المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المجلد الأول ‌ ‌باب المقدمات ‌ ‌تقديم: للشارح بسم الله الرحمن الرحيم تقديم للشارح المغفور له - بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة - جـ ١

[عبد المتعال الصعيدي]

الفصل: ‌ ‌المجلد الأول ‌ ‌باب المقدمات ‌ ‌تقديم: للشارح بسم الله الرحمن الرحيم تقديم للشارح المغفور له

‌المجلد الأول

‌باب المقدمات

‌تقديم: للشارح

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم للشارح المغفور له الشيخ عبد المتعال الصعيدي:

"1313هـ-1383هـ = 1894م-1966م":

أردت -قبل الشروع في شرح كتاب "الإيضاح لتلخيص المفتاح" لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بالخطيب القزويني "المتوفى 739هـ"، بكتابي "بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح"- أن أضع هذا التقديم؛ لأبين فيه منزلة كتاب الإيضاح بين كتب البلاغة، ولماذا آثرته من بينها بشرحي له؟

والكلام في هذا يرجع بي إلى المدرسة التي ينتمي إليها كتاب الإيضاح من بين مدارس علوم البلاغة، وهي مدرسة الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني "المتوفى 471هـ" الذي ذهب بالشهرة في هذه العلوم، حتى عدّوه بحق شيخ البلاغة؛ لأنه هو الذي وضع أساسها الصحيح بكتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، وكان يسمي مسائل البلاغة علم البيان، وقد ذكر أن هذا العلم لقي من الضيم ما لقي، ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل، فأراد أن يوفيه حقه ويقرر قواعده تقريرا يليق به، فوضع فيه هذين الكتابين.

وهو يسميه علم البيان بالمعنى الذي يشمل علوم البلاغة الثلاثة الآتية: المعاني، والبيان، والبديع؛ لأن البيان هو المنطق الفصيح المُعْرِب عما في الضمير، والعلوم الثلاثة لها تعلّق بالكلام الفصيح تصحيحا وتحسينا، على ما سيأتي من الفرق بينهما في ذلك، وإذا كان عبد القاهر لم يفصح عن هذا الفرق بين مباحثها، فقد أشار إليها بتخصيص كتابه "دلائل الإعجاز" لمباحث نظم الكلام؛ من ذكر وحذف وتقديم وتأخير ونحوها؛ فإنه لا يتعرض لغيرها فيه إلا نادرا، وهذه المباحث هي مباحث

ص: 3

علم المعاني، وبتخصيص كتابه "أسرار البلاغة" لمباحث الدلالة من الحقيقة والمجاز والتشبيه والاستعارة ونحوها، وهذه المباحث هي مباحث علم البيان بمعناه الذي صار إليه أخيرا، ثم ذكر المحسِّنات التي اختص بها أخيرا علم البديع، وأشار إلى منزلتها من البلاغة من رجوعها إلى التحسين لا غير، فلا تُطلَب فيها على سبيل الوجوب كما يُطلَب ما يتعلق منها بالنظم والدلالة، وقد ذهب إلى أن الحسن لا يمكن أن يكون للّفظ في ذاته من غير نظر إلى المعنى، حتى ما يُتوهم في بدء الفكرة أن الحسن فيه لا يتعدى اللفظ والجرس كالتجنيس؛ لأنك لا تستحسن تجانس اللفظين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل موقعا حميدا؛ ولهذا استُقبح قول أبي تمام "من الكامل":

ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت

فيه الظنون أمَذْهب أم مُذْهَب!

لأنه لم يزد على أن أسمعك حروفا مكررة؛ تروم لها فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة.

وكان أسلوب عبد القاهر في كتابيه أسلوبا بليغا ممتازا، يساعد على تربية مَلَكة البلاغة ولا يفسدها، ولا عيب فيه إلا أن يسرف في العبارات المترادفة؛ حتى تطغى على تقرير القواعد وعلى ما عُني به من استخلاص أسرارها من الشواهد النثرية والشعرية، وهو فيما عُني به من الأمرين الناقد الأديب، والبليغ الممتاز، وقد طفر بهذا في علم البلاغة طفرة لم يُسبَق إليها، ولم يأت بعده مَنْ سار على هديها حتى لا تقف عند هذا الحد؛ لأن شمس العلم في عصره كانت آخذة في الأفول، كما يقول في ذلك "مخلع البسيط":

كبر على العلم يا خليلي

ومل إلى الجهل ميل هائم

وعش حمارا تعش سعيدا

فالسعد في طالع البهائم

وإذا كان هذا حال عصره، فإن حال ما بعده من العصور كان أسوأ؛ فتقهقر علم البلاغة بعده ولم يتقدم.

