّفه أنه أخوه، فتقول له: "زيد أخوك"، سواء عرف أن له أخا ولم يعرف أن زيدا أخوه، أو لم يعرف أن له أخا أصلا5، وإن عرف أن له أخا في الجملة6 وأردت أن تعينه عنده قلت: "أخوك زيد"، أما إذا لم يعرف أن له أخا أصلا فلا

1 أخّره هنا عن الكلام على التنكير، وذكر بينهما التخصيص بالإضافة والوصف، ولا يخفى أن أغراض الإضافة من أغراض التعريف، وأن أغراض الوصف من أغراض التوابع، وما كان أحسن لو رتب الكلام هنا كما رتبه في باب المسند إليه.

2 لا يقال: إنه يلزم من علم السامع بكل منهما أن يكون هذا إخبارا بمعلوم له؛ لأن المراد أنه يعلم كلا منهما، ويجهل إسناد أحدهما إلى الآخر، وإنما جعل الحكم في ذلك على أمر معلوم لوجوب تعريف المسند إليه عند تعريف المسند؛ ولهذا حُكم بالقلب في قول القطامي السابق:

ولا يك موقف منك الوداعا

3 لازم الحكم هو ما سماه في باب الإسناد الخبري لازم فائدة الخبر؛ كأن تقول لمن مدحك أمس في غيبتك: أنت المادح لي أمس؟

4 هذا لا يمنع علمه بالأخرى في ذاتها كما سبق.

5 هذا ينافي ما سبق له من وجوب أن يعرف السامع كلا من المسند إليه والمسند بإحدى طرق التعريف؛ لأن هذا يلزمه أن يعرف أن له أخا في الجملة، فإذا لم يعرف ذلك قيل له:"زيد أخ منك" بالتنكير.

6 أي: وكان يعرف زيدا بعينه واسمه.

ص: 184

يقال ذلك؛ لامتناع الحكم بالتعيين على من لا يعرفه المخاطَب أصلا، فظهر الفرق بين قولنا:"زيد أخوك" وقولنا: "أخوك زيد".

وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمى زيدا بعينه واسمه، وعرف أنه كان من إنسان انطلاق، ولم يعرف أنه كان من زيد أو غيره، فأردت أن تعرفه أن زيدا هو ذلك المنطلق1، فتقول:"زيد المنطلق"، وإن أردت أن تعرفه أن ذلك المنطلق هو زيد قلت:"المنطلق زيد"2.

وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمى زيدا بعينه واسمه، وهو يعرف معنى جنس المنطلق، وأردت أن تعرفه أن زيدا متصف به، فتقول:"زيد المنطلق"، وإن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت:"المنطلق زيد".

لا يقال: "زيد" دال على الذات، فهو متعين للابتداء -تقدم أم تأخر- "والمنطلق" دال على أمر نسبي، فهو متعين للخبرية -تقدم أو تأخر- لأنا نقول:"المنطلق" لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الانطلاق، وإنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون خبرا، و"زيد" لا يجعل خبرا إلا بمعنى صاحب اسم "زيد"، وإنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون مبتدأ.

ثم التعريف بلام الجنس3 قد لا يفيد قصر المعرف على ما حُكم عليه به؛ كقول الخنساء "من الوافر":

1 على هذا تكون "ال" في المنطلق للعهد الذهني، أما فيما بعده فهي فيه للجنس كما صرح به.

2 ضابط هذا أن ما يعرف السامع اتصاف الذات به منهما يجب تقديمه وجعله مسندا إليه، وقد اختلف النحويون في إعراب ذلك على أربعة مذاهب: فقيل، وهو المشهور: إن الأول هو المبتدأ، وقيل: إن المبتدأ أعرفهما، وقيل: إن المبتدأ هو المعلوم عند السامع منهما، وقيل: إن كلا منهما يجوز أن يكون مبتدأ وخبرا.

