الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَدِمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَرَأَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ دَعَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالْمُهَاجِرِينَ، وَأَرْسَلَ إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَرَأَ سُورَةَ مَرْيَمَ" كهيعص" وَقَامُوا تَفِيضُ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، فَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ" وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ" [المائدة: 82]. وَقَرَأَ إِلَى قَوْلِهِ:" الشَّاهِدِينَ"«1» . ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي السِّيرَةِ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جاء به عن الله شي؟ قَالَ جَعْفَرٌ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: اقْرَأْهُ عَلَيَّ. قَالَ: فَقَرَأَ" كهيعص" فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُمْ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النجاشي: [إن [«2» هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مشكاة واحدة، انطلقا فو الله لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمَا أَبَدًا، وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة مريم (19): الآيات 1 الى 15]
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14)
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
(1). راجع ج 6 ص 285 فما بعد. [ ..... ]
(2)
. من ج وك وى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كهيعص) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي" كهيعص": إِنَّ الْكَافَ مِنْ كَافٍ، وَالْهَاءَ مِنْ هَادٍ، وَالْيَاءَ مِنْ حَكِيمٍ، وَالْعَيْنَ مِنْ عَلِيمٍ، وَالصَّادَ مِنْ صَادِقٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَزِيزٍ. الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَعْنَاهُ كَافٍ لِخَلْقِهِ، هَادٍ لِعِبَادِهِ، يَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، عَالِمٌ بِهِمْ، صَادِقٌ فِي وَعْدِهِ، ذكره الثعلبي عن الكلبي السُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ أَيْضًا: الْكَافُ مِنْ كَرِيمٍ وَكَبِيرٍ وَكَافٍ، وَالْهَاءُ مِنْ هَادٍ، وَالْيَاءُ مِنْ رَحِيمٍ، وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ وَعَظِيمٍ، وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه هُوَ اسْمُ اللَّهِ عز وجل وَكَانَ يَقُولُ: يَا كهيعص اغْفِرْ لِي، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ. السُّدِّيُّ: هُوَ اسم الله الأعظم الذي سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ. وَقَتَادَةُ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُشَيْرِيِّ فِي أَوَائِلِ الْحُرُوفِ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ: تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ:" كهيعص" كَأَنَّهُ إِعْلَامٌ بِاسْمِ السُّورَةِ، كَمَا تَقُولُ: كِتَابُ كَذَا أَوْ بَابُ كَذَا ثُمَّ تشرع في المقصود. وقرا أبو جَعْفَرٍ هَذِهِ الْحُرُوفَ مُتَقَطِّعَةً، وَوَصَلَهَا الْبَاقُونَ، وَأَمَالَ أَبُو عَمْرٍو الْهَاءَ وَفَتَحَ الْيَاءَ: وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ بِالْعَكْسِ، وَأَمَالَهُمَا جَمِيعًا الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَخَلَفٌ. وَقَرَأَهُمَا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ نَافِعٌ وَغَيْرُهُ. وَفَتَحَهُمَا الْبَاقُونَ. وَعَنْ خَارِجَةَ: أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَضُمُّ كَافْ، وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَضُمُّ هَا، وَحَكَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ كَانَ يَضُمُّ يَا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا يجوز ضم الكاف ولا «2» الهاء والياء، قال النحاس: قراءة أهل المدينة
(1). راجع ج 1 ص 154 فما بعد.
(2)
. من ك.
مِنْ أَحْسَنِ مَا فِي هَذَا، وَالْإِمَالَةُ جَائِزَةٌ في هاويا. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ فَأَشْكَلَتْ عَلَى جَمَاعَةٍ حَتَّى قَالُوا: لَا تَجُوزُ، مِنْهُمْ أَبُو حَاتِمٍ. وَالْقَوْلُ فيها ما بينه هرون الْقَارِئُ، قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يُشِمُّ الرَّفْعَ فَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ كَانَ يُومِئُ، كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ يومئ إلى الواو، ولهذا كتبتا «1» فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ. وَأَظْهَرَ الدَّالَّ مِنْ هِجَاءِ" ص" نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَأَدْغَمَهَا الْبَاقُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا). فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ" فِي رَفْعِ" ذِكْرُ" ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَرْفُوعٌ بِ"- كهيعص"، قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ" كهيعص" لَيْسَ هُوَ مِمَّا أَنْبَأَنَا اللَّهُ عز وجل بِهِ عَنْ زَكَرِيَّا، وَقَدْ خَبَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ مَا بُشِّرَ بِهِ، وَلَيْسَ" كهيعص" مِنْ قِصَّتِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ، فِيمَا يُقَصُّ «2» عَلَيْكُمْ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى هَذَا الَّذِي يَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ. وَقِيلَ:" ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ" رُفِعَ بِإِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هَذَا ذِكْرُ رحمة ربك، وقرا الحسن" ذكر رحمت رَبِّكَ" أَيْ هَذَا الْمَتْلُوُّ مِنَ الْقُرْآنِ ذَكَّرَ رحمة ربك. وقرى" ذَكِّرْ" عَلَى الْأَمْرِ." وَرَحْمَةُ" تُكْتَبُ وَيُوقَفُ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِثْلَهَا، لَا اخْتِلَافَ فِيهَا بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ. وَاعْتَلُّوا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْهَاءَ لِتَأْنِيثِ الْأَسْمَاءِ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَفْعَالِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" عَبْدَهُ" قَالَ الأخفش: هو منصوب ب"- رَحْمَتِ"." زَكَرِيَّا" بَدَلٌ مِنْهُ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا ذِكْرُ ضَرْبِ زَيْدٍ عَمْرًا، فَعَمْرًا مَنْصُوبٌ بِالضَّرْبِ، كَمَا أَنَّ" عَبْدُهُ" مَنْصُوبٌ بِالرَّحْمَةِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، مَعْنَاهُ: ذِكْرُ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا بِرَحْمَةٍ، فَ"- عَبْدَهُ" مَنْصُوبٌ بِالذِّكْرِ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ" عَبْدُهُ زَكَرِيَّا" بِالرَّفْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ:" ذَكَرَ" بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى هَذَا الْقُرْآنُ ذَكَرَ رَحْمَةَ عَبْدِهِ زَكَرِيَّا. وَتَقَدَّمَتِ اللُّغَاتُ وَالْقِرَاءَةُ فِي" زكريا" في" آل عمران"«3» .
