الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: نسبة القول باشتراط العلم بالسماع إلى البخاري: تاريخُها، ودليلُها، ومناقشة الدليل
الذي لا يختلف فيه اثنان: أن البخاري لم يُصَرِّح بالشرط المنسوب إليه، وهو اشتراطُ النصِّ الدال على اللقاء أو السماع، وأنه لا صَرّح بذلك في صحيحه ولا خارج صحيحه.
وهذه قاعدةٌ، نبني عليها، لأنها محلّ اتّفاق.
والقاعدة الثانية: أن كتاب (صحيح البخاري) لا ينفع أن يكون دليلاً على صحة نسبة ذلك الشرط إلى البخاري، ولو تحقّق فيه ذلك الشرط فعلاً دون انخرام، فكيف والشأن أنه لم يتحقق فيه!!!
أمّا عدمُ صَلَاحِيَتِهِ لإثبات نسبة ذلك الشرط إلى البخاري ولو كان الشرطُ مُتحقّقًا فيه= فلأن البخاري أسَّسَ كتابه على شدّة الاحتياط، وبناه على المبالغة في التحرِّي. فتحقُّقُ ذلك الشرط في صحيح البخاري (لو تحقق) لا يلزم منه أن البخاريَّ كان يشترطه، لأنه حينها خرج مخرج الاحتياط والتَّحَرِّي. فكم من حديثٍ صحيح عند البخاري، لم يخرجه في الصحيح احتياطًا لصحيحه، وكم من رجل ثقةٍ عنده تجنّب التخريج له في الصحيح زيادةً في التنزيه لكتابه. فكما لم يدل تركه لذلك الحديث أنه غير صحيح عند البخاري، وكما لم يدل تجنُّبُهُ ذلك الراوي أنه ضعيف عنده= فكذلك تجنُّبُهُ لحديث من عَنْعَنَ عمّن عاصره ولم
يأت ما ينصُّ على لقائه به (لو التزمه البخاري) لا يدل على أن البخاري يردّ هذه الحالة من حالات الحديث المعنعن، ولا يدل (بالتّالي) أنه يشترط العلم باللقاء.
فإن قيل: هذا فيه مَيْلٌ إلى ترجيح قَوْلِ من زَعَمَ أن شَرْطَ البخاري المنسوب إليه شَرْطُ كمال، بمعنى أنه شرطٌ له في (الجامع الصحيح) لا في أصل الصحّة. فأقول: لا، حاشا أن نميل إلى قولٍ لا دليل عليه، بل الدليل ينقضه. فإني أقول لأصحاب هذا الرأي: أبرزوا الدليل على ما تقولون؟ فالبخاري لم يصرّح به، و (الصحيح) ينقضُه (كما يأتي) ، والعلماء لمّا أعلُّوا بعض أحاديث (الصحيح) بعدم السماع -كما يأتي-، لم يعتبروا لهذا الشرط وجودًا، وإلا لكانوا أعرف الناس بقاعدة (من علم حجّة على من لم يعلم) ، فما بالُهم بَنَوْا تعليلهم على المشاحّةِ في ذلك؟ !
أمّا عدمُ تحقُّقِ شرط العلم باللقاء في صحيح البخاري نفسه، فهذا ما سيأتي إثباته، وأن البخاري أخرج أحاديث تحقّق فيها عدمُ اللقاء (عند البخاري قبل غيره) ، وأحاديثَ لم يعلم فيها باللقاء! !! (1) .
والقاعدة الثالثة: أنّ أوّل من نسب هذا الشرط إلى البخاري وعلي ابن المديني هو القاضي عياض (ت 544هـ) في كتابه (إكمال المعلم) ، حتى إن ابن رُشيد (ت 721هـ) في كتابه الذي خصَّهُ لهذه المسألة لم يذكر أحدًا قبل القاضي عياض نسب هذا الشرط إلى البخاري.
(1) وانظر ردّ خالد الدريس على أصحاب هذا المذهب في كتابه: موقف الإمامين (137- 140) .
والقاضي عياض لمّا نسب هذا الشرط إلى البخاري لم يذكر دليلاً على ذلك، ولا شِبْهَ دليل، ولا أشار إلى شيءٍ من ذلك. بل كانت نسبته له نسبةً مختصرةً، لا دليل ولا تعليل ولا تطويل.
حيث قال في شرحه لمقدّمة مسلم وما تضمّنته من الكلام عن الحديث المعنعن: ((والقول الذي ردّه مسلم هو الذي عليه أئمةُ هذا العلم: علي ابن المديني، والبخاري، وغيرهما)) (1) .
فانقسم العلماء بعده قسمين:
- قِسْمٌ قلّدوه تقليدًا محضًا في إثبات ذلك الشرط، ولم يبحثوا عن دليله أصلا، لكنّهم صُدِموا بأن صحيح مسلم يخالفه في هذا الشرط، فقادتهم جلالةُ مسلم ومكانة صحيحه إلى أن يدّعوا أن شرط العلم باللقاء شَرْطُ كمال. ونَسُوا أن قولهم هذا لا دليل عليه أيضًا! بل الدليل ينقضه!! ولم يتذكّروا أن مسلمًا إنما ردّ في مقدّمته على من اعتبر ذلك الشرط شَرْطَ صِحّة لا شَرْط كمال، بل إن دليل نسبة ذلك الشَرْط إلى البخاري مأخوذٌ من خارج صحيحه (كما يأتي) لا من صحيحه، فأنَّى يكون ذلك الشرط شرطًا للبخاري في الصحيح دون خارجه؟! !
ومن هؤلاء العلماء: ابن كثير، والبلقيني، وتبعهم أبو غُدّة، والألباني (2) .
- والقسم الآخر من العلماء: قلَّدوا القاضيَ عياضًا تقليدًا محضًا في أنّ البخاري يشترط ذلك الشرط، فنسبة ذلك الشرط إلى البخاري عندهم مستغنيةٌ عن الدليل! ! لكنّهم بحثوا عن نماذج تطبيقيّة لهذا
(1) إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض -مقدّمة- (307- 312) .
(2)
سبق العزو إلى كتبهم (15) .
الشرط (في ظنّهم) ، إما لأجل ترجيح مذهب البخاري (كما نسبوه إليه) على مذهب مسلم (مثلما فعل ابن رُشيد وابن رجب) ، وإمّا لأجل الردّ على من ادّعى أنه شرطُ كمال للبخاري في صحيحه وليس شرطًا له في أصل الصحّة (مثلما فعل الحافظ ابن حجر في نكته) .
وهؤلاء العلماء يأتي في مقدّمتهم: ابن رُشيد، وابن رجب، وابن حجر. وأيّدهم صاحبُ الرسالة المختصّة بهذه المسألة: خالد الدريس.
ونستخلص من هذه القاعدة فوائد:
الأولى: أن قسمًا من العلماء ليس لهم في إثبات نسبة هذا الشرط إلى البخاري ثقلٌ كبير، لأنّه لا جُهْدَ لهم فيها غير محض التقليد للقاضي عياض! فلا يُستغرب من كثرة المخطئين بعد ذلك في هذه المسألة، لأنّ بعض هذه الكثرة خرج عن سَنَنِه المعتاد في عدم قبول القول إلا بعد الاجتهاد والنظر في الدليل.
الثانية: أنّ العلماء الذين استدلّوا لم يكن استدلالُهم لأجْلِ التحقُّقِ من صحّة نسبة ذلك الشرط إلى البخاري، إنما كان استدلالهم (في الغالب) لترجيح المذهب الذي نسبوه إلى البخاري على مذهب مسلم. وهذه نقطةُ ضَعْفٍ كبرى في منهج الاستدلال في هذه المسألة، هي التي أدّت إلى كل ذلك الخطأ الكبير العميق فيها. بل وهذه النقطة تجعلني أدخل غمار هذه المسألة وحدي، لا خَصْم لديَّ أناظره، لأن مُخَالِفِيَّ في هذه المسألة كانوا يستدلون على غير محلّ النزاع.
الثالثة: أنّ العلماء الذين استدلّوا لم يلجؤوا إلى (صحيح البخاري) لانتزاع الأدلّة منه، وإنما ذهبوا إلى كتب البخاري الأخرى كـ (التاريخ
الكبير) و (الأوسط) و (القراءة خلف الإمام) . فعلوا ذلك مع أن (صحيح البخاري) هو المُسْتَدَلُّ له والمقصود بالمسألة أصلاً، وفعلوا ذلك مع خبرتهم الكبيرة بـ (صحيح البخاري) ، كصاحبي (فَتْحَيِ الباري) . ابنِ رجب، وابنِ حجر!! تأمَّلْ هذا الأمر وتدبَّرْهُ: لِمَ فعلوا ذلك؟! فستصلُ إلى أن جوابَ هذا الموقفِ الغريبِ في أحد احتمالين: إمّا أنّهم لم يجدوا فيه الدليل! أو أنّهم عرفوا أنه لا يصلح للاستدلال (كما سبق بيانه) ! وأيَّ الجوابين رضيتَ، فهو الذي سيعينُك على معرفة الحق في هذه المسألة (إن شاء الله تعالى) .
وبعد هذه القواعد لسائل أن يَسْأَل: ما هو دليل نسبة هذا الشرط إلى البخاري وغيرِه من أهل العلم ممن نُسب إليهم؟
والجواب: أنّ السؤال خطأ من أساسه، لأن العلماء لم يستدلُّوا لذلك أصلاً، خاصةً في حق البخاري وابن المديني (اللذين نسب إليهما القاضي عياض ذلك الشرط) ، كما سبق. حتى مَنْ نسب ذلك الشرط إلى غير البخاري وابن المديني (كابن رجب) ، فإنما كان يذكر أدلّة نسبته إلى غيرهما بعد التسليم منه أنه شرطهما، وأن مسلمًا يخالفهما ويردّ عليهما، دون التثبُّت من صحّة هذا التسليم (أو قُل: التقليد) .
