الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صوم التطوع وما نهي عن صومه
مقدمة
التطوع: فعل الطاعة مطلقًا، وأطلقه الفقهاء على نوافل العبادات من صلاةٍ، وصدقةٍ، وصيامٍ، وحجٍّ.
وفيه فضل عظيم لما يحصل به من الثواب، وتكفير السيئات، وكثرة الحسنات، وترقيع الواجبات، قال تعالى:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184] أي: من زاد عن الواجب بنوافل العبادات فهو أعظم؛ لأنَّ الخير اسم جامع لكل أمر نافع.
وقال تعالى في الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل، حتى أحبه"[رواه البخاري (26021)].
قال الإمام أحمد: الصيام أفضل ما تطوع به، لأنَّه لا يدخله الرياء.
وقد ورد في فضله أحاديث شريفة، منها ما جاء في البخاري (1771) ومسلم (1942) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلَاّ الصوم؛ فإنَّه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي".
فالله جل وعلا خصَّ نفسه بالصيام بإضافته إليه دون سائر الأعمال، تنويهًا وتشريفًا وتفخيمًا له، ثم تولى عز وجل جزاء صاحبه بلا عدد ولا حساب، ذلك أنَّ الصيام سرٌّ بين الله تعالى، وبين عبده، لا يطلع عليه سواه.
فنسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
565 -
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأنْصَارِيِّ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَال: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ وَالبَاقِيَةَ، وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشورَاءَ، فَقَال: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ، وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ، فَقَالَ: ذلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَبُعِثْتُ فِيهِ، وَأُنْزِلَ عَليَّ فِيهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- عاشوراء: فيه ألف التأنيث الممدودة، وهو أفصح من القصر، وعاشوراء من باب الصفة التي لم يرد لها فعل، والتقدير: يوم مدته عاشوراء، أو صفته عاشوراء، وهو مأخوذ من لفظ:"العاشر" عند جماهير العلماء، فإنَّه اليوم العاشر من شهر محرم، وقيل: إنَّه التاسع من محرم مأخوذ من إظماء الإبل، فإنَّ العرب تسمي اليوم الخامس من أيام الورد: ربعًا، وكذا باقي الأيَّام على هذه النسبة، فيكون التاسع عاشرًا، والقول الأول أرجح وأشهر عند العلماء وجمهور المسلمين، وهو اسم إسلامي لا يعرف بهذا الاسم في الجاهلية.
- بعثتُ فيه، وأنزل عليَّ فيه: هما معنيان مترادفان، والدليل الرواية الأخرى في مسلم:"يوم بعثت فيه، وأنزل عليَّ فيه".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
في الحديث استحباب صوم يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وأنَّه يكفر ذنوب السنة الماضية، أما السنة الآتية فإنَّ تكفير السيئات في المستقبل من العمر، لم يكن إلَاّ للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا
(1) مسلم (1162).
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].
وكذلك لأهل بدر، فقد جاء في الحديث القدسي:"اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم".
قال العلماء: معنى هذا الحديث: أن يوفق صائمه ويعصمه، فلا يأتي بذنب، أو يوفقه لأعمال صالحة تكفر ما يقع فيها من الذنوب.
2 -
صوم يوم عرفة هو أفضل صيام التطوع، بإجماع العلماء.
3 -
صيامه مستحب لغير الحاج الواقف بعرفة؛ لما روى الخمسة عن أبي هريرة: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة" وكراهة صوم عرفة بعرفة مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
4 -
يدل الحديث على استحباب صوم يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر محرم؛ فقد جاء في صحيح مسلم (1911) عن ابن عباس:"أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صامه، وأمر بصيامه".
5 -
صيام عاشوراء يكفر سيئات السنة التي قبله؛ ذلك أنَّ فضله أقل من فضل يوم عرفة، وفضل صيامه أقل من فضل صيام يوم عرفة.
6 -
جاء في صحيح مسلم (1917)؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لئن بقيت إلى قابل، لأصومنَّ التاسع" ولذا استحب جمهور العلماء -ومنهم الإمام الشافعي والإمام أحمد- الجمع بالصيام بين التاسع والعاشر.
ظاهر الحديث: أنَّ صوم يوم عرفة يكفر الصغائر والكبائر من الذنوب، به قال بعض العلماء، والجمهور على أنَّه لا يكفر الكبائر، وقالوا: إنَّ صوم يوم عرفة ليس أفضل من الصلوات الخمس، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن، ما لم تغش الكبائر".
وقال النووي: المراد بالذنوب التي يكفرها الصيام هي: الصغائر، فإن لم
يوجد صغائر، رجي أن يخفف من الكبائر، فإن لم تكن رفعت له درجات.
قال إمام الحرمين: وكل ما يراد في الأخبار من تكفير الذنوب، فهو عندي محمول على الصغائر، دون الموبقات.
قال النووي: وقد ثبت ما يؤيده: فمن ذلك حديث عثمان رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها، إلَاّ كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله"[رواه مسلم (335)].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنَّ، ما لم تغش الكبائر"[رواه مسلم].
7 -
قال شيخ الإسلام: أيام ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان من ليالي عشر ذي الحجة.
قال ابن القيم: ذلك أنَّه ليس من أيام العمل أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وأما ليالي عشر رمضان ففيها ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر.
8 -
يدل الحديث على استحباب صوم الاثنين من كل أسبوع؛ ذلك أنَّ هذا اليوم المبارك امتنَّ الله فيه على المسلمين بثلاث منن عظام، هي: ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثته صلى الله عليه وسلم رسولًا بشيرًا ونذيرًا إلى هذه الأمة، والنعمة الثالثة إنزال القرآن الكريم في هذا اليوم، ولا شك أنَّ هذه نعم عظام، وآلاء جسام خصَّ الله تعالى بهنَّ يوم الاثنين، فصار كأنَّه يوم فرح وسرور ينبغي منَّا الشكر فيه، وشكر الله هو القيام بعبادته.
