الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَعْنِي الْعَاقِرَ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَمَا عَلَى هَذَا نَفْيٌ. وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِضْمَارِ الْمَوْصُولِ، أَيْ وَوَالِدٍ وَالَّذِي مَا وَلَدَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَقِيلَ: هُوَ عُمُومٌ فِي كُلِّ وَالِدٍ وَكُلِّ مَوْلُودٍ، قَالَهُ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ. وَرُوِيَ معناه عن ابن عباس أيضا. وهو اختبار الطَّبَرِيِّ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْوَالِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ، وَمَا وَلَدَ أُمَّتُهُ: لِقَوْلِهِ عليه السلام: [إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ]. فَأَقْسَمَ بِهِ وَبِأُمَّتِهِ بَعْدَ أَنْ أَقْسَمَ بِبَلَدِهِ، مُبَالَغَةً فِي تَشْرِيفِهِ عليه السلام.
[سورة البلد (90): آية 4]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
إِلَى هُنَا انْتَهَى الْقَسَمُ، وَهَذَا جَوَابُهُ. وَلِلَّهِ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا يَشَاءُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِتَعْظِيمِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْإِنْسَانُ هُنَا ابْنُ آدَمَ. فِي كَبَدٍ أَيْ فِي شِدَّةٍ وَعَنَاءٍ مِنْ مُكَابَدَةِ الدُّنْيَا. وَأَصْلُ الْكَبَدِ الشِّدَّةُ. وَمِنْهُ تَكَبَّدَ اللَّبَنُ: غَلُظَ وَخَثَرَ وَاشْتَدَّ. وَمِنْهُ الْكَبِدُ، لِأَنَّهُ دَمٌ تَغَلَّظَ وَاشْتَدَّ. وَيُقَالُ: كَابَدْتُ هَذَا الْأَمْرَ: قَاسَيْتُ شِدَّتَهُ: قَالَ لَبِيدٌ:
يَا عَيْنُ هَلَّا بَكَيْتِ أَرْبَدَ إِذْ
…
قُمْنَا وَقَامَ الْخُصُومُ فِي كَبَدِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: فِي كَبَدٍ أَيْ فِي شِدَّةٍ وَنَصَبٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: فِي شِدَّةٍ مِنْ حَمْلِهُ وَوِلَادَتِهِ وَرَضَاعِهِ وَنَبْتِ أَسْنَانِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْهُ قَالَ: مُنْتَصِبًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَالْكَبَدُ: الِاسْتِوَاءُ وَالِاسْتِقَامَةُ. فَهَذَا امْتِنَانٌ عَلَيْهِ فِي الْخِلْقَةِ. وَلَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ دَابَّةً فِي بَطْنِ أُمِّهَا إِلَّا مُنْكَبَّةً عَلَى وَجْهِهَا إِلَّا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ مُنْتَصِبٌ انْتِصَابًا، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرهِمَا. ابْنُ كَيْسَانَ: مُنْتَصِبًا رَأْسُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ قَلَبَ رَأْسَهُ إِلَى رِجْلَيْ أُمِّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُكَابِدُ مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَشَدَائِدَ الْآخِرَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: يُكَابِدُ الشُّكْرَ عَلَى السَّرَّاءِ وَيُكَابِدُ الصَّبْرَ عَلَى الضَّرَّاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِهِمَا. وَرَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ يَمَانٌ: لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ خَلْقًا يُكَابِدُ مَا يُكَابِدُ ابْنُ آدَمَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَضْعَفُ الْخَلْقِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَوَّلُ مَا يُكَابِدُ قَطْعَ سُرَّتِهِ، ثُمَّ إذا
