الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة مريم (19): الآيات 88 الى 95]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَرَأَ يَحْيَى والأعمش وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ وَخَلَفٌ:" وُلْدًا" بِضَمِّ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: مِنْ هَذِهِ السورة قوله تعالى:" لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً"[مريم: 77] وقد تقدم، وَقَوْلُهُ:" أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً". وَفِي سُورَةِ نُوحٍ" مالُهُ وَوَلَدُهُ"«1» [نوح: 21]. وَوَافَقَهُمْ فِي" نُوحٍ" خَاصَّةً ابْنُ كَثِيرٍ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ. وَالْبَاقُونَ فِي الْكُلِّ بِالْفَتْحِ فِي الْوَاوِ وَاللَّامِ وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ والعرب وَالْعُرْبِ وَالْعَجَمِ وَالْعُجْمِ قَالَ:
وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا
…
قَدْ ثَمَّرُوا مَالًا وَوُلْدًا
وَقَالَ آخَرُ:
وَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ
…
وَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ وُلْدَ حِمَارِ
وَقَالَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ النَّابِغَةُ:
مَهْلًا فِدَاءً لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمْ
…
وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ
فَفَتَحَ. وَقَيْسٌ يَجْعَلُونَ الْوُلْدَ بِالضَّمِّ جَمْعًا وَالْوَلَدَ بِالْفَتْحِ وَاحِدًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْوَلَدُ قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا وَكَذَلِكَ الْوُلْدُ بِالضَّمِّ. وَمِنْ أَمْثَالِ بَنِي أَسَدٍ: وُلْدُكِ مَنْ دَمَّى عَقِبَيْكِ «2» . وَقَدْ يَكُونُ الْوُلْدُ جَمْعَ الْوَلَدِ مِثْلَ أُسْدٍ وَأَسَدٍ وَالْوِلْدُ بِالْكَسْرِ لغة في الولد. النحاس: وفرق
(1). راجع ج 18 ص 306.
(2)
. أي من نفست به فأدمى النفاس عقبيك فهو ابنك. [ ..... ]
أَبُو عُبَيْدَةَ بَيْنَهُمَا فَزَعَمَ أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ لِلْأَهْلِ وَالْوَلَدِ جَمِيعًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ وَالْوُلْدُ إِلَّا وَلَدَ الرَّجُلِ، وَوَلَدَ وَلَدِهِ، إِلَّا أَنَّ وَلَدًا أَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ:
مَهْلًا فِدَاءً لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمْ
…
وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُلْدٌ جَمْعَ وَلَدٍ كَمَا يُقَالُ وَثَنٌ وَوُثْنٌ وَأَسَدٌ وَأُسْدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلَدٌ وَوُلْدٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا يُقَالُ عَجَمٌ وَعُجْمٌ وَعَرَبٌ وَعُرْبٌ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) أَيْ مُنْكَرًا عَظِيمًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْإِدُّ وَالْإِدَّةُ الدَّاهِيَةُ وَالْأَمْرُ الْفَظِيعُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا" وَكَذَلِكَ الْآدُّ مِثْلَ فَاعِلٍ. وَجَمْعُ الْإِدَّةِ إِدَدٌ. وَأَدَّتْ فُلَانًا دَاهِيَةٌ تَؤُدُّهُ أَدًّا (بالفتح). والاد أيضا الشدة. [والاد الغلبة والقوة «1»] قَالَ الرَّاجِزُ:
نَضَوْنَ عَنِّي شِدَّةً وَأَدًّا
…
مِنْ بَعْدِ مَا كُنْتُ صُمُلًّا جَلْدَا «2»
انْتَهَى كَلَامُهُ. وقرا أبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ «3» السُّلَمِيُّ:" أَدًّا" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. النَّحَّاسُ: يُقَالُ أَدَّ يَؤُدُّ أَدًّا فَهُوَ آدٌّ وَالِاسْمُ الْإِدُّ، إِذَا جَاءَ بِشَيْءٍ عَظِيمٍ مُنْكَرٍ. وَقَالَ الرَّاجِزُ:
قَدْ لَقِيَ الْأَقْرَانُ مِنِّي نُكْرَا
…
دَاهِيَةً دَهْيَاءَ إِدًّا إِمْرَا
عَنْ غَيْرِ النَّحَّاسِ الثَّعْلَبِيُّ: وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ" إِدًّا" بِالْكَسْرِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" وَأَدًّا" بِالْفَتْحِ وَهِيَ قِرَاءَةُ السُّلَمِيِّ وَ" آدٌّ" مِثْلَ مَادٍّ وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ رُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَكَأَنَّهَا مأخوذة من الثقل [يقال]: آدَهُ الْحِمْلُ يَئُودُهُ أَوْدًا أَثْقَلَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَكادُ السَّماواتُ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ هُنَا وَفِي" الشُّورَى"«4» بِالتَّاءِ. وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ وَيَحْيَى وَالْكِسَائِيُّ" يَكَادُ" بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ. (يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) 90 أَيْ يَتَشَقَّقْنَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَغَيْرُهُمْ: بِتَاءٍ بَعْدَ الْيَاءِ وَشَدِّ الطَّاءِ مِنَ التَّفَطُّرِ هُنَا وَفِي" الشورى".
