الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الصيام
مقدمة
الصيام: لغة: مجرد الإمساك، يقال للساكت: صائم؛ لإمساكه عن الكلام، ومنه:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26].
وشرعًا: إمساك بنية عن أشياء مخصوصة، في زمن معين، من شخص مخصوص.
وفُرِض صوم رمضان في شعبان في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة رمضانات إجماعًا.
وصيام شهر رمضان أحد أركان الإسلام، وفروضه العظام، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع: قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
وقال صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس"، وذكر منها:"صوم رمضان" [رواه البخاري (8) ومسلم (16)، والأحاديث في فرضيته كثيرة، أجمع المسلمون على أنَّ من أنكر وجوبه كفر.
أما فضل الصيام: فقد جاء في أحاديث كثيرة، ومنها الحديث القدسي:"كل عمل ابن آدم له؛ إلَاّ الصوم؛ فإنَّه لي، وأنا أجزي به"[رواه البخاري (1085) ومسلم (1151)].
* حكمته:
للصوم حِكم وأسرار كثيرة عظيمة، منها:
أولاً: هو من أعظم الطاعات، فهو سر بين العبد وبين ربه، فهو الغاية في أداء الأمانة.
ثانيًا: إنَّه تَحَلٍّ بفضيلة الصبر، فقد جَمَعَ أنواع الصبر الثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
ثالثًا: تجربة لمقاساة الحرمان والجوع، تذكر العبد نِعم الله عليه المتوالية، فيذكر إخوانه الفقراء الذين يقاسون هذا الحرمان أبد الدهر.
رابعًا: فيه فوائد صحية: فالصيام راحة وإجازة للجهاز الهضمي، لإعطائه فترة من الزمن يسترح فيها من الامتلاء والتفريغ، فيحصل له استجمام وراحة، يستعيد بها نشاطه وقوته.
فالصيام عبادة جليلة جمعت خصال الخير كلها، واستبعدت خصال الشر كلها؛ ولذا فإنَّ الله تعالى كتبها وفرضها على الأمم السابقة، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة].
***
539 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إلَاّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا تقدموا: "لا" ناهية، ولذلك جُزِمَ الفعل بعدها.
- تُقدِّموا: أصله: "تتقدموا" فحذفت إحدى التاءين، أي: لا تصوموا قبل رمضان يومًا أو يومين، استقبالاً لرمضان.
- رمضان: قال الزمخشري: رمضان مصدر "رمض": إذا احترق من: الرمضاء، فأضيف إليه الشهر، وجعل علَمًا عليه، ومنع الصرف فيه للعلمية وزيادة الألف والنون، وسمّوه بذلك؛ لارتماضهم فيه من حر الجوع، ومقاساة شدته، وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هلذا الشهر أيام رمض الحر.
- يصوم: الصوم لغة: الإمساك، فكل ممسك عن طعام أو كلام أو غيرهما، فهو صائم لغة، وأما في الشرع: فهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس مع نية الصيام.
- كان يصوم صومًا: أي: كان قد اعتاد صيام أيام معلومة، ووافق ذلك آخر يوم، أو يومين من شعبان.
- إلَاّ رجل: لفظ مسلم "إلَاّ رجلاً"، وهو قياس اللغة العربية؛ لأنَّه استثناء متصل من مذكور، وبعض روايات البخاري:"إلَاّ أن يكون رجل"، و"يكون" هنا تامة
(1) البخاري (1914)، مسلم (1082).
لا ناقصة، ومعناه: إلَاّ أن يوجد رجل يصوم صومًا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النَّهي عن تقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين، وظاهر النيه التحريم، وَحَمله كثير من العلماء على الكراهة، فمن حرَّمه نظر إلى النَّهي، ومن كَرِهه نظر إلى الاستثناء.
قال الترمذي: كرهوا أن يتعجل الرجل الصيام قبل دخول رمضان، لمعنى رمضان.
2 -
الرخصة في الصيام لمن صادف قبل رمضان له عادة صيام؛ كصيام يوم الخميس أو الإثنين، وهذه الرخصة بإجماع العلماء.
3 -
الحكمة في ذلك -والله أعلم-: تمييز فرائض العبادات عن نوافلها، والاستعداد لصوم رمضان بنشاط ورغبة، ورجَّح ابن حجر أنَّ الحكمة هي أنَّ حُكم الصيام معلق برؤية الهلال، فمن تقدمه بيوم أو يومين، فقد حاول الطعن في ذلك الحكم، ولعلَّ من الحكمة كراهة التنطع في الدين، وتجاوز الحدود التي فرضها الله تعالى.
4 -
أما إذا كان على الإنسان صوم واجب كقضاء رمضان أو نذر، فإنَّ الصيام قبيل رمضان ليس رخصة، وإنما هو عزيمة، فيجب عليه الصيام؛ لأنَّ أداء الواجب مقدم على المكروهات.
5 -
إنَّما اقتصر الحديث على يوم أو يومين؛ لأنَّه الغالب فيمن يقصد ذلك، وقد قطع كثير من الشافعية بأنَّ ابتداء المنع من أول السادس عشر من شعبان، واستدلوا بحديث أبي هريرة مرفوعًا:"إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا"[أخرجه أبو داود (2337)، والترمذي (738) وابن ماجه (1651)، وصححه ابن حبان (3591) وغيره].
ولكن جمهور العلماء: جوزوا صوم التطوع بعد النصف من شعبان،
وضعَّفوا هذا الحديث، واستدلوا على استحبابه بما جاء من الحث على صيام شعبان.
وقال الشيخ تقي الدين: لا يكره صوم العشر الأخير من شعبان عند أكثر العلماء.
* فائدة:
فُرِض الصيام على ثلاث مراحل:
الأولى: فُرض صيام عاشوراء، فقد أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء.
الثاني: فرض صوم رمضان على التخيير بين الصيام أو الفدية، قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184].
الثالثة: التأكيد على فرض صوم رمضان بدون تخيير.
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
والحكمة في هذا التدرج بالتشريع: أنَّ الصوم فيه نوع مشقة على النفوس، فأخذت به شيئًا فشيئًا.
***
540 -
وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما قَالَ: "مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيه، فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم". ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ تعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث عمَّار حديث صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين، وقال الدارقطني: إسناده صحيح، ورواته كلهم ثقات، وصحَّحه البيهقي والعراقي والحاكم، ووافقه الذهبي.
قال ابن عبد البر: هو مسند عند المحدثين مرفوع، لا يختلفون في ذلك.
* مفردات الحديث:
- الذي يُشك فيه: إنَّما أتى باسم الموصول، ولم يقل:"يوم الشك"؛ مبالغة في أنَّ صوم يوم يشك فيه أدنى شك سبب لعصيان أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.
- الذي يشك فيه: مبني للمجهول، أى: اليوم الذي لا يعلم هل يكون اليوم الأول من رمضان أو اليوم الآخر من شعبان، وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال ما يمنع الرؤية.
- أبا القاسم: هو النبي صلى الله عليه وسلم يكنى بأكبر أبنائه.
(1) البخاري (4/ 119)، أبو داود (2334)، الترمذي (686)، النسائي (2189)، ابن ماجه (1645)، ابن خزيمة (1914)، ابن حبان (3577)، وهو في المسند من حديث أبي هريرة (8919).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النَّهي عن صيام يوم الشك من شهر رمضان، ويوم الشك من رمضان هو اليوم الواقع في أوله بلا يقين، لا يدرى هل هو منه أو ليس منه، وهو ليلة الثلاثين من شعبان إذا حال دون منظر الهلال ما يمنع الرؤية.
2 -
تحريم صيام ذلك اليوم، ما دام أنَّه معصية للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
3 -
الحديث يدل على القاعدة الشرعية، وهي:"أنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان"، ومثال القاعدة في هذه المسألة هي أنَّ الأصل بقاء شعبان، وعدم دخول شهر رمضان، ما دمنا شاكِّين في انتهاء شعبان، ودخول رمضان ما لم نتحقق انتهاء الأول، ودخول الثاني.
4 -
أبا القاسم: هي كنية النبي صلى الله عليه وسلم كني أبنائه، والقاسم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة، قيل: توفي قبل النبوة، وقيل: بعدها، وأنه لما مات قال بعض المشركين: أصبح محمد أبتر، فأنزل الله سورة الكوثر، والقصد أنَّ عمارًا كنى النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعظيم والتوقير، فهو غير داخل في قوله تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63].
كما أنَّ من أوصافه صلى الله عليه وسلم القاسم، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"إنما أنما قاسم، والله معطٍ" والقصد جواز ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بغير صفة الرسالة والنبوة؛ لأنَّ باب الخَبر أوسع من باب الطلب، فلا ينادى إلَاّ بصفة الرسالة أو النبوة، ولكنه يجوز أن يُتَحدَّث عنه بغيرهما من أسمائه.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في تعيين يوم الشك: فذهب الحنابلة إلى: أنَّ يوم الشك من شهر رمضان هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا لم يكن على مطلع الهلال غمٌ، أو قترٌ، أو دخانٌ، ونحوها مما يمنع الرؤية، فهذا هو يوم الشك الذي
نهي عن صيامه، فيكره صيامه، وأما إن حال دون مطلع الهلال تلك الليلة غيمٌ، أو غبارٌ، أو دخانٌ، أو نحو ذلك -فيجب صيامه حكمًا ظنيًّا احتياطيًّا.
وذكر أصحابنا -أنَّ هذا هو قول عمر، وابنه عبد الله، وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، وأنس، وأبي هريرة، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ومن التابعين ميمون بن مهران، وطاووس، ومجاهد.
واستدلوا على ذلك: بما رواه أبو داود (2320) عن ابن عمرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إنَّما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمَّ عليه فاقدروا له" ومعنى "اقدروا له"، أي: ضيِّقوا، من قوله تعالى:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي ضيق.
قال في "الإنصاف": وهو المذهب عند الأصحاب، ونصروه، وصنَّفوا فيه التصانيف، وردوا حجج المخالف، وقالوا: نصوص أحمد تدل عليه، وهو من مفردات المذهب.
وذهب الأئمة الثلاثة وجمهور العلماء إلى: أنَّ اليوم الذي ليس في منظر هلاله ما يمنع الرؤية لا يسمى يوم شك، وإنما يوم الشك هو ليلة الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال ما يمنع الرؤية من سحابٍ، أو ضبابٍ، أو قتامٍ، أو دخانٍ، أو نحوها، فهذا هو يوم الشك المنهي عن صيامه في حديث عمَّار وغيره.
قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة والتابعين، وبه قال سفيان الثوري، وابن المبارك، وإسحاق.
قال في "المغني": إنَّ المنع من صومه وعدم إجزائه إذا تبيَّن أنَّه رمضان -هو رواية عن الإمام أحمد، وقول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأتباعهم.
وقال شيخ الإسلام: إذا حال دون منظره ليلة الثلاثين حائل، فهو يوم
شك يُنهى عن صومه بلا توقف؛ لأنَّ الأصل والظاهر عدم الهلال، فصومه تقدمٌ لرمضان بيوم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره.
وقال ابن القيم: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ألا يدخل في صوم رمضان إلَاّ برؤية محققة، أو شهادة شاهد واحد، كما صام بشهادة ابن عمر، [رواه أبو داود (2342)]، وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيمٌ، أو سحابٌ، أكمل عدة شعبان ثلاثين يومًا، ثم صامه ولم يكن يصوم يوم الغيم ولا أمر به، بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم، وكان يفعل ذلك، فهذا فعله، وهذا أمره.
وهذه الطريقة أقرب إلى موافقة النصوص وقواعد الشرع، وهذا القول هو اختيار علماء الدعوة السلفية، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إنَّ المنع من الصيام هو اختيار شيخ الإسلام محمَّد بن عبد الوهاب.
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: ومع من منع صومه من الأحاديث الصحيحة النبوية التي تعددت طرقها ما لا يدفعه دافع، ولا يعارضه معارض.
وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم: لا يجوز صيام يوم الشك.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصواب إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان غيمٌ، أو قترٌ أنه لا يجب صيام ذلك اليوم، ولا يستحب، بل فطره هو المشروع.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: واختار عدم صوم يوم الشك إمام هذه الدعوة، ومن أخذ عنه، ونهوا عن صيامه؛ لوجوه منها:
1 -
أنَّ تلك الليلة من شعبان بحسب الأصل.
2 -
النَّهي الصحيح الصريح عن تقدم رمضان بيوم أو يومين.
3 -
الأحاديث الصحيحة الصريحة بالنَّهي عن صيامه.
4 -
أنَّ رواية المروزي عن أحمد أنَّ ليلة الشك هي ليلة الثلاثين من شعبان إذا غمَّ الهلال.
وهو قول جمهور العلماء والأئمة الأربعة، وغيرهم، وجزم به شيخ الإسلام وغيره.
وأدلة هذا القول كثيرة جدًّا منها:
ما جاء في البخاري (1810)، ومسلم (1081) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم، فأكملوا عدَّة شعبان ثلاثين".
***
541 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "إِذَا رأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وإِذَا رَأيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَاقْدِرُوا لَهُ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: "فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ، فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ".
وَلِلْبُخَارِيِّ: "فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلَاثِيْنَ"(1).
ولَهُ في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِيْنَ"(2).
ــ
* مفردات الحديث:
- إذا رأيتموه فصوموا: أي: الهلال، والمراد: إذا رآه منكم من يثْبُت برؤيته وجوب الصوم.
- أُغْمِي عليكم: -بسكون الغين المعجمة وكسر الميم، بالبناء للمجهول- أي: غطي الهلال وسُتِر عنكم، من: الإغماء يقال: أغمي عليه الخبر إذا استعجم؛ وذلك باستتار مغيب الهلال بغيمٍ، أو قترٍ فأكملوا العدة.
وبعض الروايات: "فإن غُمَّ" بضم الغين وتشديد الميم، بالبناء للمجهول؛ أي: أخفي، وصار مستورًا بغيم ونحوه.
- فاقدروا له: -بضم الدال وكسرها- قال في "المصباح": أي: قدِّروا عدد الشهر، وأكملوا شعبان ثلاثين يومًا.
(1) البخاري (1900، 1907)، مسلم (1080).
(2)
البخاري (1909).
- فاقدروا له، وأكملوا العدة ثلاثين: قال شريح: الأول خطاب لمن خصَّه الله بهذا العلم، والثاني خطاب للعامة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
وجوب صيام شهر رمضان إذا ثبت رؤية هلاله، ووجوب الفطر إذا ثبت رؤية هلال شوال.
2 -
استحباب إشاعة خبر دخول شهر رمضان، وخروجه بأوسع وسيلة، وأسرعها.
3 -
أنَّ الحكم بالصوم والفطر معلق برؤية الهلال، فلا يصام إلَاّ بالرؤية، ولا يفطر إلَاّ بالرؤية المجردة، ولو بواسطة المراصد والآلات التي تكبر المرئيات؛ فإنَّه له يعتبر ذلك رؤية بالعين المشاهدة.
4 -
إذا حال دون مغيب الهلال ما يمنع الرؤية من سحابٍ، أو غبارٍ، أو نحوهما ليلة الثلاثين من شعبان، فتكمل عدة شعبان ثلاثين يومًا، ولا يصام يوم تلك الليلة، بل يصبح الناس مفطرين على القول الراجح.
ذلك أنَّ الأصل واليقين هو بقاء شعبان، وخروجه شك، ولا يصار من اليقين إلَاّ إلى مثله، أما الشكوك والاحتمالات فلا تقدم على اليقين.
5 -
الرؤية هي المستند الشرعي في أحكام الصيام والإفطار، وأنَّه لا عبرة بالحساب، ولا يصح الاعتماد عليه بحال من الأحوال.
قال شيخ الإسلام: ولا ريب أنَّه ثبت بالسنة الصحيحة وآثار الصحابة، أنَّه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، والمعتمِد عليه كما أنَّه ضال في الشريعة مبتدع في الدين، فهو مخطىء في العقل، وعلم الحساب، فإنَّ علماء الهيئة يعرفون أنَّ الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، فإنَّها تختلف باختلاف ارتفاع المكان، وانخفاضه، وغير ذلك.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في حكم الصيام ليلة الثلاثين من شعبان: إذا حال دون منظر الهلال غيمٌ، أو قترٌ، ونحو ذلك:
فذهب الإمام أحمد في المشهور عنه إلى: وجوب الصيام.
قال في "الإنصاف": وهو المذهب عند الأصحاب، ونصروه، وصنَّفوا فيه التصانيف، وردوا حُجَجَ المخالف، ونصوص أحمد تدل عليه، وهو من المفردات.
واستدلوا: بما في البخاري (1900)، ومسلم (1080) من حديث ابن عمر ة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له"، وفسَّروا "اقدروا له"؛ أي: ضيِّقوا على شعبان، فاجعلوه تسعة وعشرين يومًا.
