المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: تحرير شرط مسلم: - إجماع المحدثين

[حاتم العوني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌المسألة الأولى: تحرير شَرْطِ البخاري (المنسوب إليه) ، وشَرْطِ مسلم، وشَرْطِ أبي المظفّرِ السمعاني‌‌أولاً: تحرير الشرط المنسوب إلى البخاري:

- ‌أولاً: تحرير الشرط المنسوب إلى البخاري:

- ‌ثانيًا: تحرير شرط مسلم:

- ‌ملاحظة:

- ‌ثالثًا: تحريرُ شَرْطِ أبي المُظَفَّر السمعاني (ت 489ه

- ‌المسألة الثانية: نسبة القول باشتراط العلم بالسماع إلى البخاري: تاريخُها، ودليلُها، ومناقشة الدليل

- ‌المسألة الثالثة: الأدلّة على بطلان نسبة اشتراط العلم باللقاء إلى البخاري وغيره من العلماء

- ‌الدليل العاشر: صحيح البخاري نَفْسُه

- ‌الدليل الثاني عشر: اكتفاء البخاري بالمعاصرة، في نصوص صريحةٍ عنه

- ‌الدليل الثالث عشر: اكتفاءُ جمعٍ من الأئمة بالمعاصرة:

- ‌المسألة الرابعة: بيَانُ صَوَابِ مَذْهَبِ مُسْلِمٍ وقُوّةِ حُجّتِهِ فيه

- ‌المسألة الخامسة: أثر تحرير شرط الحديث المعنعن على السنة

- ‌المسألة السادسة: الردُّ على آخر شُبْهَتَيْنِ

- ‌الشُّبْهَةُ الأُولى:

- ‌ الشُّبْهَةُ الثانية

- ‌فهرس المصادر والمراجع

- ‌دليل الموضوعات

الفصل: ‌ثانيا: تحرير شرط مسلم:

أحدهما للآخر لا يقولان في حديث أحدهما عن الآخر: منقطع، وإنما يقولان: لم يثبت سماع فلان من فلان.

فإذن ليس في حديث المتعاصرين إلا رأيان: أحدهما: هو محمول على الاتصال، والآخر: لم يُعلم اتصال ما بينهما. فأمّا الثالث: وهو منقطع، فلا. فاعلم ذلك، والله الموفّق)) (1) .

أمّا الذهبي فتعقّب ابن القطان بقوله: ((بل رأيهما دالٌّ على الانقطاع)) (2) .

قلت: لكن لازم المذهب، ونصّ مسلم في مقدمته، كلاهما يؤيدان ما ذكره ابن القطان، كما سبق. أمّا موقف الذهبي فغريب مضطرب، لأنّه يصحح نسبة اشتراط العلم باللقاء إلى البخاري، وهذه النسبة إنما تصح على المذهب الذي ذكره ابن القطان هنا، لا على ما اختاره الذهبي.. كما سيأتي شرحه مستقبلاً (3) .

‌ثانيًا: تحرير شرط مسلم:

لقد أبان مسلمٌ عن رأيه في مقدّمة صحيحه بصراحةٍ، حيث قال: ((ذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديمًا وحديثًا: أن كل رجلٍ ثقةٍ روى عن مثله حديثًا، وجائزٌ ممكنٌ له لقاؤه والسماعُ منه، لكونهما جميعًا كانا في عصرٍ واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام= فالرواية ثابتة، والحجّة بها لازمة. إلا أن يكون هناك دلالةٌ بيّنةٌ أن هذا الراوي لم يَلْقَ من روى

(1) بيان الوهم والإيهام لابن القطان (2/ 576) .

(2)

نقد الإمام الذهبي لبيان الوهم والإيهام (84 رقم16) .

(3)

انظر ما سيأتي (42- 43) .

ص: 17

عنه، أو لم يسمع منه شيئًا. فأمّا والأمرُ مُبْهَمٌ، على الإمكان الذي فسّرنا= فالرواية على السماع أبدًا، حتى تكونَ الدلالةُ التي بيّنّا)) (1) .

