الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: الحقيقة والمجاز العقليان
الإسناد منه حقيقة عقلية، ومنه مجاز عقلي1.
أما الحقيقة فهي إسناد الفعل2 -أو معناه- إلى ما هو له3 عند المتكلم في الظاهر4.
والمراد بمعنى الفعل نحو المصدر واسم الفاعل5.
1 الحقيقة والمجاز العقليان يأتيان في الإسناد الإنشائي أيضا، وقيل: إنهما يأتيان في الإسناد الإضافي ونحوه، كما في قوله:{مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33]، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [الحج: 12] . وقيل: إن الإضافة قد تكون لمطلق الملابسة، فتكون في نحو "مكر الليل" حقيقة عقلية. ويسمى المجاز العقلي مجازا حكميا ومجازا إسناديا أيضا، ومن الإسناد ما لا يكون حقيقة ولا مجازا كما سيأتي.
2 المراد بالإسناد ما يشمل الإسناد الإيجابي والسلبي.
3 الإسناد إلى ما هو له يشمل الإسناد إلى الفاعل وإلى المفعول. ويريد بكونه له إذا كان فاعلا أن معناه قائم به ووصف له، وحقه أن يسند إليه، سواء أكان مخلوقا لله تعالى كما يقول أهل السنة، أم كان لغيره كما يقول المعتزلة، والأفعال من هذه الجهة تنقسم إلى أفعال استأثر الله بها مثل الخلق والرزق، وإلى أفعال لغيره كسب فيها، مثل "أحسن وأساء وقام وقعد"، وإلى أفعال يراد من إسنادها مجرد الاتصاف بها، مثل "صح ومرض وعظم وتنزه"؛ فالأولى إسنادها إلى الله حقيقي ولا يصح إسنادها إلى غيره إسنادا حقيقيا، والثانية يصح إسنادها إلى غيره إسنادا حقيقيا، ومنها ما لا يصح إسناده إليه تعالى مثل "قام وقعد"، والثالثة منها ما يسند إليه تعالى، مثل "عظم وتنزه" ومنها ما يسند إلى غيره مثل "صح ومرض"، هذا والمعول عليه عند الخطيب هو إسناد الفعل أو معناه ولو في جملة اسمية، كما سيأتي تحقيقه.
4 أي: في ظاهر حال المتكلم، بألا ينصب قرينة تدل على أنه غير ما هو له في اعتقاده كما سيأتي.
5 مثلهما اسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والظروف؛ لأن المراد بالإسناد ما يشمل الإسناد على جهة المفعولية كما سبق، فيدخل في ذلك إسناد اسم المفعول كما يدخل فيه إسناد الفعل إلى المفعول.
وقولنا: "في الظاهر" ليشمل ما لا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع، وما لا يطابقه؛ فهي أربعة أضرب:
أحدها: ما يطابق الواقع واعتقاده؛ كقول المؤمن: "أنبت الله البقل، وشفى الله المريض".
والثاني: ما يطابق الواقع دون اعتقاده؛ كقول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يُخفيها منه1: "خالق الأفعال كلها هو الله تعالى".
والثالث: ما يطابق اعتقاده دون الواقع؛ كقول الجاهل: "شفى الطبيب المريض" معتقدا شفاء المريض من الطبيب، ومنه قوله تعالى حكاية عن بعض الكفار:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] ، ولا يجوز أن يكون مجازا، والإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ؛ لما فيه من إيهام الخطأ2، بدليل3 قوله تعالى عقيبه:{وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] . والمتجوز المخطئ في العبارة لا يوصف بالظن، وإنما الظان من يعتقد أن الأمر على ما قاله.
والرابع: ما لا يطابق شيئا منهما؛ كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالما بحالها دون المخاطب4.
1 لأن الإسناد في قوله حينئذ يكون على ما هو له في ظاهر حاله، ولا يخفى أن الجملة هنا مركبة من مبتدأ وخبر، ولكن يصدق عليها أن فيها إسناد معنى الفعل لما هو له.
2 هذا تعليل للإنكار عليهم مع كونه مجازا؛ فقوله: "لما" متعلق بالإنكار.
3 متعلق بقوله: "ولا يجوز".
4 قيل: إن الأقوال الكاذبة حقيقة عقلية ولو علم المخاطب بحالها؛ لأن الفعل فيها مسند إلى ما هو له بحسب وضع اللغة، فهو بظاهره من شأنه أن يدل على ذلك وإن تخلَّفت الدلالة لمانع اعتقاد الكاذب؛ وبهذا تنقسم الحقيقة العقلية إلى: صادقة وكاذبة.
تعريف المجاز العقلي: وأما المجاز فهو إسناد الفعل1، أو معناه، إلى ملابس له2، غير ما هو له بتأول3.
وللفعل4 ملابسات شتى: يلابس الفاعل، والمفعول به، والمصدر، والزمان، والمكان، والسبب5.
