الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّالِثَةُ- قَدْ مَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ" مَا تَضَمَّنَتْهُ الشُّورَى مِنَ الْأَحْكَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ"»
[آل عمران: 159]. وَالْمَشُورَةُ بَرَكَةٌ. وَالْمَشْوَرَةُ: الشُّورَى، وَكَذَلِكَ الْمَشُورَةُ (بِضَمِّ الشِّينِ)، تَقُولُ مِنْهُ: شَاوَرْتُهُ فِي الْأَمْرِ وَاسْتَشَرْتُهُ بِمَعْنًى. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ من ظهرها (. قال حديث غريب." مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ" أَيْ وَمِمَّا أَعْطَيْنَاهُمْ يَتَصَدَّقُونَ. وَقَدْ تقدم في" البقرة"«2» .
[سورة الشورى (42): الآيات 39 الى 43]
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ" أَيْ أَصَابَهُمْ بَغْيُ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَغَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَآذَوْهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ مَكَّةَ، فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ وَمَكَّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنَصَرَهُمْ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ:[الحج: 40 - 39]
(1). آية 159 راجع ج 4 ص 248 وما بعدها.
(2)
. راجع ج 1 ص 178 وما بعدها.
" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا «1»
…
" الْآيَاتِ كُلَّهَا. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي بَغْيِ كُلِّ بَاغٍ مِنْ كَافِرٍ وَغَيْرِهِ، أَيْ إِذَا نَالَهُمْ ظُلْمٌ مِنْ ظَالِمٍ لَمْ يَسْتَسْلِمُوا لِظُلْمِهِ. وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ذَكَرَ اللَّهُ الِانْتِصَارَ فِي الْبَغْيِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، وَذَكَرَ الْعَفْوَ عَنِ الْجُرْمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَافِعًا لِلْآخَرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى حَالَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ الْبَاغِي مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ، وَقِحًا فِي الْجُمْهُورِ، مُؤْذِيًا لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَيَكُونُ الِانْتِقَامُ مِنْهُ أَفْضَلَ. وَفِي مِثْلِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ فَتَجْتَرِئُ عَلَيْهِمُ الْفُسَّاقُ. الثَّانِيَةُ- أَنْ تَكُونَ الْفَلْتَةُ، أَوْ يَقَعُ ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِالزَّلَّةِ وَيَسْأَلُ الْمَغْفِرَةَ، فَالْعَفْوُ ها هنا أَفْضَلُ، وَفِي مِثْلِهِ نَزَلَتْ" وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى " «2» [البقرة: 237]. وَقَوْلُهُ:" فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ" «3» [المائدة: 45]. وَقَوْلُهُ:" وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" «4». [النور: 22] قُلْتُ: هَذَا حَسَنٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ فِي أَحْكَامِهِ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ" يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ الِانْتِصَارَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَفْضَلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهُ إِلَى ذِكْرِ الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ سبحانه وتعالى وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ فَتَجْتَرِئُ عَلَيْهِمُ الْفُسَّاقُ، فَهَذَا فِيمَنْ تَعَدَّى وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ. وَالْمَوْضِعُ الْمَأْمُورُ فِيهِ بِالْعَفْوِ إِذَا كَانَ الْجَانِي نَادِمًا مُقْلِعًا. وَقَدْ قَالَ عُقَيْبَ هَذِهِ الْآيَةِ:" وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ". وَيَقْتَضِي ذَلِكَ إِبَاحَةُ الِانْتِصَارِ لَا الْأَمْرُ بِهِ، وَقَدْ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ:" وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ". وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغُفْرَانِ عَنْ غَيْرِ الْمُصِرِّ، فَأَمَّا الْمُصِرُّ عَلَى الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ فَالْأَفْضَلُ الِانْتِصَارُ مِنْهُ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: أَيْ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ تَنَاصَرُوا عَلَيْهِ حَتَّى يُزِيلُوهُ عَنْهُمْ وَيَدْفَعُوهُ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْعُمُومِ على ما ذكرنا.
(1). آية 39 راجع ج 12 ص (67)
(2)
. آية 237 سورة البقرة.
(3)
. آية 45 سورة المائدة.
