المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدليل الثالث عشر: اكتفاء جمع من الأئمة بالمعاصرة: - إجماع المحدثين

[حاتم العوني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌المسألة الأولى: تحرير شَرْطِ البخاري (المنسوب إليه) ، وشَرْطِ مسلم، وشَرْطِ أبي المظفّرِ السمعاني‌‌أولاً: تحرير الشرط المنسوب إلى البخاري:

- ‌أولاً: تحرير الشرط المنسوب إلى البخاري:

- ‌ثانيًا: تحرير شرط مسلم:

- ‌ملاحظة:

- ‌ثالثًا: تحريرُ شَرْطِ أبي المُظَفَّر السمعاني (ت 489ه

- ‌المسألة الثانية: نسبة القول باشتراط العلم بالسماع إلى البخاري: تاريخُها، ودليلُها، ومناقشة الدليل

- ‌المسألة الثالثة: الأدلّة على بطلان نسبة اشتراط العلم باللقاء إلى البخاري وغيره من العلماء

- ‌الدليل العاشر: صحيح البخاري نَفْسُه

- ‌الدليل الثاني عشر: اكتفاء البخاري بالمعاصرة، في نصوص صريحةٍ عنه

- ‌الدليل الثالث عشر: اكتفاءُ جمعٍ من الأئمة بالمعاصرة:

- ‌المسألة الرابعة: بيَانُ صَوَابِ مَذْهَبِ مُسْلِمٍ وقُوّةِ حُجّتِهِ فيه

- ‌المسألة الخامسة: أثر تحرير شرط الحديث المعنعن على السنة

- ‌المسألة السادسة: الردُّ على آخر شُبْهَتَيْنِ

- ‌الشُّبْهَةُ الأُولى:

- ‌ الشُّبْهَةُ الثانية

- ‌فهرس المصادر والمراجع

- ‌دليل الموضوعات

الفصل: ‌الدليل الثالث عشر: اكتفاء جمع من الأئمة بالمعاصرة:

ومن كان ابن خمس عشرة سنة في سنةِ خمسين، فإن مولده سيكون في أقل الأحوال سنة (35هـ) .

ومَن وُلد سنة (35هـ) لا يُنكر أن يكون سمع من عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما، اللذين توفِّيا سنة (57هـ) . . كما قال الإمام البخاري.

فانظر: إلى هذا الأسلوب البديع والطريقة الذكيّة لإثبات المعاصرة، كل ذلك من أجل الحكم بالاتّصال والسماع!

فهل مَنْ كان لا يقبل إلا النصَّ الدالّ على السماع، سيقوم بمثل هذا التنبيش الدقيق، وبمثل هذا الاستنباط الخفي، لإثبات المعاصرة فقط؟! فما فائدة كل ذلك الجُهد والتفكير العميق إذن؟!

لقد صَرّح البخاري بالفائدة عندما قال: ((ولا ننكر أن يكون سمع منهما: لأن بين موت عائشة والأحنف قريبٌ من اثنتي عشرة سنة)) .

وسيأتي في الدليل الرابع عشر والخامس عشر ما يعزّزُ أن البخاري (وجميع الأئمة) لا بُدّ أن يكونوا مكتفين بالمعاصرة على مذهب الإمام مسلم، وهو المذهب الذي نقل مسلمٌ عليه الإجماع!!

فانظر ذينك الدليلين.

‌الدليل الثالث عشر: اكتفاءُ جمعٍ من الأئمة بالمعاصرة:

وأنا إذْ أحتجّ بهذا الدليل، لا أحتجّ به ابتداءً على نفي نسبة ذلك الشرط إلى البخاري، ولكني أحتج به للتأكيد على أن الاكتفاء بالمعاصرة

ص: 134

إجماعٌ كما نقله مسلم وغيره. ثم إنه إذا كان إجماعًا، صحّ الاستدلال به على نفي نسبة ذلك الشرط إلى البخاري!!!

أولاً: علي بن المديني:

ولعلي بن المديني ولرأيه من هذه المسألة أهمية خاصّة، لأنه أحدُ من زُعم أنه المقصود بالردّ في كلام مسلم، بل رجّح بعضهم أنه وحده المقصود بالرد.

* قال علي بن المديني في (العلل) : ((زياد بن عِلاقة لقي سعد بن أبي وقاص عندي، كان كبيرًا، قد لقي عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقي المغيرة بن شعبة وجرير بن عبد الله. . .)) (1) .

