الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم بين مآل كل من السعداء والأشقياء وما أعدّ لكل منهما يوم القيامة، وبين أن حاليهما لا يستويان عنده، وأن الذي يعى تلك الأمثال ويعتبر بها إنما هو ذو اللب السليم، والعقل الراجع، والفكر الثاقب.
الإيضاح
(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي أنزل من السحاب مطرا فسالت مياه الأودية بحسب مقدارها فى الصغر والكبر، فحمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدا عاليا مرتفعا فوقه طافيا عليه- وهذا هو المثل الأول الذي ضربه الله للحق والباطل والإيمان والكفر.
(وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي ومن الذي يطرحه الناس فى النار من ذهب أو فضة وكذلك من سائر الفلزّات كالحديد والنحاس والرّصاص- زبد راب كما يطفو على الماء فى الأودية زبد مثله، ويتّخذ من الذهب والفضة حلىّ، ومن الحديد والرصاص والنحاس وما أشبه ذلك متاع وهو ما يتمتع به الناس كالأوانى والقدور وغيرها من آلات الحرث والحصد وأدوات المصانع وأدوات القتال والنزال، وهذا هو المثل الثاني.
(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي وما مثل الحق والباطل إذا اجتمعا إلا مثل السيل والزبد، فكما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما مما يسبك فى النار بل يذهب ويضمحل، فالباطل لاثبات له ولا دوام أمام الحق.
ثم فصل هذا بقوله.
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) أي فأما الزبد الذي يعلو السيل فيذهب فى جانبى الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شىء، وأما ما ينفع الناس من الماء والذهب والفضة فيمكث فى الأرض، فالماء نشر به ونسقى به الأرض فينبت
جيد الزرع الذي ينتفع به الناس والحيوان، والذهب والفضة نستعملها فى الحلي وصكّ النقود، والحديد والنحاس ونحوهما نستعملها فى متاعنا من الحرث والحصد وفى المعامل والمصانع ووسائل الدفاع ونحو ذلك.
وخلاصة المثلين- أنه تعالى مثل نزول الحق وهو القرآن الكريم من حضرة القدس، على القلوب الخالية منه، المتفاوتة الاستعداد فى ملاحظته وحفظه، وفى استذكاره وتلاوته، وهو وسيلة الحياة الروحية والفضائل النفسية والآداب المرضية- بماء نزل من السماء فى أودية قاحلة لم يكن لها سابق عهد به، وسال بمقدار اقتضت الحكمة أن يكون نافعا فى إحياء الأرض وما عليها، جالبا لسعادة الإنسان والحيوان، وكذلك جعله حلية تتحلى بها النفوس، وتصل بها إلى السعادة الأبدية، ومتاعا يتمتع به فى المعاش والمعاد، ومثله بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات، وتبقى منتفعا بها ردحا طويلا من الزمن.
ومثّل الباطل الذي ابتلى به الكفرة لفقد استعدادهم لعمل الخير بما ران على قلوبهم من شرور المعاصي واجتراح الآثام- بالزبد الرابى الذي يطفو على الماء، أو يخرج من خبث الحديد والنحاس والفضة والذهب ونحوها ويضمحل سريعا ويزول.
وقال الزجاج: مثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان له كمثل الماء المنتفع به فى نبات الأرض وحياة كل شىء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر، لأنها كلها تبقى منتفعا بها، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به اه.
(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) أي ومثل ضربنا لهذه الأمثال البديعة التي توضح للناس ما أشكل عليهم من أمور دينهم وتظهر الفوارق بين الحق والباطل والإيمان والكفر- نضرب لهم الأمثال فى كل باب حتى تستبين لهم طريق الهدى فيسلكوها وطرق الباطل فينحرفوا عنها، وتتم لهم سعادة المعاش والمعاد، ويكونوا المثل العليا
بين الناس: «كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» .
وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ- فذلك مثل من فقه فى دين الله ونفعه الله بما بعثني به ونفع به الناس فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» .
وروى أحمد عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلى ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن فى النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها- فذلك مثلى ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلّم عن النار فتغلبونى فتقتحمون فيها» .
وبعد أن بين سبحانه شأن كل من الحق والباطل فى الحال والمآل وأتم البيان، شرع يبين حال أهلهما مآلا ترغيبا فيهما وترهيبا، وتكملة لوسائل الدعوة إلى الحق والخير وتنفيرا عن سلوك طرق الباطل والشر فقال:
(1)
(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) أي للذين أطاعوا الله ورسوله وانقادوا لأوامره وصدّقوا ما أخبر به فيما نزل عليه من عند ربه- المثوبة الحسنى الخالصة من الكدر والنّصب، الدائمة المقترنة بالتعظيم والإجلال.
والآية بمعنى قوله: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» وقوله: «وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً» .
(ب) (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ،
أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)
أي والذين لم يطيعوا الله ولم يمتثلوا أوامره ولم ينتهوا عما نهى عنه لهم ألوان وأنواع من العذاب منها:
(1)
إنهم من شدة ما يرون من هول العذاب لو استطاعوا أن يجعلوا ما فى الأرض جميعا ومثله معه فدية لأنفسهم لفعلوا، فإن المحبوب أولا لكل إنسان هوذاته، وما سواها فيحبّ لكونه وسيلة إلى مصالحها، فإذا كان مالكا لهذا العالم كله ولما يساويه جعله فداء لنفسه.
وفى هذا من التهويل الشديد ومن سوء ما يلقاهم فى ذلك اليوم، ما لا يخفى على من اعتبر وتذكر.
(2)
سوء الحساب، فيناقشون على الجليل والحقير،
وفى الحديث «من نوقش الحساب عذب»
ذاك أن كفرهم أحبط أعمالهم، وارتكابهم للشرور والآثام ران على قلوبهم وجعلها تستمرئ الغواية والضلالة، وحبهم للدنيا جعلهم يعرضون عما يقربهم إلى الله زلفى فباءوا بالخسران والهوان والنكال.
(3)
إن مأواهم جهنم وبئس المسكن مسكنهم يوم القيامة، إذ أنهم غفلوا عما يقربهم إلى ربهم وينيلهم كرامته ورضوانه، واتبعوا أهواءهم وانغمسوا فى لذاتهم فحقت عليهم كلمته (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) .
ونزل فى حمزة رضى الله عنه وأبى جهل كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قوله تعالى:
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) أي لا يستوى من يعلم أن الذي أنزله الله عليك من ربك هو الحق الذي لا شك فيه ولا امتراء. ومن لا يعلم فهو أعمى، لا يهتدى إلى خير يفهمه، ولو فهمه ما انقاد إليه ولا صدقه، فيبقى حائرا فى ظلمات الجهل وغياهب الضلالة.
قال قتادة: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه، وهؤلاء كمن هو أعمى عن الحق، فلا يبصره ولا يعقله اه.