فالسؤال يجب أن يكون: ألمْ يذكر العلماء ما ينفع أن يكون دليلاً على صحّة تلك النِّسبة في وجهة نظرهم؟ وإن لم يَقْصُدُوا هُمُ الاستدلالَ لذلك؟
فإن كان هذا هو السؤالَ، فالجوابُ: نعم، ذكروا ما يظنونه دليلاً.
لكن قبل ذِكْرِ شُبْهَتِهم، يكفيك من قولٍ ضَعْفًا أنه لم يُسْتَدَلَّ عليه!!
إذن ما هو الدليل؟ هو باختصار: إعلالُ بعضِ الأحاديث بنفي العلم بالسماع أو اللقاء، كقول البخاري وغيره:((فلان لا أعرف له سماعًا من فلان)) ، أو ((فلان لم أجد له سماعًا من فلان)) ، أو ((لا يذكر سماعًا من فلان)) ، ونحو ذلك من العبارات.
وَوَجْهُ استدلالهم بذلك: أن الإعلال بنفي العلم بالسماع يدل على اشتراط العلم بالسماع، وإلا لم يكن لذلك الإعلال معنى.
هذه هي الحجة الوحيدة التي ذكرها العلماء، والتي دَلّ إيرادُهم لها عَرَضًا لغير أصل مسألتنا (كما سبق) ، أنهم يعتبرونها حُجّةً على صحّة نسبة ذلك الشرط إلى البخاري وغيره من أهل العلم.
ولم يذكر أحدٌ من أهل العلم علمتُهُ حُجّةً أخرى تنفع لتصحيح تلك النِّسبة، فليس لهم سواها.
ومن ادّعى وجود حُجّة غيره هذه، فَلْيُظْهِرْها لي.
أما وأنّ دليل نسبة اشتراط العلم بالسماع إلى البخاري هو ذلك الدليل وحدَه، فإن تصحيح هذه النسبة أو عدم تصحيحها منوطٌ بهذا الدليل وَحده أيضًا. فإن قام بالحُجّة: فالنسبة صحيحة، وإن لم يقم بالحُجّة: فالنسبة غير صحيحة، لأن القول العاري من الدليل عارٍ من أسباب القبول، ولا ترضاه العُقُول.
لذلك فإن مناقشة ذلك الدليل مهمّةٌ جدًّا، وهذا ما سأقوم به الآن:
لقد قام ذلك الدليل على أن إعلال البخاري وغيره للحديث بعدم العلم بالسماع يدل على اشتراط العلم بالسماع. وَوَجْهُ الاستدلال هذا
إنما يصح فيما لو كان الإعلالُ بنحو قولهم ((لا أعرف لفلان سماعًا من فلان)) إعلالاً بعدم العلم بالسماع فعلاً، وإعلالاً بعدم العلم بالسماع وَحْدَهُ، فهل الأمر في نحو تلك العبارة على هذا المعنى حقًّا؟
قبل الجواب التفصيلي المدلَّل عليه، أذكّر بأمرٍ لا يخفى على المتخصِّصين، يتعلّق بأحكام أئمة الحديث بعدم السماع أو الانقطاع والإرسال بين راويين متعاصرين، تلك الأحكام التي صُنِّفت لجمعها مؤلفات مفردة، كـ (المراسيل) لابن أبي حاتم و (جامع التحصيل) للعلائي و (تحفة التحصيل) لأبي زرعة العراقي.
لا يشكُّ من نظر في تلك الأحكام بعدم السماع وبالانقطاع، والتي ظاهرُها الجزم بعدم وقوع سماع= أنها غالبًا مبنيّةٌ على قرائن تتعلّق بالراوي أو المرويِّ عنه أو بالخبر المروي أو بذلك كله أو بعضه. وأنها ليست مبنيّةً على خبرٍ من الراوي (المحكوم بعد سماعه) ، يُعلنُ فيه بأنه لم يسمع من فلان.. إلا نادرًا أو قليلاً. هذا أمرٌ لا يشكُّ فيه المتخصّصون، ولن يشك فيه غيرهم فيما لو تمهّل حتى ينظرَ في الأمثلة الآتية بعد هذا الجواب الإجمالي.
والقرائن الدالّة على عدم السماع قد تتوارد، فتفيد القطع بعدم وقوعه فعلاً. وقد لا تصل إلى هذا الحدّ، فتفيدّ غلبة الظن بعدم وقوعه فقط.
فإن كانت القرائن الدالّة على عدم السماع فيما دون حَدِّ القطع بعدم وقوعه، فإن الراوي لو صَرّح بالسماع (فيما يثبتُ عنه) ممن أفادت القرائنُ غلبةَ الظن بعدم سماعه منه، فإن الأصل تقديمُ النصِّ على القرائن، لأنه من باب تقديم القطعي الدلالة على الظنّي الدلالة. فيكون
الأصلُ في هذه الحالة الحكمَ بالسماع، وعدمَ النظر إلى القرائن. لكن إن لم يوجد نصٌّ دالٌّ على السماع، فإن إفادة القرائن غلبةَ الظن بعدم وقوع السماع تبقى هي المعمولُ بإفادتها المحكومُ بما تُرجّحُهُ. وهنا يظهر أن الوقوفَ على نصٍّ دالٍّ على السماع أو عدم الوقوف عليه هو القاعدة التي ننطلق منها في إعمال دلالة القرائن أو عدم إعمالها، ولذلك كان التنصيص على عدم وجود لفظٍ دالٍّ على السماع عند وجود تلك القرائن أمرًا محتَّمًا، لاستكمال المقدِّمات التي ستُوصِلنا إلى النتيجة. وهذا وَجْهٌ أوّلٌ لسبب الإعلال بعدم العلم بالسماع، وهو أنه إعلامٌ بأن الراوي لم يذكر نصًّا دالاًّ على السماع، وغالبًا لا يكون لهذا الإعلام أيّ فائدة إلا إن كانت هناك قرائن تشهد لعدم السماع.
والوجه الثاني: أننا بيّنّا آنفًا أن الحكم بعدم السماع الذي يرد كثيرًا في أحكام الأئمة مبنيٌّ (في الغالب) على مُلاحَظَةِ القرائن، وليس مبنيًّا على خبرٍ يقيني ونصٍّ من الراوي نفسه (مثلاً) بأنه لم يسمع من فلان.. إلا نادرًا.
وما دام الأمر كذلك، فإن القرائن وحدها قد لا تصل إلى حدّ إفادة القطع بعدم اللقاء، وقد تقترب من إفادة القطع، وقد تفيده. لكن يبقى أن الطريق إلى ذلك كله (وهو القرائن) طريقٌ وعر، والحكم الصادر من خلاله حكمٌ على مُغَيَّبٍ مجهول، لذلك كان من تمام الورع ومن الدقَّة في التعبير أن يستخدم الأئمة عباراتٍ تتضمن التشكيكَ في السماع وترجيحَ عدمِ وقوعه، دون تَجَاوُزِ ذلك إلى عباراتِ الجزم والقطع. فكانت عبارة نفي العلم بالسماع إحدى هذه العبارات، التي إنما قُصِد بها إعلانُ الشكِّ في السماع وترجيح عدمه.
كما كان منها ايضًا نحو قولهم: ((فلان لا أدري سمع من فلان أو لم يسمع)) (1) .
والمقصود من نحو هذه العبارات بيان أن هناك قرائن تشهد لعدم حصول السماع، مع عدم قيام ما يدفع هذه القرائن، وهو النصّ الصريح الدال على السماع.
وما زال العلماء (قديمًا وحديثًا) يتعاملون مع عبارات نفي العلم بالسماع على هذا المعنى الصحيح، وهي أنها عباراتُ نفيٍ للسماع، وأنها مثل قول العالم ((لم يسمع فلان من فلان)) أو ((فلان عن فلان منقطع)) أو ((مرسل)) ونحوها من العبارات التي فيها جزمٌ بعدم السماع. ولم يتعاملوا معها على أنَّها عباراتٌ تدلُّ على خبرٍ مجرّد بعدم العلم بالسماع، خبرٍ قائمٍ على اشتراط العلم بالسماع. وهذا أمرٌ جليٌّ، لا أظن أنه محلّ نزاع.
فإن كانت ((لا أعرف لفلان سماعًا من فلان)) تُساوي ((لم يسمع فلان من فلان)) ، وأنها تعني ترجيح عدم السماع لقيام القرائن الدالة على عدمه= فبيّنوا لي وَجْهَ الاستدلال بنفي العلم بالسماع على أنه دليل اشتراطِ العلمِ به؟ ! بيّنوا لي ذلك، فإني لا أرى له وجهًا! !
وأرجو أن لا يتجاوز القارىء المدقِّق هذه المسألة حتى يجيب، وإلا فلا داعي لأن يُتِمَّ، لأنه حينها لا يُريد أن يتمَّ القراءة بفهم! !!
وأزيد مقصودي توضيحًا فأقول: إن الاستدلال بعبارات نفي العلم بالسماع على أنّ قائلها يشترط العلم بالسماع إنما يصحّ ويتوجّه إذا ما
(1) انظر امثلةً لهذا التعبير في المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 433، 378، 449، 558، 559، 813، 814، 939) .
كانت هذه العبارات خبرًا مجرّدًا عن عدم العلم باللقاء، لأن عدَمَ العلم باللقاء وحده هو سبب الإعلال وعدم القبول.
ولذلك كان لازِمُ هذا المذهب، وهو نصُّ قائله أيضًا، ومن تابعه (كابن القطان الفاسي)(1) = أن الحديث المعنعن الذي لم يُعلم لقاء رواته ببعضهم أنه لا يقال عنه منقطع، وإنما يُكتفى بالتوقّفِ عن الحكم له بالاتصال.
وهذا موقفٌ صريحٌ أن ((لا أعلم لفلان سماعًا من فلان)) عند أصحاب هذا المذهب لا تعني ترجيحَ الانقطاع على الاتصال، وإنما هي خبرٌ مجرّدٌ عن عدم العلم باللقاء، الذي هو علّةٌ كافيةٌ وحدها للتوقف عن الحكم بالاتصال.
