الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
بعد أن أجاب سبحانه عن شبهات الكفار وبين بالدليل صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ذكر هنا أنه لا ينبغى الالتفات إلى ما يقوله هؤلاء الجهال، لأنهم يسلكون سبيل الضلال والإضلال، ويتبعون الظنون الفاسدة الناشئة من الجهل والكذب على الله، فلا ينبغى الركون إليهم والعمل بآرائهم.
وفى سياق الحديث ذكر أن أكثر الأمم فى عهد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ضلالا يغلب عليهم الشرك، بعد أن أبان ضلال مشركى العرب ومن على شاكلتهم فى عقائدهم ثم أردف ذلك بيان مسألة هامة لها خطرها وهى من أصول الشرك، تلك هى مسألة الذبائح لغير الله.
الإيضاح
(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي وإن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرعه الله، وأودعه كلماته المنزلة عليك، يضلوك عن الدين الحق، وعن نهج الصواب، فلا تتبع أنت ومن اتبعك حكما غير الذي أنزل إليك من الكتاب مفصلا، فهو الهداية التامة الكاملة، فادع إليه الناس كافة.
ثم أكد ما سبق بقوله:
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الخرص: القول بالظن قول من لا يستيقن، أي إن هؤلاء لا يتبعون فى عقائدهم وأعمالهم إلا الظن الذي ترجحه لهم أهواؤهم- وما هم إلا يخرصون فى ترجيح بعض منها على بعض، كما يخرص أرباب النخيل والكروم ثمرات نخيلهم وأعنابهم، ويقدرون ما تجود به من التمر والزبيب تخمينا وحدسا
دون تحقيق لذلك، ولا برهان لهم على ما يقولون، فهم يكذبون على الله فيما ينسبونه إليه من اتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه، وتحليل المينة والبحائر ونحو ذلك.
وتاريخ تلك العصور يؤيد الحكم القطعي الذي فى الآية من ضلال أكثر أهل الأرض، واتباعهم للخرص والظن فأهل الكتاب من اليهود والنصارى قد تركوا هداية أنبيائهم، وضلوا ضلالا بعيدا، وكذلك الأمم الوثنية، التي كانت أبعد عهدا عن هداية الرسل والأنبياء.
وهذا من علم الغيب الذي أوتيه ذلك النبي الأمى، وهو لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا النذر اليسير من شئون الأمم المجاورة لبلاد العرب.
ثم أعقبه بتأكيد آخر زيادة فى التحذير فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك الذي رباك وعلمك بما أنزله إليك، وبين لك ما لم تكن تعلم من الحق ومن شئون الخلق- هو أعلم منك ومن سائر عباده، بمن يضل عن سبيله القويم، وبمن هو من المهتدين، السالكين صراطه المستقيم، ففوّض أمرهم إلى خالقهم فهو العليم بالضال والمهتدى، ويجازى كلا بما يليق بعمله.
وبعد أن أبان لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أكثر أهل الأرض يضلّون من أطاعهم، لأنهم ضالون خرّاصون، وأنه تعالى هو العليم بالضالين والمهتدين- أمر رسوله وأتباعه بمخالفة أولئك الضالين، من قومهم ومن غيرهم فى مسألة الذبائح وترك جميع الآصار والآثام، فقال:
(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كان حال أكثر هؤلاء الناس ما بينته لكم من الضلال فكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح دون غيره، إن كنتم بآياته التي جاءتكم بالهدى والعلم مؤمنين، وبما يخالفها من الضلال والشرك مكذبين.
وقد كان مشركو العرب وغيرهم من أرباب الملل والنحل يجعلون الذبائح من أمور العبادات، ويقرنونها بأصول الدين والاعتقادات، فيتعبدون بذبح الذبائح لآلهتهم ومن قدّسوا من رجال دينهم، ويهلون لهم عند ذبحها، وهذا شرك بالله، لأنه عبادة يقصد بها غيره، سواء سمّوه إلها أو معبودا أو لم يسموه، وقد وقع كثير من المسلمين فى مثل ما كان عليه أولئك الضالون المشركون من مشركى العرب وسواهم فذبحوا باسم بعض الأولياء والصالحين، وسيّبوا لهم السوائب، فتراهم ينذرون العجول والخراف للسيد البدوي وغيره من أرباب الأضرحة والقبور ممن يستشفعون بهم إلى ربهم فى زعمهم، وهذا شرك صريح.
(وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) العرب تقول مالك ألا تفعل كذا، على معنى وأي شىء يمنعك من ذلك؟ والمراد هنا وأي شىء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟
(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي وقد فصل لكم ما حرمه عليكم وبينه بما سيأتى فى قوله: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» ومعنى أهلّ لغير الله به أي ذكر عليه اسم غيره عند ذبحه كالأصنام والأنبياء والصالحين الذين وضعت التماثيل ذكرى لهم.
(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي إلا ما دعتكم الضرورة إلى أكله بأن لم يوجد من الطعام عند شدة الجوع إلا المحرم فحينئذ يزول التحريم. والقاعدة الشرعية «الضرورات تبيح المحظورات» والقاعدة الأخرى «الضرورة تقدّر بقدرها» فيباح للمضطر ما تزول به الضرورة ويتّقى به الهلاك أكثر منه.
(وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي وإن كثيرا من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم الزائغة وشهواتهم الفاسدة من غير علم منهم بصحة ما يقولون، ولا برهان على ما فيه يجادلون، اعتداء وخلافا لأمر الله ونهيه وطاعة للشياطين، كعمرو بن لحىّ
وقومه الذين اتخذوا البحائر والسوائب، وأحلوا أكل الميتة، وما أهل به لغير الله بذكر اسم ذلك من نبى أو وثن أو صم.
وأصل عبادة الأوثان أنه كان فى القوم الذين أرسل إليهم نوح رجال صالحون، فلما ماتوا وضعوا لهم أنصابا ليتذكروهم بها ويقتدوا بهم، ثم صاروا يكرمونها لأجلهم، ثم خلف من بعدهم خلف جهلوا حكمة وضعها لكنهم حفظوا تكريمها، والتبرك بها، تدينا وتوسلا إلى الله، فكان ذلك عبادة لها وتسلسل فى الأمم بعدهم، وقد روى البخاري عن ابن عباس: إن المضلين يبنون شبهاتهم على جميع أنواع العبادة التي عبدوا بها غير الله كالتوسل به ودعائه، وطلب الشفاعة منه، وذبح القرابين باسمه، والطواف حول تمثاله أو قبره والتمسح بأركانهما، وكل ذلك شرك فى العبادة، شبهته تعظيم المقربين من الله تعالى للتقرب بهم إليه.
وقد انتشرت هذه الشبهات الوثنية فى أرباب الكتب الإلهية، وأولوا لأجلها النصوص القطعية وأنكروا تسمية ذلك عبادة، أو أن هذه العبادة إذا كانت لغير الله لجعله واسطة ووسيلة إليه لا تعد شركا به، وما الشرك فى العبادة إلا هذا.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) أي إن ربك الذي أرشدك وهداك هو أعلم منك ومن سائر خلقه بالمعتدين الذين يتجاوزون ما أحله إلى ما حرمه عليهم، أو يتجاوزون حد الضرورة عند وقوعها. وفى هذا من التهديد والتخويف ما لا يخفى.
وفى الآية إيماء إلى تحريم القول فى الدين بالتقليد لأن ذلك من اتباع الأهواء، بغير علم، إذ المقلد غير عالم بما قلّد فيه.
(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) الإثم لغة ما قبح، وشرعا ما حرمه الله، والله لم يحرم على عباده إلا ما كان ضارا بالأفراد فى أنفسهم أو فى أموالهم أو فى عقولهم أو فى أعراضهم أو فى دينهم، أو ضارا بالجماعات فى مصالحهم السياسية أو لاجتماعية.