وذهب الأئمة الثلاثة إلى: عدم مشروعية صيام ذلك اليوم، واعتباره هو يوم الشك المنهي عنه؛ بما رواه أبو داود (2334) والترمذي (686) من حديث عمَّار قال:"من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم".
وهو رواية عن الإمام أحمد، قال في "المغني": وعن أحمد: لا يجب صيامه، ولا يجزئه عن رمضان إن صامه، وهو قول أكثر أهل العلم.
قال شيخ الإسلام: عدم صيامه هو مذهب أحمد المنصوص عليه، والأصل عدم الوجوب في كلام الإمام أحمد.
وقال الشيخ أيضًا: صوم يوم الشك تقدمٌ لرمضان بيوم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره، فإنَّ المشكوك في وجوبه لا يجب فعله، بل المستحب تركه.
وقال الشيخ: لو قيل بجواز الأمرين واستحباب الفطر، لكان أولى.
قال في "الفروع": لم أجد عن أحمد أنَّه صرَّح بالوجوب، ولا أمر به،
فلا تتوجه إضافته إليه، واحتجَّ الأصحاب بحديث ابن عمر وفعله، وليس بظاهر الوجوب، وإنما هو احتياط عورض بنهي.
واختار الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب وأتباعه النهي عن صيامه.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: لا شكَّ أنَّ المحققين من العلماء في مذهب أحمد من الحنابلة وغيرهم ذهبوا إلى أنَّه لا يجب الصوم بل يكره، أو يحرم.
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: ومع من منع صومه من الأحاديث الصحيحة النبوية التي تعددت طرقها ما لايدفعه دافع، ولا يعارضه معارض، وتقدم هذا كله قريبًا.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: لا يجوز صوم الشك؛ لحديث عمَّار. قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة والتابعين.
وأصحابنا في وجوب الصيام ليلة الثلاثين من شعبان إن حال دون مغيب الهلال غيمٌ، أو قترٌ، أو جبالٌ، ونحو ذلك، صاموه بحكم ظني احتياطي، والاحتياط ليس بالفعل فقط، وإنما يكون بالترك أيضًا، فالمسلم يحتاط لنفسه بالاتباع، فعلاً أو تركًا، لأنَّ الاحتياط الحقيقي هو اتباع ما كان أقرب إلى الشرع، وقد تكرر ذكر هذا الخلاف مع ما قبله، ولكنه لا يخلو من زيادة فائدة.
واختلف العلماء فيما: إذا رؤي الهلال ببلد من البلدان، فهل يجب الصيام، أو الإفطار على عموم المسلمين؟ أو أنَّ كل قطر له حُكمه في الصيام والإفطار، حسب مطلع قطره الذي هو فيه؟
هذا موضع خلاف بين العلماء:
ذهب جمهور العلماء -ومنهم الإمامان أبو حنيفة وأحمد- إلى: أنَّه إذا رؤي في بلد، لزم حُكْمه جميع الناس؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا"، والخطاب للمسلمين عامة.
ولا عبرة باتفاق المطالع واختلافها.
وذهب الإمام الشافعي، وجماعة من السلف إلى القول بالحكم باختلاف المطالع، وقالوا: إنَّ الخطاب في الحديث نسبي؛ فإنَّ الأمر بالصوم والفطر موجه إلى من وُجد عندهم الهلال، أما من لم يوجد عندهم هلال، فإنَّ الخطاب لا يتناولهم إلَاّ حين يوجد عندهم، وهذا قول له اعتبار من حيث الدليل النقلي، والنظر الفلكي.
قال شيخ الإسلام: تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة، فإن اتَّفقت لزم الصوم، وإلَاّ فلا، وهو القول الأصح للشافعية، وقول في مذهب أحمد.
وقال الشيخ نجيب المطيعي: القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع يخالف المعقول والمنقول، أما مخالفته للمعقول فلِمَا علم من مخالفته لما هو ثابت بالضرورة من اختلاف الأوقات، وأما مخالفته للمنقول فلأنَّه مخالف لحديث كريب في صحيح مسلم.
قال كريب: قدمتُ الشام، فرأيتُ الهلال ليلة الجمعة، ثم عدتُ إلى المدينة في آخر الشهر، فسألني ابنُ عباس متى رأيتم الهلال، فقلتُ: ليلة الجمعة وصاموا، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم[رواه مسلم (1087) والترمذي (693) وقال: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم].
قال مؤلف كتاب الزلال: اعلم يقينًا أنَّ القول الصحيح الذي انفصل عليه المحققون من علماء الأثر، وأهل النظر، وعلماء الهيئة، هو أن ينظر بين الرؤية وغيرها، فإن كان بينهما: ألفان ومئتان وستة وعشرون (2226) كيلاً فأقل، صار الحكم واحدًا في الصوم والفطر لاتحاد المطالع.
وإن كان أكثر من ذلك فلا يصح، وصار لكل بلد حُكمه لاختلاف مطالعها؛ سواء كان البعد شرقًا، أو غربًا، أو شمالاً، أو جنوبًا، تحت ولاية
واحدة أم لا، في إقليم واحد أم لا.
وهذا هو المطابق للنصوص الشرعية والفلكية، وبهذا القول تنتفي جميع الإشكالات، والله أعلم.
* قرار هيئة كبار العلماء بشان اختلاف المطالع:
أما مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعوية، فقرَّروا بقرارهم رقم (2) في تاريخ 13/ 8/ 1392 هـ بالإجماع ما خلاصته:
بعد دراسة المجلس للموضوع، وتداول الرأي فيه، تقرر ما يلي:
أولاً: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسًّا وعقلاً، ولم يختلف فيها أحد، وإنما وقع الاختلاف بين العلماء في اعتبار المطالع من عدمه.
ثانيًا: مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والاختلاف فيها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين، وهو من الاختلاف السائغ، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع.
ومنهم من لم ير اعتباره، واستدل كل فريق بأدلته.
وعند بحث هذه المسألة في مجلس الهيئة، ونظرًا لاعتبارات قدَّرتها الهيئة، وقد مضى على ظهور هذا الدين مدة أربعة عشر قرنًا، ولا نعلم فيها فترة جرى فيها توحيد أعياد إسلامية على رؤية واحدة، فإنَّ أعضاء الهيئة يقررون بقاء الأمر على ما كان عليه، وأن يكون لكل بلد إسلامي حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما.
أما ما يتعلَّق بإثبات الأهلة بالحساب: فقد أجمع أعضاء الهيئة على عدم اعتباره، وبالله التوفيق. اهـ القرار.
* قرار المجمع مع الفقهى الإسلامى بشأن توحيد الأهلة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
لقد درس المجمع الفقهي الإسلامي مسألة اختلاف المطالع في بناء الرؤية عليها، فرأى أنَّ الإسلام بنى على أنَّه دين يسر وسماحة، تقبله الفطرة السليمة، والعقول المستقيمة؛ لموافقته للمصالح، ففي مسألة الأهلة ذهب إلى إثباتها بالرؤية البصرية، لا على اعتمادها على الحساب، كما تشهد به الأدلة الشرعية القاطعة، كما ذهب إلى اعتبار اختلاف المطالع؛ لما في ذلك من التخفيف على المكلفين، مع كونه هو الذي يقتضيه النظر الصحيح، فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعًا، وعقلاً: أما شرعًا: فقد أورد أئمة الحديث حديث كُريب، وهو أنَّ أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمتُ الشام، فقضيتُ حاجتها، فاستهل عليَّ شهر رمضان وأنا بالشام، فرأيتُ الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلتُ: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلتُ: نعم، ورآه الناس، وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نرله، فقلتُ: أَوَلا نكتفي برؤية معاوية وصيامه، فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. [رواه مسلم في صحيحه].
وقد ترجم الإمام النووي على هذا الحديث في "شرحه على مسلم" بقوله: "باب بيان أنَّ لكل بلد رؤيتهم، وأنَّهم إذا رأوا الهلال ببلد، لا يثبت حكمه لما بعد عنهم"، ولم يخرج عن هذا المنهج من أخرج هذا الحديث من أصحاب الكتب الستة أبي داود والترمذي والنسائي في تراجمهم له.
وناط الإسلام الصوم والافطار بالرؤية البصرية دون غيرها؛ لما جاء في
حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له"[رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما]، فهذا الحديث علق الحكم بالسبب، الذي هو الرؤية، وقد توجد في بلد كمكة والمدينة، ولا توجد في بلد آخر، فقد يكون زمانها نهارًا عند آخرين، فكيف يؤمرون بالصيام أو الإفطار، أفاده في بيان الأدلة في إثبات الأهلة، وقد قرر العلماء من كل المذاهب أنَّ اختلاف المطالع هو المعتبر عند كثيرة فقد روى ابن عبد البر الإجماع على ألا تراعى الرؤية فيما تباعد من البلدان كخراسان من الأندلس، أو لكل بلد حكم يخصه، وكثير من كتب أهل المذاهب الأربعة طافحة بذكر اعتبار اختلاف المطالع؛ للأدلة القائمة من الشريعة بذلك، وتطالعك الكتب الفقهية بما يشفي الغليل.
وأما عقلاً: فاختلاف المطالع لا اختلاف لأحد من العلماء فيه؛ لأنَّه من الأمور المشاهدة التي يحكم بها العقل، فقد توافق الشرع والعقل على ذلك، فهما متفقان على بناء كثير من الأحكام على ذلك، التي منها أوقات الصلاة، ومراجعة الواقع تطالعنا بأنَّ اختلاف المطالع من الأمور الواقعية، وعلى ضوء ذلك، قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي أنَّه لا حاجة إلى الدعوة إلى توحيد الأهلة، والأعياد في العالم الإسلامي؛ لأنَّ توحيدها لا يكفل وحدتهم، كما يتوهمه كثير من المقترحين لتوحيد الأهلة والأعياد، وأن تترك قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في الدول الإسلامية؛ لأنَّ ذلك أولى وأجدر بالمصلحة الإسلامية العامة، وأنَّ الذي يكفل توحيد الأمة وجمع كلمتها هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، في جميع شؤونهم، والله ولي التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمَّد وآله وصحبه وسلم.
واختلف العلماء في نصاب البينة بدخول شهر رمضان على ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنَّه كبقية الشهور، لابد فيه من شاهدين عدلين.
الثاني: أنَّه لا يقبل إلَاّ بشاهدين إلَاّ في حالة الغيم، وما يحجب الرؤية، فحينئذٍ يقبل شاهد واحد.
الثالث: أنَّه يقبل شاهد واحد مطلقًا، وهذا هو القول الراجح الذي يدل عليه حديث الباب وغيره.
* فوائد:
* الفائدة الأولى:
يجب صوم رمضان بواحد من ثلاثة أمور:
1 -
رؤية الهلال.
2 -
الشهادة على الرؤية والإخبار بها.
3 -
إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا.
* قرار المجمع الفقهى الإسلامي بشأن العمل بالرؤية في إثبات الأهلة:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
إنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع في دورته الرابعة المنعقدة بمقر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، في الفترة ما بين السابع، والسابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة 1401 هـ على صورة خطاب الدعوة الإسلامية في سنغافورة، المؤرخ في 16 شوال 1399 هـ الموافق 8 أغسطس 1979 م، الموجه لسعادة القائم باعمال سفارة المملكة العربية السعودية هناك، والذي يتضمن أنَّه حصل خلاف بين هذه الجمعية، وبين المجلس الإسلامي في سنغافورة، في بداية شهر رمضان ونهايته، سنة 1399 هـ، الموافق 1979 م؛ حيث رأت الجمعية ابتداء شهر رمضان وانتهاءه على أساس الرؤية الشرعية؛ وفقًا لعموم الأدلة الشرعية، بينما رأى المجلس
الإسلامي في سنغافورة ابتداء ونهاية رمضان المذكور بالحساب الفلكي؛ معللاً ذلك بقوله: "بالنسبة لدول منطقة آسيا؛ حيث كانت سماؤها محجبة بالغمام -وعلى وجه الخصوص سنغافورة- فالأماكن لرؤية الهلال أكثرها محجوبة عن الرؤية، وهذا يعتبر من المعذورات التي لابد منها، لذا يجب التقدير عن طريق الحساب".
وبعد أن قام أعضاء مجلس الفقهي الإسلامي بدراسة وافية لهذا الموضوع، على ضوء النصوص الشرعية -قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي تأييده لجمعية الدعوة الإسلامية فيما ذهبت إليه؛ لوضوح الأدلة الشرعية في ذلك.
كما يقرر أنَّه بالنسبة لهذ الوضع الذي يوجد في أماكن مثل سنغافورة وبعض مناطق آسيا وغيرها؛ حيث تكون سماؤها محجوبة بما يمنع الرؤية، فإنَّ للمسلمين في تلك المناطق وما شابهها أن يأخذوا بمن يثقون به من البلاد الإسلامية، التي تعتمد على الرؤية البصرية للهلال، دون الحساب، بأي شكل من الأشكال؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تصوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة، ولا تفطروا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة"، وما جاء في معناهما من الأحاديث.
الفائدة الثانية:
جاء في "جامع الترمذي"(633) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون".
قال الشيخ: من رأى وحده هلال رمضان، فلا يلزمه الصوم، ولا جميع أحكام الشهر، وإنما يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال.
وأصل المسألة: أنَّ الله علَّق أحكامًا شرعية بمسمى الهلال والشهر،
كالصوم والفطر والنحر، فشرط كونه هلالاً وشهرًا، فلو طلع في السماء، ولم يعرفه الناس لم يكن هلالاً، فلا يسمى هلالاً إلَاّ بالظهور والاشتهار، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة.
أما المشهور من مذهب الإمام أحمد والأئمة الثلاثة-: فإنَّ من رأى الهلال وحده، فإنَّه يلزمه الصوم، وجميع أحكام الشهر المتعلقة به. لعلمه أنَّ هذا اليوم من رمضان.
* الفائدة الثالثة:
خلاصة الأقوال في الصوم والفطر ثلاثة:
الأول: أنَّه إذا رؤي في بلد، لزم الناس كلهم الصوم ة نظرًا إلى أنَّ الخطاب لكل المسلمين، بقوله:"إذا رأيتموه".
الثاني: اعتبار اختلاف المطالع، وتقدم تحديده بالكيلومترات، وهذا ملاحظ فيه أنَّ الخطاب خاص لمن يمكن رؤيته في قطرهم.
الثالث: لزوم الصوم والفطر إذا كانوا تحت ولاية واحدة، فالصحيح من حيث الدليل هو الثاني، والعمل الآن على الثالث.
* الفائدة الرابعة:
بناء على مما جاء في "سنن الترمذي" من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون" فإنَّ من أدركه الصوم، أو الفطر في بلد، لزمه أن يصوم، أو يفطر ذلك اليوم، ولو لم يكن من أهل تلك البلاد؛ لأنَّ حكمهم لزمه، فإذا عاد إلى بلده وقد صام أقل من "تسعة وعشرين" يومًا، أكمله بعد عيد بلاده.
***
542 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "تَرَاءَى النَّاسُ الهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال في "التلخيص": رواه أبو داود والدارقطني وابن حبَّان والحاكم والبيهقي، وصححه ابن حزم، كلهم من طريق أبي بكر بن نافع عنه، وأخرجه الدارقطني والطبراني من طريق طاوس، وقال الحاكم: إنَّه على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي.
* مفردات الحديث:
- تراءى: هو تفاعل من: الرؤية، والمفاعلة تكون من اثنين فأكثر، أي: جعل بعضهم يقول: أنا أراه، وبعضهم يقول: لا، أنا أراه، واجتمعوا، أو تصدوا لرؤيته.
- الهلال: -بكسر الهاء وتخفيف اللام- جمعه: أهلة، ويسمى: هلالاً لثلاث ليال من أول الشهر، ثم بعد ذلك يسمَّى: قمرًا.
وسمي هلالاً؛ لأنَّ الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته.
…
(1) أبو داود (2342)، الحاكم (1541)، ابن حبان (3438).
543 -
وَعَنِ ابْن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ أعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَال: إِنِّي رَأيْتُ الهِلَالَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أنْ لَا إِلهَ إِلَاّ اللهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلَالُ؛ أنْ يَصُومُوا غَدًا". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ إِرْسَالَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث مرسل.
أخرجه الحاكم (1546)، وقال: هذا حديث صحيح، ووافقه الذهبي.
قال الألباني: وفيه نظرٌ، فإن سماك بن حرب -أحد رجال السند- مضطرب الحديث، وقد رجَّح جماعة من مخرجي الحديث إرساله.
قال الترمذي: حديث ابن عبَّاس فيه اختلاف، وأكثر أصحاب ابن سماك يروونه عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود: رواه جماعة عن عكرمة مرسلاً، وقال النسائي: إنَّ إرساله أولى بالصواب.
* مفردات الحديث:
- أعرابيًّا: قال في "المصباح": الأعراب: أهل البدو من العرب، الواحد: أعرابي، وهو الذي يرتاد الكلأ، وزاد الأزهري: من نزل البادية، وظعن بظعنهم، فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى فهم عرب.
