المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بيان السلف للعلم والإخلاص فيه - بيان العلم الأصيل والمزاحم الدخيل

[عبد الكريم الحميد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌النية في العلم التي يصدّقها العمل

- ‌بيان السلف للعلم والإخلاص فيه

- ‌كتاب أبي حازم إلى الزهري

- ‌بعض كلام المتأخرين في العلم والتعليم الحادث

- ‌الاحتجاج بالوالدين

- ‌تأثير اللغة

- ‌خوف الكفار من رجوع الأمةإلى نهج نبيها الصافي

- ‌حقيقة العلوم الغربية

- ‌حب الرئاسة والشهرة

- ‌متفرقات

- ‌العلم الذي يستحق أن يسمى علماً

- ‌هل كمال النفس في مجرد العلم

- ‌العلوم غير الدينيةلا تعطي للنفس كمالاً

- ‌العلم الممدوح في الكتاب والسنة

- ‌قاعدة مهمة

- ‌الإسلام والعلم

- ‌الكنيسة

- ‌القول بأنه لا يوجد تعارض بين الإسلام والعلم

- ‌هل أصل العلوم التجريبيةمأخوذ من المسلمين

- ‌فرض الكفاية

- ‌شرف العلم تابع لشرف معلومه

- ‌القوّة

- ‌هل يحتاج المسلم إلى غير علم النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌علم المنطق

- ‌قوله تعالى: {تشابهت قلوبهم}

- ‌الانغماس في منهاج أهل الباطلوسلوك سبيلهم بدعوى الإصلاح

- ‌كل عمل لابد فيه من شرطين لقبوله

- ‌لو انقطع هدفك لطلبته منوجوه أخرى وزالت الدعوى

- ‌مرض تقليد المعظمين

- ‌إذا تخلينا خلفنا أهل الفساد

- ‌جملة القول

- ‌لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها

- ‌منهج السلف عدم التلطخ بالباطلمع القيام بالدعوة على الكمال

- ‌عوْدٌ لمسألة (الاحتجاج بالوالدين)

- ‌أقبح الرغبة طلب الدنيابعمل الآخرة

- ‌الاحتجاب بالعلم عن المعلوم

- ‌إطلاق اسم العلم والعلماء

- ‌علماء السلف وأهل الوقت

- ‌ميزان الإرادة في طلب العلم الشرعي

- ‌بعض الآثار

- ‌بعض ما قيل عن علوم الوقت

- ‌ميزان الاصطلاحات الحادثةفي المدح والذم

- ‌هل ما ظهر بعد الصحابة فضيلة

- ‌اعتياد سماع الباطل

- ‌رطانة الأعاجم

- ‌منظومة المنهج المسدد

الفصل: ‌بيان السلف للعلم والإخلاص فيه

‌بيان السلف للعلم والإخلاص فيه

عن سفيان بن عيينه قال: قالت أم طلْق لابنها طلْق: ما أحسن صوتَك بالقرآن فَلَيْتَه لا يكون عليك وبالاً يوم القيامة، فبكى حتى غُشِيَ عليه. إنتهى.

هكذا تكون مراقبة الإله بإخلاص القول والعمل، والخوف من الوقوع في الخطأ والزلل، إنه لا يكفي صوت جميل، لتلاوة التنزيل، فالشأن بالإخلاص للجليل، وفي زماننا يُظن أن تحصيل الشارات والمناصب كاف للزكاء شاهد بالتقى.

قالت ابنة أم حسّان الأسدية لسفيان الثوري: ياسفيان كفى بالمرء جهلاً أن يُعجب بعلمه، إنتهى.

يقولون: الإعجاب حجاب، وينشأ من اسْتكثار العمل واسْتحسانه جهلاً بمعرفة رب الأرباب، قال يحيى بن معاذ الرازي: عملٌ كالسّراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب.

ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيْهات أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أمَلَك، ما أجَلَّك لو بادرت أجلك، ما أقواك لوْ خالفت هواك.

ص: 8

قال الشافعي: إذا خِفْت على عملك العُجْب فاذكر رضى من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أيّ عقاب ترهب فمن فكّر في ذلك صَغُرَ عنده عمله. انتهى.

أقبل عيسى بن مريم عليه السلام على أصحابه ليلة رُفع فقال لهم: لا تأكلوا بكتاب الله فإنكم إن لم تفعلوا أقعدكم الله على منابر الحجر منها خير من الدنيا وما فيها، قال عبد الجبار: وهي المقاعد التي ذكر الله في القرآن: {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} (1) انتهى.

لقد أصبح الأكل بكتاب الله في زماننا هذا حِرْفة وصنعة وتجارة وبضاعة، ولم تكن على هذا القرون المفضلة ولذلك فارقنا عِزَّنا بمفارقة طريقهم، ومن ابتغى العز بغير القرآن أذله الله، وما نزل القرآن لِيُتأكّل به ويكون مفتاحاً من مفاتيح الدنيا.

قيل للإمام أحمد: إن ابن المبارك قيل له: كيف يُعرف العالِم الصادق؟ فقال: الذي يزهد في الدنيا ويُقبل على أمر الآخرة، فقال أحمد: نعم، هكذا ينبغي أن يكون، وكان أحمد ينكر على أهل العلم حب الدنيا والحرص عليها. (2) انتهى.