9 -
كما جاء الفضل بصوم يوم الخميس من كل أسبوع، فقد روى الإمام أحمد
(7318)
، والترمذي (678)، وابن ماجه (1730) أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قال:"تعرض الأعمال كل اثنين وخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم".
10 -
لا دليل في الحديث على مشروعية إقامة الموالد، فإنَّ العبادات توقيفية ولا تكون إلَاّ من الشارع، والشارع عين العبادة التي تؤتى في يوم الاثنين، وهي فضيلة صيامه، فنقتصر على الوارد ولا نتعداه.
2 -
معنى عرض الأعمال -والله أعلم-: إظهارها، والإخبار عنها، وجزاؤها عند الله تعالى، فالأفضل أن يعرض عمله في يوم هو صائم فيه؛ ليظهر تجمله في هذا اليوم، فكل مناسبة لها زينتها ومظهرها اللائق بها.
***
566 -
وَعَنْ أَبِي أَيُّوَبَ الَأنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أتبعه: يقال: تبعه يتبعه تبعًا وتباعًا، من باب تعب، وأتبعه: ألحقه به، وجعله تابعًا له.
- شوال: -بفتح الشين المعجمة وتشديد الواو-: هو الشهر العاشر من السنة القمرية الهجرية، وهو أول أشهر الحج، قيل: سمي: شوالًا؛ لأنَّه وقت تسمية الشهور صادف تشويل الإبل، جمعه: شوالات.
الدهر: بفتح الدال وإسكان الهاء، ويطلق على أزمنة كثيرة متفاوتة، ولكن المراد هنا هو: السنة القمرية، كما سيأتي بيانه في ما يؤخذ من الحديث.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
فيه استحباب صيام ست من شوال؛ لهذا الحديث الصريح التصحيح، الذي جاء من ثلاث طرق غير هذا الطريق: فرواه أحمد (22433)، وأبو داود (2078)، والترمذي (690)، من ثلاثة أوجه حتى قيل: إنَّه حديث متوات؛ ذلك أنَّ الدمياطي جمع طرق الحديث، فأسنده عن بضعة وعشرين رجلًا، أكثرهم حفاظ ثقات.
2 -
استحباب صيام الست هو مذهب السلف والخلف، وجمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد.
(1) مسلم (1164).
أما مالك: فيرى كراهة صيامها؛ لئلا يظن العامة وجوبها؛ لقربها من رمضان، وهذا تعليل واه جدًّا في مقابل السنة الصحيحة الصريحة، فهو تعليل لا يستقيم، ولا يبقى أمام البحث والنظر، وأحسن ما اعتذر به عن الإمام مالك ما قاله محقق مذهبه، وشارح "موطّئه"، أبو عمر بن عبد البر: أنَّ هذا الحديث لم يبلغ مالكًا، ولو بلغه لقال به.
3 -
قال في "الإقناع وشرحه": يسن صوم ستة أيام من شوال، ولو متفرقة، ولا تحصل الفضيلة بصيامها في غير شوال.
4 -
من صامها مع رمضان، فكأنما صام الدهر فرضًا؛ ذلك أنَّ الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة الأيام عن شهرين، فذلك سنة كاملة، فحصل ثواب عبادة الدهر على وجه لا مشقة فيه، فضلًا من الله، ونعمةً على عباده.
5 -
استحب العلماء أن يكون صيام الست بعد يوم العيد مباشرة؛ لمراعاة أمور عامة، منها: المسارعة إلى فعل الخير، ومنها المسارعة إليها دليلٌ على الرغبة في الصيام والطاعة، وعدم السأم منها، ومنها ألا يعرض له من الأمور ما يمنعه من صيامها إذا أخرها، ومنها أنَّ صيام ستة أيام بعد رمضان كالراتبة بعد فريضة الصلاة، فتكون بعدها، وغير ذلك من الاعتبارات، والله الموفق.
وأما فضلها: فيحصل في أي ستة أيام صيمت من شوال، مجتمعةً أو متفرقة.
* خلاف العلماء.
اختلف العلماء في جواز صيام التطوع -ومنها أيام الست- وعليه صيام واجب:
فذهب الأئمة الثّلاثة إلى: جوازه، وقاسوه على صلاة التطوع قبل صلاة
الفرض في وقتها.
والمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه يحرم صيام التطوع، ولا يصح، ما دام عليه صوم واجب.
قال في "شرح الإقناع": ويحرم التطوع بالصوم قبل قضاء رمضان، ولا يصح، نصَّ عليه، بل يبدأ بالفرض حتى يقضيه؛ لحديث:"إنَّ الله لا يقبل تطوعًا، حتّى تؤدى فريضته"[رواه ابن أبي شيبة (34433) موقوفًا على أبي بكر رضي الله عنهما].
أما من صام الستة الأيام من شوال، وعليه قضاء-: فإنَّه بذلك صامها قبل أن يكمل رمضان، والحديث: "من صام رمضان
…
".
واختلفوا: هل تقضى الأيام الستة إذا خرج شوال؟ فيه قولان لأهل العلم: الأرجح: أنَّها لا تقضى؛ لأنَّها سنة فات محلها.
* فائدة:
قال الشيخ: ويسمي بعضهم الثامن من شوال: "عيد الأبرار"، ولا يجوز اعتقاده عيدًا؛ فإنَّه ليس بعيد إجماعًا، وليست له شعائر العيد.
