الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة يوسف (12) : الآيات 80 الى 84]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَاّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
تفسير المفردات
استيأسوا: أي يئسوا يأسا كاملا، خلصوا: انفردوا عن الناس، نجيا: أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم، كبيرهم: أي فى الرأى والعقل وهو يهوذا، وموثقا: أي عهدا يوثق به وهو حلفكم بالله، فرطتم: قصرتم فى شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه، أبرح: أفارق، أمرا: أي كيدا آخر، تولى: أعرض، والأسف:
أشد الحزن والحسرة على ما فات، كظيم: أي مملوء غيظا على أولاده ممسك له فى قلبه، القرية: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعا، ويستعمل فى كل واحد منهما قاله الراغب.
الإيضاح
(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) أي فلما استحكم اليأس فى أنفسهم من قبول العزيز لشفاعتهم واستعطافهم بعد أن أقام الحجة عليهم بشرعهم وفتواهم وأنه إن فعل
غيره يكون ظالما بمقتضى شريعتهم وشريعة ملك مصر- اعتزلوا الناس ولم يخالطوا أحدا، وانفردوا للمناجاة والتشاور فى أمرهم.
وخلاصة ذلك- أن أولئك الإخوة العشرة بعد أن انتهى كبيرهم من استعطاف العزيز وعدم جدوى ما فعل، غادر كل منهم رحله وانضم بعضهم إلى بعض وأدنى رأسه من رأسه وأرهفوا آذانهم للنجوى.
(قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) أي قال كبيرهم عقلا ورأيا وهو يهوذا، ألم تعلموا أيها القوم أن أباكم يعقوب قد أخذ عليكم عهد الله وميثاق لتردّنّه إليه إلا أن يحاط بكم، وقد رأيتم كيف تعذر ذلك عليكم.
(وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) أي ومن قبل هذا قد قصرتم فى حفظ يوسف بعد وعدكم المؤكد بحفظه، وكيف أن أباكم قد قاسى من أجله من الحزن ما قاسى.
(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لى أبى بتركها والرجوع إليه وبنيامين فيها، أو يحكم الله لى بامر من عنده مما هو غيب فى علمه، كأن يترك العزيز لى أخى بإلهام منه تعالى أو بسبب آخر.
(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه لا يحكم إلا بما هو الحق والعدل، وهو المسخر للأسباب والمقدر للاقدار.
ثم أمرهم أن يقولوا لأبيهم ما يزيلون به التّهمة عن أنفسهم قال:
(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) صواع الملك فاسترقه وزيره العزيز القائم بالأمر فى مصر عملا بشريعتنا، إذ نحن أنبأناه بها بعد أن استنبأنا إياها.
(وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي وما شهدنا عليه بالسرقة بسماع أو إشاعة أو تهمة بل ما شهدنا إلا بما علمنا، إذ رأينا الصواع قد استخرج من متاعه.
(وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) فنعلم أنه سيسرق حين أعليناك المواثيق، ولو كنا نعلم ذلك لما آتيناك العهد الموثق علينا.
(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أي واسأل أهل القرية التي كنا نمتار فيها وهى مصر، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة حتى لو سئلوا لشهدوا.
(وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي واسأل أصحاب العير الذين كانوا يمتارون معنا.
ثم أكدوا صدق مقالهم بقولهم:
(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به، سواء أسألت غيرنا أم لم تسأل، إذ أن من عادتنا الصدق فلا نخبرك إلا به ولا نظنك فى مرية من هذا:
وبعد أن انتهى تعالى من سرد مقال كبيرهم عاد إلى ذكر مقال أبيهم فقال:
(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي فرجع الإخوة إلى أبيهم وقالوا له مالقنهم كبيرهم فلم يصدقهم فيما قالوا، بل قال لهم بل زينت لكم أنفسكم كيدا آخر فنبذتموه، ومما يقوّى ذلك عندى أنكم لقنتم هذا الرجل حكم شريعتنا وأفتيتموه به، وليس ذلك من شريعته.
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فحالى على ما نالنى من فقده صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية لأحد، بل أشكو إلى الله وحده وأعلق رجائى به.
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي أطلب من الله أن يرجع إلىّ يوسف وبنيامين والأخ الثالث الباقي بمصر، وقد كان لديه إلهام بأن يوسف لم يمت وإن غاب عنه خبره.
(إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي إنه العليم بوحدتى وفقدهم والحزن عليهم، وله فينا حكمة بالغة، وهو الحكيم فى أفعاله فيبتلى ويرفع البلاء على مقتضى سننه وحكمته فى تدبير خلقه، وقد جرت سنته أن الشدة إذا تناهت جعل وراءها فرجا، والمصيبة إذا عظمت جعل بعدها المخلص منها كما قال «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» .
(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم كراهة لما جاءوا به.
(وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) أي يا حزنى ويا حسرتى عليه أقبلى فهذا وقتك والحال
مقتضية لك، فقد كنت أنتظر أن يأتونى من مصر ببشرى لقاء يوسف، فخاب أملى وحل محله ذهاب ابني المسلّى عنه، ولم يشرك معه بنيامين بالأسف عليه، لأن مكان حب يوسف والرجاء فيه قد ملأ سويداء القلب وزواياه، ومحل غيره دون ذلك.
(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي أصابتهما غشاوة بيضاء غطت على البصر مع بقاء العصب الذي يدرك المبصرات سليما معافى، قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا:
البياض المصحوب بضياع البصر غالبا معناه (الجلوكوما) والمعروف عند الاختصاصيين فى أمراض العيون أن أهم سبب لها هو التغيرات فى الأوعية الشعرية نتيجة لأسباب كثيرة، من أهمها الانفعالات العصبية (كما يحدث فى زيادة ضغط الدم) لا سيما الحزن (الدكتور مار) اه.
(فَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء غيظا على أولاده، يردد حزنه فى جوفه ولا يتكلم بسوء والحزن عرض طبيعى للنفس ولا يذم شرعا إلا إذا بلغ بصاحبه أن يقول أو يفعل ما لا يرضى الله تعالى، ومن ثم
قال النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم وقد جعلت عيناه تذر فان فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله: «يا ابن عوف إنها رحمة» ثم أتبعها بأخرى فقال: «إن العين، تدمع وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم محزون» رواه الشيخان وغيرهما.
وفى التفسير بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن داود عليه السلام قال: يا رب إن بنى إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاجعلنى لهم رابعا، فأوحى الله إليه أن: يا داود إن إبراهيم ألقى فى النار بسببى فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببى فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن يعقوب أخذ منه حبيبه فابيضّت عيناه من الحزن، وتلك بلية لم تنلك»
قال الحافظ ابن كثير: وهذا حديث مرسل وفيه نكارة، فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح اه