الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمرينات على الذكر والحذف:
تمرين1:
لماذا حُذف المسند إليه في الأمثلة الآتية:
1-
وما المال والأهلون إلا ودائع
…
ولا بد يوما أن ترد الودائع
2-
سألوني في سقامي:
…
كيف حالي؟ قلت: نِضْو
3-
وإني رأيت البخل يزري بأهله
…
فأكرمت نفسي أن يقال: بخيل
تمرين2:
لماذا ذُكر المسند إليه في الأمثلة الآتية:
1-
وإني لحلو تعتريني مرارة
…
وإني لترّاك لما لم أُعَوَّد
2-
قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18] .
3-
قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب".
تمرين3:
بين حال المسند إليه في الذكر والحذف، والداعي إليهما فيما يأتي:
1-
قوّال محكمة نقّاض مبرمة
…
فتّاح مبهمة حبّاس أوراد
2-
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2] .
3-
إن تُبتَدَر غاية يوما لمكرمة
…
تلقَ السوابق منا والمصلينا
4-
قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] .
أغراض تعريف المسند إليه:
أغراض التعريف: وأما تعريفه فلتكون الفائدة أتم1؛ لأن احتمال تحقق الحكم متى كان أبعد كانت الفائدة في الإعلام به أقوى، ومتى كان أقرب كانت أضعف، وبعده بحسب تخصيص2 المسند إليه، والمسند كلما ازداد تخصيصا ازداد الحكم بعدا، وكلما ازداد عموما ازداد الحكم قربا، وإن شئت فاعتبر حال الحكم في قولنا:"شيء ما موجود"، وفي قولنا:"فلان بن فلان يحفظ الكتاب"، والتخصيص: كماله بالتعريف.
أغراض التعريف بالإضمار: ثم التعريف مختلف؛ فإن كان بالإضمار: فإما لأن المقام مقام التكلم3؛ كقول بشار "من البسيط":
أنا المرعث لا أخفى على أحد
…
ذَرَّتْ بي الشمس للقاصي وللداني4
وإما لأن المقام مقام الخطاب؛ كقول الحماسية "من الطويل":
1 أي: مع اقتضاء المقام له؛ ولهذا آثر عليه التنكير في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20] .
2 المراد بالتخصيص التعيين، وإنما كان التعيين سببا في بعد الحكم؛ لأن كل واحد يعلم حصول ضرب ما مثلا من أي إنسان، ولا يعلم حصول ضرب معين من شخص معين، فتكون الفائدة أتم في الحكم على المعين.
3 لا يخفى أن مقام التكلم يوجب ضمير المتكلم، ومقام الخطاب يوجب ضمير الخطاب، ومقام الغيبة يوجب ضمير الغيبة، ومثل هذا لا يُبحث عنه في البلاغة كما سبق، وإنما هي معانٍ نحوية لا يصح ذكرها في علم البلاغة.
4 المرعث: المقرط لُقب به لرعثة "أي: قرط" كان يعلقها وهو صغير في أذنه. وقوله: "ذرت" معناه طلعت، وهو كناية عن شهرته. والشاهد في قوله:"أنا"؛ لأن المقام للتكلم، وقد علمت ما فيه. والحق أن ضمير التكلم يؤتى به في مقام الفخر ونحوه؛ لما فيه من الإشعار بالاعتداد بالنفس.
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني
…
وأشمتّ بي من كان فيك يلوم1
وإما لأن المقام مقام الغيبة؛ لكون المسند إليه مذكورا أو في حكم المذكور لقرينة2؛ كقوله "من الوافر":
من البيض الوجوه بني سنان
…
لو أنك تستضيء بهم أضاءوا
هم حلوا من الشرف المعلى
…
ومن حسب العشيرة حيث شاءوا3
وقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي: العدل، وقوله تعالى:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] أي: ولأبوي الميت4.
وأصل الخطاب أن يكون لمعين، وقد يُترك إلى غير معين5؛ كما تقول:"فلان لئيم، إذا أكرمتَه أهانك، وإن أحسنتَ إليه أساء إليكَ" فلا تريد مخاطبا بعينه، بل تريد إن أُكرم أو أُحسن إليه، فتُخرجه في صورة الخطاب؛ ليفيد العموم؛ أي: سوء معاملته غير مختص بواحد دون واحد. وهو في القرآن كثير، كقوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] أُخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم للقصد إلى تفظيع حالهم، وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها؛ فلا تختص بها رؤية راءٍ مختص به، بل كل من يتأتى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب6.
1 هو لأمامة الخثعمية تخاطب ابن الدمينة الشاعر، وكان يتغزل بها في شعره، ثم تزوجها بعد ذلك، وقد وردت في أكثر شعره "أميمة" بتصغير الترخيم.
2 بهذا يمتاز مقام ضمير الغيبة عن مقام الاسم الظاهر؛ لأنه للغيبة أيضا.
3 هما لأبي البرج القاسم بن حنبل المري، في زفر بن أبي هاشم بن مسعود، وقبلهما:
أرى الخِلّان بعد أبي حبيب
…
بحجر في جنابهم خفاء
وبياض الوجه كناية عن السيادة والشرف. والشاهد في ضمائر الغيبة الأربعة في البيتين.
4 المثالان في الآيتين لعود الضمير على ما هو في حكم المذكور، والقرينة في الأول لفظية، وفي الثاني حالية.
5 فيدل على العموم البدلي بطريق المجاز أو الحقيقة. وقيل: إن ذلك من الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى} الظاهر فيه: ولو يرى أن كل أحد. ومثل هذا هو الذي يعد من وجوه البلاغة في هذا الباب؛ لما فيه من تلك المزية الظاهرة، ويمكن أن يعد منها الالتفات الآتي، واستعمال ضمير الجمع في الواحد، ونحو ذلك مما لا يدخل في المعاني النحوية للضمائر.
6 منه أيضا قول الشاعر "الطويل":
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها
…
هوانا بها كانت على الناس أهونا
وقول الآخر "الوافر":
إذا ما كنت ذا قلب قنوع
…
فأنت ومالك الدنيا سواء
أغراض التعريف بالعَلَمِيّة:
وإن كان بالعلمية: فإما لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به1 كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 [الإخلاص: 1] .
وقول الشاعر "من المتقارب":
أبو مالك قاصر فقره
…
على نفسه ومشيع غناه3
وقوله "من الكامل":
الله يعلم ما تركتُ قتالهم
…
حتى علوا فرسي بأشقر مزبد4
وإما لتعظيمه، أو لإهانته، كما في الكنى، والألقاب المحمودة والمذمومة5.
1 هذا أيضا من استعمال العَلَم في معناه الأصلي، فلا يصح أن يعد من وجوه البلاغة.
2 وإنما تكون الآية من تعريف المسند إليه بالعلمية إذا جُعل لفظ الجلالة مبتدأ ثانيا لا خبرا عن الضمير.
3 هو لمالك بن عويمر المعروف بالمتنخل الهذلي، من قصيدة له في رثاء أبيه، وكان يكنى أبا مالك، والكنية علم. ومعنى قصره فقره على نفسه: أنه لا يسأل أحدا، ومعنى إشاعة غناه: أنه يعطي كل الناس.
4 هو للحارث بن هشام في الاعتذار عن فراره عن أخيه أبي جهل يوم بدر، والأشقر: لون يأخذ من الأحمر والأصفر، ويريد به الدم، والمزبد: الذي له زبد. يعتذر بأنه لم يفر إلا بعد أن جُرح، فعلا دمُه فرسَه.
5 كقولك: "أبو المعالي حضر، وأنف الناقة ذهب". ومثلُ الكنى والألقاب الأعلامُ المنقولة من معانٍ محمودة أو مذمومة.
وإما للكناية حيث الاسم صالح لها1، ومما ورد صالحا للكناية من غير باب المسند إليه قوله تعالى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] أي: جهنميّ.
وإما لإيهام2 استلذاذه، أو التبرك به.
وإما لاعتبار آخر مناسب3.
1 الفرق بين هذا وما قبله أن ما هناك مجرد إشعار، وما هنا يُقصد فيه المعنى اللازم وتُنسى العلمية. وصلاح الاسم للكناية بالنظر إلى أصله قبل العلمية، وقيل: إنه لا يراد بالكناية هنا معناها الاصطلاحي الآتي في علم البيان؛ لأنه لا يكنى بأبي لهب عن جهنميّ باعتبار معناها المستعمل فيه وهو الذات المخصوصة، وهذا لا بد منه في الكناية الاصطلاحية.
2 لا معنى لإقحام لفظ "إيهام"؛ لأن التبرك والاستلذاذ حاصلان تحقيقا، وذلك كقول الشاعر "من البسيط":
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا
…
ليلاي منكن أم ليلى من البشر
3 كالتفاؤل والتطير، نحو:"سعد في دارك، والسفاح في دار صديقك".
أغراض التعريف بالموصولية:
وإن كان بالموصولية: فإما لعدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة1 كقولك: "الذي كان معنا أمس رجل عالم".
وإما لاستهجان التصريح بالاسم.
وإما لزيادة التقرير، نحو قوله تعالى:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23] فإنه مسوق لتنزيه يوسف عليه السلام عن الفحشاء، والمذكور أدل عليه من "امرأة العزيز" وغيره2.
1 هذا أيضا معنى لغوي لاسم الموصول، فلا يصح عده في وجوه البلاغة.
2 لأنه إذا كان في بيتها وتمكن منها ولم يفعل، كان هذا أقوى في نزاهته. والآية تصلح أيضا مثالا لغرض استهجان التصريح بالاسم لقُبح الفعل المنسوب إليها. ومما عُدِل فيه عن التصريح بالاسم لاستهجانه قول الشاعر "من الرجز":
قالت لتِرْب عندها جالسة
…
في قصرها: هذا الذي أراد مَنْ؟
قلت: فتى يشكو الغرام عاشق
…
قالت: لمن؟ قالت: لمن قالت: لمن
وإما للتفخيم؛ كقول تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] .
وقول الشاعر "من البسيط":
مضى بها ما مضى من عقل شاربها
…
وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي1
ومنه في غير هذا الباب قوله تعالى: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} 2 [النجم: 54] .
وبيت الحماسة "من الطويل":
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه
…
فلما علاه قال للباطل: أبعد3
وقول أبي نواس "من الكامل":
ولقد نَهَزْتُ مع الغُواة بدلوهم
…
وأَسَمْتُ سرح اللَّحْظ حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه
…
فإذا عصارة كل ذاك أثام4
التكرار في ذلك قبيح، يخل بفصاحته وبلاغته.
1 هو لعبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، وقيل: إنه لأبي نواس، والضمير في قوله:"بها" للخمر. ومعنى البيت: أنه مضى بالخمر قدر كبير من عقل شاربها، ولا يزال الباقي من الخمر في الزجاجة يطلب الباقي من عقله حتى يذهب به كله.
2 وإنما يكون ما في الآية من غير هذا الباب؛ إذا جُعلت "ما" مفعولا به، فإذا جُعلت فاعلا كانت منه.
3 هو لدريد بن الصمة، وإنما لم يكن من هذا الباب؛ لأن "ما" فيه مفعول به، أي: تعاطي الصبا الذي تعاطاه، ويجوز أن تكون مصدرية ظرفية، والصبا: الميل إلى الصبوة، وهي جهلة الصبيان.
4 هما للحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس، ويقال:"نهز الدلوَ في البئر" إذا ضرب بها في الماء لتمتلئ، ويقال:"أسام الماشية" إذا أخرجها إلى المرعى، والكلام على التمثيل في الموضعين. والإضافة في "سرح اللحظ" من إضافة الصفة إلى الموصوف، والسرح في الأصل: ذهاب الماشية إلى المرعى، والعصارة: ما تَحَلَّب مما عُصِر، والمراد بها هنا الثمرة والنتيجة، والشاهد في قوله:"ما بلغ امرؤ"؛ لأنه مفعول به.
وإما لتنبيه المخاطب على خطئه؛ كقول الآخر "من الكامل":
إن الذين تُرَوْنَهم إخوانكم
…
يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا1
وإما للإيماء إلى وجه بناء الخبر2؛ نحو: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] .
ثم إنه3 ربما جعل ذريعة إلى التعريض بالتعظيم لشأن الخبر4، كقوله "الكامل":
إن الذي سمك السماء بنى لنا
…
بيتا دعائمه أعز وأطول5
أو لشأن غيره6 نحو: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 92] .
قال السكاكي7: "وربما جُعل ذريعة إلى تحقيق الخبر"؛ كقوله "من البسيط":
إن التي ضربت بيتا مهاجرة
…
بكوفة الجند غالت وُدّها غُول8
وربما جعل ذريعة إلى التنبيه للمخاطب على خطأ؛ كقوله:
"إن الذين ترونهم....""البيت".
وفيه نظر؛ إذ لا يظهر بين الإيماء إلى وجه بناء الخبر وتحقيق الخبر فرق9، فكيف يجعل الأول ذريعة إلى الثاني، والمسند إليه في البيت الثاني ليس فيه إيماء إلى وجه بناء الخبر عليه، بل لا يبعد أن يكون فيه إيماء إلى بناء نقيضه عليه10؟!
1 هو لعبدة بن الطبيب في وعظ بنيه، وقيل لغيره، وقوله:"ترونهم" بمعنى: تظنونهم، والواو فيه فاعل؛ لأنه مما يبنى على صورة المجهول وهو للفاعل، ويجوز أن يكون من "أرى" المتعدية إلى ثلاثة مفاعيل، والغليل: العطش الشديد أو الحقد. والشاهد في أن الموصول في البيت يفيد من تخطئتهم في ظنهم ما لا يفيده قوله: إن فلانا وفلانا.
2 أي: طريق إسناده إلى الموصول من كونه مدحا أو ذما أو نحوهما، بأن يُذكر في الصلة ما يناسب ذلك.
3 الضمير يعود إلى الإيماء، إلى وجه بناء الخبر.
4 ربما جُعل ذريعة أيضا إلى الإهانة لشأنه؛ كقولك: "إن الذي لا يُحسن الفقه صنّف فيه"، أو شأن غيره، كقولك: إن الذي يتبع الشيطان خاسر.
5 هو لهمام بن غالب المعروف بالفرزدق، يفتخر ببيته في تميم على جرير؛ لأنه كان من ذوي الشرف فيهم، وليس المراد بالبيت الكعبة كما ذكر الدسوقي في حاشيته على المختصر، وقوله:"سمك" بمعنى رفع. والشاهد في أن قوله: "الذي سمك السماء" إيماء إلى أن الخبر المبنيّ عليه من جنس الرفعة والبناء، وأعز وأطول أي: من بيت جرير، أو من كل عزيز وطويل، أو من السماء المذكورة قبله، أو بمعنى عزيزة طويلة، فيكون أفعل التفضيل على غير بابه، وقد حذفت "مِنْ" على الأول؛ للدلالة على قوة الخبر.
6 كشعيب عليه السلام في الآية؛ لأن فيها إيماء إلى الخبر يُشعر بتعظيمه، إذ جعل خسرانهم بسبب تكذيبه، وفيها إيماء أيضا إلى أن الخبر من جنس الخسران.
7 المفتاح ص97.
8 هو لعبدة بن الطبيب. وكوفة الجند هي مدينة الكوفة، وروى أبو زيد:"بكوفة الخلد" على أنه موضع، وقال الأصمعي: إنما هو "بكوفة الجند"، والأول تصحيف. وقوله:"غالت" بمعنى أكلت، والغول: حيوان خرافي وقد يطلق على الداهية. والشاهد في أن ضرب البيت بالكوفة والهجرة إليها فيه إيماء إلى أن طريق بناء الخبر أمر من جنس زوال المحبة، وهو مع هذا يحقق زوال المودة ويُقره حتى كأنه دليل عليه.
9 فرق بينهما بأن الإيماء إشعار بالخبر سواء أكان معه تحقيق له م لا، والأول كما في بيت عبدة، والثاني كما في بيت الفرزدق، فالإيماء إلى الخبر أعم من تحقيقه وإفادة الجزم به.
10 نقيضه: نفي الأخوة عنهم، وهذا لا يخرجه فيما أرى عن كونه فيه إيماء إلى وجه بناء الخبر؛ لأنهم أطلقوا فيه ولم يقيدوه بشيء، ومن هذا الإيماء قول أبي العلاء "من السريع":
إن الذي الوحشة في داره
…
تؤنسه الرحمة في لحده
وربما يقصد بالإيماء تشويق السامع إلى الخبر ليتمكن في نفسه، كما في قول الشاعر "الخفيف":
والذي حارت البرية فيه
…
حيوان مستحدث من جماد
ومن أغراض التعريف بالموصولية إخفاء الأمر عن غير المخاطب، كقول الشاعر "الكامل":
وأخذت ما جاد الأمير به
…
وقضيت حاجاتي كما أهوَى
أغراض التعريف بالإشارة:
وإن كان بالإشارة؛ فإما لتمييزه أكمل تمييز لصحة إحضاره في ذهن السامع بواسطة الإشارة حسا1؛ كقوله "الطويل":
1 هذا أيضا معنى أصلي لاسم الإشارة، فلا يصح أن يُعد من وجوه البلاغة، وإنما يعد منها أن يعنى بتمييزه أكمل تمييز؛ لأن المقام مقام مدح أو نحوه؛ لأن تمييزه أكمل تمييز يكون أعون على كمال المدح، وأبعد من التقصير في الاعتناء بأمر الممدوح.
هذا أبو الصقر فردا في محاسنه1
وقوله "من الطويل":
أولئك قوم إن بَنَوْا أحسنوا البنى
…
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا2
وقوله "من الكامل":
وإذا تأمل شخص ضيف مقبل
…
متسربل سربال ليل أغبر
أوما إلى الكَوْماء: هذا طارق
…
نحرتني الأعداء إن لم تنحري3
وقوله "من البسيط":
ولا يقيم على ضيم يراد به
…
إلا الأذلان: عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
…
وذا يشج فلا يرثي له أحد4
1 هو لعلي بن العباس المعروف بابن الرومي، في مدح أبي الصقر الشيباني وزير المعتمد من قوله:
هذا أبو الصقر فردا في محاسنه
…
من نسل شيبان بين الضال والسَّلَم
والضال: شجر السدر البري، والسلم: شجر ذو شوك، وقوله:"بين الضال والسلم" كناية عن عزهم؛ لأن هذه الأشجار بالبادية، وهي مجد العرب وعزهم.
2 هو لجرول بن أوس المعروف بالحطيئة. وقوله: "بنوا" يعني به ما يبنونه من المكارم، والبنى -بضم الباء- يقال:"بنا يبني بناء وبنية بكسر الباء في العمران، وبنى يبني بُنى وبُنية بضم الباء في الشرف. وقوله: "عقدوا" معناه: أبرموا أمرا من أمورهم".
3 قيل: إن البيتين لرجل يمدح حاتما، وقيل: إنهما لحسان بن ثابت، وقيل: إنهما لابن المولى محمد بن عبد الله بن مسلم، وفي مجموعة المعاني أنهما للعلوي صاحب الزنج، وقوله:"أوما" تخفيف أومأ بمعنى أشار، والكوماء: الناقة الضخمة.
4 هما لجرير بن عبد المسيح الضبعي المعروف بالمتلمس، والضمير في "به" يعود إلى المستثنى منه المقدر وهو "أحد" مثلا، والعير: الحمار، والرمة: القطعة من الحبل البالي، وقوله:"هذا" يعود إلى العير، وقوله:"ذا" يعود إلى الوتد.
وإما للقصد إلى أن السامع غبي لا يتميز الشيء عنده إلا بالحس؛ كقول الفرزدق "من الطويل":
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمعتنا يا جرير المجامع1
وإما لبيان حاله في القرب أو البعد أو التوسط2؛ كقولك: "هذا زيد، وذلك عمرو، وذاك بشر". وربما جعل القرب ذريعة إلى التحقير3 كقوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 36]، وقوله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41]، وقوله تعالى:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64] . وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 26]، وقول عائشة رضي الله عنها لعبد الله بن عمرو بن العاص:"يا عجبا لابن عمرو هذا"4.
وقول الشاعر "من الطويل":
تقول ودقت نحرها بيمينها:
…
أبعلي هذا بالرحى المتقاعس؟ 5
وربما جعل البعد ذريعة إلى التعظيم؛ كقوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ}
1 هو لهمام بن غالب المعروف بالفرزدق، والتعريض بالغباوة ناشئ من استعمال اسم الإشارة في آبائه -وهم غائبون- لموتهم، والأمر في قوله:"فجئني" للتعجيز.
2 هذا أيضا من المعاني الأصلية لاسم الإشارة.
3 قد يجعل أيضا ذريعة إلى التعظيم؛ كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ، فينزّل قربه من ساحة الحضور والخطاب منزلة قرب المسافة.
4 تريد بهذا تخطئته في فتواه بنقض النساء ذوائبهن في الاغتسال.
5 هو للهذلول بن كعب العنبري، ويقال له: الذهلول أيضا، وقيل: لغيره. وكانت امرأته رأته يطحن بالرحى لأضيافه فأنكرت عليه. وبعده:
فقلت لها: لا تعجبي وتبيني
…
بلائي إذا التفت علي الفوارس
والمتقاعس: الذي يدخل ظهره ويخرج صدره، ضد الأحدب. والشاهد في أن اسم الإشارة فيه مسند، لا مسند إليه.
