الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجنائز
مقدِّمة
الجنائز: جمع: "جنازة"، بفتح الجيم وكسرها، والكسر أفصح -: اسم للنعش عليه الميت، فإن لم يكن عليه ميت فلا يقال: نعش، ولا جنازة، وإنما يقال: سرير، وهي مشتقة من "جَنِز" بكسر النون: إذا ستر؛ قاله ابن فارس.
وللميت أحكام ذكر هنا منها الصلاة، وما يسبقها من تغسيل وتكفين، ثم ما بعدها من دفنٍ وتعزيةٍ، وذكرت هنا لمناسبة الصلاة المعروفة.
والموتُ ليس فناء، وإنما هو انتقال الروح من عالم إلى عالم آخر، فهو مفارقة الروح للبدن، والروح باقٍ لا يفنى عند أهل السنة؛ قال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]، أي: عند موت أجساده.
قال شيخ الإسلام: استفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأنَّ ذلك يعرض عليه، ويُسر بما كان حسنًا، ويتألم بما كان قبيحًا، وجاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم إذا شاء الله، كما يجتمعون في الدنيا مع تفاوت منازلهم، والقصد أنَّ الأرواح باقية في حياة برزخية، الله أعلم بكيفيتها ونوعها.
والمستحب لكل إنسان ذكر الموت، والاستعداد له؛ لما روى الترمذي (2307) والنسائي (1824)؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أكثروا ذِكرَ هاذم اللذات"، والهاذم: القاطع.
والاستعداد للموت يكون بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم، والإقبال على الله بالطاعات.
وتسن عيادة المريض؛ لما في البخاري (1240) ومسلم (2162) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"حق المسلم على المسلم ستٌّ: إذا رأيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتَّبِعْه".
وإذا عاده، رقاه، وأفضلها: ما رواه البخاري (5742) عن أنس قال: كانت رقية النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهمَّ رب الناس، مذهب الباس، اشفِ أنت الشافي، شفاءً لا يغادر سقمًا"، وسورة الفاتحة قال عنها صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري (2276):"وما يدريك أنَّها رقية"، وينفس له في الأجل، ويُدخل على قلبه السرور، ولا يطيل عنده الجلوس، ولا بأس أن يخبر المريض عن حال مرضه، ولو لغير طبيب، إذا لم تكن شكوى، ويسن الصبر، ويجب منه ما يمنع من محرم.
ويستحب للمريض حسن الظن بالله تعالى؛ لما روى مسلم (2877) عن جابر؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يموتن أحدكم، إلَاّ وهو يحسن الظن بالله تعالى".
وفي الصحيح: "أنا عند حُسن ظنِّ عبدي بي".
ويباح التداوي بمباحٍ؛ لما في صحيح البخاري (5678) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما نزل داءٌ، إلَاّ وأنزل الله له شفاءً"
وإذا كان المريض في حالٍ خطرة يُذكَّر بالتوبة، وقضاء الديون، والوصية فيما يجب عليه بيانه، ويكون ذلك بلطف، ولا يشعر معه بالخوف من دنو أجله.
فإذا حضره الموت، سُنَّ لمن حضره تلقينه الشهادتين بلطف، وتوجيهه
إلى القبلة، فإذا مات غُمضت عيناه، وليِّنت مفاصله، وَأُسْرِعَ في تجهيزه، ما لم يكن في تأخيره مصلحة.
قال ابن القيم: كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل هدي، فهو مشتمل على إقامة العبودية لله تعالى على أكمل الأحوال، وعلى الإحسان إلى الميت، ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده، من عيادة وتلقين وتطهير، وتجهيز إلى الله تعالى على أحسن أحواله، وأفضلها، فيقفون صفوفًا على جنازته، ويُثْنون عليه، ويصلون على نبيه صلى الله عليه وسلم، ويسألون للميت المغفرة والرحمة، ثم يقفون على قبره يسألون له التثبيت، ثم الزيارة إلى قبره والدعاء، كما يتعاهد الحي صاحبه في الدنيا بالإحسان إلى أهله وغير ذلك.
* قرار المجمع الفقهي بشأن حكم التداوي والعلاج الطبي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (67) بشأن العلاج الطبي:
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعوية من (7 إلى 12 ذي القعدة 1412 هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992 م).
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "العلاج الطبي"، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولاً: التداوي:
الأصل في حكم التداوي أنَّه مشروع؛ لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية، والعملية، ولِما فيه من "حفظ النفس"، الذي هو أحد المقاصد
الكلية من التشريع.
وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص:
فيكون واجبًا على الشخص؛ إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه، أو أحد أعضائه، أو عجزه، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره؛ كالأمراض المعدية.
ويكون مندوبًا؛ إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن، ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى.
ويكون مباحًا؛ إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين.
ويكون مكروهًا؛ إذا كان في فعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها.
ثانيًا: علاج الحالات الميئوس منها:
(أ) مما تقتضيه عقيدة المسلم أنَّ المرض والشفاء بيد الله عز وجل، وأنَّ التداوي والعلاج أخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الكون، وأنه لا يجوز اليأس من روح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء بإذن الله، وعلى الأطباء وذوي المرضى تقوية معنويات المريض، والدأب على رعايته، وتخفيف آلامه النفسية والبدنية بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه.
(ب) أنَّ ما يعتبر حالةً ميئوسًا من علاجها هو بحسب تقدير الأطباء، وإمكانات الطب المتاحة في كل زمان ومكان، وتبعاً لظروف المرضى.
ثالثاً: إذن المريض:
(أ) يشترط إذن المريض للعلاج إذا كان من أهل الأهلية، فإذا كان عديم الأهلية، أو ناقصها -اعتبر إذن وليه، حسب ترتيب الولاية الشرعية، ووفقًا لأحكامها التي تحصر تصرف الولي فيما فيه منفعة المولى عليه، ومصلحته ورفع الأذى عنه، على أنَّه لا يعتبر بتصرف الولي في عدم الإذن، إذا كان واضح
الضرر بالمولى عليه، وينتقل الحق إلى غيره من الأولياء، ثم إلى ولي الأمر.
(ب) لولي الأمر الإلزام بالتداوي في بعض الأحوال؛ كالأمراض المعدية، والتحصينات الوقائية.
(ج) في حالات الإسعاف التي تتعرض فيها حياة المصاب للخطر، لا يتوقف العلاج على الإذن.
(د) لابد في إجراء الأبحاث الطبية من موافقة الشخص التام الأهلية بصورة خالية من شائبة الإكراه (كالمساجين)، أو الإغراء المادي (كالمساكين)، ويجب ألا يترتب على إجراء الأبحاث الطبية على عديمى الأهلية، أو ناقصيها، ولو بموافقة الأولياء. والله أعلم.
* قرار المجمع الفقهي الإسلاميى التابع لرابطة العالم الإسلامي بشأن ضوابط كشف العورة أثناء علاج المريض:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، والتي بدأت يوم السبت (20 من شعبان 1415 هـ 21/ 1/ 1995 م) قد نظر في هذا الموضوع، وأصدر القرار التالي:
1 -
الأصل الشرعي أنَّه لا يجوز كشف عورة المرأة للرجل، ولا العكس، ولا كشف عورة المرأة للمرأة، ولا عورة الرجل للرجل.
2 -
يؤكد المجمع على ما صدر من مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بقراره رقم: (85/ 12/ 85 في 1 - 7/ 1/ 1414 هـ) وهذا، نصه: "الأصل أنه إذا توفرت طبيبة مسلمة متخصصة، يجب أن تقوم بالكشف على المريضة، وإذا لم يتوافر ذلك، فتقوم بذلك طبيبة غير
مسلمة، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم، وإن لم يتوافر طبيب مسلم، يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم، على أن يطلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته، وألا يزيد عن ذلك، وأن يغض الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم، أو زوج، أو امرأة ثقة، خشية الخلوة" انتهى.
3 -
وفي جمع الأحوال المذكورة، لا يجوز أن يشترك مع الطبيب إلَاّ من دعت الحاجة الطبية الملحة لمشاركته، ويجب عليه كتمان الأسرار إن وجدت.
4 -
يجب على المسؤولين في الصحة والمستشفيات حفظ عوارت المسلمين والمسلمات، من خلال وضع لوائح وأنظمة خاصة تحقق هذا الهدف، وتعاقب كل من لا يحترم أخلاق المسلمين، وترتيب ما يلزم لستر العورة، وعدم كشفها أثناء العمليات إلَاّ بقدر الحاجة من خلال اللباس المناسب شرعًا.
5 -
ويوصي المجمع بما يلي:
(أ) أن يقوم المسؤولون عن الصحة بتعديل السياسة الصحية فكرًا ومنهجاً وتطبيقًا، بما يتَّفق مع ديننا الإسلاميْ الحنيف وقواعده الأخلاقية السامية، وأن يولوا عنايتهم الكاملة لدفع الحرج عن المسلمين، وحفظ كرامتهم وصيانة أعراضهم.
(ب) العمل على وجود موجه شرعي في كل مستشفى للإرشاد والتوجيه للمرضى.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.
***
434 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّات المَوْتِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح. أخرجه النسائي، والترمذي، وابن ماجه (4258)، وابن حبان، والحاكم (4/ 357)، والضياء المقدسي (5/ 76)، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان، وابن السكن، وابن طاهر، وأعلَّه الدارقطني بالإرسال. وله شواهد كثيرة منها:
1 -
حديث ابن عمر ورجاله موثوقون غير القاسم، فأورده ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
2 -
حديث أنس مرفوعاً، به أخرجه أبو نعيم والخطيب والضياء المقدسي، وسنده صحيح على شرط مسلم.
3 -
حديث عمر مرفوعاً به، أخرجه أبو نعيم ورجاله ثقات غير عبد المالك بن يزيد، فقال الذهبي: لا يُدرى من هو.
* مفردات الحديث:
- هاذم: مجرور؛ لأنَّه مضاف إليه.
هاذم: تقرأ بالذال المعجمة؛ فيكون معناها: قاطع اللذات، وتقرأ بالدال المهملة؛ فيكون معناها مزيل اللذات، والمعنيان متقاربان.
- الموت: يجوز فيه ثلاثة أوجه: الرفع والنصب والجر.
(1) الترمذي (2307)، النسائي (1824)، ابن حبان (6/ 261).
فأما الرفع فعلى تقدير: خبر مبتدأ محذوف، وأما النصب فعلى تقدير: أعني: الموت، وأما الجر فهو عطف بيان، ولعلَّ الأخير أقربها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
معناه: أنَّ الموت يزيل لذات الحياة الدنيا، فيقطعها عن الإنسان بسبب الموت.
2 -
ذكر الموت أعظم واعظٍ للإنسان، وأكبر مذكِّر له عن طول الأمل، والاغترار بالحياة، والركون إليها.
3 -
لا ينبغي للإنسان أن يغفل عن ذكر الموت، الذي هو أعظم واعظ؛ فإن ذكره الموت يحثه على الطاعات، والاستعداد لما بعده.
4 -
جاء في بعض الأحاديث: "لا تذكرونه في كثيرٍ إلَاّ قلَّله، ولا قليل إلَاّ كثَّره"، ففي كثرة ذكر الموت قصر الأمل وانتظار الأجل.
5 -
الإنسان في هذه الحياة الدنيا: إما أن يكون في ضيق أو سعة، نعمة أو نقمة، فهو محتاج إلى ذكر الموت في كلا الحالتين، فإنَّ ذكره في نعمة لم يغفل، وإن ذكره في نقمة لم يجزع.
وسئل ابن مسعود رضي الله عنه أي الناس أكيس؟ فقال: أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعداداً، أولئك الأكياس.
6 -
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-: الدنيا سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعِدُ بالبقاء ثم تخلف في الوفاء، وتنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيرًا عنيفًا، ومرتحلة ارتحالاً سريعًا، ولكن الناظر قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنما يحس عند انقضائها.
7 -
قال شيخ الإسلام: لا يستحب للمسلم أن يخط قبره قبل أن يموت؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك هو ولا أصحابه، والعبد لا يدري متى يموت، ولا أين يموت.
وإذا كان مقصود العبد الاستعداد للموت، فهذا يكون بالعمل الصالح، فيسن الإكثار من ذكره، والاستعداد له، والتوبة قبل نزوله.
435 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإنْ كَانَ لَابُدَّ مُتَمَنِّياً، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ، أحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوفَّنِي مَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا يتمنين: "لا" ناهية، والفعل مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم.
يتمنين: يقال: تمنى الرجل الشيء تمنيًا: أراده برغبة، مأخوذ من: المُنَي، وهو القدر؛ لأنَّ صاحبه يقدر حصوله.
فالتمني يطلق في اللغة على: طلب حصول الشيء، على سبيل المحبة.
- لِضُرّ: بضم الضاد، ويجوز فتحها، والضر: ما هو كائن من سوء حالٍ، أو فقرٍ، أو شدةٍ في بدن.
- لابد: أي: لا فرار ولا محالة متمنيًا، فليفوض الأمر إلى الله، وليقُل الدعاء الوارد.
- أحيني: بهمزة قطع؛ أي: أبقني حيًّا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يكره تمني الموت عند الوقوع في محنة دنيوية، أو خوف من عدوٍّ، أو مرض نزل به، أو فاقة حلت به، أو نحو ذلك من مشاق الدنيا.
2 -
الحكمة في هذا: أنَّه منافٍ للصبر الذي أُمرنا به، ووُعدنا عليه الأجر العظيم،
(1) البخاري (5671)، مسلم (2680).
ولأنَّه يدل على الجزع، وعدم الثبات والاحتساب على قضاء الله تعالى.
3 -
إن كان غير صابر، ولابد من الدعاء، فليقل:"اللَّهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيرًا لي"، هذا هو الرخصة؛ ذلك أنَّ الدنيا دار ممر، والأخرى هي المقر، فلا يعلم المبتلى في بدنه، أو ماله، أو جاهه، أو غير ذلك، أنَّ لك خيرٌ له في أُخْراه، إذا صبر واحتسب.
4 -
أما إذا كان الخوف من الفتنة في الدين، فإنَّه لا بأس من تمني الموت، فقد قالت مريم عليها السلام:{يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)} [مريم].
فهي قد تمنت الموت، لا جزعًا من وجع الولادة، وإنما تمنت الموت خوفًا من الفضيحة، حينما ينكر قومها أمرها، ويظنون بها الشر، ثم يقعون في ذمها وعرضها.
وكذا جاء في الحديث: "وإذا أردتَ بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون"[رواه الترمذي (3247) وصححه].
فتمني الموت في الفتنة في الدين جائز، وليس مما يتناوله الحديث.
5 -
مناسبة هذا الدعاء لمن أراد تمني الموت أن يفوض الأمر إلى الله تعالى، فهو جلَّ وعلا الذي يعلم مصالح العبد، وما هو أولى به في الحياة، أو الموت.
6 -
يدل الحديث وأمثاله على وجوب الصبر، وحكاه شيخ الإسلام إجماعاً، وقال: إنَّ الثواب على المصائب معلق على الصبر عليها، وأما الرضا فمنزلة فوق الصبر، فإنَّه يوجب رضا الله عز وجل.
والصبر حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن لطم الخدود، وشق الجيوب ونحوها.
والشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الصبر، وهي مطلوبة شرعًا، مندوب
إليها إجماعًا، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} [المؤمنون: 76].
قال ابن كثير: "ابتليناهم بالمصائب والشدائد".
وقال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 43]، ومن شكا إلى الناس: وهو في شكواه راضٍ بقضاء الله، لم يكن ذلك جزعًا، وجاز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أجدُني مغمومًا"، وقوله:"وارأساه"، وقوله:"أُوْعَكَ كمَا يُوعَك رجلان منكم"، ونحو ذلك مما يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من المصائب، وإذا كانت مما يمكن كتمانه، فكتمانه من الأعمال الخفية لله تعالى.
7 -
في البخاري (6507)، ومسلم (2683):"مَنْ أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه".
قال الإمام أحمد: يكون خوف العبد ورجاؤه واحدًا، فأيهما غلب على صاحبه، هلك.
قال الشيخ: هذا هو العدل؛ لأنَّ من غلب عليه الخوف، أوقعه في نوع من اليأس، ومن غلب عليه الرجاء، أوقعه في نوع من الأمن من مكر الله، فالرجاء بحسب ترجيحه رحمة الله، وأما الخوف فيكون بالنظر إلى تفريطه.
8 -
ظهر في هذه العصور الحديثة ظاهرة الانتحار، وهي قتل الإنسان نفسه لنكبة تصيبه من نكبات الحياة، إما من قلَّة ذات يده، وإما رغبة دنيوية فاتته، ومحنة نزلت به، أو طول مرض معه، فيتملكه الجزع ويطير صوابه، فيقتل نفسه بغرقٍ، أو حرقٍ، أو إلقاء نفسه من شاهقٍ، أو يلقي نفسه أمام قطار، أو غير ذلك، إنَّ مضار هذه الظاهرة الشنيعة خطيرة جدًّا من: مخالفة للشرع، ومخالفة للطبع، وهذه بعض محاذيرها:
أولاً: إنَّها مخالفة لشريعة الله -تعالى- بأوضح نصوصه الكريمة، قال
تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [النساء]، ولما جاء البخاري (6105)، ومسلم (110) عن ثابت بن الضحاك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بشيء، عُذِّب به يوم القيامة".
