الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ [أَبُو دَاوُدَ بسنده إلى أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» ]«1» .
وَقَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِخْبَارٌ بِتَوْحِيدِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَضَمَّنَ قَسَمًا لِقَوْلِهِ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَهَذِهِ اللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، فَقَوْلُهُ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَبَرٌ وَقَسَمٌ أَنَّهُ سَيَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً أَيْ لَا أَحَدَ أَصْدَقُ مِنْهُ فِي حَدِيثِهِ وَخَبَرِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
[سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلَاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُنَافِقِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فَرَجَعَ نَاسٌ خَرَجُوا مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ تَقُولُ: نَقْتُلُهُمْ، وفرقة تقول: لا، هم المؤمنون، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد» «3» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ رَجَعَ يَوْمَئِذٍ بِثُلُثِ الْجَيْشِ، رَجَعَ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَبَقِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَبْعِمِائَةٍ، وقال العوفي عن ابن عباس: نزلت
(1) ما بين معقوفين زيادة من سنن أبي داود (أدب باب 131) ومكانه في الأصل بياض. [.....]
(2)
مسند أحمد 5/ 184.
(3)
هذا لفظ مسلم (حج حديث 488) من طريق أبي هريرة. أما لفظ أحمد (5/ 184) ومسلم (حج 490 ومنافقين 6) والبخاري (تفسير سورة النساء باب 12) جميعا من طريق زيد بن ثابت فهو: «كما تنفي النار خبث الفضة» .
فِي قَوْمٍ كَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، وكانوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ فَقَالُوا: إِنْ لَقِينَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَلَيْسَ عَلَيْنَا مِنْهُمْ بَأْسٌ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ، قَالَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: ارْكَبُوا إِلَى الْجُبَنَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَقَالَتْ فِئَةٌ أُخْرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ كَمَا قَالُوا: أَتَقْتُلُونَ قَوْمًا قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ من أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا وَلَمْ يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ، نستحل دماءهم وَأَمْوَالُهُمْ؟ فَكَانُوا كَذَلِكَ فِئَتَيْنِ، وَالرَّسُولُ عِنْدَهُمْ لَا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء، فنزلت فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنِ ابْنٍ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقَاوُلِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي شَأْنِ عَبْدِ الله بن أبي، حين استعذر مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ، وَهَذَا غَرِيبٌ، وقيل غير ذلك.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَيْ رَدَّهُمْ وَأَوْقَعَهُمْ فِي الْخَطَأِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَرْكَسَهُمْ أَيْ أَوْقَعَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَهْلَكَهُمْ وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَضَلَّهُمْ، وَقَوْلُهُ: بِما كَسَبُوا أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمُ الرَّسُولَ وَاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أَيْ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى الهدى ولا مخلص له إليه، وقوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً أَيْ هُمْ يَوَدُّونَ لَكُمُ الضَّلَالَةَ لِتَسْتَوُوا أَنْتُمْ وَإِيَّاهُمْ فِيهَا وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ وَبُغْضِهِمْ لَكُمْ وَلِهَذَا قَالَ: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ تَرَكُوا الْهِجْرَةَ، قَالَهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَظْهَرُوا كُفْرَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أَيْ لَا تُوَالُوهُمْ وَلَا تَسْتَنْصِرُوا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك، ثم استثنى الله مِنْ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَيْ إِلَّا الَّذِينَ لَجَئُوا وَتَحَيَّزُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مُهَادَنَةٌ، أَوْ عَقْدُ ذِمَّةٍ فَاجْعَلُوا حُكْمَهُمْ كَحُكْمِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيَّ حَدَّثَهُمْ قَالَ: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَأَسْلَمَ مَنْ حَوْلَهُمْ، قَالَ سُرَاقَةُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ النِّعْمَةَ، فَقَالُوا: صَهٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«دَعُوهُ، مَا تُرِيدُ؟» قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى قَوْمِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنَّ تُوَادِعَهُمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَوْمُكَ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا لَمْ تَخْشُنْ قُلُوبُ قَوْمِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ:«اذْهَبْ مَعَهُ فَافْعَلْ مَا يُرِيدُ» فَصَالَحَهُمْ خَالِدٌ عَلَى أَلَّا يُعِينُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ أَسْلَمَتْ قريش أسلموا معهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما
كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَقَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فكان من وصل إليهم كان مَعَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ، وَهَذَا أَنْسَبُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي قِصَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: فَكَانَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي صُلْحِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي صلح محمد صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَعَهْدِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَةِ: 5] .
وَقَوْلُهُ: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ الآية، هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ يَجِيئُونَ إِلَى الْمَصَافِّ وَهُمْ حَصِرَةٌ صُدُورُهُمْ أَيْ ضَيِّقَةٌ صُدُورُهُمْ مُبْغِضِينَ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ، وَلَا يَهُونُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ بَلْ هُمْ لَا لَكُمْ وَلَا عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ أَيْ مِنْ لُطْفِهِ بِكُمْ أَنْ كَفَّهُمْ عَنْكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أَيِ الْمُسَالَمَةَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أي فليس لكم أن تقاتلوهم مَا دَامَتْ حَالُهُمْ كَذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ كَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بِدْرٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَحَضَرُوا الْقِتَالَ وَهُمْ كَارِهُونَ كَالْعَبَّاسِ وَنَحْوِهِ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بِأَسْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ الْآيَةَ، هَؤُلَاءِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ كَمَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَلَكِنْ نِيَّةُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ نِيَّةِ أُولَئِكَ، فَإِنَّ هؤلاء قوم مُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِأَصْحَابِهِ الْإِسْلَامَ لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن تعبدون مَعَهُمْ مَا يَعْبُدُونَ لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ مَعَ أُولَئِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 14] ، وَقَالَ هَاهُنَا كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها أَيْ انْهَمَكُوا فِيهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْفِتْنَةُ- هَاهُنَا- الشِّرْكُ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُسَلِّمُونَ رِيَاءً ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الْأَوْثَانِ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمَنُوا هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيُصْلِحُوا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ المهادنة والصلح، وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ أي عن القتال، فَخُذُوهُمْ أسراء، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أَيْ أَيْنَ لَقِيتُمُوهُمْ، وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أَيْ بَيِّنًا واضحا.