[البقرة: 1، 2] ذهابا إلى بعد درجته، ونحوه:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} [الزخرف: 72]، ولذا قالت:{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، لم تقل:"فهذا" وهو حاضر1؛ رفعا لمنزلته في الحسن، وتمهيدا للعذر في الافتتان به.
وقد يجعل "البعد" ذريعة إلى التحقير، كما يقال:"ذلك اللعين فعل كذا".
وإما للتنبيه -إذا ذُكر قبل المسند إليه مذكور2 وعُقِّب بأوصاف- على أن ما يرد بعد اسم الإشارة المذكور جدير باكتسابه من أجل تلك الأوصاف؛ كقول حاتم الطائي "من الطويل":
ولله صعلوك يساور همه
…
ويمضي على الأحداث والدهر مقدما3
فتى طلبات لا يرى الخمْص تَرْحَة
…
ولا شِبْعة إن نالها عد مغنما4
إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت
…
تيمم كبراهن ثمت صَمَّما5
ترى رمحه ونبله ومِجَنّه
…
وذا شُطَب عَضْب الضريبة مِخْذَما6
وأحناء سرج قاتر ولجامه
…
عتاد أخي هَيْجا وطِرْفا مُسَوَّما7
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه
…
وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما8
فعدّد له -كما ترى- خصالا فاضلة من المَضَاء على الأحداث مُقْدِما، والصبر على ألم الجوع، والأنفة من عد الشبعة مغنما، وتيمم كبرى المكرمات، والتأهب للحرب بأدواتها، ثم عقب ذلك بقوله:"فذلك"، فأفاد أنه جدير باتصافه بما ذُكر بعده. وكذا قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] أفاد اسم الإشارة زيادة الدلالة على المقصود من اختصاص المذكورين قبله باستحقاق الهدى من ربهم والفلاح.
وإما لاعتبار آخر مناسب9.
1 أي: يوسف عليه السلام.
2 المسند إليه هو اسم الإشارة، والمذكور هو المشار إليه قبلها.
3 الصعلوك: الفقير، وقوله:"يساور" بمعنى يواثب.
4 الخمص: الجوع، وشبعة: مفعول أول لعدّ، ومغنما: مفعول ثانٍ.
5 أعرضت بمعنى: ظهرت، وتيمم بمعنى: قصد.
6 المجن: الترس، وشطب السيف: الخطوط في متنه، وضريبته: حده، والعضب: القاطع، والمخذم: القاطع بسرعة.
7 أحناء السرج: جمع حنو وهو اسم لكل من قربوسيه المقدم والمؤخر. والقاتر: الجيد الوقوع على الظهر. وعتاد: عدة هو مفعول "يرى" الثاني، وهيجا مقصور هيجاء وهي الحرب، والطرف: الجواد الكريم الأصل، والمسوم: الذي يُرسَل ليرعى أو للإغارة، أي: ويرى طرفا مسوما كذلك.
8 الحسنى: مصدر كالبشرى، أو اسم للإحسان خبر مقدم، وثناؤه: مبتدأ مؤخر.
9 كتنزيل الغائب منزلة الحاضر، والمعقول منزلة المحسوس في نحو قوله تعالى:{تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35]، وقوله:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} [فصلت: 23]، وقوله:{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37] .
أغراض التعريف باللام:
وإن كان باللام: فإما للإشارة إلى معهود3 بينك وبين مخاطبك؛ كما إذا قال لك قائل: "جاءني رجل من قبيلة كذا" فتقول: "ما فعل الرجل؟ ". وعليه قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36] أي: وليس الذكر الذي طلبتْ4 كالأنثى التي وُهِبتْ لها.
1 أي: في الخارج مذكورا أو غير مذكور؛ ولهذا تسمى اللام فيه لام العهد الخارجي، وهذا المعنى للام التعريف وما بعده من المعاني الأصلية لها؛ فلا يصح ذكرها على نحو ما ذكره الخطيب وغيره.
2 في قولها قبله: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} ؛ لأن نذر الأولاد لخدمة بيت المقدس كان مقصورا عندهم على الذكور، واللام في "الذكر" عائدة إلى مذكور بالكناية على هذا الوجه، واللام في "الأنثى" عائدة إلى مذكور صريح في قوله قبلها:{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} ، وقد تعود اللام إلى معهود غير مذكور؛ كقوله تعالى:{إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وتسمى اللام فيه لام العهد العلمي؛ فأقسام لام العهد الخارجي ثلاثة: صريحي، وكنائي، وعلمي.
وإما لإرادة نفس الحقيقة1؛ كقولك: "الرجل خير من المرأة، والدينار خير من الدرهم"، ومنه قول أبي العلاء المعري "من البسيط":
والخل كالماء يبدي لي ضمائره
…
مع الصفاء ويخفيها مع الكدر2
وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] أي: جعلنا مبدأ كل شيء حي من هذا الجنس الذي هو الماء؛ لما روي أنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجن من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه. ونحوه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89] .
والمعرف باللام3 قد يأتي لواحد4 باعتبار عهديته في الذهن5؛ لمطابقته الحقيقة6؛ كقولك: "ادخل السوق" وليس بينك وبين مخاطبك سوق معهود في الخارج، وعليه قول الشاعر "من الكامل":
1 هذه لام الجنس.
2 هو لأحمد بن عبد الله، المعروف بأبي العلاء المعري. والخل: الصديق، وضمائره: ما يضمره من المودة وغيرها، وليس الحكم هنا على خل معهود، وإنما هو على جنس الخل.
3 يعني لام الحقيقة؛ لأنها هي التي يأتي فيها لام العهد الذهني، ولام الاستغراق. وقيل: إن لام العهد الذهني ولام الاستغراق مقابلتان للام العهد الخارجي ولام الحقيقة، وعلى هذا تكون لام الحقيقة هي التي يراد منها الحقيقة بقطع النظر عن الأفراد، ويُقصَر عليها اسم لام الجنس.
4 أي: مبهم، بخلاف لام العهد الخارجي؛ فإنها لمعين.
5 تسمى اللام فيه لام العهد الذهني.
6 يريد بمطابقته الحقيقة اشتمالها عليه.
ولقد أَمُرّ على اللئيم يسبني1
وهذا يقرب في المعنى من النكرة2؛ ولذلك يقدر: "يسبني" وصفا للئيم، لا حالا3.
وقد يفيد الاستغراق؛ وذلك إذا امتنع حمله على غير الأفراد، وعلى بعضها دون بعض4؛ كقوله تعالى:{إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2، 3] .
والاستغراق ضربان:
حقيقي5 كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] أي: كل غيب وشهادة، وعرفي6 كقولنا:"جمع الأمير الصاغة" إذا جمع صاغة بلده أو أطراف
1 هو لعميرة بن جابر الحنفي من قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
…
فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وثمت: حرف عطف لحقها تاء التأنيث، وقوله:"أمر" مضارع بمعنى الماضي؛ لاستحضار تلك الصورة العجيبة عنده، ورواية الكامل:"فأجوز ثم أقول لا يعنيني". والشاهد في لام اللئيم؛ لأن المراد منه واحد غير معين.
2 قال: "يقرب"؛ لأن النكرة تدل على واحد غير معين من جملة الحقيقة، والمعرف بلام العهد الذهني يدل على نفس الحقيقة في ذاته، ولا يدل على الواحد المبهم إلا بوساطة القرينة، كالدخول في قولك:"ادخل السوق" فهما بالنظر إلى القرينة سواء، وبقطع النظر عنها مختلفان.
3 لأن المعرف بلام العهد الذهني في معنى النكرة، والجمل بعد النكرات صفات لا أحوال، ولكن يرد على هذا أنهم جعلوه كالنكرة في المعنى فقط، وأجروا عليه في اللفظ أحكام المعارف، على أن تقدير "يسبني" حالا هو المناسب لقوله:"فمضيت"؛ لأنه ظاهر في أن السبّ كان منه في حال المرور فقط، ولم يكن صفة لازمة له.
4 بأن تقوم قرينة على أنه ليس القصد الحقيقة من حيث هي، ولا بعض الأفراد دون بعض بالاستثناء في الآية؛ فتكون اللام لاستغراق جميع الأفراد؛ ولهذا تسمى لام الاستغراق.
5 هو الذي يتناول كل فرد بحسب وضع اللفظ.
6 هو الذي يتناول كل فرد بحسب العرف العام، أما العرف الخاص كعرف الشرع فيدخل الاستغراق بحسبه في الاستغراق الحقيقي.
مملكته فحسب، لا صاغة الدنيا1.
واستغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع2، بدليل أنه لا يصدق:"لا رجلَ في الدار" في نفي الجنس3 إذا كان فيها رجل أو رجلان، ويصدق:"لا رجالَ في الدار" ولا تنافي بين الاستغراق وإفراد اسم الجنس4؛ لأن الحرف إنما يدخل عليه مجردا عن الدلالة على الوحدة والتعدد5، ولأنه بمعنى كل الإفرادي6 لا كل المجموعي؛ إذ معنى قولنا:"الرجل" كل فرد من أفراد الرجال، لا مجموع الرجال؛ ولهذا امتنع وصفه بنعت الجمع7، وللمحافظة على التشاكل بين الصفة والموصوف أيضا.
فالحاصل أن المراد باسم الجنس المعرف باللام: إما نفس الحقيقة، لا ما يصدق عليه من الأفراد، وهو تعريف الجنس والحقيقة، ونحوه عَلَم الجنس "كأسامة"، وإما
1 ال في "الصاغة" معرفة لا موصولة؛ لأنها إنما تكون موصولة في اسم الفاعل، إذا دل على الحدوث.
2 هذا صحيح في استغراق النكرة المنفية؛ أما استغراق المعرف باللام فالمفرد والجمع فيه سواء؛ ولهذا كان قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] شاملا لكل مؤمن، وليس خاصا بجماعات المؤمنين.
3 بخلاف نفي الوحدة، نحو:"لا رجل في الدار" فإنه يصدق إذا كان فيها رجلان أو أكثر، ويكون لاستغراق الواحد كما يكون الجمع لاستغراق الجموع دون الأفراد.
4 هذا جواب عن اعتراض بعضهم بأن إفراد الاسم ينافي أن تكون الأداة الداخلة عليه للاستغراق؛ لأن إفراده يدل على الوحدة، والاستغراق يدل على التعدد.
5 لأنه قُصد به الجنس الصالح لهما.
6 هو الذي يدل على كل فرد على طريق البدل، وعلى هذا لا تُنافي الدلالةُ على الوحدة الدلالةَ على التعدد.
7 هذا عند الجمهور، وقد أجازه الأخفش لِمَا سمع من كلامهم:"أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض".
فرد معين، وهو العهد الخارجي، ونحوه العلم الخاص "كزيد"، وإما فرد غير معين، وهو العهد الذهني، ونحوه النكرة "كرجل"، وإما كل الأفراد؛ وهو الاستغراق، ونحوه لفظ "كل" مضافا إلى النكرة كقولنا:"كل رجل".
وقد شكك السكاكي1 على تعريف الحقيقة والاستغراق بما خرج الجواب عنه مما ذكرنا2، ثم اختار3 -بناء على ما حكاه عن بعض أئمة أصول الفقه من كون اللام موضوعة لتعريف العهد لا غير4- أن المراد بتعريف الحقيقة تنزيلها منزلة المعهود بوجه من الوجوه الخطابية؛ إما لكون الشيء حاضرا في الذهن لكونه محتاجا إليه على طريق التحقيق أو التهكم5، أو لأنه عظيم الخطر معقود به الهمم6 على أحد الطريقين7، وإما لأنه لا يغيب عن الحس8 على أحد الطريقين لو كان معهودا9.
وقال10: الحقيقة من حيث هي هي لا واحدة ولا متعددة؛ لتحققها مع الوحدة تارة ومع التعدد أخرى، وإن كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما، فهي صالحة للتوحد والتكثر؛ فكون الحكم استغراقا أو غير استغراق "راجع" إلى مقتضى المقام11، فإذا كان خطابيا12 مثل "المؤمن غِرّ كريم، والفاجر خَبّ لئيم" حُمل المعرف باللام -مفردا كان أو جمعا- على الاستغراق؛ بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون آخر -مع تحقق الحقيقة فيهما- ترجيح لأحد المتساويين، وإذا كان استدلاليا حُمل على أقل ما يحتمل، وهو الواحد في المفرد، والثلاثة في الجمع13.
1 المفتاح ص115.
2 أما تشكيكه في تعريف الحقيقة من حيث هي: فبدعوى أنه لا فرق بين المراد منها والمراد من أسماء الأجناس النكرات؛ كرجل، وقيامة، إن قصد منها الدلالة على الحقيقة من حيث هي، فإن قصد منها الحقيقة باعتبار حضورها في الذهن لم تفترق عن لام العهد الخارجي.
وأما تشكيكه في الاستغراق فبدعوى التنافي بينه وبين أفراد الاسم. وقد أجاب الخطيب عن الأول بما أشار إليه من أن لام الحقيقة تدل على الحقيقة بقيد استحضارها في الذهن، ولام العهد الخارجي يقصد بها فرد معين، وبهذا تمتاز لام الحقيقة عن أسماء الأجناس النكرات، وعن لام العهد الخارجي، وأجاب عن الثاني بدفع التنافي بين الاستغراق وأفراد اسم الجنس.
3 أي: في الجواب عن تشكيكه في تعريف الحقيقة.
4 أي: لا الحقيقة؛ فلا تأتي لتعريفها إلا بعد تنزيلها منزلة المعهود بوجه من الوجوه الآتية.
5 كقولهم: "الدينار خير من الدرهم"، ويمكن أن يكون من هذا في التهكم قولهم:"إن البُغَاث بأرضنا يَسْتَنْسِر".
6 كقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89] .
7 أي: طريق التحقيق، وطريق التهكم.
8 كقولك: "الأرض مبسوطة" في الأول، وقولك:"الطفيليّ حضر" في الثاني.
9 هذه الجملة الشرطية لا توجد في كلام السكاكي، وفي نسخة:"فكأنه معهود".
10 أي: في الجواب عن تشكيكه في الاستغراق، وهذا هو الذي أجاب به الخطيب فيما سبق.
11 يعني أن دلالة اللام على هذا ليست بمقتضى الوضع، وإنما هي بمقتضى المقام.
12 المقام الخطابي هو الذي يكتفَى فيه بالظن، والمقام الاستدلالي هو الذي يُطلَب فيه اليقين.
13 مثل: "حصل الدرهم أو الدراهم". هذا وكل ما ذكره السكاكي والخطيب في التعريف باللام ليس فيه من البلاغة شيء؛ لأنه لا يخرج عما تفيده بمقتضى دلالتها الوضعية، وقد حاول السكاكي أن يجعل لذلك وجها من البلاغة، ولكنه تكلَّفَ فيه على عادته.
أغراض التعريف بالإضافة:
وإن كان بالإضافة:
فإما لأنه ليس للمتكلم إلى إحضاره في ذهن السامع طريق أخصر منها؛ كقوله "من الطويل":
هواي مع الركب اليمانين مصعد
…
جَنِيب وجثماني بمكة مُوثَق6
6 هو لجعفر بن علبة الحارثي، وكان مسجونا بمكة في جناية، فزارته محبوبته مع ركب من قومها، فلما رحلت قال فيها ذلك. وآثر قوله:"هواي" على نحو: "الذي أهوَى" أو "المهويّ لي"؛ لأن الإضافة أخصر وأنسب بما هو فيه من ضيق الصدر بالحبس، وكذلك ضيق الشعر، وقد أطلق الهوى على المهوي مجازا مرسلا. واليمانين: جمع يمان، وألفه عوض عن ياء النسب، والمصعد: اسم فاعل من "أصعد" بمعنى: أبعد في السير. والجنيب: المستتبع من "جنبَ البعير" إذا قاده إلى جنبه.
وإما لإغنائها عن تفصيل متعذر أو مرجوح لجهة1؛ كقوله "من الطويل":
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم
…
أسود لها في غِيل خَفّان أَشْبُل2
وقوله "الكامل":
قومي هُمُ قتلوا أميم أخي
…
فإذا رميت يصيبني سهمي3
وإما لتضمنها تعظيما لشأن المضاف إليه؛ كقولك: "عبدي حضر" فتعظم شأنك، أو تعظيما لشأن المضاف؛ كقولك:"عبد الخليفة ركب" فتعظم شأن العبد، أو لشأن غيرهما؛ كقولك:"عبد السلطان عند فلان" فتعظم شأن فلان.
أو تحقيرا نحو: "ولد الحجام حضر"4، وإما لاعتبار آخر مناسب5.
1 يعني أنه غير متعذر، ولكنه مرجوح لجهة، كما سيأتي في الشاهد.
2 هو لأبي السمط مروان بن أبي حفصة في مدح معن بن زائدة. وبنو مطر: قومه، بطن من شيبان. والغيل: الشجر المجتمع. وخفان: مأسدة قرب الكوفة. والأشبل: أولاد الأسود. والشاهد في قوله: "بنو مطر"؛ لإغناء الإضافة فيه عن تفصيل متعذر.
3 هو للحارث بن وعلة الجرمي، وأميم: منادى مرخم أميمة، وكانت تحضه على الأخذ بثأر أخيه ممن قتله من قومه. والشاهد في قوله:"قومي"؛ لإغناء الإضافة فيه عن تفصيل تركه أرجح لجهة هي خوف تنفيرهم منه وحقدهم عليه إذا صرّح بأسمائهم.
4 هذا مثال لإفادتها تحقير المضاف، ومن إفادتها تحقير المضاف إليه قولك:"ضارب بكر حضر"، ومن إفادتها تحقير غيرهما قولك:"ولد الحجام جليس زيد"، ومن إفادتها التعظيم والتحقير قول الشاعر "من الطويل":
أبوك حُبَاب سارق الضيف برده
…
وجدي يا حجاج فارس شمرا
5 كالاستعطاف في قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] . وكتضمنها لطفا مجازيا في نحو قول الشاعر "من الطويل":
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة
…
سهيل أذاعت غزلها في الأقارب
فأضاف الكوكب إلى الخرقاء لأدنى ملابسة، وهي أنها لا تتذكر كسوة الشتاء إلا وقت طلوعه سحرا، وهو لا يطلع سحرا إلا في الشتاء. وسهيل: بدل من كوكب.
هذا، ولا تختص هذه المزايا بالتعريف بالإضافة، بل تأتي في الإضافة إلى النكرة، فتفيد التعظيم في نحو قول امرأة من بني عامر "من الطويل":
وحربٍ يَضِجّ القوم من نفيانها
…
ضجيج الجِمال الجلّة الدَّبِرات
سيتركها قوم ويصلَى بِحَرّها
…
بنو نسوة للثكل مصطبرات
وتفيد التقليل والتحقير في قول الشاعر "من الطويل":
إذا جاع لم يفرح بأكلة ساعة
…
ولم يبتئس من فقدها وَهْوَ ساغب
أغراض تنكير المسند إليه:
وأما تنكيره: فللإفراد1 كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20] ؛ أي: فرد من أشخاص الرجال. أو للنوعية؛ كقوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] أي: نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس2 وهو غطاء التعامي عن آيات الله.
ومن تنكير غير المسند إليه للإفراد قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29] . وللنوعية: قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] أي: نوع من الحياة مخصوص وهو الحياة الزائدة، كأنه قيل: "لتجدنهم أحرص الناس وإن عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في الماضي
1 أي: الدلالة على فرد منتشر، وهذا عام في كل نكرة؛ فإذا كانت مفردا دلت على واحد، وإذا كانت مثنى دلت على اثنين، وإذا كانت جمعا دلت على ثلاثة، وإذا كانت نوعا دلت على النوعية أي فرد سائر الأنواع، ولا يخفى أن هذا معنى أصلي للنكرة لا يصح ذكره هنا، وإنما يعد من البلاغة إذا دل بمعونة المقام على نوعية غريبة أو نحو ذلك مما يأتي، وقد يقتضي المقام المعنى الأصلي للنكرة إذا كان لا يتعلق بتعيينها غرض، وذلك نحو "رجل" في الآية، ومثل هذا قد يعد وجها من وجوه البلاغة.
2 لهذا نُكّرت في الآية، ولو عُرِّفت لانصرفت إلى ما يتعارفه الناس منها، مع أنه ليس مرادا، فلما أريد غيره نُكِّرت ليبحثوا عنها فيعرفوها، وإنما كان التنكير هنا للنوعية؛ لأنه هو الذي يقابل أبصارهم المتعددة، بخلاف تنكير الأفراد. وقيل: إن التنكير في الآية للتعظيم.
والحاضر حياة في المستقبل"؛ فإن الإنسان لا يوصف بالحرص على شيء، إلا إذا لم يكن ذلك الشيء موجودا له حال وصفه بالحرص عليه، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] يحتمل الإفراد والنوعية؛ أي: خلق كل فرد من أفراد الدواب من نطفة معينة، أو كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع المياه.