(1) أحمد (188)، أبو داود (2340)، الترمذي (691)، النسائي (2112)، ابن ماجه (1652)، ابن خزيمة (1923)، ابن حبان (3445).
- فأذَّن: أمر من: الأذان، والمراد به: الإعلام والإخبار بالصوم غدًا؛ لكونه من رمضان.
- أن يصوموا غدًا: "أن" مصدرية، والجار والمجرور محذوف، والتقدير: أذَّن فيهم بصوم الغد.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
أنَّ نصاب الشهادة في دخول شهر رمضان يكفي فيها شاهد واحد.
قال العلماء: ولو أنثى، لأنَّه من باب الرواية، فيجب صوم رمضان ولو بشهادة الواحدة.
قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم. وهو مذهب الشافعي وأحمد.
قال النووي: وهو الأصح؛ لأنَّه خبر ديني لا تهمة فيه، وأحوط للعبادة.
أما بقية الشهور: فلا يكفي إلَاّ شهادة رجلين عدلين؛ لقول ابن عمر وابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيز على شهادة الإفطار، إلَاّ شهادة رجلين" قال الترمذي وغيره: لم يختلف أهل العلم في الإفطار، إلَاّ بشهادة رجلين، وإنما أجزأ الواحد في الصوم؛ احتياطًا للعبادة.
2 -
أنَّه لابد من تكليف الشاهد؛ بأن يكون بالغًا عاقلاً، فابن عمر والأعرابي مكلفان حين أداء الشهادة برؤية الهلال.
3 -
أنَّه لابد من إسلام الشاهد، ومن ثبوت عدالته، فالإسلام يدل على اعتباره سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي هل يقر بالشهادتين، وأما العدالة فالصحابة كلهم عدول.
4 -
أنَّه يكفي في أداء الشهادة الإخبار، ولا يشترط لفظ الشهادة؛ كالرواية، وسائر الإخبارات.
5 -
استحباب ترائي الهلال؛ لما يترتب على رؤيته من أحكام الشعائر الهامة.
6 -
يجب على ولاة أمور المسلمين إشاعة خبر الصوم أو الفطر؛ ليقوم الجميع بما يجب عليهم من صوم أو فطر، وغيرهما من الأحكام المترتبة على ثبوت الرؤية.
7 -
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: لا ريب أنَّ كل أمر مهم عمومي يراد إعلانه على وجه السرعة، يسلك فيه طريق يحصل به المقصود، ولم يزل الناس يخبرون عن هذه الأمور بأسرع وسيلة، وكلما تجدد لهم وسيلة أسرع مما قبلها أسرعوا إليها، وأصول الشريعة تدل على هذا؛ ذلك أنَّ كل ما دلَّ على صدق الخبر، فإنَّ الشارع يُقرّه ويقبله، فالشارع لا يرد خبرًا صحيحًا بأي طريقٍ وصل، إذا عُلم هذا الأصل فإنَّه متى ثبت بطريق شرعي خبر الصوم والفطر وجب قبوله، والاستفاضة في الأخبار من جملة الطرق الشرعية خبر الصوم والفطر وجب قبوله، والاستفاضة في الأخبار من جملة الطرق الشرعية التي تفيد صدق مخبِرها، ومن المعلوم أنَّ الاستفاضة الحاصلة في زمن المدافع والبرقيات ووسائل الإعلام أبلغ من الاستفاضة المفيدة للعلم، والعادة المطردة والعرف المستقر في بث الأخبار من الأمور الرسمية، لا تبقي شكًّا في صدق الخبر.
***
544 -
وَعَنْ حَفْصَةَ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَمَالَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ، وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا ابنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.
وَلِلْدَّارَقُطْنِيِّ: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنَ اللَّيْلِ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرجه أبو داود والدارقطني والطحاوي والبيهقي من طريق عبد الله بن وهب بسنده إلى حفصة، وأخرجه الإمام أحمد من طريق حسن بن موسى، ورجاله كلهم رجال الشيخين غير ابن لهيعة، وهو صحيح الحديث إذا روى عنه أحد العبادلة الثلاثة، كهذا الحديث.
أما من حيث الرفع والوقف: فقد رجَّح بعض العلماء، وقفه ومنهم: البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي وأبو حاتم والبيهقي، وبعضهم حكم له بالرفع، ومنهم: ابن حزم والخطابي وعبد الحق وابن الجوزي والشوكاني، وقال البيهقي والدارقطني: رواته ثقات، وقواه ابن حزم، وصححه الحاكم.
* مفردات الحديث:
- من لم يبيت الصيام: بيَّت فلان الأمر؛ أي: دبره بليل، والمراد هنا: من لم يبيت الصيام الواجب، وذلك بنية الصيام من الليل، فلا صيام له.
(1) أحمد (25252)، أبو داود (2454)، الترمذي (730)، النسائي (2331)، ابن ماجه (1700)، ابن خزيمة (1933)، الدارقطني (2/ 172).
545 -
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ، ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخرَ، فَقُلْنَا: أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: أرِينِيهِ، فَلَقَدْ أصْبَحْتُ صَائِمًا، فَأَكَلَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- فإني صائم: يعني: ما استقبلتُ من يومي هذا.
- حَيْسًا: -بفتح الحاء المهملة وسكون الياء المثناة التحتية ثم سين مهملة- هو طعام يُصنع من التمر والأقط والسمن، تخلط وتعجن.
- أرينيه: أمر من: الرؤية، والنون للوقاية، والياء بعدها ضمير المتكلم، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني ضمير الغائب.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
يدل الحديث رقم (544): على أنَّ الصيام لابد له من نية؛ كما جاء في البخاري (1)، ومسلم (1907) عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى" قال في "الشرح الكبير": وذلك بإجماع العلماء.
2 -
قال في "شرح الإقناع": والنية محلها القلب، فمن خطر بباله أنَّه صائم غدًا، فقد نوى، ويكفي الأكل والشرب بنية الصوم، فلا يصح الصيام بنية من النهار.
3 -
"فلا صيام له": نفي للوجود الشرعي؛ فإنَّ الصيام لابد أن يشمل النهار كله، ومن لم ينو إلَاّ بعد الفجر فإنَّ جزءًا من يوم لم يَنْوِهِ.
(1) مسلم (1154).
4 -
أنَّ تبييت النية بأن تكون في الليل هو خاص بالصوم الواجب، وهو صوم رمضان أداءً وقضاءً، وصوم الكفارة والنذر.
5 -
أما صوم التطوع: فيصح بنية من النهار، كما في الحديث رقم (545)، فإنَّه لا يجب تبييت نية الصيام من الليل، وإنما يكفي بنية من النهار في أي جزء منه، حتى ولو بعد الزوال.
قال في "شرح الإقناع": ويصح صوم نفلٍ بنيةٍ من النهار، قبل الزوال أو بعده؛ لحديث عائشة.
6 -
أنَّه يحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية؛ لأنَّ ما قبله لم يوجد فيه قصد القُربة، فلا يقع عبادة.
لكن يشترط ألا يكون أتى بمفطر بعد الفجر، وقبل النية، فإن أتى بمفطر، فلا يجزئه الصوم، بلا خلاف بين أهل العلم.
7 -
يجوز تبييت نية الصوم واجبًا، أو تطوعًا من أي جزء من الليل، ولو أتى بعد النية بمنافٍ للصوم، ما دام أنَّ الفجر لم يطلع.
8 -
قال في "شرح الإقناع": ويجب تعيين النية لما يصومه من رمضان، أو من قضائه، أو نذره، أو كفارة؛ لحديث:"إنما الأعمال بالنيات"؛ لأنَّ النية تميز العبادات بعضها عن بعض، فالتعيين مقصود في نفسه.
9 -
الحديث رقم (545): يدل على أنَّه لا يجب إتمام صوم التطوع، بل يجوز قطعه والإفطار، إلَاّ أنَّه يستحب الإتمام.
قال في "شرح الإقناع": ومن دخل في تطوع غير حج وعمرة، استحب له إتمامه؛ لأنَّ تكميل العبادة هو المطلوب، ولم يجب عليه إتمام لحديث عائشة، ولكن يكره قطعه بلا عذرة لما فيه من تفويت الأجر، وإن أفسده فلا قضاء عليه، وكذا لا تلزم الصدقة، ولا القراءة، ولا الأذكار بالشروع فيها، عند الأئمة الأربعة، وإذا قطع العبادة النافلة، فهل يثاب على الجزء
الذي قطعه؟ فيه خلاف، رجَّح الشيخ تقي الدين أنَّه يثاب على ما فعله.
10 -
قوله: "إني صائم لا يحمل على الحقيقة الشرعية؛ وهو الصيام الشرعي؛ لأنَّه جاء بخطاب الشارع.
ويحسن أن نلاحظ أنَّ الحقائق ثلاث: لغوية، وشرعية، وعرفية، فلو فرضنا معنًى من المعاني له لفظ لغوي، ولفظ شرعي، ولفظ عرفي، فإن جاء بلفظ أهل اللغة حملناه على معناه عندهم، وإن جاء بلفظ الشرع حملناه على المعنى الشرعي، وإن جاء بلسان العامة حملناه على المعنى العرفي.
وهذا التقسيم يفيد في: الأوقاف، والوصايا، والوثائق، والإقرارات، والعقود، ونحو ذلك.
11 -
على صائم النفل مراعاة المصلحة في إمضاء صومه أو فطره، فإن حقق فطره مصلحةً أفطر، كما أفطر صلى الله عليه وسلم لما وجد من الأكل ما يعينه على طاعة الله تعالى، وإن لم يوجد مصلحة فالأفضل إتمام صومه.
قال في "شرح الإقناع"؛ وإن حضر المدعو إلى وليمة ونحوها، وهو صائم صومًا واجبًا لم يفطر، وإن كان تطوعًا فإن كان في ترك الأكل كسر قلب الداعي، استُحب له أنَّ يفطرة لأنَّ في أكله إدخال السرور على قلب أخيه المسلم، وإن لم يكن في تركه الأكل كسر قلب الداعي، كان إتمام الصوم أولى من الفطر.
قال الشيخ: وهو أعدل الأقوال.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء: هل يكفي لصوم شهر رمضان نية واحدة في أوله، أو لابد لكل صوم يوم من نية خاصة مستقلة؟
فذهب المالكية إلى: أنَّه يجزىء صوم شهر رمضان بنيةٍ واحدةٍ تكون في أول الشهر، وكذا في صيام متتابع مثل كفارة جماع في رمضان، وكفارة قتلٍ
وظهارٍ، ما لم يقطعه بسفرٍ، أو مرضٍ، أو يكون على حالة يجوز له الفطر، كحيض ونفاس ونحو ذلك، فيلزمه استئناف النية، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها من أصحابه جماعة: منهم أبو الوفاء بن عقيل.
واستدلوا على ذلك: بما في الصحيحين: "إنما الأعمال بالنيات"، وهذا قد نوى جميع الشهر، ورمضان بمنزلة عبادة واحدة.
وذهب الجمهور إلى: أنَّ كل يوم عبادة مستقلة بذاتها يحتاج إلى نية خاصة بها.
وتظهر النتيجة فيما لو نام مكلف في رمضان، أو صيام كفارة، وذلك قبل الغروب إلى ما بعد الصبح، فعلى القول الأول يصح صومه، وعلى الثاني لا يصح؛ لأنَّه لم يبيت نية الصوم الواجب من الليل، والقول الأول أرجح.
واختلفوا: هل تعيين نية الصوم واجب، أم يكفي نية الصوم المطلق؟
فذهب الجمهور -ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد-: إلى وجوب تعيين النية لما يصوم له: من أداء رمضان، أو قضائه، ومن النذر، والكفارة، والتطوع، فإن لم يعين النية لم يصح صومه؛ لحديث:"إنما الأعمال بالنيات"، والنية شرعت لتمييز العادة عن العبادة، وتمييز العبادات بعضها عن بعض.
قال الشيخ تقي الدين: وتحقيق المسألة أنَّ النيَّة تتبع العلم، فإذا علم أنَّ غدًا من رمضان، فلابد من التعيين، وإن كان لا يعلم أنَّ غدًا من رمضان، فلا يجب عليه التعيين.
وذهب الحنفية إلى التفصيل: فالصيام الثابت في الذمة كقضاء رمضان، والكفارات، والنذر المطلق، ونحو ذلك -فهذا يشترط فيه تعيين النية.
والنوع الآخر -وهو ما يتعلق بعينه، وهو صوم رمضان أداءً، والنذر المعين زمانه، والنفل المقيد، ونحو ذلك- فهذا لا يشترط تعيينه بالنية، بل
يكفي مطلق نية الصيام.
قال الشيخ: تعيين النية لشهر رمضان فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد:
أحدها: ألا يجزئه الصيام إلَاّ أن ينوي رمضان، وهو مذهب الشافعي.
الثاني: يجزئه، وهو مذهب أبي حنيفة.
الثالث: يجزئه بنية مطلقة.
وتحقيق المسألة أنَّ النيَّة تتبع العلم، فإن علم أنَّ غدًا من رمضان فلابد من التعيين، وإن كان لا يعلم فلا يجب التعيين.
***
546 -
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ، مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
547 -
وَلِلْتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "قَالَ اللهُ عز وجل: أحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أعْجَلُهُمْ فِطْرًا"(2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: "أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا": لم يخرجه من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي.
قال محرره عفا الله عنه: زيادة الترمذي هذه ساقها المصنف هنا، وذكرها في "التلخيص"، ولم يعقب عليها بشيء، مما يدل على قبولها عنده، ومعناها موافق للأحاديث الصحيحة في هذا الباب.
وهذا الحديث في سنده مرة بن عبد الرحمن المغازي، قال الإمام أحمد: إنَّه منكر الحديث، وقال ابن عدي: لا بأس به، ووثقه ابن حبان، وقال الحافظ: صدوق، وله مناكير.
وقد حسَّنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن حبَّان.
* مفردات الحديث:
- لا يزال: من: زال يزول زوالاً، يتعدى بالهمزة والتضعيف، وزال من أخوات
(1) البخاري (1957)، مسلم (1098).
(2)
الترمذي (705).
كان، ويشترط لها أنَّ يتقدمها نفي أو نهي، والمراد بها: ملازمة المسند للمسند إليه، فإذا قلتُ: ما زال خليل واقفا، فالمعنى أنَّه ملازم للوقوف.
- ما عجلوا: "ما" هنا حرفية مصدرية ظرفية، ومعناها: مدة تعجيلهم الفطر.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
استحباب تعجيل الفطر، وقد اتَّفق العلماء على استحباب تعجيل الفطر، إذا تحقق غروب الشمس برؤيةٍ، أو بخبر ثقةٍ، أو غلب على ظنه الغروب.
2 -
أنَّ تعجيل الفطر دليل على بقاء الخير عند من عجَّله، وزوال الخير عمن أخَّره.
3 -
الخير المشار إليه هو اتباع السنة، ولا شكَّ أنَّه سبب خيري الدنيا والآخرة؛ ففي سنن أبي داود:"لا يزال الدين ظاهرًا، ما عجَّل الناس الفطر؛ لأنَّ اليهود والنصارى يؤخرون الإفطار إلى اشتباك النجوم" ونحوه في الصحيحين، فالشارع الحكيم يطلب من المسلمين ألا يشابهوا أهل الكتاب في عباداتهم، فتعجيل الفطر شعار يفرق بين صيام أهل الإسلام وأهل الكتاب، وبين سوء المخالفة، وحسن الاتباع والاقتداء.
4 -
هذا الحديث من المعجزات النبوية؛ فإنَّ تأخير الإفطار هو طريقة بعض الفرق الضالة.
5 -
قال ابن عبد البر وغيره: أحاديث تعجيل الفطور، وتأخير السحور صحيحة متواترة، وأجمع العلماء على أنَّ تعجيل الفطر، وتأخير السحور، سنة متبعة، حكاه الوزير ابن هبيرة، وجزم به الشيخ تقي الدين.
6 -
قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فهذا يقتضي أنَّ الإفطار عند غروب الشمس، فقد أجمعوا على أنَّ الصوم ينقضي ويتم بتمام الغروب، وأنَّ السنة أنَّ يفطر إذا تحقق الغروب، وأن له الفطر بغلبة الظن اتفاقًا، وذلك إقامة للظن مقام اليقين.
قال الشيخ تقي الدين: ومع الغيم المطبِق لا يمكن اليقين إلَاّ بعد أن يذهب وقت طويل من الليل، ويفوت تعجيل الفطر، فعليه لا يستحب التعجيل مع الغيم إلى أن يتيقن الغروب، وكره الفطر مع الشك في غروب الشمس، ولا يكره السحور مع الشك في طلوع الفجر، إلَاّ الجماع.