ويقول في موطنٍ آخر: ((وإنما كان تَفَقُّدُ من تَفَقَّدَ منهم سماعَ رواةِ الحديث ممن روى عنهم= إذا كان الراوي ممن عُرف بالتدليس في الحديث وشُهِر به، فحينئذٍ يبحثون عن سماعه في روايته، ويتفقّدون ذلك منه، كي تنزاح عنهم عِلّةُ التدليس. فمن ابتغى ذلك من غير مُدَلِّس، على الوجه الذي زعم من حكينا قولَه، فما سمعنا ذلك عن أحدٍ ممن سمّينا ولم نُسَمِّ من الأئمة)) (2) .

ويقول في تقديمه لمقالة صاحب المذهب المخالفِ له: ((أن كل إسنادٍ لحديث فيه فلانٌ عن فلان، وقد أحاط العلم بأنهما كانا في عصر واحد، وجائزٌ أن يكون الحديثُ الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به. . .)) (3) .

وقال عقب ذكره لأمثلةٍ للأسانيد الصحيحة مع عدم العلم بالسماع: ((إذِ السماعُ لكل واحدٍ منهم ممكنٌ من صاحبه غير مستنكر، لكونهم جميعًا كانوا في العصر الذي اتفقوا فيه)) (4) .

فمن خلال هذه النقول يتبيّن أن الإمامَ مسلمًا كان يشترطُ لقبول الحديث المعنعن ثلاثةَ شروط:

(1) صحيح مسلم (29- 30) .

(2)

صحيح مسلم (33) .

(3)

صحيح مسلم (29) .

(4)

صحيح مسلم (35) .

ص: 18

الأول: المعاصرة.

الثاني: أن لا يكون الراوي الذي عنعن مدلِّسًا (ممن تُرَدُّ عنعنتهم بذلك) .

الثالث: أن لا يكون هناك ما يدل على عدم السماع.

فأما الشرطان الأولان فظاهران لا خلافَ فيهما ولا غموض، وأمّا الشرط الثالث فقد وقع فيه خلاف، ويحتاج إلى بيان.

لقد صَرّح مسلمٌ بهذا الشرط عندما قال -كما سبق-: ((إلا أن يكون هناك دلالة بيّنةٌ أن هذا الراوي لم يَلْقَ من روى عنه أو لم يسمع منه شيئًا)) . فهذا نصٌّ صريحٌ أن المعاصرة قد تحصل بين الراويين، لكن يمنع من الحكم بالاتصال -عند مسلم- وجودُ دلالةٍ واضحةٍ تنفيه وتمنعه.

فما هو مقصود مسلم بـ (الدلالة البيّنة) ؟

لا شك أن الراوي لو نَفَى عن نفسه السماعَ ممن عاصره، أو علمنا من أخبارهما أنهما لم يجتمعا في بلدٍ واحد قطّ، ولا كانت بينهما مكاتبةٌ أو إجازة= فإن هذه من أبين الدلائل على عدم الاتصال. وحينها فلن يحكم مسلم بالاتّصال، على ما يقتضيه كلامُه الصريحُ في ذلك، وعلى ما نصّ عليه ابن رُشيد السبتي أيضًا (1) . بل هذه الحالة لا تحتاج إلى تنصيص، لأن شرط الاتّصال الذي يشترطه مسلم هنا قد تيقّنا من عدم تحققه، وأصبح انتفاؤه واضحًا، لا قيمةَ معه من اشتراطِ المعاصرة وعدم التدليس.

(1) السنن الأبين (67- 68) .

ص: 19

لكن هناك دلائل بيّنةٌ عند أهل الحديث غير تلك الدلائل اليقينيّة، مثل بُعْدِ البلدان، أو إدخال الوسائط، ونحو ذلك من القرائن التي تشهد لعدم السماع وتُغلّبُ عدمَ حصوله.

فهل هذه الدلائل تَدْخُل في (الدلالة البيّنة) التي ذكرها مسلم؟

الظاهرُ والأصل دخولها فيها، لأنها داخلةٌ في معنى ما ذكره مسلم.

ويؤكد مراعاة مسلم لهذه القرائن أمور:

الأول: صريحُ كلامه، وذلك في قوله بعد ذكره (الدلالة البيّنة) :

((فأمّا والأمر مبهم، على الإمكان الذي فسّرنا، فالرواية على السماع أبدًا، حتى تكون الدلالة التي بيّنا)) .