أو للتعظيم والتهويل أو للتحقير: أي ارتفاع شأنه أو انحطاطه إلى حد لا يمكن معه أن يعرف، كقول ابن أبي السمط "من الطويل":
له حاجب عن كل أمر يَشِينه
…
وليس له عن طالب العرف حاجب1
أي: له حاجب أيّ حاجب، وليس له حاجب ما.
أو للتكثير2: كقولهم: "إن له لإبلا، وإن له لغنما" يريدون الكثرة. وحمل الزمخشري التنكير في قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الأعراف: 113] عليه.
أو للتقليل3 كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]
1 هو كما في "زهر الآداب" لأبي السمط مروان بن أبي حفصة، ونسب في "ديوان المعاني" لولي بن أبي السمط، وهو أبو الطمحان القيني، وقبله "من الطويل":
فتًى لا يبالي المدلجون بنوره
…
إلى بابه ألا تضيء الكواكب
ومعنى البيت: أن ممدوحه له حاجب عظيم من نفسه يمنعه عن فعل ما يشينه، وليس له حاجب ما عن طالب الندى؛ فالحاجب الأول نفسي، والتنكير فيه للتعظيم، والحاجب الثاني حسيّ، والتنكير فيه للتحقير على سبيل المبالغة في النفي، وفي قوله:"وليس له عن طالب العرف حاجب" قلب، والأصل:"وليس لطالب العرف حاجب عنه".
2 فيفيد أنه كثير إلى حد لا يعرف، وإنما أفاد التنكير التكثير مع أن الأصل فيه الدلالة على الوحدة؛ لأنه لا تنافي بين الدلالتين كما سبق، والفرق بين التكثير والتعظيم أن الأول ينظر فيه إلى الكميات والمقادير، والثاني ينظر فيه إلى علو الشأن، وبهذا يُعرَف الفرق بين التقليل والتحقير.
3 فيقيد أنه قليل إلى حد لا يعرف.
أي: وشيء ما من رضوانه أكبر من ذلك كله؛ لأن رضاه سبب كل سعادة وفلاح، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راضٍ عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم، وإنما تهنأ له برضاه، كما أنه إذا علم بسخطه تنغّصت عليه، ولم يجد لها لذة، وإن عظمت.
وقد جاء للتعظيم والتكثير جميعا، كقوله تعالى:{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] أي: رسل ذوو عدد كثير، وآيات عظام1، وأعمار طويلة، ونحو ذلك.
والسكاكي2 لم يفرق بين التعظيم والتكثير، ولا بين التحقير والتقليل، ثم جعل التنكير في قولهم:"شر أهر ذا ناب" للتعظيم، وفي قوله تعالى:{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} [الأنبياء: 46] لخلافه، وفي كليهما نظر؛ أما الأول فلما سيأتي3، وأما الثاني فلأن خلاف التعظيم مستفاد من البناء للمرة، ومن نفس الكلمة4؛ لأنها إما من قولهم:"نفحت الريح" إذا هبت، أي: هبة، أو من قولهم:"نفح الطيب" إذا فاح، أي: فوحة، كما يقال: شمة، واستعماله بهذا المعنى في الشر استعارة؛ إذ أصله أن يستعمل في الخير؛ يقال:"له نفحة طيبة" أي: هبة من الخير. وذهب أيضا إلى أن قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] بالتنكير دون "عذاب الرحمن" بالإضافة؛ إما للتهويل أو لخلافه5، والظاهر أنه لخلافه، وإليه
1 قد يقال: إن الذي في الآية تنكير رسل، فيدل على عِظَمهم لا على عظم الآيات، وأُجيب بأنه يشير بهذا إلى أنه هو المراد بعظم الرسل، أو إلى أنه داخل في عظمهم.
2 المفتاح ص103.
3 من أن تقديم المسند إليه في ذلك للتخصيص لا للتعظيم؛ لأن المعنى: ما أهر ذا ناب إلا شر.
4 لا يخفى أن هذا لا يمنع أن يكون للتنكير دلالة عليه أيضا؛ لأن المعنى الواحد قد يجتمع فيه دلالتان وثلاث لغرض من الأغراض.
5 خلاف التهويل هو التهوين.
ميل الزمخشري؛ فإنه ذكر أن إبراهيم عليه السلام لم يُخْلِ هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه؛ حيث لم يصرح فيه أن العذاب لاحق له لاصق به، ولكنه قال:{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] فذكر الخوف والمسّ، ونكّر العذاب.
وأما التنكير في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فيحتمل النوعية والتعظيم؛ أي: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة؛ لمنعه عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد متى اقتدروا، أو نوع من الحياة وهو الحاصل للمقتول والقاتل بالارتداع عن القتل للعلم بالاقتصاص؛ فإن الإنسان إذا همّ بالقتل تذكر الاقتصاص فارتدع، فسلم صاحبه من القتل وهو من القَوَد، فتسبّبَ لحياة نفسين.
ومن تنكير غير المسند إليه للنوعية: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [الشعراء: 173] أي: وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا، يعني: الحجارة، ألا ترى إلى قوله تعالى:{فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} 1 [الشعراء: 173]، وللتحقير2:{إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} [الجاثية: 32]3.
1 أي: في الآية نفسها؛ لأن قوله "فساء" صيغة تعجب.
2 فالمعنى في الآية: إلا ظنا ضعيفا، وإنما حُمل على هذا ولم يجعل مصدرا مؤكدا؛ لأن الاستثناء لا يصح في المصدر المؤكد، وعلى الأول يكون من المصدر المبين لنوع فعله.
3 [الجاثية: 32] .
هذا، وقد يأتي التنكير لأغراض أخرى:
منها قصد التجاهل في قوله تعالى: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] .
ومنها أن يمنع مانع من التعريف كما في قول الشاعر "من الوافر":
إذا سئمتْ مهنّده يمينٌ
…
لطول الحمل بدّله شمالا
لم يقل: "يمينه"؛ لأنه كره أن ينسب ذلك إلى يمين ممدوحه، فنكرها ولم يضفها إليه.
تمرينات على التعريف والتنكير:
تمرين1:
1-
قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16] ، فلماذا نكر رسولا أولا وعرفه ثانيا؟
ومن أي أقسام اللام لام الرسول؟
تمرين2:
1-
قال تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2] ، فلماذا أتى باسم الإشارة للبعيد ولم يأت به للقريب؟
2-
لماذا أوثر اسم الموصول على غيره من المعارف في قول الشاعر:
أعُبّاد المسيح يخاف صحبي
…
ونحن عبيد من خلق المسيحا؟
تمرين3:
1-
ما الغرض من تنكير المسند إليه في قول الشاعر:
وفي السماء نجوم لا عداد لها
…
وليس يكسف إلا الشمس والقمر؟
2-
لماذا عرف المسند إليه بالعلمية وبالموصولية في قوله تعالى:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ؟
تمرين 4:
1-
قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة" فلماذا نكر المسند إليه ولم يعرفه؟
2-
لماذا عرف المسند إليه بالإضافة في قول الشاعر:
أخوك الذي إن تَدْعُه لِمُلمّة
…
يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب؟
تمرين 5:
1-
قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6] .
فلماذا عُرِّف "العسر" في الموضعين ونُكِّر "يسرا" فيهما؟ ومن أي أقسام اللام لام العسر؟
2-
ما الغرض من التنكير في قول الشاعر:
شقت لمنظرك الجيوب عقائل
…
وبكتك بالدمع الهتون غَوانِ
تمرين 6:
1-
قال الشاعر:
أحياؤنا لا يُرزقون بدرهم
…
وبألف ألف تُرزق الأموات!!
فلماذا عرف المسند إليه الأول بالإضافة والثاني باللام، ولم يعكس فيهما؟
2-
بين الغرض من التنكير في قول الشاعر:
ولله مني جانب لا أضيعه
وللَّهو مني والخلاعة جانب
3-
بين الغرض من التعريف والتنكير في قول المتنبي:
أَهُمّ بشيء والليالي كأنها
…
تطاردني عن كون وأطارد
أغراض وصف المسند إليه:
وأما وصفه: فلكون الوصف تفسيرا له كاشفا عن معناه1؛ كقولك: "الجسم الطويل العريض العميق محتاج إلى فراغ يشغله". ونحوه في الكشف قول أوس "المنسرح":
الألمعي الذي يظن بك الظـ
…
ـن كأن قد رأى وقد سمعا2
حكي أن الأصمعي سُئِل عن الألمعي، فأنشده ولم يزد.
وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19-21] قال الزمخشري: "الهَلَع: سرعة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير، من قولهم: "ناقة هلوع: سريعة السير". وعن أحمد بن يحيى3: قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ قلت: قد فسره الله تعالى......" انتهى كلام الزمخشري.
أو لكونه مخصصا له4 نحو: "زيد التاجر عندنا".
أو لكونه مدحا له، كقولنا:"جاء زيد العالم" حيث يتعين فيه ذكر زيد قبل ذكر
1 هذا معنى أصلي للوصف، فلا يصح ذكره في وجوه البلاغة، وكذلك كونه مخصصا للموصوف.
2 هو لأوس بن حجر يرثي فضالة بن كلدة، وقبله:
أيتها النفسُ أَجملي جزعا
…
إن الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمع الشجاعة والنجـ
…
ـدة والبر والتقا جُمعا
فالألمعي بالرفع خبر "إن"؛ ولهذا قال: "ونحوه في الكشف" لأنه ليس مسندا إليه، وقد روي بالنصب على أنه وصف لاسم "إن"، ويؤيد هذه الرواية إتيان خبر "إن" بعد هذا في قوله:
أودَى فلا تنفع الإشاحة من
…
أمر لمرء يحاول البدعا
3 هو أبو العباس ثعلب، من أئمة اللغة والنحو.
4 التخصيص: رفع الاحتمال في المعارف، وتقليل الاشتراك في النكرات.
العالم، ونحوه من غيره1 قوله تعالى:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] .
وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] .
أو لكونه ذما له؛ كقولنا: "ذهب زيد الفاسق" حيث يتعين فيه ذكر زيد قبل ذكر الفاسق. ونحوه من غيره قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] .
أو لكونه تأكيدا له2 كقولك: "أمس الدابر كان يوما عظيما".
أو لكونه بيانا له3، كقوله تعالى:{لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 4.
قال الزمخشري: الاسم الحامل لمعنى الإفراد أو التثنية دالّ على شيئين: على الجنسية، والعدد المخصوص. فإذا أريدت الدلالة على أن المَعْنِيّ به منهما والذي يساق له الحديث هو العدد، شُفع بما يؤكده، فدُل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت:"إنما هو إله" ولم تؤكده بـ "واحد" لم يحسن، وخُيِّل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية، وأما قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ
1 نحوه أيضا من المسند إليه قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، وقول خرنق أخت طرفة "من الوافر":
لا يبعدن قومي الذين هم
…
سم العداة وآفة الجزْر
النازلون بكل معترك
…
والطيبون مَعاقِد الأُزُر
2 أي: تأكيدا لغويا لا اصطلاحيا، ولا بد للوصف المؤكد من حال يقتضيه؛ كإظهار السرور أو التأسف في المثال، والتأكيد يقصد هنا زائدا على الوصفية بخلافه في التوكيد بالنفس ونحوه مما يأتي.
3 وقد ذكروا هنا فروقا بين الوصف المبيِّن وغيره مما سبق، وقيل: إن الوصف المبين يمكن جعله من الوصف المؤكد، وإنما جُعل وصفا، ولم يُجعل عطف بيان؛ لأن عطف البيان لا يكون مشتقا ولا مؤوّلا به.
4 [النحل: 51] .
بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] فقال السكاكي1: شفع "دابة" بـ "في الأرض"، و"طائر" بـ "يطير بجناحيه" لبيان أن القصد بهما إلى الجنسين2. وقال الزمخشري: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة3 كأنه قيل: "وما من دابة قَطُّ في جميع الأرضين السبع، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه".
واعلم أن الجملة قد تقع صفة للنكرة، وشرطها أن تكون خبرية؛ لأنها في المعنى حكم على صاحبها كالخبر، فلم يستقِمْ أن تكون إنشائية مثله؛ وقال السكاكي4: لأنه يجب أن يكون المتكلم يعلم تحقق الوصف للموصوف؛ لأن الوصف إنما يُؤتَى به ليُميز به الموصوف مما عداه، وتمييز المتكلم شيئا من شيء بما لا يعرفه له محال، فما لا يكون عنده محققا للموصوف يمتنع أن يجعله وصفا له بحكم عكس النقيض5، ومضمون الجمل الطلبية كذلك؛ لأن الطلب يقتضي مطلوبا غير متحقق لامتناع طلب الحاصل، فلا يقع شيء منها صفة لشيء، والتعليل الأول أعم؛ لأن الجملة الإنشائية قد لا تكون طلبية6 كقولنا: "نعم الرجل زيد، وبئس الصاحب عمرو، وربما يقوم بكر، وكم غلامٍ ملكتَ؟ وعسى أن يجيء بشر، وما
1 المفتاح ص101.
2 أي: لا إلى العدد.
3 أما أصل التعميم فمستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، والزيادة لدفع احتمال إرادة دواب أرض واحدة أو طيور جو واحد، وجعل الاستغراق حقيقيا في جميع الدواب والطيور. ولا يخفى أن كلام السكاكي يؤول إلى ذلك أيضا؛ لأنه عند قصد الجنس يكون الاستغراق حقيقيا.
4 المفتاح ص100، 101.
5 أي لقوله: "يجب أن يكون المتكلم يعلم تحقق الوصف للموصوف".
6 لا يخفى أن الجملة الإنشائية غير الطلبية كالإنشائية الطلبية فيما ذكره السكاكي، ولا معنى للتطويل بهذه المماحكات اللفظية في هذا العلم، ولا سيما أن ما ذكره من ذلك الشرط من مسائل علم النحو.
أحسن خالدا"، وصِيَغ العقود نحو: "بعت واشتريت" فإن هذه كلها إنشائية وليس شيء منها بطلبي. ولامتناع وقوع الإنشائية صفة أو خبرا؛ قيل في قوله "من الرجز":
جاءوا بمَذْق هل رأيتَ الذئب قط1
تقديره: جاءوا بمذق مقول عنده هذا القول، أي: بمذق يحمل رائيه أن يقول لمن يريد وصفه له: هل رأيت الذئب قط؟ فهو مثله في اللون؛ لإيراده في خيال الرائي لون الذئب لوُرقته2.
وفي مثل قولنا: "زيد اضربْه أو لا تضربْه" تقديره: "مقول في حقه: اضربه أو لا تضربه"3.
1 هو لعبد الله بن رؤبة التميمي المعروف بالعجّاج، وقبله:
حتى إذا جن الظلام واختلط
والمذق: اللبن المخلوط بالماء، مصدر بمعنى اسم المفعول، وقوله:"جن الظلام" بمعنى أقبل أوله، واختلاطه إنما يكون بعد ذهاب نور النهار كله. يصف قوما أضافوه وأطالوا عليه، ثم أتوه بهذا المذق.
2 الورقة: سواد في غُبْرة.
3 قد يأتي الوصف لأغراض أخرى؛ منها الترحّم في قول الشاعر "من الوافر":
إلهي، عبدك العاصي أتاكا
…
مقرا بالذنوب وقد دعاكا
ومنها قصد الإبهام، نحو قولك:"تصدقت صدقة كبيرة أو صغيرة".
ومنها قصد التعميم، مثل قولك:"أكرِمِ الناسَ الصغارَ والكبار".
أغراض توكيد المسند إليه:
وأما توكيده: فللتقرير، كما سيأتي في باب تقديم الفعل وتأخيره1.
أو لدفع توهم التجوز أو السهو2 كقولك: "عرفت أنا، وعرفت أنت، وعرف زيد زيد"، أو عدم الشمول، كقولك:"عرفني الرجلان كلاهما، أو الرجال كلهم"3. قال السكاكي4: ومنه "كل رجل عارف، وكل إنسان حيوان".
وفيه نظر؛ لأن كلمة "كل" تارة تقع تأسيسا، وذلك إذا أفادت الشمول من أصله حتى لولا مكانها لما عُقل، وتارة تقع تأكيدا، وذلك إذا لم تفده من أصله، بل تمنع أن يكون اللفظ المقتضى له مستعملا في غيره.
أما الأول فهو أن تكون مضافة إلى نكرة5؛ كقوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] وقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12] وقوله: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] . وأما الثاني فما عدا ذلك؛ كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ} [الحجر: 30] . وهي في قوله: "كل رجل عارف، وكل إنسان حيوان" من الأول لا الثاني؛ لأنها لو حذفت منهما لم يفهم الشمول أصلا.
1 كقولك: "هو يعطي الجزيل" فهو يفيد من تقوية الحكم ما لا يفيده قولك: "يعطي زيد الجزيل" لتكرار الإسناد في الأول. ولا يخفى أن هذا ليس من توكيد المسند إليه، فلا معنى لذكره هنا.
2 بأن يكون في الكلام أو المقام ما يوهم ذلك، فيؤتى بالتوكيد لدفعه، وبهذا يمتاز نظر علم المعاني عن نظر علم النحو إلى التوكيد، وهذا كما في قولك:"قطع الأمير نفسُهُ السارق" فإنه لو قيل: "قطع الأمير السارق" لتوهم أن القاطع غيره بأمره على ما جرت به العادة في ذلك، أما النحو فيجوز فيه أن يقال:"قطع الأمير نفسه السارق، وقطع الأمير السارق" بلا نظر إلى هذه الاعتبارات، وعلى هذا ورد التوكيد في قوله:{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه: 56] وقوله: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 30، 31] . ففي هذا إشارة إلى فظاعة تكذيب فرعون واستكبار إبليس اللعين.
3 فإنه قبل التأكيد يحتمل أن أحد الرجلين أو بعض الرجال لم يجئ، ولكنه لم يعتد به، فأُطلق الكل وأُريد البعض على سبيل المجاز.
4 المفتاح ص101.
5 كذلك المضافة إلى معرفة، كقوله تعالى:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] .
أغراض عطف البيان:
وأما بيانه، وتفسيره فلإيضاحه باسم مختص به1؛ كقولك:"قدم صديقك خالد".
أغراض الإبدال من المسند إليه:
وأما الإبدال منه فلزيادة التقرير والإيضاح2 نحو: "جاءني زيد أخوك، وجاء القوم أكثرهم، وسُلِب عمرو ثوبه"3، ومنه في غيره قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7] .
1 هذا معنى نحوي لعطف البيان، وإنما يعد من البلاغة إذا كان للمسند إليه شأن يقتضي العناية بأمره كعِظَم شأنه أو حقارته، فيكون عطف البيان لمدحه أو ذمه أو نحو ذلك، كقوله تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] وقوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] . وقد يكون عطف البيان غير مختص بمتبوعه، ولكن يحصل الإيضاح والاختصاص بمجموعهما، كما في قول الشاعر "البسيط":
والمؤمن العائذات الطير يمسحها
…
ركبان مكة بين الغيل والسند
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه
…
إذن فلا رفعت سوطا إلي يدي
فالطير عطف بيان للعائذات، وكل منهما غير مختص بصاحبه في ذاته، وإنما حصل هذا بمجموعهما.
2 يعني أنه يؤتى به لهذين الأمرين زيادة على قصده بالحكم، وهو المعنى النحوي للبدل، أو أن فيه زيادة تقرير على التوابع السابقة؛ لأنه على نية تكرار العامل، فيكون إسناده أقوى من غيره.
3 لم يأت بمثال لعطف الغلط؛ لأنه لا يقع في فصيح الكلام إلا أن يكون بدل بداء؛ وهو أن تذكر المبدل منه عن قصد ثم تذكر البدل بعده، فتوهم أنك غالط لقصد المبالغة والتفنن، وشرطه أن يُرتقَى فيه من الأدنى إلى الأعلى، كما في قول الشاعر "من البسيط":
ألمعُ برقٍ سرى أم ضوء مصباح
…
أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي
هذا، وفي البدل من وجوه البلاغة وجه الإجمال ثم التفصيل والعناية بإثبات الحكم، ولا يكون هذا إلا لمقام يقتضيه، كما في قول الشاعر "من الطويل":
بلغنا السماء مجدُنا وسناؤنا
…
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
أغراض عطف النسق:
وأما العطف فلتفصيل المسند إليه مع اختصار2؛ نحو: "جاء زيد وعمرو وخالد".
أو لتفصيل المسند مع اختصار؛ نحو: "جاء زيد فعمرو" أو ثم عمرو، أو "جاء القوم حتى خالد"3، ولا بد في "حتى" من تدريج؛ كما ينبئ عنه قوله "من الطويل":
1 هذا غير ما يفيده العطف من معناه النحوي؛ كالدلالة على مطلق الجمع في الواو. ووجه الاختصار في المثال أنه في معنى "جاء زيد وجاء عمرو وجاء خالد" وقد أشار به إلى أن تفصيل المسند إليه خاص بالواو.
هذا، ولا بد لذلك من مقام يقتضيه، كما في قوله تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8] ، فذكر بالتفصيل فرعون وهامان؛ لأنهما السبب في الخطأ دون جنودهما.
