الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح
(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يتبعون أهواءهم فيما يحللون وما يحرمون لأنفسهم وللناس: أقبلوا إلىّ أيها القوم أقرأ لكم ما حرم ربكم عليكم فيما أوحاه إلىّ، وهو وحده الذي له حق التحريم والتشريع، وأنا مبلغ عنه بإذنه وقد أرسلنى بذلك.
وخص التحريم بالذكر مع أن الوصايا أعم لأن بيان المحرمات يستلزم حل ما عداها، وقد بدأها بأكبر المحرمات وأعظمها وأشدها إفسادا للعقل والفطرة، وهو الشرك بالله، سواء أكان باتخاذ الأنداد له أو الشفعاء المؤثّرين فى إرادته، أو بما يذكّر بهم من صور وتماثيل وأصنام وقبور، أو باتخاذ الأرباب الذين يتحكمون فى التشريع فيحللون ويحرمون فقال:
(1)
(أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أي ومما أتلوه عليكم فى بيان هذه المحرمات وما يقابلها من الواجبات- ألا تشركوا بالله شيئا من الأشياء وإن عظمت فى الخلق كالشمس والقمر والكواكب، أو فى القدر كالملائكة والنبيين والصالحين، فإن عظمتها لا تخرجها عن كونها مخلوقة لله، مسخّرة له بقدرته وإرادته:«إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» .
ويلزم هذا أن تعبدوه وحده بما شرعه لكم على لسان رسوله لا بأهوائكم ولا بأهواء أحد من الخلق أمثالكم.
(2)
(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا تاما كاملا لا تدخرون فيه وسعا، ولا تألون فيه جهدا، وهذا يستلزم ترك الإساءة وإن صغرت، فما بالك بالعقوق الذي هو من أكبر الكبائر وأعظم الآثام، وقد جاء فى القرآن غير مرة قرن التوحيد والنهى عن الشرك بالأمر بالإحسان إلى الوالدين.
وكفى دلالة على عظيم عناية الشارع بأمر الوالدين أن قرنه بعبادته وجعله
ثانيها فى الوصايا، وأكده بما أكده به فى سورة الإسراء، كما قرن شكرهما بشكره فى سورة لقمان فى قوله:«أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» وما
رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أىّ العمل أفضل؟ قال:
الصلاة لوقتها قلت ثم أىّ؟ قال: بر الوالدين. قلت ثم أىّ؟ قال: الجهاد فى سبيل الله» .
والمراد ببرهما احترامهما احترام المحبة والكرامة، لا احترام الخوف والرهبة، لأن فى ذلك مفسدة كبيرة فى تربية الأولاد فى الصغر، وإلجاء لهم إلى العقوق فى الكبر، وإلى ظلم الأولاد لهم كما ظلمهم آباؤهم، وليس لهما أن يتحكما فى شئونهم الخاصة بهم، ولا سيما تزويجهم بمن يكرهون، أو منعهم من الهجرة لطلب العلم النافع أو لكسب المال والجاه إلى نحو ذلك:
(3)
(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أي ومما وصاكم به ربكم ألا تقتلوا أولادكم الصغار لفقر يحل بكم، فإن الله يرزقكم وإياهم أي يرزقهم تبعا لكم، وجاء فى سورة الإسراء:«وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» وسر اختلاف الأسلوبين وتقديم رزق الأولاد هناك على رزق الوالدين على عكس ما هنا- أن ما هناك متعلق بالفقر المتوقع فى المستقبل الذي يكون فيه الأولاد كبارا كاسبين، وقد يصير الوالدون فى حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكبر، ففرّق فى تعليل النهى فى الآيتين بين الفقر الواقع والفقر المتوقع فقدم فى كل منهما ضمان رزق الكاسب، للإيماء إلى أنه تعالى جعل كسب العباد سببا للرزق، لا كما يتوهم بعضهم فيزهد فى العمل بشبهة كفالته تعالى لرزقهم.
(4)
(وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ولا تقربوا ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال كالزنا وقذف المحصنات سواء منه ما فعل علنا وما فعل سرا.