لقد صار العلم في زماننا من موجبات حب الدنيا والحرص عليها.

(1) الزهد لابن المبارك، ص507.

(2)

شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم لابن رجب، ص54.

ص: 9

قال الفضيل بن عياض: سُئل ابن المبارك: مَن الناس؟ قال: العلماء، قيل: فمن الملوك؟ قال: الزّهّاد.

قيل: فمن السّفلة؟ قال: الذي يأكل بدينه. انتهى.

ولقد أصبح الأكل بالدين في وقتنا فضيلة فيها يتنافس المتنافسون، والويل للمتخلف عن هذا الركب فهو عندهم خاسر مغبون.

قال أبو حازم: أدركنا العلماءَ والأمراءُ والسلاطينُ يأتون فيقفون على أبوابهم كالعبيد حتى إذا كان اليوم رأينا العلماء والفقهاء والعبّاد هم الذين يأتون للأمراء والأغنياء، فلما رأوا ذلك منهم ازْدَرَوْهُمْ واحتقروهم وقالوا: لوْلا أن الذي بأيدينا خير مما بأيديهم مافعلوا ذلك معنا. انتهى.

أنظر مايفعل أهل الوقت بالعلم.

وقال: إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفرّ بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من رَذَلَة الناس تعلموا ذلك العلم وأتوْا به إلى الأمراء فاسْتغنت به عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية فسقطوا وانتكسوا، ولوْ كان علماؤنا يصونون علمهم لم تزل الأمراء تهابهم. انتهى.

أنظر مانحن فيه وكيف انفتحت علوم على الأمة ما كانوا يعرفونها فشغلتهم عما خُلقوا له وأفسدت علمهم الحقيقي.

وقال: إذا كنت في زمان يُرضى فيه بالقول عن العمل فأنت في شَرّ

ص: 10

ناس وشَرّ زمان. انتهى.

تأمّل الامتحانات وأنه يُكتفى فيها بالقول عن العمل فليس العمل بشرط وإنما تحصل التزكية بتعبئة الأوراق.

قال مالك بن دينار: إذا تعلم العبد العلم ليعمل به كثر علمه وإذا تعلم لغير العمل زاده فجوراً وتكبّراً واحتقاراً للعامّة. انتهى.

أنظر كيف أصبح العلم اليوم حِرْفة وصَنْعة وتجارة.

وقال وهب بن منبه: إن للعلم طغياناً كطغيان المال.

وقال: قد أصبح علماؤنا يبذلون علمهم لأهل الدنيا لينالوها منهم فهانوا في أعينهم وزهدوا في علمهم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انتهى.

انظر نتائج الدنيا بالعلم.

وأقبل على عطاء الخراساني فقال: ويحك تحمل علمك إلى أبواب الملوك وأبناء الدنيا، تأتي من يغلق عنك بابه ويُظهر لك فقره ويُوَاري عنك غناه، وتَدَع من يفتح لك بابه ويُظهر لك غناه ويقول:{ادعوني استجب لكم} إرْض بالدون من الدنيا مع الحكمة ولا ترضى بالدون من الحكمة مع الدنيا، إذا كان يغنيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شيء يكفيك، إنما بطنك بحر من البحور وَوَاد من الأودية وليس يملأه إلا التراب. انتهى.

ص: 11

إنه متقرر عند السلف أن فساد العلم أن تُطلب به الدنيا لأن ذلك خلاف المراد منه.

وقال كعب الأحبار: يوشك أن تَرَوْا جُهال الناس يتباهوْن بالعلم ويتغايرون على التقدم به عند الأمراء كما يتغاير النساء على الرجال فذلك حظهم من علمهم. إنتهى.

سَمّاهم جهالاً مع مامعهم من العلم لِوَضْعهم العلم في غير موضعه.

قال سفيان الثوري: إذا فسد العلماء فمن يصلحهم؟ وفسادهم ميْلهم إلى الدنيا، وإذا جَرَّ الطبيب الداء إلى نفسه فكيف يداوي غيره؟ إنتهى.

الميْل إلى الدنيا داء العلماء فتأمل زماننا وكيف أن الأطباء يجرّون الداء إلى نفوسهم.

وكان يقول: لوْ علمتُ من الناس أنهم يريدون بالعلم وجه الله لأتيت إلى بيوتهم فعلمتهم ولكن يريدون به مجاراة الناس وأنْ يقولوا حدثنا سفيان. إنتهى.

وهذا فيه أن طلب الشهرة بالعلم يفسده، ولابد من الإخلاص في طلب العلم الشرعي.

وكان يقول: إنما يُطلب العلم ليتقي به وجه الله عز وجل فمن ثم فُضِّل على غيره ولوْلا ذلك لكان كسائر الأشياء. انتهى.

ص: 12

إذا طُلبت الدنيا بالعلم صار كأي فن من الفنون أوصَنْعة من الصنائع فلا يكون له فضل على غيره كما هو حاصل.