2 أشار بهذا إلى أن تفصيل المسند خاص بالفاء وثم وحتى؛ لأنها تبين أنه حصل بترتيب وتعقيب، أو بترتيب وتراخٍ، أو بترتيب ذهني، ووجه الاختصار فيها أنها تغني عن "جاء زيد وعمرو بعده بيوم أو سنة أو نحو ذلك" ولا يخفى أنه يحصل فيه أيضا تفصيل المسند إليه ولكنه غير مقصود منها؛ لأنه يكون معلوما قبلها، فتساق لأجل تفصيل المسند وحده.
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى
…
بي الحال حتى صار إبليس من جندي1
أو لرد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب2؛ كقولك: "جاءني زيد لا عمرو" لمن اعتقد أن عمرا جاءك دون زيد، أو أنهما جاءاك جميعا، وقولك:"ما جاءني زيد لكن عمرو" لمن اعتقد أن زيدا جاءك دون عمرو.
أو لصرف الحكم عن محكوم له إلى آخر؛ نحو: "جاءني زيد بل عمرو" و"ما جاءني زيد بل عمرو"3.
أو للشك فيه أو التشكيك4؛ نحو: "جاءني زيد أو عمرو، أو: إما زيد وإما عمرو، أو: إما زيد أو عمرو".
أو للإبهام، كقوله تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] .
أو للإباحة أو التخيير: وهو أن يفيد ثبوت الحكم لأحد الشيئين أو الأشياء فحسب5، مثالهما قولك:"ليدخل الدار زيد أو عمرو" والفرق بينهما واضح؛ فإن الإباحة لا تمنع من الإتيان بهما أو بها جميعا.
1 هو للحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس، و"حتى" فيه ليست عاطفة، وإنما يقصد التمثيل لإفادتها التدريج، وإنما لم تكن عاطفة فيه؛ لأن المشهور أنها لا تأتي في عطف الجمل، ولأن الجملة قبلها لا يستقل بها الكلام حتى يصح العطف عليها عند من يقول بصحة العطف بها في الجمل.
2 أي: مع الاقتصار على ما سبق؛ لأن هذا هو الذي يُعنَى به في هذا العلم.
3 فالمعنى فيه على نقل حكم النفي إلى عمرو على ما ذهب إليه المبرد، والجمهور على أن "بل" تنقل حكم الإثبات لا النفي.
4 أي: مع الاختصار أيضا. والشك من المتكلم، والتشكيك للسامع، والبلاغة في التشكيك أعلى من البلاغة في الشك؛ لأن التشكيك يُجعل وسيلة إلى بلوغ اليقين ووصول الحق إلى المخالفين على وجه لا يثير غضبهم؛ لينظروا فيه فيؤديهم النظر إلى العلم به. وقد جعل السكاكي من هذا قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ
…
} الآية، ولم يجعله للإبهام على السامع كما فعل الخطيب. ومنه أيضا قول الشاعر "من الطويل":
وقد زعمت ليلى بأني فاجر
…
لنفسي تقاها، أو عليها فجورها
وقيل: إن "أو" فيه بمعنى الواو.
5 أي: من غير قصد إلى تشكيك أو إبهام.
أغراض ضمير الفصل:
وأما توسط الفصل بينه وبين المسند فلتخصيصه به1؛ كقولك: "زيد هو المنطلق، أو: هو أفضل من عمرو، أو: هو خير منه، أو: هو يذهب"2.
1 أي: من غير قصد إلى تشكيك أو إبهام.
2 يعني تخصيص المسند إليه بالمسند، فالباء داخلة على المقصور، وما قبلها هو المقصور عليه، ومن أغراض الفصل أيضا التأكيد، وإنما يفيد التأكيد إذا حصل التخصيص بغيره بأن تكون الجملة معرّفة الطرفين مثلا، كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] . كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117]، وقوله:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] . وقد يكون لتخصيص المسند بالمسند إليه؛ نحو: "الكرم هو التقوى"؛ لأنه بمعنى: لا كرم إلا بالتقوى.
3 الحق أن هذا ليس ضمير فصل، وإنما يعرب توكيدا أو مبتدأ ثانيا؛ لأنه يشترط في ضمير الفصل أن يكون ما بعده خبرا معرفة أو كالمعرفة في عدم قبول "ال"، كلفظ خير، ويشترط فيما قبله أن يكون مبتدأ ولو باعتبار الأصل، وأن يكون معرفة، ويشترط فيه نفسه أن يكون بصيغة المرفوع، وأن يطابق ما قبله؛ فلا يجوز:"كنت هو الفاضل".
تمرينات على التوابع:
تمرين1:
1-
بين الغرض من البدل في قول الشاعر:
وكنت كذي رِجْلين: رجل صحيحة
…
ورجل رمى فيها الزمان فشُلَّت
2-
هل يجوز بلاغة -كما يجوز نحوا- أن يجعل عطف البيان بدلا مطابقا وبالعكس، أو أن لكل منهما مقاما خاصا به؟
3-
بين معنى "أو" ومنزلتها بلاغة في قول الشاعر:
نحن أو أنتم الأولي ألفوا الحق
…
فبعدا للمبطلين وسحقا
تمرين2:
1-
من أي أقسام البدل قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68، 69] ؟ وأي غرض دعا إليه؟ وما منزلته في البلاغة؟
2-
أي غرض دعا إلى التوكيد في قول الشاعر:
لكنه شاقه أن قيل ذا رجب
…
يا ليت عدة حول كله رجبا؟
3-
قال تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 36] . فلماذا عطف في الأول دون الثاني؟
تمرين3:
1-
قال الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8] . فما فائدة العطف بلاغة فيه؟ ولماذا أُوثِرت فيه الواو على غيرها؟
2-
أي غرض دعا إلى العطف بحتى في قول الشاعر:
قهرناكم حتى الكماة فأنتم
…
تهابوننا حتى بَنِينا الأصاغرا؟
3-
ما الغرض من الوصف في قول الشاعر:
ويأوي إلى نسوة عطل
…
وشعثا مراضيع مثل السعالي؟
أغراض التقديم:
وأما تقديمه فلكون ذكره أهم؛ إما لأنه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه1، وإما ليتمكن الخبر في ذهن السامع؛ لأن في المبتدأ تشويقا إليه؛ كقوله "من الخفيف":
والذي حارت البَرِيَّة فيه
…
حيوان مستحدث من جماد2
وهذا أولى من جعله شاهدا؛ لكون المسند إليه موصولا كما فعل السكاكي3.
وإما لتعجيل المسرة أو المساءة؛ لكونه صالحا للتفاؤل أو التطير؛ نحو: "سعد في دارك، والسفاح في دار صديقك".
وإما لإيهام أنه لا يزول عن الخاطر، أو أنه يُستلذ، فهو إلى الذكر أقرب4.
وإما لنحو ذلك5.
1 هذا إذا كان المسند إليه مبتدأ أو نحوه، لا فاعلا أو نحوه، ولا يخفى أن هذه نكتة ضعيفة لا يعول عليها هنا.
2 هو لأحمد بن عبد الله المعروف بأبي العلاء المعري، وقوله:"حارت" بمعنى اختلفت، من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم على سبيل المجاز المرسل، واسم الموصول مبتدأ وخبره حيوان على تقدير مضاف، أي: معاد حيوان كما يدل عليه سياق القصيدة. ويجوز أن يراد استحداث الحيوان من النطفة؛ فلا يحتاج إلى تقدير مضاف.
3 المفتاح ص98، ولا مانع من جعله شاهدا لهما معا، ومما يدخل في هذا الغرض أن يكون المسند إليه ضمير شأن أو قصة، كما في قول الشاعر "من الوافر":
هي الدنيا تقول بملء فيها
…
حَذارِ حَذارِ من بطشي وفتكي
4 كقول جميل:
بثينة ما فيها إذا تبصرت
…
معاب ولا فيها إذا نُسبتْ أشب
5 كإظهار تعظيمه في نحو قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، أو تحقيره في قولك:"الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة".
قال السكاكي1: "وإما لأن كونه متصفا بالخبر يكون هو المطلوب، لا نفس الخبر؛ كما إذا قيل لك: كيف الزاهد؟ فتقول: الزاهد يشرب ويطرب".
وإما لأنه يفيد زيادة تخصيص؛ كقوله "من الوافر":
متى تهزز بني قطن تجدهم
…
سيوفا في عواتقهم سيوف
جلوس في مجالسهم رِزَان
…
وإن ضيف ألم فهم خفوف2
والمراد: "هم خفوف". وفيه نظر؛ لأن قوله: "لا نفس الخبر" يشعر بتجويز أن يكون المطلوب بالجملة الخبرية نفس الخبر، وهو باطل3؛ لأن نفس الخبر تصور لا تصديق، والمطلوب بها إنما يكون تصديقا، وإن أراد بذلك وقوع الخبر مطلقا فغير صحيح أيضا؛ لما سيأتي4 أن العبارة عن مثله لا يتعرض فيها إلى ما هو مسند إليه؛ كقولك:"وقع القيام".
ثم في مطابقة الشاهد الذي أنشده للتخصيص نظر5؛ لما سيأتي أن ذلك مشروط
1 المفتاح ص104، 105.
2 لا يعلم قائلهما، وقوله:"تهزز" بمعنى تهيجهم للحرب، وقوله:"تجدهم سيوفا" معناه كالسيوف في المضاء، ورزان: جمع رزين، وخفوف: مصدر خفّ بمعنى أسرع. يمدحهم بالنخوة في قوله: "متى تهزز
…
إلخ"، وبالعظمة والشرف في قوله: "جلوس
…
إلخ"، وبالكرم في قوله: "وإن ضيف ألم
…
إلخ". وبعد البيتين:
إذا نزلوا حسبتَهم بُدورا
…
وإن ركبوا فإنهم حُتوف
3 أجيب عنه في هذا بأنه لا يريد نفس الخبر مجردا عن الحكم حتى يلزمه ذلك، فهو لا يقصد إلا أنه إذا عُلم تحقق المسند في الجملة ولم يُعلم المسند إليه قُدم على المسند، وهذا ظاهر لا اعتراض عليه.
4 في أول الكلام على متعلقات الفعل.
5 أجيب عنه في هذا بأنه لا يريد بالتخصيص هنا الحصر، وإنما يريد التخصيص بالذكر، ولا يخفى أن حمل التخصيص على ذلك بعيد، على أنه سيأتي أن السكاكي يريد في هذا ونحوه التخصيص بمعنى الحصر، وأنه لا يشترط فيه كون الخبر فعليا.
بكون الخبر فعليا، وقوله:"والمراد هم خفوف" تفسير للشيء بإعادة لفظه1.
قال عبد القاهر2: وقد يقدم المسند إليه ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي إن وَلِيَ حرف النفي3 كقولك: "ما أنا قلت هذا" أي: لم أقله مع أنه مَقُول؛ فأفاد نفي الفعل عنك وثبوته لغيرك، فلا تقول ذلك إلا في شيء ثبت أنه مقول وأنت تريد نفي كونك قائلا له. ومنه قول الشاعر "من المتقارب":
وما أنا أسقمت جسمي به
…
ولا أنا أضرمت في القلوب نارا4
إذ المعنى أن هذا السَّقْم الموجود والضَّرَم الثابت ما أنا جالب لهما؛ فالقصد إلى نفي كونه فاعلا لهما لا إلى نفيهما؛ ولهذا لا يقال: "ما أنا قلت ولا أحد غيري" لمناقضة منطوق الثاني5 لمفهوم الأول6، بل يقال:"ما قلت أنا ولا أحد غيري" ولا يقال: "ما أنا رأيت أحدا من الناس" ولا: "ما أنا ضربت إلا زيدا" بل يقال: "ما رأيت أو ما رأيت أنا أحدا من الناس، و: ما ضربت أو ما ضربت أنا إلا زيدا"؛ لأن المنفي في الأول الرؤية الواقعة على كل واحد من الناس، وفي الثاني الضرب الواقع
1 لا يخفى أن السكاكي لا يريد بهذا تفسيره، وإنما يريد بيان محل الشاهد، وما كان أغنى الخطيب عن الإطالة في هذه المماحكات اللفظية!!
2 دلائل الإعجاز ص84.
3 يعني أنه في هذه الحالة يفيد قصر نفي الخبر الفعلي على المسند إليه، وإثباته لغيره على الوجه الذي نفي به من خصوص أو عموم على ما سيأتي في الأمثلة؛ فالباء داخلة هنا على المقصور، والمراد بإيلائه حرف النفي إتيانه بعده ولو كان بينهما فاصل، فيشمل نحو: ما زيدا أنا ضربت، وما في الدار أنا جلست.
4 هو لأحمد بن الحسين المعروف بأبي الطيب المتنبي، وقوله:"أضرمت" بمعنى أشعلت، يعني نار الحب، ونحوه قول المتنبي "من الطويل":
وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله
…
ولكن لشعري فيك من نفسه شعر
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا حملتُكم، ولكن الله حملكم".
5 هو "ولا أحد غيري".
6 هو "ما أنا قلت"؛ لأن مفهومه أن غيره قاله.
على كل واحد منهم سوى زيد1. وقد سبق أن ما يفيد التقديم ثبوته لغير المذكور هو ما نُفي عن المذكور، فيكون الأول مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد رأى كل الناس، والثاني مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد ضرب مَنْ عدا زيدا منهم؛ وكلاهما محال. وعلل الشيخ عبد القاهر والسكاكي2 امتناع الثاني بأن نقض النفي بـ "إلا" يقتضي أن يكون القائل له قد ضرب زيدا، وإيلاء الضمير حرف النفي يقتضي ألا يكون ضربه، وذلك تناقض.
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي يقتضي ذلك، فإن قيل: الاستثناء الذي فيه مفرَّع، وذلك يقتضي ألا يكون ضرب أحدا من الناس، وذلك يستلزم ألا يكون ضرب زيدا؛ قلنا: إن لزم ذلك3 فليس للتقديم؛ لجريانه في غير صورة التقديم أيضا؛ كقولنا: "ما ضربت إلا زيدا".
هذا إذا ولي المسند إليه حرف النفي، وإلا فإن كان معرفة؛ كقولك:"أنا فعلت" كان القصد إلى الفاعل4، وينقسم قسمين:
أحدهما: ما يفيد تخصيصه بالمسند5 للرد على من زعم انفراد غيره به، أو
1 لا يخفى أن هذا ليس هو المنفي في المثالين وإلا كانا من سلب العموم لا من عموم السلب، وإنما المنفي في الأول رؤية أي واحد من الناس وفي الثاني ضرب أي واحد سوى زيد، وعلى هذا يكون مفهوم المثالين أن إنسانا غير المتكلم رأى واحدا من الناس وضرب أي واحد سوى زيد، وهو صحيح لا شيء فيه، وإنما الذي يؤدي إلى ما ذكره الخطيب أن يقال: ما أنا رأيت كل رجل، وما أنا ضربت كل رجل إلا زيدا.
2 دلائل الإعجاز ص85، المفتاح ص125.
3 الحق أنه لا يلزم؛ لأن إيلاء الضمير حرف النفي إنما يقتضي نفي ما عدا المستثنى، وما ذكره عبد القاهر والسكاكي إنما هو غفلة منهما.
4 أي: لا إلى الفعل كما في النفي.
5 يعني قصر المسند عليه، ويلزمه أيضا تقوية الحكم كما في القسم الثاني، ولكنها تحصل هنا تبعا لا قصدا.
مشاركته فيه؛ كقولك: "أنا كتبت في معنى فلان، وأنا سعيت في حاجته"؛ ولذلك إذا أردتَ التأكيد قلتَ للزاعم في الوجه الأول: "أنا كتبت في معنى فلان لا غيري" ونحو ذلك، وفي الوجه الثاني:"أنا كتبت في معنى فلان وحدي". فإن قلت: "أنا فعلت هذا وحدي" في قوة "أنا فعلته لا غيري" فلِمَ اختص كل منهما بوجه من التأكيد دون وجه؟ قلت: لأن جدوى التأكيد لما كانت إماطة شبهة خالجت قلب السامع، وكانت في الأول أن الفعل صدر من غيرك، وفي الثاني أنه صدر منك بشركة الغير، أكدت وأمطت الشبهة في الأول بقولك:"لا غيري"، وفي الثاني بقولك:"وحدي"؛ لأنه مَحَزُّه، ولو عكست أحلْت1.
ومن البين في ذلك2 المَثل: "أتُعلمني بضب أنا حَرَشْتُه؟! "3. وعليه قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] أي: لا يعلمهم إلا نحن، ولا يطلع على أسرارهم غيرنا؛ لإبطانهم الكفر في سُوَيداوات قلوبهم.
الثاني: ما لا يفيد إلا تقوِّي الحكم وتقرره في ذهن السامع وتمكنه، كقولك:"هو يعطي الجزيل" لا تريد أن غيره لا يعطي الجزيل، ولا أن تعرض بإنسان، ولكن تريد أن تقرر في ذهن السامع وتحقق أنه يفعل إعطاء الجزيل، وسبب تقويه هو أن المبتدأ يستدعي أن يستند إليه شيء، فإذا جاء بعده ما يصلح أن يستند إليه صرفه إلى نفسه، فينعقد بينهما حكم سواء كان خاليا عن ضميره؛ نحو:"زيد غلامك"، أو متضمنا له، نحو:"أنا عرفت، وأنت عرفت، وهو عرف أو زيد عرف"، ثم إذا كان
1 يعني: حوّلت كلا منهما عن موضعه المناسب له؛ لأن "لا غيري" تدل صريحا على نفي صدوره من غيرك، أما "وحدي" فيدل عليه التزاما، وكذلك "وحدي" يدل صريحا على نفي الشركة، أما "لا غيري" فيدل عليه التزاما.
2 أي: في إفادة التخصيص.
3 حرشته بمعنى صدته. والمثل يضرب لمن يخبرك بشيء أنت أعلم به منه.
متضمنا لضميره صرفه ذلك الضمير إليه ثانيا؛ فيكتسي الحكم قوة1.
ومما يدل على أن التقديم2 يفيد التأكيد أن هذا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار من منكر؛ نحو أن يقول الرجل: "ليس لي علم بالذي تقول" فتقول: "أنت تعلم أن الأمر على ما أقول"، وعليه قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] ؛ لأن الكاذب -لا سيما في الدين- لا يعترف بأنه كاذب، فيمتنع أن يعترف بالعلم بأنه كاذب.
وفيما اعترض فيه شك: نحو أن تقول للرجل: "كأنك لا تعلم ما صنع فلان؟ " فيقول: "أنا أعلم".
وفي تكذيب مُدّعٍ: كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] فإن قولهم "آمنا" دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به.
وفيما يقتضي الدليل أن لا يكون: كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] فإن مقتضى الدليل أن لا يكون ما يُتخذ إلها مخلوقا.
وفيما يستغرب: كقولك: "ألا تعجب من فلان؟ يدعي العظيم وهو يَعْيَا باليسير".
وفي الوعد والضمان: كقولك للرجل: "أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر"؛ لأن من شأن من تَعِدُه وتضمن له أن يعترضه الشك في إنجاز الوعد والوفاء بالضمان، فهو من أحوج شيء إلى التأكيد.
1 علله عبد القاهر بأن تقديم المسند إليه ينبّه السامع لقصده بالحديث قبل ذكره تحقيقا وتأكيدا له.
2 أي: في هذا القسم، وبهذا يكون له مقام في الكلام يباين مقام القسم الأول؛ لأن المقصود منه التخصيص لا التأكيد كما سبق.
وفي المدح والافتخار: لأن من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشك فيما يمدح به ويُبعدهم عن الشبهة، وكذلك المفتخر. أما المدح فكقول الحماسي:
هم يفرشون اللِّبْد كل طِمِرّة1
وقول الحماسية:
هما يلبسان المجد أحسن لِبْسة2
وقول الحماسي:
فهم يضربون الكبش يبرق بيضه3
وأما الافتخار، فكقول طرفة:
1 هو للمعذل بن عبد الله الليثي من قوله يمدح فتيان بني عتيك "من الطويل":
هم يفرشون اللبد كل طمرة
…
وأجرد سباح يبذ المغاليا
وقبله:
جزى الله فتيان العتيك وإن نأت
…
بي الدار عنهم خير ما كان جازيا
والطمرة: الفرس الكريم، والأجرد: القصير الشعر، والسباح: اللين الجري، والمغالي بضم الميم: السهم، وبفتحها: جمع مغلى أو مغلاة وهي السهم أيضا، يعني: أنه أسرع منه.
2 هو لعمرة الخثعمية من قولها في رثاء ابنيها "من الطويل":
هما يلبسان المجد أحسن لبسة
…
شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما
واللبسة: اسم هيئة من لبس، والشحيح: الذي لا يفرط فيما في يده. وقيل: إن البيت لدرماء بنت سيار الجحدرية في رثاء أخويها.
3 هو للأخنس بن شهاب التغلبي من قوله "من الطويل":
فهم يضربون الكبش يبرق بيضه
…
على وجهه من الدماء سبائب
وروي: "هم يضربون"، والكبش: الشجاع، والبيض: اللّأمة، والسبائب: الطرائق جمع سبيبة، يعني: أنهم يضربونه فيسيل دمه كأنه طرائق حمر.