7 -
الأكل ونحوه مع الشك في طلوع الفجر جائز، والإفطار مع الشك في الشمس لا يجوز، وهو مبني على قاعدة شرعية عظيمة هي أنَّ:"الأصل بقاء ما كان على ما كان"؛ ففي السحور الأصل بقاء الليل، وفي الفطر بالأصل بقاء النهار.
8 -
فيه إثبات صفة المحبة لله تعالى إثباتًا حقيقيًّا يليق بجلاله، وأنَّ هذه المحبة الربانية تتفاوت، فأحبهم إليه أكثرهم لشرعه اتباعًا، ولأمره امتثالاً، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
الطوائف في المحبة ثلاث:
(أ) المعطلة: يقولون: إنَّ الله لا يُحَبُّ، وهؤلاء نفاة صفات الرب جلَّ وعلا.
(ب) الأشاعرة: يقولون: إنَّ الله يحبه خلقُه، ولكنه لا يُحب؛ لأنَّ إثبات المحبة له هو إثبات ميله إلى ما نفعه، أو عما يضره، والله منزَّه عن هذا، وهذا قول باطلٌ؛ لأنَّ هؤلاء شبهوا الله تعالى بخلقه، ثم عطلوه من صفاته.
(ج) أهل السنة والجماعة: يقولون إنَّ الله يُحِب ويُحَب، كما جاءت النصوص بذلك، ولكن محبته لشىء من الأشياء هي محبة لائقة بجلاله، ليست كمحبة المخلوقين، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى].
548 -
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ برَكَةً". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- السحور -بفتح السين المهملة-: اسم للطعام الذي يتُسحر به، وروي بالضم فهو مصدر، أي التسحر؛ أي: اسم للفعل نفسه، وأكثر ما يروى بالفتح، وهو مشتق من: السَّحر، وهو ما قبيل الفجر.
- بركة: -بفتحتين-: هي كثرة الخير، ومن معانيها: النَّماء والزيادة، والتبريك الدعاء بالبركة، وسميت بِركة الماء؛ لكثرة مائها، والبركة في الفعل والطعام.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
زاد الإمام أحمد (10646) من حديث أبي سعيد: "فلا تدعوه، ولو أن يتجرَّع أحدكم جرعة من ماء؛ فإنَّ الله وملائكته يصلون على المتسحرين".
2 -
ظاهر الحديث وجوب السحور، ولكن صرفه عن الوجوب إلى الندب هو ما ثبت من مواصلته صلى الله عليه وسلم، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أنَّ التسحر مندوب، وليس بواجب.
3 -
البركة الحاصلة من السحور ما فيه من امتثال الأمر الشرعي، فطاعة الله تعالى هي امتثال أمره، واجتناب نهيه.
ومن بركته: أنَّ الأكل للتقوي على الصيام، وطاعة لله تعالى، وعبادته، ومن بركته أنَّ السحور يعطي الصائم قوة لا يَملُّ معها الصيام، بخلاف من لا يتسحر، فإنَّه يجد مشقة تثقل عليه الصيام والعبادة، ومن بركة السحور أنَّه
(1) البخاري (1923)، مسلم (1095).
يكون سببًا للانتباه من النوم في وقت السحر، الذي هو وقت الاستغفار والدعاء، وفيه ينزل الرب جلَّ وعلا إلى السماء الدنيا، ينادي عباده ليسألوه مطالبهم ورغباتهم.
ومن بركة السحور صلاة الفجر مع الجماعة، وفي وقتها الفاضل، ولذا تجد المصلين في صلاة الفجر في رمضان أكثر منهم في غيره من الشهور؛ لأنَّهم قاموا من أجل السحور.
4 -
ينبغي للمسلم ألا يقوم بأموره العادية مجردة عن النية الصالحة، بل يمرن نفسه على أن تكون أعماله العادية عبادات لله تعالى، وذلك باستحضار إرادة هذه المعاني السامية لتصبح كل تصرفاته عبادة لله تعالى، ومادة "خير" و"بركة" تعود عليه بالثواب والأجر، أسال الله أنَّ يوفقنا والمسلمين لكل ما يقرب من رضاه، آمين، وصلى الله على نبينا محمد.
5 -
في السحور من مخالفة أهل الكتاب؛ فقد جاء في صحيح مسلم (1096) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر".
والشارع يريد ألا يكون لنا مشابهة بالكفار، لا في العبادات، ولا في العادات، لكن إن تشبه المسلم بالكفار بعباداتهم، فهذا قد يؤدي إلى الشرك والكفر، وإن كان في العادات باستحسان أفعالهم وعاداتهم، فهذا قد يؤول إلى التشبه بهم في الأمور الباطنة، ويكون منه الهلاك.
6 -
قوله: "فإنَّ في السحور بركة" دليل على أنَّ البركة تكون في المخلوقات؛ وذلك بحسب ما وهبه الله تعالى من القدرة، والمؤهلات، والمنفعة، فقد يكون في الإنسان بركة إما: بعلمه، وإما ببدنه، وإما بخُلقه، وإما بماله، وإما بجاهه، فيحصل منه خير ينتفع به غيره، والممنوع من التبرك في المخلوقين أن تكون بجسمه، فيتبرك بالظاهر من فضلاته، وثيابه،
وشعوره، ونحو ذلك، فهذا لا يكون إلَاّ في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ومن عداه ممنوع منه.
* فائدة:
أحاديث الأمر بالتسحر، والحض عليه، وتأخيره، وتعجيل الفطر، متواترة، حكاها الطحاوي وغيره.
ولا يجب السحور، حكاه ابن المنذر وغيره إجماعًا.
وقال ابن عبد البر: أحاديث تعجيل الفطور، وتأخير السحور صحيحة متواترة.
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكمًا شرعيًا.
ويدل عليه: ما جاء في البخاري (1853)، ومسلم (1100) من حديث عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغابت الشمس -فقد أفطر الصائم" ولكن سيأتي قريبًا إن شاء الله أنَّ معنى الآية والحديث، أنَّه قد دخل وقت الإفطار، لا أنَّه حصل الإفطار بالفعل.
***
549 -
وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أفْطَرَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَلْيُفْطِرْ عَلى مَاءٍ؛ فَإِنَّهُ طَهُورٍ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
أحدها: هذا الحديث الذي معنا، وقد علمنا من أخرجه من كلام المصنف.
الثاني: حديث أنس مرفوعًا، بلفظ:"كان يحب أن يفطر على ثلاث تمرات، أو شيء لم تصبه النار". أخرجه العقيلي في الضعفاء؛ والضياء المقدسي (5/ 131).
الثالث: حديث أنس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يجد، فعلى تمرات، فإن لم يجد تمرات، حسا حسوات من ماء" رواه أبو داود (2009) والترمذي (632) وقال: حسن غريب، وهذا أصح الأحاديث الثلاثة، فهو حديث حسن، فقد حسَّنه الترمذي، وصححه أبو حاتم والحاكم، ووافقه الذهبي.
(1) أحمد (15637)، أبو داود (2355)، الترمذي (658)، النسائي في الكبرى (2/ 254)، ابن ماجه (1699)، ابن خزيمة (3/ 278)، ابن حبان (3514)، الحاكم (1575).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جاء الحديث من رواية الترمذي (632) وأبو داود (2009) عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات، فإن لم يجد، فعلى تمرات، فإن لم يجد، حسا حسوات من ماء".
2 -
وفيه الحديث استحباب الإفطار على رطب، فإن لم يجد فتمر، فإن لم يجد فماء.
3 -
قال ابن القيم في "الطب النبوي": وهذا من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه، فإنَّ التمر مقوٍّ للكبد ملين للطبع، وهو من أكثر الثمار تغذية للبدن، وأكله على الريق يقتل الدود، فهو فاكهة، وغذاء، ودواء، وحلوى.
وقال الدكتور صبري القباني: التمر غني بعدد من أنول السكر، فهو يتحلل رأسًا إلى الدم فالعضلات؛ ليهبها القوة.
وقد أثبت الطب الحديث صحة سنة الرسول الأعظم في الصيام والإفطار، فالصائم يستنفد السكر المكتنز في خلايا جسمه، وهبوط نسبة السكر في الدم عن حدها المعتاد، هو الذي يسبب ما يشعر به الصائم من ضعف وكسل، وروغان في البصر، لذا كان من الضروري أن نمد أجسامنا بمقدار وافر من السكر ساعة الإفطار، لتعود إليه قواه سريعًا.
4 -
قال محرره عفا الله عنه: فمثل هذا الحديث من الإعجاز العلمي، الذي اكتشف في كثير من نصوص الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، مما يثلج قلب المؤمن، بأنَّه تنزيل من حكيم خبير.
5 -
قوله: "فإن لم يجد، فليفطر على ماء-: فإنَّه طهور" الطهور هنا المراد به -والله أعلم-: أنَّ الماء مطهر للمعدة والأمعاء، وهذا الآن حقيقة علمية طبية، فإنَّ الأطباء ينصحون، ويوصون بشرب الماء على الفرك، ويقولون: إنَّه يغسل المعدة والأمعاء، ويعدل طبيعة الإنسان.
550 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عنِ الوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ: فَإنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: وَأَيُّكُّمْ مِثْلِي؛ إِنِّي أَبِيْتُ يُطْعِمُنِي رَبَيّ وَيَسْقِينِي، فَلَمَّا أبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الهِلَالَ، فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ الهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ، كالمُنكِّلِ لَهُمْ حَينَ أبَوْا أنْ يَنْتَهُوا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الوصال: -بكسر الواو وفتح الصاد المهملة- مأخوذ من: الوصل، والمراد هنا: مواصلة الصيام اليومين فأكثر، من غير إفطار بالليل.
- المنكِّل -بضم الميم وفتح النون ثم كاف مشددة-: المعاقب لهم بما يردعهم عن مثل صنيعهم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الشريعة الإسلامية سمحة ميسرة، لا عنت فيها ولا مشقة، ومشرعها الحكيم الرحيم يكره الغلو، في الزيادة على المشروع، ولما فيه من تعذيب النفس، فلا يكلف الله نفسًا إلَاّ وسعها.
2 -
التيسير في العبادة والتسهيل أبقى للعمل، وأبعد عن السأم، وأقرب إلى العدل، فالمسلم لربه عليه حق، ولنفسه عليه حق، ولأهله عليه حق، والعدل إعطاء كل ذي حق حقَّه.
(1) البخاري (1965)، مسلم (1103).
3 -
يدل الحديث على تحريم الوصال بالصيام اليوم واليومين.
4 -
جوازه للقادر عليه إلى السحر، وتركه أولى لتفويته فضيلة تعجيل الفطر عند تحقق الغروب.
5 -
رحمة الشارع الحكيم الرحيم بالأمة؛ إذْ حرَّم عليهم ما يضرهم، ويُضعف قواهم.
6 -
الحكمة -والله أعلم- في النهي عن الوصال: هو ما يحصل به من الضعف والسآمة، والعجز عن المواظبة على كثير من وظائف الطاعات، والقيام بحقوقها.
7 -
النَّهي عن الغلو في الدين؛ فإنَّ الشريعة المحمَّدية هي الشريعة السمحة المقسطة.
8 -
أنَّ التكاليف الشرعية شرعت بقدر طاقة الإنسان، فهي مقدرة من الرب الحكيم العليم.
9 -
أنَّ الوصال من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وحده، لأنَّه الذي يقدر عليه، بلا كلفة ولا مشقة، ولا يلحقه في هذا المقام أحد؛ لأنَّ له مناجاة واتصالاً لا يصل إليهما غيره.
10 -
أنَّ غروب الشمس وقت للإفطار، ولا يحصل به الإفطار، وإلَاّ لما كان للوصال معنى إذا أفطر بغروب الشمس، وأما معنى الحديث الذي في البخاري (1853) ومسلم (1100):"إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا -فقد أفطر الصائم"؛ فإن المراد به: أنَّه دخل في وقت الإفطار، ويؤيده رواية البخاري:"فقد حل الإفطار"، ولو كان المراد به أنَّه أفطر فعلاً، لما صار معنًى لاستحباب تعجيل الفطر، وكراهية الوصال.
11 -
يدل الحديث على أنَّ ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ثابت في حق أمته إلَاّ ما خصَّه الدليل، ووجهه من الحديث قول الصحابة:"فإنَّك تواصل" لما
نهاهم عن الوصال.
12 -
أنَّ للنَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خصائص ليست لأمته، وقد صنَّف فيها العلماء كتبًا، أوسعها "الخصائص الكبرى" للسيوطي.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في الطعام والشراب المذكورين في الحديث على قولين:
أحدهما: أنَّه طعام وشراب حسيٌّ؛ تمسُّكًا بلفظ الحديث.
الثاني: أنَّه ما يفيض على قلبه صلى الله عليه وسلم من لذيذ المناجاة والمعارف، فإنَّ توارد هذه المعاني الجليلة على القلب تشغله عن الطعام والشراب، فيستغني عنهما.
ولو كان طعامًا حسيًّا لم يكن مواصلاً، ولم يقل صلى الله عليه وسلم:"لست كهيئتكم".
وهذا أرجح القولين، وقد بسط القول فيه ابن القيم في "زاد المعاد".
واختلفوا في حكم الوصال على ثلاثة أقوال: محرم، ومكروه، وجائز مع القدرة.
فذهب إلى جوازه: عبد الله بن الزبير، وبعض السلف، ومنهم عبد الرحمن ابن أبي ليلى، وإبراهيم النخعي، وأبو الجوزاء.
وذهب إلى تحريمه: الأئمة الثلاثة.
وذهب الإمام أحمد إلى التفصيل في ذلك: فهو جائز إلى السحر، مع أنَّ الأولى تركه، ومكروه أكثر من يوم وليلة.
استدل المجيزون: بأنَّه صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه يومين، فهو تقرير لهم عليه، فإذا لم يُرِد المواصل التشبه بأهل الكتاب وأهل البدع، ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر، لم يُمنع من الوصال.
واستدل المحرمون: بأنَّ النَّهي يقتضي التحريم.
وأما مواصلته بأصحابه: فلم يقصد التقرير، وإنما قصد التنكيل، كما هو
في بعض ألفاظ الحديث.
والتفصيل الذي ذهب إليه أحمد وبعض السلف: قال عنه ابن القيم: إنَّه أعدل الأقوال؛ لما في البخاري (1827) من حديث أبي سعيد: "لا تواصلوا، وأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر".
***
551 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَع قَوْلَ الزُّورِ، وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ -فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَع طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، واللَّفْظُ لَهُ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- من لم يدع: توارد على الفعل جازمان، والعامل في الفعل هو الثاني المباشر، أما الأول فيكون عاملاً في المحل.
- يدع: من ودعته أدعه ودعًا: تركته، وأصل المضارع الكسر، ومن ثم حذفت الواو، ثم فتح لمكان حرف الحلق.
قال بعض المتقدمين: إن "ودع" من الأفعال التي أماتت العرب ماضيه، فلا يأتي إلَاّ أمرًا ومضارعًا، والمعنى: لم يترك، والحق أنَّ ماضيه لم يمت، وإنما هو كما قال في "المصباح": قليل الاستعمال، وإلَاّ فقد قرىء قوله تعالى:{مَا وَدَّعكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] بالتخفيف.
وقال الشاعر: "غَالبه في الحب حتى ودعه" بالتخفيف.
وجاء مصدرًا في قوله صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجُمُعَات"[رواه مسلم (865)].
- الزور: -بضم الزاي وسكون الواو آخره راء مهملة-: هو كل كلام مائل عن الحق، ومنه الكذب والبهتان، ومن أعظمه الشهادة الكاذبة في أخذ باطل، أو إبطال حق.
- والعمل به: أي: العمل بمقتضى ما نهى الله عنه من شهادة الزور، وما نهى الله عنه.
(1) البخاري (6057)، أبو داود (2362).
- الجهل: السفه، من شتم وسب وقذف، وهو ضد الحلم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قول الزور هو القول المائل عن الحق إلى الباطل، فيدخل فيه كل كلام محرَّم: من الكذب، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والسب والشتم وغير ذلك.
2 -
فكل قول زور فهو محرَّم في كل زمان ومكان، ولكن يعظم ويشتد إثمه إذا كان في زمان فاضل كرمضان، ومكان فاضل كالحرمين، وحالة فاضلة كالصيام.
3 -
أما الجهل فهو ضد الحلم من السفه بالكلام الفاحش، فهو أيضًا محرَّم على كل حال، وحرمته من الصائم أعظم وأشد.
4 -
أنَّ الصيام مع قول الزور والجهل والسفه ناقص المعنى، قليل الأجرة لأنَّه ليس صومًا تامًّا كاملاً، ولو كان كذلك لصان صاحبَه عن الأقوال المحرَّمة، وفضول الكلام.
5 -
قوله: "فليس لله حاجة في أنَّ يدع طعامه وشرابه" -يراد به: بيان عظم ارتكاب قول الزور والجهل في حال الصيام، وإلَاّ فالله تعالى غني عن العالمين وأعمالهم.