وفي صحيح البخاري (3074): "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الرجل الذي آلمته الجراح، فقتل نفسه، فقال صلى الله عليه وسلم: هو من أهل النار".
ثانيًا: إنَّ من قتل نفسه فليس بمؤمن؛ لأنَّ صفة المؤمن إنَّ أصابته سرَّاء شكر، وإن أصابته ضرَّاء صبر.
ثالثًا: إنَّ هذا دليل على- الجُبْن والسلبية، وعدم التحمل، ومجابهة الأمور ومعالجتها، والخروج منها، والتغلب عليها.
رابعًا: إنَّ هذا دليل على ضعف العقل، وضعف الإيمان؛ ذلك أنَّه يريد بالموت الراحة مما هو فيه، وهو بقتله نفسه، انتقل من عذاب نفسي إلى عذاب أعظم مما هو في الحياة؛ كالمستجير من الرمضاء بالنار، نسأل الله السلامة.
قال الأستاذ أحد عساف في كتابه: "الحلال والحرام": وخلاصة القول: إنَّ الانتحار وَهنٌ في الإرادة، وضررٌ في العزيمة، وضعفٌ في الإيمان؛ لذلك كان جزاء فاعله النار.
فعلى المؤمن أن يصبر على البلاء مهما اشتد به؛ فإنَّ مع العسر يسرًا، ولكل شدَّة فرج، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
خامسًا: أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى الذي من أجله ينهى عن تمني الموت، وهو انقطاع الأعمال الصالحة بالموت، ففي الحياة زيادة الأجور بزيادة الأعمال، ولو لم يكن إلَاّ استمرار الإيمان، فأي عمل أعظم منه، ولذا جاء في البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"لا يتمنين أحدكم الموت: إما محسناً، فلعله يزداد، وإما مسيئًا، فلعله أن يستعتب".
436 -
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "المُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الجَبِيْنِ". رَوَاهُ الثَّلاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
أخرجه أحمد (22538)، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن بريدة، ورمز له السيوطي بالحُسن.
قال الحاكم: صحيح على شرطهما، وأقرَّه الذهبي.
وقال البيهقي: رجال أحمد رجال الصحيح.
وقال الهيثمي: رجاله ثقات، فهم رجال الصحيح.
* مفردات الحديث:
- بعَرَق: بفتح العين والراء بعدهما قاف مثناة، والعَرَق: ما رشح من مسام الجلد من غدد خاصة، وفي الحديث أحد معنيين: أنَّه كناية عن الكد في طلب الرزق الحلال، وإما أن يراد به: شدة النزع عند الموت.
- الجَبين: -بفتح الجيم وكسر الباء الموحدة-: هو ما فوق الصدغ عن يمين الجبهة أو شمالها، وهما جبينان، وجمعه: أَجْبُن وَأَجْبُنة وجُبُن.
* ما يؤخذ من الحديث:
الحديث يحتمل أحد معنيين:
1 -
مكابدة الإنسان ما في هذه الحياة من الشدائد والمشاق، فالإنسان لا يزال في مكابدة الدنيا ومقاساة شدائدها، حتى الموت، والمؤمن يكابدها بطرق
(1) الترمذي (982)، النسائي (4/ 6)، ابن ماجه (1452).
الحلال والسبل المشروعة، فيتحرى الحلال وصحة العقود، ويحترز عن الشبهات، فيكون غالباً رزقُه مقتدراً عليه بقدر كفايته، فيموت وهو لم ينعم بعيش هنيء، وطعام لين، وإنما يموت وجبينه يتفصد عرقاً من تعب الحياة؛ قال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد].
2 -
أنَّ المؤمن يكابد من شدة النزع وسياق الموت ما يكفر الله به ما بقي من ذنوبه؛ ولذا جاء في الحديث أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته".
وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن عائشة قالت: "حضرت موت أبي، فأصابته غشية"، وقال صلى الله عليه وسلم وهو في سياق الموت:"إنَّ للموت سَكَرَات"[رواه البخاري (4184)].
فالمؤمن يموت وجبينه يقطر من شدة النزع؛ ليمحص الله ذنوبه عند آخر مرحلة من مراحل الحياة، وأول منزلة من مراحل الآخرة، ليخرج من هذه الحياة نقيًّا خالصاً.
***
437 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ: لَا إِلهَ إِلَاّ الله" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالأَرْبَعَة (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لقِّنوا: فعل أمر من: التلقين؛ وهو التذكير.
قال في "المصباح": لقنته الشيء فتلقنه، إذا أخذه من فيك مشافهة، فمعناه: أنَّ الإنسان يقول الشيء ويتبعه غيره.
- موتاكم: يعني: الذي ظهرت عليه علامات الموت؛ وذلك عند الاحتضار، وتسميتهم موتى باعتبار ما سيكون.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب تلقين المحتضر كلمة الإخلاص: "لا إله إلَاّ الله"، وبقية الحديث عند ابن حبان:"فمن كان آخر قوله: لا إله إلَاّ الله، دخل الجنة".
2 -
قال المُنَاوي عن حديث الباب: إنَّه متواتر، والتلقين المذكور سنة مأثورة؛ لهذا الخبر، والمسلمون أجمعوا عليها.
3 -
قال الفقهاء: يلقنه مرة واحدة، ولا يزيد لئلا يضجره، إلَاّ أن يتكلم بعد تلقينه فيعيد عليه التلقين؛ ليكون آخر كلامه: لا إله إلَاّ الله.
4 -
عظم هذه الكلمة الجليلة بكبر فائدتها، وأنَّ قولها بإخلاص، والعمل بها سبب للنجاة من النار ودخول الجنة. اللهم أحينا عليها، وأمِتنا عليها.
(1) مسلم (916)، أبو داود (3117)، النسائي (4/ 5)، الترمذي (976)، ابن ماجه (1445).
5 -
قال ابن القيم: يستحب التأذين في أذن المولود اليمنى، والإقامة في اليسرى؛ ليكون أول ما يقع في سَمْع الإنسان كلمات الأذان، كما يلقن عند خروجه من الدنيا، فتكون دعوته إلى الله تعالى، وإلى دينه الإسلام سابقة على دعوة الشيطان.
***
438 -
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والنَّسَائيُّ، ؤصَحّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
أخرجه أحمد (19790)، وأبو داود، وابن أبي شيبة (2/ 445)، وابن ماجه (1448)، والحاكم (1/ 753)، والبيهقي (3/ 383)، والضياء المقدسي.
قال الحاكم: أوقفه يحيى بن سعيد وغيره.
وقال النووي في "الأذكار": إسناده ضعيف، ففيه مجهولان، لكن لم يضعِّفه أبو داود، وقال ابن حجر: أعله ابن القطان بالاضطراب، وبالوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه، المذكُورَين في إسناده.
وقال الدارقطني: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث.
* ما يؤخذ من الحديث:
الحديث صحَّحه طائفة من العلماء، وضعَّفه طائفة أخرى، ومعناه يحتمل أمرين:
الاحتمال الأول: أن يراد به قراءة السورة المذكورة عند المحتضر، ويسمى المحتضر ميتاً باعتبار ما سيكون؛ قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر]، فتستحب قراءتها عند المحتضر.
(1) أبو داود (3121)، النسائي في الكبرى (6/ 265)، ابن حبان (3002).
قال الإمام أحمد (16521) حدثنا: صفوان قال: كانت المشيخة يقولون: إذا قرئت يس عند الموتى، خُفِّف عنهم بها، وصحَّح إسناده ابن حجر في "الإصابة".
وأسند صاحب "الفردوس" عن أبي الدرداء وأبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يموت، فيقرأ عنده يس، إلَاّ هون الله عليه".
قال شيخ الإسلام: تستحب قراءة يس، عند المحتضر، وقيل: الحكمة في قراءتها: اشتمالها على تغيير الدنيا وزوالها، والوعد بالبعث والقيامة، ونعيم الجنة وما أعدَّ الله فيها، ويتذكر بقراءتها تلك الأحوال التي توجب زهده في الدنيا المنتقل عنها إلى الآخرة المقبل عليها، فتسهل عند ذلك خروج روحه، ففي السورة طائفة من الأدلة النقلية والعقلية على إمكان البعث والحياة الأخرى.
الاحتمال الثاني: أن يراد بقراءتها على الموتى يعني بعد موتهم، ويكون المراد: إهداء ثواب قراءتها إليهم.
* خلاف العلماء:
القُرب التي تهدى إلى الميت، أو الحي على نوعين: متفق عليه، ومختلف فيه، فمن الأول:
1 -
الدعاء والاستغفار: ودليله نحو: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10].
2 -
الصدقة: لما جاء في البخاري (1388)، ومسلم (1004) عن عائشة رضي الله عنها أنَّ سعد بن عبادة قال:"يا رسول الله، إنَّ أمي افْتُلِتَتْ نفسها، ولم توصِ، فلها أجر، إن تصدَّقت عنها؟ قال: نعم".
3 -
الحج والعمرة: لما جاء في البخاري (1852) عن ابن عباس: "أنَّ امرأة من جهينة قالت: يا رسول الله، إنَّ أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت
قاضيته؟! اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء".
4 -
الصيام: لما في البخاري (1952)، ومسلم (1147)، عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"من ماتَ وعليه صيام صام، عنه وليه".
فهذا النوع مما اتُّفق على جوازه.
قال شيخ الإسلام: اتَّفق أئمة الإسلام على انتفاع الميت بالدعاء له، وما يُعمل عنه من البر، وهذا مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام، وقد دلَّ عليه الكتاب والسنة، والإجماع، فمن خالف ذلك، كان من أهل البدع، ولم يخالف في هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة من بلغته، وإنما خالفها من لم تبلغه، وإنما اختلفوا في العبادات البدنية المحضة؛ كالصلاة وتلاوة القرآن:
الثاني: ذهب الحنفية والحنابلة ومتأخرو الشافعية والمالكية إلى وصول ثوابها من الحي إلى الميت والحي.
وذهب متقدمو الشافعية ومتقدمو المالكية إلى عدم وصول ثواب العبادات البدنية المحضة لغير فاعلها.
استدلَّ المانعون وهم متقدمو الشافعية بأدلةٍ، منها قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم].
قال ابن كثير في تفسيره: أي: كما لا يحمل وزر غيره، كذلك لا يحل له من الأجر إلَاّ ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية استنبط الشافعي رحمه الله ومن تبعه أنَّ القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنَّه ليس من عملهم، ولا كسبهم.
كما استدلوا: بما أخرجه مسلم (1631) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلَاّ من ثلاث: ولدٍ صالح يدعو له، أو صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به من بعده".
وهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وجده وعمله؛ كما جاء في الحديث: "إنَّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه، والصدقة الجارية"[رواه أبو داود (3528)]، كما أنَّ الوقف ونحوه من أثر عمله، وقد قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12].
والعلم الذي نشره في الناس، إذا اهتدى به الناس من بعده هو أيضًا من سعيه وعمله، وجاء في صحيح مسلم (2674) أنَّ النَّيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أفضل العبادات ما وافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه.
قال ابن مسعود: من كان منكم مستنًّا، فليستن بمن مات، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذي كان معروفًا عند لقرون المفضلة أنَّهم كانوا يعبدون الله تعالى بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها، ويدعُون للمؤمنين والمؤمنات -كما أمر الله بذلك- لأحيائهم وأمواتهم.
ولم يكن من عادتهم إذا صلوا تطوعًا، أو صاموا تطوعًا، أو حجوا، أو قرأوا القرآن -يُهدون ذلك لموتاهم المسلمين، بل كان عادتهم الدعاء لهم، فلا ينبغي للناس أن يَدَعو طريق السلف؛ فإنَّه أفضل وأكمل.
أما الفريق الذين يرون وصول ثواب الأعمال البدنية المحضة، فيقولون، ومنهم: ابن قدامة في "المغني" لما ذكر الأحاديث الدالة على وصول الدعاء، والصدقة، والحج ونحوها -قال:
وهذه أحاديث صحاح، فيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القُرب؛ لأنَّ الصوم والدعاء والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت، فكذلك ما سواها.
قال في "شرح الزاد" وغيره، من كتب الحنابلة: وأي قُربة من دعاء واستغفار وصلاة وصوم وحج وقراءة وغير ذلك فعلها مسلم، وجعل ثوابها لميت مسلمٍ، أو حيٍّ -نفعه ذلك.
قال الإمام أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير؛ للنصوص الواردة فيه.
قال ابن القيم: من صام أو صلَّى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء -جاز ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة، ويحصل له الثواب بنيته له، ولكن تخصيص صاحب الطاعة نفسه أفضل، ويدعو كما ورد في الكتاب والسنة.
وبحثها ابن القيم في كتاب "الروح" بحثًا وافيًا مستفيضًا، وصحَّحَ وصول ثواب جميع القُرب والأعمال الصالحة إلى الميت، ودلل عليها، وردَّ حجج المعارضين، وننقل خلاصة قليلة منها فيما يأتي، تتميمًا للفائدة:
اختلف العلماء في العبادات البدنية؛ كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر:
فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف وصولها.
ومذهب مالك والشافعي أنَّ ذلك لا يصل.
والدليل على انتفاع عنه بغير ما تسبب به:
1 -
حديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَاّ من ثلاث
…
" إلخ [رواه مسلم (1631)].
حديث: "من سنَّ سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنَّ سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده
…
" إلخ [رواه مسلم (1017)].
2 -
انتفاعه بغير ما تسبب به في القرآن والسنة والإجماع وقواعد الشرع:
أما القرآن: فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [الحشر: 10] إلخ.
وفي سنن أبي داود (3199) عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء".
وفي حديث صحيح مسلم (974): "كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم؛ إذا خرجوا إلى المقابر يقولون: السلام عليكم
…
" إلخ.
3 -
وصول ثواب الصدقة؛ كما في البخاري (1388)، ومسلم (1004) من حديث عائشة رضي الله عنها في الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أمي ماتت ولم توصِ، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم".
4 -
وصول ثواب الصوم؛ كما في حديث عائشة عند البخاري (1952)"من مات وعليه صوم، صام عنه وليه".
وفي البخاري (1953)، ومسلم (1148)، عن ابن عباس قال:"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: نعم، دين الله أحق أن يقضى".
5 -
وأما وصول ثواب الحج: ففي صحيح البخاري (7315) عن ابن عباس: "أنَّ امرأة قالت: يا رسول الله إنَّ أمي نذرت أن تحج فلم تحج، حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها، فالله أحق بالقضاء"
قال -رحمه الله تعالى-: هذه نصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت، إذا فعلها الحي عنه، فأي نص أو قياس أو قاعدة من قواعد الشرع يوجب وصول أحدهما، ويمنع وصول الآخر، فوصول الجميع محض القياس، فإنَّ الثواب حق للعامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع ذلك، كما لم يمنع من هبة ماله في حياته، وإبرائه منه بعد.
أدلة المانعين:
1 -
قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم]، وقوله:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].
2 -
"إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلَاّ من ثلاث".
3 -
العبادات نوعان: نوع تدخله النيابة؛ كالصدقة والحج، فهذا يصل ثوابه إلى الميت، ونوع لا تدخله النيابة بحال؛ كالإسلام والصلاة والقراءة والصيام، فهذا النوع يختص بفاعله لا يتعداه، ولا ينتقل عنه، كما أنَّ في الحياة ما لا يفعله أحد عن أحد.
4 -
وقد جاء في "سنن النسائي الكبرى"(2/ 174) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلين أحد عن أحد، ولا يصومن أحد عن أحد، ولكن يُطعِمُ عنهُ".
5 -
معارَض بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة؛ فإنَّ أحدًا لا يفعلها عن أحد.
أجاب الذين يرون وصول الثواب بما يلي:
قال ابن القيم: ليس فيما ذكرتم ما يعارض الكتاب والسنة، واتفاق السلف، ومقتضى قواعد الشرع.
وأما قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وقوله:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم]-فيبين مقتضى عدل الرب أنَّه لا يعاقب أحداً بجُرم غيره، وأنَّ الإنسان لا يفلح إلَاّ بعمله وسعيه، فالآية الأولى تؤمن من أخذ العبد بجريرة غيره، كما يفعله ملوك الدنيا، والآية الثانية تقطع طمعه من نجاته، بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، فتأمل حُسن اجتماع هاتين الآيتين.
والآية لم تنف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفت ملكه لسعي غيره، وبَينَ الأمرين من الفرق ما لا يخفى، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء
أن يبذله لغيره، وإن شاء يُبْقيه لنفسه، وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها.