***
567 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَاّ بَاعَدَ اللهُ بِذلِكَ اليَوْمِ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ سَبْعِيْنَ خَرِيْفًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- خريفًا: الخريف: أحد فصول السنة، واقع بين الصيف والشتاء، وبروجه ثلاثة، وهي:"الميزان، والعقرب، والقوس"، والمراد هنا: السنة كلها، من باب تسمية الكل باسم بعضه، وإنما خص بالذكر من دون بقية الفصول؛ لأنَّ فيه تنضج الثمار، وتحصل سعة العيش.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الصيام من العبادات البدنية الشاقة، والجهاد من العبادات المالية والبدنية الصعبة، فمن قوي عليهما جميعًا، وقام بهما، فقد بلغ القمة في بذل الوسع والطاقة في عبادة الله تعالى، وآثر محبة الله تعالى على راحته، فجزاؤه كبير على قدر نصَبَه الشاق، وذلك بأن يبعد من جهنم وعذابها، مسافة سبعين سنة.
2 -
أنَّ العدد لا مفهوم له، وإنما تذكر الأعداد على سبيل التكثير والتوضيح، كما أنَّ من زحزح عن النار، فقد أدخل الجنة، بموجب وعد الله تعالى؛ إذ ليس هناك جهة غير الجنة، أو النار.
3 -
وفي الحديث فضل الجهاد في سبيل الله، ومقام الجهاد من الإسلام معلوم،
(1) البخاري (2840)، مسلم (1153).
فقد قال صلى الله عليه وسلم: "وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله".
4 -
يقيد الصيام في سبيل الله بعدم إضعاف بدنه عن الجهاد، فإذا أضعفه فالمستحب له تركه؛ لأنَّ الجهاد مصلحة عامة متعدية، والصوم عبادة خاصة قاصرة على صاحبها، وكلما عمت مصلحة العبادة كانت أنفع وأولى.
5 -
قوله: "ما من عبد" عبودية الخلق لله تعالى قسمان:
عبودية عامة، وعبودية خاصة، فالعبودية العامة تشمل جميع المخلوقات، ويدخل فيها الكفار والعصاة، قال تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم].
فهي عبودية كونية يخضع لها الجميع، فهو المتصرف فيهم بالإحياء والإماتة والنعم والنقم، فهم في قهره وسلطانه وهم عبيده المسخرون بخلقه وأمره.
والعبودية الخاصة: هي التي تكون للمؤمنين، فهم متعبدون لله بطاعته، ممتثلون لشرعه، منفذون لحكمه في قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56].
***
568 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصُومُ: حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ، حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَاّ رَمَضَانَ، ومَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- حتى: هي الجارة التي بمعنى: "إِلى"، والفعل بعدها منصوب بـ"أن" مضمرة وجوبًا، و"أنَّ" والفعل المضارع في تأويل مصدر مجرور بـ"حتى"، تقديره:"حتى قولنا".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يسرد الصيام أيامًا كثيرة متوالية، حتى يُظن أنَّه لن يفطر، إلَاّ أنَّه لا يكمل صيام شهر غير رمضان، ويفطر الأيام المتواصلة حتى يُظن أن لن يصوم.
2 -
لعلَّ عذره في موالاة الصيام تارةً، وموالاة الإفطار أخرى-: أنَّه صلى الله عليه وسلم يراعي المصلحة في ذلك، فإن وجد فرصةَ أيامٍ خفَّت أعمالُه فيها صام، وإذا زحمت أوقاته بأعمال المسلمين العامة فضَّل الإفطار، والتفرغ لها على الصيام، ودليل ذلك أنَّ صيامه، أو فطره لم يكن بوقت خاص، أو شهر خاص.
3 -
أما شهر شعبان: فكان يكثر فيه صلى الله عليه وسلم من الصيام؛ وذلك إما تعظيمًا لشهر رمضان وصومه، وجعل الصيام فيه كالراتبة قبل الفريضة في الصلاة، ولعلَّ
(1) البخاري (1969)، مسلم (1156).
من الحكمة في ذلك التمرن والاستعداد لصيام رمضان، فلا يأتي والنفس لم تعتد الصيام، وبعضهم قال: لأنَّ شهر شعبان يغفل عنه الناس؛ لوقوعه بين شهرين عظيمين: رجب، ورمضان.
قال في "سبل السلام": ويحتمل أنَّه كان يصومه لهذه الحِكَم كلها.
4 -
وفيه دليل على أنَّه لا يخص بصيامه وقتًا دون وقت، فينبغي للمسلم مراعاة المصلحة في عباداته، فيقدم منها الأهم فما بعده، ويقدم منها ما يتعلَّق بالمصالح العامة، ولا يغفل عن غيرها، فتوزيع الوقت وتنسيق الأعمال مما يحث عليه الشرع الشريف.
5 -
وفيه أنَّه ينبغي للمسلم أن يسوس نفسه، ويمرنها على طاعة الله تعالى، حتى تعتاد ذلك وتألفه، وتصبح العبادة سهلة عليها، بعد أن كانت شاقة وثقيلة.
***
569 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَصُومَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ: ثَلَاثَ عَشَرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشَرَةَ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، والتِّرمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسنٌ.
قال في "التلخيص": رواه النسائي، والترمذي، وابن حبان، من حديث أبي ذر، ورواه ابن حبان أيضًا من حديث أبي هريرة، ورواه ابن أبي حاتم عن جرير مرفوعًا، وصحَّح أبو زرعة وقفه على جرير.
قال الترمذي: حديث حسنٌ، وللحديث طرقٌ أُخر.
* مفردات الحديث:
- ثلاث عشرة
…
إلخ: وتسمَّى الأيام البيض؛ وذلك لبياض لياليها بطلوع القمر في جميعها، من أولها إلى آخرها.
ثلاث عشرة: بدل من المفعول به، وهو مركب مزجي مبني على فتح جزأيه، ومحله النصب، وذُكِّر "ثلاث" موافقة ليوم المذكر، وأُنِّث "عشرة" مخالفة ليوم، وهكذا باقي هذه الأعداد المركبة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر من شهور السَنة الهلالية، وأجر الأيام الثلاثة بقدر أجر صيام الشهر كله؛ إذ الحسنة بعشر أمثالها، ويدل لهذا التقدير ما جاء في السنن الأربع من حديث قتادة بن
(1) النسائي (4/ 222)، الترمذي (761)، ابن حبان (3647).