6 -
الصيام مع الكلام المحرم ظاهره الصحة، وأداء الواجب عن صاحبه؛ إذ أنَّه ليس من المفطرات الحسية.
قال في "الإقناع": ولا يفطر بغيية ونحوها.
قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ الكذب والغيبة يكرهان للصائم، ولا يفطرانه، فصومه صحيح في الحكم، وهذا مبنيٌّ على قاعدة هي: أنَّ التحريم إذا كان عامًّا لا يختص بالعبادة، فإنَّه لا يبطلها، بخلاف التحريم الخاص.
7 -
من آداب الصائم ما قاله في "الإقناع": ويجب اجتناب كذبٍ، وغيبةٍ، ونميمةٍ، وشتمٍ، وفحشٍ، ونحوه، كل وقت، وفي رمضان، ومكان فاضل آكد، وألا يعمل عملاً يجرح به صومه، فيكف لسانه عما يحرم ويكره، وإن
شُتِمَ سن له جهرًا في رمضان أن يقول: إني صائم، وفي غير رمضان يقولها سرًّا، يزجر نفسه بذلك خوف الرياء.
ويستحب الإكثار من قراءة القرآن، والذكر، والصدقة، لتضاعف الحسنات به.
8 -
قوله: "فليس لله حاجة
…
" فيه إثبات الحكمة من الشرائع، وأنَّ منها تهذيب النفوس، وتقويم الأخلاق، واستقامة الطباع، كما قال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
9 -
المقصود من شرعية الصيام ليس نفس الامتناع عن المفطرات، والجوع والعطش، بل ما يتبع ذلك من كسر الشهوات، وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفس الأمارة حتى تصير مطمئنة، فإن لم يحصل له شيء من ذلك لم يبال الله بصومه، ولا ينظر إليه نظر قبول.
* فوائد:
الأولى: قال إبراهيم النخعي: تسبيحة في رمضان خير من ألف تسبيحة فيما سواه، وأخبار مضاعفة الأعمال الصالحة في رمضان متظاهرة.
الثانية: جاء في البخاري (5672)، ومسلم (47) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت".
فيسن للصائم أن يسعى في حفظ لسانه عن جميع الكلام، إلَاّ ما ظهرت مصلحته.
الثالثة: جاء في البخاري (1805)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم".
وظاهر الحديث أنَّه يجهر بذلك، واختاره الشيخ، وليس مختصًّا بالصائم، لكنه في حقه آكد.
552 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلَ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبِاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلكنَّهُ كَانَ أمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ:"في رَمَضَانَ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- يباشر: المباشرة مأخوذة من: البشرة، وهو ظاهر الجلد، ويراد بها هنا: القُبلة، واللمس لشهوة، وهو من عطف العام على الخاص، فالخاص القبلة، والعام المباشرة.
- إربه: بكسر الهمزة وسكون الراء المهملة وكسر الباء الموحدة التحتية، المراد به هنا: الذكر خاصة، والمعنى: أنَّه كان غالبًا لشهوته.
قال النووي: رويت هذه اللفظة بكسر الهمزة وإسكان الراء، وبفتح الهمزة والراء، ومعناها بالكسر: الحاجة، وكذا بالفتح، ولكنه أيضًا يطلق على العضو، وأريد به الذكر من الأعضاء خاصة.
- أملككم: من ملك يملك مُلكًا وملَكَة، وأملك اسم تفضيل، قال في "المحيط": ملك نفسه عند شهوتها؛ أي: قدر على حبسها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على جواز تقبيل الرجل زوجته، وهو صائم في رمضان، ولكنه يقيد بما إذا كان الإنسان يعلم من نفسه أنَّ القبلة لا تحرك شهوته.
2 -
كما يدل على جواز مباشرة الرجل زوجته، وهو صائم، بقيد ثقته من نفسه، بعدم ثوران شهوة واحد منهما.
(1) البخاري (1927)، مسلم (1106).
3 -
قال في "الإقناع وشرحه": وتكره القبلة ممن تحرك شهوته فقط؛ لحديث عائشة، فإن ظنَّ الإنزال مع القبلة حرم بغير خلاف.
ولا يكره ممن لا تحرك شهوته، وكذا دواعي الوطء كلها: من اللمس، وتكرار النظر، حكمها حكم القبلة.
ويؤيد هذا التفصيل: ما جاء في أبي داود (2387) من أنَّه صلى الله عليه وسلم نهى عنها شابًّا، ورخَّص فيها لشيخٍ، وقد قال الإمام الشافعي: لا بأس بها إذا لم تحرك شهوته.
4 -
النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم، ولكنه أملك الناس لنفسه من أن يحصل من قبلته إنزال، أو هيجان نفس، فقد قالت عائشة رضي الله عنها:"ولكنه كان أملككم لإربه".
5 -
جواز الحديث والإخبار عن الأشياء التي يستحيى منها؛ وذلك لإظهار الحق فيها، أو بيان للطبيب المعالج، أو ذكر لك في مجال القضاء، وفصل الخصومات، والتعليم.
6 -
فائدة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبركتهن على الأمة، فقد نقلن من الأحكام الشرعية ما لا يطلع عليه إلَاّ هنَّ.
7 -
لو قبَّل أو باشر فأنزل، فمذهب الأئمة الأربعة أنَّه يفطر، وحكى الإجماع في ذلك ابنُ المنذر والموفق ابن قدامة وغيرهما، وهو الصواب؛ لما جاء في الحديث القدسي:"يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي".
8 -
أما خروج المذي من المباشرة، فالمشهور من المذهب أنه يفطر، وعليه أكثر الأصحاب، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد أنه لا يفطر بالإمذاء، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، واختاره الشيخ تقي الدين، واستظهره في "الفروع"، وصوبه في "الإنصاف"، وذلك عملاً بالأصل، وأما قياسه على المني، فلا يصح لظهور الفروق بينهما، فالأقسام ثلاثة إذن:
(أ) المباشرة أو التقبيل بدون إنزال مني، ولا مذي، لا تفسد الصوم بالإجماع.
(ب) المباشرة والتقبيل مع إنزال المني تفسد الصوم، حُكي في ذلك الإجماع.
(ج) المباشرة أو التقبيل مع إنزال المذي دون المني، فيه خلاف، والراجح أنَّه لا يفسد الصوم.
9 -
قولها: "كان أملككم لإربه" تشير به إلى أنَّ الذي لا يملك إربه، ولا يستطيع أن يملك شهوته عند القبلة أو المباشرة، أنه لا يحل له أن يقبل أو يباشر، وهو صائم صومًا واجبًا.
10 -
في الحديث دليل على جواز ذكر الأحوال الجنسية عند الحاجة إلى ذكرها، من إظهار حق، وفقه في الدين، ومن وصف لطبيب ونحو ذلك، وأنه لا يعاب ذاكر ذلك للمصلحة.
11 -
الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما ذكرت أنواع الشهوة مترقية من الأدنى إلى الأعلى، فبدأت بالقُبلة ثم ثنت بالمباشرة.
***
553 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
554 -
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالبَقِيعِ، وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: أفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ (2).
ــ
* مفردات الحديث:
- البقيع: -بفتح الباء وكسر القاف بعدها ياء مثناة تحتية ثم عين مهملة- وهو مقبرة أهل المدينة.
…
(1) البخاري (1938).
(2)
أحمد (16489)، أبو داود (236)، النسائي في الكبرى (3144)، ابن ماجه (1681)، ابن خزيمة (1964)، ابن حبان (3533).
555 -
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "أَوَّلُ مَا كُرِهَتِ الحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ؛ أنَّ جَعْفَرَ بْنَ أبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أفْطَرَ هَذَانِ، ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بعْدُ فِي الحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ؛ وَكَانَ أنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَوَّاهُ (1).
ــ
* درجة الحديثين:
الحديثان (554، 555) صحيحان.
قال الإمام أحمد والبخاري عن حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم": إنَّه أصح حديث في الباب، وقال الإمام أحمد: أحاديث "أفطر الحاجم والمحجوم" يشد بعضها بعضًا، وقال الطحاوي وغيره: هي أحاديث متواترة عن عدة من الصحابة، وقال شيخ الإسلام: الأحاديث الواردة كثيرة قد بيَّنها الأئمة الحفاظ، وقال ابن القيم في "شرح سنن أبي داود": الثابت أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، وأما قوله:"وهو صائم" فإنَّ الإمام أحمد قال: لا تصح هذه اللفظة وبيَّن أنَّها وهمٌ، ووافقه غيره في ذلك، والذي في الصحيحين:"احتجم وهو محرم". اهـ.
وقال في "المغني": حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" -رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفسًا.
أما حديث شداد بن أوس: فصحَّحه غير من ذكر، مثل إسحاق وابن المديني وابن خزيمة والحاكم وعثمان الدارمي، وقال الزيلعي: إنَّه روي عن
(1) الدارقطني (2/ 182).
ثمانية عشر صحابيًّا، وممن صححه ابن عبد البر وابن حزم.
وقال الذهبي: قوله: "بالبقيع" خطأ فاحش؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يوم التاريخ المذكور في مكة، اللَّهمَّ إلَاّ أن يريد بالبقيع: السوق.
وأما حديث أنس: فقال الدارقطني: رجاله كلهم ثقات، ولا أعلم له علة، وقال الحافظ: رجاله كلهم رجال البخاري.
وأما من ردَّه: فمنهم صاحب "التنقيح"، فقد قال: هذا حديث منكر لا يصح الاحتجاج به؛ لأنَّه شاذُّ المتن والإسناد، وضعفه ابن القيم، ففيه نكارة حيث جاء فيه: أنَّه صلى الله عليه وسلم مرَّ بجعفر يوم الفتح وهو يحتجم، وجعفر قد استشهد قبل الفتح يوم مؤتة.
* مفردات الحديث:
- بَعْدُ: مبني على الضم؛ لقطعه عن الإضافة مع نية المضاف إليه؛ أي: بعد ذلك.
- الحجامة: يقال: حجم حجمًا من باب قتل، والحِجامَة بالكسر: اسم الصناعة.
قال في "المحيط": وهي أن يشرط الجلد بالمشراط، ثم يلقي في المحجمة قرطاس ملتهب أو قطن ونحوه، ويلزم بها مكان الشرط فيجب الدم بقوة، وفائدتها جذب المادَّة إلى جهتها، واستفراغ الدم بقوة الامتصاص.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
ظاهر الحديث رقم (553) جواز الحجامة للمحرم بحج أو عمرة، وجواز الحجامة للصائم فرضًا، أو نفلاً.
2 -
الإمام أحمد وغيره من رجال الفقه والحديث طعنوا في زيادة: "وهو صائم"، وقالوا: الثابت: "احتجم وهو محرم".
قال ابن القيم في "شرح السنن": الثابت: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم"، أما وهو صائم فإنَّ الإمام أحمد قال: لا تصح هذه اللفظة، ووافقه غيره في ذلك، والذي في الصحيحين:"وهو محرم".
3 -
أما الحديث رقم (554): فإنَّه صريح في أنَّ الحجامة تفسد صوم الحاجم والمحجوم.
4 -
أما الحديث رقم (555): فيدل على كراهة الحجامة للصائم، وعلى أنَّها تفطر الحاجم والمحجوم في أول الأمر، ثم رخَّص فيها في آخر الأمر.
5 -
الكراهية عند السلف يراد بها: كراهة التحريم.
6 -
الحكمة في إفطار المحجوم: أنَّ الحجامة تسحب الدم الذي في بدن الصائم، مما يسبب له إنهاكًا وضعفًا، مع ضعف الصيام، فمن رحمة الله تعالى بعباده أنَّ صارت الحجامة تفطر؛ لئلا يجتمع على المسلم الصائم عاملا ضعف في آنٍ واحد.
وأما سبب إفطار الحاجم: فقد كانت الحجامة بأن يمص الحاجم الدم بواسطة محاجمه، فيصل إلى جوفه من دم الحجامة، مما يسبب له الإفطار.
7 -
مثل الحجامة في الإفطار فصد العرق، وسحب الدم الكثير بواسطة الإبر المستعملة في المستشفيات، بجامع أنَّ كل هذا إخراج للدم من البدن، وإخراجه يسبب الإنهاك والضعف للصائم، مما يسبب إفطار الصائم.
والإفطار بالفصد، وسحب الدم -على القول الراجح، الذي اختاره شيخ الإسلام- مقتضى القياس.
8 -
خروج الدم اليسير من خلع ضرس، أو سحب عينة دم لتحليل، أو جرح، ونحو ذلك- لا يفطر الصائم.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في الحجامة: هل تفطر الصائم، أم لا؟
ذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّها لا تفطر؛ لما روى البخاري عن ابن عباس: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم".
ورخَّص في الحجامة: أبو سعيد، وابن مسعود، وأم سلمة، والحسين بن
علي، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير.
وذهب الإمام أحمد إلى: أنَّ الحجامة تفطر؛ لما في المسند والترمذي من حديث رافع بن خديج أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر الحاجم والمحجوم".
قال أحمد والبخاري: إنَّه أصح حديث في الباب.
ولأبي داود عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، قال الإمام أحمد: أحاديث "أفطر الحاجم والمحجوم" يشد بعضها بعضًا، وأنا أذهب إليها.
قال الطحاوي وغيره: هي أحاديث متواترة عن عدة من الصحابة.
قال شيخ الإسلام: الأحاديث الواردة كثيرة قد بيَّنها الأئمة الحفاظ، والقول بأنَّها تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث، كأحمد، وإسحاق، وابن خزيمة، وابن المنذر، وهو الموافق للقياس، والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما في صحيح البخاري (1836):"أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرَّم".
ولكن أحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة، وهي قوله:"وهو صائم"، وقالوا: الثابت "أنَّه احتجم وهو محرم"، قال أحمد:"وهو صائم" خطأ من قبيصة.
قال شيخ الإسلام: وما ذكره أحمد هو الذي اتَّفق عليه الشيخان.
وأحاديث الفطر صريحة صحيحة متعددة الطرق، رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر نفسًا، وساق الإمام أحمد أحاديثهم كلها، فكيف يقدم عليها أحاديث هي بين أمرين: صحيحٌ لا دلالة فيه، أو فيه دلالةٌ، ولكن غير صحيح.
والصواب الفطر بالحجامة والفصد والتشريط، وسحب الدم الكثير من البدن الموجود في الحجامة موجودٌ في هذه الأشياء طبعًا وشرعًا.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهما من المحققين، رحمهم الله تعالى.
* فوائد:
الأولى: أجمع العلماء على أنَّ الأكل والشرب والجماع مفطرات.
واختلفوا في الحجامة، والكحل، والإنزال بدون جماع، والإمذاء، ونحو ذلك، وقد تقدم تفصيل ذلك.
الثانية: تقدم لنا أنَّ سحب الدم الكثير يفطر الصائم، كالحجامة -على القول الراجح- فلو فرضنا أنَّ مريضًا مضطرًا إلى إسعافه بالدم قبل المغرب، فإنَّه يباح لمن يراد سحب الدم منه الفطر بالسحب؛ لأجل إنقاذ المعصوم.
الثالثة: إذا جيء بالعبادة على المقتضى الشرعي، فادَّعى أحد فسادها أو بطلانها، فإنَّ عليه الدليل على ذلك، وإلَاّ فقوله لا يقبل بنقص عبادة، أو بطلانها ظاهرها الصحة إلَاّ بدليل.
الرابعة: إنَّ الشارع إذا شرع عبادة بيَّن أركانها وشروطها وواجباتها، حسبما اصطلح عليه علماء الأصول، كما بين مبطلاتها ومفسداتها، فإنَّ الأشياء لا تتم إلَاّ ببيان ما يكملها، وما يفسدها، وما يبطلها.
إذن فلا يحل لأحد أن يدَّعي بطلان أو فساد عبادات الناس من تلقاء نفسه، أو بحكم يفرضه من عنده، فإنَّ هذا اعتداء على الخلق في عبادتهم، وعدوان في حق الخالق في شرعه.
556 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ صَائِمٌ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ فِي هَذا البَابِ شَيءٌ (1).
ــ
* أحاديث الاكتحال:
وردت أحاديث تجيز الاكتحال للصائم، وأحاديث تمنع الصائم منه، وبناءً على هذا التعارض، فقد رخص فيه بعض العلماء، ومنهم الإمام الشافعي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهم.
ومنعه بعضهم، ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق، وسفيان، وابن المبارك.
والأحاديث التي تجيز الاكتحال للصائم، والأحاديث التي تمنع منه -كلها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة للطرفين، وهذا طرف منها:
1 -
حديث عائشة: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اكتحل وهو صائم".
قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء، وقال ابن القيم في "الهدي": روي عنه: "أنه اكتحل وهو صائم"، ولا يصح.
2 -
حديث ابن عمر: "أنَّه صلى الله عليه وسلم خرج عليهم في رمضان، وعيناه مملوءتان من الإثمد".
رواه الترمذي، وقال: ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء، قال ابن القيم في الهدي: لا يصح.
