الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْتُ: فَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ بين موسى وعيسى وهرون زَمَانٌ مَدِيدٌ. الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ أَلْفُ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرُ فَلَا يُتَخَيَّلُ أَنَّ مَرْيَمَ كانت أخت موسى وهرون، وَإِنْ صَحَّ فَكَمَا قَالَ السُّدِّيُّ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ نَسْلِهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنْ قَبِيلَةٍ: يَا أَخَا فُلَانٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ «1» قَدْ أَذَّنَ فَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ) وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ بَلْ كَانَ في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هرون فَنَسَبُوهَا إِلَيْهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْيِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلَهُ. قُلْتُ: ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا مَثَلًا فِي الْفُجُورِ فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ أَبُوكِ وَلَا أُمُّكِ أَهْلًا لِهَذِهِ الْفَعْلَةِ فَكَيْفَ جِئْتِ أَنْتِ بِهَا؟! وَهَذَا مِنَ التَّعْرِيضِ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ. وَذَلِكَ يُوجِبُ عِنْدَنَا الْحَدَّ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" النُّورِ" الْقَوْلُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى «2» . وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ يَرُدُّهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فَلَا كَلَامَ لِأَحَدٍ مَعَهُ، وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ لَجَأَ التَّيْمِيُّ:(مَا كان أباك امرؤ «3» سوء).
[سورة مريم (19): الآيات 29 الى 33]
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) الْتَزَمَتْ مَرْيَمُ عليها السلام مَا أُمِرَتْ بِهِ مِنْ تَرْكِ الْكَلَامِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَطَقَتْ
(1). هو زياد بن الحرث الصدائي كان قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذن لصلاة الفجر فأذن فأراد بلال أن يقيم فقال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ قد أذن
…
" الحديث.
(2)
. راجع ج 12 ص 159 فما بعده
(3)
. قال في (البحر): يجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة وحسن ذلك قليلا كونها فيها مسوغ جواز الابتداء بالنكرة وهو الإضافة.
بِ" إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً" وَإِنَّمَا وَرَدَ بِأَنَّهَا أَشَارَتْ، فَيَقْوَى بِهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَمْرَهَا بِ"- قُولِي" إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْإِشَارَةُ. وَيُرْوَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَشَارَتْ إِلَى الطِّفْلِ قَالُوا: اسْتِخْفَافُهَا بِنَا أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا، ثُمَّ قَالُوا لَهَا عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ" كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا" و" كانَ" هُنَا لَيْسَ يُرَادُ بِهَا الْمَاضِي «1» ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَدْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَإِنَّمَا هِيَ فِي مَعْنَى هُوَ [الْآنَ «2»]. وَقَالَ أَبُو عبيدة:(كانَ) هنا لغو، كما قال:«3»
وجيران لنا كانوا كرام
وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوُجُودِ وَالْحُدُوثِ كَقَوْلِهِ:" وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ 280"«4» وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ زَائِدَةٌ وَقَدْ نَصَبَتْ" صَبِيًّا" وَلَا أَنْ يُقَالَ" كانَ" بِمَعْنَى حَدَثَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُقُوعِ لَاسْتَغْنَى فِيهِ عَنِ الْخَبَرِ، تَقُولُ: كَانَ الْحَرُّ وَتَكْتَفِي بِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ" مَنْ" فِي مَعْنَى الجزاء و" كانَ" بمعنى يكن، والتقدير: مَنْ يَكُنْ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فَكَيْفَ نُكَلِّمُهُ؟! كَمَا تَقُولُ: كَيْفَ أُعْطِي مَنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ عَطِيَّةً، أَيْ مَنْ يَكُنْ لَا يَقْبَلُ. وَالْمَاضِي قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى" تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ 10" «5» أَيْ إِنْ يَشَأْ يَجْعَلْ. وَتَقُولُ: مَنْ كَانَ إِلَيَّ مِنْهُ إِحْسَانٌ كَانَ إِلَيْهِ مِنِّي مِثْلُهُ، أَيْ مَنْ يَكُنْ مِنْهُ إِلَيَّ إحسان يكن إليه مني مثله. و" الْمَهْدِ" قِيلَ: كَانَ سَرِيرًا كَالْمَهْدِ. وَقِيلَ" الْمَهْدِ" هَاهُنَا حِجْرُ الْأُمِّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ سَبِيلُهُ أَنْ يُنَوَّمَ فِي الْمَهْدِ لِصِغَرِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى عليه السلام كَلَامَهُمْ قَالَ لَهُمْ مِنْ مَرْقَدِهِ:(إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ 30) وَهِيَ: الثَّانِيَةُ- فَقِيلَ: كَانَ عِيسَى عليه السلام يَرْضَعُ فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُمْ تَرَكَ الرَّضَاعَةَ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ، وَاتَّكَأَ عَلَى يَسَارِهِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِسَبَّابَتِهِ الْيُمْنَى، وَ" قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ 30" فَكَانَ أَوَّلَ مَا نَطَقَ بِهِ الِاعْتِرَافُ بِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تعالى وبربوبيته، رَدًّا عَلَى مَنْ غَلَا مِنْ بَعْدِهِ فِي شَأْنِهِ. وَالْكِتَابُ الْإِنْجِيلُ، قِيلَ: آتَاهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْكِتَابَ، وَفَهَّمَهُ وَعَلَّمَهُ، وَآتَاهُ النُّبُوَّةَ كَمَا علم آدم
(1). في ج وك: المضي.