وأما الاستدلال بحديث: "إذا مات ابن آدم"، فاستدلال ساقط؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم لم يقل: انقطع انتفاعه، فالمنقطع شيء، والواصل إليه شيء آخر.
وأما القول بأنه لو نفعه عمل غيره، لنفعه توبته عنه وإسلامه عنه -فالجواب: أنَّ هذا جمع بين ما فرق الله بينه؛ كما يقاس الربا على البيع، والميتة على المذكى.
وأما العبادات فنوعان: نوع تدخله النيابة، ونوع لا تدخلها، فمن أين لكم هذا الفرق؟ وقد شُرع الصوم عن الميت، مع أن الصوم لا تدخله النيابة، وشرع في فرض الكفاية أنه إذا فعله مَن يكفي سقط عن الباقين.
وقد أطال البحث والنقاش، وصحح وصول ثواب جميع الأعمال من الحي إلى الميت والحي، رحمه الله تعالى.
***
439 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ. اتَّبَعَهُ البَصَرُ. فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أهْلِهِ، فَقَالَ: لَا تَدْعُو علَى أَنْفُسِكُمْ إِلَاّ بِخَيْرٍ، فَإنَّ المَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ علَى مَا تَقُولُونَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لأَبِي سلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي المَهدِيِّينَ، وافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- شقَّ بَصَرُهُ: -بفتح الشين المعجمة-: رفع وشخص وبصره، وهو فاعل "شق".
قال النووي: وضبط بعضهم "بصرَ" بالنصب، وهو صحيح أيضًا، والشين مفتوحة بلا خلاف.
- الروح: بضم الراء، جمعه: أرواح، وهو مخلوق، وهو من أمر الله تعالى يكون في وجوده في البدن الحياة، وبفقده الممات، يذكَّر ويؤنَّث، وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى.
- اتبعه البصر: همزته همزة وصل، ومعناها ما جاء في رواية مسلم "تبعه" بحذف الهمزة، ومعناه: أنَّ الروح إذا خرج من الجسد تبعه البصر، ناظرًا أين يذهب، قاله النووي.
- فضجَّ ناسٌ من أهله: يقَال: ضجَّ فُلانٌ يضُج ضجيجًا، بمعنى: صاح، وقال في "النهاية": الضجيج: الصياح عند المكروه والمشقة والجزع، والمعنى:
(1) مسلم (920).
صاحوا، أو صوَّتوا من شدة المصيبة، والفاء للتعقيب.
- إنَّ الروح إذا قبض، اتبعه البصر: للجسد تعلق شديد في الروح في حال الحياة، ثم بعد الموت يظل البصر يتبع الروح؛ لينظر أين ذهبت.
- الملائكة تؤمن: تدعو معكم، وتقول:"آمين" على دعائكم، ومعنى "آمين": اللهم استجب.
- المهديين: الذين هداهم الله تعالى، ودلَّهم على طريق الرشد، والسداد في حياتهم ومماتهم.
- افسح لهُ في قبره: وسِّع له ومدَّ له في قبره؛ بحيث يكون عليه روضة من رياض جنَّتك.
- نوِّر له فيه: فدعاء الصالحين من أسباب نور القبرة ففي البخاري (458) ومسلم (956)؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ هذه القبور ظلمة علن أهلها، وإنَّ الله ينوِّرها بصلاتي عليهم".
- واخلفه في عقبه: واجعل لمن ترك بعده من الأهل والذرية خليفة صالحاً في أحوال دينهم ودنياهم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جواز النظر إلى وجه الميت.
2 -
استحباب تغميض عيني الميت بعد وفاته.
3 -
أنَّ الوفاة تكون بمفارقة الروح البدن.
4 -
النهي عن الضجيج والصراخ ورفع الصوت عند مصيبة الموت أو غيره، ولعلَّ بعض آل أبي سلمة أتَوْا عند وفاته، وفعلوا ما اعتادوا أن يفعلوه في الجاهلية من قولهم:"وا ويلاه وا ثبوراه"، ونحوه؛ فقال:"لا تدعوا على أنفسكم إلَاّ بخير".
5 -
استحباب الدعاء بالخير عند الوفاة بالاسترجاع، وسؤال الرحمة للميت،
ونحو ذلك.
6 -
من رحمة الله تعالى بخلقه أن جعل ملائكته يواسون المسلمين عند مصائبهم، فيؤمنون على دعائهم، ويحضرون عندهم.
7 -
استحباب الدعاء للميت بالرحمة والمغفرة، ورفع الدرجات في الجنة، وحشره مع أولياء الله تعالى المهديين من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين.
8 -
ثبوت نعيم القبر من اتساعه له وتنويره، فيكون فيه روضة من رياض الجنة، فهو أول منازل الآخرة.
9 -
استحباب الدعاء لأهل الميت وعقِبه؛ بأن يخلفهم عنه خيرًا، وأن يعوِّضهم عن فقْده أجراً.
10 -
الفضيلة العظيمة والمنقبة الكبيرة لأبي سلمة رضي الله عنه بهذا الدعاء النبوي المبارك، الذي نعلم أنَّه قبل منه ما كان في الدنيا، حيث صار عقبه في أهله هو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأته، فصارت من أمهات المؤمنين، وتشرف أولاده، فصاروا ربائب للنبي صلى الله عليه وسلم، رُبوا في بيته، وعاشوا في كنفه، وصاروا في كفالته، ونظن الظن القوي أنَّ الله تعالى استجاب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فغفر له ذنوبه، ورفع درجته في المهديين.
وأبو سلمة المخزومي القرشي من السابقين إلى الإسلام، وممن هاجر الهجرتين: الحبشة والمدينة، وشهد بدراً وأُحُدًا، وجرح فيه واندمل جرحه، ثم انتقض عليه، ومات منه بعد أشهر، رضي الله عنه.
وهنا بحثان يتعلقان بهذا الحديث:
البحث الأول: ما هي حقيقة الوفاة؟
قال الأطباء: جذع الدماغ هو المتحكم في جهازي التنفس، والقلب، والدورة الدموية، ولذا فإنَّ توقف جذع الدماغ وموته يؤديان لا محالة إلى توقف
القلب، والدورة الدموية، والتنفس، ولو بعد حين.
ولذا فإنَّ لجنة "مجمع الفقهي الإسلامي في جدة" المكونة من أعضائها الشرعيين والأطباء، وهم كلٌّ من:
1 -
الشيخ مختار السلامي، مفتي تونس.
2 -
الشيخ مصطفى الزرقا، من كبار فقهاء حلب.
3 -
الطبيب أشرف الكردي، أخصائي الأمراض العصبية.
4 -
الطبيب محمد علي البار، أخصائي الأمراض الباطنية.
قرروا في "11 صفر عام: 1407 هـ رقم: 17" ما يلي:
بحكم النظرين الشرعي والطبي؛ بأنَّ الشخص قد مات، إذا تبينَّ فيه إحدى العلامتين:
الأولى: إذا توقف قلبه، وتنفسه، توقفًا تاماً، وحَكَمَ الأطباء بأنَّ هذا التوقف لا رجعة بعده.
الثانية: إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً، وَحَكَمَ الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأنَّ هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ الدماغ في التحلل، ففي هذا الحال يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على المحتضر، وإن كان بعض الأعضاء كالقلب -مثلاً- لايزال يعمل آليًّا بفعل الأجهزة المذكورة.
أما مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، ففي دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة في يوم السبت 24/ 2/ 1408 هـ إلى يوم الأربعاء الموافق 28/ 2/ 1408 هـ فنص قراره ما يلي:
وبعد المداولة في الموضوع، نتهى المجلس إلى القرار الآتي: المريض الذي ركبت على جسمه أجهزة الإنعاش، يجوز رفعها إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء أنَّ العطل لا رجعة فيه، وإن كان القلب والتنفس لا يزالان
يعملان آليًّا بفعل الأجهزة المركبة، لكن لا يحكم بموته شرعاً إلَاّ، إذا توقف التنفس والقلب توقفاً تامًّا، بعد رفع هذه الأجهزة.
وصلَّى الله وسلمَّ على نبينا محمد.
قال محرره -عفا الله عنه-: ما دمنا علمنا من الأطباء أنَّ موت الدماغ هو موت حقيقي، لا رجعة بعده، وأنه إذا مَات الدماغ، مات القلب لا محالة، وإن استمرَّ نبضه وضخه بفعل أجهزة الإنعاش، فيعتبر نزع أجهزة الإنعاش عن المحتضر ليس قضاء عليه، وتعجيلاً بموته؛ لأنَّه في عداد الموتا طبيًّا، فيكون نزعها جائزاً شرعاً.
البحث الثاني في الروح:
قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء].
قال الدكتور الطبيب محمد بن علي البار: الروح أمر مجهول، لا نقول فيه إلَاّ أنَّه من أمر ربنا، وما أُوتي البشر من العلم إلَاّ قليلاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يوضح لنا متى تنفخ الروح في الجنين، وأنَّ ذلك بعد مروره في مراحل وأطوار مختلفة، حتى إذا تكونت أعضاؤه، بدأت في الجنين حركات إرادية، وترتسم على وجهه علامات الرضا والضيق، كل ذلك يدل على نفخ الروح.
قال الرازي: الروح موجود، وهو مغاير لهذه الأجسام والأعراض، ذلك أنَّ الأجسام أشياء تحدث من العناصر، أما الروح فإنَّه ليس كذلك، بل هو جوهر بسيط، مجرد يحدث بقوله تعالى:{كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة] ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته نفيه؛ إنَّ أكثر حقائق الأشياء وماهيتها مجهولة.
وقال ابن القيم: الصحيح أنَّ الروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، فالروح جسم نوراني علوي خفيف متحرك، ينفذ في الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في العود، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في
الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي هذا الجسم اللطيف متشابكًا بهلذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإرادة، وإذا فسدت هذه الأعضاء، وخرجت عن قبول تلك الآثار -ارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح.
وهذه هو الصواب، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دلَّ الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، وأدلة العقل والفطرة.
فالروح هي مناط التكليف، ومدار الأمر والنهي، والصلاح والفساد، وما الجسم إلَاّ لباس لها، وشكل ظاهر، فهي اللب والجوهر. اهـ كلامه.
قال محرره -عفا الله عنه-: وهذا الارتباط بين الروح والجسد، الذي ذكره العلامة الإمام ابن القيم يشير إليه الحديث الشريف الذي معنا.
قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الروح إذا قبض، اتبعه البصر" فشق بصر الميت، وسبحان المحيط علمه بكل شيء.
فقوله: " إذا قبض"، قوله:"اتبعه البصر" -دليلٌ قاطعٌ على أنَّ الروح جسم، فالقبض لا يكون إلَاّ لجسم، والبصر لا يتبع إلَاّ شيئاً مرئيًّا، هو الجسم. وقال الدكتور حسن الشرقاوي: ويخلط علماء الروح الحديث خلطاً شديداً، فيندفعون في دعاواهم الزائفة، فيستجلبون أجساماً عن طريق الوسطاء، زاعمين أنَّهم أحضروا الروح، ويستخدمون لذلك وسائل مادية.
ويمكن القول بأنَّ هذا النوع من الاتصال يتم بين الإنس والجن، وليس للروح أي علاقة بهذه التجارب المادية؛ لأنَّ الروح من اختصاص الله، وليست في مقدور الإنسان، ومهما تقدم العلم، فإنه سيظل عاجزاً عن إدراك كُنْهِ الروح، وأصحاب هذه التجارب خلطوا بين عالم الجن وعالم الروح، فتجاربهم نوع من العبث، والله أعلم.
***
440 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِيْنَ تُوُفِّيَ، سُجِّي بِبردِ حِبَرَةَ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- سُجِّيَ: بضم السين -مبني للمجهول- وبعد السين جيم معجمة تحتية، بمعنى: غطي.
- بُرد: -بضم الباء الموحدة وسكون الراء المهملة ثم دال مهملة-: كساء له أعلام، جمعه: أبراد وبرد.
- حِبَرَة: -بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وفتح الراء المهملة وتاء التأنيث-: ثوب من قطن أو كتان، مخطط يصنع باليمن.
يقال: برد حبير، وبرد حِبرة، على الوصف والإضافة، والجمع: حُبُر وحُبرات.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب تغطية جسد الميت كله، فهو أفضل من بقائه مكشوف الوجه والأطراف، فالإنسان بعد وفاته عورة، يستحب مواراتها قبل الدفن بالتسجية بما يخفى سوأتها؛ قال تعالى حكاية عن ابن آدم:{يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} [المائدة: 31]، والسوأة: الجيفة.
2 -
قال النووي: إنَّ هذه التسجية مجمع عليها، وحكمة ذلك صيانة الميت عن الانكشاف، وستر صورته -المتغيرة بوفاته- عن الأعين.
…
(1) البخاري (5814)، مسلم (942).
441 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ أَبَا بكْرٍ الصِّدِّيقَ. رضي الله عنه قَبَّل النَّبِيَّ بعْدَ مَوْتهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جواز تقبيل الميت لمن يجوز له تقبيله في حال الحياة، والنظر إلى وجهه.
2 -
شدة محبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم، وثباته عند وفاته، مع أنَّه أشد الصحابة مصيبة بوفاته وفَقْده، قال كثير من المؤرخين: إنَّ سبب وفاة أبي بكر؛ كمدٌ على فقد النبي صلى الله عليه وسلم.
3 -
قصة أبي بكر عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وثباته وتهدئته المسلمين في تلك الساعة الصعبة الشديدة، ورباطه جأشه، وخطبته ينعي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ويعزِّيهم ويثبتهم -أمرٌ مشهور، وموقفٌ فريدٌ، لا يقفه إلَاّ أولو العزم من الرجال، فرضي الله عنه وأرضاه.
***
442 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَفْسُ المُؤْمنُ مُعَلَّقَةٌ بدَيْنِهِ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمذِيُّ وَحَسَّنَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
قال صاحب "المحرر": رواه أحمد وابن ماجه (2415) وأبو يعلى (10/ 418)، والترمذي وحسنه.
قال الشوكاني: رجال إسناده ثقات، إلَاّ عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، فهو صدوق يخطىء، وقد تابعه الزهري عن أبي سلمة عن ابن حبان في صحيحه، وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، كما صححه ابن حبان وأبو نعيم.
* مفردات الحديث:
- نفْس المؤمن: قال ابن القيم: مذهب جمهور العلماء: أنَّ النفس والروح مسماهما واحد، وأنَّ الفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا بالذات، وأنَّ الروح جسم نوراني خفيف، يسري في الأعضاء سريان الماء في العود، والدهن في الزيتون، فإذا فارقها وانفصل عنها إلى عالم الأرواح، فسدت تلك الأعضاء.
- معلقة بدَينه: أي: محبوسة ومرهونة، كما قال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر].
- بدَيْنه: بفتح الدال، والدَّين: كل ما يجب على الشخص أداؤه.
- حتى يُقضى عنه: "حتى" للغاية، فلا يزال الرهن قائماً، حتى قضاء الدين عن الميت.
(1) أحمد (10221)، الترمذي (1079).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على التشديد في أمر الدَّيْن، وأنَّ نفس المؤمن مرهونة به حتى يُقضى عنه، ومعنى "رهنها" حبسها عن مقامها الكريم؛ كما جاء في الحديث:"إنَّ صاحبكم محتبس على باب الجنة في دَيْن عليه، حتى يقضيه عنه وارث" ونحوه.
2 -
الحكمة في هذا: أنَّ حقوق الآدميين مبنية على الشح، وعدم السماح فيها.
3 -
جاء من التشديد فيها: ما رواه الإمام أحمد (13745) وأبو داود (3343) والنسائي (1962) عن جابر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين، فأُتي بميت، فسأل: أعليه دينٌ؟ قالوا: نعم عليه ديناران، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما عليَّ يا رسول الله، فصلَّى عليه، فلما فتح الله على رسوله، قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك ديْناً فعليَّ، ومن ترك مالاً فلورثته".
4 -
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: إذا مات أحد المسلمين وعليه دين، فعلى ولي الأمر قضاؤه من بيت المال، كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة.
5 -
قال في "الدليل وشرحه": وتكفر الشهادة جميع الذنوب سوى الدين، قال الشيخ تقي الدين: وكذا مظالم العباد.
وذلك لما روى مسلم (1886) عن ابن عمر؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يغفر الله للشهيد كل ذنب، إلَاّ الدَّين".
6 -
يجب المبادرة بقضاء دين الميت إنَّ وجد له تركة، فإنَّ ذمته لا تزال مشغولة بديْنه بعد موته، حتى يُقْضى عنهُ.
7 -
إذا كان الأمر في الدين المأخوذ برضا صاحبه، وعن طريق المعاملة المباحة هكذا -فكيف يكون بما أُخذ غصباً، ونهباً، وسلبًا، ونحوها؟!