3 أي: في المسند؛ لأن الكلام فيه. وإن كان التعريف بلام الجنس في المسند إليه يفيد القصر أيضا كما سيأتي.

ص: 185

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا1

وقد يفيد قصره2؛ إما تحقيقا كقولك: "زيد الأمير" إذا لم يكن أمير سواه، وإما مبالغة لكمال معناه في المحكوم عليه3؛ كقولك:"عمرو الشجاع"، أي: الكامل في الشجاعة، فتخرج الكلام في صورة تُوهِم أن الشجاعة لم توجد إلا فيه؛ لعدم الاعتداد بشجاعة غيره؛ لقصورها عن رتبة الكمال.

ثم المقصور قد يكون نفس الجنس مطلقا، أي: من غير اعتبار تقييده بشيء كما مر، وقد يكون الجنس، باعتبار تقييده بظرف أو غيره، كقولك:"هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيرا" فإن المقصور هو الوفاء في هذا الوقت لا الوفاء مطلقا.

وكقول الأعشى "من الخفيف":

هو الواهب المائة المصطفا

ة إما مخاضا وإما عشارا4

فإنه قصر هبة المائة من الإبل في إحدى الحالتين، لا هبتها مطلقا، ولا الهبة مطلقا. وهذه الوجوه الثلاثة -أعني العهد، والجنس للقصر تحقيقا، والجنس للقصر مبالغة- تمنع جواز العطف بالفاء ونحوها5 على ما حُكم عليه بالمعرف بخلاف المنكر؛ فلا يقال:"زيد المنطلق وعمرو"، ولا:"زيد الأمير وعمرو"، ولا "زيد الشجاع وعمرو".

1 هو لتماضر بنت عمرو المعروفة بالخنساء. وتريد بقولها: "على قتيل" كل قتيل، بقرينة المقام؛ لأن النكرة في سياق الإثبات لا تعم في أصل الوضع، وإني أرى أنه لا حاجة إلى هذا العموم، ويكفي أن يراد "إذا قبح البكاء على أي قتيل". وإنما لم يفد تعريف "الحسن" القصر؛ لأن كلامها للرد على من يتوهم قبح البكاء على قتيلها كغيره، والرد عليه يكفي فيه إخراج البكاء على قتيلها من القبح إلى الحسن، وإنما يصح القصر إذا كان الكلام للرد على من يسلّم حسن البكاء على قتيلها، ولكنه يدعي أن بكاء غيره حسن أيضا، وهذا لا يلائمه أول البيت، وفائدة تعريف "الحسن" ادعاء أنه معلوم لا ينكره أحد؛ لأن "ال" الجنسية تفيد هذا كما سبق.

2 أي: قصره على المسند إليه.

3 فالأول قصر تحقيقي، والثاني ادعائي، وتعريف المسند إليه بلام الجنس يفيد القصر كما سبق، ولكنه يفيد قصر المسند إليه على المسند؛ كقولك:"الأمير زيد، والشجاع عمرو" وتعريف المسند بالعكس، كما سبق؛ ولهذا لا يتفاوت المعنى فيهما من جهة القصر.

4 هو لميمون بن قيس المعروف بالأعشى في مدح قيس بن معديكرب أبي الأشعث الكندي. والمخاض: الحوامل من النوق اسم جمع، والعشار: جمع عشراء وهي من النوق كالنفساء من النساء، أو التي مضى لحملها عشرة أشهر.

5 أي: مما يفيد الجمع من حروف العطف؛ كالواو وثم، وإنما امتنع العطف بذلك لأنه ينافي القصر.

ص: 186

أغراض كون المسند جملة:

وأما كونه جملة1؛ فإما لإرادة تقوِّي الحكم بنفس التركيب كما سبق2، وإما لكونه سببيا، وقد تقدم بيان ذلك3.