(2)
. الزيادة من كتب التفسير.
(3)
. هو الفرزدق وصدر البيت:
فكيف إذا رأيت ديار قوم
[ ..... ]
(4)
. راجع ج 3 ص 371.
(5)
. راجع ج 13 ص 6.
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَكَانَ يَصُومُ وَيُصَلِّي. وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا. وَقِيلَ: أَيْ حَكَمَ لِي بِإِيتَاءِ الْكِتَابِ وَالنُّبُوَّةِ فِي الْأَزَلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْكِتَابُ مُنَزَّلًا فِي الْحَالِ، وَهَذَا أَصَحُّ. (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) أَيْ ذَا بَرَكَاتٍ وَمَنَافِعَ فِي الدِّينِ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ وَمُعَلِّمًا لَهُ. التُّسْتَرِيُّ «1»: وَجَعَلَنِي آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأُرْشِدُ الضَّالَّ، وَأَنْصُرُ الْمَظْلُومَ، وَأُغِيثُ الْمَلْهُوفَ. (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أَيْ لِأُؤَدِّيَهُمَا إِذَا أَدْرَكَنِي التَّكْلِيفُ، وَأَمْكَنَنِي أَدَاؤُهُمَا، عَلَى القول الأخير الصحيح. (ما دُمْتُ حَيًّا) [ما «2»] فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ دَوَامَ حياتي. [قوله تعالى [«3»:(وَبَرًّا بِوالِدَتِي) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَالَ" وَبَرًّا بِوالِدَتِي" وَلَمْ يَقُلْ بِوَالِدَيَّ عُلِمَ أَنَّهُ شي مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) أَيْ مُتَعَظِّمًا مُتَكَبِّرًا يَقْتُلُ وَيَضْرِبُ عَلَى الْغَضَبِ. وَقِيلَ: الْجَبَّارُ الَّذِي لَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا قَطُّ. (شَقِيًّا) أَيْ خَائِبًا مِنَ الْخَيْرِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: عَاقًّا. وَقِيلَ: عَاصِيًا لِرَبِّهِ وَقِيلَ: لَمْ يَجْعَلْنِي تَارِكًا لِأَمْرِهِ فَأَشْقَى كَمَا شَقِيَ إِبْلِيسُ لَمَّا تَرَكَ أَمْرَهُ. الثَّالِثَةُ- قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا أَشَدَّهَا عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ! أَخْبَرَ عِيسَى عليه السلام بِمَا قُضِيَ مِنْ أَمْرِهِ، وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ عِيسَى أَذْعَنُوا وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَأَمْرٌ عَظِيمٌ. وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى عليه السلام إِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي طُفُولَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالَةِ الْأَطْفَالِ، حَتَّى مَشَى عَلَى عَادَةِ الْبَشَرِ إِلَى أَنْ بَلَغَ مَبْلَغَ الصِّبْيَانِ فَكَانَ نُطْقُهُ إِظْهَارَ بَرَاءَةِ أُمِّهِ لَا أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يَعْقِلُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَهُوَ كَمَا يُنْطِقُ اللَّهُ تَعَالَى الْجَوَارِحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ دَامَ نُطْقُهُ، وَلَا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ ابْنُ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ، وَلَوْ كَانَ يَدُومُ نُطْقُهُ وَتَسْبِيحُهُ وَوَعْظُهُ وَصَلَاتُهُ فِي صِغَرِهِ مِنْ وقت الولاد لَكَانَ مِثْلُهُ مِمَّا لَا يَنْكَتِمُ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَيُصَرِّحُ بِجَهَالَةِ قَائِلِهِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ خِلَافًا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْفِرَقِ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُحَدَّ. وإنما صح براءتها من الزنى بِكَلَامِهِ فِي الْمَهْدِ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَبِرَّ الْوَالِدَيْنِ كَانَ وَاجِبًا على الأمم
(1). في ك: القشيري.
(2)
. من ج وك.
(3)
. من ج وك.
السَّالِفَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ الْمَاضِيَةِ، فَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَمْ يُنْسَخْ فِي شَرِيعَةِ أَمْرِهِ. وَكَانَ عِيسَى عليه السلام فِي غَايَةِ التَّوَاضُعِ، يَأْكُلُ الشَّجَرَ، وَيَلْبَسُ الشَّعْرَ، وَيَجْلِسُ عَلَى التُّرَابِ، وَيَأْوِي حَيْثُ جَنَّهُ اللَّيْلُ، لَا مَسْكَنَ لَهُ، صلى الله عليه وسلم. الرَّابِعَةُ- الْإِشَارَةُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ وَتُفْهِمُ مَا يُفْهِمُ الْقَوْلُ. كَيْفَ لَا وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَرْيَمَ فَقَالَ:" فَأَشارَتْ إِلَيْهِ" وَفَهِمَ مِنْهَا الْقَوْمُ مَقْصُودَهَا وَغَرَضَهَا فَقَالُوا: (كَيْفَ نُكَلِّمُ) وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" آلِ عِمْرَانَ"«1» مُسْتَوْفًى. الْخَامِسَةُ- قَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يَصِحُّ قَذْفُ الْأَخْرَسِ وَلَا لِعَانُهُ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَإِنَّمَا يصح القذف عندهم بصريح الزنى دُونَ مَعْنَاهُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنَ الْأَخْرَسِ ضرورة، فلم يكن قاذفا، ولا يتميز بالإشارة بالزنى من الوطي الْحَلَالِ وَالشُّبْهَةِ. قَالُوا: وَاللِّعَانُ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ، وَشَهَادَةُ الْأَخْرَسِ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: قَوْلُهُمْ إِنَّ الْقَذْفَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالتَّصْرِيحِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِسَائِرِ الْأَلْسِنَةِ مَا عَدَا الْعَرَبِيَّةَ، فَكَذَلِكَ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ فِي شَهَادَةِ الْأَخْرَسِ فَغَلَطٌ. وَقَدْ نَصَّ مَالِكٌ أَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، وَأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ بِالشَّهَادَةِ، وَأَمَّا مَعَ الْقُدْرَةِ بِاللَّفْظِ فَلَا تَقَعُ مِنْهُ إِلَّا بِاللَّفْظِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالْمُخَالِفُونَ يُلْزِمُونَ الْأَخْرَسَ الطَّلَاقَ وَالْبُيُوعَ وَسَائِرَ الْأَحْكَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَقَدْ تَكُونُ الْإِشَارَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ أَقْوَى مِنَ الْكَلَامِ مِثْلَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ) نَعْرِفُ قُرْبَ مَا بَيْنَهُمَا بِمِقْدَارِ زِيَادَةِ الْوُسْطَى عَلَى السَّبَّابَةِ. وَفِي إِجْمَاعِ الْعُقُولِ عَلَى أَنَّ الْعِيَانَ أَقْوَى مِنَ الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ قَدْ تَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَقْوَى مِنَ الْكَلَامِ. (وَالسَّلامُ عَلَيَّ) أَيِ السَّلَامَةُ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذُكِرَ السَّلَامُ قَبْلَ هَذَا بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ فحسن في الثانية ذكر الالف واللام. وقوله: (يَوْمَ وُلِدْتُ) يَعْنِي فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: مِنْ هَمْزِ الشَّيْطَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي" آلِ عِمْرَانَ"«2» . (وَيَوْمَ أَمُوتُ) يعني
(1). راجع ج 4 ص 81 وص 68.
(2)
. راجع ج 4 ص 81 وص 68.