ونصح سفيان يوماً إنساناً رآه في خدمة الولاة، فقال: ما أصنع بعيالي؟ فقال سفيان: ألا تسمعون إلى هذا يقول: إنه إذا عصى الله رزق عياله وإذا أطاع الله ضيّعهم، ثم قال: لا تقتدوا قط بصاحب عيال لا يسلم من التخليط وعذره دائماً في أكل الشبهات والحرام قوله عيالي. إنتهى.

يُقاس على هذا سائر المعاذير الزائفة مثل: كيف نترزق ومثل: لوْ تخلينا حصل كذا وكذا.

وقال: إذا رأيتم العالِم يلوذ بباب السلاطين فاعلموا أنه لِص، وإذا رأيتموه يلوذ بباب الأغنياء فاعلموا أنه مُرَاءٍ. انتهى.

لابد للعلم من الصيانة وإلا وقع الخلل بالديانة.

واليوم لا يحتاج العلماء للياذ بالأبواب فالأموال تأتيهم بدون ذلك وسُئل عن الغوْغاء فقال: هم الذين يطلبون بعلمهم الدنيا. انتهى.

ليُعلم أن أمور زماننا مخيفة ونحن مصابون مع عدم شعور بالمصيبة.

وقال: ولوْ أن أهل العلم أخلصوا فيه ما كان من عمل أفضل منه. انتهى.

كيف يتفق إخلاص في العلم مع طلب الدنيا والرئاسة؟

ص: 13

وقيل له: ألا تدخل على الولاة فتتحفّظ وتعظهم وتنهاهم؟ فقال: تأمروني أن أسبح في البحر ولا تبتلّ قدماي، إني أخاف أن يُرحّبوا بي فأميلُ إليهم فيحبط عملي. انتهى.

أنظر كيف خاف الميل إليهم مع التحفّظ والوعظ فما حال من ليس كذلك.؟

قال الفضيل بن عياض لسفيان بن عيينه لما أخذ من البرامكة: كنتم معاشر العلماء سُرُجاً للبلاد يُسْتضاء بكم فصرتم ظُلْمة، وكنتم نجوماً يُهْتدى بكم فصرتم حَيْرة.

أما يستحيي أحدكم من الله إذا أتى هؤلاء الأمراء وأخذ من مالهم وهو يعلم من أين أخذوه ثم يُسْند ظهره إلى محرابه ويقول: حدثني فلان عن فلان، فطأطأ سفيان رأسه وقال: نستغفر الله ونتوب إليه.

وكان الفضيل يقول: عالِم الآخرة علمه مستور وعالم الدنيا علمه منشور فاتبعوا عالم الآخرة واحذروا عالم الدنيا أن تجالسوه فإن يفتنكم بغروره وزخرفته ودَعْواه العلم من غير عمل، والعالِم مَن صَدَق. انتهى

أنظر في وقتنا الشارات التي يسعون لها والرموز وأن ذلك هو معنى قوله: (علمه منشور) وتأمل قوله عن عالم الدنيا: يفتنكم بغروره وزخرفته، وأن هذا مطابق في زماننا لمن ملئوا الأرض الذين جعلوا العلم وسيلة للدنيا وكم يزخرفون أقوالهم يغرون بها من ينتقدهم فيقولون:

ص: 14

نصلح، ولا ندع المجال للمفسدين، ونحو ذلك من الغرور والشبه التي هي ثمرة شهوة المال والرئاسة، فاتفقت شهوة بشبهة.

وكان يقول: لو أن أهل العلم زهدوا في الدنيا لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقادت الناس لهم، ولكن بذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك مما في أيديهم فذلّوا وهانوا على الناس. انتهى

أنظر كيف يأتي الذل والهوان إذا بُذِل العلم لأجل الدنيا فقط، كيف مع التخليط والتخبيط.

وقال: ومن علامة الزهاد أن يفرحوا إذا وُصِفوا بالجهل عند الأمراء ومَنْ دَاناهم.

أنظر انعكاس الأحوال وكيف يعرضون شاراتهم ورموزهم بالعلم عرضاً على من يطمعون بحصول الدنيا والمناصب عندهم.

وقال: لأَنْ أطلب الدنيا بطبل ومزمار أحبُّ إليّ من أطلبها بالعبادة. إنتهى

من المعلوم أن العلم عبادة وانظر كيف تُطلب به الدنيا.

قال عبد الله بن المبارك: مِنْ شرط العالم أن لا تخطر محبة الدنيا على بالِه.

وقيل له: مَن سفلة الناس؟ قال: الذين يتعيّشون بدينهم.

ص: 15

وكان يقول: كيف يدّعي رجل أنه أكثر علماً وهو أقَلّ خوفاً وزهداً.

تأمل رحيل الخوف ممن يدّعون العلم إلا ماشاء الله، أما الزهد فلا تسأل عنه في زماننا.

فقد أصبح رواية بل صار عند كثيرين منقصة ومهزلة.

وكان يتمثل بهذه الأبيات:

وهل أفسد الدين إلا الملوك

لقد رَتع القوم في جيفة

وأحبار سوء ورهبانها

يبين لِذى اللبّ أنتانها

وكان يقول: عجبت لطالب العلم كيف تدعوه نفسه إلى حب الدنيا مع إيمانه بما حمله من العلم.