ملحان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي كهيئة الدهر"، فالمديم على صيام الأيام الثّلاثة من كل شهر كأنه صام الدهر كله.
2 -
الأفضل أن تكون من الشهر: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر؛ لحديث الباب، ولما أخرجه النسائي بإسنادٍ صحيحٍ عن جابرٍ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر، وأيَّام البيض صبيحة: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة".
3 -
واستحباب صيام. أيام البيض الثلاثة هو قول جمهور أهل العلم، بل حكى الوزير الاتفاق على فضيلته.
4 -
تخصيص فضيلة الصيام بأيام البيض الثلاثة -كما جاء في السنة المطهرة- فيه إعجازٌ علميٌّ، فقد ذكر الأطباء أن رطوبة الأجسام تزيد فيها مع زيادة نور القمر واكتماله، والصوم يساعد على التخفيف من هذه الفضلات وإفراغها من البدن، كما أن الصوم حينما يلاقي البدن ممتلئًا من هذه الرطوبة تخف مشقته، ويسهل تحمّله على الصائم، ولله في شرعه حِكَم وأسرار.
***
570 -
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ، وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ، إِلَاّ بِإذْنِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
زَادَ أَبُو دَاوُدَ: "غَيْرَ رَمَضَانَ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
زيادة أبي داود قال عنها النووي في "المجموع": إسنادها صحيح على شرط الشيخين.
* مفردات الحديث:
- شاهد: أي: حاضر عندها غير غائب، قال تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أي: من كان منكم مقيمًا غير مسافر.
- بإذنه: من أذن يأذن إذنًا، بمعنى: أباح له وأجازه، ومنه إذن الزوج لزوجته.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
حقوق الزوج على زوجته كبيرة؛ وذلك لوجوب طاعته، وامتثال أمره بالمعروف، وإجابة مطالبه العادلة، ورغباته الممكنة.
2 -
قال شيخ الإسلام: إذا تزوجت المرأة، كان زوجها أملك بها من أبيها، وطاعة زوجها عليها أوجب؛ لما روى الترمذي (1079) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ، لأمرتُ المرأةَ أن تسجد لزوجها".
3 -
من هذا أنَّه لا يحل لها أن تصوم صوم تطوع وزوجها حاضر، إلَاّ بإذنه وموافقته، وأما إن كان غائبًا عنها، فيجوز أن تصوم، ولا تحتاج إلى إذنه؛ إذ
(1) البخاري (1991)، مسلم (1921).
صيامها لا يضيع عليه حقًّا من حقوقه، وجواز صيامها هو مفهوم حديث الباب، ولأنَّ المعنى المراد من المنع لا يوجد.
أما الصوم الواجب كرمضان أداءً كان أو قضاءً، فمقدم على طاعته، ويجب عليها صيامه ولو كره الزوج؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
4 -
فلو صامت نفلًا بغير إذنه، صحَّ صيامها، مع أن صيامها محرَّم عليها؛ ذلك أنَّ حق زوجها عليها مقدم على صوم التطوع.
5 -
لكن ينبغي أن يكون بين الزوجين عِشرة حسنة، ومعاملة طيبة، فكل منهما يعاشر صاحبه بالإحسان والمعروف؛ لتدوم الصحبة، وتستمر العِشرة.
6 -
الإذن من الزوج لا يشترط فيه التصريح، بل إذا علمت من قرائن الحال ما يدل على الرضا بذلك، فإنَّه يكفي، فإنَّ الإذن العرفي كالإذن اللفظي.
***
571 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: "أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
عيد الفطر وعيد الأضحى هما عيدا المسلمين، اللذان يظهر المسلمون فيهما السرور والفرح والبهجة، فهما يوما شكر لله تعالى على صيام شهر رمضان، وعلى القيام بمناسك الحجِّ، وذبح الهدي والأضاحي.
وهما يوما فرح للمسلمين يتوسعون فيهما بالمباحات والطيبات، ولعلَّ من الحكمة في تحريم صومهما، ووجوب فطرهما: تمييز شهر الصيام عن شهر الفطر في عيد الفطر، والتمتع في الأكل من الأضاحي والهدي، التي أمر الله تعالى بالأكل منها بقوله:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] والصيام عزوف عن هذه السُّنَّة.
2 -
صيام هذين اليومين هو أمر مخالف ومناف لما شرعه الله وأباحه فيهما، لذا نهى الشارع الحكيم عن صيامهما، وأمر بالفطر فيهما.
3 -
صيام يومي عيد الفطر والأضحى حرام بالإجماع، ولا يصح، أي: لا ينعقد صيامًا شرعيًّا، فلو صامهما الإنسان عن قضاءٍ، أو نذرٍ، أو نفلٍ، أو غير ذلك -لم يصح صومه، ولم يجزئه عن شيء.
4 -
يوم العيد هو ما اتَّفق عليه المسلمون، وتحقق لديهم ثبوته، ولا عبرة بكبر الأهلة وصغرها، كما لا عبرة بتعيين الدخول والخروج بالحساب، وإنما العبرة بالشهادة الصادقة على الرؤية البصرية المجردة، فقد جاء في البخاري (1767) ومسلم (1799)، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا
(1) البخاري (1991)، مسلم (1921).
رأيتموه فأفطروا".
فإذا تحققت رؤيته، اعتبروا هذا يوم عيدهم، فيحرم صومه، فصيامه شذوذ عن جماعة المسلمين؛ لما روى الدارقطني (2/ 224)، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون".
قال شيخ الإسلام: الهلال اسم لما يراه الناس، ويتعاملون بينهم، فالفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس.
