الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صلاة الكسوف
مقدمة
قال ثعلب: أجود الكلام أن يقال: كسفت الشمس، وخسف القمر، فالكسوف هو: ذهاب ضوء الشمس، أو بعضه في النهار، والخسوف هو: ذهاب ضوء القمر، أو بعضه ليلاً.
سبب الكسوف هو: حيلولة القمر بين الشمس وبين الأرض، وسبب الخسوف هو: حيلولة الأرض بين الشمس وبين القمر.
وقد أجرى الله تعالى العادة أنَّه لا يحصل الكسوف إلَاّ في الأسرار، آخر الشهر إذا اقترن النَّيِّرَان.
ولا يحصل الخسوف إلَاّ في الأبدار، إذا تقابل النيران.
قال علماء الفلك: الكواكب، ومنها الشمس والقمر، لكل منهما مسارٌ خاصٌّ، وبعضها أعلى من بعض، فيكون بعضها أبعد عنَّا من بعضها الآخر، فيمر كوكب منها أمام كوكب أقرب منه إلينا، فيحجب الأدنى منهما الأعلى عن نظرنا، فيحصل كسوف الكوكب الأعلى.
فإذا اتَّفق مرور القمر بيننا وبين الشمس، حصل كسوف الشمس، لكن إن حال بيننا وبين الشمس تمامًا، حصل الكسوف الكلي؛ لأنَّه غطى عنَّا وجه الشمس كله، فإن لم تكن مقابلة القمر للشمس كاملة بالنسبة لمركزنا، صار كسوفًا جزئيًّا.
أما خسوف القمر: فهو احتجاب ضوئه عندما تلقي عليه الشمس ظلها،
أثناء وجود الأرض بين الشمس والقمر، ولا تكون هذه الظاهرة إلَاّ عندما يكون القمر في مخروط ظل الأرض، ويكون الخسوف جزئيًّا إذا كان جزء من القمر في مخروط ظل الأرض، وكما أنَّ للكسوف والخسوف أسبابه العادية، التي تدرك بعلم هذه الأسباب المادية -فله حكمته الإلهية الربانية، فعندما تقضي الحكمة الإلهية تغيير شيء من آيات الله الكونية؛ كالكسوف والخسوف والزلازل؛ ليوقظ الله عباده من الغفلة بترك الواجبات، وارتكاب المنهيات، تقدر الأسباب الحسية العادية، لتغيير هذا النظام الكوني؛ ليعلم العباد أنَّ وراء هذه الاكوان العظيمة مدبِّرًا قديرًا بيده كل شيء، وهو محيطٌ بكل شيء، فهو قادر على أن يعاقبهم بآية من آياته الكونية، كما أهلك الأمم السابقة بالصواعق والرياح، والطوفان والزلازل والخسوف، كما أنَّه قادر على أن يسلبهم نور الشمس والقمر، فيظلون في أرضهم يعمهون، أو يصيبهم بالقحط فتذوى أشجارهم، وتجف أنهارهم؛ قال تعالى:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)} [السجدة]، ولكننا أصبحنا في زمن المادة وطغيانها، فصار الناس لا يدركون المعاني المعنوية من التحذير من عذاب الله، وتذكير نعمه.
وصلاة الكسوف: استنبطها بعض العلماء من قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)} [فصلت].
وأما السنة: فقد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى الإجماع على مشروعيتها جمعٌ من العلماء.
ويستحب عندها الدعاء، والاستغفار، والالتجاء إلى الله تعالى، والصدقة، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، حتى يكشف الله ما بالناس، والله بعباده غفور رحيم.
410 -
عَنِ المُغِيْرَةَ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: "انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَادْعُوا الله، وَصَلُّوا حتَّى تَنْكشِفَ". مُتَّفقٌ عليْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ للبُخَارِيِّ: "حَتَّى تَنْجَلِيَ"(1).
ولِلبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ: "فَصَلُّوا وَادْعُوا، حَتَّى يَنكشِفَ مَا بِكُمْ"(2).
ــ
* مفردات الحديث:
- انكسفت الشمس: يقال: كسفت الشمس بفتح الكاف، وانكسفت بمعنى واحد، وكان ذلك في اليوم التاسع والعشرين من شهر شوال، في السنة العاشرة من الهجرة، أي: اسودت وذهب ضوؤها.
