المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعريف علم المعاني: - بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة - جـ ١

[عبد المتعال الصعيدي]

الفصل: ‌تعريف علم المعاني:

‌الفن الأول: علم المعاني

‌تعريف علم المعاني:

هو علم يُعرَف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال1.

وقيل: "يعرف" دون "يعلم" رعاية لما اعتبره بعض الفضلاء من تخصيص العلم بالكليات، والمعرفة بالجزئيات، كما قال صاحب "القانون"2 في تعريف الطب:

1 المراد بأحوال اللفظ ما يشمل أحوال الجملة وأجزائها؛ فأحوال الجملة: كالفصل، والوصل، والإيجاز، والإطناب، والمساواة. وأحوال أجزائها: كأحوال المسند إليه، وأحوال المسند، وأحوال متعلقات الفعل، وهذه الأحوال هي التي يقتضيها الحال في اللفظ، فهي بعينها مقتضى الحال، وبهذا يكون في التعريف تهافت ظاهر، ويمكن أن يجاب عنه بأنه نظر إليها أولا من حيث ذاتها، لا من حيث إنها مقتضى حال، وإنما قيد أحوال اللفظ بما يطابق بها مقتضى الحال لتخرج الأحوال التي ليست بهذه الصفة؛ كالإعلال والإدغام والرفع والنصب وغير ذلك مما لا بد منه في تأدية المعنى الأصلي، وكذلك المحسنات البديعية؛ لأنها تكون بعد رعاية المطابقة، ويخرج أيضا علم البيان؛ لأنه لا يُبحث فيه عن أحوال اللفظ من هذه الجهة، وقد تبحث أبوابه من هذه الجهة؛ فيكون ذلك من علم المعاني؛ كما قال الأخطل في مدح عبد الملك بن مروان "من الطويل":

وقد جعل الله الخلافة منهم

لأبلج لا عاري الخوان ولا جدب

فكنى بهذا عن كرمه، ولا يليق في مدح الملوك، وإنما تمدح الملوك بمثل قول الشاعر "من الطويل":

له همم لا منتهى لكبارها

وهمته الصغرى أجل من الدهر

هذا، وبعض الأحوال التي يُبحث عنها في علم المعاني قد يُبحث عنها في علم النحو؛ كالذكر والحذف، ولكن علم النحو يبحث عنها من جهة صحتها وفسادها، أما علم المعاني فيبحث عنها لبيان الأحوال التي يرجع بعضها على بعض، فلا تظهر المزية فيها إلا إذا احتمل الكلام وجها غير الوجه الذي جاء عليه، فيكون الحال مرجحا له.

2 "القانون" كتاب في الطب للحسين بن عبد الله، المعروف بابن سينا.

ص: 33

"الطب: علم يعرف به أحوال بدن الإنسان". وكما قال الشيخ أبو عمرو1 رحمه الله: "التصريف: علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم".

وقال السكاكي2: "علم المعاني هو تتبع خواص3 تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره4؛ ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقتضي الحال ذكره".

وفيه نظر؛ إذ التتبع ليس بعلم ولا صادق عليه؛ فلا يصح تعريف شيء من العلوم به.

ثم قال: "وأعني بالتراكيب تراكيب البلغاء". ولا شك أن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفة على معرفة البلاغة، وقد عرفها في كتابه5 بقوله:"البلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها6 وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها"7. فإن أراد بالتراكيب في حد البلاغة تراكيب البلغاء -وهو الظاهر- فقد جاء الدور8، وإن أراد غيرها فلم يبينه، على أن قوله: "وغيره" مبهم لم يبين مراده به9.

1 هو عثمان بن عمرو المعروف بابن الحاجب، صاحب "الكافية" في النحو، و"الشافية" في التصريف.

2 المفتاح ص86، المطبعة الأدبية.

3 المراد بها أحوال اللفظ في تعريف الخطيب.

4 غير الاستحسان هو الاستهجان، ويريد بذلك: أن تراكيب الكلام لها خواص مستحسنة وخواص مستهجنة، وكل منهما يبحث في علم المعاني.

5 المفتاح ص208.

6 هذا يكون بإيرادها مطابقة لمقتضى الحال.

7 بأن تكون خالية من التعقيد المعنوي، وبهذا يرجع عنده علم البيان إلى البلاغة لا إلى الفصاحة كما ذكر الخطيب في المقدمة، وإنما لم يقيد تعريف البلاغة بفصاحة الكلام ليحترز به عن غير التعقيد أيضا كما سبق في تعريفها؛ لأنه يرى أنها غير لازمة لها، وسيأتي زيادة بيان لهذا في آخر علم البيان.

8 لأن معرفة البلاغة على هذا تتوقف على معرفة البلغاء، مع أن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفة على معرفة البلاغة.

9 يجاب عنه بأنه سبق بيان مراده به؛ فلا شيء عليه فيه. ومع هذا، أرى أن تعريف السكاكي ركيك العبارة، وأنه كان الأجدر بالخطيب إهماله.

ص: 34

أبواب علم المعاني:

ثم المقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب:

أولها: أحوال الإسناد الخبري.

وثانيها: أحوال المسند إليه.

وثالثها: أحوال المسند.

ورابعها: أحوال متعلقات الفعل.

وخامسها: القصر.

وسادسها: الإنشاء.

وسابعها: الفصل والوصل.

وثامنها: الإيجاز والإطناب والمساواة.

ووجه الحصر أن الكلام إما خبر أو إنشاء؛ لأنه إما أن يكون لنسبته خارج1تطابقه أو لا تطابقه، أو لا يكون لها خارج؛ الأول: الخبر، والثاني: الإنشاء، ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند، وأحوال هذه الثلاثة هي الأبواب الثلاثة الأولى.

ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا، أو متصلا به، أو في معناه2 كاسم الفاعل ونحوه، وهذا هو الباب الرابع.

ثم الإسناد والتعلق، كل واحد منهما يكون إما بقصر أو بغير قصر، وهذا هو الباب الخامس.

والإنشاء هو الباب السادس.

ثم الجملة إذا قرنت بأخرى؛ فتكون الثانية إما معطوفة على الأولى أو غير معطوفة، وهذا هو الباب السابع.

1المراد بالخارج الواقع ونفس الأمر، ولو لم يكن له وجود خارجي.

2يريد بالمتصل بالفعل: اسم الفاعل واسم المفعول ونحوهما، ويريد بما في معنى الفعل: المصدر؛ لأنه يدل على الحدث كالفعل.

ص: 35

ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة، أو غير زائد عليه، وهذا هو الباب الثامن.

تنبيه:

انحصار الخبر في الصادق والكاذب:

اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب1؛ فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما، ثم اختلفوا؛ فقال الأكثر منهم: صدقه مطابقة حكمه للواقع، وكذبه عدم مطابقة حكمه له، هذا هو المشهور، وعليه التعويل.

وقال بعض الناس2: صدقه: مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر، صوابا كان أو خطأ، وكذبه: عدم مطابقة حكمه له3، واحتج بوجهين:

أحدهما: أن من اعتقد أمرا فأخبر به ثم ظهر خبره بخلاف الواقع يقال: "ما كذب، ولكنه أخطأ"، كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت فيمن شأنه كذلك:"ما كذب، ولكنه وهم". ورُدَّ بأن المنفي تعمد الكذب، لا الكذب؛ بدليل تكذيب الكافر؛ كاليهودي إذا قال:"الإسلام باطل"، وتصديقه إذا قال:"الإسلام حق"؛ فقولها: "ما كذب" متأول بـ "ما كذب عمدا".

الثاني: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] . كذّبهم في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وإن كان مطابقا للواقع؛ لأنهم لم يعتقدوه.

1 مثل هذا لا يصح الاشتغال به في علوم البلاغة؛ لأنه لا فائدة فيه.

2 هو إبراهيم بن سيّار، المعروف بالنظّام.

3 أي: لاعتقاده، وهذا بأن يكون له اعتقاد يخالفه، أو لا يكون له اعتقاد أصلا، فيدخل خبر الشاك عند النظام في الكذب، ويكون من يقول:"محمد رسول" وهو شاك فيه، كاذبا عنده، وهو صادق عند الجمهور. وقيل: إن خبر الشاك ليس خبرا، فهو خارج عن المقسم، ولكن هذا لا يأتي مع ما سيأتي عن الجاحظ.

ص: 36

وأجيب عنه بوجوه: أحدها: أن المعنى1: نشهد شهادة واطأت فيها قلوبنا ألسنتنا كما يترجم عنه: إن واللام وكون الجملة اسمية2 في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ؛ فالتكذيب في قولهم: {نَشْهَدُ} وادعائهم فيه المواطأة، لا في قولهم:{إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} . ولدفع هذا التوهم وسط بينهما قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} . وثانيها: أن التكذيب في تسميتهم إخبارهم شهادة؛ لأن الإخبار إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة. وثالثها: أن المعنى: لكاذبون في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} عند أنفسهم؛ لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه3.

وأنكر الجاحظ انحصار الخبر في القسمين، وزعم أنه ثلاثة أقسام: صادق، وكاذب، وغير صادق ولا كاذب؛ لأن الحكم إما مطابق للواقع مع اعتقاد المخبر له أو عدمه4، وإما غير مطابق مع الاعتقاد أو عدمه5. فالأول أي: المطابق مع الاعتقاد6 هو الصادق. والثالث أي: غير المطابق مع الاعتقاد7 هو الكاذب، والثاني والرابع -أي: المطابق مع عدم الاعتقاد8، وغير المطابق مع عدم الاعتقاد9-

1 يريد معنى قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} .

2 لأن كل واحد من الثلاثة يفيد تأكيد الخبر كما سيأتي.

3 فيكون الكذب راجعا إلى الواقع في زعمهم كما عليه الجمهور لا إلى الاعتقاد، وعلى هذا يكون التكذيب في المشهود به لا في الشهادة كما في الوجه الثاني.

4 أي: مع اعتقاد المخبِر بأنه مطابِق، أو عدم اعتقاده بأنه مطابق.

5 أي: مع الاعتقاد بأنه غير مطابق، أو عدم الاعتقاد بأنه غير مطابق.