5 -
المشهور في مذهب الإمامين: أبي حنيفة وأحمد-: أنَّه إذا ثبت رؤية الهلال في بلد لزم الناس كلهم الصوم، ولو اختلفت المطالع.
وذهب الإمام الشافعي إلى: اعتبار اختلاف المطالع.
قال شيخ الإسلام: تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة، فإذا اتفقت لزم الصوم، وإلَاّ فلا.
وهو قول في مذهب أحمد، واختار هذا القول كثير من المحققين.
واختلاف المطالع قدَّرها أهل الهيئة بـ (2226) كيلو (ألفين ومئتين وستة وعشرين).
6 -
قال شيخ الإسلام: لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، والمعتمِد عليه كما أنَّه منافٍ للشريعة مبتدعٌ في الدين، فهو أيضًا مخطىء في العقل وعلم الحساب، فإنَّ علماء الهيئة يقولون: إنَّ الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، فإنَّها تختلف باختلاف ارتفاع المكان وانخفاضه، وغير ذلك.
***
572 -
وَعَنْ نُبَيْشَةَ الهُذَلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللهِ عز وجل". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
573 -
وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَمَرَ رضي الله عنهم قَالَا: "لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2).
ــ
* مفردات الحديث:
- لم يرخص: بالبناء للمجهول، والرخصة لغة: التسهيل في الأمر والتيسير؛ يقال: رخَّص الشرع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا إذا يسَّرهُ وسهَّله، والمراد هنا: لم يرخص؛ يعني: لم يبح صيامها إلَاّ لما ذكر.
- أيَّام التشريق: هي ثلاثة أيام: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، من شهر ذي الحجة، سميت بذلك؛ لتشريق الناس لحوم الأضاحي والهدي فيها، ونشرها في الشمس لتجف، وذلك بعد تقديدها، وجعلها شرائح.
* ما يؤخذ من الحديثين:
- أيَّام التشريق ثلاثة: هي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، من شهر ذي الحجة، وهي أيام أكلٍ وشربٍ، وذكر الله عز وجل، فهي أيام فرح تابعات ليوم عيد الأضحى بالأكل من لحوم الأضاحي، والتبسط في
(1) مسلم (1141).
(2)
البخاري (1859).
المباحات، وهي أيام ذكر الله تعالى: حيث يشرع فيهن تكبير الله تعالى، فهي الأيام المعدودات، التي قال الله تعالى عنها:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وسميت أيام التشريق؛ لأنَّ الناس يقددون لحوم الهدي والأضاحي، ويشرقونها في الشمس لتجف، ليدخروها لعدة أيام.
2 -
لهذه الوظائف الدينية والتقوِّي على أدائها، ولكون المسلمين فيها في أعقاب فرح العيد، والأكل مما تقربوا به إلى الله تعالى من الهدي والأضاحي، فهم في ضيافة الله تعالى، لهذا كله، ولامتثال أمر الله تعالى، حرَّم صيامها، ولا يصح لا فرضًا، ولا نفلًا، ولا نذرًا، ولا غير ذلك، وإن صامها عن شيء من ذلك لم يجزئه؛ لأنَّه لم يقع موقعه ولم يصح صيامه فيهن.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في صيام أيام التشريق، على ثلاثة أقوال:
الأول: أنَّه لا يصح صومهن، إلَاّ عن صوم التمتع والقِران لعادم الهدي.
الثاني: لا يصح صومهنَّ مطلقًا، لا عن تمتع، ولا قِران، ولا غيره.
الثالث: جواز صومهن للتمتع والقِران، وكل صوم له سبب كنذر وكفارة، دون ما لاسبب له، فلا يصح.
والصحيح من هذه الأقوال: أنَّ صومهن محرَّم، لا يصح إلَاّ للتمتع والقِران إذا عدم الهدي، فإنَّه يجوز له صوم أيام التشريق الثلاثة؛ لحديث الباب الذي معنا.
قال النووي: والأرجح في الدليل صحتها للتمتع، وجوازها له؛ لأنَّ الحديث في الترخيص له صحيح، وهو صريح في ذلك، فلا عدول عنه.
***
574 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّام، إِلَاّ أنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أحَدُكُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
575 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إِلَاّ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، أوْ يَوْمًا بَعْدَهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا تخصوا: لا تفردوه دون غيره من الأيام والليالي.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
يوم الجمعة هو أفضل أيام الأسبوع؛ لما رواه أبو داود (883) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أفضل أيامكم يوم الجمعة"، وفي البخاري (847) ومسلم (1412) أنَّه صلى الله عليه وسلم قالَ:"ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة، هدانا الله له، وضلَّ الناس عنه".
فيوم الجمعة هو عيد المسلمين الأسبوعي، ومجتمعه أفضل مجامع المسلمين سوى مجمع عرفة، لذا كُرِهَ صيامه؛ لأنَّه يوم زينة وبهجة، يُظْهر فيه المسلم عزَّ الإسلام وقوته ونشاطه، ويؤدي فيه شعائره الدينية بهمة وقوَّة
(1) مسلم (1144).
(2)
البخاري (1985)، مسلم (1144).
ونشاط، والصيام يضعف الصائم عن القيام بهذه الأمور، وإذا تزاحمت المصالح قدم أنفعها وأولاها بما يعود على المصلحة الإسلامية العامة.
قال النووي: الحكمة في كراهة صومه أنَّه يوم دعاءٍ، وذكرٍ، وعبادةٍ، فاستحب الفطر فيه؛ ليكون أعون عليها، ولأنَّه عيد الأسبوع الذي هدى الله إليه هذه الأمة، حينما أضل عنه اليهود الذين عظموا السبت، وأضل عنه النصارى الذين عظموا يوم الأحد، فالحمد لله على نعمته وهدايته.