وفعليتها لإفادة التجدد4، واسميتها لإفادة الثبوت؛ فإن من شأن الفعلية أن تدل على التجدد، ومن شأن الاسمية أن تدل على الثبوت، وعليهما قول رب العزة:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} 5

1 هذا يقابل قوله فيما سبق: "وأما إفراده"، وقد وسّط بينهما الأحوال السابقة؛ لدخولها في حال الإفراد.

2 أي: في الكلام على الخبر الفعلي في تقديم المسند إليه، نحو:"هو يعطي الجزيل".

3 أي: بيان كونه سببا عند قوله: "وأما إفراده" وقيل: إن كل ما خبره جملة يفيد التقوي ولو كانت اسمية، وعلى هذا تكون الجملة المسببية مفيدة للتقوي أيضا، فيفيد قولك:"زيد أبوه منطلق" تقوي الحكمة بخلاف: "أبو زيد منطلق". ولا يرد على الحصر في الغرضين أن خبر ضمير الشأن جملة وليس للتقوي؛ ولا للسببية؛ لأن جملة الخبر عن ضمير الشأن في حكم المفرد لتفسيرها له، وقيل: إنها تفيد التقوي لما فيها من البيان بعد الإبهام.

4 الضمير في قوله: "وفعليتها" يعود إلى الجملة الواقعة مسندا، فليس في هذا تكرار مع ما سبق؛ لأنه كان في الفعل الواقع مسندا، وهو مفرد لا جملة، وفي هذا إشارة إلى أن الجملة الاسمية إذا كان خبرها فعليا تفيد التجدد.

5 سورة البقرة، آية:14. ويريد بهذا وما بعده الاستشهاد على إفادة الفعلية التجدد، والاسمية الثبوت بقطع النظر عن أصل الموضوع؛ لأن أصله فيهما إذا كانا مسندين، وهما فيها ذكره من الشواهد ليسا كذلك، والشاهد في قوله: {آمَنَّا} وقوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} .

ص: 187

وقوله تعالى: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69] ؛ إذ أصل الأول: "نسلم عليك سلاما"، وتقدير الثاني: سلام عليكم، كأن إبراهيم عليه السلام قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به1 أخذا بأدب الله تعالى في قوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86] وقد ذُكر له وجه آخر فيه دقة، غير أنه بأصول الفلاسفة أشبه، وهو أن التسليم دعاء للمسلم عليه بالسلامة من كل نقص، ولهذا أُطلق، وكمال الملائكة لا يتصور فيه التجدد؛ لأن حصوله بالفعل مقارن لوجودهم، فناسب أن يحيوا بما يدل على الثبوت دون التجدد، وكمال الإنسان متجدد؛ لأنه بالقوة، وخروجه إلى الفعل بالتدريج، فناسب أن يُحيَّا بما يدل على التجدد دون الثبوت، وفيه نظر2.

وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193]، أي: أأحدثتم دعاءهم أم استمر صمتكم عنه؟ فإنه كانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعائهم، فقيل: لم يفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم وما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم. وقوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء: 55] أي: أأحدثت عندنا تعاطي الحق فيما نسمعه منك أم اللعب أي: أحوال الصبا بعد مستمرة عليك؟

وأما قوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} في جواب {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] فلإخراج ذواتهم من جنس المؤمنين مبالغة في تكذيبهم؛ ولهذا أطلق قوله:

1 لأن الجملة الاسمية في ذلك تفيد الثبوت والدوام، بخلاف الفعلية.

2 وجهه أن إبراهيم لم يكن يعلم وقت السلام أنهم ملائكة، بدليل قوله:{قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} على أن ذلك يقتضي أن يكون رفع "سلام" في تحية البشر بعضهم لبعض غير بليغ، ولا يقول بهذا أحد.

ص: 188

{بِمُؤْمِنِينَ} ، وأكد نفيه بالباء1، ونحوه:{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] .

شرطية جملة المسند: وشرطيتها لما مر2.

