الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير المفردات
ذرأ: أي خلق على وجه الاختراع والإبداع، لشركائنا: أي الأوثان التي يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، لشركائهم أي سدنة الآلهة وخدمها، أو الشياطين الذين يوسوسون لهم ما يزين ذلك فى أنفسهم، ويردوهم: أي يهلكوهم بالإغواء، وليلبسوا أي يخلطوا، حجر: أي محجور ممنوع، كما قالوا: ذبح وطحن أي مذبوح ومطحون، وجزاه بكذا جعله جزاء له على عمله قال تعالى:«أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا» وصفهم: أي جزاء وصفهم.
المعنى الجملي
بعد أن حاجّ سبحانه المشركين وسائر العرب فى كثير من أصول الدين وكان آخرها البعث والجزاء- ذكر هنا بعض عبادتهم فى الحرث والأنعام والتحليل والتحريم بباعث الأهواء النفسية والخرافات الوثنية.
الإيضاح
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) أي وجعلوا لله نصيبا مما خلق من ثمر الزرع وغلته كالتمر والحبوب ونتاج الأنعام، ونصيبا لمن أشركوا معه من الأوثان والأصنام.
(فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) أي فقالوا فى النصيب الأول هذا لله أي نتقرب به إليه، وفى النصيب الثاني هذا لشركائنا أي لمعبوداتنا نتقرب به إليها، وقوله بزعمهم أي بتقوّلهم الذي لا بينة لهم عليه ولا هدى من الله، إذ جعله قربة لله يجب أن يكون خالصا له وحده لا يشرك معه غيره فيه، وأن يكون بإذنه، لأنه دين، والدين لله ومن الله وحده، فهذا زعم مخترع، لا دين مشترع فيكون باطلا.
وقد روى أنهم كانوا يجعلون نصيب الله لقرى الضيفان، وإكرام الصبيان، والتصدق على المساكين، ونصيب آلهتهم لسدنتها وقرابينها وما ينفق على معابدها.
(فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ) أي فما عيّنوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي جعلوها لله لا بالتصدق ولا بالضيافة ولا غيرهما، بل يهتمون بحفظه وإنفاقه على السدنة وذبح الذبائح والقرابين عندها.
(وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) أي وما عينوه وجعلوه له فهو يحوّل أحيانا للتقرب به إليها.
(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي قبح ما يحكمون به بإيثارهم المخلوق العاجز عن كل شىء على الخالق القادر على كل شىء وبعملهم شيئا لم يشرعه الله.
وللقبح وجوه متعددة منها:
(1)
إنه اعتداء على الله بالتشريع وهو لم يأذن لهم به.
(2)
الشرك فى عبادته تعالى، ولا ينبغى أن يشرك مع الله سواه فيما يتقرب به إليه.
(3)
ترجيح ما جعلوه لشركائهم على ما جعلوه لخالقها وخالقهم.
(4)
إن هذا حكم لا مستند له من عقل ولا هداية من شرع.
نقل على بن أبي طلحة والعوفى عن ابن عباس أنه قال فى تفسير الآية: إن أعداء، الله كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءا وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شىء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإن سقط منه شىء فيما سمى للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شىء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمى للوثن تركوه للوثن.
وكانوا يحرّمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى.
ثم ذكر سبحانه من أعمال الشرك أيضا عملا لا مستند له من عقل ولا شرع فقال:
(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) أي ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله والآلهة- زيّن لكثير من المشركين شركاؤهم- سدنة الآلهة وخدمها- أن يقتلوا أولادهم. وكان مصدر هذا التزيين وجوها مختلفة منها:
(1)
اتقاء الفقر الحاصل أو المتوقع، وقد أشار سبحانه إلى الأول بقوله:
«وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» وأشار إلى الثاني بقوله:
«وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» .
(2)
اتقاء العار بوأد البنات أي بدفنهن وهن على قيد الحياة خشية أن يكنّ سببا للعار أو السباء إذا كبرن، أو خشية أن يقترن بأزواج دون آبائهن فى الشرف.
(3)
التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر، فقد كان الرجل فى الجاهلية ينذر إن ولد له كذا غلاما لينحرنّ أحدهم كما حلف عبد المطلب فى قصص طويل
أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أنا ابن الذبيحين» .
