الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة: أثر تحرير شرط الحديث المعنعن على السنة
النبوية
لقد أوردت هذه المسألة، وحرصتُ على توضيح بعض أثر تحريرنا السابق، لسببين:
الأول: بيانًا لثمرة هذا التحرير العلميّة والعمليّة في السنة النبويّة.
والثاني: أن يُعلم أنها من أمهات المسائل الحديثيّة، وليست ترفًا علميًّا.
فمن آثار تحريرنا السابق في شرط الحديث المعنعن:
أولاً: بيان حكم الحديث المعنعن الذي مَلأَ خزائن السنّة وغطَّى صحائفَ الرواية.
فإن من نسب إلى البخاري شرطَ العلمِ باللقاء من أهل العلم المتأخّرين، رجّحوا (في الغالب) مذهب البخاري على مذهب مسلم. وبناءً على ذلك يلزمهم أن يبحثوا في رواية كل متعاصرَين، فإن ثبت السماع مَرّة قُبل حديثه عنه، وإلا رُدّ حديثه.
أمّا بعد ردِّنا لتلك النّسبة، وبعد بيان أن كل أهل العلم (قبل القاضي عياض) على مذهب واحد، هو مذهب مسلم. فلن أتوقّف عن
قبول حديث المتعاصرين حتى يثبت السماع، بل سأحكم بالاتّصال بالشروط التي وضعها مسلم.
فأيُّ أثرٍ أعظم من أثرٍ يُحَكَّم في جُلّ السنة وغالب الروايات؟!!
ثانيًا: الدفاعُ عن السنّة النبويّة عمومًا، وعن ثاني أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى خصوصًا، ألا وهو صحيح الإمام مسلم.
فإنه إن كان اشتراطُ العلم باللقاء خطأً لم يقل به أحدٌ من أهل النقد والتعليل من أئمة الحديث، فلن يكون في الحُكم على السنة باعتباره إلا إخراجٌ لجزءٍ عظيم من ثابت السنة وصحيح الأثر من السنة والأثر، وإبطالٌ للاحتجاج والعمل بما تلزم حجته ويجب العمل بمقتضاه.
وماذا يريد علماء السنة من علم السنة إلا الدفاع عنها من أن يُلحَقَ بها ما ليس منها، أو يُنفى عنها ما هو منها؟!!
أمّا صحيح مسلم، ومسلمٌ نفسه، فقد كان جَرّاء نسبة ذلك الشرط إلى البخاري أن وقع عليهما ظُلمٌ عظيم، واستُخِفّ بهما استخفافًا ما كان حقُّهما علينا أن نواجههما به!!!
فانظر مثلاً إلى إمامٍ كالعلائي، كيف قاده اعتقادُ صحّة نسبة شرط العلم إلى البخاري، واستحضارُ جلالةِ البخاري وأنه لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء= إلى أن لا يقسم بالسويّة، ولا يعدل في المسألة العلميّة!! فإذا جاء حديثٌ في صحيح مسلم نُفي أو شُكِّكَ في سماع راويه ممن روى عنه، قال: ((هذا على قاعدة مسلم في الاكتفاء
بالمعاصرة)) (1) . وإذا جاء حديثٌ مثله في صحيح البخاري أجاب: بأن مجرّد إخراج البخاري يُثبت الاتصال، لما عُلِم من شرطه في ذلك (2) .
ثم أي ظلم أعظم من أن يُخطَّا المصيب، وأن يُجَهَّل العالم، وأن يُتّهم في ورعه إمامٌ من أئمة الورع والدين؟!!
لقد خُطِّىءَ مسلمٌ وهو مُحقّ!
وجُهِّل لمّا زُعم أن الإجماعَ الذي نقله عن شيوخه وأهل العلم في عصره ومن قبلهم منخرمٌ. . بل باطلٌ بإجماعٍ على ضِدِّه!!! أو بمخالفة المحققين والجماهير في أقل تقدير!!!
واتُّهم في ورعه لمّا ادُّعيَ أنه قصد بحَمْلته الشديدة تلك، وبتشنيعه على من كان يردّ قوله= الإمامَ البخاريَّ، أو عليَّ بنَ المديني، أو غيرهما من أئمة المحدثين.
ومع كُلّ هذا الظلم الذي نالَ مسلمًا، فإن الأشنعَ منه والأخطر الظلمُ الذي نال صحيحَه!!
فإن مسلمًا قد نزل في أول منازل الآخرة، وسيلقى ربَّه عز وجل، وسيجازيه تعالى بما هو له أهلٌ بعفوه ورحمته وجوده سبحانه، و (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلَاّ الإحْسَانُ) .
أمّا صحيح مسلم فهو الباقي بين أيدينا، وهو المصدر العظيم من مصادر السنة، الذي يستحقُّ أن نبذل في سبيل الدفاع عنه دُنيانا كلَّها.
(1) انظر: جامع التحصيل للعلائي (رقم 264، 295، 328) .
(2)
انظر: جامع التحصيل (رقم 8، 200، 347) .
ولن أُطيل في بيان الظلم الذي نال صحيح مسلم، ولن أُفَصِّل وُجُوهَ هذا الظلم، فيكفيك منها الوجه المؤلم التالي ذكره:
فبعد أن رجّح ابنُ رجب الشرط المنسوب إلى البخاري، قال:((فإن قال قائل: هذا يلزمُ منه طَرْحُ أكثر الأحاديث وتركُ الاحتجاج بها؟! قيل: من هاهُنا عَظُمَ ذلك على مسلم رحمه الله . والصواب: أن ما لم يرد فيه السماع من الأسانيد لا يُحكم باتّصاله، ويُحتجُّ به مع إمكان اللُّقِيّ، كما يُحتجّ بمرسل أكابر التابعين، كما نصَّ عليه الإمامُ أحمد، وقد سبق ذكر ذلك في المرسل)) (1) .
فاللهمّ أسألك عفوَك!! خرجنا بأن صحيح مسلم (ثاني أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى) حكمُه حكم المراسيل!!! والحاصل أن مسلمًا أقرّ قاعدةً في مقدّمة صحيحه تقول: والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجّة!!!
أبمثل هذا ندافع عن صحيح مسلم؟!! فعن السنة النبويّة كُلِّها؟!!!
رحم الله ابنَ رجب!! فهو معذورٌ مأجورٌ (إن شاء الله تعالى) ، فقد قال ما أدّى إليه اجتهادُهُ. لكنّي ملومٌ مأزورٌ إن سكتُّ عن بيان خطئه فيما قال!!
ثم يأتي بحثنا هذا، بنتيجته تلك، ليدفع عن مسلم وصحيحِه ذلك الظلمَ جميعَه، منافحًا عن السنة النبويّة المشرّفة كلِّها في مضامينه.
ثم إن للبحث بعد ذلك من النتائج الأخرى الفرعيّة والجانبيّة ما لن يُحرمَها مَنْ تمعّن فيه، وأجال فكره في معانيه.
(1) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 597) .