8 -
تجب المبادرة في قضاء دين الميت، فإن تعذر قضاؤه في الحال، استُحب
لوارثه أو غيره أن يتكفل عنه، ويصح ضمان الدين عنه؛ لقصة أبي قتادة لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعليه دين؟ قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله، وعليَّ دينه، فصلَّى عليه"، إلَاّ أنَّ ذمة الميت لا تبرأ قبل قضاء دينه؛ لحديث الباب، ولأنه صلى الله عليه وسلم لما قال أبو قتادة: قد قضيتها، قال:"الآن برَّدت عليه جلده".
على أن دين الميت إذا كان برهن أو بكفيل، خف حمله عن الميت، فإنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي، وقد تحمل أبو قتادة دين الميت، فصلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
9 -
الدين الذي يكون الميت مرتهنًا به يشمل ديون الناس الخاصة، من ثمنٍ مبيعٍ، وأجرة، وقرض، وغصب، وعارية، وصداق، ودية، وغيرها، كما يشمل حقوق الله من الزكاة، والحج، والنذر، والكفارة، فقد جاء في صحيح البخاري (1953):"دين الله أحق بالوفاء"، ويقدم الدَّين على الوصيَّة بإجماع العلماء.
10 -
فمعنى تعليق النفس بالدين هو مطالبتها بما عليها، وحبسها عن مقامها حتى يُقضى عنه.
والمراد بالنفس في هذا الحديث هو: الروح، التي فارقت البدن بعد الحياة، لما روى الإمام أحمد (19616) من حديث سمرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ صاحبكم محتبس على باب الجنة في دين عليه"، ففيه الحث على الإسراع في قضائه.
***
443 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ في الَّذِي سَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَاتَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- بماء وسدرٍ: متعلق بقوله: "اغسلوه".
- سِدْرٍ: -بِكسر السين وسكون الدال المهملة آخره راء-: هو شجر النبق، واحده:"سدرة".
- ثوبيه: مثنى "ثوب"، والمراد بهما: ثوبي الإحرام اللذين عليه، وهما: الإزار والرداء.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
بينما رجل من الصحابة واقف بعرفة على راحلته في حجة الوداع محرَّمَاً، فسقط منها، فانكسرت عنقه ومات، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسلوه، ويكفِّنوه في ثوبيه اللَّذين أحرم بهما، والثوبان هما: الرداء والإزار.
2 -
في بعض ألفاظ الحديث: "ولا تحنِّطوه، ولا تخمِّروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا".
ومعنى: "لا تحنطوه"؛ أي: لا تطيبوه، ومعنى:"لا تخمروا رأسه"؛ أي: تغطوه؛ لأن الطيب ممنوع على المحرم، وكذا تغطية الرأس للذكر المحرم.
3 -
استحباب الإسراع في تجهيز الميت إذا لم يكن الموت فجأة، فلابد من
(1) البخاري (1265)، مسلم (1206).
التحقق من وفاته، أو يكون في تأخيره مصلحة من كثرة المصلين، أو حضور قريب ونحو ذلك.
4 -
وجوب تغسيل الميت بالماء، وأنَّ الغسل فرض كفاية، وليس بفرض عين، والفرق بينهما: انَّ فرض الكفاية المقصود منه حصول ذلك الشيء، أما فرض العين فهو مطلوب من كل شخص، وهو قول جمهور العلماء، ولم تخالف في وجوبه إلَاّ المالكية الذين يرون سنيته.
5 -
استحباب العناية بنظافة الميت وتنقيته؛ إذ أمرهم أن يجعلوا مع الماء سدرًا، وذلك بأن يدق السدر ويخلط بالماء، فيغسل برغوته رأسه، وبثُفْله بقية جسده، فهو مادة منقيَّة ومصلّبة للجسم، فلا يسرع إليه الفساد.
6 -
إذا تغيَّر الماء بالطاهرات، فلا يخرج عن أصل خلقته من بقاء طهوريته، وأنَّه طاهر بذاته، مطهِّر لغيره.
7 -
وجوب تكفين الميت، وأنَّ الكفن ومؤن التجهيز مقدمة على سائر ما يجب في التركة من حقوق، وهي الدين والوصية والإرث، فهي كنفقة الحي، مقدمة على سائر الحقوق أيضًا.
8 -
تحريم تغطية رأس الميت المُحرِم إذا كان ذكرًا، وتحريم تغطيه وجه الأنثى الميتة المُحرمة.
9 -
قال ابن دقيق العيد: الحديث دليل على أنَّ المُحرِم إذا مَاتَ يبقى في حقه حكم الإحرام؛ وهو مذهب الشافعي وأحمد.
وخالف في ذلك أبو حنيفة ومالك وهو مقتضى القياس؛ لانقطاع العبادة، وزوال محل التكليف، ولكن النص مقدم على القياس.
10 -
تحريم الطيب على المحرم، حيًّا كان أو ميتاً، ذكراً أو أنثى؛ لأنَّه ترفُّهٌ منافٍ للإحرام.
11 -
أن المحرم لا يحرم عليه مباشرة الأشياء المنقية، التي ليس فيها طيب، من
سدرٍ، وأشنانٍ، وصابونٍ، وغيرها.
12 -
جواز الاقتصار في الكفن على الإزار والرداء، وبهذا يُعلمُ أنَّه يكفي للميت لفافةٌ واحدة.
13 -
من مات وهو محرم، فعمله لا ينقطع إلى يوم القيامة، حين يبعث عليه.
14 -
أنَّ من شرع في عمل صالح من طلب علمٍ، أو جهادٍ، أو غيرهما، ومن نيته أن يكمله، فمات قبل ذلك -بلغت نيته الطيبة، وجرى عليه ثمرته إلى يوم القيامة.
15 -
يستفاد من ظاهر الحديث أنَّ المُحرم إذا مات لا يكمل عنه نسكه، ولو كانت فريضة، وذلك لأمرين:
أولاً؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإتمام نسكه عنه، ولا قضائه.
ثانيًا: أنَّ الميت أبقي على هيئة إحرامه بكشف رأسه، وتجنبه محظورات الإحرام، مما يدل على بقاء إحرامه، ولو كان يُقْضى عنه، لأمكن قضاؤه بعد ساعات من سقوطه، ولأمكن تكفينه وتطييبه، ولكنه أخبر أنَّ هذه الحالة ستكون معه حتى يبعث عليها.
16 -
جواز التكفين في الثياب الملبوسة، قال ابن الملقن: وهذا إجماع.
17 -
نقل أبو داود عن الإمام أحمد: قال: في هذا الحديث خمس سننٍ: تكفين الميت في ثوبين، وأنَّ الكفن من أصل المال، ولو أتى على جميعه، وغسل الميت بالسدر في الغسلات كلها، ولا يُخمَّر رأسه، ولا يقرب طيباً إذا كان محرماً.
***
444 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "لَمَّا أرَادُوا غَسْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: وَاللهِ مَا نَدْرِي نُجَرِّدُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، أمْ لَا؟ .. " الحَديث. رواهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاودَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسنٌ.
أخرجه أبو داود، وابن الجارود (1362)، والحاكم (3/ 61)، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأخرجه البيهقي، وأحمد بسند صحيح، وله شاهدٌ عن بريدة صححه الحاكم والذهبي.
قال ابن عبد الهادي: رواته ثقات، ومنهم ابن إسحاق، وهو الإمام الصدوق، وصححه السندي، وله شواهد.
* مفردات الحديث:
- نُجَرِّدُ: يقال: جرد جرْدًا من باب قتل، وتجرّد من ثيابه -بالتثقيل-: نزع ثيابه من جسده، وتعريته منها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تمام الحديث عند أبي داود: "فلما اختلفوا، ألقى الله عليهم النوم، ثم كلمهم مكلِّمٌ من ناحية البيت -لا يدرون من هو-: اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه".
2 -
فيه دليل على أنَّ المستحب هو تجريد الميت عند غسله، إلَاّ أنَّه يستحب أن يكون في مكان له سقف، ولو من خيمة ونحوها.
(1) أحمد (6/ 276)، أبو داود (3141).
3 -
في الحديث أنَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصية ليست لغيره من الموتى.
4 -
غسَّل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: عليُّ بن أبي طالب، وساعده عمُّه العباس، وابناه: الفضل وقثم، وأسامة بن زيد، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وكانت عائشة رضي الله عنها تقول:"لو استقبلت من أمري ما استدبرتُ، ما غسَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَاّ نساؤه". [رواهُ أَحمد (25774)].
***
445 -
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ونَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ: اغْسِلْنها ثَلَاثًا، أوْ خَمْسًا، أوْ أكْثَرَ مِنْ ذلِكَ إنْ رَأيْتُنَّ ذلِكَ، بِمَاءِ سِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الأَخِيْرَةِ كَافُورًا، أوْ شَيْئاً مِنْ كَافُورٍ، فَلَمَّا فَرَغْنا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إلَيْنَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: أشعِرنَهَا إِيَّاهُ". مُتَّفَقٌ عَليهِ.
وَفِي رِوَايَةِ: "ابْدَأنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا".
وَفِي لَفْظٍ للْبُخَارِيِّ: "فَضَفَّرْنَا شَعَرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، فَأَلْقَيْنَاهُ خَلْفَهَا"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- نُغَسِّلُ: -بضم النون وتشديد السين-: من غسَّل يغسل تغسيلاً.
- ابنته: هي: زَينب على المشهور، أكبر بناته، زوج أبي العاص بن الربيع، ووفاتها في سنة ثمان من الهجرة.
- إنْ رَأيتُنَّ ذلِكَ: أَيْ: إن احتجتن إلى أكثر من ثلاث، أو خمس غسلات، وهو تخيير مصلحة، والرؤية هنا علمية.
- سدر: واحده: "سدرة"، وهو شجر النبق، له خاصيَّة في تصليب الجسم.
- كافور: شجر من الفصيلة الغارية، والمراد هنا به: المادة المتخذة من هذه الشجرة بلون البلور الأبيض، لها رائحة عطرية، وطعم، من خواصه أنَّه يطرد الهوام عن الميت.
(1) البخاري (167، 1253، 1263)، مسلم (939).
- شيئًا من كافور: شكٌّ من الراوي أي اللفظين قال.
و"شيئًا" نكرة في سياق الإثبات، فصدق بكل شيء منه.
- آذنَّاه: بهمزة ممدودة في أوله، ثم ذال معجمة، ثم نون مشددة؛ أي: أعلمناه.
- حقوه: بفتح الحاء وكسرها وسكون القاف والحقو في الأصل: معقد الإزار؛ وأطلق على الإزار مجازًا.
- أشعرْنَها: الشعار هو: الثوب الذي يلي الجسد؛ أي: اجعلنه شعارها، الذي يلي جسدها.
- ابدأْنَ: بلفظ خطاب جمع المؤنث.
- بميامنها: جمع "ميمنة".
- فضفَّرنَا: بالضاد المعجمة وتخفيف الفاء من: الضفر، وهو نسج الشعر عريضاً.
- ثلاثة قرون: انتصاب "ثلاثة"، يجوز أن يكون بنزع الخافض؛ أي: في ثلاثة قرون.
- القرون: جمع: القرن، وهو الضفيرة من الشعر.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذه المتوفاة هي زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم غاسلاتها، وفيهن أم عطية إلى صفة الغسل الشرعي الكامل؛ لتُنْقل من هذه الحياة طاهرة نقية.
2 -
وجوب غسل الميت، وأنه فرض كفاية عند الجمهور، وعند المالكية سنة، وهو قول مرجوح.
وإذا عدم الماء، فعند كثير من الفقهاء أنَّ الميت يُيمم، واختار شيخ الإسلام، أنَّه لا يشرع؛ لأنَّه لا يحصل منه نظافة حسية، وهي المرادة.
3 -
الواجب: أنَّه لا يُغسِّل المرأة إلَاّ جنس النساء، وبالعكس، إلَاّ ما استثني من
تغسيل المرأة زوجها، والأمة سيدها والعكس، فلكل منهما غسل صاحبه.
4 -
يجوز لرجل وامرأة غسل من له دون سبع سنين فقط، ذكراً أو أنثى؛ لأنَّ عورته لا حكم لها في حياته، فكذا بعد مماته.
ولأنَّ إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم غسَّله النساء.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه أنَّ المرأة تغسل الصبي الصغير من غير سترة، وتمس عورته، وتنظر إليها.
5 -
الواجب غسل الميت مرَّة واحدة، ولكنه يكره الاقتصار عليها، إن لم يخرج منه شيء، فإن خرج شيء حرم الاقتصار، ما دام الخارج لم ينقطع إلى سبع غسلات، والمستحب مع عدم الخارج ثلاث غسلات، وهو سنة إجماعاً.
6 -
الأفضل أن يقطع الغاسل غسلاته على وتر: ثلاث، أو خمسى، أو سبع.
7 -
أن يكون مع الماء سدر؛ لأنَّه ينقِّي الجسد ويصلبه.
8 -
أنَّ الماء المتغير بالطاهر باقٍ على طهوريته.
9 -
الشارع الحكيم أرجع الأمر بالزيادة إلى نظر الغاسل، ويكون ذلك بحسب الحاجة، لا التشهي، قال بعض العلماء: الأولى عدم الزيادة على السبع، ولكن الحديث بخلاف ذلك، فالأولى حمل كلامهم على أنَّه لم يبلغهم الخبر.
10 -
أن يُطيَّب الميت مع آخر غسلة من غسلاته؛ لئلا يجري الطيب مع الماء.
11 -
البداءة بغسل الأعضاء الشريفة، وهي الميامن وأعضاء الوضوء، وهي الوجه واليدان والرأس والرجلان، وليس بين الأمرين تنافٍ وإلَاّ كانت البداءة بمواضع الوضوء، وبالميامن معاً.
12 -
ضفر الشعر ضفائر، وجعله خلف الميت، ذكراً أو أنثى، ولا يسرحه؛ لئلا يقطعه، وهذا الضفر ليس بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن فعلنه الضافرات بعلمه وإقراره.
13 -
يحرم حلق رأس الميت، وشعر العانة؛ لما فيه من مس عورته، ولا يقص
شاربه، كما يحرم ختن الأقلف، وتقليم أظافره؛ لأنَّ أجزاء الميت محترمة، فلا تنتهك بذلك، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه في هذا شيء.
14 -
التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر خاص به، فلا يتعداه إلى غيره من العلماء والصالحين ونحوهم؛ لأمور كثيرة:
أولاً: إنَّ هذا أمر لا يلحقه أحد فيه؛ لما بينه وبين غيره من البَوْن الشاسع.
ثانياً: إنَّ هذه الأمور أمور توقيفية، لا تفعل إلَاّ بشرع، ولا يوجد من الأدلة ما يُعَدِّيها إلى غيره صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: إنَّ الصحابة يعلمون أبا بكر أفضل الأمة، ولم يَرِد أنَّهم فعلوا معه ما كانوا يفعلونه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، من التسابق على ماء وضوئه ونحوه.
رابعاً: أنَّه فتنة لمن تُبُرِّك به، وطريق إلى تعظيمه نفسه، الذي فيه هلاكه.
15 -
يجب على الغاسل ستر ما رآه من الميت، إنَّ لم يكن حسنًا؛ لما رواه الإمام أحمد (24360)، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من غسَّل ميتًا، وأدى فيه الأمانة، ولم ينشر عيبه -خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، ولما روى مسلم (2699) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ومن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة".
16 -
جواز العمل برأي المرأة فيما هو متعلق بشؤون النساء؛ لقوله: "إنَّ رأيتنَّ ذلك".
17 -
قبول قول أهل الخبرة والمعرفة فيما هو من اختصاص أعمالهم ومهنتهم.
18 -
قال ابن الملقن: فيه جواز تكفين المرأة، بثوب الرجل.
***
446 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كُفِّنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ثَلاثَةِ أثْوَابٍ بيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- بيض: -بكسر الباء-: جمع "أبيض".
- سَحُولية: -بفتح السين المهملة على الأشهر-: هي ثياب بيض نقية، تنسج في بلدة في اليمن تسمى سحول -وزن رسول- وسحولية صفة الأثواب.
- كُرسف: -بضم الكاف وسكون الراء وضم السين المهملة آخر فاء موحدة-: هو القطن.
…
(1) البخاري (1274)، مسلم (941).
447 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ، جَاءَ ابْنُهُ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنُهُ فيهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاه". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
448 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ البيَاضَ، فَإنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ". روَاهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ النَّسائِيَّ، وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح، أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، إلَاّ النسائي، وللحديث شواهد:
1 -
حديث عمران بن حصين، رواه الطبراني في "الكبير"(18/ 225).
2 -
حديث أنس عند ابن أبي حاتم والبزار، "مجمع الزوائد"(5/ 128).
3 -
حديث سمرة عند أصحاب السنن غير أبي داود، والحاكم.
4 -
حديث أبي الدرداء عند ابن ماجه (1474).
وقد صحح الحديث جماعة من الأئمة منهم: أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وابن القطان، والبيهقي، والحاكم، والذهبي، والحافظ ابن حجر.
قال ابن الملقن: وله شواهد كثيرة مقبولة.
…
(1) البخاري (1269)، مسلم (2400).
(2)
أحمد (3027)، أبو داود (4061)، الترمذي (994)، ابن ماجه (3566).