فتأمّل قوله: ((والأمر مبهم)) ، وما تدل عليه من أن الحكم بالاتّصال بين المتعاصرين إنما يقول به مسلم عندما لا تكون هناك مرجّحات وقرائن تميل بكفّة المسألة إلى عدم السماع، إذ لو كانت هناك مثل تلك المرجحات والقرائن لم تُوصفِ المسألةُ بأن الأمر (أي أمر الاتصال) فيها مبهمٌ.

ثم يؤكّد مسلمٌ أنه كان يراعي القرائن التي تحتفُّ برواية المتعاصرين، فإما أن تؤيدَ احتمال السماع أو أن تُضْعِف احتماله، وذلك في قوله:((أن كل إسنادٍ لحديثٍ فيه فلانٌ عن فلان، وقد أحاط العلمُ بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائزٌ أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به..)) .

فَتَنَبَّهْ إلى أنه ذكر المعاصرة، ثم أضاف إليها شرطًا آخر، وهو جواز السماع وإمكانه، وهو يعني عدم وجود قرائن تُبعد احتمال اللقاء.

ص: 20

نعم هناك قولان آخران لمسلم لا يدلاّن على اشتراط إمكان اللقاء، وهما مقدِّمة كلامه الأول، عندما قال:((وجائزٌ ممكن له لقاؤه والسماع منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد)) ، وقوله:((إذ السماع لكل واحدٍ منهم ممكن من صاحبه غير مستنكر، لكونهم جميعًا كانوا في العصر الذي اتفقوا فيه)) .

لكن هذين القولين المجملين لا يقضيان على النصين المبينين السابقين، خاصة وأن أحدهما جاء استثناءً في آخر كلامه الأول، كما سبق.

الثاني: تطبيقاتٌ لمسلم تدل على مراعاته للقرائن:

ولها عِدّة أمثلة، سنُأجّلُها إلى موطنٍ لاحقٍ (1) . وسأكتفي منها هنا بمثال واحدٍ:

لقد تجنّب الإمامُ مسلم الإخراجَ للحسن البصري عن عمران بن حصين رضي الله عنه في صحيحه خوفًا من عدم تحقق السماع بينهما، مع أن الحسن البصري وُلد سنة (21هـ) ، وتوفي عمران بن حصين سنة (52هـ أو 53هـ) . فالحسن معاصرٌ لعمران زيادةً على ثلاثين عامًا، ساكنَ الحسنُ خلالها عمران بين حصين في بلد واحد (هو البصرة) خمس عشرة سنة. ثم إن عمران بين حصين رضي الله عنه كان أحدَ فقهاء الصحابة الذين بعثهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتعليم الناس بالبصرة، فكان عمران بن حصين بذلك متصدِّرًا للتعليم في بلد الحسن البصري، ولم يكن منعزلاً أو محجوبًا بإمارة أو ولاية.

(1) انظر ما يأتي (73، 74، 75) .

ص: 21

ومع ذلك كلِّه يقول الحاكم في (المستدرك) عقب حديث للحسن عن عمران رضي الله عنه: ((حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه بطوله. والذي عندي أنهما لم يُخرجا من ذلك خشية الإرسال. . .)) (1) .

وقال في موطن آخر، مُصَرِّحًا بأنّ للشيخين قولاً في هذه المسألة ينقله الحاكم عنهما:((لم يُخرج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج في هذه الترجمة حرفًا، وذكرا أن الحسن لم يسمع من عمران، والذي عندي أن الحسن سمع من عمران)) (2) .

فلمَ خشيَ مسلمٌ الإرسالَ، مع تحقق المعاصرة الطويلة؟!

الثالث: نصَّ على مراعاة مسلم للقرائن غيرُ واحدٍ من العلماء:

يقول ابن القطان الفاسي (ت 638هـ) في (بيان الوهم والإبهام) ، متحدّثًا عن أن إدخال الوسائط بين الراويين يدل على عدم السماع، عند عدم تصريح أحدهما بلقائه الآخر في رواية أخرى:((ويكون هذا (يعني: الإنقطاع) أبين في اثنين لم يُعلم سماعُ أحدهما من الآخر، وإن كان الزمانُ قد جمعهما. وعلى هذا المحدِّثون، وعليه وضعوا كتبهم: كمسلم في كتاب (التمييز) ، والدارقطني في (علله) ، والترمذي، وما يقع للبخاري، والنسائي، والبزار، وغيرهم ممن لا يُحصَى كثرة: تجدُهم دائبين يقضون بانقطاع الحديث المعنعن، إذا رُوي بزيادة واحدٍ بينهما)) (3) .

