الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير المفردات
الغيض: النقصان يقال غاض الماء وغضته كما قال «وَغِيضَ الْماءُ» بمقدار، أي بأجل لا يتجاوزه ولا ينقص عنه، والغائب: ما غاب عن الحس، والشاهد:
الحاضر المشاهد، الكبير: العظيم الشأن، والمتعالي: المستعلى على كل شىء، وأسر الشيء: أخفاه فى نفسه، والمستخفى: المبالغ فى الاختفاء، والسارب: الظاهر، من قولهم سرب: إذا ذهب فى سربه (طريقه) معقبات، أي ملائكة تعتقب فى حفظه وكلاءته واحدها معقبة، من عقّبه: أي جاء عقبه، من بين يديه، أي قدّامه، ومن خلفه، أي من ورائه، من أمر الله، أي بأمره وإعانته، وال، أي ناصر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له كما حكى عنهم بقوله «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» ، إذ رأوا أن أجزاء الحيوان حين تفتّها وتفرقها يختلط بعضها ببعض، وقد تتنائر فى بقاع شتى ونواح عدة، وربما أكل بعض الجسم سبع وبعضه الآخر حدأة أو نسر، وحينا يأكل السمك قطعة منه وأخرى يجرى بها الماء وتدفن فى بلد آخر، أزال هذا الاستبعاد بأن الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء، والذي يعلم الأجنّة فى بطون أمهاتها، ويعلم ما هو مشاهد لنا أو غائب عنا يعلم تلك الأجزاء المتناثرة ومواضعها مهما نأى بعضها عن بعض ويضم متفرقاتها ويعيدها سيرتها الأولى:
الإيضاح
(اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) من ذكر أو أنثى، واحد أو متعدد، طويل العمر أو قصيره كما قال «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» ، وقال «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» .
(وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) أي وما تنقصه الأرحام وما تزداده من عدد فى الولد، فقد يكون واحدا وقد يكون اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، ومن جسده فقد يكون تامّا وقد يكون ناقص الخلق وهو المخدج، ومن مدة الحمل فقد تكون أقل من تسعة أشهر وقد تكون تسعة إلى عشرة أشهر تقريبا، فقد دل الإحصاء والبحث الذي عمل فى مستشفيات لندن على أن الجنين لا يستقر فى البطن وهو حى أكثر من 305 أيام، وفى مستشفيات برلين على أنه لا يستقر أكثر من 308 ومن ثم جرت المحاكم الشرعية الآن على أن عدة المطلقة لا تكون أكثر من سنة بيضاء أي سنة قمرية أي 354 يوما، وهو رأى فى مذهب مالك.
(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي ولكل شىء ميقات معيّن لا يعدوه زيادة ولا نقصا «فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» .
وفى معنى الآية قوله تعالى «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ»
(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي عالم ما هو غائب عنكم لا تدركه أبصاركم من عوالم لا نهاية لها، فقد أثبت العلم حديثا أن هناك عوالم لا تراها العين المجردة بل ترى بالمنظار المعظم (التليسكوب) ومنها الجراثيم (المكروبات) التي تولد كثيرا من الأمراض التي قد يعسر شفاؤها أو يتعذر فى كثير من الأحوال كجراثيم السرطان والسل والزهري، أو تشفى بعد حين كجراثيم الجدرىّ و (الدفتيريا) والحصبة ونحوها وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» ، وما تشاهدونه وترونه بأعينكم «وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة فى الأرض ولا فى السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلّا فى كتاب مبين» .
(الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) أي هو العظيم الشأن الذي يجلّ عما وصفه به الخلق من صفات
المخلوقين، المستعلى على كل شىء بقدرته وجبروته وهو وحده الذي له التصرف فى ملكوته.
وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى قادر على البعث الذي أنكروه، والآيات التي اقترحوها، والعذاب الذي استعجلوه، وإنما يؤخر ذلك لمصلحة لا يدركها البشر فيخفى عليه سرها.
وفى معنى الآية قوله «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» .
ثم بين أن علمه تعالى شامل لجميع الأشياء فقال:
(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أي من أسر قوله وأخفاه ولم يتلفّظ به، أو جهر به وأظهره فهو سواء عند الله يسمعه ولا يخفى عليه شىء منه كما قال «وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» وقال «وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ»
قالت عائشة: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله لقد جاءت المجادلة تشتكى زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا فى جنب البيت وإنه ليخفى علىّ بعض كلامها فأنزل الله «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» .
(وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي مختف فى عقر داره فى ظلام الليل.
(وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ظاهر ماش فى بياض النهار، فكلاهما عند الله سواء، وروى عن ابن عباس فى تفسير ذلك: هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه برىء من الإثم.
(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي للإنسان ملائكة يتعاقبون عليه:
حرس بالليل وحرس بالنهار يحفظونه من المضارّ ويراقبون أحواله، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ أعماله من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب
السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل بدلا، حافظان وكاتبان كما
جاء فى الحديث الصحيح «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون فى صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادى؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون» .
وإذا علم الإنسان أن هناك ملائكة تحصى عليه أعماله كان حذرا من وقوعه فى المعاصي خيفة أن يطلع عليه الكرام الكاتبون ويزجره الحياء عن الإقدام على فعل الموبقات كما يحذر من الوقوع فيها إذا حضر من يستحى منه من البشر، وهو أيضا إذا علم أن كل عمل له فى كتاب مدّخر يكون ذلك رادعا له داعيا إلى تركه.