مع أن أبا زرعة والإمام أحمد نفيا سماعه من سعد.

* وقال في (العلل) : ((قد لقي عطاء بن يزيد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لقي أبا أيوب وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وتميمًا الداري وأبا شريح الخزاعي، ولا ننكر أن يكون سمع من أبي أَسِيْد)) (2) .

* ونقل ابن عساكر في ترجمة صفوان بن مُعَطِّل من (تاريخ دمشق) : عن علي بن المديني أنه قال: ((أبوبكر بن عبد الرحمن أحد العشرة الفقهاء، وهو قديم، لقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أنكر أن يكون سمع من صفوان بن معطل)) (3) .

(1) العلل لعلي بن المديني (67 رقم 92) .

(2)

العلل لابن المديني (68 رقم 96) .

(3)

تاريخ دمشق لابن عساكر (8/ 346) .

ص: 135

ثانيًا: الإمام أحمد:

* قال عبد الله بن الإمام أحمد في (العلل) : ((قتادة سمع من عبد الله بن سَرْجِس؟ قال: ما أَشْبَهَهُ، قد روى عنه عاصم الأحول)) (1) .

فهنا يحتج الإمام أحمد بسماع قرينٍ لقتادة من ابن سَرْجس، للدلالة على أن قتادة قد أدركه. ثم يثبت الإمام أحمد سماعه منه، كما يؤيده قوله في (العلل) وسئل:((سمع قتادة بن عبد الله بن سَرْجِس؟ قال: نعم)) (2) .

* وقال الإمام أحمد وسئل: ((هل سمع عَمرو بن دينار من سليمان اليشكري؟ قال: قُتل سليمان في فتنة ابن الزبير، وعَمرو رجل قديم، قد حدث شعبة عن عَمرو عن سليمان، وأراه قد سمع منه)) (3) .

* وفي (مسائل أبي داود للإمام أحمد) : ((قيل لأحمد: سمع الحسن من عمران؟ قال: ما أُنكره، ابن سيرين أصغر منه بعشر سنين سمع منه)) (4) .

* وفي (الإعلام بسنته عليه السلام لمغلطاي: ((سئل الإمام أحمد عن أبي ريحانة سمع من سفينة؟ فقال: ينبغي، هو قديم، سمع من ابن عمر)) (5) .

(1) العلل للإمام أحمد (رقم 4300) .

(2)

العلل للإمام أحمد (رقم 5264) .

(3)

العلل للإمام أحمد (رقم 5263) .

(4)

مسائل أبي داود للإمام أحمد (322) .

(5)

الإعلام بسُنّته لمغلطاي (1/ 2/ أ) .

ص: 136

ثالثًا: يحيى بن معين:

* سأل الدوريُّ ابنَ معين في (التاريخ) : ((ابن شبرمة يروي عن ابن سيرين؟ قال: دخل ابن سيرين الكوفة في وقت لم يكن ابن شبرمة، ولكن لعله سمع منه في الموسم)) (1) .

يقول ابن معين ذلك، لأن ابن سيرين لم يكن مكثرًا من الرواية عمن عاصره ولم يلقه.

* وسأله ابن الجنيد: ((حماد بن سلمة دخل الكوفة؟ قال: لا أعلمه دخل الكوفة. قلت: فمن أين لقي هؤلاء؟ قال: قدم عليهم عاصم، وحماد بن أبي سليمان، والحجاجُ بن أرطاة. قلت: فأين لقي سماك بن حرب؟ قال: عسى لقيه في بعض المواضع، ولو كان دخل الكوفة لأجادَ عنهم)) (2) .

رابعًا: أبو حاتم الرازي:

* قال أبو حاتم الرازي -كما في (العلل) لابنه-: ((يحتمل أن يكون أبو إدريس قد سمع عوف بن مالك الأشجعي والمغيرة بن شعبة، فإنه من قدماء تابعي الشام، وله إدراك حسن)) (3) .

* وقال -كما في (المراسيل) لابنه-: ((كنت أرى أن أبا حمزة السُّكري أدرك بكير بن الأخنس، حتى قيل لي: إن المراوزة يُدخلون

(1) التاريخ لابن معين (رقم 3988) .

(2)

سؤالات ابن الجنيد (رقم 760) .

(3)

العلل لابن أبي حاتم (رقم 82) .

ص: 137

بينهما: أيوبَ بنَ عائذ)) (1) .

