الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة: في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة، وانحصار علم البلاغة في علمي المعاني والبيان
1
الخلاف في تفسير الفصاحة والبلاغة:
للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة2، لم أجد -فيما بلغني منها-
1 إنما حصر علم البلاغة في علمي المعاني والبيان؛ لأن علم البديع يبحث في المحسنات التي تكون بعد رعاية وجوه البلاغة والفصاحة في الكلام. وقدم الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة على بيان انحصار علم البلاغة في هذه العلوم؛ لأن معرفة انحصاره فيها تتوقف على الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة، وبهذا كان صنيعه أحسن من السكاكي؛ لأنه ذكر الكلام على الفصاحة والبلاغة في آخر علم البيان.
2 منها قول أكثم بن صيفي: "البلاغة: الإيجاز"، وقول أرسطو:"البلاغة: حسن الاستعارة"، وقول ابن المقفَّع:"البلاغة: قلة الحصَر، والجراءة على البشَر"، وقول بعضهم:"البلاغة: تصوير الحق في صورة الباطل، وتصوير الباطل في صورة الحق".
فالأول كقول محمد بن عبد الملك الزيات: "الرحمة: خَوَر في الطبيعة، وضعف في المُنَّة".
والثاني كقول الحارث بن حلزة "مجزوء الكامل":
عيشي بجد لا يضر
…
ك النوك ما لاقيت جدا
والعيش خير في ظلا
…
ل النوك ممن عاش كدا
وأقوال المتقدمين كثيرة في البلاغة، والظاهر أن جمهورهم لم يكن يفرق بينها وبين الفصاحة، وقد نُقل عن أفلاطون أن:"الفصاحة لا تكون إلا لموجود، والبلاغة تكون لموجود ومفروض". ولعله يعني بالموجود اللفظ، وبالمفروض المعنى. وقال العاصي بن عدي:"الشجاعة قلب ركين، والفصاحة لسان رزين". وهو يعني باللسان اللفظ، وبالرزين ما فيه فخامة وجزالة. وقال بعضهم: الفصاحة تمام آلة البيان، وهي عنده مقصورة على اللفظ أيضا؛ لأن الآلة -وهي اللسان- تتعلق باللفظ دون المعنى.
ما يصلح لتعريفهما به1، ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلِّم؛ فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين؛ فنقول:
كل واحدة منهما تقع صفة لمعنيين: أحدهما: الكلام، كما في قولك:"قصيدة فصيحة أو بليغة، ورسالة فصيحة أو بليغة"، والثاني: المتكلم2كما في قولك: "شاعر بليغ أو فصيح، وكاتب فصيح أو بليغ".
والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد؛ فيقال: "كلمة فصيحة"، ولا يقال:"كلمة بليغة".
فصاحة المفرد:
أما فصاحة المفرد: فهي خلوصه من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس اللغوي.
1 لأن هذه الأقوال يقصد منها ذكر أوصاف البلاغة والفصاحة، ولا يقصد منها حقيقة الحد والرسم، وقد قصد بعض العلماء بعد هذه الأقوال إلى حقيقة الحد والرسم، فقاربوا ولم يصلوا إليهما، ومنهم أبو هلال العسكري في "الصناعتين"؛ فعرّف البلاغة بأنها:"كل ما تُبْلِغ به المعنى قلب السامع لتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة، ومعرض حَسَن". وذكر أنه اختُلف في الفصاحة؛ فقيل: إنها مأخوذة من قولهم: أفصح عما في لسانه إذا أظهره؛ وعلى هذا ترادف البلاغة. وقيل: إنها تمام آلة البيان؛ فلا يكونان مترادفين؛ لأن الفصاحة تكون حينئذ مقصورة على اللفظ، وكذلك كان السكاكي في "المفتاح" كما سيأتي في كلامه عليهما.
2 يرى أبو هلال العسكري أن البلاغة من صفة الكلام لا المتكلم؛ ولهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى بليغا؛ إذ لا يجوز أن يوصف بصفة كان موضوعها الكلام، وأما تسمية المتكلم بليغا فتوسع، وحقيقته أن كلامه بليغ، ثم كثر استعمال ذلك حتى صار كالحقيقة، ويرى أيضا أنه لا يجوز أن يسمى فصيحا؛ لأن الفصاحة تتضمن معنى الآلة وهي اللسان. هذا، وقد اعتمد الخطيب في ذلك التقسيم على ما جاء في "حسن التوسل" لأبي الثناء الحلبي، وكذلك اعتمد عليه في كثير من الموضوعات الآتية في العلوم الثلاثة.
فالتنافر منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقَل على اللسان وعسر النطق بها1؛ كما روي أن أعرابيا سئل عن ناقته فقال: "تركتها ترعى الهُعْخُع"2، ومنه ما هو دون ذلك؛ كلفظ "مستشزر" في قول امرئ القيس:
غدائره مُسْتَشْزِراتٌ إلى العلا3
1 ذكر ابن الأثير أن المعول في ذلك على الذوق الصحيح، فما يعده ثقيلا عسر النطق فهو متنافر، سواء أكان ذلك من قرب مخارج الحروف أم من بعدها أم من غيرهما، وذكر ابن سنان الخفاجي أن قرب المخارج يكون سببا في قبح اللفظ، وبعدها يكون سببا في حسنه، وذلك غير صحيح؛ لأن الكلمتين قد تتركبان من حروف واحدة وتكون إحداهما ثقيلة دون الأخرى، وذلك مثل "عَلَم ومَلَع"؛ فالأولى خفيفة على اللسان ولا ينبو عنها الذوق، بخلاف الثانية، مع اتحاد حروفهما. وقد تتألف الكلمة من حروف متقاربة ولا ثقل فيها مثل:"ذقته بفمي" فالباء والفاء والميم أحرف شفوية متقاربة ولا ثقل فيها، ولكن مع هذا لا يمكن إنكار ما لمخارج الحروف وصفاتها وهيئة تأليفها من الأثر في خفة الكلمة وثقلها، وإنما عُوِّل على الذوق دونه؛ لأنه لا يجري على قاعدة معروفة، وقد زعم الزوزني أن في قوله تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس: 60] ثقلا قريبا من التناهي؛ لقرب مخرج الهمزة والعين والهاء، مع أن الكلمة خفيفة في الذوق، وهي سقطة من الزوزني.
