الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: القول في أحوال الإسناد الخبري
أغراض الخبر: من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب إما نفس الحكم؛ كقولك: "زيد قائم" لمن لا يعلم أنه قائم، ويسمى هذا1 فائدة الخبر، وإما كون المخبر عالما بالحكم؛ كقولك لمن زيد عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك:"زيد عندك"، ويسمى هذا2 لازم فائدة الخبر.
1 اسم الإشارة يعود إلى إفادة المخاطب نفس الحكم؛ لأن هذا هو الذي يسمى فائدة الخبر، وقيل: إنه يعود إلى نفس الحكم، ورد بأن الحكم ركن من أركان الخبر، وفائدة الشيء لا تكون جزءا منه، وهذه الفائدة هي المقصد الأول من مقاصد الإسناد الخبري.
2 أي: كون المخبر عالما بالحكم، وإنما سمي هذا "لازم فائدة الخبر"؛ لأنه يلزم من إفادة المخاطب الحكم، إفادته أن عنده علما أو ظنا به، ولازم فائدة الخبر هو المقصد الثاني من الإسناد الخبري.
وللإسناد الخبري مقاصد وأغراض أخرى: منها إظهار التحسر، كما في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران:{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36] . ومنها إظهار الفرح، كما في قول الشاعر "من الطويل":
هناء محا ذاك العزاء المقدما
…
فما عبس المحزون حتى تبسما
ومنها إظهار الضعف والخشوع، كقول الآخر "من الوافر":
إلهي عبدك العاصي أتاكا
…
مقرا بالذنوب وقد دعاكا
ومنها توبيخ السامع، كقول الحماسية "من الطويل":
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني
…
وأشمت بي من كان فيك يلوم
والغرض الأول -وهو فائدة الخبر- يستفاد من ذات الخبر، وما عداه من الأغراض يدل عليها الخبر دلالة تبعية؛ فهي من مستتبعات الكلام، ولا توصف بأنها حقيقة ولا مجاز ولا كناية.
قال السكاكي1: "والأولى2 بدون هذه3 تمتنع، وهذه بدون الأولى لا تمتنع، كما هو حكم اللازم المجهول المساواة"4 أي: يمتنع أن لا يحصل العلم الثاني من الخبر نفسه عند حصول الأول منه؛ لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول، مع أن سماع الخبر من المخبر كافٍ في حصول الثاني منه5. ولا يمتنع أن لا يحصل الأول من الخبر نفسه عند سماع الثاني منه؛ لجواز حصول الأول قبل حصول الثاني6 وامتناع حصول الحاصل.
وقد ينزل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل؛ لعدم جريه على موجب العلم؛ فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل بأحدهما7.
1 المفتاح ص88.
2 هي فائدة الخبر.
3 اسم الإشارة يعود إلى لازم فائدة الخبر، وقد أنّثه باعتبار كونه فائدة أيضا.
4 كلزوم الحيوانية للإنسانية؛ لأن الحيوانية أعم، فيلزم من العلم بالإنسانية العلم بالحيوانية، ولا يلزم من العلم بالحيوانية العلم بالإنسانية.
5 لأن من يخبر بشيء لا بد أن يكون عنده علم أو ظن به؛ فالمراد بالعلم الثاني علم المخاطب بأن المخبر عالم بالحكم، والمراد بالعلم الأول علمه بذلك الحكم.
6 بأن يكون المخاطب عالما بالحكم قبل الإخبار به، فيحصل بالخبر في هذه الحالة لازم فائدته دونها؛ لامتناع تحصيل الحاصل.
7 من تنزيل العالم بالفائدة منزلة الجاهل بها، قول الفرزدق لهشام بن عبد الملك حين تجاهل معرفة علي بن الحسين، رضي الله عنهما "من البسيط":
هذا ابن خير عباد الله كلهم
…
هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
…
بجده أنبياء الله قد ختموا
ومن تنزيل العالم بلازم الفائدة منزلة الجاهل به، قولك لمن يؤذيك وهو يعلم أنك مسلم:"الله ربنا ومحمد نبينا". وقد جعل السكاكي هذا من باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر؛ فهو عنده مثل تنزيل غير السائل منزلة السائل ونحوه مما يأتي، وقيل: إن الخطيب لم يجعل ما هنا من ذلك الباب؛ لأن الخبر لا يختلف في التأكيد وتركه في مخاطبة الجاهل بفائدة الخبر ولازمها، ومخاطبة العالم بهما المنزل منزلة الجاهل. أما تنزيل غير السائل منزلة السائل ونحوه فيختلف في ذلك كما سيأتي، والخطب في هذا سهل.