449 -
وَعَنْ جَابرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا كفَّن أحَدُكُمْ أخَاهُ، فَلْيُحَسِّنْ كفَنَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- فليُحْسِّن كفَنَه: ضبطه بعض اللغويين بفتح الحاء وإسكانها أي: "فليُحْسِنْ".
قَالَ عِياض: والفتح أصوب وأظهر وأقرب إلى لفظ الحديث، والمراد بإحسان الكفن: نظافته وبياضه، وستره بأن يكون من جنس لباسه في الحياة.
* ما يؤخذ من الأحاديث:
1 -
هذِه الأحاديث الأربعة كلها تتعلَّق بأحكام كفن الميت.
2 -
فالحديث رقم (446): يدل على أنَّ الأفضل التكفين في ثلاثة أثواب بيض؛ لأنَّ الله تعالى لم يكن يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلَاّ الأفضل، قال الإمام أحمد: أصح الأحاديث في كفن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عائشة؛ لأنها أعلم من غيرها، قال الترمذي: القول بأنَّه صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض، هو أصح ما ورد في كفنه.
وقال الحاكم: تواترت الأحاديث في تكفينه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض، ليس فيها قميصٌ ولا عمامةٌ، وهو المستحب عند جماهير العلماء.
3 -
قال الفقهاء: يجب تكفين الميت من ماله، فإن لم يكن له مال فكفَنُه، على من تلزمه نفقته.
4 -
صفة وضع اللفائف الثلاث؛ بأن يوضع بعضها فوق بعض، ويوضع عليها الميت، ثم يرد طرف اللفافة العليا الأيمن ثم الأيسر، ثم الباقيات هكذا
(1) مسلم (943).
وتُعقد، وتُحل في القبر.
5 -
يستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض من قطن، وإن كفن في قميص ومئزر ولفاقة، جاز، أما أن تجمع اللفائف الثلاث مع القميص والإزار، فإنَّ الحديث يدل على خلافه.
6 -
يستحب تكفين المرأة في خمسة أثواب بيض من قطن، وهي: إزار وخمار وقميص ولفافتان.
7 -
يستحب أن يُكفَّن صبي في ثوب واحد، ويباح في ثلاثة أثواب.
8 -
يستحب أن تكفَّن بنت صغيرة في قميص ولفافتين بلا خمار؛ لعدم احتياجها في حياتها إليه، فكذا بعد الموت.
9 -
الواجب للميت مطلقًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى -ثوبٌ واحدٌ يستر جميع بدن الميت.
10 -
وأما الحديث رقم (447): قصته: أن عبد الله بن أُبي ابن سَلول كبير المنافقين في المدينة المنورة، كسا العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جيء به بعد وقعة بدر أسيرًا، فكساه من ثيابه، وكان زعيمًا وكبيرًا وذا قدر عند قبيلته "الخزرج"، وكان ابنه عبد الله من صالحي الصحابة، واجتهادًا في الأمور السياسية الشرعية التي ينهجها صلى الله عليه وسلم، أعطى ابنه عبد الله قميصه صلى الله عليه وسلم، ليكفنه فيه، وصلَّى عليه وحضر دفنه، فأنزل الله تعالى بعد ذلك:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84].
11 -
فعمله صلى الله عليه وسلم هذا منسوخ بهذه الآية الكريمة، فقد نهاه الله تعالى أن يصلي صلاة الجنازة على منافق، أو أن يقوم على قبر أحد منهم، بعد الدفن يدعو له، وإنما يخص هذا بالمؤمنين.
12 -
الحديث معارض بما جاء أنَّ عبد الله بن أبي أُدخل قبره، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه، وألبسه قميصه، [رواه البخاري (1285) ومسلم (2773)]،
ووجهه: أنَّه لعله كان قد وعد أولاً، فتأخر عنه بالإعطاء.
13 -
عبد الله بن عبد الله بن أُبي من خيار الصحابة رضي الله عنه فهل موالاته لأبيه كبير المنافقين، وطلبه قميص النبي صلى الله عليه وسلم ليكفن فيه أباه مَمنوعة بمثل قوله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} ؟ [المجادلة: 22].
والجواب: أن عمل عبد الله بأبيه تمليه المحبة الطبعية، والفطرة من أجل القرابة، وليست هذه موالاة؛ كما قال تعالى:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، كما حزن النبي صلى الله عليه وسلم لوفاة عمه أبي طالب على الكفر؛ لمحبته إياه.
14 -
أما الحديث رقم (448): فيدل على: استحباب لبس الثياب البيض في حال الحياة، وعلى تكفين الموتى بالقطن الأبيض.
وعلل ذلك بأنَّ الأبيض خير ثيابكم، فعليه تطمين نفس الإنسان أنَّ ما عمله هو خير ما يمكن عمله، وذلك بمعرفته الحكمة من الحُكم، وفيه استحباب الأبيض، وهو مجمع عليه، وهو عمل الصحابة ومَن بعدهم، وما كان الله تعالى يستحب إلَاّ ما فيه المصلحة.
15 -
كما يدل الحديث على أنَّ القريب يجب عليه كفن قريبه، فتكفين الميت فرض كفاية، وهو بحق القريب ألزم.
16 -
أما الحديث رقم (449) ففيه الأمر بإحسان الكفن؛ وذلك باختيار ما كان أحسن في الذات بأن يكون جديداً، وفي الصفة بأن يكون أبيض، وفي كيفية وضع الكفن، بأن يوضع على الميت وضعاً حسناً، حسب التكفين الشرعي المذكور.
***
450 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يجْمَعُ بَينَ الرَّجُلَيْن مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أيَّهُمْ أكثَرُ أَخْذًا للقُرْآنِ، فَيقدِّمُهُ فِي اللَّحْدِ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- قتلى: جمع: "قتيل"، بمعنى مقتول.
- أُحُد: -بضمتين، مجرور بالإضافة-: جبل معروف شمالي المدينة المنورة، والآن حي من أحيائها، ومعركة أُحُد وقعت في شوال سنة ثلاث من الهجرة، وفيها قتل سبعون رجلاً من الصحابة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يحرم أن يدفن اثنان فأكثر معًا في قبر واحدة؛ لأنَّه-صلى الله عليه وسلم كان يدفن كل ميت في قبر، وهكذا استمر عمل الصحابة، ومَن بعدهم من السلف والخلف، لا ينازع في ذلك منازع.
2 -
جواز دفن الاثنين فأكثر في قبر واحد عند الضرورة، ومن الضرورة كثرة الموتى؛ لوباء عام، أو كثرة قتلى في معركة، ووجود المشقة في جعل كل واحد في قبر وحده، فإذا وجدت الضرورة، جاز ذلك؛ فإنَّ الضرورات تبيح المحظورات؛ لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
وقد وجدت الضرورة في قتلى أُحد؛ لكثرة القتلى، وصلابة الأرض، ووهن في الصحابة بعد المعركة.
(1) البخاري (1343).
3 -
إذا وجدت الضرورة المبيحة للدفن الجماعي، فليُقدَّم في اللحد أكثرهم أخذًا للقرآن، فهو المستحق للتقديم؛ لأنَّه أفضل وأولى بالإكرام والتشريف.
4 -
دلَّ ذلك على أنَّ العلم بكتاب الله يرفع مقام الإنسان، ويُعلى مرتبته إذا قصد بعلمه به وجه الله والدار الآخرة، فالفضل مقاسه العلم النافع، وهو مقياس صحيح، فالآخرة خير وأبقى.
5 -
أنَّ الشَّهيد لا يُغَسَّلُ ليبقى دمه عليه، فلا يذهب أثر الجهاد والشهادة عنه، فهي مفخرة يوم القيامة على رؤوس الخلائق، إذا جاء بجروحه التي تثعب مسكاً بلون الدم، ولا يُصلى عليه؛ لأنَّ الصلاة شفاعة له لتكفير ذنوبه، وقد كفرت الشهادة ذنوبه وطهَّرته، فهو في غنى عنها بفضل ربه، ومنَّته عليه.
6 -
جاء في صحيح البخاري (1343) من حديث جابر: "أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر في شهداء أحد بدفنهم بدمائهم، ولم يغسَّلوا، ولم يصل عليهم".
قال الشافعي: لعل الحكمة في ترك الغسل والصلاة؛ لأن يلقوا ربهم بكُلومهم، واستغْنَوا بإكرام الله لهم عن الصلاة عليهم.
قال إمام الجرمين: معتمدنا الأحاديث الصحيحة في أنَّهم لم يغسَّلوا، ولم يصل عليهم.
7 -
اختلف العلماء في حكم تغسيل مَن قُتل ظلمًا: فالمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنَّه لا يغسل، ولا يصلى عليه. قال في "شرح الإقناع":"ومن قتل ظلمًا في غير حرب، ألحق بشهيد المعركة، في أنَّه لا يغسل، ولا يصلى عليه".
لما روى أبو داود (4772)، والترمذي (1421) من حديث سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ قُتِلَ دُونَ دَمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد"، ولأنَّهم مقتولون بغير حق، أشبهوا قتلى الكفار فلا يغسلون.
والرواية الأخرى عن الإمام أحمد: يغسَّل، ويصلى عليه، وهي
مذهب مالك والشافعي؛ لأنَّ مرتبته دون مرتبة الشهيد، فمرتبة المجاهد في سبيل الله لمعرض نفسه للقتل لإعلاء كلمة الله لا -تساويها مرتبة أخرى، قال تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران] فإلحاق غيرهم بهم في الأحكام الظاهرة غير وجيه، والحديث الذي استدل به على إلحاقه لا يدل على هذا.
8 -
أباح العلماء الدفن في القبر الواحد بعد بلاء الميت الأول بأن يصير ترابًا، ويكفي الظن في ذلك، ويُرجع إلى أهل الخبرة في تلك الناحية التي فيها المقبرة، أما أن يدفن قبل بلاه فلا يجوز؛ فإنَّ للميت حرمة في قبره كحرمة الحي في بيته؛ قال تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} [المرسلات] أحياء في الدور، وأمواتًا في القبور.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: القبور رحمة في حقهم، وستر لهم عن كون أجسادهم بادية للسباع وغيرها.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: لا يجوز نبش القبور؛ لأنَّ هذا إهانة للموتى، ومعلوم أنَّ لهم حرمة، وقد سبقوا إلى هذا الموضع، وصار لهم دارًا، فالقبور منازلهم.
9 -
قال شيخ الإسلام: قد صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "الغريق، والحريق، والمبطون، والنفساء، وصاحب الهدم -شهداء"[رواه أحمد (23241) وأبوداود (3111)]، وذكر في الإقناع وغيره: أنَّ الشهداء غير شهيد المعركة كثيرون، ذكر منهم: ذات الجنب، والمبطون، والمطعون، واللديغ، وفريس السبع، والمتردي، ومن خرَّ من دابته، ومن طلب الشهادة، والمرابط، ومن قُتل دون نفسه أو أهله أو ماله، فهؤلاء شهداء في ثواب الآخرة، لا في أحكام الغسل والصلاة.
قال في "الشرح الكبير": لا نعلم فيه خلافًا. وقال ابن القيم: يغسَّلون، ويصلى عليهم بلا نزاع.
451 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَغَالَوا فِي الكَفَنِ؛ فَإنَّهُ يُسْلَبَ سَرِيْعًا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيفُ الإسناد.
قال في "التلخيص": رواه أبو داود وفي الإسناد عمرو بن هاشم الجنبي، مختلف فيه، وفيه انقطاع بين الشعبي وبين علي بن أبي طالب؛ لأنَّ الدارقطني قال: إنَّه لم يسمع من علي سوى حديث واحد، وقد حسَّنه المنذري والنووي.
وفي صحيح مسلم (143)، عن جابر:"إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه".
* مفردات الحديث:
- لا تغالوا: من: التغالي، والمغالاة -بحذف إحدى التاءين: الإسراف وزيادة الثمن.
- يُسلب: مبني للمجهول، كناية عن بلاه وتلفه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
المستحب أن يكون الكفن من الثياب البيض القطن العادية، وألا يكفن الميت مهما كانت منزلته من الثياب الفاخرة، والملابس الغالية، كما أنَّه لا يزاد في الكفن الشرعي، ولكل نوع من الموتى قدر معلوم في الكفن.
2 -
الكفن يبلى وتأكله الأرض سريعًا؛ فلا معنى للمغالاة فيه، واختياره من الألبسة الرفيعة الشهيرة؛ فإنَّ هذا يدخل في باب السرف والخيلاء، المنهي عنهما، لاسيما في هذا الموطن، الذي استوى فيه الغني والفقير، والشريف والوضيع، فهذا أول منازل الآخرة وعدلها، والله المستعان.
(1) أبو داود (3154).
452 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: "لَوْ مُتِّ قَبْلِي، لَغَسَّلْتك
…
" الحديث. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ.
قال في "التلخيص": رواه أحمد، والدارمي (1/ 51)، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني (2/ 74)، والبيهقي (3/ 396) من حديث عائشة، وقد أعله البيهقي بابن إسحاق؛ بأنَّه عنعنه وانفرد به، ولكنه لم ينفرد به، بل تابعه عليه صالح بن كيسان عند أحمد والنسائي، وسند الحديث على شرط الشيخين.
وقد مال ابن الجوزي إلى تصحيحه.
…
(1) أحمد (6/ 228)، ابن ماجه (1465)، ابن حبان (14/ 551).
453 -
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها: "أنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها أوْصَتْ أنْ يُغَسِّلَهَا عَلَيٌّ رضي الله عنه". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيٌّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
هذا أثر حسنٌ.
قال في "التلخيص": رواه البيهقي من جه آخر، وإسناده حسن، وقد احتج به أحمد، وابن المنذر، ورجاله ثقات معروفون، وأخرجه الحاكم، وحسَّنه ابن حجر.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
يحرم على الرجل أن يغسِّل المرأة، ويحرم على المرأة أن تغسل الرجل؛ ولو كان الرجل مَحْرماً للمرأة، فلا يجوز أن يغسِّل الرجل أُمَّه وابنتَه وغيرهما من محارمه.
قال في "المغني": هو قول أكثر أهل العلم، وأجازه مالك والشافعي عند الضرورة، واستعظمه الإمام أحمد وغيره.
2 -
يستثنى من ذلك أنَّ للرجل أن يغسل زوجته وأمَته، وبنتاً دون سبع سنين، وأنَّ للمرأة أن تغسِّل زوجها وسيدها وصبيًّا دون سبع سنين.
قال ابن المنذر: أجمع كل مَن نحفظ عنه من أهل العلم؛ أنَّ للمرأة أن تغسل الصبي الصغير متجرداً من غير مئزر، وتمس عورته، وتنظر إليها؛ لأنَّ عورته لا حكم لها في حياته، فكذا بعد وفاته.
(1) الدارقطني (2/ 79).
3 -
والحديث رقم (452): يدل على أنَّ للرجل أن يغسل زوجه.
4 -
كما أن الحديث رقم (453): يدل على أن للزوج أن يغسل زوجته، وقد حكاه الإمام أحمد وابن المنذر والوزير إجماعًا.
وأما غسل الرجل زوجته: فهو مذهب الأئمة الثلاثة وجمهور العلماء، وخالف أبو حنيفة فلم يجز للزوج أن يغسل زوجه، وحجته أنَّ علاقة النكاح انقطعت بالوفاة، والمعتمد القياس على غسلها له، والقياس لا يكفي.
***
454 -
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه: "فِي قِصَّةِ الغَامِدِيَّةِ الَّتِي أمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم برَجْمِهَا فِي الزِّنَا، قَالَ: ثُمَّ أمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ" رَوَا مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الغامدية: نسبة إلى قبيلة غامد من الأزد، وهي قبيلة تقيم في جنوبي المملكة العربية السعودية، وعاصمة قراها الباحة.
- قصة الغامدية: إنَّها جاءت إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم واعترفت على نفسها أنَّها حبلى من الزنا، وبعد أن وضعت، وفطمَتْ ولدها رجمها، والرجم هو الرمي بالحجارة حتى الموت.
…
(1) مسلم (1695).
455 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- مشاقص: على وزن مفاعل، من صيغ منتهى الجموع، وهو ممنوع من الصرف، والمشاقص -جمع "مِشقص"-: نصلٌ عريضٌ، والنصل: حديدة الرمح والسهم والسكين.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذان الحديثان في معناهما خلاف بين العلماء، سنعرض له إن شاء الله تعالى.
2 -
الحديث رقم (454): يدل على مشروعية الصلاة على المقتول حدًّا، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصلاة على الغامدية، ودفنها مع المسلمين، فقد جاء في صحيح مسلم هذا الحديث بأطول من هذا، من أنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى عليها وجاءت الروايات الأخر، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان قد صلَّى عليها بنفسه.
3 -
الصلاة على الجنازة فرض كفاية إجماعًا، ويسقط الفرض بالصلاة عليه من مكلف، ذكرًا أو أنثى عند الأئمة الأربعة، وتواتر فعلها من النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع المسلمون عليها، وهي من أجل العبادات، وفي فعلها الأجر الجزيل، قال الفاكهي: الصلاة على الميت من خصائص هذه الأمة.