2 قيل: إنه اسم شجر، وقيل: إنه معاياة لا أصل لها. ومثله كل كلمة يُجمع فيها بين العين والحاء أو بين العين والخاء أو بين الجيم والصاد أو بين الجيم والقاف أو بين الدال والزاي ونحو ذلك، مثل: عِقْجُق والظش والشصاصاء ونحوها.
3 هو من قول حُندج بن حجر الكندي، المعروف بامرئ القيس في معلقته "من الطويل":
وفرع يزين المتن أسود فاحم
…
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا
…
تضل المداري في مثنى ومرسل
وفرع المرأة: شعرها، والمتن: الظهر، والأثيث: الكثير الشعر، والقنو: العنقود، والمتعثكل: المتراكم، والغدائر: الذوائب، والمستشزرات: المرتفعات، والمداري: الأمشاط جمع: مِدْرَى، والمثنى: المفتول، والمرسل: غير المفتول. وسبب ثقل "مستشزر" توسط الشين المهموسة الرخوة بين التاء المهموسة الشديدة والزاي المجهورة.
ومثل مستشزرات "اطْلَخَمّ" في قول أبي تمام "من البسيط":
قد قلت لما اطلخم الأمر وانبعثت
…
عشواء تالية غبسا دهاريسا
وكذلك "سُوَيْدَواتها" في قول المتنبي "من الكامل":
إن الكريم بلا كرام منهم
…
مثل القلوب بلا سويدواتها
وقد نشأ ثقلها من طولها، وهي مفردة أيضا؛ لأنها مركب إضافي.
والغرابة: أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها1؛ فيُحتاج في معرفته إلى أن يُنَقَّب عنها في كتب اللغة المبسوطة؛ كما روي عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار، فاجتمع عليه الناس، فقال:"ما لكم تكأكَأْتُم علي تَكَأْكُؤكم على ذي جنة؟! افْرَنْقِعوا عني" أي: اجتمعتم، تنحوا.
أو يُخَرَّج لها وجه بعيد2 كما في قول العجاج:
1 عدم ظهور المعنى ينشأ عن وحشية الكلمة. ومعنى وحشيتها: كونها غير مأنوسة الاستعمال عند العرب الخلص؛ فلا يعول في ذلك على غيرهم من المحدَثين الذين ظهروا بعد فساد اللغة، ولا يرد على هذا متشابه القرآن ومجمله؛ لأن المراد عدم ظهور المعنى الموضوع له، والمعنى الوضعي في المتشابه والمجمل ظاهر لا خفاء فيه، وإنما الخفاء في مراد الله تعالى منهما.
ومن المتشابه في القرآن قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، ومنه في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:"ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا". ومنه في الشعر قول أبي تمام "من الكامل":
ولهت فأظلم كل شيء دونها
…
وأضاء منها كل شيء مظلم
فالوَله والظلمة والإضاءة ألفاظ ظاهرة المعنى، ولكن البيت بجملته يحتاج فهمه إلى استنباط، ومراده: أنها ولهت فأظلم ما بينه وبينها من جزعه لولهها، وظهر له ما خفي عنه من حبها له.
وإني أرى أن الغرابة وحدها لا تخل بفصاحة الكلمة، وقد بينت هذا في كتابي "البلاغة العالية"، وكذلك أرى أن ابتذالها لا يعيبها ما دامت معاني الكلام جيدة، وهو اما اختاره ابن شرف القيرواني، وعليه بعض نقاد الإنجليز الذين يرون أن الابتذال يكون في الفكرة لا في الكلمة.
2 إنما يُلجَأ عندهم إلى تخريجها على وجه بعيد إذا وقعت من عربي عارف باللغة؛ لأنه لا يصح حمل كلامه على الخطأ، والحق أن العربي قد يخطئ في لغته، وأن الحمل على الخطأ خير من تكلف ذلك التخريج البعيد.
وفاحما ومَرْسِنا مُسَرَّجا1
فإنه لم يعرف ما أراد بقوله: "مسرجا"؛ حتى اختُلف في تخريجه2؛ فقيل: هو من قولهم للسيوف سُرَيجية: منسوبة إلى قَيْن يقال له: سريج، يريد أنه في الاستواء والدقة كالسيف السريجي. وقيل: من السراج، يريد أنه في البريق كالسراج. وهذا يقرب3
1 هو لعبد الله بن رؤبة التميمي السعدي، المعروف بالعجاج من قوله "من الرجز":
أيام أبدت واضحا مفلجا
…
أغر براقا وطرفا أبرجا
ومقلة وحاجبا مزججا
…
وفاحما ومرسنا مسرجا
والفاحم: الشعر الشديد السواد، والمرسن: اسم لمحل الرسن وهو أنف البعير، ثم أُطلق وأريد به الأنف مطلقا على سبيل المجاز المرسل.
وقيل: إن الشاهد لرؤبة بن العجاج.
2 سبب اختلافهم أن "مسرجا" اسم مفعول من سرّج، وصيغة فعّل تأتي للنسبة إلى مصدرها، كما تقول:"كرّمته" بمعنى نسبته إلى الكرم، ولما كان هذا غير ممكن في "سرّج" تكلفوا له أصلا ينسب إليه؛ وهو السيوف السريجية أو السراج. وهذا إلى أن "مسرجا" في قول العجاج بمعنى شبيه بالسراج أو السيوف السريجية، وهو في أصل وضعه يدل على النسبة إلى أصله، ولا يستفاد منه التشبيه إلا بتكلف.
والحق أن أخذه من السراج لا غرابة فيه من جهة الاشتقاق والتشبيه؛ لأن الاشتقاق من الاسم الجامد قد جاء في كلام العرب، كما في قول ابن المفرع "من الخفيف":
وبرود مدنرات وقز
…
وملاء من أعتق الكتان
فالمعنى في ذلك التشبيه، أي: برود وشيها.
3 إنما كان قول العجاج قريبا من هذا الاستعمال ولم يكن منه؛ لأنه كما جاء في "التاج" استعمال غريب أو مولَّد، والعجاج شاعر إسلامي، فلا يقال في كلمته: إنها مولَّدة.