- إبراهيم: ابن النبي صلى الله عليه وسلم من جاريته مارية القبطية، التي أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية، كان مولده في ذي الحجة سنة ثمانٍ، وعاش ئمانية عشر شهرًا.
- آيتان: تثنية: "آية"، وجمعها:"آيات"، ومعنى الآية: العلامة، فهما علامتان من علامات الله تعالى، التي يخوِّفُ الله بها عباده، والتي تدل على كمال قدرة
(1) البخاري (1043)، مسلم (915).
(2)
البخاري (1040).
الله، وتصرفاته في هذا الكون.
- لموت أحد ولا لحياته: السياق هو لموت إبراهيم، وإنما جاء ذكر الحياة لدفع توهم من يقول: لا يلزم من كونه سببًا للفقدان ألا يكون سببًا للإيجاد، فعمم النفي، ولأنَّهم كانوا في الجاهلية يقولون عند الكسوف: ولد اليوم عظيم، أو مات عظيم.
- رأيتموهما: في رواية: "فإذا رأيتموها" بتوحيد الضمير، الذي يرجع إلى الآية، والمعنى: إذا رأيتم كسوف أي واحد منهما؛ لاستحالة وقوع ذلك فيهما معًا، في حالةٍ واحدةٍ عادةً.
- ينكشف: حتى يرتفع ما حلَّ بكم من الخسوف.
- تنجلي: رُوي "تنجلي" بالتذكير والتانيث، ووجههما ظاهرٌ، والمراد صلوا وادعوا، حتى يذهب ظلامهما، ويصحوا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
حصول كسوف الشمس زمن النبي صلى الله عليه وسلم، في اليوم الذي مات فيه ابنه إبراهيم.
وقال الشيخ المباركفوري: اتَّفق المحققون من أهل التاريخ، وعلم الهيئة والماهية، في الحساب الفلكي على أنَّ الكسوف الذي وقع يوم مات إبراهيم وقع في 28، أو 29 من شهر شوال، سنة 10 من الهجرة، الموافق 27 يناير سنة 632 في الساعة الثامنة والثلاثين دقيقة صباحًا.
2 -
إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من جاريته مارية القبطية المصرية، عاش ثمانية عشر شهرًا، ولم يولد له صلى الله عليه وسلم من غير خديجة ولد إلَاّ منها، ولما توفي حزن عليه صلى الله عليه وسلم، ودمعت عيناه، وقال:"العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلَاّ ما يرضي الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون".
3 -
قال شيخ الإسلام: وقد أجرى الله العادة أنَّ القمر لا ينخسف إلَاّ وقت الأبدار، وهي الليالي البيض، وأنَّ الشمس لا تنكسف إلَاّ وقت الاسرار،
ومن قال من الفقهاء: إنَّ الشمس تنخسف في غير وقت الاستسرار، فقد غلط، وقال ما ليس له به علم، فالكسوف له أوقات مقدرة، كما لطلوع الهلال وقت مقدر.
وأما ما ذكره طائفة من الفقهاء من اجتماع صلاة العيد وخسوف الشمس، فكمن يقدرون مسائل يُعْلَمُ أنَّها لا تقع، ولكن ذكروها لتحرير القواعد، وتمرين الأذهان على ضبطها.
4 -
روى مسلم (901) من حديث عائشة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباد"، وقال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} [الإسراء].
فهذا هو السبب الشرعي الغيبي، الذي لا يعلم إلَاّ من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، في أمر الكسوف والخسوف.
أما السبب الحسي له: فهو يعلم عن طريق الحساب الفلكي؛ فإنَّ الكواكب بعضها أبعد عنَّا من بعض، فيمر كوكب منها أمام كوكب أبعد منه، فيحجب الأدنى منها الأعلى عن كوكبنا الأرضي، فإن حال القمر بيننا وبين الشمس، حصل كسوف الشمس، وإن وقعت الأرض بين الشمس والقمر حصل خسوف القمر.
ولما كان الكسوف ليس من الأمور العادية لسير الكواكب، وإنما هو شيء خارج عن العادة -كانت صلاته صلاة رهبةٍ وخشيةٍ، فكانت صفتها وهيئتها ليست كالصلوات المعتادة، وبهذا يتناسب الأمر الشرعي مع الأمر الكوني القدري.