وقال أيضًا: في الحديث نهي صريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من دون الليالي، فهذا متفق على كراهته.
2 -
يدل الحديثان على كراهة إفراد يوم الجمعة بصيام، وكراهة تخصيص ليلته بقيام؛ لئلا يتخذ الناس شعائر لم يأذن بها الله تعالى، أما صيامه أو قيامه بدون قصد لتخصيص هذه الليلة وذلك اليوم، فلا يدخل في النهي.
3 -
يدل الحديثان على جواز الصيام، وزوال الكراهة بأحد أمرين:
أحدهما: أن يوافق يوم الجمعة صيام معتاد، كأن يكون يصوم يومًا، ويفطر يومًا، فصادف يوم صيامه يوم الجمعة.
الثاني: إذا لم يفرده بالصيام بل جمع معه غيره، بأن صام يومًا قبله، أو يومًا بعده.
ففي هاتين الحالين تزول الكراهة؛ لأنَّه لم يوجد للجمعة تخصيص.
4 -
ظاهر الحديثين تحريم الصيام؛ لأنَّ النَّهي يفيد التّحريم، كما أنَّه توجد أدلة أخر صحيحة تفيد وجوب الفطر، وتحريم الصيام؛ كحديث جويرية في البخاري، ومع هذا ذهب جمهور العلماء إِلى أن النَّهي للتنزيه لا للتحريم؛ لأنَّ النَّهي منصب على تخصيصه بصيام أو قيام، ولم يكن النَّهي على نفس الصيام والقيام.
ولعلَّ مأخذ الجمهور في الكراهة دون التحريم-: أنَّهم لما رأوا إباحة
صيامه بقرنه بيوم قبله أو بعده، وإباحته إذا صادف صومًا للمسلم- استقرَّ لديهم أنَّ النَّهي ليس للحتم، كما هو لعيدي الفطر والأضحى، اللذين لا يجوز صيامهما بحال، والله أعلم.
* فائدتان:
الأولى: قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن: العبادات مبناها على الأمر، والنَّهي، والاتباع، فصيام يوم المولد، وسبع وعشرين من رجب، ونحو ذلك من البدع، لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنَّه قال:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد" أرواه مسلم (3243)، وتكون هذه الأمور وأمثالها مردودة.
الثاني: قال الشيخ تقي الدين: صوم رجب أحاديثه كلها موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في فضائل الأعمال، بل عامتها من المكذوبات الموضوعات.
***
576 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ، فَلَا تَصُومُوا". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، واسْتَنكرَهُ أَحْمَدُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
الحديث استنكره الإمام أحمد؛ لأنَّه تفرد به العلاء بن عبد الرحمن، قال بعضهم: هو من رجال مسلم، وقال الحافظ في "التقريب": إنَّه صدوق، وربَّما وهِم.
قال أحمد وابن معين: إنَّه منكر، وقد استدلَّ البيهقي والطحاوي على ضعفه بحديث أبي هريرة في الصحيحين:"لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم، أو يومين".
قال الشوكاني: جمهور العلماء ضعَّفوا هذا الحديث.
* مفردات الحديث:
- إذا انتصف شعبان: أي: إذا مضى نصفه، وبقي نصفه.
- لا تصوموا: "لا" ناهية، والفعل بعدها مجزوم بحذف النون.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
من مقاصد الشرع الشريف تمييز العبادات بعضها عن بعض، ولذا جاء في صحيح مسلم: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أمر ألا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم، أو
(1) أحمد (9333)، أبو داود (2337)، الترمذي (738)، النسائي في الكبرى (2/ 172)، ابن ماجه (1651).
نخرج" وهذه هي حكمة النية التي تميز العادة عن العبادة، وتميز العبادات بعضها عن بعض.
2 -
من هذا الهدف -والله أعلم- نُهيَ عن الصيام إذا انتصف شعبان؛ ليكون صيام شهر رمضان منفصلًا مستقلًّا وحده.
ولعلَّ من الحكمة أيضًا: حصول الاستجمام لصوم رمضان، فلا يأتي صومه والمسلم في حال ملل وكسل عن الصيام، وإنما يقبل عليه برغبة وشوق إليه، وهذا التعليل لا ينافي حديثي عائشة وأم سلمة في صيام شعبان كله أو أكثره، فالنفوس على الامتثال على العبادة ليست واحدة، والحكم يكون للغالب.
3 -
النَّهي عن هذا الصيام مقيد بما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلَاّ رجل كان يصوم صومًا فليصمه"، فمن كان له صوم معتاد فصادف ما بعد النصف من شعبان فليصمه، فإنَّه لم يدخل في النَّهي.
4 -
النَّهي عن صيام النصف الأخير من شعبان، هذا في حال إذا ابتدأ بالنصف فما بعده، أما إذا كان يصوم قبل النصف، ثم استمر إلى آخر الشهر، فإن النهي لا يشمله؛ لئلا يتعارض مع ما جاء في البخاري (1834)، ومسلم (1957) من حديث عائشة قالت:"لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا أكثر من شعبان؛ فإنَّه كان يصومه كله".
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء: هل النَّهي للتنزيه، أو للتحريم؟
فذهب كثير من الشافعية إلى: أنَّ النَّهي للتحريم.
وذهب بعضهم إلى: أنَّه للتنزيه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد؛ وذلك لما جاء في "المسند" (25434) من حديث أم سلمة: "أنَّ النَّبيَّ
-صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًا، إلَاّ شعبان، يَصِلُ به رمضان".
وحديث أم سلمة لا ينافي حديث أبي هريرة، الذي رواه البخاري (1781) ومسلم (1812) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقدموا رمضان بصوم يوم، ولا يومين، إلَاّ رجل كان يصوم صومًا فليصمه"؛ فهذا من الصوم الذي لم يقصد به تقدّم رمضان باليوم، أو اليومين.