وكان يقول: أطلبو العلم للعمل فإن أكثر الناس قد خلّطوا حتى صار علمهم كالجبال وأعمالهم كالذّر.

قال بشر بن الحارث: طلب العلم يدل على الهرب من الدنيا لا على حبها.

تأمل علم الوقت كيف يدل على التنافس على الدنيا وتحصيلها لا على الهرب منها.

ص: 16

وقال بشر بن الحارث: كان العلماء مَوْصوفون بثلاثة أشياء، صدق اللسان وطيب المطعم وكثرة الزهد في الدنيا، وأنا لا أعرف اليوم واحداً من هؤلاء فيه واحدة من هذه الخصال فكيف أعْبَأُ بهم أوْ أبُشُّ في وجوههم، وكيف يَدّعي هؤلاء العلم وهم يتغايرون على الدنيا ويتحاسدون عليها ويجرحون أقرانهم عند الأمراء ويغتابونهم.

كل ذلك خوفاً أن يميلوا إلى غيرهم بِسُحْتِهِمْ وحطامهم، وَيْحكم ياعلماء أنتم ورثة الأنبياء وإنما ورّثوكم العلم فحملتموه ورغبتم عن العمل به وجعلتم علمكم حِرْفه تكسبون بها معاشكم أفلا تخافون أن تكونوا أول من تسعّر به النار؟

أنظر قوله: وجعلتم علمكم حرفة تكسبون بها معاشكم، أفلا تخافون أن تكونوا أول من تُسعّر به النار وتأمل وقتنا وكيف صار العلم فيه حِرْفة يُكسب بها المعاش.

قال ذو النون المصري: ولولا نقص دخل على أهل الحديث والفقه لكانوا أفضل الناس في زمانهم.

ألا تراهم بذلوا علمهم لأهل الدنيا يستجلبون به دنياهم فحجبوهم وأنكروا عليهم وافتتنوا بالدنيا لِما رَأوْا من حِرص أهل الحديث والمتفقهن عليها فخانوا الله ورسوله، وصار إثم كل من اتبعهم في عنقهم، جعلوا العلم فخّاً للدنيا وسلاحاً يكسبون به بعد أن كان سراجاً للدين يُسْتضاء

ص: 17

به. انتهى.

أنظر وتأمل أن العلم هو السراج للدين فإذا صار سلاحاً لكسب الدنيا وفخاً تُصاد به صار ذلك خيانة لله ولرسوله، وتأمل ضرر الاقتداء بهم واتباعهم في ذلك، ولأن الإستدلال بالفعل أقوى من الإستدلال بالقول فإن الطبيب إذا أمَرَ بالحمْية ثم خلّط لم يُلتفت إلى قوله، هكذا قال العلماء.

وقال: العجب كل العجب من هؤلاء العلماء كيف خضعوا للمخلوقين دون الخالق وهم يدّعون أنهم أعلى درجة من جميع الخلائق. انتهى

قال يحيى بن معاذ الرازي: من لم ينتفع بأفعال شيخه لم ينتفع بأقواله.

وقال محمد بن خفيف: عليك بمن يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله.

ولذلك يقال: إذا زل العالِم زَلّ بزلته عالَم.

قال ابن رجب: واعلم أنه إنما أهلك أهل العلم وأوْجب إساءة ظن الجهال بهم وتقديم جهال المتعبدين عليهم مادخل عليهم من الطمع في الدنيا، وقد رأى علي رضي الله عنه رجلاً يقصّ، فقال له: لأسألنك مسألة فإن خرجت منها وإلا علوّتك بالدرّة، فقال له: سَلْ يا أمير

ص: 18

المؤمنين، فقال: ما ثبات الدين وزواله؟ فقال له: ثبات الدين الورَع وزوَاله الطمع، فقال له: قُص فمثلك يقص. (1)

قال سري السقطي: كيف يستنير قلب الفقير وهو يأكل من مال مَن يَغُشّ في معاملته. انتهى

المراد بالفقير هنا السالك إلى الله إذْ أن أهمّ شيء ينبغي أن يهتم به هو النظر في مَأْكَله فمدار استنارة القلب وطمأنينته عليه، ولقد كان اهتمام السلف بذلك كبير، ورعايتهم له عظيمة.

قال ذو النون المصري للعلماء: أدْركنا الناس وأحدهم كلما ازداد علماً ازداد في الدنيا زهداً وبغضاً وأنتم اليوم كلما ازداد أحدكم علماً ازداد للدنيا حبا وطلباً ومزاحمة. انتهى

وإن أمر زماننا مكشوف لا يحتاج إلى بيان حيث انعكس الأمر عما كان عليه السلف، ولذلك قَلَّ تأثير العلم في القلوب.

وقال ذو النون المصري للعلماء: أدركناهم وهم ينفقون الأموال في تحصيل العلم وأنتم اليوم تنفقون العلم في تحصيل المال. انتهى

إن مثل هؤلاء كمن يسْتبدل بَعْرة بِدُرَّة، بل أعظم من ذلك، فالعلم إذا أُنفق لتحصيل المال والرياسة صار كَوَادٍ أُجْرِيَ في غير مجراه الذي يُنتفع به فأهلك الحرث وهدم البناء.

(1) شرح حديث أبي الدرداء، ص54.

ص: 19

وقال: والله لقد أدركت أقواماً فساقاً كانوا أشدّ إبقاءاً على مروءاتهم من قراء أهل هذا الزمان على أدْيانهم.

وقال: ليس بعاقل من تعلم العلم فعُرِفَ به ثم آثر بعد ذلك هواه على علمه. انتهى

إيثار الهوى طلب الدنيا بالعلم والدين لأن العلم والدين تُطلب بهما الآخرة.

وقال عن العلماء: واتخذوا العلم شبكة يصطادون بها الدنيا. انتهى

إنه مُتقرّر عند السلف قبح هذا الفعل.

وقال بعضهم: علماء السوء أضر على الناس من إبليس لأن إبليس إذا وسْوس للمؤمن عرف المؤمن أنه عدو مضل مبين فأخذ في التوبة من ذنبه واستغفر.

وعلماء السوء يفتون الناس بالباطل ويزيدون الأحكام على وِفْق الأغراض والأهواء بزيغهم وجدالهم.

فمن أطاع كان من {الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} . فاستعذ بالله منهم واجتنبهم وكن مع العلماء الصادقين. إنتهى.

وأين السلف مما نحن فيه اليوم من جَرّاء علماء السوء وما أحدثوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولقد صار تقليدهم والإغترار بهم فتنة

ص: 20

لكل مفتون.

قال جعفر الصادق: الفقهاء أُمَناء الرسل مالم يأتوا أبواب السلاطين. انتهى.

قال أبو رزين: مثل قراء هذا الزمان مثل درهم زيْف حتى يمرّ بالجهبذ فيبدو زَيْفَه. انتهى

قال الحسن البصري: الطمع يشين العالِم، وكان يحلف بالله: ما أعَزّ أحد الدرهم إلا أذَلّة الله. انتهى

العجب أننا نسير دون أن ننظر مَوَاقِع اقدامنا.

قال بعض السلف:

علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم فلو كان مادعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاّء وفي الحقيقة قطاع طريق. انتهى.

السّرّ في ذلك أن المطلوب من العالِم أن يكون عاملاً بالعلم ليصلح به الاقتداء ويحصل به الاهتداء.

قال ميمون بن مهران: يا أصحاب القرآن لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسون به الربح في الدنيا أطلبو الدنيا بالدنيا والآخرة بالآخرة. انتهى

قال أبو بكر الآجري في صفة العالِم أنه لا يطلب بعلمه شرف منزلة

ص: 21

عند الملوك ولا يحمله إليهم صائن للعلم إلا عن أهله ولا يأخذ على العلم ثمنا ولا يستقضي الحوائج.

من (أخلاق العلماء) ص71

[لَقِيَ عبد الله بن سلام كعب الأحبار عند عمر فقال: ياكعب من أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون به.

قال ما يَذهب بالعلم من قلوب العلماء بعد أن حفظوه وعقلوه؟ قال: يذهبه الطمع وشَرَه النفس وتطلّب الحاجات إلى الناس، قال: صدقت].

قال أبو العالية: علِّم مجاناً كما عُلِّمتَ مجاناً.

قال بعض العلماء: العلم محجة فإذا طلبته لغير الله صار حجة.

قال الإمام أحمد: لا يُطلب العلم ممن يأخذ عليه أجرا.

سُئل إسحاق بن راهويه عمن يحدّث بالأجر؟

قال: لا تكتب عنه. (1)

قال محمد بن خلف بن المرزبان في الحارث بن محمد لما أخذ على تعليم الحديث.

أبلغ الحارث المحدِّث قولاً

ويْكَ قد كنت تعْتزي سالف الدهـ

وكتبت الحديث عن سائر النا

عن يزيد والواقدي ورَوْحٍ

ثم صَنّفت من أحاديث سفيا

وعن ابن الميدني فمازلْـ

أفَعَنْهم أخذت بيعك للعلـ

سَوْءةً سَوْءةً لشيخ قديم

فهو كالقَفْر في المعيشة يُبْساً

عن أخ صادق شديد المحبه

ر قديماً إلى قبائل ضَبّه

(1) سير أعلام النبلا 11/ 369.

ص: 22

س وحَاذْيت في اللقاء ابنَ شًبّه

وابن سعدٍ والقعنبي وهُدْبَه

نَ وعن مالك ومْسند شعبه

ت قديماً تبثّ في الناس كُتْبه

م وإيثار من يزيدكَ حَبَّه

ملَك الحرص والضراعة قلبه

وأمانيه بَعْدَ تسعين رَطْبه

كتب أحمد بن حنبل إلى سعيد بن يعقوب، أما بعد:

فإن الدنيا داء والسلطان داء والعالِم طبيب، فإذا رأيت الطبيب يجر الداء إلى نفسه فاحذره، والسلام عليك. انتهى

قال معاذ رضي الله عنه: إحذروا زلة العالِم لأن قدْره عند الناس عظيم فيتبعوه على زلته.