وظرفيتها لاختصار الفعلية؛ إذ هي مقدرة بالفعل على الأصح3.

1 فكل هذا كان له أثره في أنه لم يقل: "ولم يؤمنوا" مع أنه هو المطابق لقولهم: "آمنا".

2 أي: في الكلام على تقييد المسند إذا كان فعلا بالشرط، ولا تكرار في هذا أيضا مع ما سبق؛ لأن الكلام هنا في شرطية الجملة الواقعة مسندا، وفيما سبق في تقييد الفعل إذا كان مسندا بالشرط.

3 كان الأحسن "إذ الظرف"؛ لأن ظاهر عبارته يقتضي أن الجملة الظرفية مقدرة باسم الفاعل في غير الأصح، ولا يخفى فساده، وقد سبق توجيه الأصح في الكلام على إفراد المسند.

ص: 189

تمرينات على تعريف المسند وتنكيره وكونه جملة:

تمرين1:

1-

لِمَ نُكِّر المسند في قول الشاعر:

آراؤه وعطاياه ونعمته

وعفوه رحمة للناس كلهم؟

2-

لِمَ عُرف المسند بالإضافة أولا، ونُكر ثانيا في قوله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ؟

تمرين2:

1-

لِمَ كان المسند جملة اسمية في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] ؟

2-

لِمَ كان المسند جملة فعلية في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ؟

تمرين3:

1-

لِمَ نكر المسند في قول الشاعر:

لئن صدفت عنا فرُبَّت أنفس

صَوَادٍ إلى تلك النفوس الصوادف؟

ولِمَ جاءت الجملة الأولى فيه فعلية، والجملة الثانية اسمية؟

2-

بين الغرض من تعريف المسند بأل في قول الشاعر:

وإن سنام المجد من آل هاشم

بنو أم مخزوم، ووالدك العبد

تمرين4:

1-

لِمَ نكر المسند وأضيف في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ؟

ولِمَ عرف بالإضافة في المعطوف بعد تنكيره في المعطوف عليه؟

ص: 190

2-

بين المسند والمسند إليه في قول الشاعر:

أبوك حباب سارق الضيف برده

وجدي يا حجّاج فارس شمّرا

تمرين 5:

1-

ما هو الضابط الذي يميز بين المسند والمسند إليه في حال تعريفهما؟ وما الفرق بين نظر علم المعاني وعلم النحو في هذه الحالة؟

2-

لِمَ عرف المسند في قول الشاعر:

كلثم، أنتِ الهم يا كلثم

وأنت دائي الذي أكتم؟

ولِمَ نكر في قول الآخر:

خير الصنائع في الأنام صنيعة

تنبو بحاملها عن الإذلال

وقول الآخر:

وكنت فتى من جند إبليس فارتقى

بي الحال حتى صار إبليس مِن؟

ص: 191

أغراض تأخير وتقديم المسند:

أغراض التأخير: وأما تأخيره؛ فلأن ذكر المسند إليه أهم كما سبق1.

أغراض التقديم: وأما تقديمه فإما لتخصيصه بالمسند إليه2 كقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وقولك:"قائم هو" لمن يقول: "زيد إما قائم أو قاعد"، فيردده بين القيام والقعود من غير أن يخصصه بأحدهما. ومنه قولهم:"تميمي أنا"، وعليه قوله تعالى:{لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47] أي: بخلاف خمور الدنيا فإنها تغتال العقول3؛ ولهذا لم يقدم الظرف في قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] لئلا يفيد ثبوت الريب في سائر كتب الله تعالى4.

وإما للتنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت5؛ كقوله "من الطويل":

له هِمَم لا منتهى لكبارها

وهمته الصغرى أجلّ من الدهر6

1 أي: في الكلام على تقديم المسند إليه، فأغراض تأخير المسند هي ما سبق من أغراض تقديم المسند إليه.

