الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَغَيْثٍ مِنَ الْوَسْمِيِّ حُوٍّ تِلَاعُهُ
…
تَبَطَّنْتُهُ بِشَيْظَمٍ صَلَتَانِ «1»
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحْوى صِفَةً لِ غُثاءً. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ صَارَ كَذَلِكَ بَعْدَ خُضْرَتِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَجَعَلَهُ أَسْوَدَ مِنِ احْتِرَاقِهِ وَقِدَمِهِ، وَالرَّطْبُ إِذَا يَبِسَ اسْوَدَّ. وَقَالَ عَبْدُ الرحمن زَيْدٍ: أَخْرَجَ الْمَرْعَى أَخْضَرَ، ثُمَّ لَمَّا يَبِسَ اسْوَدَّ مِنِ احْتِرَاقِهِ، فَصَارَ غُثَاءً تَذْهَبُ بِهِ الرِّيَاحُ وَالسُّيُولُ. وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى للكفار، لذهاب الدنيا بعد نضارتها.
[سورة الأعلى (87): الآيات 6 الى 8]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَاّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى سَنُقْرِئُكَ أَيِ الْقُرْآنَ يَا مُحَمَّدُ فَنُعَلِّمُكَهُ فَلا تَنْسى أَيْ فَتَحْفَظُ، رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ. وَهَذِهِ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، بَشَّرَهُ بِأَنْ أَعْطَاهُ آيَةً بَيِّنَةً، وَهِيَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ مَا يَقْرَأُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ، وَهُوَ أُمِّيٍ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ، فَيَحْفَظُهُ وَلَا يَنْسَاهُ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ يَتَذَكَّرُ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَى، فَقِيلَ: كَفَيْتُكَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ، لَمْ يَفْرُغْ جِبْرِيلُ من آخر الآية، حتى يتكلم للنبي صلى الله عليه وسلم بِأَوَّلِهَا، مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَاهَا، فَنَزَلَتْ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا، فَقَدْ كَفَيْتُكَهُ. وَوَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا، مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ لَمْ يَشَأْ أَنْ تَنْسَى شَيْئًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ «2» رَبُّكَ [هود: 107]. وَلَا يَشَاءُ. وَيُقَالُ فِي الْكَلَامِ: لَأُعْطِيَنَّكَ كُلَّ مَا سَأَلْتَ إِلَّا مَا شِئْتَ، وَإِلَّا أَنْ أَشَاءَ أَنْ أَمْنَعَكَ، وَالنِّيَّةُ عَلَى أَلَّا يَمْنَعَهُ شَيْئًا. فَعَلَى هَذَا مَجَارِي الْأَيْمَانِ، يُسْتَثْنَى فِيهَا وَنِيَّةُ الْحَالِفِ التَّمَامُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَلَمْ يَنْسَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى مَاتَ، إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ. وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئا، إِلَّا
(1). الوسمي: مطر أول الربيع لأنه يسم الأرض بالنبات. نسب إلى الوسم. والتلاع: جمع التلعة، وهي أرض مرتفعة غليظة يتردد فيها السيل، ثم يدفع منها إلى تلعة أسفل منها. وهي مكرمة من المنابت: وقيل: التلعة مجرى الماء من أعلى الوادي إلى بطون الأرض وتبطنته: دخلته. والشظيم: الطويل الجسيم الفتى من الناس والخيل. والصلتان: النشيط الحديد الفؤاد من الخيل.
(2)
. آية 108 سورة هود.
