الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الذي قصصته عليكم تبليغ وإنذار، ليتذكر به ذوو العقول الراجحة، وليعلموا أن الله واحد لا شريك له.
الإيضاح
(وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) تقدم أن مثل هذا الخطاب من وادي قولهم: (إياك أعنى واسمعي يا جاره) فهو فى صورته للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وفيه تسلية للمؤمنين وتهديد للظالمين بأن الله محص أعمالهم ومحيط بها، وسيجزيهم وصفهم فى الحين الذي سبق فى علمه، وأن عقابهم لا بد آت، فتركه بمنزلة حسبانه تعالى غافلا عن أعمالهم، إذ العلم بذلك مستوجب لعقابهم لا محلة.
ثم أوعدهم حلول يوم يحاسبون فيه على أعمالهم وفيه من الهول ما يحيّر اللب، ويدهش العقل فقال:
(إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي إنما يمهلهم ويمتعهم بكثير من لذات الحياة ولا يعجل عقوبتهم، ليوم شديد الهول ترتفع فيه أبصار أهل الموقف، وتبقى مفتوحة لا تطرف من الفزع والاضطراب.
(مُهْطِعِينَ) أي يأتون مسرعين إلى الداعي بالذلة والاستكانة كما يسرع الأسير والخائف.
(مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي رافعيها مع دوام النظر من غير التفات إلى شىء.
(لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم كما كانوا يفعلون فى الدنيا فى كل لحظة، بل تبقى أعينهم مفتوحة لا تطرف من شدة الفزع والخوف.
(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي إنها مضطربة تجيش فى صدورهم، تجىء وتذهب، ولا تستقر فى مكان حتى تبلغ الحناجر، لشدة ما يرون من هول موقف الحساب.
ثم ذكر مقالتهم حين يرون هذا الهول وما فيه من العذاب فقال:
(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ
نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) أي وحوّف أيها الرسول القوم الظالمين، وازجرهم عما هم عليه من الظلم شفقة بهم- هول يوم العذاب وشدته حين يقولون من الهلع والجزع:
ربنا أرجعنا إلى الدنيا، وأمهلنا أمدا قريبا، نجب فيه دعوة الرسل إلى توحيدك، وإخلاص العبادة لك، بعد أن جحدنا ذلك.
ثم رد عليهم مقالتهم بقوله:
(أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي وحينئذ يقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: ألم تحلفوا فى الدنيا أنكم إذا متّم لا تخرجون لبعث ولا حساب كما حكى الله عنهم «وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت» فذوقوا وبال أمركم.
أخرج البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى فى أربع منها، فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون:
«رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ؟» فيجيبهم الله عز وجل «ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» ثم يقولون: «رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» فيجيبهم جل شأنه: «فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» الآية، ثم يقولون:«رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» فيجيبهم تبارك وتعالى: «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ» الآية، ثم يقولون:«رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» فيجيبهم جل جلاله «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» فيقولون «رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» فيجيبهم جلا وعلا «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» فلا يتكلمون بعدها إن هو إلا زفير وشهيق وحينئذ ينقطع رجاؤهم ويقبل بعضهم ينبح فى وجه بعض وتطبق عليهم جهنم. اللهم إنا نعوذ
بك من غضبك، ونلوذ بكنفك من عذابك، ونسألك التوفيق للعمل الصالح فى يومنا لغدنا، والتقرب إليك بما يرضيك قبل أن يخرج الأمر من يدنا اه.
(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) أي وأقمتم فيها واطمأننتم وسرتم سيرة من قبلكم فى الظلم والفساد، لم تفكروا فيما سمعتم من أخبار من سكنوها قبلكم ولم تعتبروا بأيام الله فيهم وأنه أهلكهم بظلمهم، وأنكم إن سرتم سيرتهم حاق بكم مثل ما حاق بهم، بعد أن تبين لكم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقوبة بمعاينة آثارهم وتواتر أخبارهم، ومثلنا لكم فيما كنتم مقيمين عليه من الشرك الأشباه والنظائر، فلم ترعووا ولم تتوبوا من كفركم.
الآن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم من العذاب ما نزل؟ فهيهات هيهات، قد فات ما فات، ولن يكون ذلك حتى يلج الجمل فى سم الخياط.
ثم بين أن حالهم كحال من سبقهم حذو القذّة بالقذّة فقال:
(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي وقد مكروا فى إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم الذي استفرغوا فيه كل جهدهم، وأحكموا أسبابه حتى لم يبق فى قوس الحق منزع.
ثم ذكر بعدئذ أن الله عليم بكل ما دبّروا فقال:
(وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ) أي ومكتوب عند الله مكرهم، وهو لا محالة لمجازيهم عليه، ومعذبهم من حيث لا يشعرون.
والخلاصة- عند الله جزاؤهم وما هو أعظم منه، فرأيهم آفن، إذ هم سلكوا طريقا كان ينبغى البعد عنها بعد أن استبان فسادها.
ثم ذكر أن عاقبة مكرهم الخسران والبوار فقال:
(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) أي وما كان مكرهم لتزول به آيات الله وشرائعه، ومعجزاته الظاهرة على أيدى الرسل التي هى كالجبال فى الرسوخ والثبات.
والخلاصة- تحقير شأن مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الآيات والنبوات الثابتة ثبوت الجبال، فليس بمزيل شيئا منها مهما قوى وكان غاية فى المتانة والعظم.
(فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) هذا الخطاب لرسوله صلى الله عليه وسلم على نهج سالفه، والمقصود منه تثبيت أمته على ثقتهم بوعد ربهم وتيقنهم بإنجازه، بتعذيب الظالمين وأنه منزل سخطه بمن كذّبه وجحد نبوته.
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) أي غالب على أمره، لا يمتنع منه من أراد عقوبته، قادر على كل من طلبه، لا يفوته بالهرب منه، وهو ذو انتقام ممن كفر برسله، وكذبتهم وجحد نبوتهم، وأشرك به واتخذ معه إلها غيره.
ثم ذكر زمان الانتقام فقال:
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) أي إنه تعالى ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض بأن تتطاير هذه الأرض كالهباء وتصير كالدخان المنتشر ثم ترجع أرضا أخرى بعد ذلك، وتبدل السموات بانتشار كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها وخسوف قمرها.
قال ابن عباس رضى الله عنهما هى تلك الأرض إلا أنها تغيرت فى صفاتها، فتسير عن الأرض جبالها، وتفجّر بحارها وتسوّى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت،
وروى عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يبدل الله الأرض غير الأرض فيسطها ويمدها مدّ الأديم العكاظىّ، فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا» .
وهذه الآية الكريمة من معجزات القرآن التي أيدها العلم الحديث وانطبقت عليه أشد الانطباق، فعلماء الفلك الآن يقولون إن الأرض والشمس وسائر الكواكب السيارة كانت فيما مضى كرة نارية حارة طائرة فى الفضاء، ودارت على محورها ملايين السنين، ثم تكونت منها الشمس، وبعد ملايين أخرى فصلت منها السيارات ومنها الأرض، وبعد مئات الألوف انفصلت عنها الأقمار.
ولا شك أن هذه الحال بعينها ستعاد كرّة أخرى: أي إن الأرض والكواكب والشمس بعد ملايين السنين ستنحلّ مرة أخرى ويذوب ذلك الموجود كله، ويتطاير فى الفضاء حقبة من الزمن، ثم تعاد كرة أخرى وتكون شمس غير هذه الشمس وأرض غير هذه الأرض وسموات غير هذه السموات.
روى مسلم عن عائشة قالت «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات- فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال:
على الصراط» .
وروى عن أبىّ بن كعب أنه قال فى معنى التبديل: إن الأرض تصير نيرانا.
وعلى الجملة فقد اتفق العلم الحديث مع الآيات والأحاديث على أن الأرض تصير نارا وأن الناس لا يكونون عليها، بل هناك ما هو أعجب وهو ما روى عن ابن مسعود وأنس رضى الله عنهما من قولهما: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة، ولا بدع فى أن تكون أرضا جديدة لم يسكنها أحد، بل تخلق خلقا جديدا.
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي وخرجوا من قبورهم لحكم الله والوقوف بين يدى الواحد القهار، فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار سواه.
وفى هذا من تهويل الخطب ما لا يخفى، لأنهم إذا وقفوا عند ملك عظيم قهار لا يشاركه سواه فى سلطانه كانوا على خطر، إذ لا منازع له ولا مغيث سواه.
وبعد أن وصف سبحانه نفسه بكونه قهارا- بين عجز المجرمين وذلتهم فقال:
(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) وصفهم سبحانه بحملة أمور:
(1)
إنه يقرن بعضهم إلى بعضهم فى القيود ويضمّ كلّ إلى مشاركه فى كفره وعمله كما قال تعالى «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ» وقال: «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ» وفى الحديث: «أنت مع من أحببت» .
(2)
إن قمصهم التي يلبسونها من قطران، والمراد من ذلك أن جلود أهل النار تطلى بالقطران حتى يعود طلاؤها كالسرابيل، ليجتمع عليهم أربعة ألوان من العذاب:
لذع القطران وحرقته، وإسراع اشتعال النار فى الجلود، واللون الأسود الموحش، وننن الريح.
(3)
إن وجوههم تعلوها النار، وتحيط بها وتسعّر أجسامهم المسربلة بالقطران، وإنما ذكرت الوجوه مع أن ذلك يكون لسائر الجسم- لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها.
ونظير الآية قوله: «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» وقوله:
«يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» .
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي فعل الله ذلك بهم جزاء وفاقا بما كسبوا فى الدنيا من الآثام، لكى يثيب كل نفس بما كسبت من خير أو شر، فيجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
(إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيحاسب جميع العباد فى أسرع من لمح البصر، ولا يشغله حساب عن حساب: كما لا يشغله رزق زيد عن رزق عمرو.
(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) أي هذا القرآن الكريم بلاغ للناس، أبلغ الله به إليهم فى الحجة، وأعذر إليهم بما أنزل فيه من مواعظه وعبره.
(وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) عقاب الله ويحذروا به نقمته.
(وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي وليعلموا بما احتج به عليهم من الحجج فيه، إنما هو اله واحد لا آلهة شتى كما يقول المشركون بالله، وهو الذي سخر لهم الشمس والقمر، والليل والنهار، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم.
(وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وليتذكروا ويتعظوا بما احتج الله به من الحجج، فيزدجروا عن أن يجعلوا معه إلها غيره، وفى تخصيص التذكر بأولى الألباب إعلاء لشأنهم، وإيماء إلى أنهم هم أهل النظر والاعتبار.