ولا شك أن هذا هو لازم مذهبهم، والذي التزموه فعلاً.
وهذا الفهم لعبارات نفي العلم بالسماع وما بُني عليه من الاستدلال فهمٌ غريبٌ جدًّا، وفهمٌ بعيدٌ كل البُعْد، ويتعارض مع تطبيقات العلماء قديمًا وحديثًا (كما سبق) . فلم يزل العلماء يُوردون عباراتِ نفي العلم بالسماع على أنها عباراتُ نفيٍ للسماع، وأنها تدل على ترجيح الانقطاع، بل على أنها تدل على الجزم بالانقطاع أيضًا!!
وهذا الفهم الذي عليه عمل العلماء (والذي يُناقِضُ تنظيرهم في مسألتنا هذه) هو الفهم الصحيح، وهو الفهم الذي يقضي على ذلك الاستدلال البعيد المأخوذِ من ذلك الفهم الغريب!!!
(1) انظر ما سبق (16- 17) .
ومع أن عبارات نفي العلم بالسماع كانت وما زالت تدلّ (عند المشتغلين بعلم الحديث) على نفي السماع، وأنه لا فرق بينها في المعنى غالبًا، لأن عبارات نفي العلم بالسماع وعبارات نفي السماع إنما هي مبنيّة على القرائن= إلا أنّ هذه المُسلَّمةَ الصحيحةَ ستصبح عند بعضهم محلَّ نظر وشك، لا لشيءٍ، إلا لأنّها سَتَنْسِفُ مسلّمةً أخرى، قد تكون أكثر رسوخًا في نفوسهم!!
لذلك فإني سأذكّر هنا بأمثلةٍ يسيرةٍ جدًّا، تدل على أن نفي العلم بالسماع يعني ترجيح عدم حصول السماع، لا أنه مجرّد خبرٍ عن عدم الوقوف على ما يدل عليه، كما يريد المستدلون به على أنه دليلُ اشتراط العلم بالسماع.
* فانظر إلى قول الترمذي: ((لا نعرف للأسود سماعًا من أبي السنابل، وسمعت محمدًا يقول: لا أعرف أن أبا السنابل عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم)) (1)
فهذا نفي للعلم بالسماع، مع عدم المعاصرة أصلاً بين الراويين!! فهل هو إعلالٌ بعدم العلم بالسماع بناءً على اشتراط العلم به؟ !
* ويقول الترمذي: ((لا نعرف لأبي قلابة سماعًا من عائشة، وقد روى أبو قلابة عن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة عن عائشة غير هذا الحديث)) (2)
فهذا نفي للعلم بالسماع، مُعلّلاً بقرينة ذكر الواسطة.
(1) جامع الترمذي (رقم 1193) .
(2)
جامع الترمذي (رثم 2612) .
هذا مع قول الدارقطني: ((أبو قلابة عن عائشة: مرسل)) (1) . كذا على الجزم.
* ويقول الترمذي: ((هذا حديث ليس إسناده بمتّصل، ربيعةُ بن سيف إنما يروي عن أبي عبد الرحمن الحُبُلِّي عن عبد الله بن عَمرو، ولا نعرف لربيعة بن سيف سماعًا من عبد الله بن عَمرو)) (2) .
فانظر كيف جزمَ أوّلاً بعدم الاتصال، وبيّن قرينة ذلك، ثم عاد لنفي العلم بالسماع! هذا من أوضح ما يكون.
* ويقول الترمذي: ((لا نعرف لزيد بن أسلم سماعًا من أبي هريرة، وهو عندي حديث مرسل)) (3) .
فينفي العلم بالسماع، ثم يجزم بالإرسال.
ويؤكد نفي السماع أن يحيى بن معين وعلي بن الحسين بن الجنيد نفيا السماع (4) .
* ومثلهُ في الوضوح قول النسائي في ((المجتبى)) : ((هذا الحديث عندي مرسل، وطلحة بن يزيد لا أعلمه سمع من حذيفة شيئًا، وغير العلاء بن المسيب قال في هذا الحديث: عن طلحة عن رجل عن حذيفة)) (5) .
(1) العلل للدارقطني (5/ 137/أ) .
(2)
جامع الترمذي (رقم 1074) .
(3)
جامع الترمذي (رقم 3846) .
(4)
تحفة التحصيل لأبي زرعة العراقي (رقم 287) .
(5)
سنن النسائي (رقم 1665) ، وانظر تحفة الأشراف (3/ 43- 44) .
* وقال عبد العزيز النخشبي: ((لا نعرف سماع سلامة من علي، والحديث مرسل)) (1) .
* ويقول البزار: ((محمد بن المنكدر لا نعلمه سمع من أبي هريرة)) ثم قال في آخر الباب: ((وقد ذكرنا أن محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة. . .)) إلى آخر كلامه (2) .
ألا تراه ينفي العلم بالسماع، ثم يُبَيِّنُ أنه استفاد من ذلك الحكمَ بالإرسالِ وعدمِ الاتصال.
• ومن الأمثلة الواضحة على ذلك: أنهم قد ينفون العلم بالسماع للشك في المعاصرة أصلاً، بل ربّما مع العلم بعدم حصول المعاصرة!
* كقول البخاري: ((إبراهيم [بن محمد بن طلحة] قديم، ولا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل، أم لا)) (3) .
* وقوله: ((لا نعرف لمحمد بن أبان سماعًا من عائشة)) (4) .
مع كون محمد بن أبان من أتباع التابعين (5) ، أي مع عدم المعاصرة.
* وذكر البخاري حديثًا لعبد الله بن نافع بن العمياء عن ربيعة بن الحارث عن الفضل بن العباس، ثم قال:((لا يُعرف سماع هؤلاء بعضهم من بعض)) (6) .
(1) تحفة التحصيل للعراقي (رقم 360) .
(2)
بيان الوهم والإيهام لابن القطان (2/ 397) .
(3)
العلل الكبير للترمذي (1/ 187- 188) .
(4)
التاريخ الكبير للبخاري (1/ 32) .
(5)
انظر لسان الميزان (5/ 32) .
(6)
التاريخ الكبير للبخاري (3/ 283- 284) .
فبيّن الطحاوي في (مشكل الآثار) عدمَ معاصرة عبد الله بن نافع لربيعة بن الحارث، حتى قال:((محالٌ أن يكون عبد الله بن نافع لقي ربيعة بن الحارث)) (1) .
* وقال البخاري: ((شعيب بن محمد الغفاري سمع محمد بن قنفذ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: مرسل، ولا يُعلم سماعٌ لمحمد من أبي هريرة)) (2) .
* وقال البخاري: ((محمد بن أبي سارة عن الحسن بن علي، روى عنه محمد بن عبيد الطنافسي، ولا يُعرف له سماع من الحسن)) (3) .
وقال في موطن آخر: ((محمد بن عبد الله بن أبي سارة المكي القرشي: سمع سالمًا، روى عنه ابن المبارك وزيد بن الحباب. ويُقال: محمد بن أبي سارة منقطع)) (4) . أي حديثه الذي نُسب فيه إلى جَدّه منقطع، وهو حديثه عن الحسن بن علي الذي نفى فيه علمَه بسماعِهِ منه. هذا مع كون محمد بن أبي سارة مجزومٌ بعدم سماعه من الصحابة، ولذلك جزم بها البخاري في الموطن الآخر، فقال:((منقطع)) . أضف إلى ذلك أنه من طبقة أتباع التابعين، بدليل طبقة شيوخه، وتلميذه محمد بن عبيد الطنافسي، الذي هو من أتباع أتباع التابعين.
* وقال البزار: ((لا نعلم لعطاء بن يسار من معاذ سماعًا)) (5) .
(1) شرح مشكل الآثار للطحاوي (3/ 130- 131) .
(2)
التاريخ الكبير للبخاري (4/ 221) .
(3)
التهذيب (7/ 423) .
(4)
التاريخ الكبير للبخاري (1/ 110) .
(5)
التاريخ الكبير للبخاري (1/ 131) .
مع تعبير الترمذي عن ذلك بقوله: ((لم يدرك معاذ بن جبل)) (1) .
ففسّر أبو زرعة العراقي ذلك بقوله: ((وما قالاه من عدم الإدراك، لأنه وُلد سنة تسع عشرة، ومات معاذ سنة ثماني عشرة)) (2) .
* وقال الدارقطني عن عمارة بن غَزِيّة: ((لا نعلم له سماعًا من أنس)) (3) .
مع أن الدارقطني نفسه يقول في (سؤالات البرقاني) له: ((مرسل: عمارةُ لم يلحق أنسًا)) (4) .
وأكد ابن حبان هذا المعنى عندما ذكر عمارة بن غزية في أتباع التابعين (5) ، ومع أنه ذكره أيضًا في التابعين، لكنه قال:((يروي عن أنس، إن كان سمع منه)) (6) .
• وربّما نفى أحدُ الأئمة العلمَ بالسماع، ثم هو نفسُه نفى السماع (كما سبق بعض أمثلته) ، ممّا يدل على تساوي معنى العبارتين.
ومن أمثلة ذلك أيضًا:
* يقول ابن أبي حاتم في (المراسيل) : ((سألت أبي عن عبد الله بن عُكيم. قلت: إنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من علَّق شيئًا وُكِل إليه؟
(1) جامع الترمذي (رقم 2530) .
(2)
تحفة التحصيل للعراقي (353 رقم 700) .
(3)
العلل للدارقطني (2/ 118 رقم 151) .
(4)
سؤالات البرقاني (رقم 375) .
(5)
الثقات لابن حبان (7/ 260) .
(6)
الثقات لابن حبان (5/ 244) .
فقال: ليس له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كُتب إليه. . . (ثم قال:) لا يُعرف له سماع صحيح، أدرك زمانَ النبي صلى الله عليه وسلم)) (1) .