فإسناده إلى الفاعل: إذا كان مبنيا له حقيقة كما مر، وكذا إلى المفعول: إذا كان مبنيا له6. وقولنا: "ما هو له" يشملهما.
وإسناده إلى غيرهما7 -لمضاهاته8 ما هو له في ملابسة الفعل- مجاز؛ كقولهم في المفعول به9:
1 المراد بالإسناد هنا أيضا ما يشمل الإيجابي والسلبي، والثاني كقوله تعالى:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]، وكذلك ما يشمل إسناد الفعل إلى الفاعل وإلى المفعول؛ كما في قولك: أجرى الله النهر.
2 يشير بهذا إلى أنه لا بد فيه من العلاقة كسائر المجازات؛ فالعلاقة هنا هي الملابسة، أي: ملابسة العقل للفاعل المجازي من جهة وقوعه عليه أو فيه أو به أو نحو ذلك.
3 أي: بقرينة صارفة عن إرادة الظاهر؛ لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره، فالمتبادر في نحو:"أنبت الربيع البقل" أن الإسناد فيه إلى ما هو له، والقرينة تصرفه عن ظاهره.
4 مثله ما في معناه بقرينة التعريف.
5 لم يذكر المفعول معه والحال ونحوهما؛ لأن الفعل لا يسند إلى ذلك على سبيل المجاز العقلي.
6 نحو: أُنبت البقلُ.
7 هذا يشمل إسناد ما هو للفاعل إلى المفعول به؛ نحو: "عيشة راضية"، وإسناد ما هو للمفعول إلى الفاعل، نحو:"سيل مفعم".
8 يريد بالمضاهاة في ذلك علاقة الملابسة السابقة، ولا يريد أن العلاقة في ذلك المشابهة؛ لأن المشابهة علاقة المجاز بالاستعارة لا المجاز العقلي، وقيل: إن العلاقة هنا المشابهة في الملابسة، وهو تكلّف يأباه أسلوب المجاز العقلي؛ لأنه لا يلاحظ فيه ذلك أصلا، على أن علاقة المشابهة لا تكفي فيها هذه الملابسة.
9 أي: في إسناد ما هو للفاعل إلى المفعول به، والعلاقة فيه الملابسة بالمفعولية.
عيشة راضية، وماء دافق1، وفي عكسه: سيل مفعم2، وفي المصدر: شعر شاعر3، وفي الزمان: نهاره صائم، وليله قائم4، وفي المكان: طريق سائر، ونهر جارٍ5، وفي السبب:"بنى الأمير المدينة". وقال:
إذا رد عافي القِدْر من يستعيرها6
وقولنا: "بتأول" يخرج نحو قول الجاهل: "شفى الطبيب المريض"؛ فإن إسناده
1 منه أيضا قول الشاعر "البسيط":
دع المكارم لا ترحل لبُغْيَتها
…
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
يريد: المطعوم المكسوّ، والأصل في ذلك: راضٍ صاحبها، ودافق ماؤه، وطاعم وكاسٍ: طاعمه وكاسيه.
2 منه أيضا قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61]، أي: آتيا، والعلاقة فيه الملابسة بالفاعلية، والأصل: مفعم واديه، ومأتيّ مضمونه.
3 منه أيضا قول الشاعر "السريع":
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
…
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
والأصل -في ذلك- شعر شاعر صاحبه، وجدّ صاحب جدّهم، والعلاقة فيه الملابسة بالمصدرية.
4 منه أيضا قوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر: 9] ، والعلاقة فيه الملابسة بالزمانية، والأصل: صائم فيه
…
إلخ.
5 العلاقة فيه الملابسة بالمكانية، والأصل: سائر السائر فيه
…
إلخ.
6 هو لعوف بن الأحوص من قوله "من الطويل":
فلا تسأليني واسألي عن خليقتي
…
إذا رد عافي القدر من يستعيرها
وقد نُسب في "أساس البلاغة" للكميت. والعلاقة في ذلك: الملابسة بالسببية، والأصل: بنى البنّاء المدينة بسببه، ورد المعير القدر بسببه، وعافي القدر: المرق الذي يبقى فيها فيكون سببا في رد المستعير لها؛ فإسناد الرد إلى عافي القدر من الإسناد إلى السبب، وهذا كناية عن كَلَب الزمان وكونه يمنع إعارة القدر لتلك البقية، وقيل: إن عافي القدر هو الضيف، والمعنى أن المستعير يراه والقدر منصوبة له فلا يطلبها. وقيل: إن البيت لعبيد بن الأبرص. وقيل: إنه لمضرس الأسدي.