(1). من ج وك وفي اوج وى: كتبها.
(2)
. في ك: نقص.
(3)
. راجع ج 4 ص 70.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) مِثْلَ قَوْلِهِ:" ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"[الأعراف: ([55) وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». وَالنِّدَاءُ الدُّعَاءُ وَالرَّغْبَةُ، أَيْ نَاجَى رَبَّهُ بِذَلِكَ فِي مِحْرَابِهِ. دَلِيلُهُ قَوْلُهُ:" فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ" «2» [آل عمران: 39] فَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ فِي صَلَاتِهِ، كَمَا نَادَى فِي الصَّلَاةِ. وَاخْتُلِفَ فِي إِخْفَائِهِ هَذَا النِّدَاءَ، فَقِيلَ: أَخْفَاهُ مِنْ قَوْمِهِ لِئَلَّا يُلَامَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَلَدِ عِنْدَ كِبَرِ السِّنِّ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ، فَإِنْ أُجِيبَ فِيهِ نَالَ بُغْيَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يُجَبْ لَمْ يَعْرِفْ بِذَلِكَ أَحَدٌ. وَقِيلَ: مُخْلِصًا فِيهِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْأَعْمَالُ الْخَفِيَّةُ أَفْضَلَ وَأَبْعَدَ مِنَ الرِّيَاءِ أَخْفَاهُ. وَقِيلَ:" خَفِيًّا" سِرًّا مِنْ قَوْمِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ مِنَ الدُّعَاءِ الْإِخْفَاءُ فِي سُورَةِ" الْأَعْرَافِ" وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْنَى بِذَلِكَ عَلَى زَكَرِيَّا. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إِنَّ خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي) وَهَذَا عَامٌّ. قَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: كَانَ الْحَسَنُ يَرَى أَنْ يَدْعُوَ الْإِمَامُ فِي الْقُنُوتِ وَيُؤَمِّنَ مَنْ خَلْفَهُ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ صَوْتٍ، وَتَلَا يُونُسُ:" إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ أَسَرَّ مَالِكٌ الْقُنُوتَ وَجَهَرَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَالْجَهْرُ بِهِ أَفْضَلُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهِ جَهْرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى:(قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ «3» : الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ" قُرِئَ" وَهَنَ" بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ أَيْ ضَعُفَ. يُقَالُ: وَهَنَ يَهِنُ وَهْنًا إِذَا ضَعُفَ فَهُوَ وَاهِنٌ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ: وَهَنَ يَهِنُ وَوَهِنَ يَوْهَنُ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعَظْمَ لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ، وَبِهِ قِوَامُهُ، وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ، فَإِذَا وَهَنَ تَدَاعَى وَتَسَاقَطَ سَائِرُ قُوَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا فِيهِ وَأَصْلَبُهُ، فَإِذَا وهن كان ما وراءه أوهن
(1). راجع ج 7 ص 223 فما بعد.
(2)
. راجع ج 4 ص 74.
(3)
. كذا في الأصول إلا أنها ثلاث غيرك ففيها مسألتان.
مِنْهُ. وَوَحَّدَهُ لِأَنَّ الْوَاحِدَ هُوَ الدَّالُّ عَلَى مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ، وَقَصْدُهُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ الَّذِي هُوَ الْعَمُودُ وَالْقِوَامُ، وَأَشَدُّ مَا تَرَكَّبَ مِنْهُ الْجَسَدُ قَدْ أَصَابَهُ الْوَهْنُ، وَلَوْ جُمِعَ لَكَانَ قَصَدَ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَهِنْ مِنْهُ بَعْضُ عِظَامِهِ وَلَكِنْ كُلُّهَا. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) أَدْغَمَ السِّينَ فِي الشِّينِ أَبُو عَمْرٍو. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِعَارَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالِاشْتِعَالُ انْتِشَارُ شُعَاعِ النَّارِ، شَبَّهَ بِهِ انْتِشَارَ الشَّيْبِ فِي الرَّأْسِ، يَقُولُ: شِخْتُ وَضَعُفْتُ، وَأَضَافَ الِاشْتِعَالَ إِلَى مَكَانِ الشَّعْرِ وَمَنْبَتِهِ وَهُوَ الرَّأْسُ. وَلَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ رَأْسُ زَكَرِيَّا عليه السلام. وَ" شَيْباً" فِي نَصْبِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِأَنَّ مَعْنَى اشْتَعَلَ شَابَ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. النَّحَّاسُ: قَوْلُ الْأَخْفَشِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فَعَلَ فَالْمَصْدَرُ أَوْلَى بِهِ. وَالشَّيْبُ مخالطة الشعر الأبيض الأسود. الثالثة- قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَذْكُرَ فِي دُعَائِهِ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَا يَلِيقُ بِالْخُضُوعِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي" إِظْهَارٌ لِلْخُضُوعِ. وَقَوْلُهُ: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) إِظْهَارٌ لِعَادَاتِ تَفَضُّلِهِ فِي إِجَابَتِهِ أَدْعِيَتَهُ، أَيْ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ شَقِيًّا، أَيْ لَمْ تَكُنْ تُخَيِّبُ دُعَائِي إِذَا دَعَوْتُكَ، أَيْ إِنَّكَ عَوَّدْتِنِي الْإِجَابَةَ فِيمَا مَضَى. يُقَالُ: شَقِيَ بِكَذَا أَيْ تَعِبَ فِيهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ مُحْتَاجًا سَأَلَهُ وَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ فِي وَقْتِ كَذَا، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ تَوَسَّلَ بِنَا إِلَيْنَا، وَقَضَى حَاجَتَهُ. قوله تعالى:(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ" قَرَأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَمُحَمَّدُ بْنُ علي وعلي ابن الحسين ويحيى بن يعمر رضي الله تعالى عنهم:" خَفَّتِ" بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ وسكون الياء من" الموالي" لأنه في رفع ب" خفت" ومعناه انقطعت [أي «1»] بِالْمَوْتِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" خِفْتُ" بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ وَنَصْبِ الْيَاءِ مِنَ" الْمَوالِيَ" لأنه
(1). من ج وك.