قال السكاكي1: "وإن شئت فعليك بكلام رب العزة: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] . كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسمي، وآخره ينفيه عنهم؛ حيث لم يعملوا بعلمهم. ونظيره في النفي والإثبات:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] وقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] .
هذا لفظه، وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما، وليست منها، بل هي من أمثلة تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به؛ لعدم جريه على موجب العلم، والفرق بينهما ظاهر2.
أضرب الخبر: وإذا كان غرض المخبر بخبره إفادة المخاطب أحد الأمرين، فينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة.
أ- فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه، استُغني3 عن مؤكدات الحكم؛ كقولك:"جاء زيد، وعمرو ذاهب" فيتمكن في ذهنه؛ لمصادفته إياه خاليا.
ب- وإن كان متصورا لطرفيه، مترددا في إسناد أحدهما إلى الآخر، طالبا له،
1 المفتاح ص92.
2 أجيب عن السكاكي بأن غرضه التنظير لتنزيل العالم بفائدة الخبر ولازمها منزلة الجاهل بهما، وليس غرضه التمثيل له؛ ولهذا ذكر أيضا قوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] وهو من تنزيل الموجود منزلة المعدوم، وليس من تنزيل العالم منزلة الجاهل.
3 مثله إذا كان المخاطب عالما بالحكم وأراد المخبر إفادته لازم فائدة الخبر، أو إظهار التحسر، ونحوه، أو تنزيله منزلة الجاهل، فيستغنى في ذلك أيضا عن المؤكدات.
حسن تقويته بمؤكد1؛ كقولك: "لزيد عارف"، أو "إن زيدا عارف".
ج- وإن كان حاكما بخلافه، وجب توكيده بحسب الإنكار2؛ فتقول:"إني صادق" لمن ينكر صدقك ولا يبالغ في إنكاره، و:"إني لصادق" لمن يبالغ في إنكاره، وعليه قوله تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 13-16] . حيث قال3 في المرة الأولى: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} ، وفي الثانية:
1 أي: مؤكد واحد؛ ليزيل تردده في الإسناد بالتوكيد، ومثل التردد في الإسناد التردد في لازم فائدة الخبر، وحسن التأكيد في ذلك إنما هو بالنظر إلى حال الإنكار، وإلا فهو واجب أيضا، ولا يراد إلا التمييز باللفظ بين الحالين، وأن درجة الوجوب في التردد ليست كدرجة الوجوب في الإنكار، والمراد بالمتردد ما يشمل الظان والمتوهم، وقد ذهب عبد القاهر إلى أنه لا يحسن التأكيد إلا إذا كان للمخاطب ظن على خلاف حكم المتكلم، وسيأتي قريبا ما يفيد جواز تعدد التوكيد في التردد كالإنكار.
ومن التأكيد للتردد في الحكم قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 96] .
2 فيؤتى له بمؤكد واحد أو اثنين أو أكثر على حسب إنكاره في القوة والضعف، وقيل: إنه لا يكتفي في الإنكار بمؤكد واحد، ومثل إنكار الإسناد في هذا إنكار لازم فائدة الخبر، ومن هذا قوله تعالى:{قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ينكر علمهم بذلك، فأكدوا له.
ومن أدوات التأكيد: إن، والقسم، ونونا التوكيد، ولام الابتداء، وأما الشرطية، وحروف التنبيه، وضمير الفصل، وقد، وأدوات الاستفتاح، والحروف الزائدة.
3 فأكد في المرة الأولى بإن واسمية الجملة، وفي الثانية بهما وبالقسم واللام؛ لأنهم بالغوا في الإنكار فقالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا
…
} الآية.
{إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} .