ثم جاء أبو يعقوب السكاكي "ت 626هـ" بعد عبد القاهر، فلمح ما أشار

ص: 4

إليه الجرجاني فيما سبق من الفروق الثلاثة بين مباحث علم البلاغة؛ فميز بعضها عن بعض تمييزا تاما، وجعل لكل مبحث منها علما خاصا؛ فكان من هذه علوم البلاغة الثلاثة السابقة، ثم جاراه في تقرير قواعدها، وزاد عليه زيادات كثيرة في تقريرها، وهذا في قسم البيان من كتابه "مفتاح العلوم"، وقد جرى على ترتيبه لهذه المباحث من أتى بعده من المتأخرين، فكان عمدتهم في هذا الترتيب، ولم يستفيدوا إلا قليلا ممن كتب قبله أو بعده في علم البلاغة، ممن لم يَجْر فيها على منواله، ولم يَنْحُ فيها نحوه.

ولا شك أن السكاكي بهذا يعد إلى حد ما من تلاميذ مدرسة عبد القاهر، ولكنه كان ناقدا ولم يكن أديبا؛ لأن أسلوبه في كتابه لم يكن أسلوب البليغ الممتاز مثل عبد القاهر؛ لأن العجمة كانت غالبة على أسلوبه، وكان الأسلوب التقريري الذي لا يُعنَى إلا بتقرير القواعد غالبا عليه، فكان في أسلوبه كثير من الغموض والتعقيد وضعف التأليف، ومثل هذا قد يفيد الناظر فيه علما، ولا يفيده أسلوبا بليغا، بل يفسد فيه مَلَكة البلاغة، وبهذا يكون ضرره أكبر من نفعه.

وقد جاء بعد السكاكي عالمان كبيران أرادا أن يحذُوَا في علم البلاغة حذوه؛ أولهما ابن الناظم: بدر الدين بن مالك "المتوفى 686هـ" ابن النحوي المشهور، في كتابه "المصباح لتلخيص المفتاح" وثانيهما: الخطيب القزويني "المتوفى 739هـ" في كتابيه "تلخيص المفتاح" و"الإيضاح لتلخيص المفتاح"؛ وثانيهما كالشرح للأول. فأما مصباح ابن الناظم فإنه لم يهذِّب كثيرا من مفتاح السكاكي في علم البلاغة؛ لأن ملكة النحو كانت غالبة عليه، وكان هذا سببا في إعراض المتأخرين عن كتابه. وأما تلخيص الخطيب القزويني فإنه هذب كثيرا من مفتاح السكاكي؛ فقدم في مباحثه وأخر، وزاد عليه ما تجب زيادته من كتب البلاغة، وكان أسلوبه فيه أوضح من أسلوب السكاكي، ولكنه جعله أسلوبا تقريريا لا يُعْنَى إلا بجمع القواعد في أوجز لفظ؛ حتى أسرف في الإيجاز إسراف عبد القاهر في الإطناب، وجعل من تلخيصه متنا يحتاج إلى شروح وحواشٍ وتقارير، ولكن عيبه هذا كان موضع تقدير

ص: 5

المتأخرين وإعجابهم.

فلما فرغ من تلخيصه شعر هو أيضا بحاجته إلى شرح، فوضع كتابه "الإيضاح" كشرح له، يجري على ترتيبه في إطناب يختصره أحيانا من كتابَيْ عبد القاهر، وأحيانا من كتاب السكاكي مع شيء من التهذيب فيه، ومع كثير من النقد الذي يفصِّله أحيانا، ويرمز إليه أحيانا بقوله:"وفيه نظر". وبهذا جاء "الإيضاح" وسطا بين إيجاز التلخيص، وإسهاب عبد القاهر. وكان بهذا هو الكتاب الممتاز على غيره من كتب البلاغة القديمة.