وسمى الله المزينين لهم الشرك من شياطين الإنس كالسدنة، أو شياطين الجن شركاء وإن كانوا هم لم يسموهم لا آلهة ولا شركاء، لأنهم لما أطاعوهم طاعة إذعان وخضوع فى التحليل والتحريم ولا يكون ذلك إلا لله- سماهم كذلك كما قال:
«اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .
وقد حذا كثير من المسلمين حذو هؤلاء فدعوا غير الله من الموتى تضرعا وخضوعا عند قبورهم مع التقرب إليهم بالصدفات وذبائح النسك، ولكنهم لا يسمون عبادتهم هذه شركا ولا عبادة، بل يسمونها توسلا (والأسماء لا تغير الحقائق والأعمال) فالدعاء والتضرع أدل على الحقائق من الأسماء والتأويلات.
ثم ذكر سبحانه علة تزيين المنكرات لهم فقال:
(لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي إنهم زينوا لهم هذه المنكرات ليهلكوهم
بالإغواء، ويفسدوا عليهم فطرتهم، فتنقلب عواطف ود الوالدين من رأفة ورحمة إلى قسوة ووحشية، فينحر الوالد ولده ويدفن بنته الضعيفة بيده وهى حية.
والدين الذي لبسوه وخلطوه هو ما كانوا يدّعونه من دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام، وقد اختلط عليهم بما ابتدعوه من تقاليد الشرك حتى لم يعرف الأصل الذي كان يتبع من هذه الإضافات التي ضموها إليه.
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) أي ولو شاء الله أن يخلق الناس مطبوعين على عبادته طبعا لا يستطيعون غيرها كالملائكة، فلا يؤثّر فيهم إغواء ولا تجدى فيهم وسوسة- لفعل، ولكن شاء أن يخلقهم مستعدين للتأثر بكل ما يرد على أنفسهم من الأفكار والآراء، وما يشاهدون من المحسوسات، واختيار ما يترجح عندهم أنه الخير على ما يقابله، ومن ثم يؤثّر فى نفوسهم ما يستفيدونه بالتعليم والاختيار والمعاشرة والمخالطة، والناس يتفاوتون فى هذا جدّ التفاوت، فلا يمكن أن يكونوا على رأى واحد أو دين واحد.
فدعهم أيها الرسول وما ينتحلونه من شرائع، وما يفترون من عقائد، وعليك بما أمرت به من التبليغ، والله هو الذي يتولى أمرهم وله سنن فى هداية خلقه لا تتغير ولا تتبدل، ومن سننه أن يغلب الحق الباطل.
ثم ذكر نوعا ثالثا من آرائهم الفاسدة فقال:
(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) أي إنهم لغوايتهم وشركهم قسموا أنعامهم وزرعهم أقساما ثلاثة:
(1)
أنعام وأقوات من حبوب وغيرها تقتطع من أموالهم وتجعل لمعبوداتهم تعبدا وتدينا، ويمتنعون من التصرف فيها إلا لها، ويقولون هى حجر أي محتجرة للآلهة لا تعطى لغيرهم.
وقوله لا يطعمها إلا من نشاء أي لا يأكل منها إلا الرجال دون النساء. وقوله بزعمهم أي بادعائهم الباطل من غير حجة ولا برهان عليه.
(2)
أنعام حرمت ظهورها، فلا تركب ولا يحمل عليها، قال السدى: هى البحيرة والسائبة والحامى وقد تقدم ذكرها فى قوله: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ، وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» .
(3)
أنعام لا يذكرون اسم الله عليها فى الذبح، بل يهلّون بها لآلهتهم وحدها، وكانوا إذا حجوا لا يحجون عليها ولا يلبّون على ظهرها.
(افْتِراءً عَلَيْهِ) أي إنهم قسموا هذا التقسيم وجعلوه من أحكام الدين ونسبوه إلى الله افتراء عليه واختلاقا له والله منه برىء، فهو لم يشرعه لهم، وما كان لغير الله أن يحرم أو يحلل على العباد ما لم يأذن به الله، كما جاء فى قوله:«قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟» .
(سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه وينكّل بهم شر النكال بسبب هذا الافتراء القبيح.
ثم ذكر ضربا آخر من أحكامهم فى التحريم والتحليل ينبىء عن سخفهم فقال:
(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) المراد بالأنعام هنا البحائر أي المشقوقة الآذان، والسوائب التي تسيّب وتترك للآلهة فلا يتعرض لها أحد، وكانوا يجعلون لبنها للذكور ويحرمونه على الإناث، وإذا ولدت ذكرا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث، وإذا كان ميتا اشترك فيه الذكور والإناث، وإذا ولدت أنثى تركوها للنتاج.
(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يقولون وصف كلامه بالكذب- إذا كذب
وعينه تصف السحر أي هى ساحرة، وقدّه يصف الرشاقة على معنى أنه رشيق على سبيل المبالغة، حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له، قال أبو العلاء المعرّى:
سرى برق المعرّة بعد وهن
…
فبات برامة يصف الملالا
أي سيجزيهم الله تعالى جزاء وصفهم، لأن حكمته تعالى فى الخلق وعلمه بشئونهم، جعلت عقابهم عين ما يقتضيه وصفهم ونعتهم الروحي، إذ لكل نفس فى الآخرة صفات تجعلها فى مكان معين سواء أكان فى أعلى عليين أم فى أسفل سافلين.
والخلاصة- إن منشأ الجزاء نفس الإنسان باعتبار عقائدها وسائر صفاتها التي يطبعها عليها العمل.
وقد يكون المعنى- سيجزيهم وصفهم لربهم بما جعلوا له من الشركاء فى العبادة والتشريع، أو وصف ألسنتهم الكذب بما افتروا عليه فيهما كما قال تعالى:
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ، قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أنكر سبحانه على مشركى العرب أمرين عظيمين ونعاهما عليهم، وحكم فيهم حكما عدلا وهما:
(1)
قتل أولادهم ووأد بناتهم، وبذلك خسروا خسرانا مبينا، فإن قتل الأولاد يستلزم خسران كل ما كان يرجى من العزة والنصرة والسرور والغبطة، والبر والصلة، وخسران العاطفة الأبوية ورأفتها، واستبدال القسوة والغلظة بها، إلى نحو أولئك من مساوى الأخلاق التي يضيق بها العيش فى الدنيا، وبها يحل العقاب فى الآخرة.
(2)
تحريم ما رزقهم الله من الطيبات.
وإيضاح هذا أن قد حكم سبحانه على من فعل هذين الجرمين بالخسران، والسفاهة، وعدم العلم، والافتراء على الله والضلال وعدم الاهتداء.
أما الخسران فلأن الولد نعمة من الله على العبد، فإذا سعى العبد فى زوالها فقد خسر خسرانا عظيما، إذ هو قد استحق الذم فى الدنيا وقال الناس فيه إنه قتل ولده خوف أن يأكل طعامه، والعقاب فى الآخرة، لأنه ألحق أعظم أنواع الأذى بأقرب الناس محبة إليه.
وأما السفاهة، وهى اضطراب النفس وحماقتها، فلأنه أقدم على ضرر محقق وهو القتل خوفا من ضرر موهوم وهو الفقر.
وأما عدم العلم بما ينفع وما يضر وما يحسن وما يقبح فذلك من أقبح القبائح والمنكرات.
وأما الافتراء على الله فلأنهم جعلوه دينا يتقرّب به إليه وهو جراة عليه، وذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر.
وأما الضلال المبين فلأنهم لم يرشدوا إلى مصالح الدين ولا منافع الدنيا.
وأما عدم الاهتداء إلى شىء من الحق والصواب، فلأنهم لم يعملوا بمقتضى العقل ولا بهدى الشرع فى منافع الدنيا وسعادة الآخرة.
وفائدة قوله: وما كانوا مهتدين- بيان أنهم لم يحصل لهم اهتداء قط، والإنسان أحيانا قد يضلّ ثم يهتدى، ولكن هؤلاء لم يحصل لهم اهتداء بحال.
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً- إلى قوله وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال فى الآية: هذا صنع أهل الجاهلية، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السّباء والفاقة ويغذو كلبه.