قال وهب بن منبه: كان العلماء قبلنا استغنْوا بعلمهم عن دنيا غيرهم فكانوا لا يلتفتون إلى دنياهم فكان أهل الدنيا يبذلون لهم دنياهم رغبة في علمهم فأصبح أهل العلم منا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في دنياهم، فأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لِمَا رأوْا من سوء موْضعه عندهم فإياك وأبواب السلاطين فإن عند أبوابهم فتناً كمبارك الإبل لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك مثله. انتهى

ص: 23

ولابد من ملاحظة الفرق بين حالنا وحال السلف، فإذا كان ذلك في أوقاتهم ففي وقتنا كل شيء تغيّر إلى سوء فالفرق بيننا وبينهم عظيم فالمحذور أشد.

عن وهب بن منبه قال: قال: يقول الله عز وجل فيما يعاتب به أحبار بني إسرائيل: تفقّهون لغير الدين، وتعلّمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة، تلبسون جلود الضأن، وتُخْفون أنفس الذئاب، وتتقون القذى من شرابكم، وتبتلعون أمثال الجبال، تطيلون الصلاة وتبيضون الثياب، تنتقصون مال اليتيم والأرملة، فبعزتي حلفت لأضربنكم بفتنة يَضل فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم. (1)

قال شميط بن عجلان: يعْمد أحدهم فيقرأ القرآن ويطلب العلم حتى إذا علم أخذ الدنيا فضمها إلى صدره وحملها فوق رأسه، فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة وأعرابي جاهل وأعجمي فقالوا: هذا أعلم بالله منا لوْ لم يَرَ في الدنيا ذخيرة مافعل هذا فرغبوا في الدنيا وجمعوها، فمثله كمثل الذي قال الله عز وجل:{ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} . انتهى. (2)

قال مطرف بن عبد الله: إن أقبح ما طُلب به الدنيا عمل

(1) أخلاق العلماء، ص105.

(2)

الزهد للإمام أحمد، ص 217 - 218.

ص: 24

الآخرة. انتهى

وكتب رجل إلى أخ له: إنك قد أُوتيت علماً فلا تُطْفِيَنَّ علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم.

قال بعض العلماء يصف من يطلب الدنيا بالعلم والدين: وضعوا مفاتيح الدنيا على الدنيا فلم تنفتح فوضعوا عليها مفاتيح الآخرة فانفتحت. انتهى

إن أمر زماننا مكشوف ولكن الرغبات تستر العيوب كما أن حب الشيء يُعْمي ويُصم.

قال عبد الرحمن بن القاسم: ليس في قرب الولاة ولا في الدنو منهم خير. (1)

قال الطحاوي: بلغني عن ابن القاسم قال: ما أعلم في فلان عيباً إلا دخوله إلى الحكام، ألَا اشتغل بنفسه.

قال مالك بن دينار: إن العالِم الذي إذا أتيتَه في بيته فلم تجده قَصَّ عليك بيته، رأيتَ حصيرة الصلاة ومصحفه ومطهرته في جانب البيت ترى أثر الآخرة. انتهى

كان الفضيل بن عياض يقول: إحذروا عالِم الدنيا لا يصدّكم بِسُكْره.

(1) سير أعلام النبلاء 9/ 121.

ص: 25

ويقول: إن كثيراً من علمائكم زِيّه أشْبَه بِزِيِّ كسرى وقيصر منه بمحمد صلى الله عليه وسلم، إن محمداً لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ولكن رُفِعَ له عَلَم فشمّر إليه. انتهى، كيف لوْ رأى الفضيل ما نحن فيه.

وكان يقول: العلماء كثير والحكماء قليل وإنما يُراد من العلم الحكمة، فمن أوتيَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وهكذا كان حال الربانيين كالحسن وسفيان وأحمد إجْتزؤا من الدنيا باليسير إلى أن خرجوا منها ولم يُخَلِّفوا سوى العلم. انتهى

ولذلك صار لهم الذكر الجميل والثناء الحسن.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: لا عَيْبَ في العلماء أقبح من رغبتهم فيما زَهَّدَهُمْ الله فيه. انتهى

ومعلوم أن الله زَهّدَهم في الدنيا وهذا من أقبح عيوب العالِم.

[قال سفيان الثوري: (تعوذوا بالله من قتنة العابد الجاهل وفتنة العالم الفاجر فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون). (1)

قال مكحول: إنه لا يأتي على الناس ما يوعدون حتى يكون عالمِهُم أنتن من جيفة حمار]. (2)

(1) أخلاف العلماء، ص103.

(2)

أخلاق العلماء، ص104.

ص: 26

قال الأوزاعي: ويل للمتفقهين لغير العباده والمستحلين الحرمات بالشبهات. انتهى

قال علي رضي الله عنه: قَصَمَ ظهري رجلان: عالم متهتّك وجاهل متنسك، فالجاهل يغرّ الناس بتنسّكه والعالم يغرّهم بتهتّكه.

قال الفضيل بن عياض: إنما هما عالمان، عالم دنيا وعالم آخره، فعالم الدنيا علمه منشور وعالم الآخرة علمه مستور فاتبعوا عالم الآخرة واحذروا عالم الدنيا لايصدنكم، ثم تلا هذه الآية:(إن كثيراً من الأجبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله).