5 -
وجود عادة جاهلية هي قولهم: إنَّ الشمس والقمر لا ينكسفان إلَاّ لموت عظيمٍ، أو حياة عظيم.
قوله: "إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد،
ولا لحياته"- فيه إبطال لزعم المنجمين، الذين يستدلون بالحوادث الكونية، والأحوال الفلكية، على الحوادث الأرضية، من ولادة عظيم، أو حياة عظيم، أو وجود خصب، أو قحط، أو غير ذلك من الأمور الغيبية.
6 -
إبطال النبي صلى الله عليه وسلم هذا التقليد الجاهلي، وبيان أنَّ الشمس والقمر آيتان وعلامتان من آيات الله الكونية، يغيِّر الله سيرهما ومجراهما، ويمحو ضوءهما؛ ليخوِّف بذلك عباده؛ لئلا يعصوه بترك الواجبات، وانتهاك الحرمات.
7 -
مشروعية الصلاة والدعاء، والتضرع والاستغفار، حين حصول الكسوف.
والأصل في الأمر الوجوب، ولكن قال ابن الملقن: صلاة الكسوف سنة مؤكدة بالاتفاق؛ لما يحصل عند ذلك من الخشوع والمراقبة في تلك الحال.
8 -
يسن أن يُنَادَى لها: "الصلاة جامعة"؛ لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث مناديًا ينادي: الصلاة جامعة".
وأجمع المسلمون على أنَّه لا يشرع في حقَّها أذانٌ.
9 -
وقت الصلاة يبتدىء من حين يبدأ كسوف الشمس، أو خسوف القمر، ويستمر حتى ينجلي ذلك؛ فإن انتهت الصلاة قبل التجلي لم تُعَدْ، وأكملوا مدة الكسوف، أو الخسوف بالدعاء والاستغفار.
10 -
نُصْحُ النبي صلى الله عليه وسلم أمته، حتى في حال تعظيم الناس أمر وفاة ابنه، فلم يقرَّ بقاء هذه الأسطورة الجاهلية، بل أخبر المسلمين أنَّ الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ، ولا لحياته.
11 -
أنَّ الأسباب المادية للكسوف والخسوف لا تنافي المقاصد المعنوية، فإنَّ الله تعالى، وإن أجرى للكسوف أسبابًا مادية، إلَاّ أنَّ مقصودها المعنوي قائمٌ مرادٌ لله تعالى.
12 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تأتيه المصائب من الأمراض، وفقد الأحبة، والهزائم في الحروب، وأذية الخلق؛ فالله تعالى يُجري عليه من الأحوال البشرية ما يُجري على غيره من البشر، وكل هذا من ثبات إيمانه، وزيادة حسناته، وتأكيد بشريته.
13 -
وقوله: "فإذا رأيتموهما" دليلٌ على أنَّ المعول عليه في الصلاة للكسوف أو الخسوف -هو رؤية ذلك، وليسا لعلم الحساب
فلو قال الفلكيون: إنَّ القمر سيخسف الليلة الفلانية، ولكننا لم نره أبدًا لتراكم السحب، فإنَّنا لا نصلي صلاة الكسوف لمجرد قولهم، كما أنه لو حال دون منظر الهلال ليلة الشك غيم، فإننا لا نصوم، ولو قال أهل العلم بالحساب: إنه سيُهِلُّ هذه الليلة.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء؛ هل يشرع لصلاة الكسوف خطبة أو لا؟
فذهب الأئمة الثلاثة: إلى أنه ليس لها خطبة.
وذهب الشافعي وإسحاق وكثير من أهل الحديث إلى: "استحبابها؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خطب ووعظ الناس، وأزال عنهم شبهة سبب انكساف الشمس والقمر لموت أحدٍ، وحياته.
***
411 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جهَرَ فِي صَلَاةِ الكُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، فَصَلَّى أرْبَعَ رَكعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأرْبَعَ سَجَدَاتٍ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ، وهَذا لفْظُ مُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الصلاة جامعة: "الصلاة" مبتدأ، و"جامعة" خبر، ويجوز نصب الأول على الإغراء، ونصب الثاني على الحال، والمعنى: أنَّ الصلاة تجمع الناس في المسجد.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعية صلاة الكسوف، وأنَّها سنة مؤكدة؛ باتفاق العلماء.