4 هو لعمرو بن العبد، المعروف بطرفة "من الرمل":
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
…
لا ترى الآدب فينا ينتقر
والمشتاة: الشتاء وهو زمن الجدب عندهم، والجفلى: الدعوة العامة، والآدب: الداعي إلى المأدبة، وقوله:"ينتقر" معناه: يدعو بعضا ويترك بعضا.
ومما لا يستقيم المعنى فيه إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، وقوله تعالى:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]، وقوله تعالى:{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبني على الاسم لوُجد اللفظ قد نبا عن المعنى، والمعنى قد زال عن الحال التي ينبغي أن يكون عليها.
وكذا إذا كان الفعل منفيا1؛ كقولك: "أنت لا تكذب" فإنه أشد لنفي الكذب عنه من قولك: "لا تكذب"، وكذا من قولك:"لا تكذب أنت"؛ لأنه لتأكيد المحكوم عليه، لا الحكم. وعليه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59] فإنه يفيد من التأكيد في نفي الإشراك عنهم ما لا يفيده قولنا: "والذين لا يشركون بربهم" ولا قولنا: "والذين بربهم لا يشركون"، وكذا قوله تعالى:{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7]، وقوله تعالى:{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص: 66]، وقوله تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55] .
هذا كله إذا بني الفعل على معرّف؛ فإن بني على منكّر أفاد ذلك تخصيص2
1 أي: بحرف نفي مؤخر عن المسند إليه، فهو يأتي كالمثبت تارة للتخصيص، وتارة لتقوية الحكم، ومن إتيانه للتخصيص قولك:"أنا ما قلت هذا" أي: وحدي، تقوله لمن يعتقد أنه لم يقل مصيبا في هذا ولكنه نسبه خطأ إلى غيرك، وكل الأمثلة التي ذكرها الخطيب لإفادة تقوية الحكم.
2 ظاهر من هذا أن بناء الفعل على المنكّر لا يفيد تقوية الحكم، وقد ذكر السعد أنه قد يفيد =
الجنس أو الواحد1 بالفعل؛ كقولك: "رجل جاءني" أي: لا امرأة، أو لا رجلان؛ وذلك لأن أصل النكرة أن تكون للواحد من الجنس، فيقع القصد بها تارة إلى الجنس فقط؛ كما إذا كان المخاطب بهذا الكلام قد عرف أن قد أتاك آتٍ، ولم يدر جنسه: أرجل هو أو امرأة؟ أو اعتقد أنه امرأة، وتارة إلى الوحدة فقط؛ كما إذا عرف أن قد أتاك من هو من جنس الرجال، ولم يدر: أرجل هو أم رجلان؟ أو اعتقد أنه رجلان.
واشترط السكاكي2 في إفادة التقديم الاختصاص 3 أمرين:
أحدهما: أن يجوز تقدير كونه في الأصل مؤخرا بأن يكون فاعلا في المعنى فقط؛ كقولك: "أنا قمت" فإنه يجوز أن تقدر أصله: "قمت أنا" على أن "أنا" تأكيد للفاعل4 الذي هو التاء في قمت، فقدم "أنا" وجعل مبتدأ.
وثانيهما: أن يقدر كونه كذلك.
فإن انتفى الثاني دون الأول كالمثال المذكور إذا أُجري على الظاهر، وهو أن
= ذلك؛ كأن يقال: "رجل جاءني" فالمعنى: أنه جاء ولا بد، ثم ذكر أن هذا هو الذي يُشعر به كلام عبد القاهر في "دلائل الإعجاز"، ولكني رجعت إلى كلامه فيه فوجدته صريحا في أنه لا يفيد إلا التخصيص؛ لأنه ذكر أنك إذا قلت:"رجل جاءني" لم يصلح حتى تريد أن تعلم المخاطب أن الذي جاءك رجل لا امرأة أو لا رجلان، ويكون كلامك مع من عرف أن قد أتاك آت، فإن لم ترد ذاك كان الواجب أن تقول:"جاءني رجل". ولا شك أن ما ذكره السعد لا يصح عربية لعدم صحة الابتداء بالنكرة إلا عند إرادة التخصيص كما سيأتي، وإذا لم يصح عربية لم يصح بلاغة.
1 هذا إذا كان المنكّر مفردا، فإذا كان مثنى أو جمعا أفاد تخصيص الجنس أو المثنى أو الجمع.
2 المفتاح ص119، 120.
3 أما تقوية الحكم فلا خلاف فيها بين السكاكي وعبد القاهر؛ لأنها تأتي في جميع صور التقديم وإن لم تكن مقصودة في بعضها كما سبق.
4 أي: وتأكيد الفاعل في المعنى لا في اللفظ.
يقدر الكلام من الأصل مبنيا على المبتدأ والخبر، ولم يقدر تقديم وتأخير، أو انتفى الأول بأن يكون المبتدأ اسما ظاهرا1 فإنه لا يفيد إلا تقوّي الحكم.
واستثنى المنكر2 كما في نحو: "رجل جاءني" بأن قُدر أصله: "جاءني رجل" لا على أن "رجل" فاعل "جاءني"، بل على أنه بدل من الفاعل الذي هو الضمير المستتر في "جاءني"، كما قيل في قوله تعالى:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] : إن {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من الواو في "أسروا"، وفرق بينه وبين المعرف بأنه لو لم يقدر ذلك فيه انتفى تخصيصه؛ إذ لا سبب لتخصيصه سواه، ولو انتفى تخصيصه لم يقع مبتدأ3، بخلاف المعرف؛ لوجود شرط الابتداء فيه، وهو التعريف.
ثم قال: "وشرطه4 ألا يمنع من التخصيص مانع5 كقولنا: "رجل جاءني" أي: لا امرأة أو لا رجلان، دون قولهم: "شر أهر ذا ناب" أما على التقدير الأول6 فلامتناع أن يراد "المهر شر لا خير"7، وأما على الثاني8 فلكونه نابيا عن مكان استعماله9، وإذ قد صرح الأئمة بتخصيصه حيث تأولوه بـ " ما أهر ذا ناب إلا
1 نحو: "زيد قام"، فإنه إذا قدر تأخيره يكون فاعلا في اللفظ والمعنى، لا في المعنى فقط.
2 أي: من ذلك الشرط؛ فلم يشترطه فيه.
3 لأنه لا يجوز الابتداء بالنكرة إلا إذا خُصصت، فإذا كان لها مخصص غير ذلك من وصف أو نحوه لم يجب جعل التقديم للتخصيص.
4 أي: شرط تقدير ذلك في المنكر ليفيد التخصيص.
5 يريد بالمانع انتفاء فائدة التخصيص من رد اعتقاد المخاطب في قيد الحكم مع تسليم أصله.
6 هو أن يكون لتخصيص الجنس.
7 لأنه لا يوجد من يتوهم أن الخير يُهِرّ الكلب حتى يُرَدّ عليه بذلك.
8 هو أن يكون لتخصيص الواحد.
9 لأنه مَثَل يقال في مقام الحث على شدة الحزم لدفع هذا الشر لعظمه، فإذا أريد أن الذي أهرّه شر لا شران نافى القصد منه؛ لأنه مما يوجب التساهل في دفعه.
شر"، فالوجه تفظيع شأن الشر بتنكيره كما سبق"1.
هذا كلامه، وهو مخالف لما ذكره الشيخ عبد القاهر2؛ لأن ظاهر كلام الشيخ فيما يلي حرف النفي القطع بأنه يفيد التخصيص مضمرا كان أو مظهرا، معرفا أو منكرا من غير شرط، لكنه لم يمثّل إلا بالمضمَر، وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا إذا كان مضمرا أو منكرا بشرط تقدير التأخير في الأصل، فنحو:"ما زيد قام" يفيد التخصيص على إطلاق قول الشيخ، ولا يفيده على قول السكاكي، ونحو
1 من أن التنكير قد يأتي للتعظيم، وبهذا يجمع بين قولهم بتخصيصه وقوله بعدمه. فقولهم بالتخصيص مبني على جعل التنكير للتعظيم، والمعنى: شر عظيم أهر ذا ناب لا شر ضعيف، فيكون التخصيص في الوصف لا في جنس الشر، ويكون له فائدة، وقوله بعده: التخصيص مبني على عدم إرادة ذلك من التنكير، فيكون التقديم عنده لتقوية الحكم فقط.
2 من يرجع إلى كلام السكاكي في "المفتاح" يرى أنه حاكى عبد القاهر فيما يفيده تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، فقد رأى في النكرة أن البناء عليها لا يفيده إلا التخصيص كما يرى عبد القاهر، ولم يخالفه إلا في توجيه ذلك بما لا يؤثر في موافقته له، وقد رأى فيما يلي حرف النفي ما يراه عبد القاهر، فلا يصح عنده مثله:"ما أنا رأيت أحدا" ولا: "ما أنا رأيت إلا زيدا"، وكذلك لا يصح عنده:"ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس" ولا: "ما أنا ضربت زيدا ولا أحد غيري" فالمضمر والمظهر عنده في ذلك سواء؛ ولهذا لم يذكر شرط تقدير التأخير فيما يلي حرف النفي، ولا يوجد في كلامه ما يشعر بحمله على المثبَت في هذا الشرط، وقد رأى في المعرف المثبت أنه يحتمل التخصيص وتقوية الحكم كما يرى عبد القاهر، ولكنه يرى أن البناء على المظهر ليس كالبناء على المضمر في احتمال هذين الاعتبارين على السواء، فهو لا ينفي فيه الاختصاص؛ بل يبعده. ولعل عبد القاهر لم يمثّل إلا بالمضمر كما ذكر الخطيب؛ لضعف اعتبار التخصيص في المظهر، ولعل الخطيب أشار بقوله: "لأن ظاهر كلام الشيخ
…
إلخ" إلى أنه يمكن الجمع بينهما.
فالحق أنه لا خلاف بين عبد القاهر والسكاكي في ذلك كله إلا في التوجيه فقط، والخلاف في التوجيه لا يؤثر في اتفاقهما على ذلك بشيء، وما كان أغنى الخطيب عن التطويل بما طوّل به في هذا الموضع!!
"ما أنا قمت" يفيده على قول الشيخ مطلقا، وعلى قول السكاكي بشرط. وظاهر كلام الشيخ أن المعرف إذا لم يقع بعد النفي وخبره مثبت أو منفي قد يفيد الاختصاص مضمرا كان أو مظهرا، لكنه لم يمثل إلا بالمضمر، وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا المضمر؛ فنحو:"زيد قام" قد يفيد الاختصاص على إطلاق قول الشيخ، ولا يفيده عند السكاكي، ثم فيما احتج به لما ذهب إليه نظر؛ إذ الفاعل وتأكيده سواء في امتناع التقديم، ما دام الفاعل فاعلا والتأكيد تأكيدا، فتجويز تقديم التأكيد دون الفاعل تحكّم ظاهر، ثم لا نسلّم انتفاء التخصيص في صورة المنكّر لولا تقدير أنه كان في الأصل مؤخرا فقدم؛ لجواز حصول التخصيص فيها بالتهويل -كما ذكر- وغير التهويل1. ثم لا نسلم امتناع أن يراد: المُهِرّ شر لا خير، قال الشيخ عبد القاهر: إنما قدم "شر" لأن المراد أن يعلم أن الذي أهر ذا ناب هو من جنس الشر لا من جنس الخير2، فجرى مجرى أن تقول:"رجل جاءني" تريد أنه رجل لا امرأة، وقول العلماء: إنه إنما صلح لأنه بمعنى: "ما أهر ذا ناب إلا شر" بيان لذلك، وهذا صريح في خلاف ما ذكره.
ثم قال السكاكي3: ويقرب من قَبِيل "هو عرف" في اعتبار تقوي الحكم4:
1 التهويل: في قولهم: "شر أهرَّ ذا ناب"، وغير التهويل كالتحقير والتكثير والتقليل، ولكن هذا لا يرد به على السكاكي؛ لأنه إنما يقدر ذلك في النكرة إذا لم يكن هناك سبب للتخصيص سواه، نحو:"رجل جاءني" على إرادة الجنس أو الواحد، فليس فيه احتمال تهويل ولا غيره.
2 دلائل الإعجاز ص94. ولكن قد سبق أن التخصيص في مثل هذا لا فائدة فيه، وقيل: إن الكلب قد يُهر في الدفاع عن أصحابه، وهو من جنس الخير، فيكون على هذا في التخصيص بجنس الشر فائدة، ولا حاجة مع هذا إلى تسويغ التخصيص فيه بجعل التنكير للتعظيم كما سبق.
3 المفتاح ص119.
4 ظاهر هذا أنه لا يأتي للتخصيص عنده، وقيل: إنه يأتي عنده أيضا للتخصيص، ويدل على هذا ما سيأتي في قوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} وما سيأتي له في باب القصر من إفادة "أنا عارف" الحصر.
"زيد عارف"، وإنما قلت:"يقرب" دون أن أقول: "نظيره" لأنه لمّا لم يتفاوت في التكلم والخطاب والغيبة في: "أنا عارف، وأنت عارف، وهو عارف" أشبَهَ الخالي عن الضمير؛ ولذلك لم يحكم على "عارف" بأنه جملة ولا عُومِل معاملتها في البناء1، حيث أُعرب في نحو:"رجلٌ عارفٌ، رجلًا عارفًا، رجلٍ عارفٍ" وأُتبعه في حكم الإفراد، نحو:"زيد عارف أبوه" يعني أُتبع "عارف""عرف" في الإفراد، إذا أسند إلى الظاهر السكاكي، مفردا كان أو مثنى أو مجموعا2.
ثم قال: "ومما يفيد التخصيص ما يحكيه -عَلَتْ كلمته- عن قوم شعيب عليه السلام: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] أي: العزيز علينا يا شعيب رهطك لا أنت3؛ لكونهم من أهل ديننا، ولذلك قال عليه السلام في جوابهم: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 92] أي: من نبي الله، ولو كان معناه معنى "ما عززت علينا" لم يكن مطابقا. وفيه نظر؛ لأن قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} من باب "أنا عارف"، لا من باب "أنا عرفت"4، والتمسك بالجواب ليس بشيء؛ لجواز أن يكون عليه السلام فهم كون رهطه أعز عليهم من قولهم:{وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} .
وقال الزمخشري: دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام في الفاعل لا
1 المراد به عدم ظهور إعرابها؛ لأنه لا يلزم البناء فيها.
2 فلا تلحقهما علامة التثنية، ولا علامة الجمع.
3 فيفيد التخصيص مع تقوية الحكم.
4 هذا لا يَرِد على السكاكي عند من يرى أنه لا فرق عنده بين البابين في احتمال إفادة التخصيص وتقوية الحكم، ولكن الحق خلاف ما ذهب إليه السكاكي من التسوية بين البابين، بدليل أنه لو كان نحو:"زيد عارف" يفيد تقوية الحكم لما صح خطاب الذهن به، وهو خلاف ما سبق عن أبي العباس في جواب الكندي في باب الإسناد الخبري من الفرق بين "عبد الله قائم، وإن عبد الله قائم، وإن عبد الله لقائم".
في الفعل، كأنه قيل:"وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا"1. وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي إذا لم يكن الخبر فعليا يفيد الحصر، فإن قيل: الكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} ؟ قلنا: قال السكاكي: معناه: من نبي الله، فهو على حذف المضاف، وأجود منه ما قال الزمخشري: وهو أن تهاونهم به -وهو نبي الله- تهاون بالله، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله، ألا ترى إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2؟
ويجوز أن يقال: لا شك أن همزة الاستفهام هنا ليست على بابها؛ بل هي للإنكار للتوبيخ، فيكون معنى قوله:{أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} إنكار أن يكون مانعهم من رجمه رهطه؛ لانتسابه إليهم دون الله تعالى مع انتسابه إليه أيضا، أي: أرهطي أعز عليكم من الله حتى كان امتناعكم من رجمي بسبب انتسابي إليهم بأنهم رهطي، ولم يكن بسبب انتسابي إلى الله تعالى بأني رسوله؟! والله أعلم.
1 فيكون الزمخشري في هذا موافقا للسكاكي، ويرى مثله أن نحو:"زيد عارف" من قبيل "هو عرف" في إفادة التقوية والتخصيص.
2 [سورة النساء، الآية: 80] .
هذا، ومما ورد من الشعر في إفادة التقديم التقوية أو التخصيص قول جرير "من الوافر":
إن العيون التي في طرفها مَرَض
…
قتلْنَنا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
…
وهن أضعف خلق الله أركانا
وقول بعضهم "عمرو بن قميئة""من الكامل":
كانت قناتي لا تلين لغامز
…
فألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربي بالسلامة جاهدا
…
ليصحني، فإذا السلامة داء
وقول الآخر "من الطويل":
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى
…
ولم أدرِ أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى
…
أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي
ومما يرى تقديمه1 كاللازم لفظ "مثل" إذا استُعمل كناية من غير تعريض2؛ كما في قولنا: "مثلك لا يبخل"، ونحوه مما لا يراد بلفظ "مثل" غير ما أضيف إليه، ولكن أريد أن من كان على الصفة التي هو عليها كان من مقتضى القياس وموجب العرف أن يفعل ما ذكر أو ألا يفعل3، ولكون المعنى هذا4 قال الشاعر "السريع":
ولم أقل مثلك أعني به
…
سواك يا فردا بلا مشبه5
وعليه قوله "من السريع":
مثلك يثني الحزن عن صوبه
…
ويستردّ الدمع عن غَرْبه6
1 أي: على الخبر الفعلي، ويلحق بلفظ "مثل" ما هو بمعناه كلفظ "شبيه ونظير"، وإنما كان التقديم فيها كاللازم ولم يكن لازما؛ لأنه لا شيء يوجبه من جهة القياس ولا من جهة الكناية، وإنما هو مما يساعد على الغرض المقصود منها، وهي حاصلة مع التقديم والتأخير، فليس هذا اللزوم إلا في استعمال البلغاء.
2 أي: بغير ما أضيف إليها، فلو أريد بها غيره لم يلزم تقديمها؛ لأنها تخرج من الكناية إلى الحقيقة، كما في قول أبي إسحاق الصابي "من الطويل":
تشابه دمعي إذا جرى ومدامتي
…
فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
فليس المراد بالتعريض هنا التعريض المعدود من الكناية، وإنما المراد به معناه اللغوي وهو الإشارة على وجه الإجمال.
3 هذا يلزم أنه هو نفسه يفعله أو لا يفعله؛ فالكناية في ذلك من إطلاق الملزوم وإرادته اللازم.
4 أي: على أنه لا يراد بـ "مثل" غير ما أضيفت إليه.
5 هو لأحمد بن الحسين المعروف بأبي الطيب المتنبي، و"مثلك" فيه مفعول "أقل" على حكايته في البيت الآتي بعده؛ لأنه قبله في القصيدة.
6 هو للمتنبي أيضا من قصيدة له في الرثاء، وقوله:"يثني الحزن" بمعنى يكفّه بالصبر، والصوب: الجهة، والغرب: عِرْق في العين يجري منه الدمع، وفي رواية:"يثني المزن" وهو السحاب، وهي خلاف رواية الديوان، ولا تناسب مقام الرثاء.
وكذا قول القَبَعْثَرِي1 للحجاج لما توعده بقوله: "لأحملنّك على الأدهم": "مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب"2 أي: من كان على هذه الصفة من السلطة وبسطة اليد، ولم يقصد أن يجعل أحدا مثله.
وكذلك حكم "غير" إذا سُلك به هذا المسلك3 فقيل: "غيري يفعل ذلك" على معنى: "إني لا أفعله"4 فقط من غير إرادة التعريض بإنسان5.
وعليه قوله:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع6
1 الصواب "ابن القبعثرى"، وهو الغضبان بن القبعثرى الشيباني، وكان ممن خرج على الحجاج بن يوسف الثقفي.
2 الأدهم في كلام الحجاج بمعنى القيد من الحديد، وفي كلام الغضبان بمعنى الفرس الأسود، وسيأتي هذا في الكلام على تلقي المخاطب بغير ما يترقب. الأشهب: الفرس الأشهب.
3 فلم يقصد بها سوى ما أضيف إليها، فإن قصد بها سوى ما أضيف إليها لم يلزم تقديمها، كما في قول الشاعر "من الكامل":
غيري جنى وأنا المعاقَب فيكمُ
…
فكأنني سبابة المتندم
ويعطى حكم "غير" في ذلك ما بمعناها مثل "سوى" و"سواء" ونحوهما. ومن ذلك قول ابن سناء الملك "من الطويل":
سواي يهاب الموت أو يرهب الردى
…
وغيري يهوى أن يعيش مخلدا
4 هذا أيضا بطريق الكناية كما في لفظ "مثل" وهي من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم أيضا؛ لأنه إذا كان غيره هو الذي يفعله لزم أنه هو لا يفعله بحكم المقابلة، وإذا كان غيره لا يفعله لزم أنه هو يفعله؛ لأنه لا بد له من محل يقوم به.
5 لا يعني به التعريض الآتي في الكناية، وإنما يعني به قصد إنسان غير المخاطب على طريق الحقيقة كما سبق.