قُمِطَ قِمَاطًا، وَشُدَّ رِبَاطًا، يُكَابِدُ الضِّيقَ وَالتَّعَبَ، ثُمَّ يُكَابِدُ الِارْتِضَاعَ، وَلَوْ فَاتَهُ لَضَاعَ، ثُمَّ يُكَابِدُ نَبْتَ أَسْنَانِهِ، وَتَحَرُّكَ لِسَانِهِ، ثُمَّ يُكَابِدُ الْفِطَامَ، الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنَ اللِّطَامِ، ثُمَّ يُكَابِدُ الْخِتَانَ، وَالْأَوْجَاعَ وَالْأَحْزَانَ، ثُمَّ يُكَابِدُ الْمُعَلِّمَ وَصَوْلَتَهُ، وَالْمُؤَدِّبَ وَسِيَاسَتَهُ، وَالْأُسْتَاذَ وَهَيْبَتَهُ، ثُمَّ يُكَابِدُ شُغْلَ التَّزْوِيجِ وَالتَّعْجِيلَ فِيهِ «1» ، ثُمَّ يُكَابِدُ شُغْلَ الْأَوْلَادِ، وَالْخَدَمِ وَالْأَجْنَادِ، ثُمَّ يُكَابِدُ شُغْلَ الدُّورِ، وَبِنَاءِ الْقُصُورِ، ثُمَّ الْكِبَرَ وَالْهَرَمَ، وَضَعْفَ الرُّكْبَةِ وَالْقَدَمِ، فِي مَصَائِبَ يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا، وَنَوَائِبَ يَطُولُ إِيرَادُهَا، مِنْ صُدَاعِ الرَّأْسِ، وَوَجَعِ الْأَضْرَاسِ، وَرَمَدِ الْعَيْنِ، وَغَمِّ الدَّيْنِ، وَوَجَعِ السِّنِّ، وَأَلَمِ الْأُذُنِ. وَيُكَابِدُ مِحَنًا فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ، مِثْلَ الضَّرْبِ وَالْحَبْسِ، وَلَا يَمْضِي عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلَّا يُقَاسِي فِيهِ شِدَّةً، وَلَا يُكَابِدُ إِلَّا مَشَقَّةً، ثُمَّ الموت بعد ذلك كله، ثم مسألة الْمَلَكِ، وَضَغْطَةَ الْقَبْرِ وَظُلْمَتَهُ، ثُمَّ الْبَعْثَ وَالْعَرْضَ عَلَى اللَّهِ، إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ بِهِ الْقَرَارُ، إِمَّا فِي الْجَنَّةِ وَإِمَّا فِي النَّارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ لَمَّا اخْتَارَ هَذِهِ الشَّدَائِدَ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ لَهُ خَالِقًا دَبَّرَهُ، وَقَضَى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَلْيَمْتَثِلْ أَمْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْإِنْسَانُ هُنَا آدَمُ. وَقَوْلُهُ: فِي كَبَدٍ أَيْ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي رَجُلٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ، كَانَ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْأَشَدَّيْنِ «2» ، وَكَانَ يَأْخُذُ الْأَدِيمَ الْعُكَاظِيَّ فَيَجْعَلُهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَيَقُولُ: مَنْ أَزَالَنِي عَنْهُ فَلَهُ كَذَا. فَيَجْذِبُهُ عَشَرَةٌ حَتَّى يَتَمَزَّقَ وَلَا تَزُولَ قَدَمَاهُ، وَكَانَ مِنْ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ نَزَلَ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد: 5] يَعْنِي: لِقُوَّتِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فِي كَبَدٍ أَيْ شَدِيدًا، يَعْنِي شَدِيدَ الْخَلْقِ، وَكَانَ من أشد رجال قريش. وكذلك ركانة ابن هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مَثَلًا فِي الْبَأْسِ وَالشِّدَّةِ. وَقِيلَ: فِي كَبَدٍ أَيْ جَرِيءُ الْقَلْبِ، غَلِيظُ الْكَبِدِ، مَعَ ضَعْفِ خِلْقَتِهِ، وَمُهَانَةِ مَادَّتِهِ. ابْنُ عَطَاءٍ: فِي ظُلْمَةٍ وَجَهْلٍ. التِّرْمِذِيُّ: مُضَيِّعًا مَا يَعْنِيهِ، مُشْتَغِلًا بِمَا لَا يَعْنِيهِ.
(1). في نسخة من نسخ الأصل وحاشية الجمل: ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، والتزويج.
(2)
. كذا في نسخ الأصل. وفي الكشاف وروح المعاني والبيضاوي والثعلبي: أبو الأشد.