قال عبد الله بن مسعود: (لوْ أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله سادوا به أهل زمانهم ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا من دنياهم فهانوا على أهلها سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (من جعل الهموم هماً واحداً همّ آخرته كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعّبت به هموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أيّ أوديتها هلك). (1)

قال مالك بن دينار: إنكم في زمان أشهب لايبصر زمانكم إلا البصير، إنكم في زمان قد انتفخت ألسنتهم في أفواهم وطلبوا الدنيا بعمل الآخرة فاحذروهم على أنفسكم لا يوقعونكم في شبكاتهم، ياعالم أنت عالم تأكل بعلمك، ياعالم أنت عالم تفخر بعلمك، ياعالم أنت عالم تكاثر

(1) أخرجه ابن ماجه.

ص: 27

بعلمك، يا عالم أنت عالم تستطيل بعلمك، لوْ كان هذا العلم طلبته لله لرئي ذلك فيك وفي عملك. انتهى

قال أبو حازم: لقد أتَتْ علينا برهة من دهرنا وما عالم يطلب أميراً، وكان الرجل إذا عَلِم اكتفى بالعلم عما سواه، فكان في ذلك صلاح للفريقين للوالي والمولّى عليه، فلما رأت الأمراء أن العلماء قدْ غَشَوْهُمْ وجالسوهم وسألوهم مافي أيديهم هانوا عليهم وتركوا الأخذ عنهم والاقتباس منهم، فكان في ذلك هلاك الفريقين. انتهى

قال حبيب بن عبيد الرحبي: تعلموا العلم واعقلوه وانتفعوا به ولا تعلّموه لِتتجملوا به، إنه يوشك إن طال بك العمر أن يُتجمل بالعلم كما يَتجمل الرجل بثوبه. (1) انتهى

تأمل شارات الزمان وكيف يُتجمل بها وكيف ينطبق هذا الكلام على زماننا.

قال أبو بكر الآجري في صفة من لم ينتفع بالعلم: إذا رغبت نفسه في الشرف والمنزلة وأحب مجالسة الملوك وأبناء الدنيا فأحب أن يشاركهم فيما هم فيه من رَاخِي عيشهم من منزل بَهيّ ومركب هنيّ، وخادم سريّ ولباس ليّن، وفراش ناعم، وطعام شهي، وأحب أن يُغشى بابَه ويُسمع قولُه ويُطاع أمرُه. إلى آخره.

(1) أخلاق العلماء، ص116.

ص: 28

قال أبو حازم سلمة بن دينار: لا تكون عالماً حتى يكون فيك ثلاث خصال.

لا تبغ على من فوقك.

ولا تحقر من دونك.

ولا تأخذ على علمك دنيا. انتهى.

وقال: إن خير الأمراء من أحب العلماء وإن شر العلماء من أحب الأمراء، وإنه كان فيما مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا أعطوهم لم يقبلوا منهم، وإذا سألوهم لم يُرخصوا لهم.

وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم فيسألونهم فكان في ذلك صلاح للأمراء وصلاح للعلماء.

فلما رأى ذلك ناس من الناس قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى نكون مثل هؤلاء، فطلبوا العلم فأتوا الأمراء فحدثوهم فرخصوا لهم وأعطوهم فقبلوا منهم فجرؤت الأمراء على العلماء وجرؤت العلماء على الأمراء.

وقال: كنتَ ترى حامل القرآن في خمسين رجلاً فتعرفه قد مَصَعَهُ القرآن (1) وأدركتُ القراء الذين هم القراء، فأما اليوم فليسوا بقراء ولكنهم خُرّاء.

(1) مصعه: أي أصابه الهزال من خشيته وخوفه.

ص: 29

وخرج في الصائفة (1) وفي مجلس من المجالس في الطريق بعث إليه الأمير: أن أئتنا حتى نسائلك وتحدثنا، فكتب إليه:

معاذ الله، أدركتُ أهل العلم لا يحملون الدين إلى أهل الدنيا، فلن أكون بأول من يفعل ذلك، فإن كان لك حاجة فأبْلغنا.

فجاء إليه وسأله واستمع منه ثم قال: لقد ازددت علينا بهذا كرامه.

قال أبو الحسن عبد العزيز الجرجاني:

ولوْ أن أهل العلم صانوه صانَهم

ولكن أهانوه فهانوا ودنّسوا

ولوْ عظموه في النفوس لعُظّما

محيّاه بالأطماع حتى تجهما

إذا كان محيّا العلم يتجهم بالأطماع فكيف بما نحن فيه؟

وقال أبو حازم: إذا كنت في زمان يُرضى فيه بالقول عن العمل فأنت في شر ناس وشر زمان. انتهى

إن علم الوقت يُرضى فيه بالقول عن العمل.

سُئل الحسن البصري عن عقوبة العالِم إذا آثر الدنيا؟ فقال: موت قلبه.