(4)
. آية 22 سورة النور. [ ..... ]
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها" قَالَ الْعُلَمَاءُ: جَعَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ، صِنْفٌ يَعْفُونَ عَنِ الظَّالِمِ فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ" وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ".] الشورى: 37]. وَصِنْفٌ يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ حَدَّ الِانْتِصَارِ بِقَوْلِهِ:" وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها" فَيَنْتَصِرُ مِمَّنْ ظَلَمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدِيَ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَهِشَامُ بْنُ حُجَيْرٍ: هَذَا فِي الْمَجْرُوحِ يَنْتَقِمُ مِنَ الْجَارِحِ بِالْقِصَاصِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَبٍّ أَوْ شَتْمٍ. وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ. قَالَ سُفْيَانُ: وَكَانَ ابْنُ شُبْرُمَةَ يَقُولُ: لَيْسَ بِمَكَّةَ مِثْلُ هِشَامٍ. وَتَأَوَّلَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ مَنْ خَانَهُ مِثْلَ مَا خَانَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، وَاسْتَشْهَدَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدٍ زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ:(خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ) فَأَجَازَ لَهَا أَخَذَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى فِي" الْبَقَرَةِ"«1» . وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَابَلَةِ فِي الْجِرَاحِ. وَإِذَا قَالَ: أَخْزَاهُ اللَّهُ أَوْ لَعَنَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ. وَلَا يُقَابَلُ الْقَذْفُ بِقَذْفٍ وَلَا الْكَذِبُ بِكَذِبٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ مَنِ انْتَصَرَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَاءٍ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ مَا فُعِلَ بِهِ، يَعْنِي كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ. وَسُمِّيَ الْجَزَاءُ سَيِّئَةً لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتِهَا، فَالْأَوَّلُ سَاءَ هَذَا فِي مَالٍ أَوْ بَدَنٍ، وَهَذَا الِاقْتِصَاصُ يَسُوءُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلُّهُ فِي" الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى «2». الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ تَرَكَ الْقِصَاصَ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظَّالِمِ بِالْعَفْوِ" فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ" أَيْ إِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُهُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَكَانَ الْعَفْوُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَقَدْ مَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ"«3» فِي هَذَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رضي الله عنهم قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيُّكُمْ أَهْلُ الْفَضْلِ؟ فَيَقُومُ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا إِلَى الْجَنَّةِ فَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَيَقُولُونَ إِلَى أَيْنَ؟ فَيَقُولُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، قَالُوا قَبْلَ الْحِسَابِ؟ قَالُوا نَعَمْ قَالُوا مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا أَهْلُ الْفَضْلِ، قَالُوا وَمَا كَانَ فَضْلُكُمْ؟ قَالُوا كنا إذا جهل علينا حلمنا
(1). راجع ج 2 ص (335)
(2)
. راجع ج 2 ص (335)
(3)
. راجع ج 4 ص 207
وإذا ظلمنا صبرنا وإذا سيئ إِلَيْنَا عَفَوْنَا، قَالُوا ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ." إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" أَيْ مَنْ بَدَأَ بِالظُّلْمِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: لَا يُحِبُّ مَنْ يَتَعَدَّى فِي الِاقْتِصَاصِ وَيُجَاوِزُ الْحَدَّ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ" أَيِ الْمُسْلِمُ إِذَا انْتَصَرَ مِنَ الْكَافِرِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى لَوْمِهِ، بَلْ يُحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْكَافِرِ. وَلَا لَوْمَ إِنِ انْتَصَرَ الظَّالِمُ «1» مِنَ الْمُسْلِمِ، فَالِانْتِصَارُ مِنَ الْكَافِرِ حَتْمٌ، وَمِنَ الْمُسْلِمِ مباح، والعفو مندوب. الخامسة- في قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا- أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا فِي بَدَنٍ يَسْتَحِقُّهُ آدَمِيٌّ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ إِنِ اسْتَوْفَاهُ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ وَثَبَتَ حَقُّهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ، لَكِنْ يَزْجُرُهُ الْإِمَامُ فِي تَفَوُّتِهِ بِالْقِصَاصِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى سَفْكِ الدَّمِ. وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ غَيْرَ ثَابِتٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حَرَجٌ، وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مُطَالَبٌ وَبِفِعْلِهِ مُؤَاخَذٌ «2» وَمُعَاقَبٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي- أَنْ يَكُونَ حَدُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقَّ لِآدَمِيٍّ فِيهِ كَحَدِّ الزِّنَى وَقَطْعِ السَّرِقَةِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَ حَاكِمٍ أُخِذَ بِهِ وَعُوقِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ حَاكِمٍ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ قَطْعًا فِي سَرِقَةٍ سَقَطَ بِهِ الْحَدُّ لِزَوَالِ الْعُضْوِ الْمُسْتَحَقِّ قَطْعُهُ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَقٌّ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ أَدَبٌ، وَإِنْ كَانَ جَلْدًا لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْحَدُّ لِتَعَدِّيهِ مَعَ بَقَاءِ مَحِلِّهِ فَكَانَ مَأْخُوذًا بِحُكْمِهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ- أَنْ يَكُونَ حَقًّا فِي مَالٍ، فَيَجُوزُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُغَالِبَ عَلَى حَقِّهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ هُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ نَظَرَ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِسْرَارُ بِأَخْذِهِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِالْمُطَالَبَةِ لِجُحُودِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِسْرَارِهِ بِأَخْذِهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا- جَوَازُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. الثَّانِي- الْمَنْعُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ" أَيْ بِعُدْوَانِهِمْ عَلَيْهِمْ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أي يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم.
(1). في ل: انتصر المظلوم وفي هـ انتصر ظالم من مسلم.
(2)
. في ز ل: مطالب بفعله مؤاخذ به.
" ويبغون في الأرض بغير الحق" أَيْ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَغْيُهُمْ عَمَلُهُمْ بِالْمَعَاصِي. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: هُوَ مَا يَرْجُوهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ غَيْرُ الْإِسْلَامِ دِينًا. وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَنْسُوخٌ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً. وَقَوْلُ قَتَادَةَ: إِنَّهُ عَامٌّ، وَكَذَا يَدُلُّ ظَاهِرُ الْكَلَامِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. السَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي" بَرَاءَةٌ" وَهِيَ قَوْلُهُ" مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «1» [التوبة: 91]، فَكَمَا نَفَى اللَّهُ السَّبِيلَ عَمَّنْ أَحْسَنَ فَكَذَلِكَ نفاها «2» على من ظلم، واستوفى ببان الْقِسْمَيْنِ. الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي السُّلْطَانِ يَضَعُ على أهل بلد مالا معلوما بأخذهم بِهِ وَيُؤَدُّونَهُ عَلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ، هَلْ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَ، وَهُوَ إِذَا تَخَلَّصَ أَخَذَ سَائِرَ أَهْلِ الْبَلَدِ بِتَمَامِ مَا جُعِلَ عَلَيْهِمْ. فَقِيلَ لَا، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقِيلَ: نَعَمْ، لَهُ ذَلِكَ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاصِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الدَّاوُدِيُّ ثُمَّ الْمَالِكِيُّ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ مَالِكٍ فِي السَّاعِي يَأْخُذُ مِنْ غَنَمِ أَحَدِ الْخُلَطَاءِ شَاةً وَلَيْسَ فِي جَمِيعِهَا نِصَابٌ إِنَّهَا مَظْلَمَةٌ عَلَى مَنْ أُخِذَتْ لَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَصْحَابِهِ بِشَيْءٍ. قَالَ: وَلَسْتُ آخُذُ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ، لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا أُسْوَةَ فِيهِ، وَلَا يُلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يُولِجَ نَفْسَهُ فِي ظُلْمٍ مَخَافَةَ أَنْ يُضَاعَفَ الظُّلْمُ عَلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ:" إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ". التاسعة- واختلف الْعُلَمَاءُ فِي التَّحْلِيلِ، فَكَانَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لَا يُحَلِّلُ أَحَدًا مِنْ عِرْضٍ وَلَا مَالٍ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يُحَلِّلَانِ مِنَ الْعِرْضِ وَالْمَالِ. وَرَأَى مَالِكٌ التَّحْلِيلُ مِنَ الْمَالِ دُونَ الْعِرْضِ. رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وهب عن مالك وسيل عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ" لَا أُحَلِّلُ أَحَدًا" فَقَالَ: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ، فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُسَلِّفُ الرَّجُلَ فَيَهْلَكُ وَلَا وَفَاءَ لَهُ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ يُحَلِّلَهُ وَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدِي، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ" الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ «3» أَحْسَنَهُ" [الزمر: 18]. فقيل له: الرجل يظلم الرجل؟
(1). راجع ج 8 ص 227.