* ويقول أبو حاتم الرازي أيضًا: ((لا أدري سمع الشعبي من سمرة أم لا، لأنه أدخل بينه وبينه رجل)) (2) .
فهنا يشك في السماع لوجود واسطة بين الراويين.
لكنه عاد في موطن آخر فجزم، حيث قال عن الشعبي:((لم يسمع من سمرة، روى عن سمعان بن مُشَنَّج عن سمرة)) (3) .
• وقد ينفي أحدُ الأئمة العلمَ بالسماع في رواية، وغيره من أهل العلم ينفون السماع فيها، ممّا يدل أيضًا على اتّحاد معنى التعبيرين.
وقد سبق لذلك أمثلة، ومن أمثلته أيضًا (وهي كثيرةٌ) :
* يقول البخاري في ترجمة سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر: ((لا يُعرف أنه سمع من عمار)) (4) .
مع أن يحيى بن معين يقول: ((حديثه عن جدّه مرسل)) (5) ، وكذا قال الذهبي (6) .
(1) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 370، 373) .
(2)
المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 594) .
(3)
العلل لابن أبي حاتم (رقم 550) .
(4)
التاريخ الكبير للبخاري (4/ 77) .
(5)
التهذيب (4/ 158) .
(6)
تحفة التحصيل لأبي زرعة العراقي (رقم 336) .
* وقال البخاري: ((عبد الله بن أبي مُرّة: عن خارجة بن حذافة، روى عنه عبد الله بن راشد. . . ولا يعرف سماع بعضهم من بعض)) (1) .
فعبّر عن ذلك ابن حبان في (الثقات) بقوله: ((عبد الله بن أبي مُرّة: يروي عن خارجة بن حذافة في الوتر: إن كان سمع منه، روى عنه يزيد ابن أبي حبيب. إسنادٌ منقطع، ومتنٌ باطل)) (2) .
* ولمّا ذكر الترمذي حديث ((لا يجب الوضوء إلا على من نام مضطجعًا)) ، سأل البخاري عنه، فقال البخاري:((هذا لا شيء. . . (إلى أن قال:) ولا أعرف لأبي خالد الدالاني سماعًا من قتادة)) (3) .
فلما ذكر أبو داود هذا الحديث للإمام أحمد، أنكره الإمام أحمد بشدّة، ثم قال:((ما ليزيد الدالاني يُدْخَل في أصحاب قتادة)) (4) .
فانظر (أخيرًا) ماذا فهم البيهقي من هذين القولين، حيث قال:((فأمّا هذا الحديث: فإنه أنكره على أبي خالد الدالاني جميعُ الحُفّاظ، وأنكر سماعَه من قتادة: أحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وغيرهما)) (5) .
وبعد هذا كُلِّه، فإن جميع هذه الأقوال إنما هي غيضٌ من فيض من الأدلّة على أن نفي العلم بالسماع إنما هو نفيٌ للسماع، وليس خبرًا
(1) التاريخ الكبير للبخاري (5/ 192- 193) .
(2)
الثقات لابن حبان (5/ 45) .
(3)
العلل الكبير للترمذي (1/ 149) .
(4)
السنن لأبي داود (رقم 202) .
(5)
معرفة السنن والآثار للبيهقي (1/ 364- 365 رقم 925) .
مجرّدًا عن عدم العلم بالسماع، مبنيًّا على اشتراط العلم به. . كما زُعم!!
وقد قام خالد الدريس بدراسة أقوال البخاري التي نفى فيها العلم بالسماع، ثم خرج بالنتيجة التالية:((فيكون أكثر ما انتقده البخاريُّ من سماعات الرواة على مذهب مسلم أيضًا منتقدًا، لعدم توفُّر ضابط الاكتفاء بالمعاصرة أو أحدها)) (1) .
هذه هي نتيجة دراسةٍ استقرائيّة لأقوال البخاري في نفي العلم بالسماع، والقائم بها لا يُتّهم في مقصده، لأنه كان ناصرًا لمذهب البخاري، بعد أن استقرّت صحّة نسبته إليه عنده.
وبذلك يُلاحِظُ أخي القاريءُ أن الداعي لذاك النفي للسماع هو وجود قرائن تشهد لعدم حصول السماع: كالوسائط، أو نكارة الحديث، أو الشك في المعاصرة، وربما كان مع الجزم بعدم المعاصرة. وأن الداعي إليه ليس هو اشتراط العلم بالسماع، كما ادُّعي!!
ولا بأس بإتمام هذا المبحث، بذكر أمثلةٍ لهذه القرائن وغيرها، لتتسع نظرة الدارِسِ لهذه المسألة، وليعلم أسبابًا من أسباب نفي السماع ونفي العلم به، تَقِيْهِ (بإذن الله تعالى) من أن يظن أن بعض أقوال الأئمة بنفي العلم بالسماع مَبْنِيّةٌ على اشتراط العلم به. مع أن فيما سبق وفي بعض ما سيأتي كفايةٌ، لمن ألهمه الله الحق وحبّبَ إليه العلمَ الصحيح.
• فمن هذه القرائ: الجهالةُ بالراوي، مما يعني الجهل بحصول معاصرةٍ بينه وبين مَنْ روى عنه.
(1) موقف الإمامين لخالد الدريس (250) .
* ومثاله: يقول الإمام البخاري في ترجمة محمد بن ركانة القرشي: ((إسناده مجهول، لا يعرف سماع بعضهم من بعض)) (1) .
* وقد تجتمع مع الجهالة نكارة الحديث، كما في حديثٍ يرويه أبو سورة عن أبي أيوب في تخليل اللحية، قال عنه البخاري:((لا شيء)) ، فسأله الترمذي ((أبو سورة، ما اسمه؟ فقال: لا أدري، ما يُصنع به، عنده منَاكير، ولا يُعرف له سماع من أبي أيوب)) (2) .
* ولما ذكر علي بن المديني حديثَ أبي زيد المخزومي عن عبد الله بن مسعود في الوضوء بالنبيذ ليلة الجنّ، قال:((أخاف ألا يكون أبو زيد سمعه من عبد الله، لأني لم أعرفه، ولم أعرف لُقِيَّهُ. فرواه شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد حدثنا عبد الله، فجوّده بقوله: حدثنا عبد الله)) (3) .
* وقال ابن المنذر في (الأوسط) عن هذا الحديث: ((ليس بثابت، لأن أبا زيد مجهول، لا يُعرف بصحبة عبد الله، ولا بالسماع منه)) (4) .
ولهذه القرينة أمثلة كثيرة.
• ومن أكثر القرائن وجودًا وسببًا لنفي السماع: ذكر الوسائط بين راويين لم يثبت التقاؤهما.
وسبق لها عدّة أمثلة، ومن أمثلتها أيضًا:
(1) التاريخ الكبير للبخاري (1/ 82) .
(2)
العلل الكبير للترمذي (1/ 115) .
(3)
العلل لابن المديني (100- 101 رقم 174) ، والمراسيل لابن أبي حاتم (رقم 966) .
(4)
الأوسط لابن المنذر (1/ 256) .
* يقول أبو حاتم الرازي: ((يحيى بن أبي كثير ما أُراه سمع من عروة ابن الزبير، لأنه يُدْخِلُ بينه وبينه رجلاً أو رجلين، ولا يذكر سماعًا ولا رؤية ولا سؤاله عن مسألة)) (1) .
فهذا مثالٌ واضحٌ ودقيق على أن نفي العلم بالسماع يدل على ترجيح عدم السماع بعد وجود قرينةٍ تشهد لعدمه.
ولها أمثلةٌ أخرى كثيرة، لها ولنفي السماع بسبب الوسائط أيضًا (2) . لتعلم أن نفي السماع ما هو إلا معتمدًا على القرائن نفسها التي اعتُمد عليها عند نفي العلم به، ليكون هذا وجهًا آخر في الدلالة على أن نفي العلم بالسماع مُسَاوٍ لنفي السماع في المعنى والسبب. . غالبًا. حيث إن القرينة التي بلغت بالناقد إلى جزم الحكم بعدم السماع، ستكون هذه القرينة في عبارة نفي العلم بالسماع (التي هي عبارةٌ عن ترجيحٍ لعدم حصوله) = أدلَّ وأولى أن يُعتمد عليها في إصدار مثل هذا الحُكم.
• ومن هذه القرائن أيضًا: نكارة الحديث في إسنادٍ ليس فيه من يُجزم بتحمُّله لتلك النكارة، وقد سبق له أمثلة.
(1) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 904) .
(2)
انظر المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 36، 118، 125، 157، 171، 184، 192، 202، 224، 226، 239، 262، 268، 288، 290، 292، 306، 311، 317، 318، 320، 323، 324، 361، 362، 399، 401، 420، 468، 469، 478، 481، 508، 557، 562، 591، 623، 625، 627، 637، 680، 696، 701، 702، 703، 721، 729، 757، 760، 774، 787، 809، 823، 824، 828، 862، 904، 918، 920، 925، 928، 945) ، وشرح العلل لابن رجب (2/ 594-595) .
* ومن أمثلته أيضًا: ما جاء في العلل للإمام أحمد، قال عبد الله بن الإمام أحمد:((حدثت أبي بحديث المحاربي عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبيه في الصلاة؟ فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا. فأنكره أبي. قال أبي: المحاربي عن معمر؟! قلت نعم، وأنكره جدًّا. والحديث حدثني به أبو الشعثاء وأبو كريب قالا: حدثنا المحاربي. قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد: ولم نعلم أن المحاربي سمع من معمر شيئًا، وبلغنا أن المحاربي كان يدلس)) (1) .
* ولما أورد البخاري حديثًا يخالفه في (القراءة خلف الإمام) من رواية مختار بن عبد الله بن أبي ليلى عن أبيه، قال:((لا يُدرى أنه سمعه من أبيه أم لا، ولا أبوه، ولا يحتج أهل الحديث بمثله)) (2) .
