الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 126]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بالله منكم ونبينا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ الآية، ثم أفلج اللَّهُ حُجَّةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالضَّحَّاكِ وَأَبِي صَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ عن ابن عباس رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: تَخَاصَمَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ، فَقَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ: كِتَابُنَا خَيْرُ الْكُتُبِ، وَنَبِيُّنَا خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ: لَا دِينَ إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَكِتَابُنَا نَسَخَ كُلَّ كِتَابٍ، وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأُمِرْتُمْ وَأُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكِتَابِكُمْ وَنَعْمَلَ بكتابنا فقضى الله بينهم، وقال: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ الآية.
وَخَيَّرَ بَيْنَ الْأَدْيَانِ فَقَالَ: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ إِلَى قَوْلِهِ:
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَتِ الْعَرَبُ: لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: 111] ، وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [آلِ عمران: 80] وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الدِّينَ لَيْسَ بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى شَيْئًا حَصَلَ لَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ هو على الحق سُمِعَ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ وَلَا لَهُمُ النَّجَاةُ بِمُجَرَّدِ التمني بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الْكِرَامِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7- 8] وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ أَبَا بكر رضي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كيف الفلاح بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فكل سوء عملناه جزينا به؟ فقال
(1) مسند أحمد 1/ 11.
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرَضُ، أَلَسْتَ تَنْصَبُ، أَلَسْتَ تَحْزَنُ، أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ «1» ؟» قَالَ: بلى. قال: «فهو مما تُجْزَوْنَ بِهِ» . وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ زِيَادٍ الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا» .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هُشَيْمِ بْنِ جُهَيْمَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، حَدَّثَنَا زِيَادٌ الْجَصَّاصُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر: انظروا المكان الذي فيه عبد الله بن الزبير مصلوبا فلا تمرن عليه، قال: فسها الغلام فإذا عبد الله بن عُمَرَ يَنْظُرُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ ثَلَاثًا، أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكَ إلا ضوّاما قَوَّامًا وَصَّالًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُوَ مع مساوي ما أصبت أن لا يُعَذِّبَكَ اللَّهُ بَعْدَهَا، قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «من يَعْمَلْ سُوءًا فِي الدُّنْيَا يُجْزَ بِهِ» وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بن عطاء به مختصرا، وقال فِي مُسْنَدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المستمر العروقي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ حَيَّانَ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي حَيَّانَ بْنِ بِسْطَامٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَمَرَّ بِعَبْدِ الله بن الزبير وهو مصلوب، فقال: رحمة الله عليك أَبَا خُبَيْبٍ، سَمِعْتُ أَبَاكَ يَعْنِي الزُّبَيْرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة» ثُمَّ قَالَ:
لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ الزُّبَيْرِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي مَوْلَى بن سِبَاعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت علي؟» قلت: بلى يا رسول الله. قال: فاقرأنيها فلا أعلم إلا أني قد وجدت انفصاما في ظهري حتى تمطيت لَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مالك يَا أَبَا بَكْرٍ؟» قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَإِنَّا لَمَجْزِيُّونَ بِكُلِّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا أَنْتَ يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون، فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم
(1) اللأواء: المشقة والشدة.
(2)
مسند أحمد 1/ 6.
ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة» ، وكذا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ يَضْعُفُ، وَمَوْلَى بن سباع مجهول. وقال ابن جرير «1» : حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: لَمَّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر:
جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إنما هي المصيبات فِي الدُّنْيَا» .
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ الصِّدِّيقِ: قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عياض عن سلمان بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَشَدَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«الْمَصَائِبُ وَالْأَمْرَاضُ وَالْأَحْزَانُ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ» .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وأحمد بن منصور، قالا:
أنبأنا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الحسن المحاربي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قُنْفُذٍ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّ مَا نَعْمَلُ نُؤَاخَذُ بِهِ؟ فَقَالَ:«يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ يُصِيبُكَ كَذَا وَكَذَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ» .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ بَكْرَ بْنَ سِوَادَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي يَزِيدَ حَدَّثَهُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فَقَالَ: إِنَّا لنجزي بكل ما عملناه، هَلَكْنَا إذًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«نَعَمْ يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا فِي نَفْسِهِ فِي جَسَدِهِ فِيمَا يُؤْذِيهِ» .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَشَدَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ:«مَا هِيَ يَا عَائِشَةُ؟» قُلْتُ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، فَقَالَ:«هُوَ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ حَتَّى النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا» ورواه ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ صَالِحِ بْنِ رُسْتُمَ الْخَزَّازِ بِهِ «3» .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أُمَيَّةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، فقالت: ما سألني أحد عن هذه الآية مُنْذُ سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ هَذِهِ مُبَايَعَةُ الله للعبد
(1) تفسير الطبري 4/ 294.
(2)
تفسير الطبري 4/ 293.
(3)
تفسير الطبري 4/ 291 وسنن أبي داود (جنائز باب 1) .