2 -
أنَّ صلاتها جهرية، ولو كانت نهارية؛ لاجتماع الناس فيها.
3 -
يصح أن تصلى جماعة وأفرادًا، إجماعًا، ولكن الجماعة فيها أفضل، إجماعًا؛ لما روى أحمد (6447) عن عبد الله بن عمرو؛ أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قال في خطبتها:"فافزعوا إلى المساجد"؛ ولأنَّ في ذلك اتباعًا.
4 -
أنَّها تصلى أربع ركعات، وأربع سجدات بسلام واحد.
5 -
أنه ليس لها أذانٌ ولا إقامةٌ، وإنما تصلى كصلاة العيد، وينادى لها بلفظ:"الصلاة جامعة"، ولم يذكر تكريره، والظاهر أنَّه يقال بقدر الحاجة إلى إسماع الناس؛ لأنَّه المقصود.
6 -
قولها: "جهر في صلاة الكسوف"، وقولها: "وبعث مناديًا ينادي: الصلاة
(1) البخاري (1065)، مسلم (901).
جامعة" -دليل على أنَّ المشروع في صلاة الكسوف هو الاجتماع العام لها، وأن تصلى كما تصلى الأعياد والاستسقاء؛ من حيث الاجتماع، فإنَّه ما جهر بقراءتها، وهي قد تكون نهارية، إلَاّ لأنَّها تضم الجمع الكبير، ولا ينادى لها بالصلاة جامعة إلَاّ لذلك.
7 -
المؤلف رحمه الله اختصر هذا الحديث: "حديث عائشة"، وإلَاّ ففيه زيادات نورد معناها، إكمالاً للفائدة ما دامت من الحديث الذي معنا:
(8)
أطال صلى الله عليه وسلم القيام في الركعة الأولى، ئم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الركعة الأولى، ثم انصرف، فخطب الناس.
9 -
استحباب التطويل في قيامها وركوعها وسجودها.
10 -
تؤدى كل ركعة أقصر من الركعة التي قبلها.
11 -
ابتداء وقت الصلاة من حصول الكسوف، وانتهاؤه بالتجلي.
12 -
استحباب الخطبة، إذا دعت إليها الحاجة.
13 -
كل هذه الأحكام مذكورة في حديث عائشة، وصريحة فيه، ولم يورد منه المؤلف إلَاّ ما يتعلَّق بأحكام صلاة الكسوف، ولعله اكتفى بحديث ابن عباس الآتي، والله أعلم.
***
412 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيْلاً نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ، ثُمَّ رَكعَ رُكُوعًا طَوِيْلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيْلاً، وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَ رَكعَ رُكُوعًا طَوِيْلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيْلاً، وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَكعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمِّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طوِيْلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ، واللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).
وفِي روَايَةٍ لِمسْلِمٍ: "صَلَّى حِيْنَ كُسِفَتِ الشَّمْسُ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ، فِي أَرْبعَ سَجدَاتٍ"(2).
وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ ذلك (3).
وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ: "صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتِ بِأَرْبعَ سَجَدَاتٍ"(4).
وَلأَبِي دَاوُدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "صَلَّى فَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ،
(1) البخاري (1052)، مسلم (907).
(2)
مسلم (908).
(3)
أحمد (1/ 143)، وفيه حنش، قال البخاري وأبو حاتم "يتكلمون في حديثه".
(4)
مسلم (904).
وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَفَعَلَ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذلِكَ" (1).
ــ
* درجة الحديث:
اختلفت الأحاديث في عدد الركعات في الركعة الواحدة: فروي: "ركوعان في الركعة"، وروي:"ثلاث ركعات في الركعة"، وروي:"أربع ركعات في الركعة"، وروي:"خمسة ركعات في الركعة"؛ فصلاة الكسوف رويت على هذه الكيفيات المتعددة، مع أنَّ الخسوف لم يقع إلَاّ مرَّة واحدةٍ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا صحح الأئمة والمحققون حديث عائشة، الذي فيه:"أربع ركعات في ركعتين" على غيره من الروايات، وضعَّفوا ما عداه من الروايات، ومنهم الأئمة: الشافعي، وأحمد، والبخاري، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم.