وليس أمر الحفظة بالبعيد عن العقل بعد أن أثبته الدين وبعد أن كشف العلم أن كثيرا من الأعمال العامة يمكن إحصاؤها بآلات دقيقة لا تدع منها شيئا إلا تحصيه، فقد أصبحت المياه والكهرباء فى المدن تعدّ بالآلات (العدادات) فالمياه التي يشربونها، والكهرباء التي يضيئون بها منازلهم تحصى وتعدّ كما يعدّ الدرهم والدينار، وكذلك هناك آلات تحصى المسافات التي تقطعها السيارات فى سيرها، وأخرى تحصى تيارات الأنهار ومساقط المياه إلى غير ذلك من دقيق الآلات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة من الأعمال إلا تكتبها وتحصيها.
وكلما تقدمت العلوم وكشفت ما كان غائبا عنا كان فى ذلك تصديق أيّما تصديق لنظريات الدين، ووسيلة حافزة إلى الاعتراف بما جاء فيه مما يخفى على بعض الماديين الذين لا يقرّون إلا بما يرونه رأى العين، ولا يذعنون إلا بما يقع تحت حسهم، وبهذا يصدق قول القائل (الدين والعقل فى الإسلام صنوان لا يفترقان، وصديقان لا يختلفان) .
(يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي هم يحفظونه بأمر الله وإذنه وجميل رعايته وكلاءته، فكما جعل سبحانه للمحسوسات أسبابا محسوسة ربط بها مسبباتها بحسب ما اقتضته
حكمته، فجعل الجفن سببا لحفظ العين مما يدخل فيها، فيؤذيها، كذلك جعل لغير المحسوسات أسبابا، فجعل الملائكة أسبابا للحفظ، وأفعاله تعالى لا تخلو من الحكم والمصالح.
وكذلك جعل لحفظ أعمالنا كراما كاتبين وإن كنا لا ندرى ما قلمهم وما مدادهم؟
وكيف كتابتهم؟ وأين محلهم؟ وما حكمة ذلك؟ مع أن علمه تعالى بأعمال الإنسان كاف فى الثواب والعقاب عليها، وقد يكون من حكمة ذلك أنه إذا علم الإنسان أن أعماله محفوظة لدى الحفظة الكرام كان أجدر بالإذعان لما يلقاه من ثواب وعقاب يوم العرض والحساب.
ولمفسرى السلف أقوال فى الآية. قال ابن عباس: هم الملائكة تعقّب بالليل، تكتب على ابن آدم، ويحفظونه من بين يديه ومن خلفه، وذلك الحفظ من أمر الله وبإذن الله، لأنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق أن يحفظ أحدا من أمر الله وبما قضاه عليه إلا بأمره وإذنه، فإذا جاء قدر الله خلّوا عنه. وقال علىّ: ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى فى بئر أو يأكله سبع أو يغرق أو يحرق، فإذا جاء القدر خلوّا بينه وبين القدر اه.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية فيزيلها عنهم ويذهبها، حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا واعتداء بعضهم على بعض، وارتكابهم للشرور والموبقات التي تقوّض نظم المجتمع، وتفتك بالأمم كما تفتك الجراثيم بالأفراد.
روى أن أبا بكر قال: قال صلى الله عليه وسلم «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب»
ويرشد إلى صحة هذا قوله تعالى:
«وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» وقد بسطنا هذا فيما سلف فى مواضع متعددة، وأشار إليه المحقق المؤرخ ابن خلدون فى مقدمة التاريخ وعقد له بابا جعل عنوانه [فصل فى أن الظلم مؤذن بخراب العمران] واسترسل فيه على
المنهج المعروف عنه، وضرب له الأمثلة بما حدث فى كثير من الأمم قبل الإسلام وبعده، وبين أن الظلم قد ثلّ عروشها، وأذل أهلها، وجعلها طعمة للآكلين، ومثلا للآخرين.
وفى حال الأمم الإسلامية اليوم وقد اجتثت من أطرافها وتحكم فيها أهل الغرب وأذلوها بعد أن استعمروها، عبرة لمن تدبر وألقى السمع وهو شهيد، والقرآن شاهد على صدق هذه النظرية، كما قال:«إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» وقوله «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بخيراتها، ما ظهر منها وما بطن.
(وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي وإذا أراد الله بقوم سوءا من مرض وفقر ونحوهما من أنواع البلاء بما كسبت أيديهم حين أخذوا فى الأسباب التي تصل بهم إلى هذه الغاية، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم ولا يردّ ما قدّره لهم.
وفى هذا إيماء إلى أنه لا ينبغى الاستعجال بطلب السيئة قبل الحسنة، وطلب العقاب قبل الثواب، فإنه متى أراد الله ذلك وأوقعه بهم فلا دافع له.
والخلاصة- إنه ليس من الحكمة فى شىء أن يستعجلوا ذلك.
(وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) أي ومالهم من دون الله سبحانه من يلى أمورهم، فيجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر، فالآلهة التي اتخذوها لا تستطيع أن تفعل شيئا من ذلك، ولا تقدر على دفع الأذى عن نفسها فضلا عن دفعه عن غيرها.
والله در الأعرابى الذي رأى صنما يبول عليه الثعلب فثارت به حميّته فأمسكه وكسره إربا إربا وقال:
أربّ يبول الثّعلبان برأسه
…
لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ» .