فأبو حاتم كان يحكم بالاتصال، حتى علم بقرينةٍ تشهد لعدم السماع، وهي الواسطة. وهذا فِعْلُ من كان مكتفيًا بالمعاصرة، حتى جاءت قرينة تُشكِّكُ في اللقاء.

* وقال أبو حاتم: ((يُشبه أن يكون زيد بن أبي أُنيسة قد سمع من عبيد بن فيروز، لأنه من أهل بلده)) (2) .

خامسًا: أبو زرعة الرازي:

* سئل أبو زرعة -كما في (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم-: ((هل سمع المطلب بن عبد الله بن حنطب من عائشة؟ فقال: نرجو أن يكون سمع منها)) (3) .

فلو كان أبو زرعة يُقوِّي احتمالَ السماع بناءً على نصّ يدل عليه لما أجاب بهذا الجواب، ولقال: نعم قد سمع منها!

سادسًا: أبوبكر البزار:

* قال البزار: ((روى الحسن عن محمد بن مسلمة، ولا أُبعد سماعَه منه)) (4) .

(1) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 721) .

(2)

العلل لابن أبي حاتم (2/ 43) ، وانظر موقف الإمامين لخالد الدريس (484) .

(3)

الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/ 359) .

(4)

انظر: نصب الراية للزيلعي (1/ 90) .

ص: 138

فبيّنَ أبو حاتم الرازي سببَ تقريب البزار لسماع الحسن من محمد بن مسلمة، وقد سئل عن سماع الحسن من محمد بن مسلمة فقال:((قد أدركه)) (1) .

هذا مع أن إبراهيم الحربي قد نفى سماعه منه (2) .

سابعًا: ابن خزيمة:

* أخرج ابنُ خزيمة في (التوحيد) حديثًا، مُصَحِّحًا له بذلك، من طريق مسلم بن جندب عن حكيم بن حزام بالعنعنة، ثم قال:((مسلم بن جندب قد سمع من ابن عمر، وقال: أمرني ابن عمر أن أشتري له بَدَنَة، فلستُ أنكر أن يكون قد سمع من حكيم بن حزام)) (3) .

ولا ينافي ذلك أن ابن خزيمة قد أعلّ بعض الأحاديث بعبارات نفي العلم بالسماع (4) ، كما لم يُنَافِ ذلك أن يفعل ذلك الأئمةُ السابقُ ذكرهم والآتُون، بل كما لم يُنَافِ ذلك أن يعلّ مسلمٌ بعضَ الأحاديث بذلك!!!

ثامنًا: ابن حبان:

لقد صَرّح ابنُ رجب بأن ابن حبان على مذهب مسلم (5) ، فليس في إيراد الأمثلة التالية إلا التأكيد على صحّة هذه النسبة.

(1) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 150) .

(2)

إكمال تهذيب الكمال لمغلطاي (155/ب) .

(3)

التوحيد لابن خزيمة (1/ 156 رقم 85، 86) .

(4)

انظر التوحيد لابن خزيمة (2/ 678، 890) .

(5)

شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 588)، وانظر: موقف الإمامين لخالد الدريس (462- 463) .

ص: 139

ومن هذه الأمثلة:

* قال ابن حبان في صحيحه: ((وزيد بن أسلم سمع جابر بن عبد الله، لأن جابرًا مات سنة تسع وسبعين، ومات أسلم مولى عمر في إمارة معاوية سنة بضع وخمسين، وصلّى عليه مروان بن الحكم، وكان مروان على المدينة إذ ذاك، فهذا يدلُّكَ على أنه سمع جابرًا وهو كبير. ومات زيد بن أسلم سنة ستٍّ وثلاثين ومائة، وقد عُمِّر)) (1) .

وهو يعني بذلك: أن آخر سنةٍ يمكن أن يكون وُلد بها زيدٌ هي نحو سنة (55هـ) ، وجابر بن عبد الله توفي -كما ذكر ابن حبان- سنة (79هـ) ، فيكون زيد قد أدرك من حياة جابر أربعًا وعشرين سنة.

* وأخرج ابن حبان في صحيحه حديثًا لعبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب الرومي رضي الله عنه، ثم قال:((مات صهيبٌ سنة ثمانٍ وثلاثين في رجب، في خلافة علي رضي الله عنه، ووُلد عبد الرحمن بن أبي ليلى لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه)(2) .

* وأخرج في صحيحه من حديث هاشم بن عبد الله بن الزبير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مُؤَنْأنًا، ثم قال:((توفي عمر بن الخطاب وهاشم بن عبد الله بن الزبير ابنُ تسع سنين)) (3) .