(1). في الأصول: الإد القوة والشدة في ج الإد: أيضا القوة. وصوابه كما في اللسان: الإد بالكسر الشدة والاد بالفتح الغلبة والقوة.
(2)
. الصمل الشديد الصلب. وورد في كتب اللغة: (صملا نهدا) والنهد: القوى الشديد.
(3)
. ليس في الأصول أبو عبد الله إلا نسخة ا.
(4)
. راجع ج 16 ص 4.
وَوَافَقَهُمْ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ فِي" الشُّورَى". وَقَرَأَ هُنَا" يَنْفَطِرْنَ" مِنَ الِانْفِطَارِ: وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ فِي السُّورَتَيْنِ. وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ"«1» [الانفطار: 1] وقوله:" السماء منفطر به"«2» [المزمل: 18]. وقوله: (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) 90 أَيْ تَتَصَدَّعُ. (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) 90 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَدْمًا أَيْ تَسْقُطُ بِصَوْتٍ شَدِيدٍ. وَفِي الْحَدِيثِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدِّ وَالْهَدَّةِ) قَالَ شِمْرٌ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرْوَزِيُّ: الْهَدُّ الْهَدْمُ وَالْهَدَّةُ الْخُسُوفُ. وَقَالَ اللَّيْثُ هُوَ الْهَدْمُ الشَّدِيدُ كَحَائِطٍ يُهَدُّ بِمَرَّةٍ يُقَالُ: هَدَّنِي الْأَمْرُ وَهَدَّ رُكْنِي أَيْ كسرني وبلغ مني قاله الهروي والجوهري: وَهَدَّ الْبِنَاءَ يَهُدُّهُ هَدًّا كَسَرَهُ وَضَعْضَعَهُ وَهَدَّتْهُ المصيبة أي أوهنت ركنه وانهد الجبل أي انْكَسَرَ. الْأَصْمَعِيُّ: وَالْهَدُّ الرَّجُلُ الضَّعِيفُ يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَوْعَدَهُ: إِنِّي لَغَيْرُ هَدٍّ أَيْ غَيْرُ ضَعِيفٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْهَدُّ مِنَ الرِّجَالِ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ وَأَمَّا الْجَبَانُ الضَّعِيفُ فَهُوَ الهد بالكسر وأنشد «3» :
ليسوا يهدين فِي الْحُرُوبِ إِذَا
…
تُعْقَدُ فَوْقَ الْحَرَاقِفِ النُّطُقُ
والهدة صوت وقع الحائط ونحوه تقول منه: هَدَّ يَهِدُّ (بِالْكَسْرِ) هَدِيدًا وَالْهَادُّ صَوْتٌ يَسْمَعُهُ أَهْلُ السَّاحِلِ يَأْتِيهِمْ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ لَهُ دَوِيٌّ فِي الْأَرْضِ وَرُبَّمَا كَانَتْ مِنْهُ الزَّلْزَلَةُ وَدَوِيُّهُ هَدِيدُهُ. النَّحَّاسُ" هَدًّا 80" مَصْدَرٌ لِأَنَّ مَعْنَى" تَخِرُّ 90" تُهَدُّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: حَالٌ أَيْ مَهْدُودَةٌ (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نصب عند الفراء لِأَنْ دَعَوْا وَمِنْ أَنْ دَعَوْا فَمَوْضِعُ" أَنْ" نَصْبٌ بِسُقُوطِ الْخَافِضِ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْكِسَائِيَّ قَالَ: هِيَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِتَقْدِيرِ الْخَافِضِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْجَبَلَ لَيَقُولُ لِلْجَبَلِ يَا فُلَانُ هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ ذاكر لله؟ فإن قال: نعم سربه ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ" وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً" الْآيَةَ قَالَ: «4» أَفَتَرَاهُنَّ يَسْمَعْنَ الزُّورَ وَلَا يَسْمَعْنَ الْخَيْرَ؟!. قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَوْفٌ عَنْ غَالِبِ بن عجرد «5» قال:
(1). راجع 19 ص 242 وص 47 فما بعد.
(2)
. راجع 19 ص 242 وص 47 فما بعد.
(3)
. البيت للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. والحراقف (جمع حرقفة): مجتمع رأس الفخذ. والنطق (جمع نطاق): ما تشد به الأوساط.
(4)
. أي قال عون كما في (الدر المنثور) وغيره.
(5)
. كذا في الأصول ولعله (غالب بن حجرة) وط هنا تحريف.
حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فِي مَسْجِدِ مِنًى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ وَخَلَقَ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ لَمْ تَكُ فِي الْأَرْضِ شَجَرَةٌ يَأْتِيهَا بَنُو آدَمَ إِلَّا أَصَابُوا مِنْهَا مَنْفَعَةً وَكَانَ لَهُمْ مِنْهَا مَنْفَعَةٌ، فَلَمْ تَزَلِ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ كَذَلِكَ حَتَّى تَكَلَّمَ فَجَرَةُ بَنِي آدَمَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ الْعَظِيمَةَ قَوْلُهُمْ" اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً" فَلَمَّا قَالُوهَا اقْشَعَرَّتِ الْأَرْضُ وَشَاكَ الشَّجَرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْشَعَرَّتِ الْجِبَالُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَشْجَارِ وَالْبِحَارِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِيتَانِ فَصَارَ مِنْ ذَلِكَ الشَّوْكُ فِي الْحِيتَانِ وَفِي الْأَشْجَارِ الشَّوْكُ. وَقَالَ ابْنُ عباس أيضا وكعب: فزعت السموات وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ وَكَادَتْ أَنْ تَزُولَ وَغَضِبَتِ الْمَلَائِكَةُ فَاسْتَعَرَتْ جَهَنَّمُ وَشَاكَ الشَّجَرُ وَاكْفَهَرَّتِ الْأَرْضُ وَجَدَبَتْ حِينَ قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَقَدْ كَادَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْنَا السَّاعَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى" تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً 90" قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَصَدَقَ فَإِنَّهُ قَوْلٌ عَظِيمٌ سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ وَلَوْلَا أَنَّ الْبَارِيَ تبارك وتعالى لَا يَضَعُهُ كُفْرُ الْكَافِرِ وَلَا يَرْفَعُهُ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِ وَلَا يَزِيدُ هَذَا فِي مُلْكِهِ كَمَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ ملكه لما جرى شي مِنْ هَذَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَلَكِنَّهُ الْقُدُّوسُ الْحَكِيمُ الْحَلِيمُ فَلَمْ يُبَالِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَقُولُ الْمُبْطِلُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) نَفَى عَنْ نَفْسِهِ سبحانه وتعالى الْوَلَدُ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَقْتَضِي الْجِنْسِيَّةَ وَالْحُدُوثَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي" الْبَقَرَةِ"«1» أَيْ لَا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ وَلَا يُوصَفُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَدٌ إِلَّا مِنْ وَالِدٍ يَكُونُ لَهُ وَالِدٌ وَأَصْلٌ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَيَتَقَدَّسُ. قَالَ: «2»
فِي رَأْسِ خَلْقَاءَ مِنْ عَنْقَاءَ مُشْرِفَةٍ
…
مَا يَنْبَغِي دُونَهَا سَهْلٌ ولا جبل
(1). راجع ج 2 ص 85.
(2)
. هو ابن أحمر الباهلي يصف جبلا. والخلقاء: الصخرة ليس فيها وصم ولا كسر أي الملساء. والعنقاء: أكمة جبل مشرف.
(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً)" إِنْ" نَافِيَةٌ بِمَعْنَى مَا أي ما كل من في السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُقِرًّا لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ خَاضِعًا ذَلِيلًا كَمَا قَالَ:" وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ"«1» [النمل: 87] أَيْ صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ أَيِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَدًا لَهُ عز وجل تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كبيرا. و" آتي" بِالْيَاءِ فِي الْخَطِّ وَالْأَصْلُ التَّنْوِينُ فَحُذِفَ اسْتِخْفَافًا وأضيف. الثانية- في هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لِلْوَالِدِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِنَّهُ يَشْتَرِيهِ فَيَمْلِكُهُ وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا أَعْتَقَهُ. وَقَدْ أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْمِلْكِ فَإِذَا مَلَكَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ بِنَوْعٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ عَتَقَ عَلَيْهِ. وَوَجْهُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْوَلَدِيَّةَ وَالْعَبْدِيَّةَ فِي طَرَفَيْ تَقَابُلٍ فَنَفَى أَحَدَهُمَا وَأَثْبَتَ الْآخَرَ وَلَوِ اجْتَمَعَا لَمَا كَانَ لِهَذَا الْقَوْلِ فَائِدَةٌ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مملوكا فيشتريه فيعتقه) خرجه مُسْلِمٌ. فَإِذَا لَمْ يَمْلِكِ الْأَبُ ابْنَهُ مَعَ مَرْتَبَتِهِ عَلَيْهِ فَالِابْنُ بِعَدَمِ مِلْكِ الْأَبِ أَوْلَى لِقُصُورِهِ عَنْهُ. الثَّالِثَةُ- ذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ) أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذُكُورُ الْعَبِيدِ دُونَ إِنَاثِهِمْ فَلَا يَكْمُلُ عَلَى مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا فِي أُنْثَى وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:" إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً" فإنه قد يتناول الذكر والأنثى من العبيد «2» قطعا. وتمسك إسحاق بأنه قد حُكِيَ عَبْدَةٌ فِي الْمُؤَنَّثِ. الرَّابِعَةُ- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [الْبقرةِ «3»] وَغَيْرِهَا وَإِعَادَتُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الموضع حسن جدا.
(1). راجع ج 13 ص 239 فما بعد.
(2)
. كذا في ج وفي اوح: العبد.
(3)
. تقدم الحديث في ج 2 ص 85 بلفظ آخر. [ ..... ]