4 -
أما الحديث رقم (455): فيدل على أنَّ من قتل نفسه، فقد ارتكب جرماً كبيرًا، فلا يصلي عليه الإمام؛ وذلك زجرًا لغيره.
(1) مسلم (978).
ولكن يصلي عليه المسلمون؛ لأنَّه بعمله هذا كان من العصاة، الذين هم أحوج وأحق بشفاعة المسلمين بصلاتهم عليهم من غيرهم.
5 -
قال العلماء: الصلاة على الأموات شريعة ثابتة ثبوتاً أوضح من شمس النهار، فلم يترك الصلاة في أيام النبوة، ولا في غيرها على فرد من أفراد أموات المسلمين؛ وقد قال الإمام أحمد: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ما ترك الصلاة على أحد إلَاّ على الغال، وقاتل نفسه.
6 -
قال شيخ الإسلام: من كان مظهراً للإسلام، فإنَّه يجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة: من تغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك، أما من عُلم منه النفاق والزندقة، فإنَّه لا يجوز لمن علم ذلك منه الصلاة عليه، وإن كان مظهرًا للإسلام.
7 -
مذاهب الأئمة الأربعة: أنَّه يصلى على الفاسق، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على الغال، وقاتل نفسه؛ زجرًا للناس، وصلَّى عليهما الصحابة.
قال النووي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم.
قال أحمد: من استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، نصلي عليه، وندفنه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"صلوا على مَن قال: لا إله إلَاّ الله".
* خلاف العلماء:
الصلاة على الجنازة فرض كفاية بإجماع العلماء.
قال شيخ الإسلام: وفروض الكفايات إذا قام بها رجل، سقط الإثم عن الباقين، ثم إذا فعل الكل ذلك، كان الكل فرضًا، ذكره ابن عقيل محل وفاق.
وصلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة، زيادةً في أجر المصلين، وشفاعةً في حق الميتين.
وقد اختلف العلماء في الصلاة على أصحاب معاصٍ معينةٍ:
فذهب الحنفية إلى: أنَّ أربعةً لا يُصلى عليهم، وهم:
1 -
البغاة: الذين خرجوا عن طاعة الإمام بغير حق.
2 -
قطاع الطرق: الذين يسلبون المارة أموالهم.
3 -
العصبة المتعاونة على ظلم العباد بقهرهم وغصبهم.
4 -
المكابرون بالمدن والقرى بالسلاح، فهو من الحرابة وقطع الطرق.
فهؤلاء يُغسَّلون، ولا يُصلى عليهم، إهانة لهم، وزجرًا لغيرهم.
وذهب المالكية إلى: أنَّ الإمام لا يصلي على من قُتل في حدٍّ أو قصاصٍ.
ودليلهم: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ على ماعزٍ، ولم ينه عن الصلاة عليه.
وذهب الشافعية إلى: الصلاة على كل مسلم، مهما كان عصيانه وفسقه.
قال النووي في "شرح المهذب": "المرجوم في الزنا، والمقتول قصاصًا، والصائل، وولد الزنا، والغال من الغنيم -يغسلون ويصلى عليهم، بلا خلاف عندنا".
ودليلهم: ما ثبت في مسلم (1695): "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى على المرجوم في الزنا"، وفي البخاري (6434) من رواية جابر:"أنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى علن ماعز، بعد أن رجمه".
قال البيهقي: القول جواز الصلاة على كل بر وفاجر، وعلى كل من قال: لا إله إلَاّ الله، وكل من خالف ذلك، فأحاديثه ضعيفة.
وذهب الحنابلة إلى: الصلاة على كل مسلم عاصٍ، إلَاّ الغال من الغنيمة، وقاتل نفسه، فلا يصلي عليهما الإمام ونائبه؛ عقوبةً لهما، وزجرًا لغيرهما، ويصلي عليهما غير الإمام.
أما دليلهم: فقاتل نفسه حديث الباب، وأما الغال فما رواه الإمام أحمد (21167)، وأبو داود (27101)، عن زيد بن خالد أنَّ رجلاً من جهينة قتل يوم خيبر، فقال صلى الله عليه وسلم:"صلوا على صاحبكم، فإنَّه غلَّ في سبيل الله".
قال الإمام أحمد: ما نعلم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على أحدٍ إلَاّ على
الغالِّ، وعلى قاتل نفسه.
قال ابن القيم: وكان هديه صلى الله عليه وسلم أنَّه لا يصلي على من قتل نفسه، ولا على الغال.
ومذهب الحنابلة هو أرجح هذه الأقوال، وأحقها دليلاً، فالعصاة -على اختلافهم- هم أحق بالصلاة وشفاعة المسلمين، ولكن خصَّ هذان بالدليل، وما عداهما، فعلى أصل عموم الحكم في صلاة الجنازة، والله أعلم.
***
456 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "فِي قِصَّةِ المَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ، فَسَأَلَ عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مَاتَتْ، فَقَالَ: أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟ فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أمْرَهَا، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا، فَدَلُّوهُ فَصَلَّى علَيْهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ هَذِه القُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أهْلِهَا، وإنَّ اللهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- تقُم المسجد: -بفتح حرف المضارعة وتضعيف الميم- أي: تكنس المسجد، وتخرج قمامتته وتنظفه، واسمها: خرقاء، وكنيتها: أم محجن.
- أفلا كنتم: "أفلا" للاستفهام، ويحتمل أنَّه للاستيضاح، أو للإنكار، والفاء عاطفة، والمعطوف عليه محذوف، يقدر بما يناسب المقام.
- آذنتموني: أعلمتموني، وأخبرتموني بموتها.
- صغَّروا أمرها: من التَّصغير؛ أي: احتقروا أمرها بجانب مقام النبي صلى الله عليه وسلم.
- ظلمة: منصوب على التمييز، والظلمة: ذهاب النور.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت، واستحبابه لا نزاع فيه بين العلماء؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى على هذه المرأة في قبرها.
قال الإمام أحمد: ومن يشك في الصلاة على القبر، فهي شريعة ثابتة، لا
(1) البخاري (458)، مسلم (456).
ينبغي إنكارها.
قال في "سبل السلام": ويدل له أحاديث وردت في الباب عن تسعة من الصحابة، وأما القول بأن الصلاة على القبر من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فلا تنهض؛ لأنَّ دعوى الخصوصية خلاف الأصل.
2 -
استحاب إعلام أقارب الميت، وأصدقائه، ومن له صلة بوفاته، وأنَّ هذا ليس من النعي المنهي عنه.
3 -
فيه بيان ما كان عليه النبي-صلى الله عليه وسلم من التواضع والرفق بأمته، وتفقد أحوالهم، والقيام بحقوقهم، والاهتمام بمصالحهم في دينهم ودنياهم، فليكن قدوة لكل متولِّ أمراً من أمور المسلمين.
4 -
فيه إثبات ظلمة القبور وتنويرها، وهو حق ثابت من أدلة أخر.
5 -
وفيه إثبات بركته صلى الله عليه وسلم ودعائه، وأنَّ الله تعالى يجعله سبباً في تنوير القبور على أهلها، فالمراد بالدعاء هنا: الصلاة؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لا يصلي على الموتى كلهم.
6 -
فيه النهي عن احتقار المسلم مهما كانت منزلته، ووضعه بين المسلمين.
7 -
وفيه فضل العناية بالمساجد وتنظيفها، قال تعالى:{طَهِّرَا بَيْتِيَ} ، وجاء في حديث عرض الأعمال:"حتى القذاة يخرجها الإنسان من المسجد"، وجاء في الحديث الذي في سنن أبي داود (455)، "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ ببناء المساجد في الدور، وأن تُنظَّف وتُطيَّب".
8 -
الصلاة على القبر وعلى الجنازة مستثناة من الصلاة في المقبرة، والصلاة إليها.
9 -
أنَّ الدعاء ينفع الأموات في الصلاة وخارجها.
10 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يستطيع جلب نفع، ولا دفع ضر لأحد، ولو كان يملك شيئًا من الأمر، لنفعهم بلا دعاء، ولكن الله تعالى يكرمه، فيقبل دعاءه لمن أراد إسعاده من خلقه.
11 -
إثبات الأسباب، ومن أهم الأسباب الدعاء، لاسيَّما المستكمل لشروط قبوله واستجابة صاحبه.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على استحباب الصلاة على القبر، لمن فاتته الصلاة على الميت، واختلفوا في المدة التي تجوز فيها الصلاة:
فذهب الحنفية والمالكية إلى: جواز الصلاة ما لم يتغيَّر الميت ويتفسخ، والمعتبر في معرفة التفسخ أهل الخبرة والمعرفة من غير تقدير بمدة، وذلك لاختلاف الحال والزمان والمكان.
وذهب الشافعية إلى: جوازها إذا لم يَبْلَ الميت.
وذهب الحنابلة إلى: تقدير المدة بشهر واحد، وتحرم الصلاة بعده.
قال الإمام أحمد: أكثر ما سمعت هذا.
وقال ابن القيم في "الهدي": صلَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم على القبر بعد ليلة، ومرةً بعد ثلاث، ومرةً بعد شهر، ولم يوقت في ذلك وقتاً.
والراجح أنَّه يحدد بما إذا كان الميت مات، وأنت أهلٌ للصلاة، ومخاطبٌ بالصلاة عليه، أما إذا مات وأنت لست من أهل الصلاة، فلا تصلِّ عليه، وإلَاّ صحَّ أن يصلي الإنسان على من ماتوا قبله بقرون.
***
457 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَى عَنِ النَّعْيِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرمِذِيُّ وحَسَّنَهُ (1).
458 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِم، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أرْبَعًا". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (2).
ــ
* درجة الحديث (457):
الحديث حسن، بل قال الترمذي: حسن صحيح، وحسَّنه الحافظ في "الفتح".
* مفردات الحديث:
- نعى: ينعى نعيًا، من باب نفع، فالنعي بتشديد النون، هو الإخبار بموت الشخص والإشهار به، بأن ينادي في الناس: أنَّ فلانًا مات؛ ليشهدوا جنازته.
- النجاشي: بفتح النون وكسرها-: كلمة للأحباش تُسمَّى بها ملُوكها، اسمه: أصْحَمة -بفتح الهمزة وسكون الصاد وفتح الحاء- ابن أبحر.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الحديث رقم (457): فيه النَّهي عن النعي الذي كان يفعله أهل الجاهلية، من أنَّه إذا مات فيهم شريف، بعثوا راكبًا ينادي في القبائل، فينعاه إليهم، فهذا هو المنهي عنه المحرم.
(1) أحمد (22945)، الترمذي (986).
(2)
البخاري (1245)، مسلم (951).
2 -
أما الحديث رقم (458): ففيه استحباب إعلام أهل الميت وأقاربه، ومن له به صلة؛ ليشهدوا جنازته، والصلاة عليه ودفنه، فهذا مستحبٌّ، ولا يتناوله النهي عن النعي.
3 -
جمع المؤلف هذين الحديثين في موضع واحد في غاية الحسن، وكذلك هو يفعل -رحمه الله تعالى- في كثير من الأحاديث، الذي فيها نوع تعارض؛ ليعلم حكم هذا من هذا.
4 -
يدل الحديث رقم (458): على مشروعية الصلاة على الغائب، ويأتي الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.
5 -
جواز الصلاة على الجنازة في مصلى العيد، إذا كان الجمع كبيرًا.
6 -
التكبير في صلاة الجنازة أربعاً، ويأتي بيانه قريبًا إن شاء الله تعالى.
7 -
فضيلة كثرة المصلين، وكونهم ثلاثة صفوف فأكثر؛ لما روى أحمد (16283)، وأبو داود (3166)؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مؤمن يموت، فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف -إلَاّ غفر".
8 -
هذه المنقبة والفضيلة للنجاشي رضي الله عنه ذلك أنَّ جبريل نزل من عند الله تعالى وبأمره، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوفاته وهو في بلاده، وأمره بنعيه إلى المسلمين والصلاة عليه، والنجاشي له يدٌ كريمةٌ وكبيرة على المسلمين المهاجرين الأولين، حينما هاجروا إليه هربًا من أذية قريش، فآواهم وأنزلهم بلاده، ومنعهم من أذية قريش لهم، ثم قاده حسن نيته، وطلبه الحق أن أسلم، وصار من أنصار دينه، فلإحسانه إلى المسلمين وكِبر مقامه، وكونه بأرض لم يصلَّ عليه فيها- أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بموته، وخرج بهم إلى المصلى، فصلَّى عليه.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في الصلاة على الغائب:
فذهب أبو حنيفة ومالك وأتباعهما إلى: أنَّها لا تشرع.
وجوابهم على قصة النجاشي والصلاة عليه-: أنَّ هذه من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب الشافعي وأحمد وأتباعهما إلى: أنَّها مشروعة؛ لهذين الحديثين الصحيحين، والخصوصية تحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل عليها.
وتوسط شيخ الإسلام، فقال: إن كان الغائب لم يصلَّ عليه -مثل النجاشي- صُلِّي عليه، وإن كان قد صلِي عليه، فقد سقط فرض الكفاية من المسلمين.
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وصحَّحه ابن القيم في "الهدي"؛ لأنَّه توفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم أناس من أصحابه غائبين، ولم يثبت أنَّه صلى على أحد منهم صلاة الغائب، فالصلاة هنا واجبة.
ونقل شيخ الإسلام عن الإمام أحمد أنَّه قال: إذا مات رجلٌ صالحٌ، صلي عليه، واحتج بقصة النجاشي.
ورجح هذا التفصيل شيخنا الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- وعليه العمل في نجد؛ فإنَّهم يصلون على من له فضل وسابقه
…
على المسلمين، ويتركون من عداه، والصلاة هنا مستحبة.
قال ابن القيم: أصح الأقوال هذا التفصيل.
***
459 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَتقُومُ عَلَى جَنَازَتهِ أرْبَعُونَ رَجُلاً -لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئاً- إِلَاّ شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ". روَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- جنازته: -بفتح الجيم-: اسم للميت المحمول وبكسرها: اسم للنعش الذي يُحمل عليه الميت، وقيل عكس ذلك، واشتقاق الجنازة من "جنز"، إذا ستر، قاله ابن فارس وغيره، ومضارعه "يُجنِز" بكسر النون، وجمع الجنازة: جنائز.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الصلاة على الجنازة شفاعة من المصلين للميت، فكلما كثر عدد المصلين كان أفضل؛ ليكثر الدعاء والترحم والاستغفار للميت.
2 -
فضيلة وجود أربعين رجلاً من المسلمين يصلون على الميت، ويشفعون فيه؛ ليتحقق هذا المطلب الثمين من الله تعالى، فيقبل دعاءهم فيه، ويشفعهم فيه.
3 -
فضيلة توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، والبُعد عن الشرك ووسائله، التي منها الغلو بالمخلوقين.
وإن خالص التوحيد سبب قوي في استجابة الدعاء، فإنَّ إخلاص التوحيد حسنة لا يعدلها حسنة، كما أنَّ الشرك ظلم عظيم، أعاذنا الله منه.
4 -
تسن صلاة الجنازة جماعة، بإجماع المسلمين؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، وفعل صحابته من بعده، واستمرار عمل المسلمين على ذلك.
5 -
"لا يشركون بالله" المراد به: الشرك الأكبر والشرك الأصغر؛ لأن المشركين
(1) مسلم (948).
شركًا أكبر لا تصح صلاتهم، فالمراد: الشرك الأصغرة فإنَّ "شيئًا" نكرة جاءت في سياق النفي، فتعم القليل والكثير، فيشمل الأكبر والأصغر؛ لأنَّ الشافع لابد أن يكون سالمًا من الشوائب التي تخل بعقيدته، وهذا يدل على عظم الشرك: كبيره وصغيره.
6 -
يسن ألا تنقص صلاة الجماعة على الميت عن ثلاثة صفوف، ولو كان المأمومون ستة أشخاص؛ لِما روى ابن بطة عن أبي أمامة:"أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ شهد جنازة وهو سابع سبعة، فأمرهم أن يصفوا ثلاثة صفوف خلفه، فصفَّ ثلاثة واثنان وواحد خلف الصف، فصلَّى على الميت، ثم انصرف".
ولما روى الترمذي (1028)، والحاكم (1/ 516)، وصححه عن مالك ابن هبيرة؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"من صلَّى عليه ثلاثة صفوف من الناس، فقد أوجب".
7 -
لابد أن يكون المصلَّى عليه مسلمًا، فالكافر لا تقبل فيه الشفاعة، والدعاء له بالمغفرة اعتداء وظلم في الدعاء، قال تعالى {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر] أما ذكر الرجل هنا، فهو من باب التغليب في الألفاظ، وإلَاّ فإنَّ الحكم للرجل والمرأة.
***
460 -
وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسَطَهَا". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- امرأة: تلك المرأة هي: أم كعب الأنصارية.