* مفردات الحديث:
- انخسفت الشمس: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، هذا اصطلاح الفقهاء، واختاره ثعلب، قال في "الفصيح": كسفت الشمس، وخسف القمر أجود الكلامين، وذكر الجوهري أنَّه أفصح.
قال العيني: وفي الحقيقة في معناهما فرق، فقيل: الكسوف أن يكسف ببعضهما، والخسوف أن يخسف بكليهما، قال تعالى:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81]، وقال بعض أهل اللغة: الأفصح إطلاق الكسوف على الشمس، والخسوف على القمر، وإن صحَّ إطلاق أحدهما مكان الآخر.
(1) أبو داود (1182).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
طول القيام في الركعة الأولى بقدر قراءة سورة البقرة.
2 -
تصلى الركعة الأولى بركوعين وسجودين، كل واحدٍ أقصر من الذي قبله، ثم تصلى الركعة الثانية كالركعة الأولى، إلَاّ أنَّها أقصر منها في قيامها وركوعها وسجودها.
3 -
قال شيخ الإسلام: الكسوف يطول زمانه تارةً، ويقصر أخرى، بحسب ما يكسف منه، فإذا عظم الكسوف، طولت الصلاة حتى يقرأ بالبقرة ونحوها في أول ركعة، وبعد الركوع بدون ذلك، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بما ذكرنا، وشرع تخفيفها لزوال السبب، وكذا إذا علم أنَّ الكسوف لا يطول، وإن خف قبل الصلاة شرع وأوجز، وعليه جماهير أهل العلم؛ لأنَّها صلاة شرعت لعلة، وقد زالت.
4 -
انصرف صلى الله عليه وسلم من الصلاة وقد انجلت الشمس، فخطب الناس.
وهذه الصفة من حديث ابن عباس متفق عليها، وهي كحديث عائشة السابق.
5 -
جاء في رواية مسلم: "صلَّى ثماني ركعات، في أربع سجدات"، ولمسلم عن جابر:"صلَّى ست ركعات، وسجد سجدتين"، ولأبي داود عن أُبي بن كعب:"صلَّى خمس ركعات، وسجد، وفعل في الثانية مثل ذلك"، وللبيهقي عن ابن عباس في زلزلة:"صلَّى ست ركعات، وأربع سجدات".
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في عدد ركعات صلاة الكسوف:
فذهب الحنفية إلى: أنَّها تصلى ركعتين كهيئة الصلوات الأخر؛ لما روى أبو داود: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى ركعتين، فأطال فيهما القيام، وانجلت الشمس".
وذهب جمهور العلماء إلى: أنَّها تصلى أربع ركعات في أربع سجدات،
ودليلهم: حديث عائشة، وحديث ابن عباس.
قال ابن عبد البر: هذان الحديثان من أصح ما روي في هذا الباب، وذهب الحنابلة إلى: جواز كل صفة وردت من الشارع، ولكن الأفضل هو أربع ركعات في كل السجدات الأربع، كما هو رأي الجمهور.
قال محرره عفا الله عنه: وردت صفات صلاة الكسوف على كيفيات متعددة:
منها: الأمر بالصلاة إجمالاً.
- ومنها: أن تصلى أربع ركعات، في أربع سجدات.
- ومنها: أن تصلى ست ركعات، في أربع سجدات.
- ومنها: أن تصلى ثماني ركعات، في أربع سجدات.
- ومنها: أن تصلى عشر ركعات في أربع سجدات،
مع أنَّ الخسوف لم يقع إلَاّ مرَّة واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذا رجح الأئمة والمحققون حديث عائشة على غيره من الروايات، وهو:"أربع ركعات، وأربع سجدات"، وما عداها فقد ضعَّفه الأئمة: أحمد، والبخاري، والشافعي، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم.
قال شيخ الإسلام: قد ورد في صلاة الكسوف أنواع، ولكن الذي استفاض عند أهل العلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه البخاري ومسلم من غير وجه، وهو الذي استحبه أكثر أهل العلم، كمالك، والشافعي، وأحمد رحمهم الله:"أنَّه صلَّى بهم ركعتين، في كل ركعة ركوعان".
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: الصواب أنَّها ركوعان في كل ركعة، كما في حديث عائشة، وغيرها من الصحابة رضي الله عنهم وما سوى ذلك: إما ضعيف، أو شاذ لا يحتج به.
وأجمع الفقهاء على أنَّ وقت صلاة الكسوف من بدء الكسوف إلى
التجلي.
واختلفوا: هل تصلى في أوقات النهي، أو لا؟
فذهب الجمهور إلى: أنَّها لا تصلى فيها؛ لعموم أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات.
وذهب الشافعية إلى: أنَّها تصلى، وخصوا النهي في هذه الأوقات بالنفل المطلق، أما الصلوات ذوات الأسباب؛ كصلاة الكسوف، وتحية المسجد فلا تدخل في النهي، فهي مخصصة بالأحاديث الآمرة بتلك الصلوات، وجواز فعل الصلوات ذوات الأسباب في أوقات النهي.
وهو رواية قوية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة من أصحابنا، مخصِّصين أحاديث النهي العامة بأحاديث ذوات الأسباب المبيحة، وبهذا تجتمع الأدلة، ويمكن العمل بها جميعًا.
واختلف العلماء بالجهر أو الإسرار في صلاة الكسوف:
فذهب الأئمة الثلاثة إلى؛ أنَّها صلاة سِرية، لا يجهر فيها؛ لما روى أحمد (3268)، وأبو يعلى (5/ 130) عن ابن عباس قال:"صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أسمع منه حرفًا من القراءة"، ولأنَّها صلاة نهارية، والأصل فيها الإخفاء.
وذهب الحنابلة إلى: أنَّها صلاة جهرية؛ سواء كانت في الليل أو في النهار، لما في البخاري (1046) ومسلم (901) عن عائشة قالت:"جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف في قراءته".
أما الحديث الذي استدلَّ به الجمهور-: فهو ضعيف، ففيه: عبد الله بن لهيعة، وقد تُكلم فيه، ولا يقاوم حديث الصحيحين، ولأنَّها صلاة جامعة، كصلاة الجمعة والعيدين.
وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج به، فيُحمل على أنَّه كان بعيدًا، فلم
يسمع القراءة، وعلى تسليم قُربه، يحتمل أنَّه نسي المقروء بعينه، وكان ذاكرًا للمقدار، فاحتاج إلى الحرز والتخمين، والذي حمل على ارتكاب هذه الاحتمالات-: أنَّ الروايات الدالة على الإسرار، كلها روايات واهيةٌ ضعيفةٌ، لا يصح بمثلها الاحتجاج، والمثبت مقدم على النافي، فالجهر أصح دليلاً، وأقوى وآصل عند التعارض.
واختلف العلماء: هل لصلاة الكسوف خطبة مستحبة، أو لا؟
فذهب الأئمة الثلاثة إلى: أنَّه ليس لها خطبة.
وذهب الإمام الشافعي وإسحاق وكثير من أهل الحديث إلى-: استحبابها، ورجح بعض المحققين التفصيل؛ وهو أنَّه إن احتيج إلى موعظة الناس وإرشادهم استُحِبَّتْ، كَما خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم كسوف الشمس؛ لمَّا قال الناس: إنَّها كسفت لموت إبراهيم، فخطب؛ ليزيل عن الناس هذا الاعتقاد الجاهلي الخاطىء، أمَّا إذا لم يكن هناك حاجة، فلا تشرع؛ لأنَّها لم تفعل إلَاّ لسببٍ، فتناط به، والله أعلم.
***
413 -
وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "مَا هَبَّت الرِّيحُ قَطُّ، إِلَاّ جَثَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم علَى رُكْبَتَيْهِ، وقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً، وَلَا تَجْعَلْهَا عَذَابًا". روَاهُ الشَّافِعِيُّ والطَّبَرَانِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيفٌ، قال في "التلخيص": رواه الشافعي في "الأم"، وأخرجه الطبراني، وأبو يعلى من طريق حسين بن قيس عن عكرمة.
قال في "مجمع الزوائد": فيه: حسين بن قيس الرحبي الواسطي، وهو متروك، وبقية رجاله رجال الصحيح.
* مفردات الحديث:
- هبت: من "الهبوب"، من باب نصر؛ وهو جريان الريح وفورانها، والهبوب هي الريح المثيرة للغبار.
- ريح: قالوا: لأنَّ الريح بالإفراد لا تأتي إلَاّ بالعذاب؛ كما قال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)} [الذاريات]، وأما الرياح فتكون بشائر خير، كما قال:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22].
- قط: -بتشديد الطاء مبنيٌّ على الضم-: ظرف للزمن الماضي على سبيل الاستغراق، بمعنى أنَّه يستغرق كل ما مضى من الزمن، فمعنى:"ما فعلته قط"؛ أي: ما فعلته فيما انقطع من عمري؛ لأنَّه مشتقٌّ من "قططته"؛ أي: قطعته، ويؤتى به بعد النفي والاستفهام؛ لاختصاصه بذلك.
- جثا: أي: على ركبتيه، جثوًا، من بابي علا ورمى، فهو جاثٍ، والمراد:
(1) الشافعي (1/ 175)، وفي الأم (1/ 253)، الطبراني في الكبير (11/ 213).
الجلسة على الركبتين.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الريح عُذِّب بها أمم، فهو صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته عذاب الاستئصال.
2 -
الرياح قد تكون رحمة، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"نُصِرْتُ بِالصَّبا، وأُهْلِكَت عاد بالدبور"، وقال تعالى:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]، فهي تلقح السحاب، وتلقح الأشجار، بنقل لقاح ذكورها لإناثها، ولله تعالى في خلقه شؤون.
***
414 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّهُ صَلَّى فِي زَلْزَلَةٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبعَ سَجَدَاتٍ، وَقَالَ: هَكَذَا صَلَاةُ الآيَاتِ". رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ (1)، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مِثْلَهُ دُونَ آخِرِهِ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسنٌ.
أخرجه البيهقي، وصححه موقوفًا على ابن عباس، ورواه ابن أبي شيبة (2/ 472) من هذا الوجه مختصرًا:"أنَّ ابن عباس صلَّى بهم في زلزلة أربع سجدات، ركع فيها ستًّا"، وظاهر اللفظ أنَّه صلَّى بهم جماعة، وذكر الشافعي بلاغًا عن علي مثله دون آخره، قال الشافعي: لو ثبت عن علي، لقلت به، فهم لا يثبتونه ولا ينفونه، وتقدم في مسلم (904) عن جابر:"صلَّى ست ركعات، بأربع سجدات"، وهذا في الكسوف، وهو آية من الآيات.
* مفردات الحديث:
- الزلزلة: جمعها: "زلازل"، وهي هزة تنتاب سطح الأرض، نتيجة توتر أجزاء القشور الأرضية، فيحدث انزلاق الصخور بعضها فوق بعض، وهناك أسباب أخر؛ مثل ثوران البراكين.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّ ابن عبَّاس صلَّى في زلزلة ست ركعات، وأربع سجدات، بمعنى: أنَّ كل
(1) البيهقي (3/ 343).
(2)
البيهقي (3/ 343).
ركعة فيها ثلاث ركوعات.
2 -
أنَّ ابن عبَّاس أرشدهم إلى أنَّ يفعلوا ذلك، فيصلوا هذه الصلاة عند كل آية كونية يجريها الله تعالى في هذا الكون، من زلزالٍ، وفيضانٍ، وريحٍ شديدة، وتساقط كوارث، ونحو ذلك.
3 -
قال شيخ الإسلام: يصلى لكل آية كما دلَّت على ذلك السنن والآثار، وقال المحققون من أصحاب أحمد وغيرهم: وهذه صلاة رهبةٍ وخوفٍ، كما أنَّ صلاة الاستغفار صلاة رغبةٍ ورجاءٍ، وقد أمر الله عباده أن يدعوه خوفًا وطمعًا.
وقال ابن القيم: التخويف إنما يكون بما هو سببٌ للشرِّ والخوف؛ كالزلزلة والريح العاصف، فقال عليه الصلاة والسلام:"إذا رأيتم آية فاسجدوا"، تدل على أنَّ السجود شرع عند الآيات.
وبعض العلماء قال: لا تصلى صلاة الكسوف؛ لحدوث صواعق، أو عواصف شديدة، أو رعود وبروق مخيفة؛ لأنَّ هذه الأمور حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يصلِّ من أجلها، وإنما صلَّى للكسوف، والأفضل الاقتصار على الوارد الثابت، والتخويف لا شكَّ أنَّه علة، ولكن لا قياس مع السنة الظاهرة، والترك عند وجود السبب، وانتفاء المانع -سنةٌ.
***