2 الباء داخلة على المقصور، فيكون المسند إليه في ذلك مقصورا، والمسند مقصورا عليه.

3 فالمعنى أن عدم الغول مقصور على الكون في خمور الجنة، أو أن الغول مقصور على عدم الحصول فيها، وهذا على ما قيل من اعتبار النفي في جانب المسند أو المسند إليه.

4 لأنها المعتبرة في مقابلة القرآن، والقصر إنما يكون باعتبار النظير الذي يُتوهم فيه المشاركة، والمراد أن التقديم يوهم ذلك باعتبار الغالب؛ لأنه قد يكون للاهتمام لا للتخصيص. ومن تقديم المسند للتخصيص قول الشاعر "من الوافر":

رضينا قسمة الجبار فينا

لنا علم وللأعداء مال

وقول الآخر:

لك القلم الأعلى الذي بشَباته

يصاب من الأمر الكلى والمفاصل

5 لأن النعت لا يتقدم على المنعوت، بخلاف الخبر مع المبتدأ.

6 هو لبكر بن النطاح في مدح أبي دلف العجلي، وقيل: إنه لحسان بن ثابت في مدح النبي صلى الله عليه وسلم. والشاهد في قوله: "له همم" لأنه لو عكس لأوهم أن الجار والمجرور صفة، والجملة بعده هي الخبر، مع أن الكلام مسوق لمدحه لا لمدح هممه، ويصح أن يكون التقديم لإفادة التخصيص، وهو أبلغ.

ص: 192

وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف: 24] .

وإما للتفاؤل1.

وإما للتشويق إلى ذكر المسند إليه، كقوله "من البسيط":

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضحا وأبو إسحاق والقمر2

وقوله "من الوافر":

وكالنار الحياة فمن رماد

وأواخرها وأولها دخان3

قال السكاكي رحمه الله4: "وحق هذا الاعتبار تطويل الكلام في المسند5، وإلا لم يحسن ذلك الحُسْنَ".

1 كقول ابن الرومي "من الخفيف":

يمن الله طلعة المهرجان

كل يُمْنٍ على الأمير الهجان

وقول الآخر "من الكامل":

سعدت بغرة وجهك الأيام

وتزينت ببقائك الأعوام

2 هو لمحمد بن وهيب في مدح أبي إسحاق المعتصم، وإنما لم يجعل "ثلاثة" مبتدأ و"شمس الضحا" وما عطف عليه خبرا؛ لأنه لا يخبر بمعرفة عن نكرة.

3 هو لأحمد بن عبد الله المعروف بأبي العلاء المعري. يعني أن أول الحياة وآخرها وهما الصبا والشيب ليسا بشيء، وأن وسطها وهو الشباب هو المعتد به، وقد شبهها في ذلك بالنار في أحوالها الثلاث.

4 المفتاح ص119.

5 كما في بيت ابن وهيب، وكما في قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] . وقد يكون تقديم المسند لمجرد الاهتمام، كقول الشاعر "من الوافر":

سلام الله يا مطر عليها

وليس عليك يا مطر السلام

وقد يكون لإظهار التألم؛ كقول المتنبي "من الطويل":

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدوا ليس له من صداقته بد

ص: 193

تنبيه:

كثير1 مما ذكر في هذا الباب، والذي قبله غير مختص بالمسند إليه والمسند؛ كالذكر، والحذف، وغيرهما مما تقدمت أمثلته. والفطن إذا أتقن اعتبار ذلك فيهما لا يخفى عليه اعتباره في غيرهما2.

1 أما القليل منه فيختص بالبابين؛ كضمير الفصل، وكون المسند فعلا، والذي لا يختص بهما لا يلزم أن يجري في كل ما عداهما؛ كالتعريف، فإنه لا يجري في الحال والتمييز.

2 أي: من المفعولات ونحوهما، وسيأتي بيان شيء من هذا في أحوال متعلقات الفعل.

ص: 194