الشفاء إلى الطبيب ليس بتأول. ولهذا لم يحمل نحو قول الشاعر الحماسي "المتقارب":
أشاب الصغير وأفنى الكبيـ
…
ـر كر الغداة ومر العشي1
على المجاز، ما لم يعلم أو يظن أن قائله لم يُرِدْ ظاهره2، كما استُدل على أن إسناد "ميز" إلى "جذب الليالي" في قول أبي النجم "من الرجز":
قد أصبحت أم الخيار تدعي
علي ذنبا كله لم أصنع
من أن رأت رأسي كرأس الأصلع
ميز عنه قنزعا عن قنزع
جذب الليالي أبطئي أو أسرعي3
مجاز؛ بقوله عقيبه:
أفناه قيل الله للشمس: اطلعي
…
حتى إذا واراكِ أفق فارجعي4
وسمي الإسناد في هذين القسمين من الكلام عقليا؛ لاستناده إلى العقل دون الوضع؛ لأن إسناد الكلمة إلى الكلمة شيء يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة،
1 هو لقثم بن خبية المعروف بالصلتان العبدي، وقيل: إنه للصلتان الضبي، والغداة: أول النهار، وكرها: رجوعها بعد ذهابها. والعشي: أول الليل.
2 جاء في قصيدة الصلتان ما يدل على أنه لم يرد بذلك الإسناد ظاهره، وهو قوله "المتقارب":
فملتنا أننا مسلمون
…
على دين صديقنا والنبي
3 هو للفضل بن قدامة المعروف بأبي النجم، والقنزع: الشعر المجتمع في نواحي الرأس، و"عن" الثانية بمعنى "بعد"، والأصلع: الذي سقط شعر مقدم رأسه، وجملتا "أبطئي أو أسرعي" حال من الليالي على تقدير القول؛ أي: مقولا فيها ذلك، بالنظر إلى اختلاف أحوالها في المسرة والمساءة.
4 فقد أسند فيه إفناء شعر الرأس إلى الله، فدل على أن إسناده قبله إلى الليالي مجاز. قيل الله: قوله، وقوله: واراك بمعنى: غيبك وسترك.
فلا يصير "ضَرَبَ" خبرا عن "زيد" بواضع اللغة؛ بل بمن قُصد إثبات الضرب فعلا له، وإنما الذي يعود إلى واضع اللغة أن "ضرب" لإثبات الضرب، لا لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمان ماضٍ، وليس لإثباته في زمان مستقبل، فأما تعيين من ثبت له، فإنما يتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين. ولو كان لغويا لكان حكمنا بأنه مجاز في مثل قولنا:"خط أحسن مما وشّى الربيع"؛ من جهة أن الفعل لا يصح إلا من الحي القادر1، حكما بأن اللغة هي التي أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر دون الجماد، وذلك مما لا يشك في بطلانه2.
وقال السكاكي3: "الحقيقة العقلية هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه، قال: وإنما قلت: "ما عند المتكلم" دون أن أقول: "ما عند العقل"4؛ ليتناول كلام الجاهل إذا قال: "شفى الطبيب المريض" رائيا شفاء المريض من الطبيب، حيث عُد منه حقيقة، مع أنه غير مفيد لما في العقل من الحكم فيه"5.
وفيه نظر؛ لأنه غير مطرد؛ لصدقه على ما لم يكن المسند فيه فعلا ولا متصلا به6، كقولنا:"الإنسان حيوان" مع أنه لا يسمى حقيقة ولا مجازا7، ولا منعكس؛
1 أي: لا من الربيع.
2 يقصد بهذا الرد على قول بعضهم: إن الإسناد في هذين القسمين لغوي لا عقلي. وقيل: إن جرينا على أن المركبات موضوعة فهو لغوي، وإن لم نجر على هذا فهو عقلي، وهذا خلاف لا طائل تحته.
3 المفتاح ص211.
4 أي: كما قال عبد القاهر.
5 لأن العقل يرى إسناد ذلك إلى الله، لا إلى الطبيب.
6 المتصل بالفعل هو اسم الفاعل ونحوه.
7 الحق أنه لا معنى للاعتراض بهذا على السكاكي؛ لأنه يرى أن الحقيقة والمجاز العقليين يجريان في كل إسناد، ولا يخصّهما بما خصّه به الخطيب، على أن الخطيب قد ذكر في المجاز العقلي أمثلة مركبة من مبتدأ وخبر، مثل:"نهاره صائم" ولا ينفع في الجواب عنه أن المجاز عنده في إسناد الخبر إلى ضمير المبتدأ؛ لأن هذا الإسناد غير مقصود في الكلام، وإنما المقصود =
لخروج ما يطابق الواقع دون اعتقاد المتكلم، وما لا يطابق شيئا منهما منه مع كونهما حقيقتين عقليتين كما سبق1.