* ولمّا سأل ابن أبي حاتم أباه عن حديث في الحجامة للصائم، قال أبوه:((هذا حديث منكر. . . (ثم قال:) وجعفر بن برقان لا يصح له السماع من أبي الزبير، ولعل بينهما رجلاً ضعيفًا)) (3) .
* وقال البخاري عن عَمرو بن أبي عَمرو مولى المطلب بن عبد الله: ((عن عكرمة في قصّة البهيمة: فلا أدري سمع أم لا)) (4) . وقال في موطن آخر: ((عَمرو بن أبي عَمرو صدوق، ولكن روى عن عكرمة مناكير، ولم يذكر في شيء من ذلك أنه سمع عن عكرمة)) (5) .
(1) العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد (رقم 5597) .
(2)
القراءة خلف الإمام (14= 15 رقم 38) .
(3)
العلل لابن أبي حاتم (رقم 753) ، والمراسيل له (رقم 76) .
(4)
تهذيب الكمال (22/ 170) ، والتهذيب (8/ 83) .
(5)
العلل الكبير للترمذي (2/ 622) .
* وقال البخاري في (التاريخ الكبير) : ((سليمان بن عبد الله: عن معاذة العدويّة، سمعت عليًّا أخا الصِّدِّيق الأكبر. . . لا يُتابع عليه، ولا يُعرف سماع سليمان من معاذة)) (1) .
• ومن قرائن ترجيح عدم السماع: بُعْدُ البُلْدان بين الرواة المتعاصرين.
قال الإمام الشافعي: ((لا نعلم عبد الرحمن بن أبي ليلى رأى بلالاً قط، عبد الرحمن بالكوفة، وبلال بالشام)) (2) .
* وقال البخاري عن عيسى بن عاصم الأسدي الكوفي: ((يسكن أرمينيّة، سمع منه سلمة بن كهيل قديمًا (3) ، وجرير بن حازم وقع بها فسمع منه شيئًا (4) ، ولا أعلم أحدًا روى عنه غيرهما (5)، وروى عنه معاوية. (قال الترمذي:) فكأنّه لم يَعُدَّهُ سماعًا منه)) (6) .
* وقال ابن أبي حاتم: ((سألت أبي عن ابن سيرين: سمع من أبي الدرداء؟ قال: قد أدركه، ولا أظنّه سمع منه، ذاك بالشام، وهذا بالبصرة)) (7) .
* وانظر: مسألة سماع الحسن البصري من أسامة بن زيد، وثوبان، والأسود بن سريع، والضحاك بن سفيان، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن
(1) التاريخ الكبير (4/ 23) .
(2)
مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 542)، وانظر: معرفة السنن والآثار للبيهقي (1/ 277 رقم 633)(2/ 257 رقم 2610) .
(3)
أي بالكوفة قبل انتقاله إلى أرمينيّة، لأن سلمة بن كهيل من أقرانه.
(4)
أي أن جريرًا رحل إلى أرمينيّة، ولذلك أثبت له السماع.
(5)
أي سماعًا.
(6)
العلل الكبير للترمذي (2/ 691) .
(7)
المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 683) .
شعبة، والنعمان بن بشير، وأبي موسى الأشعري. . في كتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) .
* ونبّهَ إلى هذه القرينة، وأورد لها أمثلة متعدّدة= ابنُ رجب في شرحه للعلل (1) .
• ومن هذه القرائن: استصغار طبقة الراوي (المستنبطة من شيوخه وتلاميذه) عن الرواية عمّن روى عنه.
* قال الإمام أحمد: ((العوام بن حوشب لم يلق ابن أبي أوفى، أكبر من لقيه سعيد بن جبير، إن كان لقيه، وهو يروى عنه وعن طاووس)) (2) .
* وقال علي بن المديني عن حديث من رواية ناجية بن خُفَاف عن عمار بن ياسر: ((لم يسمعه عندي من عمار، لأن ناجية هذا لقيه يونس ابن أبي إسحاق، وليس هذا بالقديم)) . وقال يعقوب بن شيبة: ((لا أحسبه مُتّصلاً، لأن بعضهم ذكر أن ناجية ليس بالقديم)) (3) .
* وقال أبو حاتم الرازي: ((سَيابة الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنا ابن العواتك، ليس له صحبة. (قال ابن أبي حاتم:) سمعت أبي يذكر حديثًا: روى هُشَيمٌ عن يحيى بن سعيد عن عَمرو بن سعيد بن العاص أخبرنا سَيَابة الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: أنا ابن العواتك. قال أبي: حدثنا بعض أصحاب هُشَيم عن هُشَيم عن يحيى بن عَمرو بن
(1) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 594- 596) .
(2)
تحفة التحصيل (رقم 800) .
(3)
تحفة التحصيل (رقم 1090) .
سعيد بن العاص أخبرنا سيابة بن عاصم الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبي: هذا أشبه، وهذا الحديث دليل عى أن سيابة ليس هو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. (قال ابن أبي حاتم:) يعني بأن يحيى بن سعيد بن عَمرو بن سعيد بن العاص لم يكن يُشبه أن يكون يلحق صحابيًّا، وبروايته بانَ أن سيابة تابعي)) (1) .
* ومن الأمثلة اللطيفة على هذه القرينة: ترجمة بُكير بن الأخنس. فقد ذكره ابن حبان في التابعين ثم قال: ((يروي عن أنس، روى عنه مسعر ابن كدام: إن كان سمع منه)) (2) . ثم أعاده في أتباع التابعين، وقال:((يروي عن مجاهد، روى عنه أبو عوانة، وقد قيل إنه سمع من أنس بن مالك)) (3) .
فابن حبان هنا متردّدٌ، إن أثبت سماع بكير من أنس فلا بد أن يشك في سماع مسعر وأبي عوانة من بكير، لاستصغارهما عن أن يرويا عنه. وإن أثبت سماعهما منه، شك في سماعه هو من أنس بن مالك (4) .
أمّا أبو حاتم الرازي فأثبت سماعه من أنس وشك في سماع أبي عوانة منه، حيث قال: ((روى أبو عوانة عن بكير بن الأخنس وهو قديم، لم يرو عنه الثوري ولا شعبة، إنما روى عنه الأعمش وأبو
(1) تحفة التحصيل لابن زرعة (رقم 361) ، وانظر المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 242) .
(2)
الثقات لابن حبان (4/ 76) .
(3)
الثقات لابن حبان (6/ 105) .
(4)
سماعه من أنس ثابت في صحيح مسلم (2/ 961 رقم 1323) ، ومسند أحمد (رقم 12711، 12892، 13750) .
إسحاق الشيباني ومسعر، فلا أدري أين لقيه وكيف أدركه)) (1) .
* ومن الأمثلة الدالة على قوّة هذه القرينة، حتى مع وُرُود صيغةٍ دالةٍ على السماع: ما أورده ابن أبي حاتم في (العلل)، قال:((سألت أبي عن اختلاف حديث عمار بن ياسر في التيمُّم، وما الصحيح منه؟ فقال: رواه الثوري عن سلمة عن أبي مالك الغفاري عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم في التيمّم، ورواه شعبة عن الحكم عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه شعبة عن سلمة عن ذر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه حصين عن أبي مالك قال: سمعت عمارًا يذكر التيمّم، موقوف. قال أبي: الثوري أحفظ من شعبة. قلت لأبي: فحديث حصين عن أبي مالك؟ قال: الثوري أحفظ، ويُحتمل أن يكون سمع أبو مالك من عمار كلامًا غير مرفوع، ويسمع مرفوعًا من عبد الرحمن بن أبزى عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم: القصّة. قلت: فأبو مالك سمع من عمار شيئًا؟ قال: ما أدري ما أقول لك! قد روى شعبة عن حصين عن أبي مالك: سمعت عمارًا، ولو لم يعلم شعبة أنه سمع من عمار ما كان شعبة يرويه، وسلمة أحفظ من حصين. قلت: ما تنكر أن يكون سمع من عمار وقد سمع من ابن عباس؟! قال: بين موت ابن عباس وبين موت عمار قريبٌ من عشرين سنة)) (2) .
وقد قال الدارقطني: ((في سماع أبي مالك من عمار نظر)) (3) .
(1) العلل لابن أبي حاتم (رقم 306) .
(2)
العلل لابن أبي حاتم (رقم 34) .
(3)
سنن الدارقطني (1/ 183) .
* وذكر الطحاوي حديثًا لسعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله ابن حُبْشي، وقال:((يبعد في القلوب أن يكون لقيه، لأننا لم نجد شيئًا من حديث عبد الله بن حُبْشي إلا عن من سِنُّهُ فوق سنِّ هذا الرجل)) (1) .
* وقال الخطيب البغدادي: ((يستحيل أن يكون ميمون بن مهران أدرك أمّ الدرداء (يعني الكبرى) التي ماتت قبل أبي الدرداء، فأبو الدرداء قديم الوفاة، مات في خلافة عثمان. وإنما يروي ميمون عن ابن عباس وابن عمر ومن بعدهما)) (2) .
• ومن القرائن: أن يقع للراوي كتابٌ لمن روى عنه، فإذا لم يصرّح بالسماع منه، خُشي أن يكون ما يرويه عنه من ذلك الكتاب.
* وسبق من أمثلته حديث عبد الله بن عُكيم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
* وقال أحمد بن صالح المصري: عطاء بن دينار هو من ثقات أهل مصر، وتفسيره فيما نرى عن سعيد بن جبير صحيفة، وليس له دلالة على أنه سمع سعيد بن جبير)) (3) .
* وقال الأثرم للإمام أحمد: ((يحيى بن أبي كثير سمع من أبي قلابَه؟ فقال: لا أدري بأي شيءٍ يُدفع، أو نحو هذا. قلت: زعموا أن كتب أبي قلابة وقعت إليه؟ قال: لا)) (4) .
(1) مشكل الآثار (7/ 429- 430 رقم 2980) .
(2)
الموضع لأوهام الجمع والتفريق (1/ 361) .