6 هو لأحمد بن الحسين المعروف بأبي الطيب المتنبي، من قوله "من البسيط":
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع
…
إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا
يريد أنهم جبناء في قتالهم، شجعان في حديثهم، فلا تصدق أفعالهم أقوالهم.
فإنه معلوم أنه لم يرد أن يُعرِّض بواحد هناك فيصفه بأنه ينخدع؛ بل أراد أنه ليس ممن ينخدع. وكذا قول أبي تمام "من الوافر":
وغيري يأكل المعروف سُحْتا
…
ويشحُب عنده بيِض الأيادي1
فإنه لم يرد أن يعرض بشاعر سواه فيزعم أن الذي قُرف به عند الممدوح من أنه هجاه كان من ذلك الشاعر لا منه، بل أراد أن ينفي عن نفسه أن يكون ممن يكفر النعمة ويلؤم لا غير.
واستعمال "مثل" و"غير" هكذا مركوز في الطباع، وإذا تصفّحت الكلام وجدتهما يُقدَّمان أبدا على الفعل إذا نُحِي بهما نحو ما ذكرناه، ولا يستقيم المعنى فيهما إذا لم يقدما، والسر في ذلك أن تقديمهما يفيد تقوي الحكم كما سبق تقريره، وسيأتي أن المطلوب بالكناية في مثل قولنا:"مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود" هو الحكم2، وأن الكناية أبلغ من التصريح فيما قصد بها، فكان تقديمهما أعون للمعنى الذي جُلبا لأجله.
قيل3: "
…
وقد يقدم؛ لأنه4 دال على العموم5 كما تقول: "كل إنسان لم يقم"
1 هو لحبيب بن أوس المعروف بأبي تمام، والسحت: الحرام، ويعني بذلك أنه لا يجحد المعروف فيأكله سحتا، وقوله:"يشحب" من الشحوب وهو في الأصل تغير اللون، والأيادي: النعم.
2 لأنه من قسم الكناية التي يُطلب بها نسبة.
3 المصباح ص13 "لبدر الدين بن مالك" المطبعة الخيرية، وانظر طبعة مكتبة الآداب المحققة.
4 أي: المسند إليه على الخبر الفعلي.
5 لا يخفى أن دلالة التقديم هنا على العموم دلالة لغوية لا وجه لذكرها هنا، وإن كانت تدل على دقة العربية في ترتيب كلامها، وإنما ينظر هنا إلى أن نحو:"كل إنسان لم يقم" يفيد تقوية حكم العموم، بخلاف نحو:"لم يقم إنسان" فهو داخل في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، وما كان أغنى الخطيب عن الإطالة في هذا البحث الذي لا صلة له بهذا العلم، وإنما هو أشبه بعلم المنطق!!
فيقدم ليفيد نفي القيام عن كل واحد من الناس؛ لأن الموجبة المعدولة المهملة1 في قوة السالبة الجزئية المستلزمة نفي الحكم عن جملة الأفراد، دون كل واحد منها، فإذا سُوِّرت بـ "كل" وجب أن تكون لإفادة العموم لا لتأكيد نفي الحكم عن جملة الأفراد؛ لأن التأسيس خير من التأكيد2 ولو لم تقدم فقلت:"لم يقم كل إنسان" كان نفيا للقيام عن جملة الأفراد دون كل واحد منها3؛ لأن السالبة المهملة4 في قوة السالبة الكلية5 المقتضية سلب الحكم عن كل فرد لورود موضوعها في سياق النفي6، فإذا سورت بـ "كل" وجب أن تكون لإفادة نفي الحكم عن جملة الأفراد؛ لئلا يلزم ترجيح التأكيد عن التأسيس".
وفيه نظر؛ لأن النفي عن جملة الأفراد في الصورة الأولى -أعني: الموجبة المعدولة المهملة- كقولنا: "إنسان لم يقم" وعن كل فرد في الصورة الثانية -أعني: السالبة المهملة- كقولنا: "لم يقم إنسان" إنما أفاده الإنسان إلى "إنسان"، فإذا أضيف "كل" إلى "إنسان" وحُوِّل الإسناد إليه، فأفاد في الصورة الأولى نفي الحكم عن جملة الأفراد، وفي الثانية نفيه عن كل فرد منها، كان "كل" تأسيسا لا تأكيدا؛ لأن التأكيد
1 المعدولة هي التي وقع النفي جزءا من موضوعها أو محمولها، والمهملة هي التي لم تسور بسور كلي أو جزئي، والمراد بالموجبة المعدولة المهملة هنا جملة "إنسان لم يقم" قبل دخول "كل" عليها؛ فهي في قوة السالبة الجزئية، أي:"لم يقم بعض الإنسان"، فكل منهما يفيد نفي الحكم عن جملة الأفراد، لا عن كل واحد منها.
2 يريد بالتأسيس إفادة معنى جديد، وبالتأكيد خلافه.
3 هذا باعتبار الغالب، وقد يتقدم النفي على "كل" ويكون المعنى على عموم النفي، كما في قوله تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]، وقيل: إن دلالة هذا ونحوه على عموم النفي ليس بأصل الوضع، وإنما هو بمعونة القرائن.
4 هي جملة: "ولم يقم إنسان".
5 هي جملة: "لا شيء من الإنسان بقائم".
6 لأن النكرة في سياق النفي تعم.
لفظ يفيد تقوية ما يفيده لفظ آخر، وما نحن فيه ليس كذلك، ولئن سلّمنا أنه يسمى تأكيدا1 كقولنا:"لم يقم إنسان" إذا كان مفيدا للنفي عن كل فرد؛ كان مفيدا للنفي عن جملة الأفراد لا محالة؛ فيكون "كل" في: "لم يقم كل إنسان" إذا جُعل مفيدا للنفي عن جملة الأفراد تأكيدا لا تأسيسا، كما قال في:"كل إنسان لم يقم"؛ فلا يلزم من جعله للنفي عن كل فرد2 ترجيح التأكيد على التأسيس3.
ثم جعله قولنا: "لم يقم إنسان" سالبة مهملة في قوة سالبة كلية -مع القول بعموم موضوعها لوروده نكرة في سياق النفي- خطأ؛ لأن النكرة في سياق النفي إذا كانت للعموم كانت القضية التي جعلت هي موضوعا لها سالبة كلية، فكيف تكون سالبة مهملة4؟! ولو قال:"لو لم يكن الكلام المشتمل على كلمة "كل" مفيدا لخلاف ما يفيده الخالي عنها؛ لم يكن في الإتيان بها فائدة" لثبت مطلوبه في الصورة الثانية دون الأولى؛ لجواز أن يقال: إن فائدته فيها الدلالة على نفي الحكم عن جملة الأفراد بالمطابقة5.
واعلم أن ما ذكره هذا القائل من كون "كل" في النفي مفيدة للعموم تارة
1 بألا يراد التأكيد الاصطلاحي، وإنما يراد به أن "كل" أفادت معنى كان مستفادا قبلها، ويقصد الخطيب أنه إذا سُلِّم هذا صح توجيهه في الصورة الأولى دون الثانية.
2 أي: لا يلزم من جعل: "لم يقم كل إنسان" لعموم السلب مثل: "لم يقم كل إنسان".
3 إذ لا تأسيس مع هذا أصلا، وإنما يلزم ترجيح أحد التأكيدين على الآخر بلا مرجِّح، وهو باطل. ويكون هذا هو التوجيه الصحيح في الصورة الثانية، لا ما ذكره من لزوم ترجيح التأكيد على التأسيس.
4 أجيب عن هذا بأنه جرى على اصطلاح علم المنطق؛ لأن هذه القضية خالية من سور السلب الكلي، وهو "لا شيء" ونحوه، فتكون مهملة لا سالبة كلية.
5 لأن قولنا: "إنسان لم يقم" يدل بالمطابقة على نفي الحكم عن بعض الأفراد، ولا يحتمل المجموع إلا بدلالة الالتزام، أما:"كل إنسان لم يقم" فإنه إذا جُعل لنفي الحكم عن المجموع تكون دلالته عليه بالمطابقة.
وغير مفيدة أخرى مشهور1، وقد تعرض له الشيخ عبد القاهر، وغيره.
وقال الشيخ2: كلمة "كل" في النفي إن أُدخلت في حيزه بأن قُدم عليها لفظا؛ كقول أبي الطيب:
ما كل ما يتمنى المرء يُدركه3
وقول الآخر:
ما كل رأْي الفتى يدعو إلى رَشَد4
وقولنا: "ما جاء القوم كلهم، وما جاء كل القوم، ولم آخذ الدراهم كلها، ولم آخذ كل الدراهم"، أو تقديرا5؛ بأن قدمت على الفعل المنفي وأُعمل فيها؛ لأن العامل رتبته التقدم على المعمول، كقولك:"كل الدراهم لم آخذ" توجه النفي6 إلى الشمول خاصة دون أصل الفعل، وأفاد الكلام ثبوته لبعض أو تعلقه7 ببعض.
وإن أُخرجت من حيزه بأن قدمت عليه لفظا ولم تكن معمولة للفعل المنفي؛ توجه النفي إلى أصل الفعل، وعم ما أضيف إليه "كل" كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له
1 فهو مسلم في ذاته، ولم يرد الخطيب بما سبق إلا إبطال توجيه ابن مالك له؛ لأنه يرجع في الحقيقة إلى أصل الوضع، لا إلى تلك التكلفات المنطقية السابقة.
2 دلائل الإعجاز ص186.
3 هو لأحمد بن الحسين المعروف بأبي الطيب المتنبي من قوله "من البسيط":
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
…
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
والمشهور رواية "كل" بالرفع، وقد جوّز ابن جني نصبها على الاشتغال.
4 هو لإسماعيل بن القاسم المعروف بأبي العتاهية من قوله "من البسيط":
ما كل رأي الفتى يدعو إلى رشد
…
إذا بدا لك رأي مشكل فقف
5 معطوف على "لفظا".
6 هذا جواب "إن".
7 إفادة الثبوت فيما يكون "كل" فيه فاعلا في المعنى، وإفادة التعليق فيما يكون فيه مفعولا في المعنى.
ذو اليدين1: "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ ": "كل ذلك لم يكن" أي: لم يكن واحد منهما: لا القصر ولا النسيان.
وقول أبي النجم "من الرجز":
قد أصبحت أم الخيار تدعي
…
علي ذنبا كله لم أصنع2
ثم قال: "وعلة ذلك أنك إذا بدأت "بكل" كنت قد بنيت النفي عليه وسلطت الكلية على النفي، وأعملتها فيه، وإعمال معنى الكلية في النفي يقتضي ألا يشذ شيء عن النفي، فاعرفه". هذا لفظه، وفيه نظر3.
وقيل: إنما كان التقديم مفيدا للعموم دون التأخير؛ لأن صورة التقديم تُفهِم سلب لحوق المحمول للموضوع4، وصورة التأخير تفهم سلب الحكم من غير تعرض للمحمول بسلب أو إثبات. وفيه نظر أيضا؛ لاقتضائه ألا تكون "ليس" في نحو قولنا:"ليس كل إنسان كاتبا" مفيدة لنفي كاتب. هذا إن حمل كلامه على ظاهره، وإن تُؤُوِّل بأن مراده أن التقدم يفيد سلب لحوق المحمول عن كل فرد، والتأخير يفيد سلب لحوقه لكل فرد، اندفع هذا الاعتراض، لكن كان مصادرة على
1 هو الحرباق أو العرباض بن عمرو.
2 هو للفضل بن قدامة، المعروف بأبي النجم. والرواية برفع "كله" على أنه مبتدأ خبره جملة "لم أصنع"، والرابط محذوف؛ أي: لم أصنعه.
3 لعل وجه النظر ما قيل: إن تمثيله بـ "ما جاء القوم كلهم" ليس بجيد؛ لأن "كلهم" هنا ليس مسندا ولا مسندا إليه بل هو تأكيد، ولكن سلب العموم هنا في الألف واللام في "القوم". ومثله في هذا تمثيله بـ "لم آخذ الدراهم كلها"، وإني أرى أن المثالين من باب عموم السلب لا من باب سلب العموم، و"كل" فيهما تفيد شمول النفي كما تفيد شمول الإثبات في نحو:"جاء القوم كلهم"؛ لأن الغرض من التوكيد واحد فيهما، وهو إفادة الشمول في النسبة إثباتا كانت أو نفيا.
4 المراد بالموضوع لفظ "إنسان" في قولنا: "كل إنسان لم يقم"، و"ليس كل إنسان قائما" لا لفظ "كل"، وهذا اصطلاح أهل المنطق، إنما أفادت صورة التقديم ذلك لاتصال النفي فيه بالمحمول دون الحكم؛ لأنها موجبة معدولة المحمول.
المطلوب1.
واعلم أن المعتمد في المطلوب: الحديث، وشعر أبي النجم، وما نقلناه عن الشيخ عبد القاهر وغيره لبيان السبب، وثبوت المطلوب لا يتوقف عليه، والاحتجاج بالخبر من وجهين: أحدهما أن السؤال بـ "أم" عن أحد الأمرين لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم على الإبهام، فجوابه إما بالتعيين أو بنفي كل واحد منهما2. وثانيهما ما روي أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل ذلك لم يكن" قال له ذو اليدين: "بعض ذلك قد كان"، والإيجاب الجزئي نقيضه السلب الكلي، وبقول3 أبي النجم ما أشار إليه الشيخ عبد القاهر، وهو أن الشاعر فصيح "والفصيح الشائع في مثل قوله: نصب "كل"4، وليس فيه ما يكسر له وزنا، وسياق كلامه أنه لم يأت بشيء مما ادعت عليه هذه المرأة؛ فلو كان النصب مفيدا لذلك والرفع غير مفيد لم يعدل عن النصب إلى الرفع من غير ضرورة.
1 لأن الدليل حينئذ يكون عين المطلوب.
2 والجواب لم يحصل بالتعيين، فتعين أنه بنفي واحد منهما، وهذا هو عموم السلب.
3 معطوف على قوله: "بالخبر"، فهو متعلق بالاحتجاج مثله.
4 لأن في الرفع تهيئة العامل للعمل، ثم قطعه عنه، وذلك ضعيف غير فصيح، بل ذهب ابن هشام وغيره إلى منعه، وقد أجازه سيبويه احتجاجا بقول الشاعر:
ثلاث كلهن قتلت عمدا
هذا وما جاء فيه تقديم "كل" على النفي وتأخيرها عنه قول دعبل الخزاعي "من الطويل":
فوالله ما أدري بأي سهامها
…
رمتني وكل عندنا ليس بالمكدي
أبالجيد أم مجرى الوشاح؟ وإنني
…
لأتهم عينيها مع الفاحم الجعد
وقول أبي الأسود "من الطويل":
وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه
…
وما كل مؤت نصحه بلبيب
وقول الآخر "من الكامل":
إن المعلم والطبيب كلاهما
…
لا ينصحان إذا هما لم يُكرَما
ومما يجب التنبه له في فصل التقديم أصل؛ وهو أن تقديم الشيء على الشيء1 ضربان:
تقديم على نية التأخير، وذلك في شيء أُقر مع التقديم على حكمه الذي كان عليه؛ كتقديم الخبر على المبتدأ، والمفعول على الفاعل؛ كقولك:"قائم زيد، وضرب عمرا زيدٌ"؛ فإن "قائم" و"عمرا" لم يخرجا بالتقديم عما كانا عليه من كون هذا مسندا ومرفوعا بذلك، وكون هذا مفعولا ومنصوبا من أجله.
وتقديم لا على نية التأخير، ولكن على أن ينقل الشيء عن حكم إلى حكم، ويُجعل له إعراب غير إعرابه، كما في اسمين يحتمل كل منهما أن يُجعل مبتدأ والآخر خبرا له، فيقدم تارة هذا على ذاك، وأخرى ذاك على هذا؛ كقولنا:"زيد المنطلق"، و"المنطلق زيد"، فإن "المنطلق" لم يقدم على أن يكون متروكا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير؛ فيكون خبر مبتدأ كما كان؛ بل على أن يُنقل عن كونه خبرا إلى كونه مبتدأ، وكذا القول في تأخير "زيد".
1 هذا تقسيم قد مهد به عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" للكلام على التقديم والتأخير، وهو عام في تقديم المسند إليه وتقديم المسند وتقديم غيرهما، وتقديم المسند إليه يكون دائما من القسم الثاني؛ لأن رتبته التقديم، فلا يأتي فيه تقديم على نية التأخير.
أغراض تأخير المسند إليه:
وأما تأخيره؛ فلاقتضاء المقام تقديم المسند1.
1 سيأتي في الكلام على المسند بيان أغراض تقديمه، وذلك كتخصيصه بالمسند إليه في نحو قوله تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وكالتشويق إلى ذكر المسند في قول محمد بن وهيب "من البسيط":
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها
…
شمس الضحا وأبو إسحاق والقمر
تمرينات على التقديم والتأخير:
تمرين1:
1-
لماذا قدم المسند إليه في قول الشاعر:
أنا لا أختار تقبيل يد
…
قطعها أجمل من تلك القُبَل؟
2-
لماذا أخر المسند إليه أولا وقدم ثانيا في قوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47] ؟
تمرين2:
1-
أي الأمرين "التخصيص وتقوية الحكم" يقصد من قول الشاعر:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
…
وأسمعت كلماتي من به صَمَم؟
2-
لماذا أخر المسند إليه أولا وقدم آخرا في قول الشاعر:
وكالنار الحياة فمن رماد
…
أواخرها وأولها دخان؟
تمرين3:
1-
ماذا تدل عليه "سوى" من الكناية أو الحقيقة في قول الشاعر:
وإذا تُباع كريمة أو تُشترى
…
فسواك بائعها وأنت المشتري؟
2-
ماذا تدل عليه "كل" من سلب العموم أو عموم السلب في قولهم: "ما كل سوداء تمرة، وما كل بيضاء شحمة"؟
تمرين4:
1-
لماذا أخر "كل" على النفي في قول الشاعر:
فيا لك من ذي حجة حِيل دونها
…
وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله؟
2-
لماذا قدم المسند إليه في قول الشاعر:
خير الصنائع في الأنام صنيعة
…
تنبو بحاملها عن الإذلال؟
تمرينات على التقديم والتأخير:
تمرين5:
1-
لماذا قدمت "سوى وغير" في قول الشاعر:
سواي بتحنان الأغاريد يَطْرَب
…
وغيري باللذات يلهو ويلعب؟
2-
لماذا أخر المسند إليه في قول الشاعر:
إذا نطق السفيه فلا تجبه
…
فخير من إجابته السكوت؟
تمرين6:
1-
ما أحسن طريق يُختار في إثبات إفادة "كل" عموم السلب إذا وقعت قبل النفي، وسلب العموم إذا وقعت بعده؟
2-
أي فائدة لتقسيم عبد القاهر التقديم إلى تقديم على نية التأخير، وتقديم لا على نية التأخير؟
تمرين7:
قال بعض الشعراء:
أحياؤنا لا يُرزقون بدرهم
…
وبألف ألف تُرزق الأموات!!
1-
فلماذا أتى بالشطر الأول جملة اسمية خبرها فعليّ دون الثاني؟
2-
من أي قسمي التقديم قوله تعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} [مريم: 46] ؟
تمرين8:
1-
لماذا أخر المسند إليه في قول الشاعر:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل
…
عفاف وإقدام وحزم ونائل؟
2-
لماذا قدم المسند إليه في قول الشاعر:
وما أنا ممن تأسِر الخمر لبه
…
ويملك سمعيه اليَرَاع المثقّب؟
تخريج المسند إليه على خلاف مقتضى الظاهر:
وضع المضمر موضع المظهر:
هذا كله مقتضى الظاهر1. وقد يُخرّج المسند إليه على خلافه؛ فيوضع المضمر موضع المظهر، كقولهم ابتداء من غير جري ذكر لفظا أو قرينة حال: "نعم رجلا زيد، وبئس رجلا عمرو" مكان "نعم الرجل وبئس الرجل"، على قول من لا يرى الأصل: "زيد نعم رجلا، وعمرو بئس رجلا"2 وقولهم: "هو زيد عالم، وهي عمرو شجاع"3 مكان "الشأن زيد عالم، والقصة عمرو شجاع"؛ ليتمكن في ذهن السامع ما يعقبه4؛ فإن السامع متى لم يفهم من الضمير معنى بقي منتظرا لعقبى الكلام كيف تكون؟ فيتمكن المسموع بعده في ذهنه فضل تمكن، وهو السر في التزام تقديم ضمير الشأن أو القصة، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وقال: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] وقال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46] .
1 أي: مقتضى ظاهر الحال على ما سبق في باب الإسناد الخبري، واسم الإشارة يعود إلى كل ما سبق من الكلام على أحوال المسند إليه، وقيل: إنه يُستثنى منه توجيه الخطاب لغير معين؛ لأنه من تخريجه على خلاف مقتضى الظاهر.
2 من لا يراه يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف؛ فيكون الضمير الفاعل عائدا على معقول معهود في الذهن، وأما الذي يرى أن الأصل:"زيد نعم رجلا" فلا يكون عنده من التخريج على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأنه يجعل المخصوص مبتدأ مؤخرا، وما قبله خبرا عنه، فيكون الضمير الفاعل عائدا على مذكور متقدم رتبة.