وقيل الظاهر ما تعلق بأعمال الجوارح، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب كالكبر والحسد والتفكير فى تدبير المكايد الضارة وأنواع الشرور والمآثم.
وقد روى عن ابن عباس فى تفسير الآية أنه قال: كانوا فى الجاهلية لا يرون بأسا بالزنا فى السر ويستقبحونه فى العلانية، فحرم الله الزنا فى السر والعلانية، أي فى هذه الآية وما أشبهها.
وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال: ما ظهر منها ظلم الناس، وما بطن منها الزنا والسرقة، أي لأن الناس يأتونهما فى الخفاء.
وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أحد أغير من الله»
من أجل ذلك حرم الفواحش:
ما ظهر منها وما بطن» رواه البخاري ومسلم.
(5)
(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها بالإسلام أو بالعهد بين المسلمين وغيرهم كأهل الكتاب المقيمين بيننا بعهد وأمان،
وقد جاء فى الحديث: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»
وروى الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفا» .
وقوله إلا بالحق إيماء إلى أن قتل النفس قد يكون حقا لجرم يصدر منها كما
جاء فى الحديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأمور ثلاثة: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» .
والخلاصة- إن قتلها بالحق هو أمر الشارع بإباحة قتلها كقتل القاتل عمدا أو قتل الزاني المحصن.
(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الوصية أن يعهد إلى إنسان بعمل خير أو ترك شر، ويقرن ذلك بوعظ يرجى تأثيره أي إنه سبحانه وصاكم بذلك ليعدّكم لأن تعقلوا الخير والمنفعة فى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، إذ هو مما تدركه العقول بأدنى تأمل.
وفى هذا تعريض بأن ما هم عليه من الشرك وتحريم السوائب وغيرها مما لا تعقل له فائدة، ولا تظهر فيه لذوى العقول الراجحة مصلحة.
(6)
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
أي ولا تقربوا مال اليتيم إذا وليتم أمره، أو تعاملتم به ولو بواسطة وليه أو وصيه إلا بالفعلة التي هى أحسن فى حفظ ماله وتثميره، ورجحان مصلحته، والإنفاق منه على تربيته وتعليمه ما به يصلح معاشه ومعاده.
والنهى عن القرب من الشيء أبلغ من النهى عنه، فإن الأول يتضمن النهى عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه، وعن الشبهات التي هى مظنة التأويل، فيبتعد عنها، المتّقى ويستسيغها الطامع فيه إذ يراها بالتأويل من الوجوه الحلال التي لا تضرّ به أو يرجح نفعها على ضررها، كأن يأكل شيئا من ماله حين يعمل عملا له فيه ربح ولولاه ماربح.
(حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)
والأشدّ مبلغ الرجل الحنكة والمعرفة، ولبلوغه طرفان، أدناهما الاحتلام الذي هو مبدأ سن الرشد والقوة التي يخرج بها عن كونه يتيما أو سفيها أو ضعيفا، ونهايته سن الأربعين والمراد هنا الأول كما قال الشعبي ومالك وآخرون:
ويكون ذلك عادة بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة.
أي احفظوا مال اليتيم ولا تسمحوا له بتبذير شىء من ماله وإضاعته أو الإسراف فيه حتى يبلغ، فإذا بلغ فسلموه إليه، وهذا نظير قوله:«فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» .
والخلاصة- إن المراد النهى عن كل تعدّ على مال اليتيم وهضم لحقوقه من الأوصياء وغيرهم حتى يبلغ سن القوة بدنا وعقلا، إذ قد دلت التجارب على أن الحديث العهد بالاحتلام يكون ضعيف الرأى قليل الخبرة بشئون المعاش يخدع كثيرا فى المعاملات.
وقد كان الناس فى الجاهلية لا يحترمون إلا القوة، ولا يعرفون الحق إلا للأقوياء، ومن ثم بالغ الشارع فى الوصية بالضعيفين: المرأة، واليتيم.
والقوة التي يحفظ بها المرء ماله فى هذا العصر هى اتزان الفكر، والرشد العقلي والأخلاق بكثرة المران والتجارب فى المعاملات، لكثرة الفسق والحيل ووجود أعوان السوء الذين يوسوسون إلى الوارثين ويزينون لهم الإسراف فى اللذات والشهوات على جميع ضروبها حتى لا يتركوهم إلا وهم فقراء، وقلما يستيقظون من غفلتهم إلا إذا بلغوا سن الكهولة التي يكمل فيها العقل ويفقهون تكاليف الحياة ويهتمون فيها بأمر النسل.
وقد شرط الشارع الحكيم لإيتاء اليتامى أموالهم بلوغ سن الحلم وظهور الرشد فى المعاملات المالية بالاختبار كما سلف فى سورة النساء من قوله: «وَابْتَلُوا الْيَتامى» الآية.
(7)
(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ)
أي وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون، فليكن كل ذلك وافيا تاما بالعدل، ولا تكونوا من أولئك المطففين الذين وصفهم الله بقوله:«الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» .
والخلاصة- أن الإيفاء يكون من الجانبين: حين البيع، وحين الشراء، فيرضى المرء لغيره ما يرضاه لنفسه. وقوله:(بِالْقِسْطِ)
يدل على تحرى العدل فى الكيل والميزان حال البيع والشراء بقدر المستطاع.
(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)
أي إن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما يسعها فعله، بأن تأتيه بلا عسر ولا حرج، فهو لا يكلف من يبيع أو يشترى الأقوات ونحوها أن يزنها أو يكيلها بحيث لا تزيد حبة ولا مثقالا، بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه سواء بحيث يعتقد أنه لم يظلم بزيادة ولا نقص يعتد بهما عرفا.
والقاعدة الشرعية: أن التكليف إنما يكون بما فى وسع المكلف بلا حرج ولا مشقة عليه، ولو اتبع المسلمون هذه الوصية وعملوا بها لاستقامت أمور معاملاتهم وعظمت الثقة والأمانة بينهم، ولكن وا أسفا فسدت أمورهم وقلّت ثقتهم بأنفسهم، ووثقوا بغيرهم لاتباعهم هذه الوصية وأمثالها.
وقد قص علينا الكتاب الكريم قصص من طفّفوا الكيل والميزان فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر بما كان من ظلمهم، كقوم شعيب وقد حكى الله عنهم ما قال لهم نبيهم شعيب:«وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان: «إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم» .
(8)
(وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى)
أي وعليكم أن تعدلوا فى القول إذا قلتم قولا فى شهادة أو حكم على أحد، ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة منكم، إذ بالعدل تصلح شئون الأمم والأفراد، فهو ركن ركين فى العمران، وأساس فى الأمور الاجتماعية، فلا يحل لمؤمن أن يحابى فيه أحدا لقرابة ولا غيرها، فالعدل كما يكون فى الأفعال كالوزن والكيل يكون فى الأقوال.
ونحو الآية قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» وقوله:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» .
(9)
(وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا)
أي وأوفوا بعهد الله، وهذا شامل لما يأتى:
(ا) ما عهده الله تعالى إلى الناس على ألسنة الرسل.
(ب) ما آتاهم من العقل والوجدان والفطر السليمة كما قال: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ» وقال: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ» .
(ج) ما عاهده الناس عليه كما قال: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ» وقال:
(د) ما عاهد الناس عليه بعضهم بعضا كما قال فى وصف المؤمنين: «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» .
فمن آمن برسل من رسله فقد عاهد الله حين الإيمان به أن يمتثل أمره ونهيه، وما شرعه للناس ووصاهم به فهو مما عهده إليهم، وما التزمه الإنسان من عمل البر بنذر أو يمين فهو عهد عاهد عليه ربه كما قال تعالى ناعيا على المنافقين سوء فعلهم:«وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ» الآية، وكذلك من عاهد السلطان وبايعه على الطاعة فى المعروف، أو عاهد غيره على القيام بعمل مشروع، وجب عليه الوفاء إذا لم يكن من قبيل المعصية.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» .