وقال2: "المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه؛ لضرب من التأول، إفادة للخلاف، لا بواسطة وضع"؛ كقولك: "أنبت الربيع البقل، وشفى الطبيب المريض، وكسا الخليفة الكعبة". قال: وإنما قلت: "خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه" دون أن أقول: "خلاف ما عند العقل"؛ لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري3 عن اعتقاد جهل، أو قال جاهل غيره:"أنبت الربيع البقل" رائيا إنباته من الربيع؛ فإنه لا يسمى كلامه ذلك مجازا وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر، واحتج ببيت الحماسة4 وقول أبي النجم على ما تقدم.
ثم قال: "ولئلا يمتنع عكسه "كسا الخليفة الكعبة، وهزم الأمير الجند" فليس في العقل امتناع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة، ولا أن يهزم الأمير وحده الجند،
= الإسناد إلى المبتدأ على أنه قد ذكر من أمثلة الحقيقة العقلية فيما سبق -خالق الأفعال كلها هو الله- وهذا الجواب لا يأتي فيه، وقد ذكر عبد القاهر من المجاز العقلي قول الخنساء "البسيط":
ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت
…
فإنما هي إقبال وإدبار
وهذا مبتدأ وخبر، وإنما جعله مجازا؛ لأن كلا من الإقبال والإدبار لم يحمل على الناقة حمل مواطأة وإن كان وصفا لها، وعبد القاهر حجة في هذا الفن. وقد قيل: إنه مجاز مرسل من إطلاق الصفة وإرادة الموصوف، وقيل: إنه على حذف مضاف تقديره: ذات إقبال، والحق أنه لا داعي إلى هذا التكلف؛ لأنها تقصد المبالغة بالإخبار بالمصدر من غير تأويل أو حذف، ويمكن أن يؤخذ من اقتصار الخطيب على الاعتراض بمثل "الإنسان حيوان" أن الذي لا يسمى عنده حقيقة ولا مجازا هو الذي يكون الخبر فيه جامدا لا فعلا أو في معناه، ولكنهم قالوا: إن مذهبه أعم من ذلك.
1 لأنهما دخلا في تعريفه لها بزيادته قيد "في الظاهر"، وقد أهمله السكاكي.
2 المفتاح ص208.
3 هو من ينسب الأفعال إلى الدهر.
4 هو بيت الصلتان العبدي السابق.
ولا يقدح ذلك في كونهما من المجاز العقلي، وإنما قلت:"لضرب من التأول"؛ ليُحْتَرَز به عن الكذب؛ فإنه لا يسمى مجازا مع كونه كلاما مفيدا خلاف ما عند المتكلم، وإنما قلت:"إفادة للخلاف لا بواسطة وضع"؛ ليحترز به عن المجاز اللغوي في صورة، وهي إذا ادُّعي أن "أنبت" موضوع لاستعماله في القادر المختار، أو وُضع لذلك"1.
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم بطلان طرده بما ذُكر؛ لخروجه بقوله: "لضرب من التأول" ولا بطلان عكسه بما ذكر؛ إذ المراد بخلاف ما عند العقل خلاف ما في نفس الأمر2. وفي كلام الشيخ عبد القاهر3 إشارة إلى ذلك؛ حيث عرّف الحقيقة العقلية بقوله: "كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل واقع موقعه"؛ فإن قوله: "واقع موقعه" معناه في نفس الأمر، وهو بيان لما قبله4.
وكذا في كلام الزمخشري، حيث عرف المجاز العقلي بقوله:"وأن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له"، فإن قوله:"في الحقيقة" معناه في نفس الأمر، ونحو:"كسا الخليفة الكعبة" إذا كان الإسناد فيه مجازا كذلك.
ثم القول بأن الفعل موضوع لاستعماله في القادر، ضعيف؛ وهو معترف بضعفه، وقد رده في كتابه بوجوه: منها أن وضع الفعل لاستعماله في القادر قيد لم ينقل عن واحد من رواة اللغة، وترك القيد دليل في العرف على الإطلاق؛ فقوله:
1 الفرق بين الأمرين أن "أنبت" على الأول موضوع لإخراج النبات مطلقا، ولكنه لا يستعمل إلا في القادر المختار، وعلى الثاني يكون موضوعا لإخراج القادر المختار النبات.
2 فلا يخرج نحو: "هزم الأمير الجند"؛ لأنه خلاف ما في نفس الأمر؛ لأن الذي يهزم الجند جيشه.
3 أسرار البلاغة ص249، مطبعة الاستقامة.
4 يعني قوله: "على ما هو عليه في العقل" وهو جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر "أن" قبله، وهذا بيان له.
"إفادة للخلاف لا بواسطة وضع" لا حاجة إليه، وإن ذُكر فينبغي أن لا يذكر إلا بعد ذكر الحد على المذهب المختار، على أن تمثيله بقول الجاهل:"أنبت الربيع البقل" ينافي هذا الاحتراز1.
