الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن من نقض عهد الله من بعد ميثاقه ولم يقرّ بوحدانيته وأنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهو ملعون فى الدنيا ومعذب فى الآخرة- بين هنا أنه تعالى يبسط الرزق لبعض عباده ويضيقه على بعض آخر على ما اقتضته حكمته وسابق علمه بعباده، ولا تعلق لذلك بإيمان ولا كفر، فربما وسع على الكافر استدراجا له وضيّق على المؤمن زيادة فى أجره، ثم ذكر مقالة لهم كثر فى القرآن تردادها وهى طلبهم منه آية تدل على نبوته لإنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على ذلك، ثم ذكر حال المؤمنين المتقين ومآلهم عند ربهم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار.
الإيضاح
(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي الله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده ممن هو حاذق فى جمع المال، وله من الحيلة فى الحصول على كسبه واستنباطه بشتى الوسائل ما يخفى على غيره، ولا علاقة لهذا بإيمان وكفر ولا صلاح ومعصية.
(وَيَقْدِرُ) على من يشاء ممن هو ضعيف الحيلة فى كسبه، وليس بالحوّل القلّب فى استنباط أسبابه ووسائله وما الغنى والفقر إلا حالان يمران على البرّ والفاجر كما يمر عليهما الليل والنهار والصباح والمساء.
ثم ذكر أن مشركى مكة بطروا بغناهم فقال:
(وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي وفرح الذين نقضوا العهد والميثاق ببسط الرزق فى الحياة الدنيا، وعدّوه أكبر متاع لهم وأعظم حظوة عند الناس.
ثم بين لهم خطأهم فقال:
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي وما نعيم الدنيا إذا قيس على نعيم
الآخرة إلا نزر يسير سريع الزوال فهو كعجالة الراكب وزاد الراعي، فلا حق لهم فى البطر والأشر بما أوتوا من حظوظها، وانتفعوا به من خيراتها، فهم قد اعتزوا بالقليل السريع الزوال.
أخرج الترمذي عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما الدنيا فى الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه فى اليمّ فلينظر بم يرجع، وأشار بالسبابة»
وأخرج الترمذي وصححه عن ابن مسعود قال: «نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثّر فى جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك، فقال مالى وللدنيا، ما أنا فى الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» .
ولما أبان أنهم قد انخدعوا بالسراب، واكتفوا بالحباب، ذكر ما ترتب على ذلك الغرور من اقتراحهم على رسوله صلى الله عليه وسلم الآيات فقال:
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي ويقول الذين كفروا من أهل مكة كعبد الله بن أبىّ وأصحابه، هلا أنزل على محمد آية كما أرسل على الأنبياء والرسل السابقين كسقوط السماء عليهم كسفا، أو تحويل الصفا ذهبا، أو إزاحة الجبال من حول مكة حتى يصير مكانها مروجا وبساتين إلى نحو أولئك من الاقتراحات التي حكاها القرآن عنهم كقولهم:«فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» وكأنهم لفرط عنادهم وعظيم مكابراتهم قد ادّعوا أن ما أتى به من باهر الآيات كالقرآن وغيره ليس عندهم من الآيات التي توجب الإذعان والإيمان أو التي لا تقبل شكا ولا جدلا.
ثم أمر رسوله أن يبين لهم أن إنزال الآيات لا دخل له فى هداية ولا ضلال بل الأمر كله بيده.
(قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي إنه لا فائدة لكم فى نزول الآيات إن لم يرد الله هدايتكم فلا تشغلوا أنفسكم بها، ولكن تضرّعوا إليه واطلبوا منه الهداية، فإن الضلال والهداية بيده وإليه مقاليدها، وادعوه أن يهيئ
لكم من أمره رشدا، وأن يمهد لكم وسائل النجاة والسعادة، ويدفع عنكم نزعات الشيطان ووساوسه، لتظفروا بالحسنى فى الدارين.
والخلاصة- أن فى القرآن وحده غنى عن كل آية، فلو أراد الله هدايتكم لصرف اختياركم إلى تحصيل أسبابها وكان لكم فيه مرشدا أيّما مرشد، ولكن الله جعلكم سادرين فى الضلالة لا تلوون على شىء، ولا ينفعكم إرشاد ولا نصح، لسوء استعدادكم، وكثرة لجاجكم وعنادكم، ومن كانت هذه حاله فأنى له أن يهتدى ولو جاءته كل آية؟
كما قال: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» وقال: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» وقال: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ» .
أما من أقبلوا إلى الله وتأملوا فى دلائله الواضحة، وسلكوا طرقه المعبدة، فالله ينير بصائرهم ويشرح صدورهم، وهم لا بد واصلون إلى الفوز بالحسنى، وحاصلون على السعادة فى الدنيا والآخرة، وهم من أشار إليهم بقوله:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) أي هم الذين آمنوا وركنت قلوبهم إلى جانب الله وسكنت حين ذكره، وإذا عرض لهم الشك فى وجوده ظهرت لهم دلائل وحدانيته فى الآيات، وعجائب الكائنات، فرضى به مولى ورضى به نصيرا، ومن ثم قال:
(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي ألا بذكر الله وحده تطمئن قلوب المؤمنين، ويزول القلق والاضطراب من خشيته، بما يفيضه عليها من نور الإيمان الذي يذهب الهلع والوحشة، وهى بمعنى قوله فى الآية الأخرى:«ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» .