قال وهب بن منبه: كان في بني إسرائيل رجال أحداث الأسنان قد قرؤا الكتب وعلموا علماً وأنهم طلبوا بقراءتهم وعلمهم الشرف والمال وأنهم ابتدعوا بها بدعاً أدركوا بها المال والشرف فضلوا وأضلوا. (2)

(1) وهي السّريّة التي تخرج في الصيف لقتال العدو.

(2)

جامع بيان العلم وفضله، 1/ 144.

ص: 30

قال ابن القيم رحمه الله في الأفكار الرديئة وذَمِّها:

ومنها الفكر في الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال والتصاوير، ومنها الفكر في العلوم التي لوْ كانت صحيحة لم يُعط الفكر فيها النفس كمالاً ولا شرفاً كالفكر في دقائق المنطق والعلم الرياضي والطبيعي وأكثر علوم الفلاسفة التي لوْ بلغ الإنسان غايتها لم يكمل بذلك ولم يُزَكِّ نفسه. (1) انتهى

قال ابن رجب في ذكر سفيان الثوري: ولما مات رحمه الله قال بعض العلماء: معشر أهل الهوى كلوا الدنيا بالدين فقد مات سفيان [يعني مابقي بعده أحد يستحيا منه]. (2)

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا).

وذكر قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ماصنعوا فيها وباطل ماكانوا يعملون} .

ثم ذكر في أول المسائل: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة، وقد تفجرت بحور هذه الإرادات للدنيا بعلم الآخرة وعمل الآخرة، وفي هذا

(1) من الفوائد، ص198.

(2)

شرح حديث أبي الدرداء، ص52،53.

ص: 31

الكتاب مابعضه يكفي لبيان هذا الأمر.

خرج الحسن البصري من عند ابن هبيرة فإذا هو بالقراء على الباب، فقال: مايُجلسكم هاهنا تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء، أمَا والله ما مجالستهم بمجالسة الأبرار، تفرّقوا فرّق الله بين أرواحكم وأجسادكم، لقد لفحتم نعالكم وشمّرتم ثيابكم وجَزَزْتم شعوركم فضحتم القراء فضحكم الله.

أمَا والله لوْ زهدتم فيما عندهم لَرَغبوا فيما عندكم لكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم، أبْعد الله من أبْعد. انتهى

تأمل قوله: (أمَا والله لَوْ زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، لكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم).

إنه كلام حكيم ولقد أُصيبت الأمة بالمقاتل لما أُهمل نصف هذه العبارة الأول وصار العمل على النصف الثاني.

قال الأوزاعي: العلم ماجاء عن أصحاب محمد، وما لم يجيء عنهم فليس بعلم. انتهى

هذا وزن العلماء فلينظر المغرور في علمه هل جاء عن أصحاب محمد أم من أين جاء؟

وهل في علم لا يعرفونه خير اسْتأثر به دونهم؟.

ص: 32

قال شيخ الإسلام: إن العلوم المفضولة إذا زاحمت العلوم الفاضلة وأضعفتها فإنها تحرم. انتهى

وهذا إذا كان في علوم صحيحة لكنها مفضولة فكيف بعلوم فاسدة في نفسها؟.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربوا فيها الصغير ويهرم فيها الكبير إذا تُرك منها شيء قيل: تُرِكتْ السنة، فقيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: ذلك إذا ذهب علماؤكم، وقلّت فقهاؤكم والْتمست الدنيا بعمل الآخرة وتُفُقّهَ لغير الدين. انتهى

الْتماس الدنيا بعمل الآخرة والتفقه لغير الدين ليس أنه في زماننا لا يذم بل يُقارنه المدح.

وكلام ابن مسعود هذا بليغ وهو مطابق غاية المطابقة للفتن التي صارت سُنّة يجري الناس عليها وطريقاً يسيرون عليه ونهجاً ينتهجونه التحوّل عنه عندهم منكر قد اتفقوا على إنكاره.

عن أبي العالية في قوله تعالى: {ولا تشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً}

ص: 33

قال: لا تأخذ على ما عَلَّمْتَ أجراً فإنما أجر العلماء والحكما والحلماء على الله عز وجل وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة: يابن آدم عَلِّمْ مجانا كما عُلِّمْتَ مجانا. لفظ محمد بن أيوب.

ولفظ علي بن الجعد قال: مكتوب في الكتاب الأول ابن آدم عَلِّمْ مجانا كما عُلِّمْتَ مجانا. (1)

قال محمد بن صالح بن هانيء: سمعت إبراهيم بن محمد الصيدلاني يقول: كنت في مجلس إسحاق فسأله سلمة بن شبيب عمّن يحدث بالأجر؟ قال: لا تكتب عنه أخبرنا حكام بن سَلْم عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: مكتوب في الكتب. علِّم مجاناً كما عُلِّمْتَ مجانا. (2)

ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أنه قيل عن الضحاك بن مزاحم صاحب التفسير: كان فقيه مكتب كبير إلى الغاية فيه ثلاثة آلاف صبي فكان يركب حماراً ويدور على الصبيان.

قال سفيان الثوري: كان الضحاك يُعلّم ولا يأخذ أجرا. (3)

(1) الحلية 2/ 220.

(2)

سير أعلام النبلاء 11/ 369.

(3)

4/ 599.

ص: 34