3 الأولى أن يذكر بدله: "وهي هند مليحة" لأن ضمير القصة لا بد معه من أن يكون في الكلام مؤنث غير فضلة أو شبيه بها، فلا يقال:"إنها بنيت غرفة" ولا: "إنها كان القرآن الكريم معجزة".
4 هذا هو الاعتبار الذي اقتضى تخريج المسند إليه في ذلك على خلاف مقتضى الظاهر، ولكنه لا يأتي في باب "نعم"؛ لأنه لا يعلم أن فيها ضميرا قبل سماع مفسره. ومثل ضمير "نعم" وضمير الشأن في ذلك كل ضمير يتقدم مرجعه حكما ويتأخر لفظا ورتبة، كما في قولك:"رُبَّه فتى" وكما في قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3]، وكما قال الشاعر:
جفوني ولم أجف الأخلّاء
…
إنني لغير جميل من خليلي مهمل
وضع المظهر موضع المضمر:
وقد يعكس فيوضع المظهر موضع المضمر؛ فإن كان المظهر اسم إشارة فذلك إما لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بحكم بديع؛ كقوله "من البسيط":
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه
…
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
…
وصير العالم النحرير زنديقا1
وإما للتهكم بالسامع: كما إذا كان فاقد البصر، أو لم يكن ثَمَّ مشار إليه أصلا2.
وإما للنداء على كمال بلادته بأنه لا يدرك غير المحسوس بالبصر، أو على كمال فطانته بأن غير المحسوس بالبصر عنده كالمحسوس عند غيره، وإما لادعاء أنه كمل
1 هما لأحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي، وكان يُرمى بالزندقة، وقيل: إنه كان من المتصوفة. وكل من "عاقل" الثانية و"جاهل" الثانية صفة للأولى منهما على معنى: كامل في العقل وكامل في الجهل، وليس ذلك من التأكيد اللفظي؛ لأنه إنما يكون لدفع توهم سهو أو نحوه، وهو غير محتمل هنا. وقوله:"أعيت مذاهبه" بمعنى أعجزته طرق معاشه، أو أعيت عليه متعدية أو لازمة، والأوهام يراد بها العقول من تسمية المحلّ باسم الحالّ على المجاز المرسل، والنحرير من نحر الأمور علما: أتقنها، والزنديق الذي يؤمن بالزندقة وهي القول بأزلية العالم، وتُوُسِّع فيه فأُطلق على كل شاكّ أو ضالّ أو ملحد. والشاهد في اسم الإشارة؛ لأنه يعود إلى الحكم السابق عليه، وهو كون العاقل محروما والجاهل مرزوقا؛ فالمقام للضمير لأن هذا الحكم غير محسوس، واسم الإشارة موضوع للمحسوس، والحكم البديع الذي أسند إلى اسم الإشارة هو جعل الأوهام حائرة والعالم النحرير زنديقا.
2 كأن يقول لك أعمى: أتشهد أن زيدا ضربني؟ فتقول له: "نعم، ذلك الذي في جانبك" سواء أكان في جانبه أم لم يكن.
ظهوره حتى كأنه محسوس بالبصر. ومنه في غير باب المسند إليه قوله "من الطويل":
تعاللتِ كي أشجى وما بك علة
…
تريدين قتلي، قد ظفرتِ بذلك1
وإما لنحو ذلك2.
وإن كان المظهر غير اسم إشارة؛ فالعدول إليه عن المضمر إما لزيادة التمكين3 كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2]، ونظيره من غيره قوله:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105]، وقوله:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 59] .
وقول الشاعر:
إن تسألوا الحق نعطِ الحق سائله4
بدل "نعطكم إياه".
وإما لإدخال الرَّوْع في ضمير السامع وتربية المهابة، وإما لتقوية داعي المأمور5. مثالهما قول الخلفاء:"أمير المؤمنين يأمرك بكذا". وعليه من غيره: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 1.
وإما للاستعطاف، كقوله:
إلهي عبدك العاصي أتاكا2
وإما لنحو ذلك3
1 هو كما رواه المبرد لمرة بن عبد الله الهلالي، وقوله:"تعاللت" بمعنى ادعاء العلة. وقوله: "أشجى" بمعنى أحزن، والشاهد في وضع اسم الإشارة موضع الضمير؛ لأن الظاهر أن يقال: قد ظفرتِ به أي: بالقتل، والداعي إلى ذلك هو ادعاء كمال ظهوره حتى كأنه محسوس بالبصر.
2 كالإشارة إلى بعده، ويمكن أن يحمل عليه ما في البيت السابق أيضا؛ بأن يكون مراده به الإشارة إلى بعد قتله لكمال شجاعته.
3 هذا إذا كان المقام يقتضي الاعتناء بالمسند إليه.
4 هو لعبد الله بن عنمة الضبي من قوله "من البسيط":
إن تسألوا الحق نعط الحق سائله
…
والدرع محقبة والسيف مقروب
والمحقبة: المشدودة في الحقبة، والمقروب: الموضوع في قرابه. وسيأتي هذا البيت مع بيت قبله في شواهد الالتفات.
5 أي: إلى امتثال ما أُمر به.
الالتفات:
قال السكاكي4:
1 [آل عمران: 159] ؛ لأنه لم يقل فيه: "فتوكل علي" ولكنه من باب تقوية داعي المأمور إلى الامتثال، لا من باب إدخال الروع في ضمير السامع؛ لأن الاطمئنان بالتوكل لا يناسبه الروع من المطمأن إليه.
2 هو لإبراهيم بن أدهم من مقطوعة مطلعها "من الوافر":
هجرت الخلق طرا في هواكا
…
وأيتمت العيال لكي أراكا
إلى أن يقول:
إلهي عبدك العاصي أتاكا
…
مقرا بالذنوب وقد دعاكا
فإن تغفر فأنت لذاك أهل
…
وإن تطرد فمن يرحم سواكا؟
والشاهد في قوله: "عبدك" فلم يقل: "أنا أتيتك".
3 كأن يقصد التوصل بالظاهر إلى الوصف، نحو قوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} إلى أن قال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} [الأعراف: 158]، وكأن يكون المعنى على الإظهار هو المراد؛ نحو قول الله تعالى:{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف: 77] ؛ لأن جملة: {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} صفة "قرية" وليست صفة "أهل"؛ لأنه مسوق للتحدث عن القرية وجدارها لا عن أهلها، وليست أيضا جوابا لإذا؛ لأن جوابها قوله بعده:{قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} فوضع المظهر موضع المضمر؛ لأن الصفة جارية على غير من هي له.
4 المفتاح ص106.
هذا1 غير مختص بالمسند إليه، ولا بهذا القدر2، بل التكلم والخطاب والغيبة مطلقا3 ينقل كل واحد منها إلى الآخر، ويسمى هذا النقل "التفاتا" عند علماء المعاني4 كقول ربعية بن مقروم "من البسيط":
بانت سعاد فأمسى القلب معمودا
…
وأخلفتك ابنة الحر المواعيدا5
فالتفت كما ترى؛ حيث لم يقل: "وأخلفتني". وقوله "من الطويل":
تذكرت والذكرى تهيجك زينبا
…
وأصبح باقي وصلها قد تقضبا
وحل بفلج فالأباتر أهلنا
…
وشطت فحلت غمرة فمثقبا6
فالتفت في البيتين.
والمشهور عند الجمهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة، بعد التعبير عنه بطريق آخر منها7.
1 أي: النقل من الحكاية إلى الغيبة.
2 أي: ولا النقل مطلقا مختص بهذا القدر، وهو النقل من الحكاية إلى الغيبة، وإنما أُوِّلت عبارته هذا التأويل لما في ظاهره من التهافت.
3 أي: في المسند إليه وغيره، وحيث سبق التعبير بأحدهما ثم عبر بالآخر على خلافه أو لم يسبق، كما سيأتي.
4 بعضهم يجعل منه التعبير بالمضارع عن الماضي، وعكسه، والانتقال من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجماعة إلى الآخَر منها.
5 المعمود: الحزين، وابنة الحر: هي سعاد من وضع المظهر موضع المضمر. ويجوز أن يكون الخطاب في قوله: "وأخلفتك" تجريدا لا التفاتا على ما هو الجليّ من الفرق بينهما؛ لأن مبنى التجريد على المغايرة؛ لأنه يجرد من الشخص شخصا آخر، ومبنى الالتفات على اتحاد المعنى، وكذلك يقال في كل ما أشبه هذا الخطاب.
6 هما لربيعة بن مقروم أيضا، وقوله:"والذكرى تهيجك" معترض بين الفعل ومفعوله، وقوله:"تقضب" بمعنى انقطع، وفلج والأباتر وغمرة ومثقب: مواضع، وقوله:"شطت" بمعنى بَعُدت. والالتفات في البيت الأول من التكلم إلى الخطاب، ويجوز حمله على التجريد كما سبق، والالتفات في البيت الثاني من الخطاب إلى التكلم.
7 يجب فيه أيضا أن يكون التعبير الثاني على خلاف ما يقتضيه ظاهر السياق، وإن كان =
وهذا أخص من تفسير السكاكي؛ لأنه أراد بالنقل أن يعبر بطريق من هذه الطرق عما عبر عنه بغيره، أو كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيره منها1؛ فكل التفات عندهم التفات عنده، من غير عكس2.
مثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3 [يس: 22] .
= موافقا لظاهر المقام؛ فلا يعد منه الخطاب الثاني في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وإنما حصل الالتفات بالأول فقط، وجرى الثاني على سياقه، وكذلك لا يعد منه الانتقال من التكلم إلى الغيبة في قول الشاعر "من الرجز":
نحن اللذون صبّحوا الصباحا
…
يوم النخيل غارة مِلْحاحا
من الاسم الظاهر، وهو يدل على الغيبة، ومقتضى سياقه أن يعود الضمير عليه من الصلة بطريق الغيبة أيضا. ويعد منه الانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 1-3] ، وإن كان الخطاب ظاهر المقام؛ لأنه خلاف ظاهر السياق.
1 يعني: أو لم يعبر عنه بغيره، وكان مقتضى الظاهر
…
إلخ.
وهذا الشق الثاني هو الذي ينفرد فيه الالتفات عند السكاكي عن الالتفات عند الجمهور؛ كالالتفات من التكلم إلى الخطاب في الشاهدين السابقين لربيعة بن مقروم، والجمهور يجعلونه من التجريد لا من الالتفات، والخطب في هذا سهل.
2 أي: لغوي لا منطقي؛ لصحة العكس المنطقي هنا بخلاف اللغوي؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون كل التفات عند السكاكي التفاتا عند الجمهور، وهو باطل.
3 فالسياق يقتضي "وإليه أرجع" وإن كان الخطاب هو ظاهر المقام؛ لأن قوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ} تعريض بالمخاطبين، والمراد "وما لكم لا تعبدون". وقيل: إنه لا التفات في قوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ؛ لأنه يجوز إرادة المخاطبين فلا يكون في معنى "وإليه أرجع"، وقيل: إن في قوله {وَمَا لِيَ} التفاتا، والحق أنه من التعريض لا من الالتفات. ومن الالتفات من = التكلم إلى الخطاب قوله تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14] ، وهو أظهر من الآية السابقة.
ومن التكلم إلى الغيبة1 قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 1، 2] .
ومن الخطاب إلى التكلم قول علقمة بن عبدة "من الطويل":
طحا بك قلب في الحسان طروب
…
بُعَيْد الشباب عصر حان مشيب
يكلفني ليلى وقد شط وَلْيُها
…
وعادت عَوادٍ بيننا وخطوب2
ومن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] .
ومن الغيبة إلى التكلم قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 9] .
ومن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 4، 5] .
وقول عبد الله بن عَنَمَةَ "من البسيط":
ما إن ترى السيد زيدا في نفوسهم
…
كما يراه بنو كُوز ومَرهوب
1 المراد بالغيبة ما يشمل الاسم الظاهر كما في الآية، وكان السياق فيها أن يقال:"فصل لنا وانحر".
2 قوله: "طحا" بمعنى ذهب وأتلف، وطروب بمعنى أن له طربا ونشاطا في طلبهن، وقوله:"يكلفني" ضميره يعود إلى القلب، وروي "تكلفني" فيجوز أن يكون فاعله القلب على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، ويجوز أن يكون فاعله "ليلى" بمعنى أنها تكلفه شدائد فراقها. وقوله:"شط وليها" بمعنى بعد قربها، وقوله:"عادت عواد" بمعنى رجعت عوائق كانت تحول بيننا إلى ما كانت عليه، ويجوز أن تكون "عادت" من المعاداة.
والشاهد في قوله: "يكلفني"؛ لأن الأصل "يكلفك" على مقتضى السياق، أما قوله:"طحا بك" فهو التفات أو تجريد على ما سبق.
إن تسألوا الحق نعط الحق سائله
…
والدرع محقبة والسيف مقروب1
وأما قول امرئ القيس "من المتقارب":
تطاول ليلك بالأثمد
…
ونام الخَلِيّ ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة
…
كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءني
…
وخُبِّرتُه عن أبي الأسود2
فقال الزمخشري: "فيه ثلاثة التفاتات"3، وهذا ظاهر على تفسير السكاكي؛ لأن على تفسيره في كل بيت التفاتة، لا يقال: الالتفات عنده من خلاف مقتضى الظاهر؛ فلا يكون في البيت الثالث التفات لوروده على مقتضى الظاهر؛ لأننا نمنع انحصار الالتفات عنده في خلاف المقتضى4؛ لما تقدم5.
1 السيد وزيد وكوز ومرهوب: أحياء من ضبّة قوم الشاعر. يريد أن السيد لا يوجبون لزيد في نفوسهم من الحرمة والنصرة ما يوجبه كوز ومرهوب، والضمير في قوله:"تسألوا" لزيد، وفيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والمحقبة: المشدودة في الحقيبة، والمقروب: الموضوع في قرابه. وبعد البيتين "من البسيط":
وإن أبيتم فإنا معشر أُنُف
…
لا نطعم الخَسْف إن السم مشروب
2 هي لامرئ القيس حندج بن حجر، وقيل: إنها لامرئ القيس بن عابس الصحابي في رثاء ابن عمه أبي الأسود. والأثمد: اسم موضع، وقوله:"وبات وباتت له ليلة" بات الأولى فيه تامة، والثانية يجوز أن تكون ناقصة وأن تكون تامة، والعائر: قذى العين، وأبو الأسود: كنية أبيه حجر ملك بني أسد، والخبر الذي خبره عنه: خبر قتلهم له.
3 الالتفات الأول في قوله: "ليلك" من التكلم إلى الخطاب، وكافها مفتوحة أو مكسورة على ما سيأتي، وهو الذي يأتي على مذهب السكاكي، والالتفات الثاني في قوله:"وبات" من الخطاب إلى الغيبة، والالتفات الثالث في قوله:"جاءني" من الغيبة إلى التكلم.
4 يعني خلاف مقتضى ظاهر المقام.
5 من أن الالتفات عنده ينقسم إلى ما يجري على خلاف ظاهر المقام وإن لم يجر على خلاف السياق، وهو يخالف فيه الجمهور، وإلى ما يجري على خلاف السياق وإن لم يخالف ظاهر المقام، وهو الذي يوافق فيه الجمهور.
وأما على المشهور1 فلا التفات في البيت الأول، وفي الثاني التفاتة واحدة، فيتعين أن يكون في الثالث التفاتتان، فقيل: هما في قوله: "جاءني" إحداهما باعتبار الانتقال من الخطاب في البيت الأول، والأخرى باعتبار الانتقال من الغيبة في الثاني. وفيه نظر؛ لأن الانتقال إنما يكون من شيء حاصل ملتَبَس به؛ وإذ قد حصل الانتقال من الخطاب في البيت الأول إلى الغيبة في الثاني لم يبق الخطاب حاصلا ملتبَسا به؛ فيكون الانتقال إلى التكلم في الثالث من الغيبة وحدها، لا منها ومن الخطاب جميعا؛ فلم يكن في البيت الثالث إلا التفاتة واحدة، وقيل: إحداهما في قوله: "وذلك"؛ لأنه التفات من الغيبة إلى الخطاب2، والثانية في قوله:"جاءني"؛ لأنه التفات من الخطاب إلى التكلم، وهذا أقرب.
بلاغة الالتفات:
واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام، ووجه حسنه -على ما ذكر الزمخشري- هو أن الكلام إذا نُقل من أسلوب إلى أسلوب3 كان ذلك أحسن تطرية4 لنشاط السامع، وأكثر إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب
1 قد ذكروا أن مذهب السكاكي في الالتفات هو مذهب الزمخشري؛ فلا معنى لتكلف تحقيق الالتفات الذي ذكره في البيتين على مذهب الجمهور؛ لأن مذهبه يخالف مذهبهم.
2 الالتفات في قوله: "ذلك" متكلف؛ لأنه لا دليل على أنه يعني بالخطاب فيها نفسه، بل الظاهر أن المعنيّ بها غير المتكلم؛ ولهذا لم ينظر إليها قبل هذا التكلف.
3 إنما خص بيان محاسن الالتفات بما فيه نقل من أسلوب إلى أسلوب؛ لأنه هو الغالب فيه، أما الالتفات الذي انفرد به السكاكي فوجه حسنه أن المخاطب إذا سمع خلاف ما يترقب نشط وأصغى إليه، وقد قيل: إن الالتفات على هذا يكون من المحسنات البديعية، فلا يصح ذكره هنا؛ لأن حسنه يرجع إلى ما ذكره الزمخشري، ولا يرجع إلى اقتضاء المقام. وأجيب بتسليم أنه من المحسنات البديعية، ولكن هذا لا يمنع من إدخاله في علم المعاني عند اقتضاء المقام لفائدته من طلب مزيد الإصغاء لكون الكلام دعاء أو مدحا أو نحوهما. والحق أن مثل هذا يكون شرطا لحسنه، ولا يقتضي وجوبه في البلاغة، فلا يصح أن يعد به من علم المعاني.
4 أي: تجديدا، تقول:"طريتُ الثوب" إذا عملتَ ما يجعله طريا كأنه جديد.
واحد1.
وقد تختص مواقعه بلطائف2 كما في سورة الفاتحة3؛ فإن العبد إذا افتتح حَمْد مولاه الحقيق بالحمد عن قلب حاضر ونفس ذاكرة لما هو فيه بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الدال على اختصاصه بالحمد وأنه حقيق به، وجد من نفسه لا محالة محركا للإقبال عليه، فإذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} الدال على أنه مالك للعالمين، لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيته، قوي ذلك المحرك، ثم إذا انتقل إلى قوله:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الدال على أنه منعم بأنواع النعم: جلائلها ودقائقها؛ تضاعفت قوة ذلك المحرك، ثم إذا انتقل إلى خاتمة هذه الصفات العظام وهي قوله:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الدال على أنه مالك للأمر كله يوم الجزاء تناهت قوته، وأوجب الإقبال عليه وخطابه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمّات4.
1 أورد ابن الأثير على ما ذكره الزمخشري من ذلك أنه لو كان صحيحا لما حسن الالتفات إلا في الكلام الطويل، مع أنه قد أتى في القرآن حيث لا يمكن أن يقال: إن الكلام قد طال، ثم ذكر أن الالتفات لا يكون إلا لفائدة اقتضته، وأن تلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، ولكنها لا تحد بحد ولا تضبط بضابط، وإنما يشار إلى مواضع منها ليقاس عليها، كما سيأتي في سورة الفاتحة، ولكنه عاد فذكر أنه لا ينكر أن في الانتقال من أسلوب إلى أسلوب اتساعا وتفننا في أساليب الكلام، مع أنه قد يكون لمقصد آخر معنوي هو أعلى وأبلغ، ولا يخفى أن مثل هذا لا يخالفه فيه الزمخشري؛ لأنه فيما ذكره من ذلك لم يرد إلا بيان وجه عام لحسن الالتفات، ولا يمنع أن تختص مواقعه بلطائف أخرى خاصة.
2 قيل: إنه يلزم أن يُلتمَس ذلك في كل التفات، وقيل: إنه لا يلزم أن يكون له في كل مقام نكتة خاصة.
3 الفاتحة: 2، 3، 4، 5.
4 يعني خطابه بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
وكما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] لم يقل: "واستغفرت لهم" وعدل عنه إلى طريق الالتفات؛ تفخيما لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان.
وذكر السكاكي1 لالتفات امرئ القيس في الأبيات الثلاثة على تفسيره وجوها: أحدها أن يكون قصد تهويل الخطب واستفظاعه، فنبه في التفاته الأول على أن نفسه وقت ورود ذلك النبأ عليها ولهتْ وَلَه الثكلى، فأقامها مقام المصاب الذي لا يتسلى بعض التسلي إلا بتفجع الملوك له، وتحزنهم عليه، وخاطبها "بتطاول ليلكِ"2 تسلية، أو على أنها لفظاعة شأن النبأ أبدت قلقا شديدا ولم تتصبر -فعل الملوك- فشك في أنها نفسه، فأقامها مقام مكروب، وخاطبها بذلك تسلية، وفي الثاني على أنه صادق في التحزن -خاطب أو لا- وفي الثالث على أنه يريد نفسه.
