المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: تحرير شرط أبي المظفر السمعاني (ت 489ه - إجماع المحدثين

[حاتم العوني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌المسألة الأولى: تحرير شَرْطِ البخاري (المنسوب إليه) ، وشَرْطِ مسلم، وشَرْطِ أبي المظفّرِ السمعاني‌‌أولاً: تحرير الشرط المنسوب إلى البخاري:

- ‌أولاً: تحرير الشرط المنسوب إلى البخاري:

- ‌ثانيًا: تحرير شرط مسلم:

- ‌ملاحظة:

- ‌ثالثًا: تحريرُ شَرْطِ أبي المُظَفَّر السمعاني (ت 489ه

- ‌المسألة الثانية: نسبة القول باشتراط العلم بالسماع إلى البخاري: تاريخُها، ودليلُها، ومناقشة الدليل

- ‌المسألة الثالثة: الأدلّة على بطلان نسبة اشتراط العلم باللقاء إلى البخاري وغيره من العلماء

- ‌الدليل العاشر: صحيح البخاري نَفْسُه

- ‌الدليل الثاني عشر: اكتفاء البخاري بالمعاصرة، في نصوص صريحةٍ عنه

- ‌الدليل الثالث عشر: اكتفاءُ جمعٍ من الأئمة بالمعاصرة:

- ‌المسألة الرابعة: بيَانُ صَوَابِ مَذْهَبِ مُسْلِمٍ وقُوّةِ حُجّتِهِ فيه

- ‌المسألة الخامسة: أثر تحرير شرط الحديث المعنعن على السنة

- ‌المسألة السادسة: الردُّ على آخر شُبْهَتَيْنِ

- ‌الشُّبْهَةُ الأُولى:

- ‌ الشُّبْهَةُ الثانية

- ‌فهرس المصادر والمراجع

- ‌دليل الموضوعات

الفصل: ‌ثالثا: تحرير شرط أبي المظفر السمعاني (ت 489ه

‌ملاحظة:

تعبيرُ بعضِ أهل العلم: ((بأن البخاري يشترط العلم باللقاء أو السماع، وأن مسلمًا لا يشترط العلم بذلك)) تعبيرٌ فيه تجوُّزٌ وتسمُّحٌ، الداعي إليه عند هؤلاء العلماء: الاختصارُ، وعدم خفاء المعنى المقصود لدى السامعين. ذلك أن الشيخين كليهما -في الحقيقة- يشترطان العلم بالسماع، لأن هذا هو مقتضى شرط الاتّصال الذي يتّفقُ الشيخان عليه. وإنما يظهر الفرق بين المذهب المنسوب إلى البخاري ومذهب مسلم في وسيلة العلم بالسماع، لا في العلم بالسماع المتّفق عليه بالاتفاق على اشتراط الاتصال. فالبخاري (في الشرط المنسوب إليه) لا يعلم بالسماع حتى يقف على نصٍّ صريح يدل عليه، ومسلمٌ لا يعلم بالسماع إلا بالشروط الثلاثة المذكورة سابقًا.

لذلك فإن الأدقّ أن يقال في التعبير عن شرط الشيخين: إن البخاري (فيما يُنسب إليه) يشترط أن يثبت لديه نصٌّ صريح دالٌّ على اللقاء أو السماع، وأمّا مسلم فلا يشترط ذلك. مع اشتراطهما جميعًا الاتصال، الذي إنما يُتَصَوَّرُ حصوله باللقاء والسماع.

وأنبِّه إلى هذا حتى لا يقع في بعض الأذهان أن مسلمًا لا يشترط العلم باللقاء والسماع، بمعنى أنه لا يشترط الاتصال!!

ومع هذا التنبيه فلا أجدُ عليَّ من غضاضةٍ إذا ما استخدمتُ العبارة المختصرةَ التي استخدمها العلماءُ من قبل، تجوُّزًا وتسمُّحًا أيضًا

‌ثالثًا: تحريرُ شَرْطِ أبي المُظَفَّر السمعاني (ت 489ه

ـ) .

ذكر أبو المظفّر السمعاني مجادلةً بين الشافعيّة والحنفيّة حول حُجِّيَّة الحديث المرسل، وأن الحنفيّة احتجّوا على الشافعيّة بقبول الشافعيّة

ص: 27

للحديث المعنعن، مع احتمال الانقطاع والتدليس. فأجاب أبو المظفَّر السمعاني بقوله في (قواطع الأدلّة) :((أمّا قولهم: إنه تُقبل الرواية بالعنعنة. قلنا: نحن لا نقبل، إلا أن نعلم أو يغلب على الظن أنه غير مرسل، وهو أن يقول: (حدثنا فلان) أو (سمعت فلاناً) ، أو يقول (عن فلان) ويكون قد أطال صحبته، لأن ذلك أمارة تدلّ على أنه سمعه منه. فأمّا بغير هذا، فلا يُقبل حديثُه)) (1) .

فاحتجَّ بهذه العبارة جَمْعٌ من أهل العلم على أن أبا المظفر السمعاني يشترط في الحديث المعنعن شرطًا هو فوق الشرط المنسوب إلى البخاري، ألا وهو اشتراط طول الصُّحْبة، وعدم الاكتفاء بمجرّد اللقاء، فضلاً عن المعاصرة!

إلا أن لأبي المظفّر السمعاني كلامًا أَحْكَمَ من كلامه السابق، واحد أهمّ وجوه إحكامه أنه ذكره في سياق كلامه عن حكم الحديث المعنعن وحكم التدليس، فهو واردٌ في موطنه اللائق به، والذي هو أَوْلَى المواطن بأن يُوفَّى فيه حقّه من البيان.

يقول أبو المظفّر السمعاني: ((فأمّا من لم يشتهر بالتدليس ولم يُعرف به، قُبِل منه إذا قال (عن فلان) ، وحُمل في ذلك على السماع، لأن الناس قد يفعلون ذلك طلبًا للخِفّة، إذ هو أسهل عليهم من أن يقولوا في كل حديث:(حدثنا) . والعُرْفُ الجاري في ذلك يُقَامُ مقامَ التصريح)) (2) . ثم نقل السمعاني كلام الحاكم في قبول الحديث المعنعن

(1) قواطع الأدلة للسمعاني (2/ 456- 457) .

(2)

قواطع الأدلة (2/ 311- 312) .

ص: 28

مع السلامة من التدليس، بما تضمّنه كلام الحاكم من نَقْلِ الإجماع عليه (1) ، دون أن يخالفه في شيءٍ، بل نقله نَقْل المحتجِّ به المعتمدِ عليه.

ففي هذا الموطن يصرّح أبو المظفّر أنه يقبل الحديث المعنعن دون قيد أو شرط، إلا من شرط أن لا يكون الراوي مدلّسًا.

فإن قيل: لكنه أيضًا لم يشترط المعاصرة؟ قلت: لكن اشتراط المعاصرة أمرٌ بَدَهيّ، إذ كيف يتحقق الاتصال مع عدم المعاصرة؟ ! ثم ما معنى اشتراط سلامة الراوي من وصمة التدليس إذا لم يَكن هناك معاصرةٌ أصلاً؟ !! وعليه: فإن اشتراط المعاصرة في مثل هذا السياق لا حاجةَ إليها، كما أن اشتراطَ أن لا يكونَ الراوي قد صَرّح بعدم اللقاء غير محتاج إليه فيه.

فإن قيل: فأيُّ القولين المعبِّرُ عن مذهب أبي المظفّر السمعاني؟

فأقول: هذا السؤال بُني على محاولة الترجيح، فإن أردنا الترجيح، فلا شك أن كلام أبي المظفر في اشتراط طول الصحبة كلامٌ مرجوحٌ، في مقابل كلامه الذي لم يشترط فيه هذا الشرط، وذلك لأسباب:

أولاً: أن كلامه الذي لم يشترط فيه طول الصحبة جاء في موطنه وسياقه المستحقِّ له، وهو موطن الحديث عن حكم الحديث المعنعن. بخلاف كلامه الذي اشترط فيه طول الصحبة، فإنه جاء في غير موطنه، على ما بيّنّاه عند ذكره. والكلام الوارد في سياقه الطبيعي وموطنه اللائق به أولى بالتحرير والتدقيق من كلامٍ ورد عَرَضًا في غير مظنّته، لذلك

(1) انظر ما يأتي (95- 102) .

ص: 29

كان كلامه الذي لم يشترط فيه طول الصحبة أولى بالتقديم وأحق بالترجيح.

ثانيًا: أن كلامه الذي لم يشترط فيه طولَ الصحبة، والذي جاء في موطنه اللائق به= كلامٌ يوافقه عليه جَمْعٌ من الأئمة (إن لم يكن جميع الأئمة) ، وعلى رأسهم الإمام مسلم والحاكم (الذي أورد كلامه محتجًّا به) . بخلاف كلامه الذي اشترط فيه طول الصحبة، والذي جاء في غير سياقه الطبيعي= فإنه كلامٌ لا يوافقه عليه أحدٌ، ومذهبٌ غريب لا متابع له فيه. وأَوْلى بالإمام الذي له قولان، أحدهما موافقٌ لجَمْع من الأئمة، والآخرُ مخالفٌ لجميع مذاهب الأئمة، أن يكون أولى المذهبين وأحرى القولين أن يُنْسَبَ إليه= ما كان موافقًا، لا ما كان شاذًّا مستنكرًا.

ثالثًا: أن السمعاني لمّا قال كلامه الذي لم يشترط فيه طول الصحبة، علَّلَ قبول العنعنة بأن للعنعنة معنىً عُرْفيًّا يدل على الاتّصال. وهذا التعليل الذي صدر من السمعاني نفسه لبيان سبب قبول العنعنة، لا يكون لاشتراط طول الصحبة معه أيّ معنى، ولا يُتصَوَّر أن صاحب هذا التعليل يعود إلى اشتراط طول الصحبة، الذي هو شرطٌ يدل على أن القائل به كان غافلاً عن ذلك التعليل كل الغفلة (1) .

رابعاً: أن كلام السمعاني الذي لم يشترط فيه طول الصحبة جاء مُعَلَّلاً، ومستدلاً عليه بكلام الحاكم أحدِ أئمة الحديث، بما تضمّنه كلامه من نقل الإجماع. بخلاف كلامه الذي فيه اشتراط طول الصحبة، فإنه لم يحشد له تلك الأدلّة. والكلام المؤيَّد بالدليل، أولى من الكلام الغُفْل المهمل من الدليل والبرهان.

(1) انظر ما يأتي من أَثَرِ دلالةِ (عن) العرفيّة على الاتصال في ترجيح مذهب مسلم (148- 151) .

ص: 30

هذا كله إن أردنا الترجيح بين قولي السمعاني، لكن الأولى أن نحاول الجمع بين قوليه، فذلك خيرٌ من ضربهما ببعضهما، خاصةً وأنهما قولان صادران من إمام واحد، بل في كتاب واحد أيضًا.

والجمع يظهر من التدقيق في كلام السمعاني الذي اشترط فيه طُولَ الصحبة، والتنبُّهِ إلى أنه لم يشترط فيه انتفاءَ التدليس لقبول العنعنة أنه كان يريد أن يذكر حالةً من حالات الرواية بالعنعنة تكون محكومًا عليها بالاتّصال مطلقًا، حتى لو كان الراوي المُعَنْعِنُ مدلِّسًا. ولذلك ذكر شَرْطَ طول الصحبة، حيث إن من كان مختصًّا بشيخ ملازمًا له حُملت عنعنته عنه على الاتّصال، ولو كان من مشاهير المدلسين، كما هو مقرّر في هذا العلم (1) .

وبذلك يكون السمعاني قد بيّن سِعَةَ دائرة قبول الحديث المعنعن، ففي كلامه الذي كان يتحدّث فيه عن حُكم الحديث المعنعن بيّن أنه حديثٌ مُتّصل من عامّة الرواة، ولم يَسْتَثْنِ إلا المدلسين، فهم وحدَهم الذين لا تُحمل عنعنتهم على الاتصال. ثم عاد السمعاني في الموطن الآخر إلى بيان أن الحديث المعنعن قد يُقبل حتى من المدلِّس، وذلك فيما إذا كان المدلِّس يروي عمن أطال صحبته من شيوخه.

وقَصْدُهُ من ذلك إظهارُ ضَعْفِ حُجّة من شَبَّه الحديث المرسل بالحديث المعنعن بجامع الإرسال في الأول واحتماله في الثاني، فبيّن له بذلك أن من الأحاديث المعنعنة ما تُقبل من كل الرواة، ومنها ما

(1) انظر المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس (1/ 350، 492) .

ص: 31

يُقبل من غير المدلسين، لضعف احتمال الإرسال، وغلبه الظن بالاتّصال فيهما. وبذلك يظهر لمن كان يناظره السمعاني أن غالب الأحاديث المعنعنة محمولة على الاتّصال، وأن احتمال الإرسال فيها ضعيفٌ بعيد.

وغايةُ ما يقال: إن السمعاني أراد أن يذكر حالةً للحديث المعنعن يُقبل فيها من جميع الرواة ولو كانوا مدلِّسين، لذلك اشترط طول الصُّحْبة، بدليل عدم اشتراطه انتفاء التدليس لقبول العنعنة، وبدليل أن الشرط الذي ذكره هو الشرط الذي تُقْبَل معه العنعنة من المدلِّس. وكفى بهذين الدليلين بيانًا لمقصود السمعاني!!

وبذلك يتّضحُ مثالٌ جديدٌ لما اكتنفَ هذه المسألة من الإشكالات، وما أحاط بها من الفُهُوم غير الموفّقة، التي كادت تُخفي معالم الصواب فيها. إذ إن اعتقادَ بعضِ أهل العلم أن أبا المظفَّر السمعاني يشترط طول الصُّحْبة، قد ساعدَ في تثبيت الشرط المنسوب إلى البخاري، إذْ إن في شرط طول الصُّحْبة مخالفةً قويّةً لشرط مسلم من جهة، ويقدح في الإجماع الذي نقله مسلم من جهةٍ أخرى، وأخيرًا: يجعل الشرط الذي نُسِبَ إلى البخاري مذهبًا وَسَطًا بين إفراط السمعاني وتفريط مسلم (1) !! !

وهذا الموقف ذكّرني بعددٍ من الأقوال لبعض الأئمة، فُهِمت خطأً، وتضاربت الأقوال في تحديد مذهب أصحابها. سأذكر منهم هنا واحدًا، وأرجيءُ البقيّة إلى صُلْب البحث.

(1) يقول ابنُ رُشيد عقب ذكره مذهب أبي المظفر السمعاني عن المذهب المنسوب إلى البخاري: ((وهو مذهبٌ متوسّط)) ، ويقول: ((وهو أرجح المذاهب وأوسطها فلا تَغْلُ في شيءٍ من الأمر واقتصد

كلا طَرَفَيْ قَصْدِ الأمور ذميمُ)) السنن الأبين (52، 65) .

ص: 32

فهذا الإمام أبوبكر الصيرفي (ت 330هـ) شارحُ (الرسالة) للشافعي، بينما ينقل عنه ابنُ رجب الحنبلي أنه يشترط العلم بالسماع (1) ، ينقل عنه غيرُه خلافَ ذلك، فنقل العلائي (2) وابنُ رُشَيد (3)(كلاهما) عن الصيرفي أنه على مذهب مسلم. وقد وجدتُ عبارةً طويلةً للصيرفي تؤيّد مذهب مسلم، نقلها عنه الزركشي في (البحر المحيط)(4) .

وبذلك تعلم مقدارَ ما استولت نسبةُ ذلك الشرط إلى البخاري على أذهان بعض أهلِ العلم، حتى ربما فُهمت العبارة الواحدة أكثر من فهم، ونُسب إلى الإمام الواحد أكثر من مذهب!!

فالتجرُّدُ في دراسة هذه المسألة، وهَجْرُ المألوفات العلميّة، وتَرْكُ ما يُظَنّ أنها مُسَلَّماتٌ ثوابت دون أن يكون لها من ذلك نصيب، وعَرْضُ كُلِّ قولٍ على مُسْتَنَدِهِ ودليله، فما قام به مُسْتَنَدُه قُبِل، وما أيّده الدليلُ نُصر، وما لم.. رُدَّ وهُجِر= هذا هو السبيل الوحيد لمن كَرِهَ الخطأ، وأَنِف من مَعَرَّةِ الجهل، وأَحبَّ الصواب، ورغب في زينة العلم.

(1) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 586) .

(2)

جامع التحصيل (117) .

(3)

السنن الأبين (70) .

(4)

البحر المحيط للزركشي (4/ 311) .

ص: 33