ويؤيد ما ذكرناه جواب أبي العباس للكندي1 عن قوله: "إني أجد في كلام العرب حشوا؛ يقولون: عبد الله قائم، وإن عبد الله قائم، وإن عبد الله لقائم، والمعنى واحد! " بأن قال: "بل المعاني مختلفة؛ فعبد الله قائم إخبار عن قيامه، وإن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل، وإن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر".
ويسمى النوع الأول من الخبر: ابتدائيا، والثاني: طلبيا، والثالث: إنكاريا، وإخراج الكلام على هذه الوجوه2: إخراجا على مقتضى الظاهر 3:
خريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر: وكثيرا ما يخرج على خلافه4، فينزل غير السائل منزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بحكم الخبر، فيستشرف له استشراف المتردد الطالب5؛ كقوله تعالى:{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} 6.
1 أبو العباس: هو محمد بن يزيد المبرد، والكندي: هو يعقوب بن إسحاق الفيلسوف.
2 هي: الخلو عن التأكيد في الأول، وعن التقوية بمؤكد؛ استحسانا في الثاني، ووجوبا في الثالث.
3 أي: يسمى إخراجا على مقتضى الظاهر، والمراد به ظاهر الحال. وهو الحال الداعي الذي له ثبوت في الواقع؛ كخلو المخاطب من الحكم أو تردده أو إنكاره. والحال أعم من ظاهر الحال؛ لأنه يشمل أمرين: أحدهما ما له ثبوت في الواقع، والثاني ما لا ثبوت له؛ كتنزيل غير السائل منزلة السائل ونحوه مما سيأتي.
4 هذا باب من البلاغة أوقع في النفس من تخريج الكلام على مقتضى الظاهر؛ لدقة مسلكه، وحسن موقعه في النفس. وقد قيل: إنه باب الكناية. وقيل: إنه من الاستعارة بالكناية والتخييل. وقيل: إنه من مستتبعات الكلام فلا يوصف بحقيقة ولا مجاز ولا كناية.
5 الحال هنا تقديم ما يلوح للمخاطب بالخبر. ومن نكت تنزيل غير السائل منزلة السائل أيضا الاهتمام بشأن الخبر لكونه مستبعدا، والتنبيه على غفلة السامع، وغير ذلك.
6 آية: 37 سورة هود. فإن قوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} يلوِّح باستحقاقهم العذاب.
وقوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} 1، وقول بعض العرب "الرجز":
فغنها وهي لك الفداء
…
إن غناء الإبل الحداء2
وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة فيها دقة وغموض؛ روي عن الأصمعي أنه قال: كان أبو عمرو بن العلاء3 وخلف الأحمر يأتيان بشارا فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ، ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما، ويكتبان عنه متواضعيْنِ له، حتى يأتي وقت الزوال، ثم ينصرفان. فأتياه يوما، فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكما، قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب!! قال: نعم، إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب؛ فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف، قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ، فأنشدهما "الخفيف":
بكرا صاحبي قبل الهجير
…
إن ذاك النجاح في التبكير4
حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان "إن ذاك النجاح":
1 آية 53 سورة يوسف، فإن قوله:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} يلوِّح بقبح نفسها "امرأة العزيز". ولا يخفى أن هنا توكيدين، وهذا يفيد جواز تعدد التوكيد في المتردد وما ينزل منزلته، فيكون الفرق بينه وبين المنكر في الوجوب والاستحسان فقط. وقيل: إن أحد التوكيدين لاستبعاد الخبر في ذاته.
2 لا يعلم قائله. والضمير في قوله: "فغنها" للإبل أي: فغن لها، والحداء بضم الحاء وكسرها مصدر:"حدا الإبل" إذا ساقها وغنّى لها. والشاهد في أنه حين يقول: "غنها" ليشتد سيرها يفهم السامع أن غناءها هو الحداء الذي تساق به، فتستشرف له نفسه، ومن هذا قول أبي نواس "من بحر السريع":
عليك باليأس من الناس
…
إن غنى نفسك في الياس
3 رواية الأغاني: "كان خلف بن عمرو بن العلاء وخلف الأحمر
…
" وقد ساق القصة كما هنا.