مِمَّا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى وَالنَّكْبَةِ وَالشَّوْكَةِ حَتَّى الْبِضَاعَةُ يَضَعُهَا فِي كُمِّهِ، فَيَفْزَعُ لَهَا، فَيَجِدُهَا فِي جَيْبِهِ حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ، كَمَا أن الذهب يخرج مِنَ الْكِيرِ» .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، قَالَ:«إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُؤْجَرُ فِي كل شيء حتى في القبض عِنْدَ الْمَوْتِ» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ: إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا، ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْحَزَنِ لِيُكَفِّرَهَا عَنْهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ سَعِيدُ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنٍ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ يُخْبِرُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ فِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا والنكبة ينكبها» ، هكذا رَوَاهُ أَحْمَدُ «2» عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ رَوْحٍ وَمُعْتَمِرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ بَكَيْنَا وَحَزِنَّا، وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَبْقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ:«أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَكَمَا أنزلت، وَلَكِنْ أَبْشِرُوا وَقَارِبُوا وَسَدِّدُوا، فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله بها من خَطِيئَتَهُ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا أَحَدُكُمْ فِي قَدَمِهِ» وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «ما يصيب المسلم مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله مِنْ سَيِّئَاتِهِ» أَخْرَجَاهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «3» : حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَتْنِي زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ أبي سعيد الخدري، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ الَّتِي تُصِيبُنَا، مَا لَنَا بِهَا؟ قَالَ: كَفَّارَاتٌ. قَالَ أُبَيٌّ: وَإِنْ قَلَّتْ قال: حتى الشوكة فَمَا فَوْقَهَا، قَالَ: فَدَعَا أُبَيٌّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ الْوَعْكُ حَتَّى يَمُوتَ فِي أن لا يَشْغَلَهُ عَنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ وَلَا جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي جَمَاعَةٍ، فَمَا مَسَّهُ إِنْسَانٌ إِلَّا وَجَدَ حَرَّهُ حَتَّى مَاتَ رضي الله عنه، تَفَرَّدَ بِهِ أحمد.
(1) مسند أحمد 6/ 157.
(2)
مسند أحمد 2/ 248.
(3)
مسند أحمد 3/ 23.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، قَالَ:«نَعَمْ وَمَنْ يَعْمَلْ حَسَنَةً يُجْزَ بِهَا عشرا» فهلك من غلب واحدته عشراته. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قَالَ:
الْكَافِرُ، ثُمَّ قَرَأَ وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سَبَأٍ: 17] ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا فَسَّرَا السُّوءَ هَاهُنَا بِالشِّرْكِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
إِلَّا أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ، لَمَّا ذَكَرَ الْجَزَاءَ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ مُسْتَحَقَّهَا مِنَ الْعَبْدِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْأَجْوَدُ لَهُ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَنَسْأَلُهُ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالصَّفْحَ وَالْعَفْوَ وَالْمُسَامَحَةَ، شَرَعَ فِي بَيَانِ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي قَبُولِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادِهِ، ذُكْرَانِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَلَا يَظْلِمُهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا مِقْدَارَ النَّقِيرِ، وَهُوَ النَّقْرَةُ الَّتِي فِي ظَهْرِ نَوَاةِ التَّمْرَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ على الفتيل وهو الخيط فِي شِقِّ النَّوَاةِ، وَهَذَا النَّقِيرُ وَهُمَا فِي نَوَاةِ التَّمْرَةِ، وَكَذَا الْقِطْمِيرُ وَهُوَ اللِّفَافَةُ الَّتِي على نواة التمرة، والثلاثة فِي الْقُرْآنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِرَبِّهِ عز وجل فَعَمِلَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَهُوَ مُحْسِنٌ أَيِ اتَّبَعَ فِي عَمَلِهِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ، وَمَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَهَذَانَ الشَّرْطَانِ لَا يَصِحُّ عَمَلُ عَامِلٍ بِدُونِهِمَا، أَيْ يَكُونُ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ متابعا لِلشَّرِيعَةِ فَيَصِحُّ ظَاهِرُهُ بِالْمُتَابَعَةِ، وَبَاطِنُهُ بِالْإِخْلَاصِ، فَمَتَى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمتى فقد الإخلاص كان منافقا وهم الذين يراءون النَّاسَ، وَمَنْ فَقَدَ الْمُتَابَعَةَ كَانَ ضَالًّا جَاهِلًا، ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الَّذِينَ يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ [الْأَحْقَافِ: 16] ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَهُمْ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ [آل عمران: 68]، وَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْلِ: 123] وَالْحَنِيفُ هُوَ الْمَائِلُ عَنِ الشِّرْكِ قَصْدًا، أَيْ تَارِكًا لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ، وَمُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ بِكُلِّيَّتِهِ لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُ راد.
(1) تفسير الطبري 4/ 291.