* وأخرج حديثًا لعبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين، ثم قال: ((هذا إسنادٌ قد توهَّمَ من لم يُحكم صناعةَ الأخبار، ولا تفقّه في صحيح

(1) الإحسان (رقم 5418) .

(2)

الإحسان (رقم 1975) .

(3)

الإحسان (رقم 934) .

ص: 140

الآثار= أنه مُنفصلٌ غير متّصل، وليس كذلك، لأن عبد الله بن بريدة وُلد في السنة الثالثة من خلافة عمر بن الخطاب سنة خمس عشرة، هو وسليمان بن بريدة أخوه تَوْأم. فلما وقعت فتنة عثمان بالمدينة، خرج بريدةُ عنها بابنيه، وسكن البصرة، وبها إذ ذاك عمران بن حصين وسمرةُ ابن جندب، فسمع منهما. ومات عمران سنة اثنتين وخمسين في ولاية معاوية. ثم خرج بريدة بابنيه منها إلى سجستان، فأقام بها غازيًا مُدّة، ثم خرج منها إلى مرو طريق هراة، فلما دخلها وَطَنها. ومات سليمان ابن بريدة بمرو، وهو على القضاء بها، سنة خمس ومائة.

فهذا يَدُلُّكَ على أن عبد الله بن بُريدة سمع عمران بن حصين)) (1) .

* وأخرج في صحيحه لمجاهد عن عائشة رضي الله عنها، ثم قال:((ماتت عائشةُ سنة سبع وخمسين، ووُلد مجاهد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، فدَلَّكَ هذا على أن مَنْ زعم أن مجاهدًا لم يسمع من عائشة كان واهمًا في قوله ذلك)) (2) .

فإن قيل: لكن مجاهدًا قد ثبت عنه التصريح بالسماع من عائشة رضي الله عنها، قلنا: لكننا نحتجُّ بكلام ابن حبان واستدلاله على السماع بالمعاصرة، وهو إنما أخرج لمجاهد عن عائشة رضي الله عنها بالعنعنة.

ومع هذه الأقوال القويّة الدالة على اكتفاء ابن حبان بالمعاصرة، ومع نسبة ابن رجب ابنَ حبان إلى مذهب مسلم، إلا أن بعض الأفاضل احتجَّ بكلامٍ لابن حبان على أنه يشترط العلم باللقاء!

(1) الإحسان (رقم 2513) .

(2)

الإحسان (رقم 3021) .

ص: 141

فقد احتجّوا بما ذكره ابن حبان في ثقات أتباع أتباع التابعين، حيث ترجم لنافع بن يزيد المصري، ثم قال:((ولست أحفظ له سماعًا عن تابعي، فلذلك أدخلناه في هذه الطبقة. فأمّا رؤيتُه للتابعين فليس بمنكر، لكنّ اعتمادنا في هذا الكتاب في تقسيم هذه الطبقات الأربع على ما صحّ عندنا من لُقِيّ بعضهم بعضًا مع السماع. فأمّا عند وجود الإمكان وعدم العلم به، فهو لا نقول به)) (1) .

وأُرْدِفُ حجتهم بنقلٍ آخر عن ابن حبان لم يذكروه، حيث قال في نفس الطبقة، وفي ترجمة مفضل بن مهلهل السعدي:((لستُ أحفظ له عن تابعي سماعًا، فلذلك أدخلناه في هذه الطبقة، ولست أُنكر أن يكون سمع من أبي خالد والأعمش)) (2) .

فذهب المحتجّون بذاك النقل ونحوه أن ابن حبان لا يكتفي بإمكان اللقاء مع المعاصرة، وأنه يشترط العلم بالسماع.

لكن سياق كلام ابن حبان لا في الحكم بالاتّصال في حديث معيَّن أو في رواية راوٍ عن شيخ معيَّن، وإنما سياق كلامه في إدخال الراوي في طبقةٍ من الطبقات، والسياقان مختلفان تمامًا.

وبيانُ ذلك: أن إثبات كون الرجل من التابعين أو أتباعهم كإثبات كونه صحابيًّا، فكما لا يكفي في إثبات الصُّحبة مجرَّدُ المعاصرة واحتمالُ اللقاء وعدمُ استحالته (إذا لم يثبت اللقاء والسماع، كما في المخضرمين)، فكذلك الأمر في التابعين وأتباعهم: لا يكفي في إثبات

(1) الثقات لابن حبان (9/ 209) .