4 هو لبشار بن برد. والهجين: من الزوال إلى العصر.. أو شدة الحر. والشاهد في أن الشطر الأول يلوح بالثاني؛ ولهذا أتى به مؤكدا.
"بكرا فالنجاح" كان أحسن. فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية1 فقلت: "إن ذاك النجاح" كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت:"بكرا فالنجاح" كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذلك الكلام2، ولا يدخل في معنى القصيدة. قال: فقام خلف فقبّله بين عينيه. فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبي عمرو بن العلاء -وهم من فحولة هذا الفن- إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟
وكذلك ينزل غير المنكر منزلة المنكر3 إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار؛ كقوله:
جاء شقيق عارضا رمحه
…
إن بني عمك فيهم رماح4
فإن مجيئه هكذا مدلا بشجاعته، قد وضع رمحه عرضا، دليل على إعجاب شديد منه، واعتقاد أنه لا يقوم إليه من بني عمه أحد، كأنهم كلهم عزل ليس مع أحد منهم رمح.
وكذلك ينزل المنكر منزلة غير المنكر5 إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع عن
1 وحشية: صفة كاشفة لأعرابية، ولا يريد الوحشية المخلة بالفصاحة.
2 لأنه ليس فيه من دقة الإشارة إلى تنزيل غير السائل منزلة السائل ما في قوله: "إن ذاك النجاح"؛ وإنما فيه تكرير الأمر بالتبكير لتأكيده على وجه ظاهره لا دقة فيه.
3 غير المنكر يشمل خالي الذهن من الحكم، والمتردد، والعالم به من غير إنكار، ولكنه لا يعمل بعلمه؛ كقولك للمسلم التارك للصلاة: إن الصلاة واجبة. وفائدة تنزيل المتردد منزلة المنكر: المبالغة في توكيد الخبر له.
4 هو لحجل بن نضلة الباهلي، وبعده:
هل أحدث الدهر لنا ذلة؟
…
أم هل رفت أم شقيق سلاح؟
وقوله: "عارضا رمحه" معناه: أنه وضعه على عرضه؛ بأن جعله على فخذيه بحيث يكون عرضه إلى جهتهم، وكان هذا من أمارة عدم التصدي للحرب، والشاهد في قوله:"إن بني عمك فيهم رماح"، وهو من تنزيل العالم منزلة المنكر.
5 المراد بغير المنكر: خالي الذهن من الحكم فقط؛ لأنه لا فائدة لتنزيل المنكر منزلة المتردد، وقيل: إن له فائدة في تقليل التوكيد كما سيأتي في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .
الإنكار؛ كما يقال لمنكر الإسلام: "الإسلام حق"1. وعليه قوله تعالى في حق القرآن: {لَا رَيْبَ فِيهِ} 2.
ومما يتفرع على هذين الاعتبارين3 قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15، 16] أكد إثبات الموت بتأكيدين وإن كان مما لا ينكر؛ لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت؛ لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده، ولهذا قيل:{لَمَيِّتُونَ} دون "تموتون" كما سيأتي الفرق بينهما4، وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان مما ينكر؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بألا ينكر، بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه، فنزل
هذا، وقد ترك تنزيل السائل منزلة غير السائل، وهو أيضا مما يدخل في باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وإنما ينزل السائل منزلة غير السائل إذا لم يكن هناك وجة لتردده.
1 أي: من غير تأكيد. واعتُرض على هذا بأنه جملة اسمية، وأجيب بأن الجملة الاسمية إنما تفيد التوكيد إذا اعتُبر تحويلها عن الجملة الفعلية، نحو:"زيد يقول" فإنها يمكن اعتبارها محولة عن "يقوم زيد".
2 آية 2 سورة البقرة. فإن معناه أن القرآن ليس محل شك، وهذا ينكره المخاطبون من الكفار، فكان حقه في الظاهر التأكيد، ولكنهم نزلوا منزلة غير المنكرين؛ فترك التأكيد لهم، وقيل: إن هذا ليس تمثيلا لتنزيل المنكر منزلة غير المنكر، بناء على أن المراد نفي الريب نفسه مع أنه واقع منهم، تنزيلا له منزلة عدمه، فيكون هذا تنظيرا لتنزيل المنكر منزلة غيره لا تمثيلا له، ويؤيد هذا أن قوله فيما يأتي:"وهكذا اعتبارات النفي" ظاهر في أنه لم يسبق مثال منه.