- ماتت في نِفاسها: "في" يحتمل أن تكون ظرفية، ويحتمل أن تكون سببية، وكون المرأة في نفاسها وصف غير معتبر اتفاقًا، وأما وصف كونها امرأة فهو معتبر عند الأكثر.
- وَسَطها: بالتحريك، أي: قام محاذيًا لوسطها، أما بالسكون فهو بمعنى:"بين"؛ نحو: جلست وَسْط القوم؛ أي: بينهم، والمراد الأول.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يستحب أن يقف الإمام من المرأة -عند الصلاة عليها- في وسطها أمام عجيزتها، هذا هو المستحب، وإلَاّ فالواجب استقبال جزء من الميت، رجلاً كان أو امرأة، ووصف المرأة هنا بأنها ماتت في نفاسها لا عبرة له في موقف الإمام.
2 -
أنَّ المرأة وإن عدت من الشهداء بموتها في نفاسها، فإنَّها تجري عليها الأحكام الظاهرة: من التغسيل والتكفين والصلاة، ولها أجر الشهيد، إن شاء الله تعالى، ولعل هذا المعنى هو الذي حمل الراوي على ذكر موتها في النفاس.
(1) البخاري (332)، مسلم (964).
3 -
علل بعض العلماء حكمة وقوف الإمام وسط المرأة:- بأنَّه أستر لها من الناس، وإلَاّ فالرأس أشرف الأعضاء وأولاها.
4 -
وإذا اجتمع جنائز، فيكفيهن صلاة واحدة، فإن كانوا نوعًا واحداً، قدّم إلى الإمام أفضلهم بعلمٍ، أو تقًى، أو سنٍّ، وإن كانوا رجالاً، أو رجلاً ونساء، قدم الرجال، أو الرجل على النساء، والصلاة من المصلين على الميت شفاعة له، فينبغي إخلاص الدعاء، وحضور القلب؛ لعلَّ الله تعالى أن يقبل الدعاء والشفاعة فيه.
* فائدة:
موقف الإمام من جنازة الرجل أمام رأسه؛ لما روى الترمذي (1032) وحسَّنه: "أنَّ العلاء بن زياد صلَّى على رجل، فقام عند رأسه، ثمَّ صلَّى على امرأة، فقام حيال وسط السرير، ثم قال: هكذا رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الجنازة مقامي منها"، وهو مذهب الشافعي وأحمد.
قال ابن المنذر: هو قول جماهير العلماء.
***
461 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "وَاللهِ، لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي المَسْجِدِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- والله لقد صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الجملة ثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، و"قد"، وإنما احتاجت إلى هذه المؤكدات؛ لأنَّه وجد من يُنكر الصلاة على الجنازة في المسجد؛ خشية تلويثه.
- ابني بيضاء: هما: سهل وسهيل، أبناء وهب بن ربيعة، وأمهما: دعد بنت جحدم، من بني فهر، تلقب: البيضاء.
- في المسجد: "في" تفيد الظرفية، والمسجد هو الظرف، والصلاة هي المظروف.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قال ابن القيم في "الهدي": لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الراتب الصلاة على الجنائز في المسجد، وإنما كان خارجه، وربما صلَّى عليها فيه، وكلاهما جائز.
2 -
حديث الباب يدل على جواز الصلاة على الجنازة في المسجد، ولكنه يدل كما قال ابن القيم على أنَّه قليل، وأنَّ هذه الصلاة على ابْنَي بيضاء من القليل.
3 -
قال في "شرح الزاد": ولا بأس في الصلاة على الميت في المسجد إن أمن تلويثه، وهو مذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء، وقد روى ابن أبي شيبة؛ بلفظ: "إنَّ عمر صلَّى على أبي بكر في المسجد، وإن صهيباً صلَّى
(1) مسلم (973).
على عمر فى المسجد".
قال الخطَّابي: ومعلوم أنَّ عامة المهاجرين والأنصار شهدوا ذلك.
4 -
كره الصلاة على الجنازة في المسجد أبو حنيفة ومالك، والكراهة عند الحنفية منهم من جعلها كراهة تحريم، ومنهم من جعلها كراهة تنزيه، وهذا ما رجحه الكمال ابن الهمام، وعند المالكية كراهة تنزيه.
ودليلهم: ما رواه أبو داود (3191) وابن ماجه (1517) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "من صلَّى على ميتٍ في المسجد، فلا شيء له"، وحسَّنه ابن القيم في "الهدي"، ولأنَّ المسجد جُعِل لأداءِ المكتوبات، ولأنَّه يحتمل تلويث المسجد.
والجواب: أنَّ الحديث لا تقوم به حجة، كما نقل ذلك صاحب "نصب الراية" عن النووي وغيره، والمسجد مُعَدٌّ للعبادة، ومنها: الصلاة على الجنازة، أما التلويث فإنَّ تحقق، فالمنع مذهب الجمهور، وإن لم يتحقق فالاحتمال لا يمنع جواز الصلاة، قال الإمام أحمد: لا ينبغي أن يكره شيء مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
***
462 -
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "كانَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ رضي الله عنه يُكَبِّرُ علَى جَنائزِنَا أرْبَعًا، وأَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالأرْبَعَةُ (1).
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: "أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وقَالَ: إِنَّهُ بَدْرِيٌّ". رَوَاهُ سَعِيدُ بنُ مَنْصُور، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال في "التلخيص": روى البخاري في صحيحه عن علي بن أبي طالب: "أنَّه كبر على سهل بن حنيف"، زاد البرقاني في مستخرجه "ستًّا"، وكذا رواه البخاري في "تاريخه" وسعيد بن منصور، ووراه ابن أبي خيثمة من وجه آخر عن يزيد بن أبي الزناد عن عبد الله بن معقل:"خمسًا".
وروى سعيد بن منصور من طريق الحكم بن عتيبة؛ أنَّه قال: "كانوا يكبرون علن أهل بدر خمسًا، وستًّا، وسبعًا".
قال الألباني في كتاب "الجنائز": وأما الست والسبع، ففيها بعض الآثار الموقوفة، ولكنها في حكم الأحاديث المرفوعة؛ لأنَّ بعض كبار الصحابة أتى بها على مشهد من الصحابة، دون أن يعترض عليه أحد منهم:
الأول: حديث عبد الله بن معقل: "أنَّ علِيًّا صلى على سهل بن حنيف، فكبَّر عليه ستًّا".
(1) مسلم (957)، أبو داود (3197)، الترمذي (1023)، النسائي (1982)، ابن ماجه (1505).
(2)
البخاري (4004).
الثاني: عن عبد خير: "كان علي يكبر على أهل بدر ستًّا، وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، وعلى سائر الناس أربعًا". أخرجه الطحاوي والدارقطني (2/ 73) والبيهقي (4/ 36) وسنده صحيح، ورجاله ثقات كلهم.
الثالث: عن موسى بن عبد الله بن يزيد: "أنَّ عليًّا كبَّر على أبي قتادة سبعاً وكان بدريًّا". أخرجه الطحاوي، والبيهقي (4/ 36) بسند صحيح على شرط مسلم.
***
463 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أرْبَعًا، وَيَقْرأُ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ فِي التَّكبِيرَةِ الأُوَلَى". رَوَاهُ الشَّافِعيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعيفٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
قال المؤلف: رواه الشافعي بإسناد ضعيف؛ ذلك لأنَّ فيه إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي، وهو متروك.
وقال الحافظ في "الفتح": إنَّ الشيخ ابن العربي أفاد في "شرح الترمذي" أنَّ سنده ضعيف.
وعلى معنى هذا الحديث عمل المسلمين الآن.
ولذا قال ابن عبد البر: انعقد الإجماع بعد ذلك على أربع، وأجمع الفقهاء، وأهل الفتوى بالأمصار على أربع، على ما جاء في الأحاديث الصحاح.
…
(1) الشافعي (2/ 358).
464 -
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبدِ الله بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأ فَاتِحَةَ الكِتَابِ، فَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أنَّهَا سُنَّهٌ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لتعلموا: "اللام" لام الأمر، والفعل مجزوم بها، ويجوز أن تكون للتعليل، والفعل منصوب بها.
- أنَّها سنة: أي: طريقة مأخوذة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المراد: أنَّها سنة ما يقابل الفريضة، فهذا اصطلاح حادث للفقهاء.
* ما يؤخذ من الأحاديث:
1 -
الحديث رقم (462): يدل على أنَّ التكبير في صلاة الجنازة أربع تكبيرات، وأنَّ هذا هو المتقرر عند الصحابة، إلَاّ أنَّ زيد بن أرقم زاد في إحدى صلواته تكبيرة واحدة، فلما سألوه عن هذه الزيادة قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها".
وأما رواية سعيد بن منصور؛ أنَّ عليًّا رضي الله عنه زاد في صلاته على سهل ابن حنيف فكبَّر ستًّا: فكأنَّهم سألوه عن ذلك، فأخبرهم أنَّ الميت من أهل بدر، وأهل بدر لهم مزية فضل على غيرهم.
قال النووي: أجمعت الأمة على أنَّ التكبيرات أربع، بلا زيادة ولا نقصان.
2 -
أما الحديث رقم (463): فيدل على أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يكبر على الجنائز أربع
(1) البخاري (1335).
تكبيرات، وأنَّه قد يزيد إلى ثماني تكبيرات، حتى جاء نعي النجاشي، فكبر عليه أربعاً، ثم ثبت على أربعٍ حتى توفاه الله.
3 -
في البخاري (1245)، ومسلم (951) عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة وغيرهم:" أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يكبر في صلاة الجنازة أربعًا".
وجمع عمر رضي الله عنه الناس على أربع تكبيرات.
وقال الحنفي: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ابن مسعود، فأجمعوا على أربع.
وهو ما جاء في الأحاديث الصحيحة، وما سوى ذلك عندهم فشاذ.
وقال النووي: قد كان لبعض الصحابة وغيرهم خلاف في التكبير المشروع، ثم انقرض ذلك الخلاف، وأجمعت الأمة الآن على أنَّه أربع تكبيرات، بلا زيادةٍ ولا نقصٍ.
وقال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يكبر أربع تكبيرات.
وحكى الوزير عن الأئمة الأربعة: أنَّ الإمام لا يُتابع على ما زاد على الأربع.
وقال الموفق بن قدامة: لا خلاف أنَّه لا يتابع على الزيادة عليها، ولا تستحب إجماعاً.
4 -
أما الحديثان رقم (463، 464): فيدلان على أنَّ سنة النبي صلى الله عليه وسلم قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، من تكبيرات صلاة الجنازة.
قال الحاكم: أجمعوا على أنَّ قول الصحابي: "من السنة" حديث مرفوع.
5 -
سورة الفاتحة هي أم القرآن وفاتحته، وقراءتها بعد أول تكبيرة من صلاة الجنازة في غاية المناسبة؛ ذلك أنَّ صلاة الجنازة دعَاءٌ وشفاعةٌ للميت، فأدب الدعاء أن يقدم بين يديه الثناء على الله تعالى، وأحسن الثناء هو مقدمة فاتحة الكتاب.
6 -
في الحديث دليلٌ على أنَّه يحسن في الإمام أن يجهر في بعض القراءة، أو
الذكر في الصلاة؛ ليُعلم المأمومين حكم ذلك؛ فإنَّ ابن عباس جهر بالفاتحة؛ ليعلم الناس أنَّ قراءتها في صلاة الجنازة سنة؛ أي: أنَّها سنة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته، التي قد تكون مستحبة، وقد تكون واجبة، وهي هنا واجبة من أدلة أخر.
* خلاف العلماء:
جاء في "سنن النسائي" وغيره عن أبي أمامة قال: "السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ بعد التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة".
قال مجاهد: سألت ثمانية عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن القراءة على الجنازة، فكلهم قال: يقرأ.
وله شواهد دلَّت على وجوب قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، وهي تكبيرة الإحرام، وبعد التعوذ والبسملة.
فأما التعوذ والبسملة: فقد أجمعوا على الإتيان بهما، وأما الاستفتاح فالأكثر أنَّه لا يستفتح به، ولا تقرأ السورة بعد الفاتحة، وهو مذهب الإمامين: الشافعي وأحمد، وجمهور العلماء من السلف والخلف.
قال في "البدر التمام": والحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؛ لأنَّ المراد من السنة؛ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنَّ المراد بها: ما يقابل الفريضة، فهذا اصطلاح عرفي.
وذهب الإمامان: أبو حنيفة ومالك إلى: أنَّها سنة لا واجبة، ومذهب الحنفية أنه يقرأ دعاء الثناء، وجاز قراءة الفاتحة، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام، قال ابن القيم في "الهدي": قال شيخنا: ولا تجب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، بل هي سنة.
والقول الأول أحوط؛ فأدلته قوية.
***
465 -
وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِه: اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّع مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالمَاءَ وَالثَّلجِ وَالبرَدِ، وَنَقِّهِ منِ الخَطَايَا؛ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأهْلاً خَيْرًا مِنْ أهْلِهِ، وَأدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَقِهِ فِتْنةٌ القَبْرِ، وَعَذَابَ النَّارِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- اللهم: أصلها: "يا الله"، فـ"الميم" عوض عن "ياء" النداء؛ ولذا لا يجمع بين العوض والمعوَّض.
- اغفر له: المغفرة: ستر الذنب، مع التجاوز عنه.
- ارحمه: الرحمة أبلغ من المغفرة؛ لأنَّ فيها حصول المطلوب بعد زوال المكروه.
- عافه: من الذنوب، وعافه من عذاب القبر، وعذاب النار.
- اعف عنه: تجاوز عنه ما فعل من المحرمات، وما قصر فيه من الواجبات.
- أكرم نُزُلَهُ: النُزُل: ما يقدم للضيف؛ أي: اجعل نزله وضيافته عندك كريمة.
- ووسع مدخله: أي: مدخله في القبر بأن يفسح له فيه، ويُفْتَحَ له بَابٌ إلى الجنة، وكذلك منازله عندك في الجنة بعد البعث.
- واغسله بالماء والثلج والبرَد: فإنَّ هذه المواد تقابل حرارة ذنوبه فتطفىء لهيبها وتبردها.
(1) مسلم (963).
- نقِّه من الخطايا: يقال: نقي الشيء وينقي نقاوة ونقاءً، فهو نقي، بمعنى: نظف، ونَقَّي الشيء: نظفه، والمعنى: نَظِّفه من دنس الذنوب والخطايا التي دنسته.
- الثلج: -بفتح الثاء المثلثة وسكون اللام آخره جيم-: وهو ما جمد من الماء؛ سواء سقط من السماء، أو نبع من الأرض، جمعه: ثلوج.
- البرد: بفتحتين، حب الغمام.
- كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس: وخُصَّ الأبيض؛ لأنَّ إزالة الأوساخ فيه أظهر من غيره من الألوان.
- أبدِلهُ دارًا خيرًا من داره: بأن تبدله دار كرامتك بالجنة عن دار الدنيا، التي رحل عنها.
- وأهلاً خيرًا من أهله: هذا التبديل إما بالأعيان؛ بأن يعوضه الله عنهم في دار كرامته، وإما تبديل أوصاف؛ بأن تعود العجوز شابة، وسيئةُ الخُلُق حسنةَ خلق.
- أدخله الجنة: الجنة: اسم لكل ما أعدَّ الله لعباده الصالحين من النعيم الذي لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.
- قِهِ فتنة القبر: الفتنة لابد منها، والطلب هو الوقاية من شرها، و"قه" معتل الفاء واللام، وعند صياغة الأمر منه يحذف حرفا العلة، ولم يبق إلَاّ حرف واحد، والهاء ضمير عائد إلى الميت المصلَّى عليه.
- عذاب النار: يسأل الله تعالى أن يقيه العذاب الذي لا تتصور شدته، ولا هوله، ولا طوله.
***
466 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا، وَغَائبِنَا، وَصَغِيرِنَا، وَكبِيرِنَا، وَذَكرِنَا، وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أحَيَيْتَهُ مِنَّا، فَأَحْيهِ عَلَى الإِسْلَام، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا، فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنا أجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَه". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالأرْبعَةُ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لاتحرِمنا: بفتح التاء وكسر الراء من: الحرمان.
- أَجْرَه: أي: أجر ما أصابَنَا منْ مَوْتِهِ.
- الإسلام: لغة: الاستسلام والانقياد، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّه: الطاعات الظاهرة.
- الإيمان لغة: التصديق مع الطمأنينة، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّه أعمال القلوب من الإيمان بالله
…
إلى آخره.
هذان التفسيران للإسلام والإيمان إذا ذكرا جميعًا، وإن كان أحدهما دون الآخر، فإنَّ الإسلام يشمل الإيمان، والإيمان يشمل الإسلام.
- لا تضلنا: ضل الرجل يضل -من باب ضرب- ضلالاً وضلالة: زل فلم يهتدي، فهو ضال، ضد مهتد.
قال في "المصباح": هذه لغة نجد، وهي الفصحى، وبها جاء القرآن الكريم.