(3)
المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 581) .
(4)
المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 894) .
فالأثرم بيّن للإمام أحمد سببَ الشك في سماع يحيى بن أبي كثير من أبي قلابة، ووضّحَ له الشيءَ الذي يُدفع به هذا السماع. ولم يخطئه الإمام أحمد على هذا الاستدلال، وإنما أبطل الزعم من أساسه، بنفي أن تكون كتب أبي قلابة وقعت ليحيى بن أبي كثير.
* وانظر أيضًا: مسألة سماع الحسن من جابر بن عبد الله ومن سمرة في (المرسل الخفي) ، ومسألة سماع وهب بن منبّه من جابر بن عبد الله أيضًا في (أحاديث الشيوخ الثقات) لأبي بكر الأنصاري (1) ، ومسألة سماع خِلَاسِ بن عَمرو من علي بن أبي طالب (2) .
• ومن القرائن: قلّة حديث الراوي عن شيخ لو كان لقيه لكَثُر حديثه عنه لجلالة ذلك الشيخ وَسعة علمه.
* قال علي بن المديني في (العلل) : ((لم يلق القاسم بن عبد الرحمن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير جابر بن سمرة. قيل له: فلقي ابن عمر؟ قال: كان يحدث عن ابن عمر بحديثين، ولم يسمع من ابن عمر شيئًا)) (3) .
مع أن الفلاس يقول: ((لم يلق أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه روى عن ابن عمر، ولا أشك أنه قد لقيه)) (4) .
(1) أحاديث الشيوخ الثقات (رقم 718) .
(2)
تحفة التحصيل (رقم 242) .
(3)
العلل لابن المديني (63 رقم 81) .
(4)
المراسيل لابن أبي حاتم -بتصرّف- (رقم 642) .
* وقال أبو حاتم الرازي: ((كان عمر بن عبد العزيز واليًا على المدينة، وسلمة بن الأكوع وسهل بن سعد حَيَّين، فلو كان حضرهما لكتب عنهما)) (1) .
* وقال الأثرم: ((قلت لأبي عبد الله: عاصم عن عبد الله بن شقيق عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بادروا الصبح بالوتر؟ فقال: عاصم لم يرو عن عبد الله بن شقيق شيئًا، ولم يرو هذا إلا ابن أبي زائدة، ولا أدري)) (2) .
• ومن لطيف القرائن: ثناء الراوي على شيخ من شيوخه بأنه ما رأى خيرًا منه، فإذا روى عمّن هو أكبرُ شأنًا منه شُكِّكَ في لقائه به!
* مثاله: أخرج أبو زرعة الدمشقي بإسناد صحيح إلى مكحول الشامي أنه قال: ((ما رأيت مثل الشعبي)) ، وقال أبو زرعة عقبه:((فقلت لأحمد ابن صالح: قال مكحول: حدثنا مسروق، فأنكر أن يكون سمع منه للرواية السابقة)) (3) .
• ومن القرائن: أن يصرّح الراوي بعدم السماع في بعض حديثه عمن عاصره، ولا يصرّح بالسماع في شيءٍ من حديثه عنه، فيكون ذلك شاهداً على عدم السماع.
* ومن أمثلة ذلك: قال أبو حاتم الرازي: ((لم أختلف أنا وأبو زرعة
(1) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 493) .
(2)
المراسيل (رقم 561) .
(3)
تاريخ أبي زرعة الدمشقي (رقم 631، 632 بتصرف يسير) .
وجماعة من أصحابنا: أن الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئًا. وكيف سمع من أبان، وهو يقول: بلغني عن أبان؟! قيل له: فإن محمد ابن يحيى النيسابوري كان يقول: قد سمع، قال: محمد بن يحيى بابه السلامة. . . الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئًا، لا لأنه لم يدركه، قد أدركه، وأدرك من هو أكبر منه، ولكن لا يثبت له السماع منه، كما لا يثبت لحبيب بن أبي ثابت سماع من عروة بن الزبير، وهو قد سمع ممن هو أكبر منه. غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حُجّة)) (1) .
وهناك قرائن أخرى، أتركها لغير هذا المجال.
ومن هذه القرائن وأمثلتها لا يعود هناك أدنى شك ولا أخفى ريبة في أن نفي العلم بالسماع إنما يَعني ترجيحَ عدم حصول السماع، بسبب وجود قرائن تشهد لعدم حصوله. وأنه لا علاقةَ (ولا من وَجْهٍ) بين نفي العلم بالسماع واشتراط العلم به، إلا إن كان هناك علاقةٌ بين نفي السماع جَزْمًا بعدم حصوله وبين اشتراط العلم بالسماع!!!
بل إنك ستعلم بُعْدَ استدلالِ من استدل بالإعلال بنفي العلم بالسماع على أنه يدل على اشتراط العلم به فوقَ ما سبق، ببيان أن لنفي العلم بالسماع معانيَ أخرى، بعيدةً كل البعد عن الدلالة على اشتراط العلم بالسماع. فإن كان سبق منها معنى: نفي السماع، أو ترجيح عدم حصول السماع، لوجود قرائن تشهد لعدمه، الذي هو أغلب معنىً يُراد
(1) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 701- 703) .
من عبارات نفي العلم بالسماع= فإن هناك أكثر من معنى آخر، سأوردها بأمثلتها:
• فمن معاني نفي العلم بالسماع: نفي أن يكون الراوي قد تلقي روايته عن شيخه بطريقة السماع، وإن كان قد تلقّاها إجازةً أو مكاتبةً أو وجادة، بل ربّما تلقّاها عَرْضًا.
* وقد سبق من أمثلة ذلك: في ذكرنا لقرينة وقوع الراوي على كتابٍ لمن عاصره، مع عدم تصريحه بالسماع منه في حديث.
* ومن أمثلته أيضًا: يقول البخاري: ((روى أبو بشر [يعني: عن سليمان بن قيس اليشكري] وما له سماع منه)) (1) . بينما يقول البخاري في موطن آخر: ((روى أبو بشر عن كتاب سليمان)) (2) .
* وبينما ينفي أبو داود سماع يزيد بن أبي حبيب من الزهري نفيًا مطلقًا، إذ يقول:((لم يسمع يزيد من الزهري)) (3)، بل ويقول عبد الله بن يزيد المقرىء:((لم يسمع من الزهري شيئًا، ولم يُعاينه)) (4) = يقول أبو حاتم الرازي: ((لم يسمع من الزهري، إنما كتب إليه)) (5)، ويقول الإمام أحمد:((لم يسمع من الزهري شيئًا، وإنما كتب إليه الزهري)) ، وقال:((يزيد عن الزهري كتاب، إلا ما سمى بينه وبين الزهري)) (6) .
(1) العلل الكبير للترمذي (2/ 755) .
(2)
التاريخ الكبير للبخاري (4/ 31) .
(3)
سؤالات الآجري (رقم 1486) .
(4)
المراسيل (رقم 889) .
(5)
العلل لابن أبي حاتم (رقم 1137) .
(6)
مسائل صالح للإمام أحمد (رقم 1017) .
* وقال بشر بن السري عن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون: ((لم يسمع من الزهري. (قال أحمد بن سنان القطان:) معناه أنه عَرَض)) (1) .
* وقال جعفر بن أبي عثمان: ((عن ابن معين: لم يسمع ابن أبي ذئب من الزهري، يعني أنه عرض)) (2) .
* وقال العلائي في (جامع التحصيل) : ((حكى الترمذي في العلل عن البخاري أنه قال: بَشير بن نَهِيك: لا أرى له سماعًا من أبي هريرة. وقد احتجّ هو ومسلم في كتابيهما بروايته عن أبي هريرة. والجمع بين ذلك: أن وكيعًا روى عن عمران بن حُدير عن أبي مِجْلَز عن بشير عن نهيك، قال: أتيت أبا هريرة بكتاب، وقلت له: هذا حديثٌ أرويه عنك؟ قال: نعم. والإجازة أحد أنواع التحمّل، فاحتجّ به الشيخان لذلك. وما ذكره الترمذي ليس فيه إلا نفي السماع، فلا تناقض)) (3) .
ويبدو أن الترمذي فهم ما فهمه العلائي، لأنه بعد أن ذكر كلام البخاري، أسند عقبه كلام بشير بن نهيك باللفظ الذي ذكره العلائي (4) .
لكن البخاري رجع عن هذا الرأي، ذلك أنه أثبت سماع بشير بن نهيك من أبي هريرة في (التاريخ الكبير)(5) .
وهذا الذي استقرّ عليه رأي البخاري هو الصحيح، على ما سنبيّنه
(1) التهذيب (6/ 344) .
(2)
تحفة التحصيل -حاشية- (454 رقم 931) .
(3)
جامع التحصيل (150 رقم 63) .
(4)
العلل الكبير للترمذي (1/ 554- 555) .
(5)
التاريخ الكبير للبخاري (2/ 105) .
في مكانٍ آخر إن شاء الله تعالى.
لكننا نحتجّ بفهم الترمذي والعلائي.
• وآخر ما أريد ذكره من معاني نفي العلم بالسماع: هو الخبر المُجرّد عن أن الراوي لم يذكر ما يدل على السماع ممّن روى عنه، دون إعلالٍ للحديث بذلك، بل مع الحكم بالاتّصال والقبول! وبذلك يظهر لك الفرق بين زعم أن نفي العلم بالسماع إعلالٌ بمجرّد عدم العلم وبين ما ذكرناه نحن هنا، فالفرق كبيرٌ جدًّا، يبلغُ حدَّ الفرق بين الضّدَّين!! إذ من خلال هذا المعنى يصبح الحكمُ بنفي العلم بالسماع دليلاً على عدم اشتراط العلم بالسماع، وهو دليلٌ قاطعٌ لا محيد عنه على ذلك، بخلاف ذلك المعنى الذي يصبح معه نفي العلم بالسماع دليلاً على اشتراط العلم به!!!