أو نبه3 في الأول على أن النبأ لشدته تركه حائرا، فما فَطِنَ معه لمقتضى الحال؛ فجرى على لسانه ما كان ألِفه من الخطاب الدائر في مجاري أمور الكبار أمرا ونهيا. وفي الثاني على أنه بعد الصدمة الأولى أفاق شيئا، فلم يجد النفس معه، فبنى الكلام على الغيبة. وفي الثالث على ما سبق.
أو نبه4 في الأول على أنها حين لم تثبت ولم تتبصر غاظه ذلك؛ فأقامها مقام المستحق للعتاب، فخاطبها على سبيل التوبيخ والتعيير بذلك، وفي الثاني على أن الحامل على الخطاب والعتاب لما كان هو الغيظ والغضب، وسكن عنه الغضب بالعتاب الأول، ولى عنها الوجه وهو يُدمدم قائلا:"وبات وباتت له"، وفي الثالث على ما سبق.
هذا كلامه، ولا يخفى على المنصف ما فيه من التعسف5.
1 المفتاح ص107.
2 فكافها مكسورة، ويصح فتحها نظرا إلى كون النفس يراد بها شخصه.
3 هذا هو الوجه الثاني، وكان المناسب لسياقه أن يقول: وثانيها.
4 هذا هو الوجه الثالث.
5 لأنه يحمل امرأ القيس ما لا يمكن أن يكون قد خطر بباله من ذلك. ولا يخفى أن كثيرا من اللطائف التي تلتمس للالتفات فيها مثل هذا التعسف، وأن ذلك يرجع إلى أنها غير مضبوطة؛ لأنها لو كانت مضبوطة لأمكن الرجوع إلى أمر ظاهر مقرر منها.
الأسلوب الحكيم:
ومن خلاف المقتضى ما سماه السكاكي1 الأسلوب الحكيم2، وهو تلقي المخاطِب3 بغير ما يترقب، بحمل كلامه على خلاف مراده؛ تنبيها على أنه الأولى بالقصد، أو "تلقي" السائل بغير ما يتطلب4 بتنزيل سؤاله منزلة غيره؛ تنبيها على أنه الأولى بحاله، أو المهم له.
أما الأول فكقول القبعثرى5 للحجاج لما قال له متوعدا بالقيد: "لأحملنك على
1 المفتاح ص175.
2 أكثر العلماء يذكره في علم البديع، على أن الخطيب سيذكر في علم البديع القول بالموجب، ويقسمه إلى قسمين، والقسم الثاني هو الأسلوب الحكيم بعينه، ولا شك أن مراعاة ذلك مما يورث الكلام حسنا، ولا يصل تركه إلى إخلال بفصاحة أو بلاغة، فاللائق به أن يعد في علم البديع. وقد ذكر السعد أنه لما انجرّ الكلام إلى ذكر خلاف مقتضى الظاهر أورد عدة أقسام منه، وإن لم تكن من مباحث المسند إليه، وهي: الأسلوب الحكيم، والتعبير عن المستقبل بلفظ الماضي
…
إلخ.
3 بكسر الطاء أي: المتكلم، من إضافة المصدر لمفعوله، وهذا أولى من فتح الطاء؛ لما فيه من التعقيد.
4 الفرق بينه وبين ما عُطف عليه أن فيه سؤالا، فهو أخص منه بهذا الاعتبار، ولكنه أعم منه باعتبار آخر، وهو أنه لا يُشترط فيه حمل كلام سابق على خلاف ظاهره كما يشترط في الأول.
5 الصواب ابن القبعثرى كما سبق.
الأدهم": "مثل الأمير يحمل على الأدهم1 والأشهب". فإنه أبرز وعيده في معرض الوعد، وأراه بألطف وجه أنّ من كان على صفته في السلطان وبسطة اليد فجدير بأن يُصْفِد لا أن يَصْفِد2، وكذا قوله له لما قال له في الثانية: "إنه حديد": "لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا"3.
وعن سلوك هذه الطريقة في جواب المخاطَب عبّر من قال مفتخرا "من الطويل":
أتت تشتكي عندي مزاولة القِرَى
…
وقد رأت الضيفان ينحون منزلي
فقلت كأني ما سمعت كلامها:
…
هم الضيف جدي في قراهم وعجلي4
وسماه الشيخ عبد القاهر "مغالطة"5.
وأما الثاني؛ فكقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] قالوا: "ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا؟ "6 وكقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215] ، سألوا عن بيان ما ينفقون، فأجيبوا ببيان المصرف7.
1 أراد الحجاج بالأدهم القيد، فحمله على غير مراده وهو الفرس الذي غلب سواده على بياضه، وعطف عليه الأشهب وهو الفرس الذي غلب بياضه على سواده.
2 أي: جدير بأن يعطي لا أن يُقيد؛ لأن الإصفاد: الإعطاء من الصفد وهو العطاء، ويقال: صفده يصفده بمعنى قيده؛ ولهذا يسمى القيد صفادا.
3 أراد الحجاج بقوله: "إنه حديد" أنه قيد حديد، فحمله على الحدّة، والمعنى:"لأن يكون العطاء حديدا".
4 لا يعلم قائلهما، والقرى: طعام الضيف، وقوله:"ينحون" بمعنى يقصدون. والشاهد في أنه أجابها بغير ما تتطلب من الشكوى؛ ولهذا قيل: إن هذا من القسم الثاني لا الأول؛ لأنه ليس فيه حمل كلام على خلاف ظاهره، وإنما هو من تلقي السائل بغير ما يتطلب؛ للتنبيه على أن الأولى بها الاستعداد لهم لا الشكوى منهم.
5 دلائل الإعجاز ص92. وقيل: إن الأسلوب الحكيم بقسميه يسمى مغالطة، لا القسم الأول وحده.
6 فأجابهم ببيان حكمته؛ تنبيها على أنه هو الأولى بحالهم، لا السؤال عن سببه.
7 للتنبيه على أنه هو المهم لهم.
ومن هذا أيضا أجوبة موسى لفرعون في قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 23-28] .
التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي:
ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ المضي1 تنبيها على تحقق وقوعه، وأن ما هو للوقوع كالواقع؛ كقوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، وقوله:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]، وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ
…
} الآية [الأعراف: 48] جعل المتوقع الذي لا بد من وقوعه بمنزلة الواقع. وعن حسان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زُنبور وهو طفل، فجاء إليه يبكي، فقال له: يا بني ما لك؟ قال: لسعني طُوَيِّر كأنه ملتف في بردي حِبَرَة2. فضمه إلى صدره وقال: يا بني قد قلت الشعر. ومثله التعبير عنه باسم القاعل3: كقوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 6] وكذا باسم المفعول؛ كقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] .
1 مثله التعبير عن الماضي بلفظ المضارع استحضارا لصورته العجيبة؛ كقوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [فاطر: 9]، أي: فأثارت، ولا يخفى أن النوعين من المجاز المرسل أو الاستعارة، فلا معنى لذكرهما في علم المعاني؛ لأنه لا فرق بينهما وبين غيرهما من أنواع المجاز فيما فعلا به من خلاف مقتضى الظاهر.
2 طوير: تصغير طائر، والحبرة: ضرب من برود اليمن. والشاهد في قوله: "قد قلت الشعر" لأنه بمعنى ستقول.
3 لأن كلا من اسم الفاعل واسم المفعول حقيقة في المتلبس بالفعل -في الحال- اتفاقا، وفي الماضي على قول ضعيف، فيكون استعماله في المستقبل مجازا.
القلب:
ومنه القلب1؛ كقول العرب: "عرضت الناقة على الحوض"2، ورده مطلقا قوم3، وقبله مطلقا قوم4، منهم السكاكي5.
والحق أنه إن تضمن اعتبارا لطيفا6 قُبِل، وإلا رُدّ.
1 هو في الاصطلاح أن يجعل جزء من الكلام مكان آخر يجعل مكانه على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر، فليس منه نحو: في الدار زيد، وضرب عمرا زيد، وهو قسمان: لفظي ومعنوي، وسيأتي بيانهما في أمثلته.
2 هذا من القلب المعنوي؛ لأن المعروض عليه يجب أن يكون ذا شعور واختيار لأجل أن يميل إلى المعروض أو يُحجم عنه، ولكن لما كان المعتاد في ذلك أن يؤتى بالمعروض إلى المعروض عليه، وكانت الناقة هي التي يؤتى بها إلى الحوض، نُزِّل كل منهما منزلة الآخر، وقيل: إنه لا قلب في ذلك، وإنما القلب في "عرضت الحوض على الناقة"؛ لأن المعروض عليه هو المستقر.
3 لأنه عكس المطلوب ونقيض المقصود، وقيل: إنه لا يكاد أحد يمنعه مطلقا لوروده في القرآن وفصيح الكلام، ولعلهم يردون القلب اللفظي دون المعنوي.
4 لأن قلب الكلام مما يُحوج إلى التنبه للأصل، وذلك مما يورث الكلام ملاحظة ولطفا.
5 المفتاح ص113.
6 أي: غير تلك المَلَاحة التي احتج بها مَنْ قبلَه مطلقا، وذلك كالاعتبار السابق في قولهم:"عرضت الناقة على الحوض"، وكالاعتبارات الآتية في باقي الأمثلة. وإنما لم يقبل القلب إلا بهذا؛ لأنه من غيره يكون عدولا عن مقتضى الظاهر من غير نكتة يعتد بها؛ إذ لا يعتد فيه بتلك المَلَاحة العامة وحدها، ولا يخفى أن القلب بتلك المَلَاحة يكون من المحسنات البديعية، فالأليق ذكره في علم البديع؛ لأن تلك الاعتبارات التي يقبل بها في علم المعاني ليست محدودة ولا مضبوطة، وهي مع هذا شرط لحسنه ولا توجبه.
أما الأول1، فكقول رؤبة "من الرجز":
ومَهْمَهٍ مغبرّة أرجاؤه
…
كأن لون أرضه سماؤه2
أي: كأن لون سمائه لغبرتها لون أرضه، فعكس التشبيه للمبالغة.
ونحوه قول أبي تمام يصف قلم الممدوح "من الطويل":
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
…
وأَرْي الجَنَى اشتارته أيدٍ عواسل3
وأما الثاني4، فكقول القطامي:
كما طينت بالفَدَن السِّياعا5
1 هو المقبول.
2 هو لرؤبة بن عبد الله بن رؤبة. والمهمه: المفازة، والأرجاء: جمع رجا وهو الناحية. والقلب في هذا معنوي أيضا، وهو من التشبيه المقلوب الآتي في علم البيان، والاعتبار اللطيف فيه بقصد المبالغة.
3 هو لحبيب بن أوس المعروف بأبي تمام، وأري الجنى: العسل، من إضافة الموصوف إلى الصفة، وقوله: اشتارته بمعنى جنته، والأيدي العواسل: العارفة بجنيه، والأولى صفة للقلم مع الأعداء، والثانية صفته مع الأصدقاء. والشاهد في شطره الأول، وهو من القلب المعنوي أيضا؛ لأنه من التشبيه المقلوب، والاعتبار اللطيف فيه قصد المبالغة.
4 هو المردود.
5 هو لعُمَير بن شُيَيم المعروف بالقطامي من قوله "من الوافر":
فلما أن جرى سِمَن عليها
…
كما طينت بالفدن السياعا
أمرت بها الرجال ليأخذوها
…
ونحن نظن أن لن تُستطاعا
يصف بذلك ناقته، والفدن: القصر، والسياع: الطين المخلوط بالتبن أو الآلة التي يُطين بها، يعني أنها صارت ملساء من السمن كالقصر المطين بالسياع، وفي ذلك قلب معنوي؛ فإن حمل السياع على الآلة لم يتضمن اعتبارا لطيفا، وفيه الشاهد، وإن حمل على الطين فيجوز أن يكون المقصود المبالغة في سمنها؛ لأنه يقصد تشبيهها بالسياع الذي صار لكثرته كأنه الأصل والفدن هو الفرع، فيكون هو أيضا مثله مع أصله من العظم ونحوه، ولكنه لا يخلو من تكلف. وروي:"كما بطنت بالفدن السياعا" وهو على القلب أيضا، والمعنى: كما بطنت الفدن بالسياع.
وقول حسان:
يكون مِزاجها عسل وماء1
وقول عروة بن الورد:
فديت بنفسه نفسي ومالي2
وقول الآخر:
دولا يك موقف منكِ الوداعا3
1 هو لحسان بن ثابت الأنصاري من قوله "من الوافر":
كأن سبيئة من بيت رأس
…
يكون مزاجَها عسل وماء
على أنيابها أو طعم غض
…
من التفاح عصّره اجتناء
والسبيئة: الخمر المشتراة للشراب، وبيت رأس: بلد بالشام بين رملة وغزة، والغض: الطري، وقوله:"عصره" بمعنى أساله، كناية عن إدراكه وقت نضجه، شبه ريق محبوبته بخمر مُزجت بعسل. والقلب في قوله:"يكون مزاجها عسل" قلب لفظي؛ لأنه لا قلب في المعنى، وإنما القلب في اللفظ؛ لأنه نكّر ما هو في موضع المبتدأ، وعرّف الخبر، والأصل فيهما العكس. ويروى برفع "مزاجها" على أن اسم يكون ضمير الشأن، فلا يكون فيه قلب.
2 هو من قوله "من الوافر":
فلو أني شهدت أبا سعاد
…
غداة غدا لمُهْجته يفوق
فديت بنفسه نفسي ومالي
…
وما آلوك إلا ما أطيق
وقد رواه المرتضى في أماليه وابن الأنباري في "الأضداد" للعباس بن مرداس. يقال: "فاق بمهجته، ولمهجته، يفوق" إذا اشرفت نفسه على الخروج أو خرجت، وقوله:"وما آلوك" بمعنى لم أقصر فيك، والقلب فيه معنوي، والأصل:"فديت نفسه بنفسي ومالي" وليس في قلبه اعتبار لطيف؛ لأنه يوهم خلاف المراد.
3 هو لعمير بن شييم المعروف بالقطامي من قوله "من الوافر":
قفي قبل التفرق يا ضباعا
…
ولا يك موقف منكِ الوداعا
وألف "ضباعا" للإطلاق، وهو مرخم "ضباعة" اسم بنت له أو امرأة غيرها. والقلب في قوله:"ولا يك موقف منك الوداعا" لفظي كالقلب في بيت حسان السابق.
وقد ظهر من هذا أن قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] ليس واردا على القلب1؛ إذ ليس في تقدير القلب فيه اعتبار لطيف، وكذا قوله تعالى:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} 2، وكذا قوله تعالى:{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} 3 فأصل الأول: أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا أي: إهلاكنا، وأصل الثاني: ثم أراد الدنوّ من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى فتعلق عليه في الهواء، ومعنى الثالث: تَنَحَّ عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه؛ ليكون ما يقولونه بمسمَع منك، فانظر ماذا يرجعون، فيقال: إنه دخل عليها من كُوَّة، فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوة. وأما قول خِدَاش:
وتشقى الرماح بالضَّياطِرَة الحُمْر4
فقد ذُكر له سوى القلب5 وجهان: أحدهما: أن يجعل شقاء الرماح بهم استعارة عن كسرها بطعنهم بها، والثاني: أن يجعل نفس طعنهم شقاء لها تحقيرا لشأنهم، وأنهم ليسوا أهلا لأن يُطعنوا بها، كما يقال:"شَقِيَ الخز بجسم فلان"، إذا لم
1 يرد بهذا على من زعم أن أصله: "جاءها بأسنا فأهلكناها".
2 [النجم: 8]، وعلى تقدير القلب فيه يكون أصله: ثم تدلى فدنا.
3 [النمل: 28]، وعلى تقدير القلب فيه يكون أصله: فانظر ماذا يرجعون ثم تولَّ عنهم.
4 هو لخداش بن زهير من قوله "من الطويل":
وتلحق خيل لا هَوَادَة بينها
…
وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
والهوادة: اللين والرفق أو ما يرجى به الصلاح بين القوم، وعلى هذا يكون المراد لا هوادة بين أصحابها، والضياطرة: جمع ضيطر وهو الضخم اللئيم العظيم الاست، والحمر: جمع أحمر اللون، وقيل: هو الذي لا سلاح معه. وقد روي: "وتُركب خيل".
5 على أنه من القلب؛ يكون أصله: "وتشقى الضياطرة بالرماح"، وليس له اعتبار لطيف.
يكن أهلا للبسه.
وقيل في قول قَطَرِيّ بن الفُجَاءَة "من الكامل":
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أُصب
…
جذع البصيرة قارح الإقدام1
إنه من باب القلب2، على أن "لم أُصب" بمعنى لم أُجرح، أي: قارح البصيرة جذع الإقدام3 كما يقال: "إقدام غِرّ ورأي مجرب"، وأجيب عنه4 بأن "لم أصب" بمعنى لم أُلْفَ بهذه الصفة، بل وجدت بخلافها جذع الإقدام قارح البصيرة، على أن قوله:"جذع البصيرة قارح الإقدام" حال من الضمير المستتر في "لم أصب"، فيكون متعلقا بأقرب مذكور، ويؤيد هذا الوجه قوله قبله:
لا يركنَنْ أحد إلى الإحجام
…
يوم الوغى متخوفا لحِمام5
فلقد أراني للرماح دَرِيئة
…
من عن يميني مرة وأمامي6
حتى خَضَبْتُ بما تحدّر من دمي
…
أكناف سَرْجي أو عنان لجامي7
فإن الخضاب بما تحدر من دمه دليل على أنه جُرح، وأيضا فحوى كلامه أن مراده أن يدل على أنه جرح لم يمت، إعلاما أن الإقدام غير علة للحمام، وحثا على الشجاعة وبغض الفرار
1 جذع البصيرة: بمعنى غير مجرب للأمور، وقارح الإقدام: بمعنى إقدام أصحاب السن القديمة، يقال:"فلان جذع: إذا كان حديث السن، وقارح: إذا كان قديما".
2 لأنه بقصد التمدح بذلك، وإنما يُتمدح بعكسه لا به.
3 على هذا يكون "جذع البصيرة قارح الإقدام" حالين من فاعل "انصرفت".
4 هذا جواب يجعل كلامه لا قلب فيه؛ لأنه قلب غير مقبول لما فيه من إيهام خلاف المراد، وقيل أيضا: إنه يريد تشبيه بصيرته بالجذع في عدم الاختلاط والتزلزل من الهول، وتشبيه إقدامه بالقارح في الصبر والاحتمال، وعلى هذا لا قلب أيضا.
5 الإحجام: التأخر، والوغى: الحرب، والحمام: الموت.
6 الدريئة: حلقة يتعلم عليها الطعن، شبه نفسه بها، وهي من الدرء بمعنى الدفع أو من الدرى بمعنى الختل، فتكون درية، بالياء المشددة.
7 أكناف السرج: جوانبه، والعنان: سير اللجام.
تمرينات على تخريج المسند إليه على خلاف مقتضى الظاهر:
تمرين 1:
بين ما يحتمل الالتفات والتجريد، وما يتعين فيه الالتفات مما يأتي:
1-
قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] .
2-
هل غادر الشعراء من متردم
…
أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
تمرين2:
1-
بين الالتفات في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1] ، ومن أي قسم من أقسام الالتفات هو؟
2-
هل يعد من الالتفات أو لا يعد قول الشاعر:
أأنت الهلالي الذي كنت مرة
…
سمعنا به والأرحبيّ المغلب؟
تمرين 3:
1-
من أي أنواع خلاف مقتضى الظاهر ما في قول الشاعر:
ومية أجمل الثَّقَلَين جِيدا
…
وسالفة وأحسنه قذالا؟
2-
هل يقبل القلب أو لا يقبل في قول الشاعر:
رأيت شيخا قد تحنى صلبه
…
يمشي فيقعس أو يكب فيعثر؟
تمرين4:
1-
من أي أنواع خلاف مقتضى الظاهر ما في قول الشاعر:
فرجي الخير وانتظري إيابي
…
إذا ما القارظ العنزي آبا؟
2-
هل يعد من القلب أو لا يعد ما في قول الشاعر:
وعذلت أهل العشق حتى ذقته
…
فعجبت كيف يموت من لا يعشق!!
تمرين5:
1-
من أي نوعي الأسلوب الحكيم ما في قول الشاعر:
وقالوا: قد صفت منا قلوب
…
نعم
…
صدقوا ولكن عن ودادي؟
2-
من أي أنواع الالتفات ما في قول الشاعر:
سألت نسيم أرضك حين وافى
…
وقلت: صف القوام ولا تُحاشي؟
تمرين6:
1-
من أي أنواع خلاف مقتضى الظاهر ما في قول الشاعر:
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا
…
فإن زمانكم زمن خميص؟
2-
متى يكون من خلاف مقتضى الظاهر ما في قول الشاعر:
نعم امرأ هَرِم لم تعر نائبة
…
إلا وكان لمرتاع بها وزرا؟
تمرين 7:
1-
بين ما في قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس: 78] من الخروج على مقتضى الظاهر.
2-
بين ما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] من الخروج على مقتضى الظاهر.
3-
بين ما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] من الخروج على مقتضى الظاهر.