3 -
حديث معبد بن هوذة: "أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم أمر بالأثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم"[رواه أبو داود (2377)]، قال أحمد: حديث منكر، وقال ابن
(1) ابن ماجه (1678).
معين: هذا حديث منكر، وقال ابن عدي: هذا حديث موقوف، وقال البيهقي: لا يثبت مرفوعًا، وقال ابن القيم: لا يصح.
وإذا لم تثبت الأحاديث المجيزة، ولا الأحاديث المانعة -فالصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء من استصحاب البراءة الأصلية، التي لا ننتقل عنها إلَاّ بدليل، وليس في الباب دليلٌ على الإفطار بالكحل، والله أعلم.
* فائدة:
المفطرات قسمان:
الأول: مُجمع عليه بين العلماء وهو:
1 -
الردة عن الإسلام؛ قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].
2 -
الأكل والشرب عمدًا، ومنه الدخان؛ قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
3 -
الجِماع؛ وهو تغييب حشفة الذكر في فرج، قبلاً كان أو دبرًا، ولو في بهيمة، فيفطر كل من الواطىء والموطوء المطاوع؛ لما في البخاري (1834) ومسلم (1111) من حديث أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكتُ، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أنَّ تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا
…
" الحديث.
4 -
إنزال المني باختياره بمباشرة بما دون الفرج كاللمس، أو القُبلة، أو الغمزة، ونحوها، أو المساحقة، أو الاستمناء؛ لأنَّ نزول الشهوة منافية للصوم وحكمته.
5 -
خروج دم الحيض والنفاس.
6 -
الحقنة المغذية التي يُسْتغنى بها عن الطعام والشراب، فهذا نوع من الغذاء، ومثل ذلك حقن الصائم بالدم؛ فإنَّه يمد الجسم بعناصر الغذاء المغنية عن
الطعام والشراب.
7 -
القيء إذا أخرجه متعمدًا؛ لما روى أبو داود (2380) والترمذي (720) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "من" استقاء عمدًا، فليقضِ".
هذه هي الأشياء المجمَع على أنَّها من مفسدات الصوم، ومفطرات الصائم، وتقدم صحة القول بالفطر من الحجامة، وما شابهها من تعمد إخراج الدم الكثير من البدن.
النوع الثاني: أشياء اختلف العلماء فيها: فبعضهم يرى أنَّها تصل إلى الجوف، وأنها مفطرةٌ، ومفسدةٌ للصوم، وبعضهم يرى أنَّها ليست من الطعام والشراب والغذاء، وأنَّه ليس لها تأثير في التغذية، وإعطاء الجسم فصيبًا من الغذاء، وأنَّه لا يوجد ما يدل على أنَّها من أنواع المفطرات، فلا تفطر، ذلك مثل:
الكحل، قطرة العين، قطرة الأذن، قطرة الأنف، الحقنة الشرجية، التقطير في الإحليل، إبرة الدواء، دواء الربو الذي يستنشقه المريض، دواء الجائفة والمأمومة، وبلع النخامة من أي موضع خرجت من البدن.
اختلف العلماء في الإفطار بهذه الأشياء، وفساد الصوم بها: فبعضهم يراها كلها مفطرةً للصائم؛ لما لها من نفوذ في البدن، ووصول إلى الجوف، وبعضهم يرى أنَّ بعضها يفطر، ويفسد الصوم.
وهذا الاختلاف راجع إلى اجتهادهم فيها، وتصورهم فيما تحدثه في بدن الصائم، واعتبارهم كل ما وصل إلى الجوف فهو مفطر مفسد للصوم، فممن يرى الإفطار بهذه الأشياء كلها القول المشهور في مذهب الإمام أحمد، فأصحابه مشوا في إجراء كل ما وصل إلى الجوف من أي موضع نفذ مجرى المفطرات.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وكثير من رجال الحديث ممن تمسكوا بالآثار-: فلا يرون الفطر من هذه الأشياء وأمثالها.
استدل القائلون بالإفطار بهذه الأمور على قولهم بأمرين:
الأول: ما رواه أبو داود (142)، والترمذي (788) من حديث لقيط بن صبرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"وبالغ في الاستنشاق، إلَاّ أن تكون صائمًا".
الثاني: القياس، فقد قاسوا هذه الأمور على الأكل والشرب، بجامع وصولها إلى الجوف، فإنَّما حصل بالأكل والشرب لوصوله إلى الجوف، وهذه الأمور لها نفوذ وقوة تصل بهما إلى الجوف، وكل ما وصل إلى الجوف فهو مفطر للصائم.
الجواب عن هذا:
أولاً: أنَّه لا يوجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث صحيح، ولا ضعيف، ولا مسند، ولا مرسل، يدل على أنَّ هذه الأمور من المفطرات.
ثانيًا: إنَّ الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لابد أن يبينها النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا، ولابد أنَّ تنقله الأمة، فإذا انتفى هذا، عُلِم أنَّ هذا ليس من دينه، فالقياس وإن كان حجة، فالأحكام الشرعية التي الأمة بحاجة ماسة إلى بيانها لا تترك للقياس، وإنما تبينها النصوص الشرعية.
ثالثًا: النص والإجماع أثبت الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض، فأما الكحل والحقنة والدواء والقطرة، ونحو ذلك فليست طعامًا ولا شرابًا، وإنما هي أدوية لمكافحة الأمراض، ومقاومة الجراثيم، فهي أشياء مبيدة لا أشياء مغذية مفيدة، والعلة الشرعية في الإفطار ليست هي مجرد وصول أية مادَّة إلى الجوف لتكون مناط الحكم، فتلحق هذه الأمور بما يصل إلى الجوف من الطعام والشراب، وإنما يكون الإفطار من أحد الأمرين:
1 -
إما وصول طعام أو شراب إلى المعدة ليمد الجسم بالتغذية، ويحصل به الأكل والشرب، فيتولد الدم الكثير الجاري في الأوراد والشرايين، التي يجد الشيطان مجاله فيها واسعًا، فيجري معها بإغواء بني آدم ووسوسته لهم، فمناط
الإفطار ليس وصول الشيء إلى الجوف أو الحلق، إنما مناط الحكم أن يصل الشيء إلى المعدة، وششحيل إلى ما يتغذى به الإنسان، فيكون أكلاً وشربًا.
2 -
وإما خروج أشياء منكهة للجسم ومضغفة له، فتزيده ضعفًا إلى ضعف الصيام؛ وذلك كالجماع، والحجامة والحيض والنفاس، والقيء، فمنع الشارع الصائم منها رحمةً به، وشفقةً على قواه؛ لئلا يزيد ضعفه إلى ضعف آخر.
فهذان العنصران هما أساس الإفطار، وهذه الأمور ليست واحدًا منهما، ولا يمكن قياسها عليهما؛ إذ لا يجمع بين متفرق.
رابعًا: حديث لقيط بن صبرة لا دلالة فيه، فإنَّ المحذور من المبالغة في الاستنشاق هو وصول الماء إلى الحلق، ثم إلى المعدة؛ فإنَّ الأنف ينفذ إلى المعدة، ولذا فإنَّ كثيرًا من المرضى يطعم من أنفه إلى معدته، والماء من المجمع عليه أنَّه من المفطرات، فالتحذير من الماء واقع موقعه، والماء ليس مثل هذه الأمور، ولا تقاس عليه كما تقدم، والله أعلم.
***
557 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ". مُتَّفَقٌ عليْهِ.
وللحاكم: "مَنْ أفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا، فَلَا قَضَاءَ عَلَيهِ، وَلَا كفَّارَةً". وَهُوَ صَحِيحٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
فقد رواه الحاكم وصححه.
قال المؤلف: وهو صحيح، قال الشيخ الألباني: الرواية الرابعة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة بلفظ؛ "من؛ أفطر في شهر رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفارة" أخرجه ابن حبان (3521) والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأخرجه الدارقطني (2/ 178) والبيهقي (7863) وقالا: كلهم ثقات، قلتُ: وإسناده حسن.
* مفردات الحديث:
- فليتم صومه: "اللام" لام الأمر، والميم مفتوحة؛ لأنَّه مضاعف.
- فإنما: تعليل لكون الناسي لا يفطر، ووجه ذلك: أنَّ الرزق لما كان من الله ليس فيه للعبد تحيل، فلا ينسب إليه، شبَّه الأكل ناسيًا به؛ لأنَّه لا صنع للعبد فيه.
- إنما: أداة حصر، ومعناها: ما أطعمه، ولا سقاه إلَاّ الله؛ ليدل على أنَّ النسيان من الله، وأنَّه من لطفه بعباده.
(1) البخاري (1933)، مسلم (1155)، الحاكم (1569).
558 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ذَرَعَهُ القَىْءُ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ، فَعلَيْهِ القَضَاءُ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَأَعلَّهُ أَحْمَدُ، وقَوَّاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن، حسنه الترمذي، وقد صححه ابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الدارقطني وعبد الحق: رجاله كلهم ثقات، وضعفه بعضهم، فقال البخاري: لا أراه محفوظًا، وأنكره الإمام أحمد، وقال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء.
* مفردات الحديث:
- ذَرَعَهُ القيء: بفتحات ثلاث، أي: سبقه وغلبه وقهره، ومثله قولهم: ضاق ذرعي عن كذا، أي: ضعفت قوتي، والقيء: ما قذفته المعدة.
- استقاء: طلب إخراج القيء من جوفه باختياره.
* ما يؤخد من الحديثين:
1 -
الحديثان يدلان على أنَّ الأكل والشرب القيء من العامد الذاكر المختار يفطر الصائم، ويفسد الصيام، وهو إجماع علماء المسلمين؛ لأنَّ الصيام هو الإمساك عن المفطرات زمنًا مخصوصًا.
2 -
أنَّ الأكل أو الشرب من الناس لا يفسد الصوم، ولا يفطر به الصائم، فقوله:"فليتم صومه" دليل على أنَّ هناك صومًا يتم، ويدل على هذا المعنى قوله
(1) أحمد (10058)، أبو داود (2380)، الترمذي (720)، النسائي في الكبرى (2/ 215)، ابن ماجه (1676)، الدارقطني (2/ 184).
تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] والنسيان ليس من كسب القلب.
3 -
معنى إطعام الله تعالى وإسقائه: أنَّ الله تعالى من لطفه يسَّر له هذه الأكلة أو الشربة، حينما أنساه صيامه وحاله، فصار هذا الرزق المباح مسوقًا من الله كما جاء في رواية الترمذي (721):"إنَّما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه"، فالنسيان والخطأ من الأفعال الضرورية التي لا تضاف مسؤولية حكمها، وما يترتب عليها إلى فاعلها، إلَاّ أنَّها في إتلاف ما للعباد تغرم، من باب سد الذريعة، ولأنَّ حقوق العباد مبنية على الشح والضمان.
4 -
كما أنَّ من أكل أو شرب ناسيًا لا قضاء عليه، فإنَّه أيضًا لا كفارة عليه؛ ذلك أنَّ الكفارة شرعت لتكفير الهفوات والذنوب، وترقيع النقص الذي حصل في العبادة، ومن فعل ذلك ناسيًا، فإنَّه لا ذنب عليه، ولا نقص في عبادته، لتحتاج إلى تكفير وترقيع، على أنَّ الكفارة عبادة من العبادات، ولا تشرع إلَاّ بنص من الشارع، ولم يوجد نص إلَاّ في الجِماع في صيام شهر رمضان، أداءً لحرمة الزمن نفسه.
5 -
قوله: "من ذرعه القيء، فلا قضاء عليه" -دليل على أنَّ الإكراه على الفطر لا يقع به إفطار؛ لأنَّه لا قصد منه ولا تعمد، فلا ينسب الفعل إليه، وقد جاء في الحديث:"عفي لأمتي عن: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه".
6 -
أما من استقاء وطلب خروجه، فعليه القضاء؛ لتعمده الفطر.
قال الشيخ: فقد نهى عن إخراج ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب الذي يتغذى به، كما يوجب إخراجه نقصان بدنه أو ضعفه، فإذا خرج منه ضرَّه، وكان متعديًا في عبادته، لا عادلاً فيها.
7 -
عدم الفطر بالأكل والشرب ناسيًا هو مذهب الأئمة الثلاثة، وجمهور العلماء، واعتذر بعض المالكية عن الأخذ بالحديث؛ بأنه خبر واحد
مخالف لقاعدة الإفطار.
ولكن قولهم مردود بالنص الصريح الصحيح الذي يؤيده قاعدة إسلامية مستقلة، أرساها كثير من النصوص الكريمة:{عَلِيمٌ (268)} [البقرة: 268] وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وحديث: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان".
وعدل الله تعالى أنه لا يؤاخذ إلَاّ من قصد وتعمد.
* اختلاف العلماء:
اختلف العلماء فيمن جامع ناسيًا: فالمشهور من مذهب الإمام أحمد وغيره: أنَّ عليه القضاء والكفارة؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل فيه الرجل الذي قال: هلكتُ، أما الرواية الأخرى عن الإمام أحمد: فلا قضاء عليه ولا كفارة؛ لأنَّ الكفارة ماحية للذنب، ومع النسيان والإكراه والجهل لا إثم يمحى.
قال ابن عبد البر: الصحيح أنَّ الجماع كالأكل في الإكراه والجهل، واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: هو قياس أصول أحمد وغيره.
وعليه فيكون قوله: "من نسي فكأل أو شرب" مثالان في الباب، ويؤيد هذا القول: رواية الحاكم (1557)، عن ابي هريرة:"من أفطر في رمضان ناسيًا، فلا قضاء عليه ولا كفارة" فلفظ: "أفطر" عام في الجماع وغيره.
وقوله: "ولا كفارة"، تفيد الجِماع؛ لأنَّ الكفارة لا تكون إلَاّ في الجماع، وإنما مثل بالأكل والشرب لكونهما الغالب في النسيان.
* فائدتان:
الأولى: المفطرات:
1 -
الجماع: وهو نفس تغييب الحشفة في قُبل أو دبُر، ولو لم يحصل إنزال، وهو أعظم المفطرات؛ لأنَّه يوجب مع القضاء الكفارة في الجملة.
2 -
إنزال المني باختياره، ولو بدون جماع.
3 -
الأكل والشرب، ومنه شرب الدخان.
4 -
الإبرة المغذية التي يقصد منها إيصال الغذاء إلى البدن؛ سواء كانت في العضل، أو الوريد.
5 -
إخراج الدم الكثير بالحجامة، أو الفصد، أو سحبه.
6 -
خروج دم الحيض والنفاس.
7 -
حقن الدم في البدن.
8 -
تعمد القيء.
الثانية: غير المفطرات:
1 -
الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات من الناسي.
2 -
الكحل، وتقطير الأنف أو الأذن، ودواء الجروح في أي مكان من البدن.
3 -
الإبرة التي يقصد بها إيصال الدواء إلى البدن؛ سواء في العضل؛ أو الوريد.
4 -
خروج المني أو المذي بغير اختياره.
5 -
دواء الربو باستنشاقه.
ونحو هذه الأشياء، فهي أمور فيها خلاف بين الفقهاء، ولكن الأرجح عدم الإفطار بها، فإنَّ شيخ الإسلام أرجع المفطرات كلها إلى نوعين:
أحدهما: أشياء تفيد البدن وتغذيه وتقويه، مثل الأكل والشرب، وما ناب عنهما.
الثاني: أشياء يحصل من خروجها من البدن ضعف له وإنهاك، فمُنعت رحمةً بالصائم؛ لئلا يجتمع عليه ضعف الصيام، وما ينهك بدنه، وذلكم مثل الجماع والحجامة.
لما ذكر الشيخ الأشياء التي اختلف العلماء في الإفطار بها مثل الكحل والحقنة -قال: إنَّ الصيام من دِين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد
الصوم بها لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلمه الصحابة، ولبلغوه، كما تلقوا سائر شرعه، فلما لما تبلغ، عُلِم أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يذكر شيئًا في ذلك.
* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن المفطرات في مجال التداوي: (رقم 93):
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23/ 28 صفر 1418 هـ الموافق 28/ حزيران "يونيو" 3/ تموز "يوليو" 1997 م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع المفطرات في مجال التداوي، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من (9/ 12 صفر 1418 هـ الموافق 14/ 17 حزيران "يونيو" 1997 م)، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، والنظر في الأدلة من الكتاب والسنة، وفي كلام الفقهاء.
قرر ما يلي:
أولا: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات:
1 -
قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
2 -
الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
3 -
ما يدخل المهبل من تحاميل "لبوس"، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع، للفحص الطبي.
4 -
إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم.
5 -
ما يدخل الإحليل، أي: مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى، من قسطرة "أنبوب دقيق" أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.
6 -
حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك، وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
7 -
المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
8 -
الحقن العلاجية الجلدية، أو العضلية، أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية.
9 -
غاز اكسجين.