وَقَوْلُهُ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرْغِيبِ فِي اتِّبَاعِهِ، لِأَنَّهُ إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ حَيْثُ وَصَلَ إِلَى غَايَةِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعِبَادُ لَهُ، فَإِنَّهُ انْتَهَى إِلَى دَرَجَةِ الْخُلَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ مَقَامَاتِ الْمُحِبَّةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِرَبِّهِ، كَمَا وَصَفَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْمِ: 37]، قال كثير من علماء السَّلَفِ: أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ في كُلَّ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَشْغَلُهُ أَمْرٌ جَلِيلٌ عَنْ حَقِيرٍ، وَلَا كَبِيرٌ عَنْ صَغِيرٍ وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 124] . وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْلِ: 120] ، والآية بعدها، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «1» : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: إِنَّ مُعَاذًا لَمَّا قَدِمَ الْيَمَنَ صَلَّى بهم الصبح، فَقَرَأَ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ إِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ خَلِيلًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَصَابَ أَهْلَ نَاحِيَتِهِ جَدْبٌ، فَارْتَحَلَ إِلَى خَلِيلٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، لِيَمْتَارَ طَعَامًا لِأَهْلِهِ مِنْ قِبَلِهِ فَلَمْ يُصِبْ عِنْدَهُ حَاجَتَهُ، فَلَمَّا قرب من أهله قرّ بِمَفَازَةٍ ذَاتِ رَمْلٍ، فَقَالَ:
لَوْ مَلَأْتُ غَرَائِرِي من هذا الرمل لئلا يغتم أَهْلِي بِرُجُوعِي إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ مِيرَةٍ، وَلِيَظُنُّوا أَنِّي أَتَيْتُهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَتَحَوَّلَ مَا في الغرائر مِنَ الرَّمْلِ دَقِيقًا، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ نَامَ، وَقَامَ أَهْلُهُ فَفَتَحُوا الْغَرَائِرَ فَوَجَدُوا دَقِيقًا فعجنوا منه وخبزوا، فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي خَبَزُوا، فَقَالُوا: مِنَ الدَّقِيقِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ خَلِيلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ هُوَ مِنْ عند خليلي الله، فسماه الله خَلِيلًا.
وَفِي صِحَّةِ هَذَا وَوُقُوعِهِ نَظَرٌ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا إِسْرَائِيلِيًّا لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَلِيلَ اللَّهِ لِشِدَّةِ مَحَبَّةِ ربه عز وجل له لما قام به مِنَ الطَّاعَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا، وَلِهَذَا ثَبَتَ في الصحيحين من رواية أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا، قَالَ:«أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا، لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ» وَجَاءَ مِنْ طَرِيقِ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود عن النبي قال: «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا» وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أُسَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بن يعقوب الجوزجاني بمكة، حدثنا عبد الله الحنفي، حدثنا زمعة أبو صالح عن سلمة بن وهران، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَلَسَ
(1) صحيح البخاري (مغازي باب 60) .
(2)
تفسير الطبري 4/ 297.
ناس من أصحاب رسول الله يَنْتَظِرُونَهُ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يتذاكرون فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: عجب، إِنِ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ، وَقَالَ آخَرُ:
مَاذَا بِأَعْجَبِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، وَقَالَ آخَرُ:
آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ، وَقَالَ:«قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَتَعَجُّبَكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى كَلِيمُهُ، وَعِيسَى رُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ، وَآدَمَ اصطفاه الله وهو كذلك، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم قال: أَلَا وَإِنِّي حَبِيبُ اللَّهِ، وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله ويدخلنيها وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، رَوَاهُ الحاكم في المستدرك، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ وَالْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عبدك القزويني، حدثنا محمد يعني سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو يَعْنِي ابْنَ أَبِي قَيْسٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام يُضِيفُ النَّاسَ، فَخَرَجَ يَوْمًا يَلْتَمِسُ أحدا يُضِيفُهُ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُضِيفُهُ، فَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلًا قَائِمًا، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا أَدْخَلَكَ دَارِي بِغَيْرِ إِذْنِي؟ قَالَ: دَخَلْتُهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا، قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ:
أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ أَرْسَلَنِي رَبِّي إِلَى عبد من عباده، أبشره بأن اللَّهَ قَدِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا، قَالَ: مَنْ هُوَ؟
فو الله إِنْ أَخْبَرْتَنِي بِهِ، ثُمَّ كَانَ بِأَقْصَى الْبِلَادِ لَآتِيَنَّهُ، ثُمَّ لَا أَبْرَحُ لَهُ جَارًا حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا الْمَوْتُ، قَالَ: ذَلِكَ الْعَبْدُ أَنْتَ. قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فِيمَ اتَّخَذَنِي ربي خَلِيلًا؟ قَالَ: إِنَّكَ تُعْطِي النَّاسَ وَلَا تَسْأَلُهُمْ.
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَلْقَى فِي قلبه الوجل حتى أن خَفَقَانُ قَلْبِهِ لَيُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ كَمَا يُسْمَعُ خَفَقَانُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ.
وَهَكَذَا جَاءَ فِي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ إذا اشتد غليانها مِنَ الْبُكَاءِ «1» .
وَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وخلقه وهو
(1) رواه أحمد في المسند 4/ 25، من حديث مطرف بن عبد الله عن أبيه أنه رأى رسول الله على الهيئة المذكورة.