الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب أبي حازم إلى الزهري
عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن ورحمك من النار فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك منها
…
إعلم أن أدنى ما ارتكبت وأعظم ما احتقبت أن أنست الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أُدنيت وإجابتك حين دُعيت فما أخلقك أن تبوء بإسمك غداً مع الجرمه، وأن تُسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة، إنك أخذت ماليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لا يرد على أحد حقا ولا ترك باطلاً حين أدناك، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك، جعلوك قطباً تدور رحى باطلهم عليك، وجسراً يعبرون بك إلى بلائهم، وسُلّماً إلى ضلالهم، وداعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يُدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ماخربوا عليك، وما أقل ما أعطوك في كثير ما أخذوا منك.
أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك وبقيت بعدهم كقرن أعضب، فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به أو دخلوا في مثل ما دخلت فيه؟ وهل تراه ادّخر لك خيراً منعوه، أو علمك شيئاً جهلوه، بل جهلت ما ابتليت به من حالك في صدور العامة وكَلَفَهم بك أن صاروا يقتدون
برأيك ويعملون بأمرك إن أحللت أحلوا وإن حرمت حرموا، وليس ذلك عندك ولكنه إكبابهم عليك ورغبتهم فيما في يديك ذهاب عملهم وغلبة الجهل عليك وعليهم وطلب حب الرياسة وطلب الدنيا منك ومنهم، أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغِرَّه، وما الناس فيه من البلاء والفتنة، ابتليتهم بالشغل عن مكاسبهم وفتنتهم بما رأوا من أثر العلم عليك وتاقت أنفسهم أن يدركوا بالعلم ما أدركت، وبلغوا منه مثل الذي بلغت، فوقعوا بك في بحر لا يدرك قعره، وفي بلاء لا يقدر قدره، فالله لنا ولك ولهم المستعان.
فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك ورسوخ علمك وحضور أجلك فمن يلوم الحدِث في سِنّه والجاهل في علمه المأفون في رأيه المدخول في عقله.
إنا لله وإنا إليه راجعون، على من المعول وعند من المستعتب نحتسب عند الله مصيبتنا ونشكو إليه بثنا وما نرى منك ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. (1)
أرسل بعض الأمراء إلى أبي حازم فأتاه وعنده الإفريقي والزهري وغيرهما فقال له: تكلم يا أبا حازم، فقال أبو حازم: إن خير الأمراء من أحب العلماء، وإن شرّ العلماء من أحب الأمراء، وإنه كان فيما
(1) الحلية، ج3، ص249.
مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا أعطوهم لم يقبلوا منهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم، وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم فيسألونهم فكان في ذلك صلاح للأمراء وصلاح للعلماء فلما رأى ذلك ناس من الناس قالوا: مالنا لا نطلب العلم حتى نكون مثل هؤلاء فطلبوا العلم فأتوا الأمراء فحدثوهم فرخصوا لهم وأعطوهم فقبلوا منهم فجرئت الأمراء على العلماء وجرئت العلماء على الأمراء. (1)
قال وهب بن منبه لعطاء الخُراساني: كان العلماء قبلنا قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم فكانوا لا يلتفتون إليها وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم في علمهم فأصبح أهل العلم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في دنياهم وأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علْمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم. (2)
(1) الحلية 3/ 243.
(2)
سير أعلام النبلاء 4/ 549.