تنبيه:
قد تبين مما ذكرنا أن المسمى بالحقيقة العقلية والمجاز العقلي -على ما ذكره السكاكي- هو الكلام، لا الإسناد2. وهذا يوافق ظاهر كلام الشيخ عبد القاهر في مواضع من "دلائل الإعجاز"3، وأنه -على ما ذكرناه- هو الإسناد لا الكلام، وهذا ظاهر ما نقله الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله عن الشيخ عبد القاهر، وهو قول الزمخشري في "الكشاف"، وقول غيره، وإنما اخترناه؛ لأن نسبة المسمى حقيقة أو مجازا إلى العقل على هذا لنفسه بلا وساطة شيء، وعلى الأول لاشتماله على ما ينتسب إلى العقل، أعني: الإسناد.
أقسام المجاز العقلي:
ثم المجاز العقلي باعتبار طرفيه -أعني: المسند والمسند إليه- أربعة أقسام لا غير؛ لأنهما إما حقيقتان4؛ كقولنا: "أنبت الربيع البقل"، وعليه قوله "الرجز":
1 لأنه لا يتفق ودعوى أن "أنبت" لا يستعمل إلا في القادر المختار، إذ لو صح هذا يكون مجازا لا حقيقة؛ لإسناد الإنبات فيه إلى الربيع، وهو ليس بقادر مختار، هذا وقد أطال الخطيب هنا في الرد على السكاكي بما لا يحتمله علم البلاغة.
2 قيل: إن السكاكي يرى أن المسمى بهما هو الإسناد؛ لأنه في جميع الباب يقول: "إسناد حقيقة وإسناد مجاز" وما في تعريفه لهما يمكن حمله على التساهل في العبارة.
3 من هذا تعريفه للحقيقة الفعلية وللمجاز العقلي بأنهما كل جملة
…
إلخ كما سبق في تعريفه، ويمكن حمل كلامه في هذا على التساهل أيضا؛ لتصريحه في عدة مواضع بأنهما وصفان للإسناد.
4 أي: لغويتان.
فنام ليلي وتجلى همي1
وقوله:
وشيّب أيام الفراق مفارقي2
وقوله:
ونمتِ ما ليل المطي بنائم3
وإما مجازان4 كقولنا: "أحيا الأرضَ شبابُ الزمان"5.
وإما مختلقان: كقولنا: "أنبت البقلَ شبابُ الزمان"، وكقولنا:"أحيا الأرض الربيع" وعليه قول الرجل لصاحبه: "أحيتني رؤيتك" أي: آنستني وسرتني، فقد جعل الحاصل بالرؤية من الأنس والمسرة حياة، ثم جعل الرؤية فاعلة له.
ومثله قول أبي الطيب "من الطويل":
1 هو لرؤبة بن العجاج، وقبله:
يا رب قد فرجت عني غمي
…
قد كنت ذا هم وراعي نجم
وقوله: "تجلى" بمعنى انكشف، والشاهد في قوله:"نام ليلي".
2 قيل: إنه لجرير من قوله "الطويل":
وشيب أيام الفراق مفارقي
…
وأنشزن نفسي فوق حيث تكون
ولكنه لا يوجد في ديوانه، وقوله:"أنشزن" بمعنى: رفعن، وقوله:"تكون" مأخوذ من كان التامة، والمعنى: أيام الفراق رفعت نفسه عن مكانها في الجسم وبلغت بها الحلقوم، والشاهد في قوله:"وشيب أيام الفراق".
3 هو لجرير من قوله "من الطويل":
لقد لمُتِنِي يا أم غيلان في السرى
…
ونمتِ وما ليل المطي بنائم
وأم غيلان: ابنته، والسرى: السير ليلا، والشاهد في قوله:"وما ليل المطي بنائم"، والمعنى: أنه لا يقطع السير بالليل ولا ينام.
4 أي: لغويان.
5 فإحياء الأرض مجاز عن خصبها، وشباب الزمان مجاز عن الربيع، وفي اجتماع المجاز اللغوي والمجاز العقلي طرافة تجعل لذلك التقسيم فائدة.
وتُحيي له المالَ الصوارمُ والقنا
…
ويقتل ما تُحيي التبسم والجدا1
جعل الزيادة والوفور حياة للمال، وتفريقه في العطاء قتلا له، ثم أثبت الإحياء فعلا للصوارم، والقتل فعلا للتبسم، مع أن الفعل لا يصح منهما. ونحوه قولهم:"أهلك الناس الدينار والدرهم" جعلت الفتنة إهلاكا، ثم أثبت الإهلاك فعلا للدينار والدرهم.