***
577 -
وَعَنِ الصَّمَّاءِ بِنْتِ بُسْرٍ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ، إِلَاّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أحَدُكُمْ إِلَاّ لِحَاءَ عِنَبٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ. فَلْيَمْضَغْهَا". رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَاّ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ مَنْسُوخٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة. وقال الحافظ: رجاله ثقات.
وقد طعن في الحديث بالاضطراب؛ لأَنَّه جاء من رواية عبد الله بن بسر عن أخته الصماء، وقيل: عن عبد الله بدون أخته.
وأجيب: بأنَّ هذه علة غير قادحة، فإنَّه صحابيٌّ، ولا يضر ذلك في روايته، فكلهم عدول، وأما دعوى النسخ بالحديث الذي بعده، فلا يصح؛ لأنَّ هذا أقوى من الذي بعده، ولإمكان حمل الذي بعده على معنى آخر.
وقد حسَّن هذا الحديث الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن السكن، وقال النووي: صححه الأئمة، كما صححه الدارقطني، وعبد الحق، والمباركفوري، وضعَّفه بعضهم ومنهم النسائي، والطحاوي، والحافظ.
(1) أحمد (25828)، أبو داود (2421)، الترمذي (744)، النسائي في الكبرى (2/ 143)، ابن ماجه (1726).
* مفردات الحديث:
- بُسْر: بضم الباء، اسمها: بهية المازينية.
- لِحاء عنب: -بفتح اللام وكسرها فحاء مهملة ممدودة- هو قشرة كل شيء، والمراد هنا: قشرة العنب "الفاكهة المعروفة".
- فليمضغها: من باب نصر وفتح؛ أي: يطعمها للفطر بها.
***
578 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ الأَيَّامِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَيَوْمُ الأَحَدِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَأَنَا أُرِيدُ أن أُخَالِفَهُمْ". أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهَذَا لفْظُهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
أخرجه ابن حبان (3616) والحاكم (1593) وقال: إسناده صحيح ووافقه الذهبي، وقد ضعف هذا الإسناد عبد الحق الإشبيلي، لوجود مَنْ لا يعرف حاله في سنده، ولو صحَّ لم يصلح أن يعتبر ناسخًا لحديث الصماء بنت بسر، ولا يعارض به، لإمكان حمله على أنَّه صام مع السبت يوم الجمعة، وبذلك لا يكون قد خصَّ السبت، ولذلك قال ابن عبد الهادي عقب حديث ابن عباس: وهذا لا يخالف الانفراد بصوم السبت، وقال شيخنا -يعني: ابن تيمية-: ليس في الحديث دليل على إفراد يوم السبت بالصوم، والله أعلم.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الحديث رقم: (577): يدل على كراهية إفراد صوم يوم السبت، وذلك مقيد بما إذا لم يوافق عادة لصومه، أو يصومه عن قضاءٍ أو نذرٍ، أو كفارة.
2 -
الحكمة في النَّهي عن صومه والله أعلم، أنَّه يوم تعظمه اليهود، ويمسكون فيه عن الأشغال والأعمال، ويتفرغون فيه للعبادة، فصيامه تشبه بتعظيمهم إيَّاه، ومشابهة الكفار محرَّمة، فمن تشبه بقوم فهو منهم.
(1) النسائي في الكبرى (2/ 146)، ابن خزيمة (2167).
3 -
أما إذا جمع صيام يوم السبت مع يوم الأحد، فإنَّ الكراهة تزول؛ إذ لا يوجد تشبه بإحدى الطائفتين، وهذا ما يدل عليه الحديث رقم (578) فإنَّ صيام اليومين فيه مخالفة لأهل الملتين جميعًا؛ إذ كل أصحاب ملة يعظمون يومًا، ولا يعظمون اليومين كليهما.
4 -
قال شيخ الإسلام: دلَّت الدلائل من الكتاب والسنة، والإجماع والاعتبار على أنَّ التشبه بالكفار منهي عنه، فلا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم، لا من طعامٍ ولا شرابٍ، ولا لباسٍ ولا اغتسالٍ ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة، أو غير ذلك، أو ترك الوظائف الراتبة من الصنائع، أو التجارة، أو اتخاذ يوم راحةٍ وفرحٍ ولعب على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيَّام، كما لا يحل فيه إعداد وليمة ولا إهداءٌ، ولا إظهار زينة، والضابط أن يُجعل كسائر الأيام.
5 -
قال ابن القيم: إنَّ العلماء اتَّفقوا على تحريم تقديم الهدايا في أعياد الكفار الدينية، وتهنئتهم بأعيادهم التي يتعبدون لله بها، ففيه خطورة تؤدي إلى الكفر، ولهذا فإنَّه ينبغي للمسلم مخالفة أهل الكتاب في أعيادهم وعباداتهم، وأن يقصد هذه المخالفة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم السبت والأحد؛ قصدًا ولمخالفة المشركين من أهل الكتاب.
***
579 -
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ". رَوَاهُ الخَمْسَةُ غَيْرَ التِّرمِذِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالحَاكِمُ، وَاسْتَنكرَهُ العُقَيْلِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
قال في "التلخيص": رواه أحمد وأبو داود، والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة، وفيه مهدي الهجري مجهول، ورواه العقيلي في "الضعفاء" من طريقه، وقال: لا يتابع عليه.
قال العقيلي: وقد روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد أنَّه لم يصم عرفة بها، ولا يصح عنه النَّهي عن صيامه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يوم عرفة يوم عظيم وصيامه أفضل صيام التطوع؛ فقد جاء في صحيح مسلم (1976) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده".
إلَاّ أنَّ الحاج يوم عرفة مشغول بوظائف ذلك اليوم، من التلبية والتكبير، والذكر والدعاء، تلك الأذكار الخاصة بهذا اليوم، وهي وظائف تفوت ويفوت ثوابها بفوات ذلك اليوم، الذي قد لا يتكرر في حياة المسلم.
2 -
من أجل هذا كُره صوم عرفة بعرفة؛ ليكون الحاج قويًّا مستعليًا للقيام
(1) أحمد (1773)، أبو داود (2440)، النسائي (3/ 252)، ابن ماجه (1732)، ابن خزيمة (2151)، الحاكم (1587)، العقيلي (1/ 298).
بوظائف هذا اليوم العظيم، من الذكر والدعاء.
3 -
عدم استحباب صوم عرفة بعرفة هو مذهب جمهور العلماء، منهم الأئمة الثّلاثة: مالك والشافعي وأحمد، ويؤكد هذا الحديث ما جاء في البخاري (1853)، ومسلم (1896):"أنَّ أم الفضل أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلبن، فشرب، وهو يخطب بعرفة"، وقال ابن عمر:"حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مع أبي بكر، ثم مع عمر، ثم مع عثمان، فلم يصمه واحد منهم".
4 -
قال شيخ الإسلام: إنَّه يوم عيد؛ لما روى الإمام أحمد (16739)، عن عقبة ابن عامر؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام"، ومظهر العيد فيه والاجتماع هو للحجاج أكثر منه لغيرهم.
ولا يمنع أن يجتمع في الحكم الواحد عدة حِكَم وأسرار، فأحكام الله تعالى مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد، والحمد لله على نعمه التي لا تحصى.
***
580 -
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ (1).
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبي قتادَةَ رضي الله عنه بِلَفْظِ: "لا صَامَ، وَلَا أفْطَرَ"(2).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا صام من صام الأبد: جملة إنشائية دعائية، جاءت على سبيل الإخبار، فهو دعاء عليه، لقصد الزجر عن هذا الصنيع، وقيل: إنَّها جملة خبرية، وأنَّ من صام الدهر، فقد ألِفَ نظام الأكل على هيئة الصيام، فلا يحس بألم الجوع والظمأ، فكأنَّه لم يصم.
- الأبد: بفتح الهمزة والباء، والأبد هو: الدهر الطويل، الذي ليس بمحدود، وجمعه: آباد وأبود.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
اختلف العلماء في معنى قوله: "لا صام من صام الأبد".
فقال بعضهم: هذا دعاء على الصائم؛ زجرًا له عن مواصلة الصيام المجهدة الشاقة، التي تمنع القائم بها عن كثير من أعمال البر والإحسان، وتعجزه عن القيام بالواجبات نحو نفسه ونحو أهله، ونحو من يمون، ونحو أصحاب الحقوق الواجبة، والمستحبة عليه.
وقال بعضهم: إنَّ معناه الإخبار عن حال هذا الصائم الذي لم يصم
(1) البخاري (1977)، مسلم (1159).
(2)
مسلم (1162).
حقيقة، وإنما صام صورة؛ ذلك أنَّ الصيام الذي يؤجر عليه صاحبه ما نال صاحبه، من ألم الجوع والظمأ، وفقد المباحات.
أما صائم الدهر: فقد ألفت نفسُه الصيام، واعتادت طبيعته الحرمان، فصار لا يحس بالصيام ولا بما يسببه من الجوع والظمأ، وبهذا فكأنَّه لم يصم، فالحديث إخبار عن حاله.
2 -
على كل حالٍ، فهو مذموم في كلا الأمرين؛ لأنَّه خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنَّه اختار لنفسه قدرًا من العبادة غير القدر الذي اختاره الله ورسوله.
قال ابن العربي "شارح الترمذي": إنَّ كان دعاء، فيا ويح من دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كان كان خبرًا فيا ويح من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
3 -
فإن قيل: إنَّ صيام الدهر فضيلة؛ لأنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قال عن صائم الأيام الثلاثة من كل شهر: "إنَّ ذلك يعدل صوم الدهر"[رواه مسلم (1162)].
قال ابن القيم: هذا التشبيه إنما يقتضي التشبيه به في ثوابه، لو كان مستحبًّا.
والدليل عليه من نفس الحديث، فإنَّه جعل صيام ثلاثة أيام من كل شهر بمنزلة صيام الدهر؛ إذ الحسنة بعشر أمثالها، وهذا يقتضي أن يحصل له ثواب من صام ثلاثمائة وستين يومًا، ومعلوم أنَّ هذا حرام قطعًا، وغير جائز بالاتفاق، فالتشبيه إنما جاء على تقدير إمكانه.
4 -
الصيام المستحب هو صيام نبي الله تعالى داود؛ كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، والمسلم الموفق يراعي الأحوال في عباداته وعاداته، فلا يترك شيئاً يطغى على شيء، فإنَّ الانهماك في نوع يحرم صاحبها من أشياء ربما تكون أفضل وأولى مما هو عليه.
5 -
جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "صُم يومًا، وأفطر يومًا؛ فإنَّه أفضل الصيام، ولا أفضل من ذلك"، قال
ذلك صلى الله عليه وسلم إرشادًا للأمة إلى مصالحهم، وقصرًا لهم على ما يطيقون الدوام عليه، فإنَّ أحب العمل إلى الله أدومه.
وفيه نهي لهم عن التعمق والتنطع في العبادات؛ فقد قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27]
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا رهبانية في الإسلام".
قال الشّيخ: فإنَّ من حق النفس اللطف بها.
واشترط العلماء في فضيلة صوم يوم وفطر يوم، ألا يضعفه الصيام عما هو أفضل منه، واجبًا أو سنة.
* فائدة:
قال أصحابنا: ويكره إفراد رجب بالصوم؛ لأنَّ فيه إحياء لشعائر الجاهلية.
قال الشيخ: كل حديث يروي في فضل صومه أو الصلاة فيه، فكذب باتفاق أهل الحديث.
***