مَا شاءَ اللَّهُ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ قِيلَ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَى، وَلَكِنَّهُ لم ينسى شَيْئًا مِنْهُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَى، ثُمَّ يَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذًا قَدْ نَسِيَ، وَلَكِنَّهُ يَتَذَكَّرُ وَلَا يَنْسَى نِسْيَانًا كُلِّيًّا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَسْقَطَ آيَةً فِي قِرَاءَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَحَسِبَ أُبَيٌّ أَنَّهَا نُسِخَتْ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ:[إِنِّي نَسِيتُهَا]. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ النِّسْيَانِ، أَيْ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُنْسِيَكَ. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا بِمَعْنَى النَّسْخِ، أَيْ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَخَهُ. وَالِاسْتِثْنَاءُ نَوْعٌ مِنَ النَّسْخِ. وَقِيلَ. النِّسْيَانُ بِمَعْنَى التَّرْكِ، أَيْ يَعْصِمُكَ مِنْ أَنْ تَتْرُكَ الْعَمَلَ بِهِ، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَتْرُكَهُ لِنَسْخِهِ إِيَّاهُ. فَهَذَا فِي نَسْخِ الْعَمَلِ، وَالْأَوَّلُ فِي نَسْخِ الْقِرَاءَةِ. قَالَ الْفَرْغَانِيُّ: كَانَ يَغْشَى مَجْلِسَ الْجُنَيْدِ أَهْلُ الْبَسْطِ مِنَ الْعُلُومِ، وَكَانَ يَغْشَاهُ ابْنُ كَيْسَانَ النَّحْوِيُّ، وَكَانَ رَجُلًا جَلِيلًا، فَقَالَ يَوْمًا: مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى؟ فَأَجَابَهُ مُسْرِعًا- كَأَنَّهُ تَقَدَّمَ لَهُ السُّؤَالُ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَوْقَاتٍ: لَا تَنْسَى الْعَمَلَ بِهِ. فَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ! مِثْلُكُ مَنْ يُصْدَرُ عَنْ رَأْيِهِ. وَقَوْلُهُ فَلا: لِلنَّفْيِ لَا لِلنَّهْيِ. وَقِيلَ: لِلنَّهْيِ، وَإِنَّمَا أُثْبِتَتِ الْيَاءُ «1» لِأَنَّ رُءُوسَ الْآيِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: لَا تَغْفُلْ عَنْ قِرَاءَتِهِ وَتَكْرَارِهِ فَتَنْسَاهُ، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُنْسِيَكَهُ بِرَفْعِ تِلَاوَتِهِ لِلْمَصْلَحَةِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّهْيِ لَا يَكَادُ يَكُونُ إِلَّا مُؤَقَّتًا مَعْلُومًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَاءَ مُثْبَتَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ، وَعَلَيْهَا الْقُرَّاءُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُؤَخِّرَ إِنْزَالَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحَوَى إِلَّا مَا شَاءَ الله أن يناله بَنُو آدَمَ وَالْبَهَائِمُ، فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ كَذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) أَيِ الْإِعْلَانَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. وَما يَخْفى مِنَ السِّرِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا فِي قَلْبِكَ وَنَفْسِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ: يَعْلَمُ إِعْلَانَ الصَّدَقَةِ وَإِخْفَاءَهَا. وَقِيلَ: الْجَهْرُ مَا حَفِظْتَهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي صَدْرِكَ. وَما يَخْفى هُوَ مَا نُسِخَ مِنْ صَدْرِكَ. وَنُيَسِّرُكَ: مَعْطُوفٌ عَلَى سَنُقْرِئُكَ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى اعتراش. وَمَعْنَى لِلْيُسْرى أَيْ لِلطَّرِيقَةِ الْيُسْرَى، وَهِيَ عَمَلُ الْخَيْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُيَسِّرُكَ لِأَنْ تَعْمَلَ خَيْرًا. ابْنُ مَسْعُودٍ: لِلْيُسْرى أَيْ لِلْجَنَّةِ. وَقِيلَ: نُوَفِّقُكَ لِلشَّرِيعَةِ الْيُسْرَى، وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ السَّهْلَةُ، قَالَ مَعْنَاهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: أَيْ نُهَوِّنُ عَلَيْكَ الوحي حتى تحفظه وتعمل به.
(1). يريد الالف في (تَنْسى)، واصلها الياء (نسى ينسى).