3 يعني اعتبار تنزيل غير المنكر منزلة المنكر، واعتبار تنزيل المنكر منزلة غير المنكر.
4 أي: في الكلام على المسند من أن ذكره قد يكون ليتعين كونه اسما، فيُستفاد منه الثبوت، أو كونه فعلا فيستفاد منه التجدد؛ وبهذا يكون ما في الآية من تنزيل العالم منزلة المنكر.
المخاطبون منزلة المترددين فيه؛ تنبيها لهم على ظهور أدلته، وحثا على النظر فيها، ولهذا جاء {تُبْعَثُونَ} على الأصل1.
هذا كله اعتبارات الإثبات، وقس عليه اعتبارات النفي؛ كقولك:"ليس زيد"، أو:"ما زيد منطلقا" أو "بمنطلق"، "ووالله ليس زيدا"، أو:"ما زيد منطلقا" أو بمنطلق، و"ما ينطلق؛ أو ما إن ينطلق زيد"، و"ما كان زيد ينطلق، وما كان زيد لينطلق"، و"لا ينطلق زيد"، و"لن ينطلق زيد"، "ووالله ما ينطلق، أو ما إن ينطلق زيد"2.
1 أي: على الفعلية دون الاسمية؛ لأن المعنى على التجدد، لا الثبوت، وبهذا يكون ما في الآية من تنزيل المنكر منزلة المتردد.
2 هذا والتأكيد يأتي أيضا في الإنشاء كما يأتي في الخبر، كقول الشاعر "من البسيط":
هلا تمنن بوعد غير مخلفة
…
كما عهدتك في أيام ذي سلم
ولكن التأكيد لا يأتي في الإنشاء لدفع التردد والإنكار؛ لأنهما لا يأتيان فيه، وإنما يأتي لأغراض أخرى من أغراض التأكيد في الخبر؛ لأنها لا تنحصر فيما ذكر: فمنها الدلالة على استبعاد الحكم من المخبر؛ كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء: 117] . ومنها الاعتناء بشأن الحكم؛ كما في قول أبي بكر: "إن البلاء موكل بالمنطق". ومنها تهيئة النكرة للابتداء بها؛ كما في قول الشاعر "من الخفيف":
إن دهرا يلف شملي بسعدى
…
لزمان يهم بالإحسان
ومنها إظهار صدق الرغبة في الحكم وقصد ترويجه، كما في قوله تعالى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] . فلم يؤكدوا في خطاب المؤمنين؛ لعدم رواجه منهم عندهم، وأكدوا في خطاب إخوانهم؛ لصدق رغبتهم فيهم.
تمرينات على أغراض الخبر وأضربه:
تمرين1:
بين الغرض من الخبر فيما يأتي:
1-
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
…
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
2-
محا البين ما أبقت عيون المها مني
…
فشبت ولم أقض اللبانة من سني
3-
قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: الآية 1] .
تمرين2:
من أي أضرب الخبر ما يأتي:
1-
عليك باليأس من الناس
…
إن غنى نفسك في الياس
2-
لقد عظم البعير بغير لب
…
فلم يستغن بالعظم البعير
3-
ما إن ندمت على سكوتي مرة
…
ولقد ندمت على الكلام كثيرا
تمرين3:
بين ما جرى من أضرب الخبر على مقتضى الظاهر، أو خلافه فيما يأتي:
1-
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
…
إن السفينة لا تجري على اليَبَس
2-
قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76] .
3-
قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] .
تمرين4:
بين الغرض من التأكيد فيما يأتي:
1-
إن محلا وإن مرتحلا
…
وإن في السفر إذا مضوا مهلا
2-
قوله تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] .
3-
إن البغاث بأرضنا يستنسر.
4-
ألا إن أخلاق الفتى كزمانه
…
فمنهن بيض في العيون وسود