10 -
غازات التخدير "البنج"، ما لم يعط المريض سوائل "محاليل" مغذية.
11 -
ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد؛ كالدهونات، والمراهم، واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية.
12 -
إدخال قسطرة "أنبوب دقيق" في الشرايين لتصوير، أو علاج أوعية القلب، أو غيره من الأعضاء.
13 -
إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء، أو إجراء عملية جراحية عليها.
14 -
أخذ عينات "خزعات" من الكبد، أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل.
15 -
منظار المعدة، إذا لم يصاحبه إدخال سوائل "محاليل"، أو مواد أخرى.
16 -
دخول أية أداة، أو مواد علاجية إلى الدماغ، أو النخاع الشوكي.
17 -
القيء غير المتعمد بخلاف المتعمد "الاستقاءة".
ثانيًا: تأجيل إصدار قرار في الصور التالية، للحاجة إلى مزيد من البحث
والدراسة في أثرها على الصوم، مع التركيز على ما ورد في حكمها من أحاديث نبوية، وآثار عن الصحابة.
(أ) بخاخ الربو، واستنشاق أبخرة المواد.
(ب) الفصد، والحجامة.
(ج) أخذ عينة من الدم المخبر للفحص، أو نقل دم المتبرع به، أو تلقي الدم المنقول.
(د) الحقن المستعملة في علاج الفشل الكلوي حقنًا في الصفاف "الباريتون"، أو في الكلية الاصطناعية.
(هـ) ما يدخل الشرج من حقنة شرجية، أو تحاميل "لبوس"، أو منظار، أو إصبع للفحص الطبي.
(و) العمليات الجراحية بالتخدير العام، إذا كان المريض قد بيت الصيام من الليل، ولم يعط شيئًا من السوائل "المحاليل" المغذية. والله أعلم.
***
559 -
وَعَنْ جَابِرِ بن عَبْدِ الله رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خرَجَ عَامَ الفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بلَغَ كُرَاعَ الغَمِيم، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فشَرِبَ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذلكَ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: أُولَئِكَ العُصَاةُ، أوْلَئكَ العُصَاةُ".
وَفِي لَفْظٍ: "فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ العَصْرِ، فَشَرِبَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- عام الفتح: المراد به: فتح مكة المكرمة؛ وذلك في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة.
- كُراع: بضم الكاف وفتح الراء المهملة، ثم ألف آخره عين مهملة، كراع كل شيء: طرفه، والكراع: ما سال مستطيلاً من أنف جبل أو حرة، جمعها: كرعان.
- الغميم: بفتح الغين المعجمة وكسر الميم ثم ياء ساكنة آخره ميم، وكراع الغميم: وادٍ على طريق مكة المكرمة إلى المدينة المنورة يبعد عن مكة بـ (64) كيلو متر، ويعرف عند أهل تلك الجهة ببرقاء الغيم، وهو وادي عسفان، وينتهي مصبه في البحر الأحمر، في الشمال الغربي من جدة.
(1) مسلم (1114).
- أولئك العصاة: جمع: عاص، والعاصي هو المخالف للأمر الخارج عن الطاعة، وسماهم عصاة؛ لأنهم شددوا على أنفسهم، ولم يقبلوا الرخصة.
- قدح: بفتحتين، هو إناء يشرب فيه الماء ونحوه.
- أولئك العصاة: كررها تأكيدًا لزجرهم عن مخالفة الحكم الذي بالغ في بيانه برفع الإناء حتى يراه الناس، فيبادروا إلى الامتثال والأخذ بالرخصة.
- شق: بفتح الشين المعجمة، وتشديد القاف، يقال: شق يشق شقًا ومشقة، من باب قتل: صعب عليه الأمر واشتد، والمعنى: تكلفوا من الصيام في الحر.
***
560 -
وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍ والأسْلَمِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ الله، إنِّي أجِدُ فِيَّ قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أخَذَ بِهَا فَحَسَن، وَمَنْ أحَبَّ أنْ يَصُومَ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْلُهُ فِي المُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرو سَأَلَ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- هي رخصة: الضمير عائد إلى معنى السؤال أتت باعتبار الخبر، والرخصة لغة: التسهيل في الأمر والتيسير.
واصطلاحًا: ما جاء على خلاف دليل شرعيٍّ لعارضٍ راجحٍ.
- جُناح: بضم الجيم وتخفيف النون آخره حاء مهملة، قال في المحيط: قيل: هو معرب "كناه" بالفارسية وهو الإثم، قال تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَليْهِ} [البقرة: 158] أي فلا حرج ولا إثم.
* يؤخذ من الحديثين:
1 -
الحديثان يدلان على جواز الفطر من صيام شهر رمضان في السفر، وأنه رخصة، كما تدل على ذلك الآية الكريمة:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]
فاليسر والسهولة على العباد من مقاصد الرب تبارك وتعالى في أمور الدين.
2 -
كما يدلان على جواز الصيام في السفر، وصحته، وإجزائه عن صاحبه
(1) البخاري (1841)، مسلم (1121).
إجماعًا، فقد رخَّص لحمزة الأسلمي في الصيام والفطر.
3 -
أما قوله: لمن لم يفطر: "أولئك العصاة"؛ فلمخالفتهم وعدم امتثالهم أمره بالإفطار، في حال يتعين عليهم؛ لما جاء في بعض ألفاظه:"أنهم قد شقَّ عليهم الصيام".
4 -
يستحب لمن هو قدوة في الأعمال الشرعية، وهم العلماء وأهل الدين أن يبينوا للناس الأحكام الشرعية في أقوالهم وأعمالهم؛ ليكونوا قدوة في ذلك، وليحصل بهم التأسي، وراحة الضمير عند العامة، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا بقدح من ماء، فرفعه حتى نظر الناس إليه، فشرب.
5 -
يدخل وقت رخص السفر التي منها الفطر في نهار رمضان إذا شرع في السفر، وفارق عامر بلده.
6 -
وللعلماء تقييدات في السفر الذي تباح فيه الرخص بالمسافة والمدة والإباحة، أما الشيخ تقي الدين فيقول: إنَّ الشارع ذكر السفر، وأطلقه بدون ذكر مسافة ولا مدة، وجعل، لك راجعًا إلى العرف، فأي سفر في عرف الناس فهو السفر الذي علَّق به الشارع الحكيم تلك الأحكام والرخص، والتحديد لم يثبت به نصٌّ، ولا إجماعٌ، ولا قياسٌ، وليس مع المحددين حجةٌ.
7 -
لا يشترط -على الصحيح- إباحة السفر، بل تؤتى الرخص في سفر الطاعة والمعصية، وهو مذهب أبي حنيفة، واختيار الموفق، والشيخ تقي الدين.
8 -
قال شيخ الإسلام: أجمع الأئمة على جواز الصيام والفطر في نهار رمضان للمسافر، واختلفوا في الأفضل منهما.
فذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّ الصوم لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة أفضل، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود عن سلمة بن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من كانت له حمولة تأوي إلى شبع، فليصم رمضان حيث أدركه".
وذهب الإمام أحمد وأصحابه إلى: أنَّ الفطر في رمضان أفضل، ولو لم يلحقه مشقة؛ لما في البخاري (1844) ومسلم (1115) أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ليسَ من البر الصيام في السفر"، وحديث:"إنَّ الله يحب أنَّ تؤتى رخصه"[رواه أحمد (5600)].
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في حكم صوم رمضان في السفر على ثلاثة أقوال:
فذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّ الصوم أفضل، واستدلوا على ذلك: بأنَّه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّه أسرع في إبراء الذمة، وأنَّه أيسر أداء؛ إذْ صام والناس صائمون.
وذهب الإمام أحمد إلى: أنَّ الفطر أولى، وأنَّ الصوم مكروه، وعلَّل ذلك بأنَّه رخصة من الله تعالى، يبنغي للمسلم أن يسارع إلى قبولها، والتمتع بها، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته"[رواه مسلم (686)].
وذهب بعض العلماء إلى: جواز الأمرين، واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم (1116) من حديث جابر قال:"سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصوم الصائم، ويفطر المفطر، فلا يعيب بعضهم على بعض".
وقالت طائفة من العلماء: أفضل الأمرين أيسرهما عليه؛ لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185].
وعدم كراهة أحدهما أرجح، ما لم يكن في الصوم مشقة كبيرة، أو كان يمنع من القيام بأعمال فاضلة في السفر، فحينئذٍ الفطر يكون أفضل؛ فقد جاء في الصحيحين من حديث أنس قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فمنا الصائم ومنَّا المفطر، فنزلنا منزلاً في يوم حارٍ، فسقط الصائمون، وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم
بالأجر" [رواه البخاري (2733) ومسلم (1119)].
* فوائد:
الأولى: جاءت هذه الشريعة بالأحكام الميسرة السمحة، فقد قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]
ولما كان السفر -غالبًا- فيه مشقة، خفِّف فيه، فرخص الله تعالى الفطر في نهار رمضان، فهي رخصة يستحب التمتع بها؛ لأنَّها من رخص الله التي أباحها فضلاً منه، وإحسانًا على خلقه، ويُحب أن تؤتى.
الثانية: استحباب الفطر للمسافر في نهار رمضان، وأما صيام يوم عرفة في السفر وعاشوراء فنص الإمام أحمد على استحباب صيامه، وهو قول طائفة من السلف، ولعلَّ الفرق بين رمضان وهذين اليومين أنَّ رمضان إذا فاتت أيامه قضى صومه، بخلاف عرفة وعاشوراء، فلا يقضى الصيام بفوتهما.
الثالثة: قال الشيخ: ويفطر من عادته السفر كصاحب البريد والمكاري والملاح إذا كان له بلد يأوي إليه.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: إذا كان الإنسان المسافر يحمل أهله معه، أو ليس له أهل، فإنَّه يلزمه الصيام؛ لأنَّ سفره هذا غير منقطع، وإن كان له أهل، ولكن لا يحملهم معه، فهو يخير بين الصيام والإفطار.
***
561 -
وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "رُخِّصَ لِلْشيْخِ الكَبِيرِ أنْ يُفْطِرَ، وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْم مِسْكِيْنًا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالحَاكِمُ، وَصَحَّحَاهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديت صحيحٌ.
أخرجه الحاكم وصحَّحه، وقال الدارقطني: إسناده صحيح، وقد أخرجه البخاري (4235) بنحوه من طريق عطاء إلى ابن عباس، وله شواهد.
وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بعد أن استعرض هذا الأثر وأتى بطرقه وبحثها وناقشها-: قال: حديث ابن عباس يدل على أنَّ العاجز عن الصيام -لكبره أو مرض مزمن- يطعم عن كل يوم مسكينًا، وهذا صحيح يشهد له حديث ابن عمر وأبي هريرة [رواه أحمد (7367)].
* ما يؤخد من الحديث:
أول ما نزل في شأن صيام رمضان: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ. . .} [البقرة: 183] إلى قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} [البقرة: 184]
فصار المسلمون مخيرين في أول الأمر بين الصيام وبين الفطر مع الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم؛ لما جاء في البخاري (4237) عن سلمة بن الأكوع أنَّه قال: "لما نزلت: {يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هو كان
(1) الدارقطني (2/ 205)، الحاكم (1607).
من أراد أن يفطر، يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فنسختها"، فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم.
أما الشيخ الهرم الذي يشق عليه الصيام، ومثله العجوز الكبيرة التي يشق عليها الصيام-: فلا يوجد نسخ في حقهما، وإنما لهما أن يفطرا، ولا قضاء عليهما، وإنما عليهما الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم، وهذا هو ما جاء مرويًّا عن ابن عباس بقوله:"رخِّص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليه".
ويشهد لهذا التفصيل ما أخرجه الإمام أحمد (21107) وأبو داود (507) وغيرهما عن معاذ بن جبل قال: "أثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام".
والخلاصة: أنَّ الرخصة العامة بالإفطار والإطعام نسخت بالآية الثانية، أما الرخصة للشيخ الكبير والشيخة الكبيرة فلم تنسخ في حقهما، وبيَّنت السنة أنَّها مشروعة مستمرة إلى يوم القيامة.
ومثل الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة -اللذين يشق عليهما الصيام- المريضُ الميؤوس من برئه، ويشق عليه الصيام فله الفطر، وعليه إطعام مسكين عن كل يوم، وقدْر إطعام المسكين هو مد من البر "الحنطة"، ونصف صاع من غيره، والصاع النبوي أربعة أمداد، كل مد هو (625) غرامًا، فالصاع النبوي (3 كيلو غرامات) هذا في حق الكبيرين العاجزين العاقلين، أما الذي أصابه الخرف والتخليط، فلا صيام عليه ولا كفارة؛ لأنَّه ممن رفع عنهم القلم والتكليف.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في الحامل والمرضع إذا خافتا على الجنين أو الطفل فقط، وأفطرتا، هل عليهما الكفارة؟ أو لا؟
ذهب الإمامان الشافعي وأحمد: إلى وجوب الكفارة؛ لما روي عن ابن
عباس في تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] قال: كانت للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما لا يطيقان الصيام، أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينًا، والحبلى والمرضع إذا خافتا، قال أبو داود (2318):"يعني: على أولادهما" قال الألباني: "أثرٌ صحيحٌ".
وذهب الحنفية والمالكية إلى: أنَّهما تقضيان ولا تطعمان، وهو قول الحسن، وعطاء، والنخعي، والزهري، وإليه ذهب الأوزاعي، وسفيان، الثوري.
ولا يوجد ما يدل على الوجوب، والأصل براءة الذمة، ولكن صحَّ عن ابن عباس، وابن عمر، في الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما أنَّ تفطرا وتطعما؛ لدخولهما في الآية الكريمة، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة.
قال ابن القيم: أفتى به ابن عباس وغيره؛ إقامةً للإطعام مقام الصيام.
وقال الشيخ تقي الدين: تفطر، وتقضي، وتطعم عن كل يوم رطلاً من خبز بأدمه، وهو مذهب جمهور العلماء فقد قالوا: حكم الإطعام باقٍ في حق من لم يُطِقِ الصيام، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، تفطران، وتطعمان، وتقضيان.
* فائدة:
الذين لا يجب عليهم صيام شهر رمضان أداءً أربعةُ أصنافٍ:
الأول: يفطر ويقضي، وهم:
1 -
المريض الذي يرجى زوال مرضه، ويشق عليه الصيام.
2 -
المسافر سفر قصر.
3 -
المفطر لإنقاذ معصوم.
4 -
الحائض والنفساء.
5 -
الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما فقط، أو خافتا مع نفسيهما على الجنين أو الرضيع.
الثاني: يفطر ويقضي ويطعم مسكينًا عن كل يوم، وهم:
الحامل إذا خافت على جنينها، والمرضع إذا خافت على رضيعها، والمذهب أنَّ الإطعام على من يمون الجنين والرضيع، وقال بعضهم: عليهما كليهما.
الثالث: من لا يجب عليه الصيام أداء ولا القضاء، وإنما تجب عليه الكفارة بدل الصيام؛ وهم الشيخ الكبير والشيخة الكبيرة، اللذان يشق عليهما الصيام.
ففي البخاري (4237)، ومسلم (1145)، من حديث سلمة بن الأكوع قال:"لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] كان أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت التي بعدها فنسختها" أما ابن عباس فلا يرى النسخ، وإنما جاء عنه ما رواه أبو داود (2318) وغيره قال:"كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم مسكينًا، والمرضع والحبلى، إذا خافتا على ولديهما، أفطرتا وأطعمتا".
قال بعض المحققين: فتكون الآية محكمة غير فنسوخة، وأنَّها إنما أريد بها هؤلاء من باب إطلاق العام وإرادة الخاص، وهو أولى من ادعاء النسخ، فإنَّه خلاف الأصل، فالواجب عدمه، أو تقليله مهما أمكن.
والمريض الذي لا يرجى شفاؤه، حكمه حكم الكبير، يفطر ويطعم عنه. الرابع: من لا يجب عليه أداءً ولا قضاءً، أو لا يصح منه، وهم:
1 -
الكافر لا يصح منه، ولا يقضيه، لو أسلم، مع أنَّه إذا مات على كفره سئل عنه وعُذِّبَ على تركه.
2 -
الصغير والصغيرة، وهما من دون البلوغ، وهما مميزان، فيصح منهما، ولا يجب عليهما، وينبغي أمرهما به ليعتادا عليه.
3 -
المجنون لا يصح منه، ولا يقضيه بعد إفاقته، ولا يطعم عنه.
4 -
المختلط في عقله لا يجب عليه، ولا يطعم عنه.
562 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا. ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا، فَقَالَ: أَعَلَى افْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أهْلُ بَيْتٍ أحْوَجُ إلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ، فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ". رَوَاهُ السَّبْعَةَ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- رجل: هو سلمة بن صخر البياضى.
- هلكت: الهلاك العذاب، ومراده: فعلت ما هو سبب هلاكي.