(2)

الثقات لابن حبان (9/ 183- 184) .

ص: 142

كون الرجل من التابعين وأبتاعهم مجرّدُ معاصرته للصحابة واحتمالُ لقائه بهم، ولكن يشترط ثبوت السماع أو اللقاء. فإذا ثبت سماعُ الراوي من صحابي، وثبت بذلك أنه تابعي، فإن ابن حبان لا يشترط بعد ذلك العلم بالسماع في كل شيخ من شيوخه الصحابة الذين عاصرهم ولم تقم قرائنُ تُبعد احتمالَ لقائه بهم، كما فعل مع عبد الله بن بريدة في سماعه من عمران بن حصين، على ما سبق ذكره.

وتذكّر أن مذاهب العلماء في إثبات كون الراوي من التابعين مختلفةٌ، فمنهم من يكتفي بالرؤية ولا يشترط السماع، ومنهم من يشترط السماع ولا يكتفي بالرؤية، كما قد يكون هو ظاهر مذهب الحاكم (تلميذ ابن حبان) في كتابه (معرفة علوم الحديث)(1) .

تاسعًا: الدارقطني:

قال الدارقطني في (العلل) ، وسئل عن سماع ابن لهيعة من الأعرج، فقال:((صحيح، قدم الأعرجُ مصر وابنُ لهيعة كبير)) (2) .

* ولمّا نفى ابنُ معين سماع عطاء بن السائب من أنس (3)، تعقبه الدارقطني بقوله:((هو كبير، أدركه)) (4) .

(1) معرفة علوم الحديث للحاكم (45- 46) .

(2)

العلل للدارقطني (3/ 213/ ب) .

(3)

التاريخ لابن معين (رقم 2801) .

(4)

العلل للدارقطني (4/ 16/ ب) .

ص: 143

ثم أضف إلى هؤلاء العلماء من نقل الإجماع أو صرّح بتبنّيه لمذهبٍ هو مذهب مسلم: كالشافعي، والحميدي، والحاكم، والبيهقي، وابن عبد البر، والخطيب، وغيرهم.

ويؤكد صحة هذا الإجماع فوق ما سبق كله الدليلان التاليان:

الدليل الرابع عشر: وهو مبنيٌّ على ما كنتُ قد أَفَضْتُ في بيانه، واستدلَلْتُ له كُلّ استدلال، في كتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) ، من أن رواية الراوي عمّن عاصره ولم يلقه تدليسٌ، وفاعل ذلك مُدلِّس. هذا ما كان عليه جميع أهل العلم، متقدّمهم ومتأخرهم، كما ستراه في كتابي المذكور. إلى أن خالفهم في ذلك كله الحافظ ابن حجر، وعامّةُ من جاء بعده!!!

والإمام البخاري أحدُ الأئمة الذين وصفوا رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بأنها تدليس. كما قال: ((لا أعرف لابن أبي عروبة سماعًا من الأعمش (1) ، وهو يدلس ويروي عنه)) (2) .

أقول وأنقل ذلك، مع أنني لستُ مضطرًا إليه، إذ إن المسألة مسألة اتفاق (كما سبق) ، فمن لم نجد له قولاً مخالفًا (إن وُجد قولٌ مخالِفٌ) فلن يكون إلا أحدَ الموافقين للإجماع.

(1) وقد عبَّرَ الإمام أحمد عن ذلك بقوله -كما في العلل ومعرفة الرجال: برواية ابنه عبد الله (رقم 4858) -: ((لم يسمع سعيد بن أبي عروبة من الأعمش شيئًا)) .

(2)

العلل الكبير للترمذي (2/ 877) .

ص: 144

وبذلك نخرج بالمقدّمة الأولى: أن رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه تدليس، وعلى ذلك جميع الأئمة، ومنهم الإمام البخاري.

والمقدّمة الثانية هي: أن الوصف بالتدليس في الإسناد، لا يكون إلا إذا كان هناك إيهامٌ وتلبيس، وأن يكون في ظاهر الإسناد ما يوحي بخلاف حقيقته. وذلك مما لا يُخالف فيه أحد، لأنه لازِمُ ذلك الوصف:(التدليس) .

والمقدّمة الثالثة: أن التدليس والإيهامَ الواقعَ في رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه هو إيهامُ الاتصال ولا شك، وهذا هو وجه وصف هذه الرواية بأنها تدليس.