(1) المستدرك (1/ 29) .

(2)

المستدرك (4/ 567) .

(3)

بيان الوهم والإيهام لابن القطان (2/ 416) .

ص: 22

ويقول العلائي في (جامع التحصيل)، في سياق ذكره لمذاهب العلماء في الحديث المعنعن:((والقول الرابع: أنه يُكتفى بمجرّد إمكان اللقاء، دون ثبوت أصله. فمتى كان الراوي بريئًا من تُهمة التدليس، وكان لقاؤه لمن روى عنه بالعنعنة ممكنًا من حيث السِّنّ والبلد= كان الحديثُ مُتّصلاً، وإن لم يأتِ أنهما اجتمعا قط. وهذا قول الإمام مسلم، والحاكم أبي عبد الله، والقاضي أبي بكر الباقلاني، والإمام أبي بكر الصيرفي من أصحابنا. وقد جعله مسلم رحمه الله قولَ كافّةِ أهل الحديث)) (1) .

فهذان عالمان يَنُصَّان على مراعاة الإمام مسلم للقرائن، فذكر الأولُ: قرينةَ إدخالِ للوسائط (2)، وذكر الثاني: قرينةَ بُعْدِ البلدان بين الراويين.

ويزيد قول هذين الإمامين قوّةً أمران:

- أن ابن القطان معتمدٌ في نقله لمذهب الإمام مسلم على كتاب له قد فُقِد أغلبه، وهو كتاب (التمييز) . فعند ابن القطان زيادةُ علم، ليس لدينا منها إلا اليسير.

- وأن العلائي ممن ينصر رأي البخاري، ومع ذلك فقد أنصف مسلمًا عندما نقل هذا عنه.

ومع أني ما كنتُ أحسب أن أحدًا سيشكُ في أن إمامًا مثل مسلم (في نَقْدِه وجَهْبَذَتِه) كان مراعيًا للقرائن الشاهدة للسماع أو عدمه، لأن مراعاة هذه القرائن أمرٌ لا يخفى على طلبة الحديث في زماننا، فكيف

(1) جامع التحصيل (117) .

(2)

وانظر موقف الإمامين لخالد الدريس (350- 353) .

ص: 23

بأحدِ أئمة العصر الذهبي للسنة؟!! = لكني أقول أخيرًا: هل يتصّورُ أحدٌ أن ناقدًا من النّقاد (دون مسلمٍ في العلم، فضلاً عن مسلم) كان يكتفي بالمعاصرة مطلقًا، دون نظرٍ منه إلى القرائن أبدًا؟!! وهل يتصوّرُ أحدٌ أنه لو روى راوٍ خراساني عن آخر أندلسيٍّ، أو روى يمانيٌّ عن قوقازي حديثًا واحدًا معنعنًا، مع روايته عنه أحاديث أخرى بواسطةِ راوٍ أو راويين فأكثر، وكان الحديث الأول (الذي يرويه معنعنًا بغير واسطة) فيه نكارةٌ لا يحتملها أحدُ من رواته= أن مسلمًا سيحكم باتّصال مثل هذا الحديث؟!!!

فإن قيل: بَالَغْتَ في ذكر القرائن، فلا يقول أحدٌ باتّصال مثل هذا الحديث.

فأقول: هذا هو معنى قولكم إن مسلمًا لا ينظر إلى شيءٍ سوى المعاصرة وانتفاء التدليس، فالمبالغة منكم لا مني!

وعليه فلا بُدَّ أن تُقِرَّ بأن لمسلمٍ نظرًا ما إلى القرائن، بل قد أقررتَ!

يبقى أن يزعم زاعمٌ بغير دليل، وغير ناظرٍ إلى الأدلّة المخالفةِ لقوله: إن نَظَرَ مسلمٍ إلى القرائن ضعيفٌ، لا كنظر غيره من الأئمة.

وكفى بحكاية مثل هذا الزعم بيانًا لبطلانه.

فإن ادُّعى دليلٌ لذلك: بأن مسلمًا أخرج أسانيد في صحيحه حُكم فيها بعدم لقاء رواتها لبعضهم، فإنه يلزم على هذا الاستدلال أن يكون البخاريُّ مثلَ مسلم، لأنه أخرج أيضًا أسانيد حُكم فيها بعدم لقاء رواتها لبعضهم (1) !!

(1) انظر أمثلةً لذلك في تحفة التحصيل للعراقي (رقم 275، 426، 457، 688، 358، 773، 790، 956 مع الحاشية، 983 مرتين، 1002، 1095، 1186) .

ص: 24

على أن الصواب: هو أن الشيخين (البخاريَّ ومسلمًا) كانا مراعيين لقرائن السماع وعدمه أتمَّ مراعاة، وأمّا ما أخرجاه وحُكم عليه بعدم السماع فإنه لا يتجاوز أن يكون اختلافَ اجتهادٍ بين الأئمة غالبًا، وقد يصح أن يُعتذر في بعض الأحاديث بأنهما إنما أخرجاها متابعةً أو شاهدًا لا على وَجْهِ الأصالة والاحتجاج (1) ، وقد يصحُّ أيضًا أن يكون إخراجُه بيانًا لعلّته!! فيما إذا كان سياقُ ذكرهما له يدل على هذا المعنى.

وانظر كيف قاد اعتقادُ عدمِ مراعاة مسلم للقرائن إلى ظُلمِ مسلم (عليه رحمة الله) !! وذلك في قول ابن رجب: ((ويردُّ على ما ذكره مسلمٌ: أنه يلزمه أن يحكم باتّصال كل حديث رواه من ثبت له رؤيةٌ من النبي صلى الله عليه وسلم، بل هؤلاء أولى، لأن هؤلاء ثبت لهم اللُّقِيّ، وهو يكتفي بمجرّد إمكان السماع. ويلزمه أيضًا الحُكْمُ باتصال حديث كل من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأمكن لُقِيُّهُ له، إذا روى عنه شيئًا، وإن لم يثبت سماعه منه، ولا يكون حديثُه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهذا خلافُ إجماع أئمة الحديث)) (2) .

لقد ظنَّ ابنُ رجب أن مسلمًا لا يراعي قرائن عد السماع، ولذلك ألزمه بهذين الإلزامين.

فلن تجدَ في الردّ على ذلك الظنّ، ولا في دَفْعِ هذين الإلزامين، أقوى من تصريح مسلم بعدم التزامه بهما.

ففي الإلزام الأول: يقول مسلم في كتابه (الطبقات) ، وفي طبقة

(1) وانظر موقف الإمامين لخالد الدريس (153- 156) .

(2)

شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 598) .

ص: 25

التابعين: ((فأوّل ما نبدأ بذكره منهم، من قيل له إنه وُلد في حاية النبي صلى الله عليه وسلم وبعضُهم سمّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالاسم الذي هو اسمه)) (1) .

فيُعلن مسلم هنا أن هؤلاء ممن وُلد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسمّاه النبي صلى الله عليه وسلم= أنهم من التابعين، وحديث التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصفه أحدٌ بأنه متّصل.

وأمّا الإلزام الثاني: فإن مسلمًا أول من صنّف جزءًا في المخضرمين، والمخضرمون أعلى طبقةٍ في التابعين. ومع ذلك فقد صَرّح مسلمٌ بعدم الحكم بلقائهم للنبي صلى الله عليه وسلم، عندما قال في افتتاح جزئه فيهم:((ذكر من أدرك الجاهليّة، ولم يَلْقَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولكنه صحب الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم)) (2) .

فانظر إلى قوله: ((ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم)) وما يتضمّنه من عدم الاكتفاء المطلق بالمعاصرة.

ونخلص بذلك أن شروط مسلم لقبول الحديث المعنعن ثلاثة (كما سبق)، هي:

الأول: المعاصرة.

الثاني: أن لا يكون الراوي ممن تُرَدُّ عنعنته بالتدليس.

الثالث: عدمُ وجود دليل يقطع بانتفاء اللقاء، أو قرينةٍ تشهد لعدمه.

(1) الطبقات لمسلم (1/ 227) .

(2)

معرفة علوم الحديث للحاكم (44) .

ص: 26