(2)
. في ابن العربي: أثبتها.
(3)
. راجع ج 15 ص 244.
فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، هُوَ عِنْدِي مُخَالِفٌ لِلْأَوَّلِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى" إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ" وَيَقُولُ تَعَالَى" مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ" [التوبة: 91] فَلَا أَرَى أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فِي حِلٍّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا لَا يُحَلِّلُهُ بِحَالٍ، قَالَهُ سعيد ابن الْمُسَيَّبِ. الثَّانِي- يُحَلِّلُهُ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ. الثَّالِثُ- إِنْ كَانَ مَالًا حَلَّلَهُ وَإِنْ كَانَ ظُلْمًا لَمْ يُحَلِّلْهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَلَّا يُحَلِّلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَيَكُونُ كَالتَّبْدِيلِ لِحُكْمِ اللَّهِ. وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ كَمَا يُسْقِطُ دَمَهُ وَعِرْضَهُ. وَوَجْهُ الثَّالِثِ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَلَبَ عَلَى أَدَاءِ حَقِّكَ فَمِنَ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ يَتَحَلَّلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَمِنَ الْحَقِّ أَلَّا تَتْرُكَهُ لِئَلَّا تَغْتَرَّ الظَّلَمَةُ «1» وَيَسْتَرْسِلُوا فِي أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ حَدِيثُ أَبِي الْيُسْرِ الطَّوِيلِ وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِغَرِيمِهِ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لَا أَكْذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبُكَ، وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفُكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا. قَالَ قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ اللَّهِ «2» ، قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَةٍ فَمَحَاهَا فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِ، وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلٍّ
…
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا فِي الْحَيِّ الَّذِي يُرْجَى لَهُ الْأَدَاءُ لِسَلَامَةِ الذِّمَّةِ وَرَجَاءِ التَّمَحُّلِ «3» ، فَكَيْفَ بِالْمَيِّتِ الَّذِي لَا مُحَالَلَةَ لَهُ وَلَا ذِمَّةَ مَعَهُ. الْعَاشِرَةُ- قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مَنْ ظُلِمَ وَأُخِذَ لَهُ مَالٌ فَإِنَّمَا لَهُ ثَوَابُ مَا احتبس عنه إلى موته، ثم يوجع الثَّوَابُ إِلَى وَرَثَتِهِ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى آخِرِهِمْ، لِأَنَّ الْمَالَ يَصِيرُ بَعْدَهُ لِلْوَارِثِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الدَّاوُدِيُّ الْمَالِكِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ فِي النَّظَرِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنْ مَاتَ الظَّالِمُ قَبْلَ مَنْ ظَلَمَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أَوْ تَرَكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَارِثُهُ فِيهِ بِظُلْمٍ لَمْ تَنْتَقِلْ تَبَاعَةُ الْمَظْلُومِ إِلَى وَرَثَةِ الظَّالِمِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلظَّالِمِ مَا يَسْتَوْجِبُهُ وَرَثَةُ الْمَظْلُومِ. (هامش)
(1). في بعض الأصول:" ويستسرون" وفي البعض الآخر:" ويستشرون".
(2)
. قال النووي" الأول بهمزة ممدودة على الاستفهام، والثاني بلا مد، والهاء فيهما مكسورة. قال القاضي: ورويناه بفتحهما معا، وأكثر أهل العربية لا يجيزون إلا الكسر".
(3)
. في ابن العربي:" التحلل" وقد كتب على هامش نسخة من الأصل بخط الناسخ:" يقال تمحل أي احتال فهو متمحل قاله الجوهري".] [