- وقعت على امرأتي: أي: جامعها مختارًا عالمًا، وفي إحدى الروايات:"وطئت امرأتي، وأنا صائم".
- تعتق رقبة: العتق: الخلوص، وهو تخليص الرقبة من الرق، والرقبة عبدٌ، أو أمةٌ، وخصت الرقبة من جميع البدن؛ لأنَّ الرق كالغل في رقبته، المانع له من التصرف، فإذا عتق صار كأنَّ رقبته أطلقت من ذلك الغل.
تعتق رقبة: المراد بها: النفس الكاملة، وقد عبَّر بالبعض عن الكل، وهو
(1) البخاري (1936)، مسلم (1111)، أبو داود (2390)، الترمذي (724)، النسائي الكبرى (2/ 212)، ابن ماجه (1671)، أحمد (6989).
جائز، إذا كان فقد البعض فيه فقد الكل، ولذا يعبر عن الصلاة بالركوع والسجود والقرآن؛ لأنَّ هذه الأشياء أركان فيها، إذا فقدت فقدت الصلاة.
- مسكينًا: من: السكون، وهو الذي أسكنته الحاجة والفقر، وهو من لا يجد كفاية عامة من النفقة.
- عرق: -بفتحتين للعين والراء بعدهما قاف- وهو الزنبيل فيه عشرون صاعًا، أو خمسة عشر صاعًا.
- لابتيها: تثينة "لابة"؛ وهي الحرة، وهي الأرض التي تعلوها حجارة سود، جمعه لابات، والمدينة المنورة بين لابتين: شرقية وغربية، فالحرة الشرقية تسمى حرة الوبرة، والغربية حرة واقم.
- بدت أنيابه: جمع: "ناب"؛ وهي الأسنان الملاصقة للرباعيات، وهي أربعة، وبدو أنيابه صلى الله عليه وسلم من حال الرجل، في كونه جاء خائفًا من الهلاك، فلما وجد الرخصة طمع أن ياكل ما أعطيه من الكفارة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الرجل الذي وطىء في نهار رمضان هو سلمة بن صخر البياضي من بني بياضة، أحد بطون الأنصار.
2 -
أنَّ الوطء للصائم في نهار رمضان من الفواحش الكبار المهلكات، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقره على أنَّ فعله هذا مهلك.
3 -
أنَّ الوطء عمدًا يوجب الكفار المغلظة، وهي على الترتيب: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
4 -
أنَّ العبرة بالشهور لا بعدد الأيام، فإذا ابتدأ الصوم في خمسة عشر من ربيع الأول، فإنَّه ينتهي بنهاية خمسة عشر من جمادى الأولى.
5 -
أنَّ الإنسان مؤتمن على عبادته البدنية والمالية، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أقرَّه على
عجزه عن الكفارة بأنواعها.
6 -
عدم تعنيف التائب على ما وقع منه من معصية.
7 -
عظم خطر الجماع في الصيام الواجب، وهو في نهار رمضان أشد خطرًا؛ لقوله:"هلكتُ" ولوجوب الكفارة.
8 -
الجماع في نهار رمضان هو الموجب للكفارة؛ لحرمة الزمن، أما قضاء رمضان فحرام، ولكنه لا يوجب الكفارة، قال في الروض وحاشيته: ومن جامع في نهار رمضان، فعليه القضاء والكفارة، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
9 -
أنَّ الكفارة لا تسقط عمن وجبت بالإعسار والعجز عنها، فليس في الحديث ما يدل على سقوطها، والأصل بقاؤها في ذمته.
10 -
جواز التكفير من الغير، ولو من أجنبي بشرط علم المكفر عنه؛ لأنَّها عبادة تحتاج نية.
11 -
أنَّ للمكفر عنه الأكل منها هو وأهله ما دامت مخرجة من غيره، أما لو أخرجها هو: فإنَّها لا تجزىء عنه إذا أنفقها على نفسه وأهله.
12 -
أنَّ من ارتكب معصية لا حدَّ فيها، ثم جاء تائبًا نادمًا، فإنَّه لا يعزَّر.
13 -
حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وكرم الوفادة عليه، فقد جاء هذا الرجل خائفًا يشكو الهلاك، فراح من عنده فرخا مغتبطًا، معه ما يطعمه أهله.
14 -
الكفارة هي فدية تلزم المجامع في نهار رمضان من غير عذر، عقوبةً له، وزجزًا له ولغيره، وتكفيرًا لجرمه، واستدراكًا لما فرط منه، فهي بمنزلة الحدود المطهَّرة، والجماع مفسد للصوم بالكتاب والسنة والإجماع والقياس.
15 -
الجماع الموجب للكفارة هو إيلاج الذكر في الفرج، قبلاً كان أو دبرًا، ولو لم يحصل مع الإيلاج إنزال، فأما الإنزال بالمباشرة دون الفرج، فإنَّه يفطر الصائم، ويلحقه الإثم، ولكنه لا يوجب الكفارة.
16 -
المرأة الموطوءة إن كانت ذاكرةً مطاوعةً، فعليها ما على الرجل الواطىء، من الكفارة والقضاء والإثم؛ لأنَّ الأصل تساويهما في الأحكام، وإن لم تكن مطاوعة فصيامها صحيح، ولا قضاء عليها، لحديث:"عفي لأمتي عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه".
17 -
المشهور من مذهب أحمد: أنَّه إذا طلع الفجر على المجامع فنزع في الحال، فعليه القضاء والكفارة، لأنَّ النزع جماع على المذهب، ومذهب الأئمة الثلاثة أنَّ النزع ليس بجماع، فلو طلع عليه الفجر، وهو يجامع، فنزع في الحال فلا قضاء ولا كفارة، وهو اختيار الشيخ تقي الدين.
18 -
يجوز للإنسان أن يشكو حاله إلى من يقدر على مساعدته على بلواه، إذا لم يكن على سبيل التسخط.
19 -
يجوز للإنسان أن يخبر عما لا يحيط به علمًا، إذا غلب على ظنه ذلك، فقوله:"ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا" هو إخبار على حسب ظنه، وإلَاّ فاليقين لا يوصل إليه إلَاّ بالبحث عن أهل المدينة بيتًا بيتًا.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على وجوب الكفارة على من جامع عامدًا ذاكرًا في نهار رمضان، واختلفوا في الناسي والمكره:
فذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى: أنَّ عليه القضاء دون الكفارة.
وذهب الشافعي وجمهور العلماء إلى: أنَّ من جامع ناسيًا، فلا قضاء عليه ولا كفارة، وهو رواية للإمام أحمد، واختارها جملة من أصحابه، منهم الشيخ تقي الدين وابن القيم وغيرهما.
أما المشهور من مذهب الإمام أحمد، والذي مشى عليه أصحابه، وأهل الظاهر: فهو وجوب الكفارة، ووجود الفطر في الجماع من العامد والناسي، والجاهل والمكره؛ لأنَّ الجماع أعظم المفطرات؛ لما فيه من الشهوة واللذة
المنافية للمقصود من الصوم، والإقبال على الله تعالى؛ فقد قال تعالى في الحديث القدسي:"يدع طعامه وشهوته من أجلي"[رواه البخاري (1771) ومسلم (1942)].
ولأنَّه لا يتصور وقوع النسيان والإكراه في الجماع، فإنَّ شهوته إذا تحركت ذهب معنى الإكراه وصار مختارًا.
أما الذين يرون عدم الإفطار والكفارة من جماع الناسي والمكره: فيسدلون بأدلة منها:
1 -
قال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
2 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتي عن: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"[رواه ابن ماجه (22045)].
3 -
الحديث الوارد في الجماع في حق الواحد، ولا يتناول الناسي، وهو العمدة في هذه المسألة.
4 -
بالإجماع لا يلحق إثمٌ، ولا عقابٌ، دنيوي ولا أخروي، على الواطىء نسيانًا، فكذا الكفارة.
5 -
الناسي والمكره ليس لهما فعل، ولا يصح نسبة الفعل إليهما؛ لأنَّ الفعل المنسوب للفاعل هو ما كان يقصده، وهنا لا يوجد قصد، ولا إرادة.
6 -
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ المجامع ناسيًا أو مكرهًا لا فطر عليه، ولا كفارة؛ لأنَّ الله عفا عن الناسي والمخطىء.
7 -
أما المرأة فإن طاوعت على الوطء، فعند الأئمة الثلاثة عليها الكفارة، وعند الشافعي لا كفارة عليها.
وقول الجمهور هو الصحيح، فقد جاء في بعض روايات الحديث:"هلكت وأهلكت"، قال المجد في "المنتقى"،: ظاهر هذا أنَّها كانت مكرهة.
واختلف العلماء: هل تسقط الكفارة بالإعسار والعجز عنها؟ على قولين:
ذهب الإمام أحمد إلى: أنَّها تسقط، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص للرجل أن يطعم التمر أهله، ولو كانت كفارة عنه لما حلت له، ولا لأهله.
وذهب الجمهور إلى: أنَّها لا تسقط بالإعسار؛ لأنَّه ليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل ظاهره عدم سقوطها؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما سأل الواطىء عن أنزل درجات الكفارة، وهي الإطعام، وقال: لا أجد، سكت ولم يبرىء ذمته منها، والأصل أنَّها باقية، وقياسًا لهذه الكفارة على سائر الكفارات والديون التي لا تسقط بالإعسار.
أما الترخيص له بإطعام الكفارة لأهله، فإنَّ من وجب عليه كفارة إذا كفر عنه غيره، جاز أن يأكل منها، وأن يطعمها أهله.
***
563 -
وَعَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُصْبِحُ جُنبًا مِن جِمَاعٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: "وَلَا يَقْضِي"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- يصبح جنبًا: يدخل في الصباح، ويطلع عليه الفجر، وهو في حال الجنابة لم يغتسل منها.
- جنبًا: سميت الجنابةُ: "جنابةً"؛ لكونها سببًا لاجتناب العبادة، أو لأنَّ الماء باعد وجانب محله.
- من جماع: "من" سببية، والمعنى بسبب جماع.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
كان النبي صلى الله عليه وسلم يجامع من الليل، وربما أدركه الفجر، وهو جنب لم يغتسل، فيصوم ثم يغتسل بعد طلوع الفجر، ويتم صومه، ولا يقضيه.
2 -
هذا عامٌّ في رمضان وفي غيره، قال ابن كثير: وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا، وحكاه الوزير إجماعًا؛ فإنَّ الآثار في ذلك متواترة.
3 -
صحة صوم من أصبح جنبًا من جماع، أو غيره من الليل.
4 -
إذا جاز في الجنابة من الجماع، فمن غير الجماع أولى.
5 -
لا فرق بين الصوم الواجب والنفل، ولا بين رمضان وغيره.
6 -
جواز الجماع في ليالي رمضان، ولو كان قبيل طلوع الصبح.
(1) البخاري (1925)، مسلم (1109).
7 -
لو طلع عليه الفجر وهو يجامع فنزع، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أنَّ عليه القضاء والكفارة؛ لأنَّ النزاع جماع.
وجمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة-: أنَّ النزع ليس بجماع، وأنه يجب عليه النزع، ولا قضاء عليه ولا كفارة.
8 -
يؤخذ من جواز طلوع الفجر على الصائم وهو جنب، جواز طلوع الفجر على الحائض والنفساء بعد انقطاع الدم، وقبل الاغتسال.
9 -
فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد نقلن للأمة من العلم الشيء الكثير، لاسيَّما الأحكام التي لا يطلع عليها إلَاّ هنَّ من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم، فرضي الله عنهن.
***
564 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- وليه: من: ولي الشيء يليه ولاية بالفتح والكسر، والولي فعيل بمعنى فاعل، من وليه إذا قام به، والجمع: أولياء، ويطلق على القريب والناصر، ذكرًا كان أو أنثى، وسيأتي في ما يؤخذ من الحديث أنَّ المراد به الوارث.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الديون التي على الميِّت يجب قضاؤها؛ سواء كانت لله تعالى، كالزكاة والصيام، أو للآدميين.
2 -
أنَّ أولى من يتولى أداء ذلك عنه هو وارثه، الذي له عليه حق البر، فهذا من أعظم البر والإحسان.
3 -
ظاهر الحديث وجوب قضاء الصيام عن الميت؛ سواء كان واجبًا بأصل الشرع، أو نذرًا، فالصيام في الحديث نكرة تشمل كل صوم.
4 -
أنَّ الذي يتولى أداء الصيام عن الميت هو وارثه، الذي انتفع بما خلفه من مال، فيقتضي ذلك القيام بأداء الديون التي لله تعالى، أو لخلقه؛ تطبيقًا للقاعدة الشرعية:"مَنْ غَنِمَ غَرِمَ"، و"الخَراج بالضمان".
5 -
إذا كان للميت عدد من الأولياء، فيجوز أن يتقاسموا أيام الصيام التي على مورثهم، ويصوم كل واحد منهم قسمًا منها؛ سواء كانوا رجالًا، أو نساءً، أو من الصنفين، ولو قاموا بالصيام في يوم واحد.
(1) البخاري (1952)، مسلم (1147).
هذا ما لم يكن يشترط فيه التتابع كالكفارة، فإنَّه لا يجوز أن يصوموه جميعًا، وإنما يصوم أحدهم بعضه، ثم يكمله الآخر.
* خلاف العلماء:
اختلف في حكم قضاء صيام من مات وعليه صيام، على ثلاثة أقوال:
الأول: أنَّه لا يقضى عنه بحال، لا النذر، ولا الواجب بأصل الشرع، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة.
الثاني: يصام عنه النذر، دون الواجب بأصل الشرع، وهذا مذهب الإمام أحمد، والليث، وإسحاق، وأبي عبيد، ونصره ابن القيم.
الثالث: يصام عن الميت النذر الذي تمكن من أدائه ولم يصمه، كما يصام عنه الواجب بأصل الشرع، وهد ذا قول أبي ثور، وأهل الحديث، ونصره ابن حزم، وجماعة من محدثي الشافعية، وعلَّق الإمام الشافعي القول به على صحة الحديث.
قال البيهقي: لو وقف الشافعي على جميع طرق الأحاديث لم يخالفها إن شاء الله، واختار هذا القول الشيخ عبد الرحمن السعدي، وقال: إنَّه اختيار شيخ الإسلام في جميع الديون التي على الميت لله، أو للآدميين، أوجبها على نفسه، أو وجبت عليه بأصل الشرع.
واستدل المانعون بأدلة:
منها قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39].
وما روي عن ابن عباس: "لا يصل أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد"[رواه النسائي في الكبير 29181)]، وروي عن عائشة مثل ما روي عن ابن عباس، وهما راويان لحديثي الصيام عن الميت، ومع هذا خالفاه، فاتباع رأيهما في ذلك أولى، لأنَّهما أعلم بمعنى الحديث.
واستدل المجوزن للقضاء -مطلقًا-: بحديث الباب؛ فإنَّه عامٌّ في
الواجب بأصل الشرع، والواجب بالنذر.
كما استدلوا: بحديث ابن عباس الذي في البخاري (1953)، ومسلم (1148)، قال:"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفاقضيه عنها؟ فقال: نعم، دين الله أحق أن يقضى".
وأما المفصلون: فيرون أنَّ حديث الباب وحديث ابن عباس خاصان بالنذر، ونصر هذا القول ابن القيم، وقال: لا يصم أحد عن أحد، مراده في الفرض، وأما النذر فيصام عنه، وبهذا يظهر الاتفاق بين الروايات، وزاد ابن القيم بقوله: النذر ليس واجبًا بأصل الشرع، وإنما أوجبه الإنسان على نفسه، فصار بمنزلة الدين الذي استدانه.
وسر الفرق بينهما: أنَّ النذر هو التزام المكلف بما شغل به ذمته، لا أنَّ الشرع ألزمه به ابتداءً، فهو أخف حكمَا مما أوجبه الشارع أصلًا، شاء أم أبى، والذمة تسع المقدور عليه، والمعجوز عنه، بخلاف واجبات الشرع الأصلية، فهي على قدر طاقة الإنسان.
والراجح أنَّ الحديث عامٌّ في الواجب بأصل الشرع، والواجب بالنذر.
والأحاديث والآثار المعارضة لهذا الحديث لا تقاوم هذا الحديث، ولا تصلح لمعارضته.
وتوجد النصوص الصحيحة الكثيرة من السنة تسند معنى هذا الحديث، فقد قالت المرأة الخثعمية للنبي صلى الله عليه وسلم:"إذن أحج عن أبي، فقال: نعم"[رواه البخاري (1417)، ومسلم (2375)،، ومثلها المرأة الجهنية لما قالت: "إنَّ أمي نذرت أن تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال: نعم، حجي عنها، اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء" [رواه البخاري (6771) ومسلم (1939)]، وأفتى سعد ابن عبادة: أن يتصدق عن أمه لما ماتت، ولم تتصدق، ومن نيتها أن تتصدق، وهذه أحاديث في الصحيحين.