وقوع المجاز العقلي في القرآن:
وهو في القرآن كثير2؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] . نُسبت الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات لكونها سببا فيها، وكذا قوله تعالى:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23]، ومن هذا الضرب قوله:{يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [القصص: 4] فإن الفاعل غيره، ونسب الفعل إليه؛ لكونه الآمر به، وكقوله:{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] نُسب النزع الذي هو فعل الله تعالى إلى إبليس؛ لأن سببه أكل الشجرة، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما لمن الناصحين، وكذا قوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] ، نسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم؛ لأن سببه كفرهم، وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر، وكقوله تعالى:{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه، كقولهم:"نهاره صائم"، وكقوله تعالى:{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} 3.
1 هو لأحمد بن الحسين، المعروف بأبي الطيب المتنبي من قصيدة له في مدح سيف الدولة، والصوارم: السيوف القاطعة، والقنا: الرماح، واحدها: قناة، والجدا: العطاء.
2 يريد بالنص على وجود المجاز العقلي في القرآن الرد على من ينكر وجود المجاز مطلقا في القرآن؛ لأنه يوهم الكذب، والقرآن منزه عنه، ورُد بأنه لا إيهام مع وجود القرينة.
3 الزلزلة: 2. فقد نسب فيه الإخراج إلى مكانه وهو الأرض، مع أن الله هو المخرج للدفائن وهي الموتى. وقيل: إن الإسناد للمفعول؛ لأنه على تقدير "من"؛ أي: أخرج الله من الأرض.
المجاز في الإنشاء: وهو غير مختصّ بالخبر1؛ بل يجري في الإنشاء، كقوله تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} 2 وقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} 3 وقوله: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} 4.
تقسيم قرينة المجاز:
ولا بد له من قرينة: إما لفظية؛ كما سبق في قول أبي النجم، أو غير لفظية؛ كاستحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور5، أو قيامه به6 عقلا؛ كقولك:"محبتك جاءت بي إليك"7، أو عادة، كقولك:"هزم الأمير الجند، وكسا الخليفة الكعبة، وبنى الوزير القصر"، وكصدور8 الكلام من المُوَحِّد9 في مثل قوله:
1 مثله الحقيقة العقلية كما سبق.
2 سورة غافر: الآية 36. والشاهد في نسبة البناء لهامان، وليس هو الذي يفعله، وإنما يأمر به؛ لأنه كان وزيرا لفرعون، فيكون من الإسناد للسبب. والمجاز العقلي يجري أيضا في كل أنواع الإنشاء مع ملابسات الفعل السابقة.
3 سورة القصص: الآية 38. والشاهد في نسبة الإيقاد لهامان؛ لأنه بسببه.
4 سورة طه: الآية 117. والشاهد في نسبة الإيقاد لإبليس؛ لأنه بسببه.
5 أي: في الكلام، وهو المسند إليه المجازي؛ لأنه هو الذي يذكر في المجاز العقلي.
6 هذا معطوف على قوله: "صدور"؛ لأن الصدور الحدوث، والقيام الاتصاف، والأول مثل "ضرب" والثاني مثل "قرب وبعد".
7 لظهور استحالة قيام المجيء بالمحبة، وهذا إنما يجري على مذهب المبرد في باء التعدية، فهي تقضي عنده بمشاركة الفاعل للمفعول في الفعل، وهي عند سيبويه بمعنى همزة النقل في نحو:"أذهبت زيدا" أي: جعلته ذاهبا، فتكون المحبة عنده حاملة فقط على المجيء، وليس في هذا مجاز عقلي.
8 عطف على "كاستحالة".
9 المراد به المُوَحِّد الكامل بخلاف المعتزلة، والقرينة هنا حالية، وإنما لم يكن هذا من الاستحالة العقلية؛ لأن المراد بها الاستحالة الضرورية التي لا خلاف فيها، وما هنا محل خلاف بين المؤمن والدهري، والمعتزلة من الموحدين يقولون بتأثير الأسباب العادية، فلا يكون الإسناد إليها مجازا عندهم.
"أشاب الصغير
…
"1 البيت.
دقة مسلكه: واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه المجاز العقلي بسهولة، بل تجدك في كثير من الأمر تحتاج إلى أن تهيئ الشيء وتصلحه له بشيء تتوخاه في النظم؛ كقول من يصف جملا "من الطويل":
تجوب له الظلماء عين كأنها
…
زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر2
يريد أنه يهتدي بنور عينه في الظلماء، ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها، ولولاها لكانت الظلماء كالسد الذي لا يجد السائر شيئا يفرجه به، ويجعل لنفسه فيه سبيلا، فلولا أنه قال:"تجوب له" فعلق "له" بـ "تجوب" لما تبين جهة التجوز في جعل الجَوْب فعلا للعين كما ينبغي؛ لأنه لم يكن حينئذ في الكلام دليل على أن اهتداء صاحبها في الظلمة ومضيه فيها بنورها، وكذلك لو قال:"تجوب له الظلماء عينه" لم يكن له هذا الموقع، ولا نقطع السلك من حيث كان يعيبه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به3.