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ"- خِفْتُ" وَ" الْمَوالِيَ" هنا الأقارب بنو الْعَمِّ وَالْعَصَبَةُ الَّذِينَ يَلُونَهُ فِي النَّسَبِ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي بَنِي الْعَمِّ الْمَوَالِيَ. قَالَ الشَّاعِرُ: «1»
مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا
…
لَا تَنْبُشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: خَافَ أَنْ يَرِثُوا مَالَهُ وَأَنْ تَرِثَهُ الْكَلَالَةُ فَأَشْفَقَ أَنْ يَرِثَهُ غَيْرُ الْوَلَدِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا كَانَ مَوَالِيهِ مُهْمِلِينَ لِلدِّينِ فَخَافَ بِمَوْتِهِ أَنْ يَضِيعَ الدِّينُ، فَطَلَبَ وَلِيًّا يَقُومُ بِالدِّينِ بَعْدَهُ، حَكَى هَذَا الْقَوْلَ الزَّجَّاجُ، وَعَلَيْهِ فَلَمْ يَسَلْ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُورَثُ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَرَادَ وِرَاثَةَ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ لَا وِرَاثَةَ الْمَالِ، لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:(إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ: (إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ). وَسَيَأْتِي فِي هَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ:" يَرِثُنِي". الثَّانِيَةُ- هَذَا الْحَدِيثُ يَدْخُلُ فِي التَّفْسِيرِ الْمُسْنَدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ"«2» وَعِبَارَةٌ عَنْ قَوْلِ زَكَرِيَّا:" فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" وَتَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَرِثْ مِنْ دَاوُدَ مَالًا خَلَّفَهُ دَاوُدُ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا وَرِثَ مِنْهُ الْحِكْمَةَ وَالْعِلْمَ، وَكَذَلِكَ وَرِثَ يَحْيَى مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، هَكَذَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ مَا عَدَا الرَّوَافِضِ، وَإِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ:" يَرِثُنِي" مَالًا" وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" النُّبُوَّةَ وَالْحِكْمَةَ، وَكُلُّ قَوْلٍ يُخَالِفُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فهو مدفوع مهجور، قاله أَبُو عُمَرَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَكْثَرُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ زَكَرِيَّا إِنَّمَا أَرَادَ وِرَاثَةَ الْمَالِ، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ) أَلَّا يُرِيدَ بِهِ الْعُمُومَ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ غَالِبُ أَمْرِهِمْ، فَتَأَمَّلْهُ. وَالْأَظْهَرُ الْأَلْيَقُ بِزَكَرِيَّا عليه السلام أَنْ يُرِيدَ وِرَاثَةَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَتَكُونُ الْوِرَاثَةُ مُسْتَعَارَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ وَلِيًّا وَلَمْ يَخْصُصْ وَلَدًا بَلَّغَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمَلَهُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ وَغَيْرُهُ: قَوْلُهُ" مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" يُرِيدُ الْعِلْمَ وَالنُّبُوَّةَ.
(1). هو الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لهب وهو من شعراء بني هاشم في عهد بني أمية.
(2)
. راجع ج 13 ص 163.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْ وَرائِي" قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ وَفَتْحِ الْيَاءِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ أَيْضًا مَقْصُورًا مَفْتُوحَ الْيَاءِ مِثْلَ عَصَايَ. الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ وَالْمَدِّ وَسُكُونِ الْيَاءِ. وَالْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَةِ" خِفْتُ" مِثْلَ نِمْتُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَا عَنْ عُثْمَانَ. وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ بَعِيدَةٌ جِدًّا، حَتَّى زَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ. قَالَ كَيْفَ يَقُولُ: خَفَّتِ الْمَوَالِي مِنْ بَعْدِي أَيْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِي وَهُوَ حَيٌّ؟!. النَّحَّاسُ: وَالتَّأْوِيلُ لَهَا أَلَّا يَعْنِيَ بِقَوْلِهِ:" مِنْ وَرائِي" أَيْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِي، وَلَكِنْ مِنْ وَرَائِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ أَنَّهُمْ خَفُّوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَلُّوا، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ حِينَ قَالُوا" أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ"«1» . ابْنُ عَطِيَّةَ" مِنْ وَرائِي" مِنْ بَعْدِي فِي الزَّمَنِ، فَهُوَ الْوَرَاءُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي" الْكَهْفِ" «2». الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً" امرأته هي إيشاع بنت فاقوذا ابن قَبِيلَ، وَهِيَ أُخْتُ حَنَّةَ بِنْتِ فَاقُوذَا، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَحَنَّةُ هِيَ أُمُّ مَرْيَمَ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي" آلِ عِمْرَانَ" «3» بَيَانُهُ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: امْرَأَةُ زَكَرِيَّا هِيَ إِيشَاعُ بِنْتُ عِمْرَانَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ يَحْيَى ابْنَ خَالَةِ عِيسَى عليهما السلام عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَكُونُ ابْنَ خَالَةِ أُمِّهِ. وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ قَالَ عليه الصلاة والسلام:(فَلَقِيتُ ابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وَعِيسَى) شَاهِدًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ «4» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْعَاقِرُ الَّتِي لَا تَلِدُ لِكِبَرِ سِنِّهَا، وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي" آلِ عِمْرَانَ". وَالْعَاقِرُ مِنَ النِّسَاءِ أَيْضًا الَّتِي لَا تَلِدُ مِنْ غَيْرِ كِبَرٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً 50"«5» [الشورى: 50]. وَكَذَلِكَ الْعَاقِرُ مِنَ الرِّجَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ:
لَبِئْسَ الْفَتَى إِنْ كُنْتُ أَعْوَرَ عَاقِرًا
…
جَبَانًا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا" سُؤَالٌ وَدُعَاءٌ. وَلَمْ يُصَرِّحْ بِوَلَدٍ لِمَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ وَبُعْدِهِ عَنْهُ بِسَبَبِ الْمَرْأَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: جَرَى لَهُ هَذَا الْأَمْرُ وَهُوَ ابْنُ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. مُقَاتِلٌ: خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَهُوَ أَشْبَهُ، فَقَدْ كَانَ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُولَدُ لَهُ لِكِبَرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:" وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا". وَقَالَتْ طائفة: بل طلب الولد،
(1). راجع ج 4 ص 85 وص 79.
(2)
. راجع ص 34 وما بعدها من هذا الجزء. [ ..... ]
(3)
. راجع ج 4 ص 85 وص 79.
(4)
. المراد بالقول الأول هنا قول القتبي.
(5)
. راجع ج 16 ص 48.
ثُمَّ طَلَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِجَابَةُ فِي أَنْ يَعِيشَ حَتَّى يَرِثَهُ، تَحَفُّظًا مِنْ أَنْ تَقَعَ الإجابة في الولد ولكن يحترم، وَلَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ الْغَرَضُ. السَّادِسَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: دُعَاءُ زَكَرِيَّا عليه السلام فِي الْوَلَدِ إِنَّمَا كَانَ لِإِظْهَارِ دِينِهِ، وَإِحْيَاءِ نُبُوَّتِهِ، وَمُضَاعَفَةٍ لِأَجْرِهِ لَا لِلدُّنْيَا، وَكَانَ رَبُّهُ قَدْ عَوَّدَهُ الْإِجَابَةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ:" وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا" أَيْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ. وَهَذِهِ وَسِيلَةٌ حَسَنَةٌ، أَنْ يتشفع إليه بنعمه، ويستدر «1» فَضْلَهُ بِفَضْلِهِ، يُرْوَى أَنَّ حَاتِمَ الْجُودِ لَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ حَاتِمٌ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ عَامَ أَوَّلٍ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ تَشَفَّعَ إِلَيْنَا بِنَا. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ أَقْدَمَ زَكَرِيَّا عَلَى مَسْأَلَةِ مَا يَخْرِقُ الْعَادَةَ دُونَ إِذْنٍ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَكْشِفُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ:" كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ"[آل عمران: 37] فَلَمَّا رَأَى خَارِقَ الْعَادَةِ اسْتَحْكَمَ طَمَعُهُ فِي إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى:" هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً"«2» [آل عمران: 38] الْآيَةَ. السَّابِعَةُ- إِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ بِالْوَلَدِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى قَدْ حَذَّرَنَا مِنْ آفَاتِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْمَفَاسِدِ النَّاشِئَةِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:"نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
" «3» [التغابن: 15]." إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ" «4» [التغابن: 14]. فَالْجَوَابُ أَنَّ الدُّعَاءَ بِالْوَلَدِ مَعْلُومٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي" آلِ عِمْرَانَ" «5» بَيَانُهُ. ثُمَّ إِنَّ زَكَرِيَّا عليه السلام تَحَرَّزَ فَقَالَ: (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) وَقَالَ:" وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا". وَالْوَلَدُ إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَفَعَ أَبَوَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَخَرَجَ مِنْ حَدِّ الْعَدَاوَةِ وَالْفِتْنَةِ إِلَى حَدِّ الْمَسَرَّةِ وَالنِّعْمَةِ وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَسٍ خَادِمِهِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ) فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ تَحَرُّزًا مِمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الْإِكْثَارُ مِنَ الْهَلَكَةِ. وَهَكَذَا فَلْيَتَضَرَّعِ الْعَبْدُ إِلَى مَوْلَاهُ فِي هِدَايَةِ وَلَدِهِ، وَنَجَاتِهِ فِي أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ اقْتِدَاءً بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسلام والفضلاء، [الأولياء [«6» وقد تقدم في" آل عمران" «7» بيانه.
(1). في اوج: ويسأله
(2)
. راجع ج 4 ص 72 فما بعد.
(3)
. راجع ج 18 ص 140 فما بعد.
(4)
. راجع ج 18 ص 140 فما بعد.
(5)
. راجع ج 4 ص 72 فما بعد.
(6)
. من ج وك وى.
(7)
. راجع ج 4 ص 72 فما بعد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَرِثُنِي" قَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَالْحَسَنُ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ:" يَرِثُنِي وَيَرِثُ" بِالرَّفْعِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ: بِالْجَزْمِ فِيهِمَا، وَلَيْسَ هُمَا جَوَابُ" هَبْ" عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، إِنَّمَا تَقْدِيرُهُ إِنْ تَهَبْهُ يَرِثُنِي وَيَرِثُ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ طَلَبَ وَارِثًا مَوْصُوفًا، أَيْ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ الْوَلِيَّ الَّذِي هَذِهِ حَالُهُ وَصِفَتُهُ، لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرِثُ، فَقَالَ: هَبْ لِي الَّذِي يَكُونُ وَارِثِي، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَرَدَّ قِرَاءَةَ الْجَزْمِ، قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ وَهَبْتَ وَرِثَ، وَكَيْفَ يُخْبِرُ اللَّهُ عز وجل بِهَذَا وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ؟! النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ حُجَّةٌ مُتَقَصَّاةٌ «1» ، لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْمُجَازَاةِ، تَقُولُ: أطع الله تعالى يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، أَيْ إِنْ تُطِعْهُ يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ. الثَّانِيَةُ- قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا مَعْنَى" يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ، قيل: هي وراثة نبوة. وقيل: هي وِرَاثَةُ حِكْمَةٍ. وَقِيلَ: هِيَ وِرَاثَةُ مَالٍ. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ وِرَاثَةُ نُبُوَّةٍ فَمُحَالٌ، لِأَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تُورَثُ، وَلَوْ كَانَتْ تُورَثُ لَقَالَ قَائِلٌ: النَّاسُ يَنْتَسِبُونَ إِلَى نُوحٍ عليه السلام وَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. وَوِرَاثَةُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَذْهَبٌ حَسَنٌ، وَفِي الْحَدِيثِ (الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ). وَأَمَّا وِرَاثَةُ الْمَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ، وَإِنْ كَانَ قَوْمٌ قَدْ أَنْكَرُوهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:(لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) فَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِإِخْبَارِ الْجَمْعِ. وَقَدْ يُؤَوَّلُ هَذَا بِمَعْنَى: لَا نُورَثُ الذي تركنا صَدَقَةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُخَلِّفْ شَيْئًا يُورَثُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ عز وجل إِيَّاهُ فِي حَيَاتِهِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ:" وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ"[الأنفال: 41] لِأَنَّ مَعْنَى" لِلَّهِ" لِسَبِيلِ اللَّهِ، وَمِنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَا يَكُونُ فِي مَصْلَحَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَا دَامَ حَيًّا، فَإِنْ قِيلَ: فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ (إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) فَفِيهِ التَّأْوِيلَانِ جَمِيعًا، أَنْ يَكُونَ" مَا" بِمَعْنَى الَّذِي. وَالْآخَرُ لَا يُورَثُ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عليه السلام: (لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) على قولين: أحدهما- وهو
(1). في ج وك وى: مستفيضة.
الْأَكْثَرُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُورَثُ وَمَا تَرَكَ صَدَقَةٌ. وَالْآخَرُ- أَنَّ نَبِيَّنَا عليه الصلاة والسلام لَمْ يُورَثْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِأَنْ جَعَلَ مَالَهُ كُلَّهُ صَدَقَةً زِيَادَةً فِي فَضِيلَتِهِ، كَمَا خُصَّ فِي النِّكَاحِ بِأَشْيَاءَ أَبَاحَهَا لَهُ وَحَرَّمَهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْهُمُ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَسَائِرُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" قِيلَ: هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ زَكَرِيَّا مُتَزَوِّجًا بِأُخْتِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَيَرْجِعُ نَسَبُهَا إِلَى يَعْقُوبَ، لِأَنَّهَا مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ وَهُوَ مِنْ وَلَدِ يَهُوذَا بن يعقوب، وزكريا من ولد هرون أخي موسى، وهرون وَمُوسَى مِنْ وَلَدِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، وَكَانَتِ النُّبُوَّةُ فِي سِبْطِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: المعنى بيعقوب ها هنا يعقوب بن ما ثان أخو عمران بن ما ثان أَبِي مَرْيَمَ أَخَوَانِ مِنْ نَسْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام، لِأَنَّ يَعْقُوبَ وَعِمْرَانَ ابْنَا ما ثان، وبنو ما ثان رُؤَسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانَ آلُ يَعْقُوبَ أَخْوَالَهُ، وَهُوَ يَعْقُوبُ بن ما ثان، وَكَانَ فِيهِمُ الْمُلْكُ، وَكَانَ زَكَرِيَّا مِنْ وَلَدِ هرون بْنِ عِمْرَانَ أَخِي مُوسَى. وَرَوَى قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(يرحم اللَّهُ- تَعَالَى- زَكَرِيَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَتِهِ). وَلَمْ يَنْصَرِفْ يَعْقُوبُ لِأَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا" أَيْ مَرْضِيًّا فِي أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَقِيلَ: رَاضِيًا بِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ. وَقِيلَ: رَجُلًا صَالِحًا تَرْضَى عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: نَبِيًّا كَمَا جَعَلْتَ أَبَاهُ نَبِيًّا. قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا زَكَرِيَّا" فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَقَالَ:" يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى " فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْبُشْرَى ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا- إِجَابَةُ دُعَائِهِ، وَهِيَ كَرَامَةٌ. الثَّانِي- إِعْطَاؤُهُ الْوَلَدَ وَهُوَ قُوَّةٌ. الثَّالِثُ- أَنْ يفرد بتسميته، وقد تقدم معنى تسميته [بيحيى «1»] فِي" آلِ عِمْرَانَ" «2». وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سَمَّاهُ يَحْيَى لِأَنَّهُ حَيِيَ بَيْنَ أَبٍ شَيْخٍ وَأُمٍّ عَجُوزٍ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ عَقِيمًا لَا تَلِدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1). من ج وك.
(2)
. راجع ج 4 ص 75 فما بعد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أَيْ لَمْ نُسَمِّ أَحَدًا قَبْلَ يَحْيَى بِهَذَا الِاسْمِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ أَسْلَمَ وَالسُّدِّيُّ. وَمَنَّ عَلَيْهِ تَعَالَى بِأَنْ لَمْ يَكِلْ تَسْمِيَتَهُ إِلَى الْأَبَوَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ:" سَمِيًّا" مَعْنَاهُ مِثْلًا وَنَظِيرًا، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى:" هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا"«1» [مريم: 65] معناه مثلا ونظيرا [وهذا «2»] كأنه من المساماة والسمو، هذا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ لَا يُفَضَّلُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُفَضَّلَ فِي خَاصٍّ كَالسُّؤْدَدِ وَالْحَصَرِ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ" فِي آلِ عِمْرَانَ" «3». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: مَعْنَاهُ لم تلد العواقر مثله ولدا. وقيل: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اشْتَرَطَ الْقَبْلَ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ بَعْدَهُ أَفْضَلَ مِنْهُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ وَشَاهِدٌ عَلَى أَنَّ الْأَسَامِيَ السُّنُعَ «4» جَدِيرَةٌ بِالْأَثَرَةِ، وَإِيَّاهَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَنْتَحِي فِي التَّسْمِيَةِ لِكَوْنِهَا أَنْبَهَ وَأَنْزَهَ عَنِ النَّبْزِ حَتَّى قَالَ قَائِلٌ:
سُنُعُ الْأَسَامِي مُسْبِلِي أُزُرٍ
…
حُمْرٍ تَمَسُّ الْأَرْضَ بِالْهُدُبِ
وَقَالَ رُؤْبَةُ لِلنَّسَّابَةِ الْبَكْرِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ نَسَبِهِ: أَنَا ابْنُ الْعَجَّاجِ، فَقَالَ: قَصَّرْتَ وَعَرَّفْتَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) 40 لَيْسَ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ لِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُخْرِجَ وَلَدًا مِنَ امْرَأَةٍ عَاقِرٍ وَشَيْخٍ كَبِيرٍ. وَقِيلَ: غَيْرُ هَذَا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي" آلِ عِمْرَانَ"«5» بَيَانُهُ. (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) يَعْنِي النِّهَايَةَ فِي الْكِبَرِ وَالْيُبْسِ وَالْجَفَافِ، وَمِثْلُهُ الْعُسِيُّ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: عَسَا الشَّيْءُ يَعْسُو عُسُوًّا وَعَسَاءً مَمْدُودٌ أَيْ يَبِسَ وَصَلُبَ، وَقَدْ عَسَا الشَّيْخُ يَعْسُو عُسِيًّا وَلَّى وَكَبِرَ مِثْلَ عَتَا، يُقَالُ: عَتَا الشَّيْخُ يَعْتُو عُتِيًّا وَعِتِيًّا كَبِرَ وَوَلَّى، وَعَتَوْتَ يَا فُلَانُ تَعْتُو عُتُوًّا وَعِتِيًّا. وَالْأَصْلُ عُتُوٌّ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، فَأَبْدَلُوا مِنَ الْوَاوِ يَاءً، لِأَنَّهَا أُخْتُهَا وَهِيَ أَخَفُّ مِنْهَا، وَالْآيَاتُ عَلَى الْيَاءَاتِ. وَمَنْ قَالَ:" عِتِيًّا" كَرِهَ الضَّمَّةَ مَعَ الْكَسْرَةِ وَالْيَاءِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّمَا يُعْذَرُ الْوَلِيدُ وَلَا يُعْ
…
- ذَرُ مَنْ كان في الزمان عتيا
(1). راجع ص 130 من هذا الجزء. [ ..... ]
(2)
. من ج وك.
(3)
. راجع ج 4 ص 74 وص 79.
(4)
. الجميلة.
(5)
. راجع ج 4 ص 74 وص 79.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ" عُسِيًّا" وَهُوَ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ:" عِتِيًّا" بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَكَذَلِكَ" جِثِيًّا" وَ" صِلِيًّا" حَيْثُ كُنَّ. وَضَمَّ حَفْصٌ" بُكِيًّا" خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ الْبَاقُونَ فِي الْجَمِيعِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ:" عِتِيًّا" قَسِيًّا، يُقَالُ: مَلِكٌ عَاتٍ إِذَا كَانَ قَاسِيَ الْقَلْبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أَيْ قَالَ لَهُ الْمَلَكُ" كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ" وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، أَيْ كَمَا قِيلَ لَكَ:" هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ". قَالَ الْفَرَّاءُ: خَلْقُهُ عَلَيَّ هَيِّنٌ. (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) أَيْ مِنْ قَبْلِ يَحْيَى. وَهَذِهِ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَعَاصِمٍ. وَقَرَأَ سَائِرُ الْكُوفِيِّينَ" وَقَدْ خَلَقْنَاكَ" بِنُونٍ وَأَلِفٍ بِالْجَمْعِ عَلَى التَّعْظِيمِ. وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَشْبَهُ بِالسَّوَادِ. (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أَيْ كَمَا خَلَقَكَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ الْعَدَمِ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا مَوْجُودًا، فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى خَلْقِ يَحْيَى وَإِيجَادِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) طَلَبَ آيَةً عَلَى حَمْلِهَا «1» بَعْدَ بشارة الملائكة إياه، وبعد قول الله تَعَالَى:" وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً" زِيَادَةَ طُمَأْنِينَةٍ، أَيْ تَمِّمِ النِّعْمَةَ بِأَنْ تَجْعَلَ لِي آيَةً، وَتَكُونُ تِلْكَ الْآيَةُ زِيَادَةَ نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ. وَقِيلَ: طَلَبَ آيَةً تَدُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْبُشْرَى مِنْهُ بِيَحْيَى لَا مِنَ الشَّيْطَانِ، لان إبليس أو همه ذَلِكَ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ السُّدِّيِّ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ نَادَتْهُ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ فِي" آلِ عِمْرَانَ" «2». (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) 10 تَقَدَّمَ فِي (آلِ عِمْرَانَ) «3» بَيَانُهُ فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ" أَيْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُصَلَّى. وَالْمِحْرَابُ أَرْفَعُ الْمَوَاضِعِ، وَأَشْرَفُ الْمَجَالِسِ، وَكَانُوا يَتَّخِذُونَ الْمَحَارِيبَ فِيمَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، دَلِيلُهُ مِحْرَابُ دَاوُدَ عليه السلام عَلَى مَا يَأْتِي. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اشْتِقَاقِهِ، فقالت فرقة:
(1). في ج وك: حبلها.
(2)
. راجع ج 4 ص 80 فما بعد.
(3)
. راجع ج 4 ص 80 فما بعد.
هو مأخوذ من الحرب كأن (؟ يلازمه) يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ وَالشَّهَوَاتِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَرَبِ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) كَأَنَّ مُلَازِمَهُ يَلْقَى مِنْهُ حَرَبًا وَتَعَبًا وَنَصَبًا. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ارْتِفَاعَ إِمَامِهِمْ عَلَى الْمَأْمُومِينَ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ الامام أحمد [ابن حنبل «1»] وَغَيْرُهُ مُتَمَسِّكًا بِقِصَّةِ الْمِنْبَرِ. وَمَنَعَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي الِارْتِفَاعِ الْكَثِيرِ دُونَ الْيَسِيرِ، وَعَلَّلَ أَصْحَابُهُ الْمَنْعَ بِخَوْفِ الْكِبْرِ عَلَى الْإِمَامِ. قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَأَحْسَنُ مَا فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ هَمَّامٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ «2» ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ هَذَا- أوينهى عَنْ ذَلِكَ! قَالَ: بَلَى، قَدْ ذَكَرْتُ حِينَ مَدَدْتَنِي. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِالْمَدَائِنِ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ يُصَلِّي وَالنَّاسُ أَسْفَلَ مِنْهُ، فَتَقَدَّمَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ فَاتَّبَعَهُ عَمَّارٌ حَتَّى أَنْزَلَهُ حُذَيْفَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ عَمَّارٌ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ فَلَا يَقُمْ فِي مَكَانٍ أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِهِمْ) أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَمَّارٌ: لِذَلِكَ اتَّبَعْتُكَ حِينَ أَخَذْتَ عَلَى يَدِي. قُلْتُ: فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ أَخْبَرُوا بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ بِحَدِيثِ الْمِنْبَرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ أَنَّ فِيهِ عَمَلًا زَائِدًا فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ النُّزُولُ وَالصُّعُودُ، فَنُسِخَ كَمَا نُسِخَ الْكَلَامُ وَالسَّلَامُ. وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا اعْتَذَرَ بِهِ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعْصُومًا مِنَ الْكِبْرِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَئِمَّةِ يُوجَدُ لَا كِبْرَ عِنْدَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَلَّلَهُ بِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْمِنْبَرِ كَانَ يَسِيرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا" قَالَ الْكَلْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ مُنَبِّهٍ: أَوْحَى إِلَيْهِمْ أَشَارَ. الْقُتَبِيُّ: أَوْمَأَ «3» . مُجَاهِدٌ: كَتَبَ عَلَى الْأَرْضِ. عِكْرِمَةُ: كَتَبَ فِي كِتَابٍ. وَالْوَحْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْكِتَابَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذي الرمة:
(1). من ج وك.
(2)
. في ج: جذبه.
(3)
. في ج وك: أوصى.
سِوَى الْأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا
…
بَقِيَّةُ وَحْيٍ فِي بُطُونِ الصَّحَائِفِ
وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
كَوَحْيِ صَحَائِفٍ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى
…
فَأَهْدَاهَا لِأَعْجَمَ طِمْطِمِيِّ «1»
وَ" بُكْرَةً وَعَشِيًّا" ظَرْفَانِ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْعَشِيَّ يُؤَنَّثُ وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ إِذَا أَبْهَمْتَ، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ الْعَشِيُّ جَمْعَ عَشِيَّةٍ. الرَّابِعَةُ- قَدْ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ فِي الْإِشَارَةِ فِي" آلِ عِمْرَانَ"«2» . وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا، أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ يَحْنَثُ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ مُشَافَهَتَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا يَنْوِي فِي الْكِتَابِ وَيَحْنَثُ إِلَّا أَنْ يَرْتَجِعَ الْكِتَابَ قَبْلَ وُصُولِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا قَرَأَ كِتَابَهُ حَنَثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَ الْحَالِفُ كِتَابَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يَحْنَثُ إِذَا قَرَأَهُ الْحَالِفُ، وَهَذَا بَيِّنٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ وَلَا ابْتَدَأَهُ بِكَلَامٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَلَّا يَعْلَمَ مَعْنَى كَلَامِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ. فَإِنْ حَلَفَ لَيُكَلِّمَنَّهُ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِمُشَافَهَتِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَإِنْ حَلَفَ لَئِنْ علم كذا ليعلمنه أو ليخبرنه فكتب إِلَيْهِ أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا بَرَّ، وَلَوْ عَلِمَاهُ جَمِيعًا لَمْ يَبَرَّ، حَتَّى يُعْلِمَهُ لِأَنَّ عِلْمَهُمَا مُخْتَلِفٌ. الْخَامِسَةُ- وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ أَنَّ الْأَخْرَسَ إِذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ، قَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ أُصْمِتَ أياما فكتب لم يجز من ذلك شي. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: الْخَرَسُ مُخَالِفٌ لِلصَّمْتِ الْعَارِضِ، كَمَا أَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْجِمَاعِ الْعَارِضِ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ يوما أو نحوه مخالف للعجز المأيوس مِنْهُ الْجِمَاعُ، نَحْوَ الْجُنُونِ فِي بَابِ خِيَارِ الْمَرْأَةِ فِي الْفُرْقَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، الْمَعْنَى فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَوْلُودِ:" يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ". وَهَذَا اخْتِصَارٌ يدل الكلام عليه. و" الكتاب" التَّوْرَاةُ بِلَا خِلَافٍ." بِقُوَّةٍ" أَيْ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ الْعِلْمُ بِهِ، وَالْحِفْظُ لَهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ الِالْتِزَامُ لِأَوَامِرِهِ، وَالْكَفُّ عَنْ نَوَاهِيهِ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
(1). الطمطمى: الأعجم الذي لا يفصح.
(2)
. راجع ج 4 ص 81.
في" البقرة"«1» . [قوله تعالى [«2»: (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) قِيلَ: الْأَحْكَامُ وَالْمَعْرِفَةُ بِهَا. وَرَوَى مَعْمَرٌ أَنَّ الصِّبْيَانَ قَالُوا لِيَحْيَى: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبْ، فَقَالَ: مَا لِلَعِبٍ خُلِقْتُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا". وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ ابْنَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ سِنِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ ابْنَ ثَلَاثِ سِنِينَ. وَ" صَبِيًّا" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ فَهُوَ مِمَّنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وَرُوِيَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا). وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ يَحْيَى عليه السلام لم يعص الله] تعالى [«3» قَطُّ بِصَغِيرَةٍ وَلَا كَبِيرَةٍ وَلَا هَمَّ بِامْرَأَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانَ طَعَامُ يَحْيَى عليه السلام الْعُشْبَ، كَانَ لِلدَّمْعِ فِي خَدَّيْهِ مَجَارٍ ثَابِتَةٌ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:" وَسَيِّداً وَحَصُوراً" [آل عمران: 39] فِي" آلِ عِمْرَانَ"«4» . قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا)" حَنَانًا" عَطْفٌ عَلَى" الْحُكْمَ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا" الْحَنَانُ"؟. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْحَنَانُ الشَّفَقَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْمَحَبَّةُ، وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ النَّفْسِ. النَّحَّاسُ: وَفِي مَعْنَى الْحَنَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- قَالَ: تَعَطَّفَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ مَا أُعْطِيهِ مِنْ رَحْمَةِ النَّاسِ حَتَّى يُخَلِّصَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ «5» . وَأَصْلُهُ مِنْ حَنِينِ النَّاقَةِ عَلَى وَلَدِهَا. وَيُقَالُ: حَنَانَكَ وَحَنَانَيْكَ، قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: حَنَانَيْكَ تَثْنِيَةُ الْحَنَانِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: حَنَانَكَ يَا رَبِّ وَحَنَانَيْكَ يَا رَبِّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، تُرِيدُ رَحْمَتَكَ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَيَمْنَحُهَا بَنُو شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ
…
مَعِيزَهُمْ حَنَانَكَ ذَا الْحَنَانِ «6»
وَقَالَ طَرَفَةُ:
أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضنَا
…
حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:" حَناناً" رَحْمَةً لِأَبَوَيْهِ وَغَيْرِهِمَا وَتَعَطُّفًا وَشَفَقَةً، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
فَقَالَتْ حَنَانٌ مَا أَتَى بِكَ هَاهُنَا
…
أَذُو نَسَبٍ أَمْ أنت بالحي عارف
(1). راجع ج 1 ص 437.
(2)
. من ج وك. [ ..... ]
(3)
. من ك.
(4)
. راجع ج 4 ص 86.
(5)
. في ج: الشر.
(6)
. (حنانك ذا الحنان) معناه: رحمتك يا رحمان. رواية اللسان: ويمنعها.
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْحَنَّانُ مِنْ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُشَدَّدًا الرَّحِيمُ. وَالْحَنَانُ مُخَفَّفٌ: الْعَطْفُ وَالرَّحْمَةُ. وَالْحَنَانُ: الرِّزْقُ وَالْبَرَكَةُ. ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْحَنَانُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَيْضًا مَا عَظُمَ مِنَ الْأُمُورِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي حَدِيثِ بِلَالٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْعَبْدَ لَأَتَّخِذَنَّ قَبْرَهُ حَنَانًا، وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ الْهَرَوِيُّ، فَقَالَ: وَفِي حَدِيثِ بِلَالٍ وَمَرَّ عَلَيْهِ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَأَتَّخِذَنَّهُ حنانا، أي لا تمسحن به. وقال الأزهري: معناه لا تعطفن عليه ولا ترحمن عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قُلْتُ: فَالْحَنَانُ الْعَطْفُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ. وَ" حَناناً" أَيْ تَعَطُّفًا مِنَّا عَلَيْهِ أَوْ مِنْهُ عَلَى الْخَلْقِ، قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ الْمَلِيكُ
…
فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا
عِكْرِمَةُ: مَحَبَّةٌ. وَحَنَّةُ الرَّجُلِ امْرَأَتُهُ لِتَوَادِّهِمَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَقَالَتْ حَنَانٌ مَا أَتَى بِكَ هَاهُنَا
…
أَذُو نَسَبٍ أَمْ أَنْتَ بِالْحَيِّ عَارِفُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَزَكاةً)" الزَّكَاةُ" التَّطْهِيرُ وَالْبَرَكَةُ وَالتَّنْمِيَةُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ، أَيْ جَعَلْنَاهُ مُبَارَكًا لِلنَّاسِ يَهْدِيهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى زَكَّيْنَاهُ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ كَمَا تُزَكِّي الشُّهُودُ إِنْسَانًا. وَقِيلَ:" زَكاةً" صَدَقَةً بِهِ عَلَى أَبَوَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. (وَكانَ تَقِيًّا) أَيْ مُطِيعًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً وَلَمْ يُلِمَّ بِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ)
الْبَرُّ بِمَعْنَى الْبَارُّ وَهُوَ الْكَثِيرُ الْبِرِّ. وَ (جَبَّاراً)
مُتَكَبِّرًا وَهَذَا وَصْفٌ لِيَحْيَى عليه السلام بِلِينِ الْجَانِبِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ
" قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ أَمَانٌ. ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا التَّحِيَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ فَهِيَ أَشْرَفُ وَأَنْبَهُ مِنَ الْأَمَانِ، لِأَنَّ الْأَمَانَ مُتَحَصَّلٌ لَهُ بِنَفْيِ الْعِصْيَانِ عَنْهُ وَهِيَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ، وإنما الشرف في أن سلم الله تعالى عَلَيْهِ، وَحَيَّاهُ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي الْإِنْسَانُ فِيهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ وَالْفَقْرِ إلى الله تعالى «1» عظيم الحول.
(1). في ج وك: وعظم الهول.