والظاهر منه ما تعلق بأفعال الجوارح، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب، كالكبر والحسد وتدبير المكايد الضارة والشرور للناس، ومنه الاعتداء فى أكل المحرم الذي
يباح للمضطر بأن يتجاوز فيه حد الضرورة كما بينه الله بقوله: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وهذه الجملة من جوامع الكلم والأصول العامة فى تحريم الآثام، ومن ثم قال ابن الأنبارى: المراد بذلك ترك الإثم من جميع جهاته كما تقول ما أخذت من هذا المال لا قليلا ولا كثيرا تريد ما أخذت منه بوجه من الوجوه.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي إن الذين يكسبون نوعا من الآثام الظاهرة أو الباطنة سيلقون جزاء إنهم وعاقبة كسبهم للذنوب التي أفسدت فطرتهم ودست نفوسهم بإصرارهم عليها ومعاودتها المرة بعد المرة.
أما الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويمحو تأثير الإثم فى قلوبهم، بما يفعلونه من الحسنات كما قال تعالى:«إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» وبذلك تعود نفوسهم زكية وتلقى ربها سليمة نقية من أدران السوء التي كانت قد وقعت منها لما ما.
واتفق المسلمون على أن التوبة تمحو الحوبة: أي أن التوبة الصحيحة بالعزم الصادق والندم على مافات تمحو آثار الذنب الماضي، فإن الله قد يعفو عن المذنب فيغفر له ما فرط منه من الذنوب كما قال:«إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» .
ثم صرح سبحانه بالنهى عن ضد ما فهم من الأمر السابق وهو قوله: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) لشدة العناية به لأنه من أظهر أعمال الشرك فقال:
(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أي ولا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات فلم تذبحوه، ولا ما أهل لغير الله به مما ذبحه المشركون لأوثانهم فإن أكل ذلك فسق ومعصية كما جاء فى الآية الأخرى «أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» .
[تنبيه] : قال مالك: كل ما ذبح ولم يذكر اسم الله تعالى عليه فهو حرام، ترك لذكر
عمدا أو سهوا، وقال أبو حنيفة إن ترك الذكر عمدا حرم، وإن ترك نسيانا حل، وقال الشافعي: متروك التسمية عمدا أو سهوا حلال إذا كان الذابح مسلما.
(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) أي وإن شياطين الإنس والجن الذين يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ليوحون إلى أوليائهم بالوسوسة والتلقين الخادع ما يجادلونكم به من الشبهات، وإن أطعتموهم فيها فجاريتموهم فى هذه العبادة الوثنية الباطلة إنكم لمشركون مثلهم، فإن التعبد لغير الله شرك كدعاء غير الله وسائر ما يتوجه به من العبادات لغيره وإن كان لأجل التوسل بذلك الغير إليه ليقرّب المتوسّل إليه زلفى ويشفع له عنده كما يفعل أهل الوثنية.
وأولياء الشياطين لم يجادلوا أحدا من المؤمنين فيما لم يذكر اسم الله عليه ولا اسم غيره عليه من الذبائح المعتادة التي لا يقصد بها العبادة، فمن يأكل هذه الذبائح لا يكون مشركا، وكذلك من يأكل الميتة، بل يكون عاصيا إن لم يكن مضطرا.
قال عكرمة: وإن الشياطين يعنى مردة المجوس، ليوحون إلى أوليائهم من مشركى قريش زخرف القول ليصل إلى نبى الله وأصحابه ممن أكل الميتة، ذلك أنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة: إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال وما يذبحه الله حرام. فوقع فى أنفس ناس من المسلمين من ذلك شىء فأنزل الله هذه الآية ثم قال:
(وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) يعنى فى استحلال الميتة (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) قال الزجاج: وفيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله تعالى، أو حرّم شيئا مما أحل الله تعالى فهو مشرك، لأنه أثبت مشرّعا سوى الله، وهذا هو الشرك بعينه.
وما يذبح عند استقبال ملك أو أمير أو وزير أفتى بعض الحنفية بتحريم أكله لأنه مما أهلّ به لغير الله. وقال بعض الشافعية: هم إنما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو