الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
بعد أن بين عزّ اسمه أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلّطين عليهم متمكنين من إغوائهم- ذكر هنا أثر ذلك التسليط عليهم، وهو الطاعة لهم فى أقبح الأشياء مع عدم شعورهم بذلك القبح.
الإيضاح
(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) أي وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله ممن جعلوا الشياطين أولياء لهم- قبيحا من الأفعال كتعرّيهم حين الطواف بالبيت، فلامهم الناس على ذلك، قالوا وجدنا آباءنا يفعلون كما نفعل، فنحن نقتدى بهم ونستنّ بسنتهم، والله أمرنا بذلك فنحن نتبع أمره فيه. وقد رد الله عن الأمر الثاني بأمر رسوله أن يدحضه بقوله:
(قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي إن هذا الفعل من الفحشاء والله بكماله منزه أن يأمر بها وإنما يأمر بها الشيطان كما جاء فى قوله: «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» .
ثم ردّ عليهم الوجه الأول ووبخهم على تقليد الآباء والأجداد بقوله:
(أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) أي إنكم باتباعكم للآباء والأجداد فى الآراء والشرائع غير المسندة إلى الوحى تقولون على الله ما لا تعلمون أنه شرعه لعباده.
والخلاصة- إنهم فى عملهم الفاحشة استندوا إلى أمرين: أمر الله بهما، وتقليد الآباء والأجداد، وقد رد الله عليهما فى كل منهما فرد على الأول ببيان أن الله لا يأمر بفاحشة، وأن الذي يأمر بذلك إنما هو الشيطان. ورد على الثاني بأن التشريع لا يعلم إلا بوحي من عنده إلى رسول يؤيده بالآيات البينات وهو لم ينزل عليهم به، فقولهم
هذا إنما هو اتباع للأهواء فيما هو قبيح تنفر منه الطباع السليمة، وتستنقصه العقول الراجحة الحكيمة.
وبعد أن أنكر عليهم أن يكونوا على علم بأمر الله فيما فعلوا- بين ما يأمر به من محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والخصال بقوله لرسوله:
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي قل لهم: إنما أمرنى ربى بالاستقامة والعدل فى الأمور كلها.
(وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي وقل لهم:
أمرنى ربى بالقسط، فأقسطوا وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد، أي أعطوا توجهكم إلى الله تعالى حقه من صحة النية وحضور القلب وصرف الشواغل عند كل مسجد تعبدونه فيه، سواء كانت العبادة طوافا أو صلاة أو ذكرا، وادعوه وحده مخلصين له الدين، ولا تتوجهوا إلى غيره من عباده المكرمين كالملائكة والأنبياء والصالحين زعما منكم أنهم يشفعون لكم عند ربكم ويقربونكم إليه زلفى، وقد جعلتم هذا من الدين افتراء على الله وقولا عليه بغير علم.
وبعد أن أبان أصل الدين ومناط الأمر والنهى فيه- ذكرنا بالبعث والجزاء على الأعمال فقال:
(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي كما بدأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته تعودون إليه يوم القيامة وأنتم فريقان:
(1)
فريق هداه الله فى الدنيا ببعثة الرسل فاهتدى بهديهم وأقام وجهه له وحده فى العبادة ودعاه مخلصا له الدين لا يترك به أحدا.
(2)
فريق حق عليهم الضلالة لاتباعهم إغواء الشيطان وإعراضهم عن طاعة بارئهم.
وكل فريق يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه، وإنما حقت على
الفريق الثاني الضلالة، لأنهم اقترفوا أسبابها فوجدت نتائجها ومسبباتها، لا أنها جعلت غرائز لهم فكانوا عليها مجبورين، يرشد إلى ذلك قوله:
(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي إنهم حين أطاعوا الشياطين فيما زيّنوا لهم من الفواحش والمنكرات، فكأنهم ولّوهم أمورهم من دون الله الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر، وهم مع عملهم هذا يحسبون أنهم مهتدون فيما تلقّنهم الشياطين من الشبهات، كجعل التوجه إلى غير الله والتوسل إليه فى الدعاء مما يقربهم إلى الله زلفى، قياسا على الملوك الجاهلين الذين لا يقبلون الصفح عن مذنب إلا بوساطة بعض المقربين عنده.
والكثير من أهل الضلال يحسبون أنهم مهتدون، وهم ما بين كافر جحود للحق كبرا وعنادا كأعداء الرسل فى عصورهم وحاسديهم على ما آتاهم الله من فضله كما حكى سبحانه عن فرعون وملئه «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا» وكالكبراء من قريش أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث فى جميع كثير منهم وهم الذين قال الله فيهم:«فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» وهؤلاء هم الأقلون عددا- وكافر بالتقليد واتباع نزغات الشيطان، أو باتباع الآراء الخاطئة والنظريات الفاسدة، وهم الذين قال الله فيهم:«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» وهؤلاء هم جمهرة الناس فى جميع الأمم.
وذهب كثير من العلماء إلى أن من بذل جهده فى البحث والنظر فى الحق، ثم اتبع ما ظهر له أنه الحق بحسب ما وصلت إليه طاقته، وكان مخالفا فى شىء منه لما جاءت به الرسل- لا يدخل فى مدلول هذه الآية ونحوها، بل يكون معذورا عند الله لقوله تعالى:«لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» .