الخلاف في استلزامه الحقيقة:
واعلم أن الفعل المبني للفاعل في المجاز العقلي واجب أن يكون له فاعل في التقدير، إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقة؛ لما يُشعر
1 أي: الصلتان العبدي فيما سبق ص55.
2 لا يعلم قائله، وقبله:
تناس طلاب العامرية إذ نأت
…
بأسجح مرقال الضحا قلق الضفر
إذا ما أحسته الأفاعي تخيرت
…
شواة الأفاعي من مكلمة سمر
والشرب: جمع شارب، والصفر: الخالية، والمجاز في إسناد "تجوب" إلى العين، وإنما قيد الزجاجة بكونها غير ملأى ولا صفر؛ لأن العين إنما تشبهها في هذه الحالة.
3 لأن تنكيرها هو الذي هيأ له وصفها به.
بذلك تعريفه بما سبق1.
وذلك قد يكون ظاهرا؛ كما في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة:16] أي: فما ربحوا في تجارتهم، وقد يكون خفيا لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل؛ كما في قولك:"سرتني رؤيتك" أي: سرني الله وقت رؤيتك، كما تقول: أصل الحكم في "أنبت الربيع البقل": أنبت الله البقل وقت الربيع، وفي "شفى الطبيب المريض": شفى الله المريض عند علاج الطبيب، وكما في قوله:"أقدَمَني بلدك حق لي على فلان" أي: أقدمتني نفسي بلدك لأجل حق لي على فلان، أي: قدمتُ لذلك، ونظيره:"محبتك جاءت بي إليك" أي: جاءت بي نفسي إليك لمحبتك، أي: جئتك لمحبتك، وإنما قلنا: إن الحكم فيهما مجاز؛ لأن الفعلين فيهما مسندان إلى الداعي2، والداعي لا يكون فاعلا. وكما في قول الشاعر "مجزوء الوافر":
وصيرني هواك وبي
…
لِحَيْني يُضرَب المثل3
أي: وصيرني الله لهواكِ وحالي هذه، أي: أهلكني الله ابتلاء بسبب هواك.
وكما في قول الآخر، وهو أبو نُواس "مجزوء الوافر":
1 يرد بهذا على ما يفيده ظاهر كلام عبد القاهر من أن الفعل المبني للفاعل في المجاز العقلي لا يجب أن يكون له فاعل حقيقي، كما في قولك:"سرتني رؤيتك"، والخلاف في هذا لا ثمرة له ولا يصح الاشتغال به في علم البلاغة، ولا يريد عبد القاهر إلا أن العرف في مثل هذا لم يجرِ بإسناد الفعل إلى الفاعل الحقيقي؛ فلا يقال فيه: سرني الله عند رؤيتك.
2 يعني: الداعي إلى الفعل، وهو السبب.
3 هو -كما في الأغاني- لأبي عبد الله محمد بن أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي، وقيل: إنه لابن البواب، وقبله:
أتيتكِ عائذا بك منـ
…
ـكِ لما ضاقت الحيل
وبعده:
فإن ظفرت بكم نفسي
…
فما لاقيته جلل
وإِنْ قتل الهوى رجلا
…
فإني ذلك الرجل
والحين في الأصل: الهلاك، استُعير لما وصل إليه من سوء الحال في هواه.
يزيدك وجهه حسنا
…
إذا ما زدته نظرا1
أي: يزيدك الله حسنا في وجهه، لما أُودعه من دقائق الجمال متى تأملتَ.
إنكار السكاكي له: وأنكر السكاكي2 وجود المجاز العقلي في الكلام3، وقال: "الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية، بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي4 بواسطة المبالغة في التشبيه، على ما عليه مبنى الاستعارة، كما سيأتي، وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة، وبجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة بالكناية عن الجند الهازم، وجعل نسبة الهزم إليه قرينة
1 هو للحسن بن هانئ، المعروف بأبي نواس. والمراد بالحسن: حسن الوجه وجماله، وليس المراد به استحسان الناظر إليه. ورواية الديوان "من الوافر":
وجوه عندنا تحكي
…
بدارة وجهها القمرا
يزيدك وجهها حسنا
إذا ما زدته نظرا
وقيل: إن البيت لابن المعدل، وقبله:
لعتبة صفحتا قمر
…
يفوق سناهما القمرا
يريد: وجهها.
2 المفتاح ص212.
3 ذهب ابن الحاجب أيضا إلى أن المجاز في لفظ "أنبت" مثلا من قولك: "أنبت الربيع البقل" وهو يوافق السكاكي في إنكار المجاز العقلي، وذهب الفخر الرازي إلى إنكاره أيضا، ولكنه يحمل نحو:"أنبت الربيع البقل" على أنه تمثيل يورَد ليتصوّر معناه وينتقل الذهن منه إلى إنبات الله تعالى، فلا مجاز عنده في الإسناد ولا في طرفيه، وذهب سيبويه إلى أنه من التوسع في الكلام فيحتاج فيه إلى التأويل فقط، كما يؤوّل:"نام ليلي" بأنه على تقدير: نمت في ليلي؛ فجملة المذاهب في ذلك خمسة، والخلاف بينهم فيها مما لا يصح الاشتغال به في هذا العلم، وأقربها إلى أسلوب اللغة جعل التجويز في الإسناد، كما ذهب إليه الخطيب، وهو مذهب عبد القاهر إمام هذا الفن؛ لأنه لا تكلف فيه كغيره من المذاهب.
4 هو الله تعالى، وإنما لم يصرح به ليبتعد عن سوء الأدب في التشبيه من اللفظ. وما كان أغنى السكاكي عن ذلك المذهب الذي يُحْوِج إلى هذا التكلف.
للاستعارة".
وفيما ذهب إليه نظر؛ لأنه يستلزم أن يكون المراد بعيشة في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] صاحب العيشة لا العيشة1، وبـ "ماء" في قوله:{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] فاعل الدفق لا المَنِيّ2؛ لما سيأتي في تفسيره للاستعارة بالكناية3، وأن لا تصح الإضافة في نحو قولهم:"فلان نهاره صائم، وليله قائم"؛ لأن المراد بالنهار على هذا فلان نفسه، وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح. وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين4 -وبالبناء فيهما- لهامان5 مع أن النداء له6، وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم:"أنبت الربيع البقل، وسرتني رؤيتك" على الإذن الشرعي؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، وكل ذلك منتفٍ ظاهر الانتفاء.
ثم ذكره منقوص بنحو قولهم: "فلان نهاره صائم"؛ فإن الإسناد فيه مجاز، ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان؛ لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة، ويوجب حمله على التشبيه، ولهذا عُد نحو قولهم:"رأيت بفلان أسدا، ولقيني منه أسد" تشبيها لا استعارة، كما صرح السكاكي أيضا
1 وجه اللزوم أن ضمير "راضية" يعود إلى عيشة، فيلزم أن يكونا بمعنى واحد، ووجه بطلان اللازم ما فيه من ظرفية الشيء في نفسه.
2 لأن ضمير "دافق" يعود إلى ماء، فيلزم أن يكونا بمعنى واحد، ووجه بطلان اللازم ما فيه من إثبات خلق الإنسان من نفسه.
3 ما سيأتي هو أن مبناها عنده على دعوى أن المشبه فرد من أفراد المشبه به.
4 أي: السابقتين، وهما:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36]، {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} [القصص: 38] .
5 بل يكون للعَمَلَة الذين شُبه هامان بهم.
6 فيكون الأمر له؛ لئلا يلزم تعدد المخاطب في كلام واحد.
بذلك في كتابه1.
تنبيه: سبب عدم إيراد الحقيقة والمجاز العقليين في علم البيان
إنما لم نورد الكلام في الحقيقة والمجاز العقليين في علم البيان -كما فعل السكاكي ومن تبعه- لدخوله في تعريف علم المعاني، دون تعريف علم البيان2.
1 أجاب أصحاب الحواشي عن السكاكي بأجوبة أعرضنا عنها؛ لأنها لا يصح التطويل بها في علم البلاغة. والحق أن المجاز العقلي طريقه غير طريق الاستعارة بالكناية؛ لأنها تقوم على علاقة المشابهة كغيرها من الاستعارات، بخلافه؛ فلا يصح حمله عليها.
2 بيان ذلك: أن الحقيقة والمجاز العقليين حالان من أحوال اللفظ، وأنه يؤتى بهما لأحوال تقتضيهما؛ لأن ملابسات الفعل السابقة تقتضي الإتيان بالمجاز العقلي عند قصد المبالغة، وعدمها يقتضي الإتيان بالحقيقة العقلية، وبهذا يدخلان في تعريف علم المعاني، وإنما لم يدخلا في تعريف علم البيان؛ لأنهما ليسا من أحوال الدلالة. وقد اعترض على هذا بأن الحقيقة والمجاز اللغويين حالان من أحوال اللفظ أيضا، وكل منهما له أحوال تقتضيه كالحقيقة والمجاز العقليين، وقد ذكرهما الخطيب كغيره في علم البيان، فإذا أجيب بأنهما من أحوال الدلالة فيدخلان في علم البيان، قيل: إنه يمكن جعل الحقيقة والمجاز العقليين من أحوال الدلالة أيضا؛ لأن إنبات البقل مثلا يمكن أن يدل عليه بقولنا: "أنبت الله البقل" على طريق الحقيقة، وبقولنا:"أنبت الربيع البقل" على طريق المجاز، وهكذا، ولكن هذا يتوقف على دخول دلالة الحقيقة في طرق الدلالة المذكورة في تعريف علم البيان.