والحق أن هذا الاستعمال من الغريب لا المولَّد؛ لأن العجاج شاعر إسلامي، ولكن غرابته لا تكون من غرابة التخريج على وجه بعيد، وإنما هي من القسم الأول.
ومن الكلمات الغريبة "الحلقَّدُ" بمعنى السيئ الخُلُق، و"الابتِشَاك" بمعنى الكذب، كما في قول الشاعر "من الوافر":
وما أرضى لمقلته بحلم
…
إذا انتبهت توهمه ابتشاكا
من قولهم: "سَرِج وجهه" بكسر الراء، أي: حَسُنَ، وسَرَّج الله وجهه، أي: بهّجه وحسّنه.
ومخالفة القياس1 كما في قول الشاعر "من الرجز":
الحمد لله العلي الأجْلَلِ2
فإن القياس: "الأجَلّ" بالإدغام.
وقيل: هي خلوصه مما ذُكر، ومن الكراهة في السمع: بأن تُمَجّ الكلمة ويُتبرأ من
1 المراد به القياس اللغوي كما سبق، ومخالفته بأن تكون الكلمة على خلاف ما ثبت عن الواضع، وقد حمله بعضهم على القياس الصرفي، وهو خطأ؛ لأن مخالفة القياس الصرفي لا تخل دائما بالفصاحة؛ إذ توجد كلمات كثيرة فصيحة على خلافه، وذلك مثل: آل وماء ويأبى وعَوِرَ يَعْوَرُ. هذا، ويدخل في مخالفة القياس اللغوي ككل ما تنكره اللغة لمأخذ لغوي أو صرفي أو غيرهما. وذلك كالمقراض في قول أبي الشيص "الكامل":
وجناح مقصوص تحيف ريشه
…
ريب الزمان تحيف المِقْراض
لأنه لم يسمع في كلامهم إلا مثنى، خلافا لسيبويه. وكالأيِّم في قول أبي عبادة "من الطويل":
يشق عليه الريح كل عشية
…
جيوب الغمام بين بكر وأيم
لأنه وضعها مكان الثيب، مع أن الأيم هي التي لا زوج لها ولو كانت بكرا.
وكحذف النون من "لكنْ" في قول النجاشي "من الطويل":
فلست بآتيه ولا أستطيعه
…
وَلَاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
أراد: "ولكن اسقني".
2 هو لأبي النجم الفضل بن قدامة من قوله في مطلع أرجوزته "من الرجز":
الحمد لله العلي الأجلل
…
الواهب الفضل الكريم المجزل
والذي ألجأه إلى فك الإدغام ضرورة الشعر، ولكن ذلك لا يمنع الإخلال بالفصاحة؛ لأن من الضرورات الشعرية ما هو مستقبح، وقد روي مطلعها:
الحمد لله الوهوب المجزل
…
أعطى فلم يَبخل ولم يُبَخَّل
فلا يكون فيه شاهد لمخالفة القياس، ومنه قول الشاعر "البسيط":
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي
…
أني أجود لأقوام وإن ضَنِنُوا
سماعها كما يُتبرأ من سماع الأصوات المنكرة؛ فإن اللفظ من قبيل الأصوات، والأصوات منها ما تستلذّ النفس سماعه، ومنها ما تكره سماعه.
كلفظ "الجِرِشَّى" في قول أبي الطيب "المتقارب":
كريم الجرشى شريف النسب1
…
أي: كريم النفس، وفيه نظر2.
ثم علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرا3، أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها4.
فصاحة الكلام:
وأما فصاحة الكلام: فهي خلوصه من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات، والتعقيد، مع فصاحتها5.
1 هو لأحمد بن الحسين الجعفي الكندي، المعروف بأبي الطيب المتنبي، من قوله في مدح سيف الدولة "من المتقارب":
مبارك الاسم أغر اللقب
…
كريم الجرشى شريف النسب
وقد أخذ الدسوقي في "حاشيته على المختصر" من قوله: "شريف النسب" أن سيف الدولة من بني العباس، وهو خطأ ظاهر؛ لأن سيف الدولة من تَغْلِب.
2 وجه النظر أن الكراهة في السمع لا تكون إلا من تنافر حروف الكلمة أو غرابتها، فليست شيئا آخر غيرهما، و"الجرشى" في بيت المتنبي تدخل في الغرابة.
3 هذا إذا لم يكن لها مرادف.
4 هذا إذا كان لها مرادف، ولكن هذا يقتضي نفي الفصاحة عن مرادفها، مع أن مراتب الفصاحة متفاوتة، فلا مانع من أن يكون كل منهما فصيحا ولو كان أحدهما أكثر استعمالا، فالأولى الاقتصار على الشق الأول من هذه العلامة.
5 أي: مع فصاحة الكلمات؛ لأن فصاحة الكلمة شرط من فصاحة الكلام، فلو خلا من الثلاثة واشتمل على كلمة غير فصيحة لم يكن فصيحا، وذلك كقول أبي الطيب "المتقارب":
مبارك الاسم أغر اللقب
…
كريم الجرشى شريف النسب
فالضعف1: كما في قولنا: "ضرب غلامُه زيدًا"؛ فإن رجوع الضمير إلى المفعول المتأخر لفظا ممتنع عند الجمهور؛ لئلا يلزم رجوعه إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة، وقيل: يجوز2؛ كقول الشاعر "من الطويل":
جزى ربُّهُ عني عديَّ بن حاتم
…
جزاء الكلاب العاويات، وقد فعل3
وأجيب عنه بأن الضمير لمصدر "جزى" أي: رب الجزاء؛ كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 4 [المائدة: 8] أي: العدل.
والتنافر: منه ما تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على اللسان، وعسر النطق بها متتابعة؛ كما في البيت الذي أنشده الجاحظ "من الرجز":
1 ضعف التأليف: هو أن يكون تأليف الكلام على خلاف المشهور من قواعد النحو، وإنما قيد الخلاف بالمشهور من القواعد؛ لأن خلاف المجمع عليها خطأ لا ضعف تأليف.