(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
التذكر يطلق حينا على تكلف ذكر الشيء فى القلب أو التدرج فيه بفعله المرة إثر الأخرى، وحينا على الاتعاظ والتدبر كما قال تعالى:«وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» وقال: «سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى» .
والخلاصة- إن ذلك الذي تلوته عليكم من الأوامر والنواهي وصاكم الله به رجاء أن يذكره بعضكم لبعض فى التعليم والتواصي الذي أمر الله به فى مثل قوله: «وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» لما فيه من مصالح ومنافع كتدارك النسيان والغفلة من كثرة الشواغل الدنيوية، أو رجاء أن يتعظ به من سمعه أو قرأه.
(10)
(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي وإن هذا القرآن الذي أدعوكم إليه وأدعوكم به إلى ما يحييكم، هو صراطى ومنهاجى
الذي أسلكه إلى مرضاة الله ونيل سعادة الدنيا والآخرة، حال كونه مستقيما لا يضل سالكه، ولا يهتدى تاركه، فاتبعوه وحده، ولا تتبعوا السبل الأخرى التي تخالفه وهى كثيرة، فتتفرق بكم عن سبيله، بحيث يذهب كل منهم فى سبيل ضلالة ينتهى بها إلى الهلكة، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.
والخلاصة- إن هذا صراطى مستقيما لا عوج فيه، فعليكم أن تتبعوه إن كنتم تؤثرون الاستقامة على الاعوجاج وترجحون الهدى على الضلال.
أخرج أحمد والنسائي وأبو الشيخ والحاكم عن عبد الله بن مسعود قال: «خط رسول الله خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» .
وروى أحمد والترمذي والنسائي مرفوعا: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعن جنبتى الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس هلمّوا ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال له:
ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتّحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من جوف الصراط واعظ الله فى قلب كل مسلم» .
وجعل الصراط المستقيم واحدا، والسبل المخالفة متعددة، لأن الحق واحد والباطل وهو ما خالفه كثير، فيشمل الأديان الباطلة سواء أكانت وضعية أو سماوية محرفة أو منسوخة.
ونهى عن التفرق فى صراط الحق وسبيله، لأن التفرق فى الدين الواحد وجعله مذاهب يتشيع لكل منها شيعة وحزب ينصرونه ويتعصبون له ويخطئون من خالفه ويرمون أتباعه بالجهل والضلال- سبب لإضاعته، إذ كل شيعة تنظر فيما يؤيد
مذهبها ويظهرها على مخالفيها، ولا يهمها إثبات الحق وفهم النصوص، والحق لا يكون وقفا على عالم معين ولا على أتباعه، بل كل باحث يخطىء ويصيب، وذلك ما دل عليه العقل وأثبته الكتاب والسنة والإجماع.
ولما كان اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق فيه يجمع الكلمة ويعز أهل الحق كان التفرق فيه سبب ضعف المتفرقين وذلهم وضياع حقهم.
روى ابن جرير عن ابن عباس فى قوله: «وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ» قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات.
(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) التقوى اسم لكل ما يتقى من الضرر العام والخاص مهما يكن نوعه وقد ذكرت فى القرآن فى سياق الأوامر والنواهي المختلفة من عبادات ومعاملات وآداب وعشرة وزواج، وتفسر فى كل موضوع بما يناسبه.
أي ذلك الأمر باتباع صراط الحق المستقيم، والنهى عن سبل الضلالات والأباطيل، وصاكم ربكم به ليهيئكم لاتقاء كل ما يشقي ويردى فى الدنيا والآخرة، ويوصلكم إلى السعادة العظمى والحياة الصالحة.
وقال الرازي: ختمت الآية الأولى بقوله: لعلكم تعقلون، والثانية بقوله: لعلكم تذكرون، لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها، فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل فى القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به، فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان.
وقال أبو حيان: ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف، وقد أمر