ولكنه على هذا لم يُرزَق من الحظوة عند المتأخرين ما رُزِق التلخيص؛ لأنهم شُغِفوا بالمتون حفظا وشرحا. وقد نظروا إلى التلخيص على أنه متن من المتون، فشغفوا بحفظه وشرحه. وكان من السابقين إلى شرحه سعد الدين التفتازاني "ت 792هـ"، من علماء العَجَم؛ فوضع له شرحا مطوّلا سماه "المطول"، وشرحا مختصرا سماه "المختصر". وكان سعد الدين من علماء العجم الذين تأثروا بالسكاكي في طريقته التقريرية، وفي ضعف أسلوبه؛ لضعف سليقته العربية، بل كان هو وأمثاله ممن أتى بعد السكاكي من علماء العجم أضعف منه ذوقا أدبيا، وسليقة عربية؛ فمضوا في الطريقة التقريرية إلى أن وصلوا إلى نهايتها في البعد عن الذوق الأدبي، ثم أخذوا ينشرونها هنا وهناك إلى أن غزت علماء العرب، وغزت جميع العلوم من عربية، إلى دينية، إلى غيرها من العلوم. وصارت عنايتها بتقرير عبارات المتون أكثر من عنايتها بتقرير مسائل العلوم.

ثم تَهَافتَ المتأخرون من علماء البلاغة على شرحَيْ سعد الدين علي التلخيص، يضعون عليهما الحاشية بعد الحاشية، ويضعون على الحاشية التقرير بعد التقرير، وشُغف المدرسون بتلك الكتب في الجامع الأزهر وغيره من الجامعات الإسلامية في الأقطار المختلفة، يتعمقون في درسها إلى أقصى حدود التعمق، وينتقلون في درسها من المتن إلى الحاشية إلى التقرير، في استقصاء غريب، وتفنُّن في الفهم والبحث. ولو أن كل هذا في صميم مسائل البلاغة لهان الخَطْب، ولكن أكثره

ص: 6

في بحوث خارجة عن المسائل، وفي أسلوب ركيك يُفْسِد ملكة البلاغة؛ فإذا كانت فيه فائدة قليلة؛ فإنها تضيع في هذا الخِضَمّ الذي لا فائدة فيه.

وقد تأبَّى كتاب "الإيضاح" وطريقته السابقة على المتأخرين من علماء البلاغة؛ فلم يضعوا عليه من الشروح والحواشي والتقارير مثل ما وضعوا على كتاب التلخيص اللهم إلا شرحا ضعيفا للأقسرائي لا يزال مخطوطا بدار الكتب المصرية، ومن الخير أن يبقى مخطوطا فيها؛ لأنه يذهب مذهب غيره في الطريقة التقريرية، وينأى عن طريقة كتاب الإيضاح السابقة؛ فيكون ضرره فيها أكثر من نفعه.

ولما كان كتاب "التلخيص" كالأصل لكتاب "الإيضاح"؛ كان هذا مما يدعو قارئه إلى أن يرجع في كثير من مسائله إلى ما وُضع على كتاب التلخيص من شروح وحواشٍ وتقارير؛ فإذا رجع إليها غرق في ذلك الخضم من البحوث التي لا طائل تحتها، وضاع به ما يكتسبه من كتاب الإيضاح من ذوق أدبي؛ لأن تلك الشروح والحواشي والتقارير تغطي عليه.

فرأيت أن أنأى بقارئ كتاب الإيضاح عن تلك الشروح والحواشي والتقارير؛ بوضع تعليقات عليه تشتمل على ما يأتي:

1-

اختيار ما تلزم إضافته إليه مما هو من صميم مسائل البلاغة من تلك الشروح والحواشي والتقارير. واختيار هذا من ذلك الخضم من المماحكات اللفظية ليس بالأمر السهل؛ لأنه يحتاج إلى فهم صحيح لها، وإلى ذوق أدبي يميز الصالح للاختيار من غيره.

2-

شرح الشواهد النظمية شرحا موجزا ينسبها إلى قائليها، ويفسر غريبها، ويبين ما فيها من فوائد بلاغية، وموضع الشاهد فيها. ويعلم الله كم تعبت في ذلك كله، ولا سيما في نسبتها إلى قائليها.

3-

وضع عناوين في كل باب من أبوابه لموضوعاته المختلفة؛ ليسهل الرجوع

ص: 7

إليها، ووضع تمرينات آخر كل موضوع منها للاختبار فيها، ولفت طالب علوم البلاغة إلى أهم ناحية فيها.

4-

نقد ما يجب نقده من مسائله، ولا سيما المسائل التي ينقلها الخطيب عن السكاكي. وفيها من التكلفات والتعقيدات ما ينأى عن ذوق الأدب والبلاغة.

5-

صياغة التعليقات في أسلوب لا يكون فيه تعقيد ولا تطويل ممل، ولا إيجاز مخل؛ حتى تكون ملائمة لذوق موضوعها من علوم البلاغة.

وقد سميت ما وضعته من هذه التعليقات:

"بُغْيَة الإيضاح لتلخيص المفتاح".

والله أسأل النفع بها، وأن تكون خطوة في هذه العلوم لما بعدها.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 8