والنتيجة: أن رواية الراوي عمن عاصره ظاهرها يدل على الاتصال واللقاء، ولذلك نصفُ ما خالف هذا الظاهر بأنه تدليس.

وهذه النتيجة المهمّة هي المقدّمة الأولى لقضيّتنا الأساسيّة هنا:

- فإنه إذا كانت رواية الراوي عمن عاصره تدل على اللقاء في ظاهرها، وهذا هو الأصل فيها.

- إذا كان هذا هو قول جميع أهل العلم، بدليل وصفهم -جميعًا- رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بأنها تدليس.

- دلَّ ذلك على أن الأصلَ عند جميع أهل العلم في رواية الراوي عمن عاصره الاتّصال. ممّا يعني أنّهم يحكمون باتّصالها دون أي شرط آخر، إلا إذا لاحت قرينةٌ تحملهم على مخالفة الأصل، أو إذا كان الراوي مُدلّسًا (أي أنّنا علمنا من حالته الخاصّة أن روايته عمن عاصره لا تدل على الاتصال) .

ص: 145

فالخلاصة: أن إجماع العلماء على وصف رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بالتدليس، يلزم منه إجماعُهم على الاكتفاء بالمعاصرة بين الراويين.

وزيادةً في الإيضاح، فإني أسأل: لو كان البخاري (وغيره من أهل العلم) لا يحكم باتصال رواية الراوي عمن عاصره حتى يعلم باللقاء من خلال نصٍّ صريح يدل عليه، فما وَجْهُ وصفه رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بالتدليس؟!! وما هو الإيهام الذي جعله يصفها بذلك؟!! والحاصل أنّها -باشتراطه العلمَ باللقاء- يجب أن لا تُوهِمَهُ بشيء، لأنه لم يحكم باتصالها أصلا، فهي هي قبل أن يعلم بعدم اللقاء وبعد أن علم، غيرُ محكومٍ لها بالاتصال!!!

فلا وجه لوصف رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بالتدليس، إلا أن رواية الراوي عمن عاصره تدل على الاتصال.

لنعود في آخر هذا الدليل إلى تأكيد الإجماع الذي نقله مسلم وغيره، وإلى بيان صحّته والاستدلال له، وأن البخاري لا يُمكن أن يكون مخالفًا لمسلم في اكتفائه بالمعاصرة.

الدليل الخامس عشر: بطلانُ المذهبِ المنسوب إلى البخاري، ووضوحُ سقوطه وسقوطِ حُجّته، وسُوءُ أثره على السنة النبويّة.

وَوَجْهُ الدلالةِ في ذلك على عدم صحّةِ نسبةِ ذلك الشرط إلى البخاري وغيره من الأئمة: هو استحالةُ أن يقع أئمةُ السنة، الذين كانوا

ص: 146

هم أركانَ علومها وأُسُسَ فنونها، والذين كان علمهم بها كالكهانة عند الجُهّال أمثالنا= في ذلك الخطأ الفاحش، الذي ينمُّ عن جهل شديد وبُعْدٍ عن السنة وعلومها.

ولذلك حُقَّ لمسلمٍ أن يصف صاحب ذلك الشرط بتلك الأوصاف التي سبق ذكرها، من كونه جاهلاً خامل الذكر لا وزن له في العلم ولا اعتبار!!

أمّا العلماء المتأخرون الذين وقعوا في ذلك الخطأ الفاحش، فعذرهم هو أنهم تلقَّوْا تلك النسبة بالتسليم (أو قُلْ: بالتقليد) ، وجلالة البخاري (شيخ الصنعة) عندهم فوقَ الوصف، ووجدوا شُبهة دليل= فلم ينظروا في أصل المسألة، وإنما صار هَمُّهم الردَّ على مسلم، ونُصْرةَ البخاريِّ عليه.

ومن تمعّن في أحوال النفس وأهوائها يعلم صعوبةَ زحزحةِ القناعةِ الراسخةِ في النفس، وكيف أن النَّفْس حينها تُصيّر الشُّبَهَ أدلّةً والأدلّةَ شُبَهًا. وإنما يُوَفَّقُ للحق في هذه الحالة من أعانه الله تعالى ووفّقه، ثم كان صادقًا في إرادة معرفة الحق، متجرّدًا عن كل هوى.

أمّا بيان بطلان ذلك المذهب، فهو المسألة الرابعة، وهي المسألة التالية:

ص: 147