وهناك مثالان قاطعان على هذا المعنى، صادران ممن نُسب إليه اشتراط العلم بالسماع، ألا وهو البخاري!!!
وهذان المثالان يتعلقان برواية أخوين توأمين عن أبيهما، هما سليمان، وعبد الله: ابنا بُريدة بن الحُصيب رضي الله عنه.
قال البخاري: ((كانا وُلدا في بطن واحد على عهد عمر)) (1) .
وثبت عن عبد الله بن بريدة أنه ذكر ما يدل على أنه كان يوم مقتل عثمان رضي الله عنه غلامًا يافعًا (2) .
(1) التاريخ الكبير للبخاري (4/ 4) .
(2)
تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 630 رقم 1818)، وتاريخ دمشق -المطبوع: ترجمة عبد الله بن بريدة- (419) .
فإن كان عبد الله بن بريدة وأخوه سليمان وُلدا في آخر خلافة عمر، فمعنى ذلك أنّهما وُلدا سنة (23هـ) ، وربما وُلدا قبل ذلك، بل ذُكر أنهما وُلدا سنة (15هـ) .
أمّا أبوهما بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، فذكره البخاري في (التاريخ الأوسط) فيمن مات بين ستين إلى السبعين (1)، وقال:((يقال مات في خلافة يزيد بن معاوية)) (2) . وهذا هو المستقرُّ الذي لا أعلم فيه خلافًا، وهو أنه توفي بمرور سنة اثنتين وستين أو ثلاث وستين (3) .
وعلى ذلك يكون ابناه سليمان وعبد الله قد أدركا من أبيهما ثلاثين سنة أو أكثر.
فهل يُتَصَوَّر أنهما لم يسمعا منه؟! وقد كانا معه بالمدينة، إلى أن ذهب إلى البصرة، إلى أن استقرّ أخيرًا بمرو في خراسان، وهما معه في جميع تنقّلاته هذه، كما نصّ على ذلك ابن حبان في (صحيحه)(4) . ولو لم ينصّ ابن حبان على ذلك، فابنان لرجل، عاصراه ثلاثين سنة، هل يُتَصَوَّر أنه اختفى عنهما، وما سمعا منه شيئًا حتى مات؟!! كيف وينضاف إلى ذلك أنّ من المتفق عليه أنهما كانا قد نزلا مع أبيهما مرو إلى أن توفي أبوهما!!!
وقبل أن أدخل في صُلب المسألة، فإني أسأل: أي الدليلين أقوى
(1) التاريخ الأوسط للبخاري (1/ 240) .
(2)
التاريخ الأوسط للبخاري (1/ 261) .
(3)
انظر: أسد الغابة (1/ 209- 210) ، والإصابة (1/ 286) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 470) .
(4)
الإحسان (6/ 259 رقم 2513) .
على السماع واللقاء؟ دليلٌ مثلُ هاتيك البُنُوَّة مع المعاصرة الطويلة والمعاشرة الأكيدة بين الأب وأبنائه؟ أم تصريحُ راوٍ بالسماع مرّةً واحدةً عن راوٍ أخى لا علاقة بينهما، لا قرابة ولا بلد، بل ربما كان بلداهما متباعدين: كشامي عن عراقي، أو يماني عن حجازي، ونحوها؟ أي الدليلين أقوى على السماع يا معشر العقلاء؟!!!
هل يمكن أن يقول عاقل إن مجرّدَ ذلك التصريح هو الذي يدل السماع، وأن ذلك الابن -مع كل تلك الملاصقة والمعايشة- لم يسمع من أبيه شيئًا؟!! ثم هل يجرؤ أحدٌ أن ينسب إلى الإمام البخاري تلك العقلية المتحجّرة على ذلك الشرط المزعوم؟!!!
وعلى كل حال، لنبدأ الآن الدخول في ذكر المثالين:
المثال الأول: سليمان بن بريدة، قال عنه البخاري في (التاريخ الكبير) :((لم يذكر سليمان سماعًا من أبيه)) (1) .
فهل يتجرّأ أحدٌ، بعد ادلّة السماع التي ذكرناها آنفًا من كلام البخاري نفسه، الذي أثبت تلك المعاصرة الطويلة بين سليمان وأبيه= أن يزعمَ أن البخاري يردّ حديث سليمان عن أبيه لعدم علمه بالسماع؟!! وأن البخاري لم يكن ملتفتًا إلى كل تلك الأدلّة، مع أنه لم يكن بينه وبين أن يقبل حديثه إلا أن يصرّح بالسماع في حديث واحد؟!! وأنه لم يكن بينه وبين أن يقبل حديث شامي عن يمني إلا أن يصرّح بالسماع في حديث واحد، وإن لم يكن بينهما داعٍ من دواعي اللقاء ولا قرينة إلا ذلك الحديث الواحد؟!!!
(1) التاريخ الكبير للبخاري (4/ 4) .
إن تجرّا أحدٌ على ذلك، فإني -والله- لأجْبَنُ الناس عنه!!!
فإن كنت لا أجرؤ على ذلك، وأربأ بأخي القارىء إلا أن لا يَجْرُؤَ أيضًا، فما هو معنى قول البخاري ((لم يذكر سليمان سماعًا من أبيه)) ؟
المعنى: هو ظاهر العبادة، وهو الخبر المجرّد عن أنه لم يذكر سماعًا من أبيه، وليس في ذلك إعلالٌ بذلك ولا حكمٌ بعدم الاتّصال ولا بالتوقّف فيه.
فإن بقي هناك من يجرؤ على القول بأن البخاري أعلّ أحاديث سليمان عن أبيه لعدم علمه بالسماع، فعليه أن يعلم قبل ذلك أن البخاري حَسَّن حديثًا لسليمان عن أبيه!!!
فقد قال الترمذي في (العلل) : ((قال محمد (يعني البخاري) : أصحّ الأحاديث عندي في المواقيت: حديث جابر بن عبد الله، وحديث أبي موسى. قال: وحديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن ابن بُريدة عن أبيه في المواقيت، وهو حديث حسن. ولم يعرفه إلا من حديث الثوري)) (1) .
وحديث سليمان بن بريدة هذا الذي هو من أصح أحاديث المواقيت عند البخاري: أخرجه مسلم (رقم 613) ، وابن خزيمة في صحيحه (ناصًّا على صحته بصريح مقاله فيه)(رقم 323، 324) ، وابن الجارود في المنتقى (رقم 151) ، وابن حبان في صحيحه (رقم 1492) .
فهل تجد حُجةً أنصع من هذه: على أن نفي البخاري لعلمه بسماع سليمان من أبيه ما هو إلا خبر مجرّد عن ذلك، من غير قَصْدِ إعلالٍ أو توقُفٍ عن الحكم بالاتصال؟!
(1) العلل الكبير للترمذي (1/ 202- 203) .
المثال الثاني: عبد الله بن بريدة عن أبيه.
قال البخاري في ترجمته: ((عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي: قاضي مرو، عن أبيه، سمع سمرة، ومن عمران بن الحصين)) (1) .
وهُنَا أنقل ما ذكره خالد الدريس في كتابه الذي ينصر فيه الشرط المنسوب إلى البخاري (موقف الإمامين. .)، حيث قال:((ذكرتُ فيما سبق: أن قول البخاري (عن) بدل (سمع) فيما يرويه صاحب الترجمة عن شيوخه تدل على أن البخاري لم يثبت عنده سماع صاحب الترجمة ممن روى عنه، وإلا لقال:(سمع) بدل (عن) .
وهنا أشار الإمام البخاري أن عبد الله بن بريدة روى عن أبيه بالعنعنة، مما يدل على أن البخاري لم يقف على ما يُثبت سماع عبد الله من أبيه. ورُغم ذلك فقد أخرج البخاري في صحيحه لعبد الله بن بريدة حديثين، ليس فيهما ما يثبت السماع أو اللقاء بينهما)) ! ثم ذكر الحديثين، وهما في صحيح البخاري فعلاً بغير تصريح بالسماع (2) . ثم عاد خالد الدريس ليقول:((فعلى أي شيءٍ اعتمد البخاري في تصحيحه لهذين الحديثين؟ يبدو أن البخاري أخرج هذين الحديثين لعبد الله بن بريدة عن أبيه مع عدم ثبوت سماع من أبيه لأمرين. .)) ، ثم ذكرهما، وهما حسب رأيه: أن احتمال سماع عبد الله من أبيه أقوى بكثير من احتمال عدم السماع، وأن البخاري لم يعتمد على الحديث الأول أو الثاني في بابهما. . كذا قال (3) !!
(1) التاريخ الكبير للبخاري (5/ 51) .
(2)
صحيح البخاري (رقم 4473، 4350) .
(3)
موقف الإمامين لخالد الدريس (148- 149) .
وكان يكفيه الاحتمال الأول، فإنا نقول: ألم يصححه البخاري بإخراجه في صحيحه؟ ومن قال بأنه لم يعتمد عليه؟ لمَ لا أقول إنه لم يعتمد على الأحاديث الأخرى واعتمد على هذا؟
ثم هذا الحاكم يقول: ((قد احتجّا جميعًا بعبد الله بن بريدة عن أبيه)) (1) . ولمّا ذكر الدارقطني من أخرج له البخاري اعتبارًا أو مقرونًا لم يذكر عبد الله بن بريدة، بل ذكره في مسرده ممن أخرج لهم البخاري احتجاجًا (2) .
وهذا الحافظ لما أراد الاعتذار للبخاري لم يزعم أنه أخرج له في المتابعات أو الشواهد، وإنما قال:((ليس له في البخاري من روايته عن أبيه سوى حديث واحد)) (3) . ومع ما في قوله من أنه لم يخرج له إلا حديثًا وحدًا من نظر، حيث أخرج له حديثين كما سبق، إلا أن هذا اعترافٌ من الحافظ (الذي تبنّى أنه لم يسمع من أبيه) بأنه لا عُذْرَ للبخاري في إخراجه، وكأنه يقول: إنما هو حديثٌ واحد أخطأ فيه البخاري!!!
وبذلك يتّضح أن البخاري قد يقول: ((لا أعلم لفلان سماعًا من فلان)) ، وهو لا يريد الإعلال بذلك، وإنما يريد إخبارَنا بذلك فقط!
فأين هذا ممن جعل كل خبرٍ بعدم العلم بالسماع إعلالاً بعدم العلم به، وبالتالي فهو دليل على اشتراط العلم به؟!!
(1) المستدرك (1/ 7) .
(2)
ذكر أسماء التابعين للدارقطني (رقم 500) .
(3)
هدي الساري (433) .
وما زلنا نناقش الاستدلالَ بالإعلال بعدم العلم بالسماع على أنه دليلٌ على اشتراط العلم به، وقد كان فيما سبق كفاية، وفوق الكفاية. لكنني سأختم بحُجّةٍ لا تحتاج إلى كثير تأمُّل، وهي حجّةٌ كافيةٌ وحدها في إبطال ذلك الاستدلال، وقَطْعِ كل قيل وقال!!
فأقول: أنتم تقولون: إن البخاري يشترط العلم باللقاء لأنه أعلّ أحاديث بعدم العلم باللقاء، أليس كذلك؟
فسيقولون: بلى، إلا إن كانوا قد تراجعوا عن قولهم.
فسأقول لهم: يلزمكم أن مسلمًا يشترط العلم باللقاء أيضًا!!!
فسيقولون: هذا مستحيل، لأنه هو صاحب تلك الحملة الشديدة والغارة الشعواء على من اشترط هذا الشرط.
فأقول لهم: إذا كنتم أخذتم اشتراطَ البخاري للعلم باللقاء واستفدتموه من إعلاله لأحاديث بعدم العلم باللقاء، فيلزمكم أن تقولوا بأن مسلمًا يشترط العلم باللقاء أيضًا، لأنه قد أعلّ أحاديث بعدم العلم باللقاء كذلك!!!
وذلك في ثلاثة أمثلة:
الأول: ذكر الإمام مسلم حديثًا في كتابه (التمييز) من رواية محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس عن جدّه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، ثم تعقّبه بقوله:((لا يُعلم له سماعٌ من ابن عباس، ولا أنه لقيه أو رآه)) (1) .
(1) التمييز لمسلم (215) .
ومع أن هذه العبارة كافية في إلزام الخصم، لكني أعود إليها بالتأكيد على قوّتها في الإلزام!
ذلك أن مسلمًا أعلّ بعدم العلم بالسماع، مع احتمال وقوعه، لحصول المعاصرة. ولذلك لم يلجأ مسلم إلى الجزم بعدم السماع اعتمادًا على عدم المعاصرة، وإنما لجأ إلى الإعلال بنفي العلم بالسماع، التي هي عبارة عن ترجيح لعدم السماع كما سبق بيانه.
ويشهد لوقوع المعاصرة فعلاً بين محمد بن علي وجدِّه: أن ابن حبان ذكر محمد بن علي في طبقة التابعين، ولم يذكر له رواية عن صحابي غير جدّه ابن عباس (1) .
واستدل لوقوع المعاصرة أيضًا الشيخُ أحمد محمد شاكر بطبقة الآخذين عن محمد بن علي، حتى مال إلى صحّة سماعه من جَدِّه (2) .
فلماذا إذن توقّف مسلمٌ عن قبول هذه الرواية مع تحقق المعاصرة؟
أجاب عن ذلك ابن القطان الفاسي في (بيان الوهم والإيهام) ، مبيّنًا أن سبب الشك في سماع محمد بن علي من جدّه ابن عباس أنه أدخل بينه وبينه واسطةً في بعض حديثه عنه (3) .
وبذلك يتضح أن مسلمًا نظر إلى هذه الوسائط بين الحفيد وجدّه، ثم غلب على ظنّه، مع عدم ذكره السماع، ومع كونه حفيدًا وليس ابنًا= أنه لم يعاصره فترةً طويلةً، وإلا لاستغنى بالسماع من جدّه عن أن يروي
(1) الثقات لابن حبان (5/ 352) .
(2)
مسند الإمام أحمد -حاشية التحقيق- (5/ 73- 74 رقم 3205) .
(3)
بيان الوهم والإيهام لابن قطان (2/ 558) .
عنه بواسطة. ولذك ترجح عنده عدم السماع، فعبّر عنه كما كان يعبر البخاري وغيره: بعدم علمه بالسماع.
ونحن لم نكن في حاجةٍ إلى كل هذا الشرح، لأن المخالف يحتج بمجرّد الإعلال بنفي العلم بالسماع على أنه دليلٌ على اشتراط العلم به. وهُنَا قد أعل مسلمٌ بعدم العلم بالسماع، فماذا عساه يقول؟!!
ومن جهة أخرى: نستفيد فائدةً مهمّة تتعلّق بما كنّا قد ذكرناه في تحرير شرط مسلم، وهو أنه لم يكن يكتفي بمطلق المعاصرة، وأنه كان يراعي القرائن. فهذا الإعلال راعى فيه مسلم ذكر الراوي لواسطة بينه وبين من روى عنه، وعليها بنى الإعلال بعدم العلم بالسماع، أي الإعلال بترجيح عدم السماع.
والمثال الثاني: ذكر ابن رجب في (فتح الباري) حديثًا لأبي صالح مولى أمّ هانىء عن ابن عباس، ثم قال:((وقال مسلم في كتابه (التفصيل) : هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتّقى الناسُ حديثَه، ولا يثبت له سماعٌ من ابن عباس)) (1) .
مع أنّ أبا صالح هذا قديمٌ، وقد أدرك من هو أقدم من ابن عباس، فقد ذكروا له روايةً عن علي بن ابي طالب، وهو مولى أخته أم هانىء فاخِته بنت ابي طالب، وروى عنها أيضًا، وروى عن أبي هريرة (2) .
(1) فتح الباري لابن رجب (3/ 201) ، في كتاب الصلاة، باب (48) : هل تُنبش قبور مشركي الجاهلية.
(2)
انظر: التاريخ الكبير للبخاري (2/ 144) ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ =
وقد ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة (1)، وقال في بيانها:((ممن روى عن أسامة بن زيد وعبد الله بن عامر وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري ورافع بن خديج وعبد الله بن عَمرو وأبي هريرة وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن عباس وعائشة وأم سلمة وميمونة وغيرهم)) (2) .
وروى عنه من الكبار: الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وغيرهما.
وتذكّر -بعد ثبوت المعاصرة- أن مسلمًا لم يحكم بالاتّصال، ليتأكد لديك أن مسلمًا كان يراعي القرائن، وأنه لم يكن يكتفي بمطلق المعاصرة.
المثال الثالث: تذكر قصّةٌ صحيحةٌ أن مسلمًا دخل على البخاري، فقال له مسلم:((دعني أُقَبِّل رجليك! يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدّثين، وطبيب الحديث في علله!!!)) . ثم ذُكر بمحضرهما حديث كفّارة المجلس، من رواية موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. فقال مسلم للبخاري:((في الدنيا أحسن من هذا؟! تعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثًا غير هذا؟! فقال البخاري: لا، إلا أنه معلول. فقال مسلم: لا إله إلا الله!! (وارْتَعَدَ)، أخبرني به؟ فقال: استر ما ستر الله، فألحَّ عليه، وقبّل رأسه، وكاد أن يبكي. فقال: اكتب إن كان ولا بُدّ. وأملى عليه رواية وهيب عن سهيل بن أبي صالح
= 431- 432) ، والتهذيب (1/ 416- 417) .
(1)
طبقات ابن سعد (5/ 302) .
(2)
طبقات ابن سعد (5/ 178) .
عن عون بن عبد الله بن عتبة موقوفاً عليه، وقال له:((لم يذكر موسى بن عقبة سماعًا من سهيل، وحديث وُهيب أولى. فقال مسلم: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك!!)) (1) .
فهذا إعلالٌ من البخاري بعدم العلم بالسماع، ويرضى به مسلم، بل يكاد يطير فرحاً به.
أمّا قرينة الإعلال بذلك فقد ذكرها البخاري، وهي رواية وهيب عن سهيل عن عون بن عبد الله بن عتبة، إذ لو كان الحديث عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، لما رواه عن غير أبيه مقطوعًا، ولما خالف وهيبٌ الجادّة في حديث سهيل، وهي روايته عن أبيه عن أبي هريرة.
وهنا نرجع إلى الفائدة الجانبيّة: وهي التأكيد على أن مسلمًا لم يكن يكتفي بمطلق المعاصرة، وأنه كان مراعيًا لقرائن اللقاء كغيره من أهل العلم.
وهنا ننتهي من الردّ على حُجّة من نسب إلى البخاري وغيره من أهل الحديث اشتراط العلم باللقاء بين المتعاصرين في الحديث المعنعن.
وخلصنا من هذه المناقشة بإبطال تلك الحجّة!!
(1) انظر: معرفة علوم الحديث للحاكم (113- 114) ، والإرشاد للخليلي (960- 961) ، وتاريخ بغداد للخطيب (2/ 28- 29)(13/ 102- 103) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (12/ 437) ، والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/ 715- 726)، مع كتاب البخاري: التاريخ الكبير (4/ 105) .
ولقد كان هذا وحده كافيًا في نفي نسبة ذلك الشرط إلى البخاري وغيره من أهل العلم، لأن الحجّة التي أثبتنا بطلانها هي الحجّة الوحيدة على تلك النّسبة، وما دامت حجةً باطلة، فما احْتُجَّ بها عليه -من تلك النسبة- باطلٌ أيضًا!!
لكني أعلم أنني أنتزع قناعةً راسخةً منذ قرون طويلة، وهذا ما هوّنَ عليّ إتمام الاحتجاج على نفي نسبة ذلك الشرط إلى البخاري وإلى غيره من أئمة الحديث، وهذه هي مسألتنا التالية: