الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر، وصل ونم)). (1)
وفي الجمع بين الدنيا والآخرة يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون - فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} (الجمعة: 9 - 10).
ولما أراد أناس من أصحابه الإعراض عن الدنيا وملذاتها وهجر النساء والترهب، قال صلى الله عليه وسلم:((إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فأولئك في الديارات والصوامع، فاعبدوا الله ولا تشركوا به، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم بكم))، ونزلت فيهم الآية:{يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (المائدة: 87). (2)
د. المثالية الواقعية
كثيراً ما تجنح الشرائع التي يشرعها الإنسان نحو المثالية التي لا تتحقق، فجمهورية أفلاطون الفاضلة لم تجاوز عقله وقلمه، وفي مقابله قد يخضع البعض للواقع الجاثم على المجتمع، فيعمد إلى تكييف نفسه ومبادئه مع الحالة الراهنة اعترافاً بوطأة هذا الواقع وإذعاناً له، فحين عجزت مجتمعات الغرب عن منع الخمر أو الزنا أو الفواحش لم تجد ما يمنعها من الاعتراف بهذا الواقع وتقنينه، ليصبح شرعة مباحة عند الناس؛ تفني الجنس البشري وتهدد وجوده بما تحمله تلك الآثام من أمراض وبلايا اجتماعية، ليتحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لم تظهر الفاحشة في
(1) أخرجه أبو داود ح (1369).
(2)
أخرجه ابن جرير في التفسير (4/ 9)، وابن المبارك في الزهد ح (1031).
قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)). (1)
وأما الإسلام فإنه دين واقعي مثالي، فواقعيته مبنية على أنه سلوك إنساني يعيشه الناس يومياً، وأما مثاليته فيحققها أنه يهدف إلى إصلاح المجتمع، ولا يرضى بالتعايش والمهادنة مع الخطأ والرذيلة.
واقعيته يوضحها تلاؤم تشريعاته مع فطرة الإنسان وتحقيقها لحاجاته ورغباته التي علمها الله فشرع ما يناسبها {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (الملك: 14)، فلم يأمر الإسلام بالتعفف عن النكاح، ولا منع من استحالت عليهم الحياة الزوجية من الافتراق بالطلاق {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً} (النساء: 130).
ولم يأمر الإسلام بإعطاء الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن، بل شرع ما يرد الإساءة ويردع الجاني ويمنعه من التمادي، ولكنه رغب أيضاً في العفو والمسامحة والصفح، قال تعالى:{وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين - ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيلٍ} (الشورى: 40 - 41).
وتسطع هذه المزاوجة بين الواقع والمثال في تدرج الإسلام في معالجة الأمراض والآثام المستفحلة في المجتمع، فعندما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في أمة تشرب الخمر شُربَها للماء؛ تدرج في تحريم الخمر، فأشار أولاً إلى ما فيها من السوء، ليهجرها أصحاب العزائم والأحلام:{يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} (البقرة: 219)، فالخمر فيها منافع محدودة (كالتجارة) لكن ما فيها من الإثم والضرر أعظم.
(1) أخرجه ابن ماجه ح (4019).
ثم في مرحلة أخرى منع المسلمين من تناولها سائر النهار، لأنها تشغل عن الصلاة وتفسدها، فتضايق عليهم وقت شربها {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} (النساء: 43).
لما نزلت هذه الآية أحس الصحابة أن الله يشدد عليهم في الخمر، فدعا عمر رضي الله عنه الله فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزل قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون - إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} (المائدة: 90 - 91)، فدُعي عمر، فقُرئت عليه، فقال:(انتهينا انتهينا). (1)
تقول أم المؤمنين عائشة: (إنما نزل أول ما نزل منه [أي من القرآن] سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام؛ نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً). (2)
لهذا ولغيره يدعو المستشرق الشهير جوزيف شاخت المحاضر في الدراسات الإسلامية في جامعتي أكسفورد وليدن في كتابه "تراث الإسلام" إلى دراسة الشريعة الإسلامية، فيقول: "من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضّر قانونه الديني الذي يسمى (بالشريعة)، والشريعة الإسلامية تختلف اختلافاً واضحاً عن جميع أشكال القانون إلى حدّ أن دراستها أمر لا غنى عنه؛ لكي نقدر المدى الكامل للأمور القانونية تقديراً كافياً .. إن الشريعة الإسلامية شيء فريد في بابه، وهي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وهي
(1) أخرجه الترمذي ح (3049)، والنسائي ح (5540)، وأبو داود ح (3670).
(2)
أخرجه البخاري ح (4993).