الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السادسة: الردُّ على آخر شُبْهَتَيْنِ
الشُّبْهَةُ الأُولى:
أن العلماء الذين نسبوا شَرْطَ العلم بالسماع إلى البخاري إنما نسبوه إليه بناءً على استقراء تصرُّفاته في (الصحيح) وخارجه، فكيف تخالفُهم بغير استقراء؟!
والجواب عن ذلك:
أولاً: أثبتْ -يارعاك الله- أنهم نسبوا الذي نسبوه إلى البخاري بناءً على الاستقراء، هل زعموه هُمْ؟ أم أنتَ زعمته لهم؟!! أم أنّك تظنّ أن كل قولٍ لأهل العلم لا بُدَّ أن يكون مَبْنيًّا على استقراء؟! وأنّه لا دليل إلاّ الاستقراء؟! ثمّ ألا يمكن أن يُخطىء صاحبُ الاستقراء فيه؟ بلى، ولذلك نصُّوا على أن دلالته ظنيّة لا قطعيّة (1) ، ولذلك قد نخالف الاستقراء بدليلٍ أقوى منه، كالإجماع الذي نقله مسلم والحاكم وغيرهما.
أعود فأقول: ما دليلُك أنهم قاموا باستقراءٍ أَوْصَلَهُم إلى تلك النتيجة؟ اللهمّ إلا إن كان دليلك: أنهم لا يقولون قولاً إلا بناءً على استقراء!!! فقولُهم قولاً هو دليلُ استقرائهم الذي أخذوا من نتيجته ذلك القول!!! فيلزم من ذلك الدَّوْر، وهو باطل!!
(1) حيث إن الاستقراء هنا ليس استقراءً عقليًّا قطعيًّا، وإنما هو النوع الثاني من الاستقراء، وهو الاستقراء الناقص. وانظر البحر المحيط للزركشي (6/ 10- 11) .
ثانيًا: بيّنّا آنفًا -في هذا البحث- أن (صحيح البخاري) لا ينفع أن يكون دليلاً على اشتراطه العلم بالسماع، فلا حاجةَ لإعادة ما ذكرناه (1) .
وبيّنّا أيضًا أن أقوال البخاري خارج صحيحه بنفي العلم بالسماع لا تدلّ -ولا من وجه- على اشتراط العلم به (2) .
فأيُّ استقراءٍ -بعد هذا- قام به العلماء فأوصلهم إلى تلك النتيجة؟!
ثالثًا: صورة الاستقراء التي يظن صاحبُ هذه الشبهة أن العلماء قد قاموا بها، والتي يطالبني بالقيام بها حتّى يصحّ لي الردّ عليهم (في رَأْيِه) = هي الصورة التالية:
أن آتي إلى كل إسنادٍ في صحيح البخاري، وإلى كل راويين في كل إسنادٍ فيه، روى أحدهما عن الآخر بالعنعنة، لأبحثَ حينها في جميع روايات ذلك الراوي عمّن روى عنه، لا في صحيح البخاري وحده، ولا في الكتب الستة، ولا الستين. . بل في جميع كتب السنّة، لأنظر: هل صَرّح بالسماع أو اللقاء مَرّةً عنه بإسنادٍ مقبول سالمٍ من العلل، أم لم يُصرِّح.
وهكذا أعمل مع الراوي الثاني في روايته عن الثالث، ومع الثالث في روايته عن الرابع.
ثم أنتقل إلى جميع أسانيد البخاري على هذا المنوال، إسنادًا إسنادًا، وراويًا راويًا فيه.
(1) انظر ما سبق (34- 35، 36- 37) .
(2)
انظر ما سبق (39- 75) .
فالذي يزعمه ذلك الزاعم: أن العلماء قد قاموا بذلك، ووجدوا أن البخاريَّ لم يُخرج قطُّ لراويين إلا وقد ثبت عند ذلك العالم الذي قام بالاستقراء أنه قد صرّح الراوي بالسماع في بعض حديثه عمّن روى عنه، وأن ذلك لم يتخلّف -باستقرائه- في أحدٍ من الرواة.
فهذا الاستقراء. . هل قام به أحدٌ فعلاً؟!!!
ولو قام به أحدٌ، وأمكنه القيام به، هل سيسكت عن الإفصاح والافتخار بأنه قد قام بهذا الاستقراء المعجِز (أي المستحيل) ؟!!!
أمّا الاستقراء الذي يُطالبني به صاحبُ هذه الشبهة، فهو نفس الاستقراء السابق. لكن يجب أن آتي له بعددٍ كبيرٍ من الرواة (1) لم أقف على تصريحٍ بسماع أحدهم من الآخر في شيءٍ من كتب السنّة!!
فوالله لو فعلتُ ذلك، فقمتُ بهذا الاستقراء، وأفنيتُ فيه عمرًا مديدًا، لجاء صاحبُ هذه الشبهة، وقال -بكل سهولة-: لعلّه قد فاتك ما يدل على سماع أولئك الرواة بعضهم من بعض، واطلاعُ البخاري أعظم من اطلاعك، ومن علم حُجّةٌ على من لم يعلم!!!
لكني أعود فأختم الردّ على هذه الشبهة بأن أقول: مَنْ قال إنّ الحجّة في الاستقراء وحده، ولا حجّة في غير الاستقراء؟! حتى تُلزمني به!!
أين ذهب الإجماع الذي توارد على نقله جمعٌ من أهل العلم؟!
(1) ولا يكفي القليل، لأنه لم يكفه القليل الذي ذكرتُه في هذا البحث. فإن سألتَهُ: لمَ لا يكفي المثالُ الواحد على نَقْض تلك الدعوى؟ قال: ((واحدٌ لا يكفي)) ، وكأنّه قد أجاب!! ولو أعدتَ عليه السؤال أعاد الإجابةَ نَفْسَها!!! لأنه عند نفسه قد أجاب!!!