6 بأنه مطابق.

7 بأنه غير مطابق.

8 بأنه مطابق. وعدم الاعتقاد بهذا تحته صورتان: ألا يكون عنده اعتقاد أصلا، وأن يكون عنده اعتقاد بأنه غير مطابق، والصورة الأولى تأتي في خبر الشاك، والثانية كقول المنافق:"محمد رسول الله".

9 بأنه غير مطابق، وعدم الاعتقاد بهذا تحته صورتان أيضا: عدم الاعتقاد أصلا، والاعتقاد بأنه مطابق؛ كقول الكافر: محمد غير رسول.

ص: 37

كل منهما ليس بصادق ولا كاذب1. فالصدق عنده: مطابقة الحكم للواقع مع اعتقاده، والكذب: عدم مطابقته مع اعتقاده، وغيرهما ضربان: مطابقته مع عدم اعتقاده، وعدم مطابقته مع عدم اعتقاده، واحتج بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] فإنهم حصروا دعوى النبي -صلى الله علية وسلم- الرسالة في الافتراء والإخبار حال الجنون، بمعنى امتناع الخلو2، وليس إخباره حال الجنون كذبا؛ لجعلهم الافتراء في مقابلته، ولا صدقا؛ لأنهم لم يعتقدوا صدقه؛ فثبت أن من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب.

وأجيب عنه بأن الافتراء هو الكذب عن عمد؛ فهو نوع من الكذب؛ فلا يمتنع أن يكون الإخبار حال الجنون كذبا أيضا؛ لجواز أن يكون نوعا آخر من الكذب؛ وهو الكذب لا عن عمد، فيكون التقسيم للخبر الكاذب، لا للخبر مطلقا، والمعنى: أفترى أم لم يفتر؟ وعبر عن الثاني بقوله: {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} ؛ لأن المجنون لا افتراء له3.

تنبيه آخر:

وهو مما يجب أن يكون على ذكر الطالب لهذا العلم؛ قال السكاكي4: "ليس من الواجب في صناعة -وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل- أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق منها، فكيف إذا كانت

1 بهذا يكون بين الصدق والكذب واسطة عند الجاحظ، بخلاف الجمهور والنظام.

2 أي: والجمع؛ لأن قوله: "وليس إخباره حال الجنون كذبا" يدل على أنها مانعة جمع أيضا، ولو كانت مانعة خلو فقط لجاز أن يكون إخباره حال الجنون كذبا؛ لأن مانعة الخلو تجوز الجمع، فلا تثبت الواسطة بين الصدق والكذب.

3 رأيي في هذه الخلافات بعد الانتهاء منها، أنها خلافات لا طائل تحتها.

4 المفتاح ص90.

ص: 38

الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية، واعتبارات إلفية؟ فلا على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد1 صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك، إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق".

وكثيرا ما يشير الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" إلى هذا؛ كما ذكر في موضع2 ما تلخيصه هذا: "اعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع، ولا يجد لديه قبولا حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة، وممن تحدثه نفسه بأن لما تومئ إليه من الحسن أصلا، فيختلف الحال عليه عند تأمل الكلام، فيجد الأريحية تارة، ويعرى منها أخرى، وإذا عجبته تعجب، وإذا نبهته لموضع المزية انتبه. فأما من كان الحالان3 عنده على سواء، وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة، وإلا إعرابا ظاهرا، فليكن عندك بمنزلة من عدم الطبع الذي يدرك به وزن الشعر، ويميز به مزاحفه من سالمه، في أنك لا تتصدى لتعريفه؛ لعلمك أنه قد عدم الأداة التي بها يعرف"4. واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب، فإن من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في شيء ما لم تعرف المزية فيه، ولا يعلم إلا أن له موقعا من النفس، وحظا من القبول5، فهذا بتوانيه في حكم القائل الأول6.

واعلم أنه ليس إذا لم يمكن معرفة الكل وجب ترك النظر في الكل، ولأن تعرف العلة في بعض الصور فتجعله شاهدا في غيره، أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك، وتعودها الكسل والهوينى.

قال الجاحظ: "وكلام كثير جرى على ألسنة الناس وله مضرة شديدة، وثمرة مرة، فمن أضر ذلك قولهم: "لم يدع الأول للآخر شيئا". فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم، لرأيت العلم مختلا".

1 خير له عندي ألا يقلد في ذلك إلى أن يتربى له الذوق فيذوق بنفسه؛ لأن التقليد مذموم في كل علم، على أن دعواه أن هذه الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية لا تصح في علم المعاني، وإنما تصح في علم النحو، كما ذكره ابن الأثير في المثل السائر.

2 دلائل الإعجاز ص190، 191.

3 يعني الحال التي توجب الأريحية، والحال التي تعرى منها.

4 عبد القاهر في هذا يخالف السكاكي في تجويزه التقليد عند تعذر المعرفة.

5 فلا يعرف لذلك علة وسببا؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة ذلك عنده، وإنما هو ذوق لا غير.

6 هو من كانت الحالان عنده على سواء.

ص: 39