2 هذا مقابل قوله: "ممتنع عند الجمهور" فهو قول بعض النحاة أيضا، وليس قولا لبعض علماء البلاغة؛ لأنهم متفقون على أن ذلك ضعف تأليف.
3 نسبوه لزياد بن معاوية "المعروف بالنابغة الذبياني"، وقيل: إنه لأبي الأسود الدؤلي، وقيل: إنه مولد مصنوع. وجزاء الكلاب: الضرب بالحجارة، وجملة "جزى ربه" دعائية، يعني: أنه يدعو عليه بذلك، وقد حقق الله دعاءه، ولا يخفى ما في هذا من عدم التلاؤم، والأولى أن يعود ضمير "فعل" إلى "عدي"، والمراد ما فعله معه من الإساءة إليه، والحق أن هذا البيت ليس للنابغة، وإنما هو اشتباه بقوله:
جزى الله عبسا عبس آل بغيض
…
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
4 وهذا قياس مع الفارق؛ لأن الضمير في الآية ظاهر العود إلى "العدل"، أما البيت فضميره ظاهر العود إلى "عدي"، ولا داعي إلى تكلف عوده إلى الجزاء.
ومن ضعف التأليف وقوع ضمير الوصل بعد "إلا" في قول الشاعر "البسيط":
وما علينا إذا ما كنت جارتنا
…
ألا يجاورنا إلاك ديار
ومنه حذف "أن" مع بقاء عملها، كقول طرفة "الطويل":
ألا أيهذا الزاجري أَحْضَرَ الوغى
…
وأَنْ أشهدَ اللذات هل أنت مخلدي؟!
وقبر حرب بمكان قفر
…
وليس قرب قبر حرب قبر1
ومنه ما دون ذلك، كما في قول أبي تمام "من الطويل":
كريم، متى أمدحْه أمدحْه والوَرَى
…
معي وإذا ما لُمته لُمته وحدي2
فإن في قوله: "أمدحه" ثقلا ما؛ لما بين الحاء والهاء من التنافر3.
والتعقيد: أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد به4، وله سببان:
أحدهما ما يرجع إلى اللفظ؛ وهو أن يختلّ نظم الكلام5، ولا يدري السامع
1 هو فيما زعموا لبعض الجن، وكان قد صاح على حرب بن أمية في فلاة، فمات بها، والقفر: الخالي، وهو مرفوع صفة لمكان على القطع، أو خبر المبتدأ وهو قبر، والمعنى: أنه مع مكانه قفر، وفي هذا الوجه تكلف.
2 هو لحبيب بن أوس الطائي المعروف بـ "أبي تمام"، يمدح به موسى بن إبراهيم الرافقي، والورى: الخلق، ولا يخفى نبوّ الشطر الثاني عن المدح ولا سيما مع "إذا" المفيدة للتحقق، وأُخذ عليه أيضا مقابلة المدح باللوم لا الهجاء، ولعله أراد أن ينزهه عنه.
3 الحق أنه لا تنافر في ذلك؛ لأنه ثقل محتمل، وقد جاء في قوله تعالى:{فَسَبِّحْهُ} [ق: 40] .
وقيل: إن الذي أوجب التنافر في البيت هو التكرير في قوله: "أمدحه" مع الجمع بين الحاء والهاء، ومع هذا لا يقال: إن هذا التعليل يُقبَل لو كان يتحدث عن تنافر الحروف، ولكنه يُقبَل بصدد الحديث عن تنافر الكلمات.
ومن تنافر الكلمات قول الشاعر "من السريع":
وازوَرّ من كان له زائرا
…
وعافَ عافي العرف عرفانه
4 أي: لا الموضوع له كما في الغرابة، ولا يدخل في التعقيد المتشابه والمجمل؛ لأن عدم ظهور المراد فيهما ليس لاختلال النظم أو نحوه مما يأتي. وقد اختُلف في دخول اللغز والمعمَّى في التعقيد، فقيل: إنهما منه، وقيل: إنهما من المحسِّنات البديعية إن كانت الدلالة فيهما ظاهرة للفَطِن، وكل منهما قول يدل ظاهره على خلاف المراد، ولكن اللغز يكون على طريق السؤال؛ كقول الحريري في المِيل "ما يُجعل به الكحل في العين" "من الطويل":
وما ناكح أختين سرا وجهرة
…
وليس عليه في النكاح سبيل؟
5 قد يكون اختلاله باجتماع أمور فيه توجب صعوبة الوصول إلى معناه، وإن كانت جائزة يريد أنه لم يكن كثاني اثنين، وقيل: إن "ثانيه" خبر ثانٍ لصار، و"ثان" اسم "يكن"، و"كاثنين" خبره، والأولى جعل "ثانيه" خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو.
كيف يتوصل منه إلى معناه؛ كقول الفرزدق "من الطويل":
وما مثله في الناس إلا مملكا
…
أبو أمه حي أبوه يقاربه1
كان حقه أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه؛ فإنه مدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان فقال: "وما مثله" يعني: إبراهيم الممدوح، "في الناس حي يقاربه"2 أي: أحد يشبهه في الفضائل، إلا "مملكا" يعني هشاما، "أبو أمه" أي: أبو أم هشام، "أبوه" أي: أبو الممدوح، فالضمير في "أمه" للمملك، وفي "أبوه" للممدوح؛ ففصل بين "أبو أمه" وهو مبتدأ و"أبوه" وهو خبره بـ "حي" وهو أجنبي، وكذا فصل بين "حي" و"يقاربه" وهو نعت "حي" بـ "أبوه" وهو أجنبي، وقدم المستثنى على المستثنى منه، فهو كما تراه في غاية التعقيد3.
= في النحو، وهذه الأمور كالتقديم والتأخير والحذف والإضمار ونحو ذلك، وبهذا يكون التعقيد اللفظي غير ضعف التأليف، ولكنهما قد يجتمعان في مثال واحد، كما في بيت الفرزدق، وينفرد ضعف التأليف في مثل:"ضرب غلامه زيدا"، وينفرد التعقيد في مثل:"إلا عمرًا الناسَ ضاربُ زيد" بتقديم المفعول والمستثنى وتأخير المبتدأ، وهذا جائز في النحو، والأصل:"زيد ضارب الناس إلا عمرًا".
1 هو لهمّام بن غالب التميمي المعروف بالفرزدق، وقيل: إن البيت ليس له.
2 فـ "يقاربه" في البيت بمعنى: يضاهيه ويشبهه، ويجوز أن يكون من قُرب النسب.
3 حمله بعضهم على وجه لا تعقيد فيه، فجعل الاستثناء من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور قبله، وجعل قوله:"حي" خبرا لقوله: "أبو أمه"، وكذلك قوله:"أبوه" فهو خبر بعد خبر، وجملة ذلك صفة لقوله:"مملكا"، وكذلك جملة "يقاربه" فهي صفة بعد صفة، ويكون المعنى:"إلا مملكا يقاربه أبو أمه حي"، وهو أبو الممدوح، ولا يخفى ما في الإخبار بحي من التهافت.
ومن التعقيد اللفظي قول أبي تمام "من الكامل":
ولقد ثنى الأحشاء من برحائها
…
أن صار بابك جار ما زيار
ثانيه في كبد السماء ولم يكن
…
كاثنين ثان إذ هما في الغار =
فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي: ما سلم نظمه من الخلل؛ فلم يكن فيه ما يخالف الأصل -من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك- إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة -لفظية أو معنوية- كما سيأتي تفصيل ذلك كله، وأمثلته اللائقة به.
والثاني ما يرجع إلى المعنى، وهو ألا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهرا1؛ كقول العباس بن الأحنف "من الطويل":
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا
…
وتسكب عينايَ الدموع لتجمدا2
كنى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن3، وأصاب؛ لأن من شأن البكاء أن يكون كناية عنه؛ كقولهم:"أبكاني وأضحكني" أي: ساءني وسرني، وكما قال الحماسي "من السريع":
أبكاني الدهر ويا ربما
…
أضحكني الدهر بما يرضي4
ثم طرد ذلك في نقيضه، فأراد أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود؛ لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر، وأخطأ5؛ لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها؛ فلا يكون
1 المعنى الأول: هو المعنى الأصلي، والمعنى الذي هو لازمه: هو المعنى المجازي أو الكنائي.
2 قوله: "وتسكب" بالرفع، ونصبه بالعطف على "بعد" أو على "تقربوا" وهم، والحق أنه لا شيء في عطفه على "تقربوا"، والسين في قوله:"سأطلب" لمجرد التأكيد، ومعنى الشطر الأول: أنه يفارقه رجاء أن يغنم في سفره، فيعود إليه فيطول اجتماعه به.
3 قيل: إنه لا حاجة إلى الكناية بسكب الدموع عن هذا؛ لأنه يجوز أن يراد به حقيقة.
4 هو لحطان بن المعلى من شعراء الحماسة، وقد كنى فيه بإبكاء الدهر له عن إساءته، وبإضحاكه له عن سروره.
5 أي: في نظر علماء البيان، وإن كان لكلامه وجه من الصحة بأن يكون استعمل جمود العين -وهو يبسها- في خلوها من الدموع وقت الحزن، مجازا مرسلا علاقته الملزومية، ثم استعمله في خلوها من الدموع مطلقا مجازا مرسلا من استعمال المقيد في المطلق، ثم كنى به عن دوام السرور، وفي ذلك من البعد والتعقيد بكثرة الوسائط ما يجعله خطأ في نظر علماء البيان.
كناية عن المسرة؛ وإنما يكون كناية عن البخل، كما قال الشاعر "من الطويل":
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط
…
عليك بجاري دمعها لجمود1
ولو كان الجمود يصلح أن يراد به عدم البكاء في حال المسرة لجاز أن يدعى به للرجل؛ فيقال: "لا زالت عينك جامدة"، كما يقال:"لا أبكى الله عينك" وذلك مما لا يُشك في بطلانه. ومن ذلك قول أهل اللغة: "سنة جماد لا مطر فيها، وناقة جماد لا لبن لها"؛ فكما لا تجعل السنة والناقة جمادا إلا على معنى أن السنة بخيلة بالقطر والناقة لا تسخو بالدر، لا تجعل العين جَمُودا إلا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها، وما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأنها قد جادت، وإذا لم تبك مسيئة موصوفة بأنها قد ضنّت.
فالكلام الخالي عن التعقيد المعنوي: ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني -الذي هو المراد به- ظاهرا، حتى يخيل إلى السامع أنه فهمه من حاقّ
1 هو لأفلح بن يسار، وقيل: مرزوق بن يسار المعروف بأبي عطاء الخراساني في رثاء ابن هبيرة، وبعده:
عشية قام النائحات وشققت
…
جيوب بأيدي مأتم وخدود
وواسط: مدينة بالعراق بناها الحجاج بن يوسف، وقد قُتل ابن هبيرة في معركة وقعت فيها، وقد كنى فيه بجمود العين عن بخلها الدمع في الوقت الذي يجب فيه أن تدمع.
ومن التعقيد المعنوي قول أبي تمام "من الطويل":
من الهيف لو أن الخلاخل صُيِّرت
…
لها وُشُحا جالت عليها الخلاخل
أراد وصفها بدقة الخصر، فكنى عنه بأن الخلاخل لو جُعلت لها وشحا لجالت عليها، وهذا لا يدل على مراده، بل يدل على بلوغها غاية القِصَر؛ لأنه أمكن أن تكون الخلاخل وشحا لها، والوشاح يضرب لها من العاتق إلى الكشح.
اللفظ1 كما سيأتي من الأمثلة المختارة للاستعارة والكناية.
"تعريف آخر للفصاحة": وقيل: فصاحة الكلام هي خلوصه مما ذُكِر، ومن كثرة التكرار وتتابع الإضافات؛ كما في قول أبي الطيب:
سَبُوح لها منها عليها شواهد2
وفي قول ابن بابَكَ:
حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي3
وفيه نظر؛ لأن ذلك إن أفضى باللفظ إلى الثقل على اللسان، فقد حصل الاحتراز عنه بما تقدم4، وإلا فلا تخل5 بالفصاحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: $"الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"6.
1 حاق الشيء: وسطه.
2 هو لأحمد بن الحسين، المعروف بأبي الطيب المتنبي في وصف فرسه "من الكامل":
وتسعدني في غمرة بعد غمرة
…
سبوح لها منها عليها شواهد
والغمرة: الشدة، والسبوح: السريعة، والشواهد: العلامات، وهو فاعل قوله:"لها"؛ لاعتماده على الموصوف قبله أو مبتدأ مؤخر، والشاهد في كثرة الضمائر وتكرارها.
3 هو لعبد الصمد بن منصور البغدادي، المعروف بابن بابك من قوله "من الطويل":
حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي
…
فأنت بمرأى من سعاد ومسمع
الجرعاء: مؤنث الأجرع، وهو المكان ذو الرمل لا يُنبت شيئا، وحومة الشيء: معظمه، والجندل: الحجارة، ومرأى ومسمع: اسما مكان أي: بمكان تراك منه سعاد وتسمعك. والشاهد في إضافة حمامة إلى جرعا، وجرعا إلى حومة، وحومة إلى الجندل.
4 يعني: بالتنافر.
5 أي: كثرة التكرار، وتتابع الإضافات.
6 في الحديث كثرة تكرار وهي ظاهرة، وفيه تتابع إضافات؛ لأن الإضافات تشمل المتداخلة كما في قول ابن بابك، وغير المتداخلة كما في الحديث، والمتداخلة هي التي يضاف فيها الأول للثاني، والثاني للثالث. وكثرة التكرار وتتابع الإضافات فيه لم تخلّ بالفصاحة.
قال الشيخ عبد القاهر1: "قال الصاحب2: إياك والإضافات المتداخلة؛ فإنها لا تحسن". وذكر أنها تستعمل في الهجاء، كقول القائل "من الخفيف":
يا علي بن حمزة بن عمارهْ
…
أنت -والله- ثلجة في خياره3
ثم قال الشيخ: ولا شك في ثقل ذلك في الأكثر، ولكنه إذا سلم من الاستكراه ملُح ولطُف. ومما حسُن فيه قول ابن المعتز أيضا4 "من الطويل":
وظلت تدير الراح أيدي جآذر
…
عتاق دنانير الوجوه ملاح5
ومما جاء فيه حسنا جميلا، قول الخالدي يصف غلاما له "من المنسرح":
ويعرف الشعر مثل معرفتي
…
وهو على أن يزيد مجتهد
وصيرفي القريض وزّان ديـ
…
ـنار المعاني الدقاق منتقد6
فصاحة المتكلم:
وأما فصاحة المتكلم فهي ملكة يُقتَدَر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح؛
1 دلائل الإعجاز، ص70، المطبعة العربية.
2 هو إسماعيل بن عبّاد المعروف بالصاحب؛ لصحبته ابن العميد.
3 لا يعرف قائله، وفي قوله:"ثلجة في خياره" قلب، والأصل: خياره في ثلجة، واعتُرض على الخطيب بأنه سيذكر هذا البيت في الاطراد من أنواع البديع فكيف يعيبه هنا؟! والحق أنه ليس فيه تتابع إضافات، وإنما هذا اشتباه نظر من عبد القاهر، وقد ترجم ياقوت لعلي بن حمزة في الجزء الخامس من معجم الأدباء.
4 أي: كما حسن فيما ذكره له قبل ذلك، وهو قوله "من المجتث":
يا مسكة العطار
…
وخال وجه النهار
5 هو لعبد الله بن المعتز. والراح: الخمر، والجآذر: جمع جؤذر، وهو ولد البقرة الوحشية، والعتاق: جمع عتيق بمعنى كريم، وإضافة دنانير إلى الوجوه من إضافة المشبه به إلى المشبه، والشاهد في قوله:"عتاق دنانير الوجوه".
6 هما لأبي عثمان سعيد بن هاشم، المعروف بالخالدي. والصيرفي: المحتال في الأمور، والقريض: الشعر، والمنتقد في الأصل: الخبير بتمييز الدراهم، ثم أُطلق على تمييز الدراهم وغيرها، والشاهد في قوله:"وزّان دينار المعاني".
فالملكة قسم من مقولة الكيف التي هي هيئة قارّة لا تقتضي قسمة ولا نسبة1، وهو مختص بذوات الأنفس، راسخ في موضوعه.
وقيل: "ملكة" ولم يُقَل: "صفة"؛ ليشعر بأن الفصاحة من الهيئات الراسخة؛ حتى لا يكون المعبر عن مقصوده بلفظ فصيح فصيحا إلا إذا كانت الصفة التي اقتُدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح راسخة فيه، وقيل:"يقتدر بها" ولم يقل: يعبر بها؛ ليشمل حالتي النطق وعدمه، وقيل:"بلفظ فصيح" ليعم المفرد والمركب.
بلاغة الكلام:
وأما بلاغة الكلام فهي: مطابقته لمقتضى الحال2 مع فصاحته3.
ومقتضى الحال مختلف؛ فإن مقامات4 الكلام متفاوتة؛ فمقام التنكير يباين مقام التعريف، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد، ومقام التقديم يباين مقام التأخير،
1 خرج بهذا القيد مقولة الكم؛ كالعدد، وكذلك مقولة بالإضافة، كالأبوة، وهذا تعريف فلسفي للكيفية، وهي صفة وجودية إن اختصت بالنفس الناطقة فهي نفسانية، فإن رسخت بتوالي أمثالها فهي ملكة، وهذا التعريف أليق بعلوم البلاغة.
2 الحال: هو الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدي به أصل المراد خصوصية ما، ومقتضى الحال: هو تلك الخصوصية، ومطابقة الكلام له: بمعنى اشتماله عليه، فإذا كان المخاطب ينكر قيام زيد مثلا، فإنكاره حالٌ يدعو المتكلم إلى أن يخبره بقيامه مؤكدا:"إن زيدا قائم"، وتأكيد الخبر هو "مقتضى الحال".
3 فصاحته تكون بخلوّه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد، على ما سبق في بيان فصاحة الكلام، وهذا قيد يخرج به كل كلام غير فصيح، فلا يكون بليغا وإن كان مطابقا لمقتضى الحال. ويجب عندي أن يزاد فيها قيد آخر، أي: مع فصاحته وأصالته؛ لأن المعنى إذا لم يكن أصيلا لم يكن بليغا، على نحو ما يأتي في السرقات الشعرية آخر الكتاب، وبهذا يكون الكلام فيها عندي من علم المعاني.
4 المقامات: جمع مقام، وهو اسم مكان من "قام"، والمراد به الحال السابق؛ وذلك أن البلغاء كانوا يلقون خطبهم وأشعارهم وهم قيام، فأُطلق المقام على الحال الداعي إليها؛ لأنه سبب فيه.
ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة، وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام1، إلى غير ذلك، كما سيأتي تفصيل الجميع.
وارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول2: بمطابقته للاعتبار المناسب، وانحطاطه: بعدم مطابقته له، فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب3.
وهذا -أعني تطبيق الكلام على مقتضى الحال- هو الذي يسميه الشيخ عبد القاهر بالنظم4؛ حيث يقول: "النظم تأخِّي5 معاني النحو6 فيما بين الكَلِم على
1 هذا كالفعل الذي يقترن بالشرط، فله مع "إِنْ" مقام ليس له مع "إذا" وهكذا
…
ومن ذلك ما روي أن رجلا أنشد ابن هرمة قوله "من الكامل":
بالله ربك إن دخلت فقل لها
…
هذا ابن هرمة قائما بالباب
فقال له: "ما هكذا قلت، أكنت أتصدق؟! قال: فقاعدا. قال: أكنت أبول؟! قال: فماذا؟ قال: واقفا، ليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى". ولعل ابن هرمة يعني من ذلك أن القيام يقتضي الدوام والثبوت بخلاف الوقوف، تقول: وقف الحاج بعرفة، ولا تقول: قام.
وتحقيق هذا أن الألفاظ المركبة فيها جمال وقبح كالألفاظ المفردة؛ حتى إنه قد يحدث أن يتألف الكلام من ألفاظ جميلة في ذاتها، قبيحة في تركيبها؛ لفقدها ما يسمى جمال الانسجام، وهذا هو ما يعنون بقولهم:"ولكل كلمة مع صاحبتها مقام".
2 عطف القَبُول على الحسن؛ ليدل على أن المراد الحسن الذاتي الداخل في البلاغة، لا الحسن العَرَضي الحاصل بالمحسنات البديعية.
3 أي: الأمر الذي اعتبره المتكلم مناسبا بحسب السليقة، أو بحسب ما عرفه من أساليب البلغاء.
4 دلائل الإعجاز ص55.
5 تأخيت الشيء: تحرّيته وتتبّعته.
6 يريد بمعاني النحو الخصوصيات التي هي مقتضى الحال من التقديم والتأخير وغيرهما، والأغراض في قوله:"على حسب الأغراض" هي الأحوال الداعية إليها، أو المعاني الثانوية التي يقصد من الخصوصيات إفادتها، وقيل: إن عبد القاهر لا يقف في هذا بالنحو عند وظيفته التي قصر أخيرا عليها، وهي الحكم بالصحة والخطأ في المعاني الأصلية، بل يجعل له حكما أيضا في المعاني الثانوية، ولهذا عرفه ابن جني بأنه "انتحاء كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره؛ ليلتحق من ليس من أهل العربية بأهلها من الفصاحة".
بحسب الأغراض التي يُصاغ لها الكلام".
فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى عند التركيب1، وكثيرا ما يسمى ذلك2 فصاحة أيضا، وهو مراد الشيخ عبد القاهر3 بما يكرره في "دلائل الإعجاز" من أن "الفصاحة صفة راجعة إلى المعنى دون اللفظ" كقوله في أثناء فصل منه:"علمت أن الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني، وإلى ما يدل عليه بالألفاظ دون الألفاظ أنفسها"4. وإنما قلنا مراده ذلك؛ لأنه صرح في مواضع من "دلائل الإعجاز" بأن فضيلة الكلام للفظ لا لمعناه، منها أنه حكى قول من ذهب إلى عكس ذلك5، فقال: "فأنت تراه لا يقدم شعرا حتى يكون قد أُودع حكمة أو أدبا، أو اشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر"6 ثم قال:
1 أي: لا باعتبار أنه لفظ وصوت، ولا باعتبار الألفاظ المفردة والكلم المجردة، والمراد بالمعنى الذي تعتبر به البلاغة: المعنى الثانوي، وهو مدلول الخصوصيات السابقة في علم المعاني، والمعاني المجازية والكنائية في علم البيان. أما المعنى الأصلي وهو مجرد ثبوت المسند للمسند إليه فلا تعتبر به البلاغة أصلا، وقد تطلق المعاني الثانوية على نفس الخصوصيات.
2 أي: الوصف المذكور، وهو البلاغة، وعلى هذا تكون مرادفة للفصاحة.
3 فهو يريد بالفصاحة في كلامه البلاغة؛ لأن الفصاحة بمعناها السابق ترجع في التنافر والغرابة ومخالفة القياس والتعقيد اللفظي إلى اللفظ وحده، ولا ترجع إلى المعنى إلا في التعقيد المعنوي، وكذلك يريد من رجوع الفصاحة بمعنى البلاغة إلى المعنى أنها صفة اللفظ باعتبار المعنى، ولا يريد أنها لا ترجع إلى اللفظ أصلا.
4 دلائل الإعجاز ص169.
5 عكسه هو أن فضيلة الكلام للمعنى لا للفظ.
6 دلائل الإعجاز ص164.
"والأمر بالضد إذا جئنا إلى الحقائق وما عليه المحصلون؛ لأنا لا نرى متقدما في علم البلاغة مبرزا في شأوها إلا وهو ينكر هذا الرأي". ثم نقل عن الجاحظ في ذلك كلاما منه قوله: "والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك". ثم قال1: "ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار، فكما أنه محال -إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وجودة العمل ورداءته- أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل؛ كذلك محال -إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام- أن تنظر في مجرد معناه، وكما "أننا" لو فضلنا خاتما على خاتم بأن تكون فضة هذا أجود، أو فصه أنفس؛ لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتا على بيت من أجل معناه ألا يكون ذلك تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام". هذا لفظه، وهو صريح في أن الكلام -من حيث هو كلام- لا يوصف بالفضيلة باعتبار شرف معناه، ولا شك أن الفصاحة2 من صفاته الفاضلة؛ فلا تكون راجعة إلى المعنى، وقد صرح فيما سبق بأنها راجعة إلى المعنى دون اللفظ، فالجمع بينهما بما قدمناه بحمل كلامه؛ حيث نفى أنها من صفات اللفظ، على نفي أنها من صفات المفردات من غير اعتبار التركيب3، وحيث أثبت أنها من صفاته على أنها من صفاته باعتبار إفادته المعنى عند التركيب4.
1 دلائل الإعجاز ص166.
2 يريد من الفصاحة ما يرادف البلاغة، جريا على مذهب عبد القاهر.
3 أي: من غير اعتبار ما يفيده التركيب من المعاني الثانوية.
4 فالمعنى الذي أرجع الفصاحة إليه هو المعنى الثانوي باعتبار استفادته من اللفظ عند التركيب. والمعنى الذي نفى البلاغة عنه هو المعنى الأصلي للفظ المفرد والكلام المجرد عن الخصوصيات.
وللبلاغة طرفان: أعلى، إليه تنتهي، وهو حد الإعجاز وما يقرب منه1. وأسفل، منه تبتدئ2، وهو ما إذا غُيِّر الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات؛ وإن كان صحيح الإعراب.
وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة.
"المحسنات البديعية": وإذ قد عرفت معنى البلاغة في الكلام وأقسامها ومراتبها؛ فاعلم أنه يتبعها وجوه كثيرة3 غير راجعة إلى مطابقة مقتضى الحال ولا إلى الفصاحة، تورث الكلام حسنا وقبولا4.
بلاغة المتكلم:
وأما بلاغة المتكلم فهي ملكة يُقتدر بها على تأليف كلام بليغ.
حصر علوم البلاغة: وقد عُلم بما ذكرنا أمران:
أحدهما: أن كل بليغ -كلاما كان أو متكلما- فصيح، وليس كل فصيح
1 حد الإعجاز: منتهاه؛ لأن الحد في اللغة: منتهى الشيء، وما يقرب من الإعجاز هو ما دونه من مراتب الإعجاز؛ لأن الحق أن القرآن متفاوت الإعجاز، وليس كل آياته في درجة واحدة من البلاغة، وبهذا يكون قوله:"وما يقرب منه" معطوفا على "حد الإعجاز"، وقيل: إنه معطوف على قوله: "وهو"، على معنى أن حد الإعجاز هو الطرف الأعلى وما يقرب منه كما قال السكاكي، ولكن حمل ما هنا عليه لا يخلو من تكلف.
2 من العلماء -كالفخر الرازي- من يرى أن هذا ليس من البلاغة، فيُلحق بأصوات الحيوانات أيضا، والحق أنه منها؛ لأنه لا بد من اشتماله على خصوصية ما، فيدخل في تعريف البلاغة.
3 هي المحسنات البديعية الآتية في علم البديع.
4 المراد بالقبول هنا ما يرادف الحسن، لا القبول بمعنى الصحة؛ لعدم توقف صحة الكلام عليها.
بليغا1.
الثاني: أن البلاغة في الكلام مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد2، وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره3. والثاني -أعني التمييز- منه ما يُتبين في علم متن اللغة أو التصريف أو النحو، أو يدرك بالحسن، وهو ما عدا التعقيد المعنوي4.
وما يحترز به عن الأول -أعني الخطأ في تأدية المعنى المراد- هو علم المعاني.
وما يحترز به عن الثاني -أعني التعقيد المعنوي- هو علم البيان.
وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته هو علم البديع5.
1 مما هو فصيح، وليس ببليغ قول نصيب "من الوافر":
فإن تصلي أصلك وإن تعودي
…
لهجر بعد وصلك لا أبالي
لأنه نسيب رديء، ومنه أيضا قول جميل "من الطويل":
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها
…
ولكن طلابها لما فات من عقلي
رغم أنه يهواها لذهاب عقله، وأنه لو كان عاقلا ما طلبها، وأين هذا من قول بعضهم:
وما سرني أني خلي من الهوى
…
ولو أن لي من بين شرق إلى غرب
فإن كان هذا الحب ذنبي إليكم
…
فلا غفر الرحمن ذلك من ذنب
2 هو المعنى الثانوي، والاحتراز عن الخطأ فيه بمراعاة مقتضى الحال.
3 لأن الفصاحة شرط في البلاغة كما سبق، وتمييز ذلك يكون بمعرفة الأمور المخلة بالفصاحة من: التنافر، والغرابة، ومخالفة القياس، وضعف التأليف، وغير هذا مما سبق.
4 ما عدا التعقيد المعنوي: هو الغرابة، ومخالفة القياس، وضعف التأليف، والتعقيد اللفظي، والتنافر، والأول يُعرف بعلم متن اللغة، والثاني بالتصريف وغيره؛ لأنه لا يختص به، والثالث والرابع بالنحو، والخامس يدرك بالحس والذوق، وبهذا تتوقف علوم البلاغة على هذه العلوم، وعلى تربية الحس والذوق بمطالعة كلام العرب.
5 بهذا تنحصر علوم البلاغة في العلوم الثلاثة، وإنما لم تجعل علوم اللغة والتصريف والنحو من علوم البلاغة مع توقف الفصاحة عليها أيضا؛ لأنها تقصد لأغراض غير الفصاحة، ومعرفة بعض نواحي الفصاحة منها تأتي بطريق العَرَض.
وكثير من الناس يسمي الجميع علم البيان1، وبعضهم يسمي الأول علم المعاني، والثاني والثالث علم البيان، وبعضهم يسمي الثلاثة علم البديع2.
1 لأن البيان هو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير، وهذه العلوم لها تعلق بالكلام الفصيح تصحيحا وتحسينا.
2 إما لبداعة مباحثها، أو لأنها يُعرف بها أمور مبتدعة بالنسبة إلى تأدية أصل المراد الذي يعرفه الخاصة والعامة، والظاهر أن الذي يسمي الثلاثة علم البديع بعض آخر غير من ذهب إلى ما قبله.