وقال في "المحيط": الضلال موضوع في الأصل للعدول عن الطريق المستقيم، عمدًا أو سهوًا، قليلاً أو كثيرًا، وباقي معانيه متفرعة منه.
(1) أبو داود (3201)، التر مذي (1024)، النسائي (1986)، ابن ماجه (1498)، وعزوه لمسلم وهمٌ.
467 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى المَيِّتِ، فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسنٌ، رواه أبو داود، وابن ماجه (1497)، والبيهقي (4/ 40) من طريق محمد بن إسحاق، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: سمعتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره.
قال الألباني: وهذا سندٌ حسنٌ، رجاله كلهم ثقات، لولا أنَّ محمَّد بن إسحاق مدلس، وقد عنعنه، لكن قال الحافظ في "التلخيص": أخرجه ابن حبان من طريقٍ أخرى عنه، مصرحاً بالسماع، فاتَّصل السند، وصحَّ الحديث، والحمد لله.
* مفردات الحديث:
- أخلصوا: قال ابن فارس: أخلص: أصل واحد مطرد، وهو: تنقية الشيء وتهذيبه، وقال الجرجاني: الإخلاص في اللغة: ترك الرياء في الطاعات.
* ما يؤخذ من الأحاديث:
1 -
يستحب أن يكون الدعاء في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثالثة، ويجوز بعد الرابعة، ويكون سرًّا؛ سواء كانت الصلاة في النهار، أو الليل.
2 -
قال في "شرح الإقناع": يدعو للميت بعد التكبيرة الثالثة بأحسن ما يحضره، ولا تحديد فيه، قال جابر:"ما قدَّر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر"، فدلَّ على أنَّه لا يتعيَّن دعاء مخصوص.
(1) أبو داود (3199)، ابن حبان (7/ 326).
3 -
يدل الحديث على وجوب الدعاء للميت، وتخصيصه به هو معنى إخلاص الدعاء له، فلا يكفي الدعاء العام، ولكنه يكفي أي دعاء وأقل دعاء، فلو قيل في الصلاة:"اللهم اغفر له"، لحصل الواجب.
4 -
أنَّ كل أحد محتاج إلى الدعاء، ولو استغنى عنه أحد، لاستغنى عنه الصحابة، أصحاب الفضائل العالية، والأعمال الحميدة.
5 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يملك لأحد نفعًا ولا ضراً، ولو كان له شيء من ذلك، لأعطاه لمن يريد نفعه، بدون طلب من الله تعالى.
6 -
إثبات الجزاء الأخروي في الجنة والنار.
7 -
في حديث عوف إثبات عذاب القبر ونعيمه، من قوله:"أكرم نُزُلَه، ووسِّع مدخلهُ".
8 -
إثبات فتنة القبر، وهو سؤال الملكين الميت في قبره، ففي مسند أحمد (18063) وسنن أبي داود (4753) وغيرهما من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فيأتيه ملكان ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ ".
وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن.
9 -
قوله: "وأبدله أهلاً خيرًا من أهله" الإبدال نوعان: إما إبدال أعيان؛ وهذا يكون بالحور العين بدل زوجة الحياة الدنيا.
والثاني: إبدال أوصاف؛ وذلك بأن تكون زوجة الدنيا هي زوجة الآخرة، إلَاّ أنَّ الله تعالى أبدل أخلاقها السيئة بأخلاق حسنة، وصفاتها الخَلْقية بالجمال والحسن التام؛ فإنَّ الله تعالى أبدل لزكريا صفات أكمل منها؛ فقال تعالى:{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]؛ قال ابن عباس وعطاء: كانت سيئة الخلق طويلة اللسان، فأصلحها فجعلها حسنة الخلق.
10 -
وأما قوله: "وقِهِ فتنة القبر" فالمراد: منْ شرِّها وأثرها، واستثنى بعضهم
غير المكلفين من الصغار، ومن بلغ مجنوناً، واستمرَّ جنونه حتى مات.
11 -
قوله: "اللهمَّ اغفر لحيِّنا وميتنا
…
إلخ" فيه الدعاء بالمغفرة لجميع الأحياء والأموات من المسلمين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10].
12 -
قوله: "فأحيه على الإسلام، فتوفه على الإيمان" إذا أفرد الإسلام شمل الإيمان: وبالعكس، أما إذا اجتمعا -كما في حديث عمر حينما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيراد بالإسلام: الشرائع العملية الظاهرة، ويراد بالإيمان: الاعتقاد في الأمور الستة، وهنا كل منهما مفرد، فالإسلام في حال الحياة، والإيمان في الممات، وخصَّ الإيمان في حال الوفاة؛ لأنَّه أكمل وأولى عند الختام.
13 -
قوله: "ولا تضلنا بعده" فيه الخوف من الفتنة في حال الحياة: إما فتنة شبهة وضلال، وإما فتنة شهوة؛ فالإنسان في حال الحياة معرض لذلك، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:"يا مقلِّب القلوب، ثبت قلبي على دينك" والإنسان قد يصاب بالفتنة من حيث لا يشعر، وقد يظن أنه على حقٍّ؛ كما قال تعالى:{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)} [الأعراف: 30]، فيجب على الإنسان محاسبة نفسه، وطاعة الله تعالى، وإظهار الفقر بين يديه، فهذا من أسباب العصمة.
14 -
قوله: "اللَّهمَّ لا تحرمنا أجره"؛ أي: الأجر الذي نكسبه من تجهيزه، والصلاة عليه وتشييعه، وكذلك الأجر الذي نحصله من صبرنا على المصيبة فيه، أما أجر عمله فهو له، وليس لنا منه شيء، ولو طلبنا، لكنَّا معتدين في الدعاء.
15 -
الأمر المطلق بإخلاص الدعاء للميت يقضي بأن يخلص للمسيء، كما يخلص لغيره؛ فإنَّ مُلابس المعاصي أحوجُ إلى دعاء إخوانه المسلمين.
16 -
الأحاديث في الدعاء للميت كثيرة، ولم يرد تعيين أحدها، وإنما الشأن في إخلاص الدعاء للميت؛ لأنَّه الذي شرعت له الصلاة، والذي ورد به الحديث:"إذا صليتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء"[رواه أبو داود (3199)]، لكن يبقى فضل كبير للمأثور عنه صلى الله عليه وسلم، ولما دعا صلى الله عليه وسلم، فليتحرَّاه المسلم في دعائه، كما سيأتي.
* فوائد:
الأولى: قال في "شرح الإقناع": ويسن الدعاء بالوارد في الدعاء للميت، قال في "سبل السلام":"صحَّ في الدعاء الوارد حديثان في هذا الباب".
قال العلماء: إنَّ أصح ما ورد من الدعاء على الميت هو ما جاء في هذين الحديثين: حديث عوف بن مالك، وحديث أبي هريرة، وهو من أنفع الأدعية، حتى إنَّ عوف بن مالك لما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، تمنَّى أنَّه هو ذلك الميت، فهو من أجمع الأدعية وأحسنها.
فقد اشتمل على الدعاء للميت بالمغفرة والرحمة، وتنقيته من الذنوب، والدعاء له بحسن المنقلب، وإعاذته من شرور الآخرة.
وأما حديث أبي هريرة: فدعاء لعموم المسلمين الحاضرين والغائبين، والأحياء والميتين، الكبار والصغار، الذكور والإناث، والدعاء لهم بأحسن مطلوب من الثبات على الإسلام، والوفاة على الإيمان، والاستعاذة من الضلال والفتنة بعده.
الثانية: سئل شيخ الإسلام عن مناسبة تنقية الذنوب بالثلج والبرد، مع أنَّ الماء الحار أبلغ منهما في الإزالة، فقال: إنَّ حرارة الذنوب يناسبها شدة برودة الثلج والبرد.
الثالثة: إذا كان الميت صغيراً، ذكراً أو أنثى -فقد روى الإمام أحمد (17709) عن المغيرة بن شعبة مرفوعاً: "السَّقْط يُصلى عليه، ويدعى لوالديه
بالمغفرة والرحمة والعافية"، ومما رواه البيهقي (4/ 9) عن أبي هريرة مرفوعًا: "اللَّهمَّ اجعله لنا سَلَفاً، وفَرطاً، وذُخْرًا، وعظة، واعتبارًا، اللهم اجعله ذُخراً لوالديه بالمغفرة والرحمة والعافية"، ومما رواه البيهقي: (4/ 9) عن أبي هريرة مرفوعًا: "اللَّهمَّ ثقِّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم".
قال بعضهم: هذا دعاء لائق بالمحل، مناسب للطفل؛ فإنَّ الدعاء لوالديه أولى من الدعاء له؛ لأنَّه شافع غير مشفوع فيه.
الرابعة: قوله: "وقه فتنة القبر" المراد بالقبر هنا برزخ بين موت الإنسان وقيام الساعة؛ سواء كان الميت في حفرته، أو في برٍّ، أو في بحر، أو في بطن الأرض، أو على ظهرها.
الخامسة: قال في " الروض والحاشية": ويقف بعد التكبيرة الرابعة قليلاً، ولا يدعو في المشهور عن أحمد، وعنه: يدعو، اختاره المجد، وهو قول جمهور العلماء.
قال المجد في "المحرر": فيقول: "ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار".
وصحَّ أنَّه كان لا يدعو بدعاء إلَاّ ختمه بهذا الدعاء.
***
468 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَسْرِعُوا بِالجَنَازَةِ؛ فَإنْ تَكُ صَالِحَةً، فَخيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ، وإِنْ تَكُ سِوَى ذلك، فَشرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أسْرِعُوا: أمْر من "الإسراع"، وهو وسط بين المشي المعتاد والسعي.
- فإن تَكُ: أصله: "تكن" حذفت النون للتخفيف، والضمير فيه يرجع إلى الجنازة.
- صالحة: نصب على الخبرية لـ"تكن".
- فخير: مرفوع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، أي: فهو خير تقدمونها إليه.
- إليه: الضمير فيه يرجع إلى "الخير"؛ باعتبار الثواب.
- فشرٌّ: إعرابه مثل إعراب خير.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الأمر بالإسراع بالجنازة من مكان الصلاة إلى القبر، وصفة الإسراع: مشي سريع الخطا دون الخَبَب.
2 -
قال الموفق: هذا الأمر للاستحباب، بلا خلاف بين العلماء، وشذَّ ابن حزم فأوجبه.
3 -
ذكر غير واحد من العلماء؛ أنَّ الإسراع لا يصل إلى الإفراط، الذي يمخض مخضًا، فيرجّ الجنازة ويؤذي تابعيها، وإنما تراعى السنة بالإسراع، ويراعى الرفق بالميت والمشيِّعين.
(1) البخاري (47، 1315)، مسلم (944).
4 -
قال ابن القيم: أما دبيب الناس اليوم خطوة، فبدعة مكروهة، مخالفة للسنة للتشبه بأهل الكتاب.
5 -
قال شيخ الإسلام: كان الميت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يخرج به الرجال يحملونه إلى المقبرة، لا يسرعون، ولا يبطئون، بل عليهم السكينة، ولا يرفعون أصواتهم، لا بقراءة ولا بغيرها، وهذه هي السنة باتفاق المسلمين.
6 -
الإسراع بالجنازة هنا يشمل الإسراع في تجهيزها ودفنها، فهو أعم من أن يكون الإسراع في حملها إلى القبر؛ لما روى أبو داود (3159)، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا ينبغي لجيفة مسلم تبقى بين ظهراني أهله" هذا ما لم يكن في تأخيرها مصلحة من حضور الأقارب ونحوهم، أو يكون مات في حادث جنائي، يتطلب بقاء جثة الميت للتحقيق في أمرها، فإن حقَّق التأخير مصلحة ظاهرة، فلا بأس ببقائها، لاسيَّما مع وجود الأماكن المبردة التي تحفظ الجسد من الفساد.
7 -
في الحديث إثبات الجزاء الأخروي من خير أو شر، وهي قضيَّة معروفة من الدين بالضرورة، فهي من العقائد الثابتة، ولله الحمد.
8 -
فيه طلب مصاحبة الأخيار، والابتعاد عن الأشرار.
9 -
قال شيخ الإسلام: من كان مظهرًا للإسلام، فإنَّها تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة، من: المناكحة، والتوارث، والتغسيل، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك.
10 -
الإنسان مكوَّن من روح وجسد، والروح هي الأصل في الإنسان، فهي مناط التكليف، ومدار الأمر والنهي، فهي المخاطبة للمطالبة، وما الجسد إلَاّ لباس لها، وشكل ظاهر، وإلَاّ فهي اللب، فإذا فارقت روحه جسده، بقي بلا نفع، ولا فائدة في بقائه بين ظهراني أهله جيفةً، فكلما مكثت، تشوهت وتعفنت؛ لذا أمر الشرع بالإسراع بمواراتها.
11 -
في الحديث التعبير العالي عن الشر، والألفاظ المستكرهة، بقوله صلى الله عليه وسلم:"ولتكن سوى ذلك"؛ فينبغي للمتكلم أن يختار من اللفظ أحسنه وأبلغه.
12 -
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فخيرٌ تقدمونه إليه" أي: ما أعده الله لها من النعيم المقيم.
وقوله: "فشرٌّ تضعونه عن رقابكم" معناه: أنَّها تبعدهم من الرحمة، فلا مصلحة لهم في مصاحبتها، قاله ابن الملقن. اهـ.
***
469 -
وَعَنْ أِبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَهِدَ الجَنَازةَ، حَتَّى يُصَلَّى علَيهَا فَلَهُ قِيراطٌ، ومَنْ شَهِدَهَا، حَتَّى تُدْفَنَ، فَلَهُ قِيرَاطَانِ، قِيلَ: ومَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ". مُتَّفَقٌ علَيه.
ولِمُسْلِمٌ: "حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ".
ولِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "مَنْ تَبعَ جَنَازَةَ مُسلِمٍ، إيْمَانًا وَاحْتِسَاباً، وَكَانَ مَعَهَا، حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا -فَإنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيْرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيَراطٍ مِثْلُ جَبلِ أُحُدٍ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- قيراط: أصله: "قرَّاط" بتشديد الراء، بدليل جمعه على:"قراريط"، فأبدل من إحدى الراءين ياء، والقيراط في اللغة: نصف دانق، وأهل الشام يجعلونه جزءاً من أربعة وعشرين جزءاً.
قال العيني: "وزن القيراط يختلف باختلاف البلاد". وهو الآن في محاكم المملكة العربية السعودية وعند الفرضيين فيها: جزء من أربعة وعشرين جزءاً، أما قدْره عند الله تعالى فهو أعلم بذلك، لكنه قرَّبه لنا:"بأن كل قيراط مثل أحد".
قال العيني: وإنما خصَّ القيراط بالذكر. لأنَّ غالب ما تقع به معاملتهم كان القيراط، وقد ورد لفظ "القيراط" في عدة أحاديث، منها ما يحمل على
(1) البخاري (1325)، مسلم (945).
القيراط المتعارف، ومنها ما يحمل على الجزء، وإن لم تعرف النسبة.
- من تبع: بفتح التاء وتخفيفها وكسر الباء الموحدة، يقال: تبعت الشيء تبعًا وتباعة واحد، وتبعت القوم: إذا مشيت خلفهم.
وأكثر روايات الحديث: "اتَّبع" بألف وتشديد التاء.
- إيماناً واحتساباً: مفعولان من أجله، ويجوز أن يكونا منصوبين على الحال، على تقدير: مؤمنًا محتسبًا.
- حتى يصلى عليها: أكثر الروايات بفتح اللام، وفي بعضها بكسرها، وحملت رواية الفتح على رواية الكسر؛ لأنَّ حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة للذي يشهدها.
- حتى: يحتمل أنَّها للتعليل، وأنَّها للغاية، والراجح أنَّها هنا للغاية.
- أحد: جبل مشهور في المدينة المنورة، من حدها الشرقي إلى حدها الغربي من جهة الشمال، وامتد إليه عمران المدينة، ويسمى الحي القريب منه بحي سيد الشهداء، يعني: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه الذي قُتِل في المعركة التي دارت عند ذلك الجبل بين المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين قريش بقيادة أبي سفيان.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا الحديث رواه اثنا عشر صحابيًّا، ولمَّا رواه أبو هريرة لعبد الله بن عمر، سأل ابنُ عُمر عائشَةَ رضي الله عنها: هلْ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ فقالت: صدَقَ أَبُو هُرَيرة، فقَالَ ابنُ عُمَر: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
2 -
قوله: "إيماناً واحتساباً" يعني: أنَّ الذي حمله على شهود الجنازة واتباعها نية الطاعة، وهذا قيد لابد منه في كل عبادة؛ لأنَّ ترتيب الثواب على العمل يستدعي سبق النية؛ لأنَّ تابع الجنازة قد يخرج على سبيل المكافأة المتبادلة، أو على سبيل المحابة.
3 -
قال شيخ الإسلام: لو قدر أنَّ الميت لا يستحق التشييع، تبعه لأجل أهله؛ إحساناً إليهم، وتأليفاً لقلوبهم، أو مكافأة لهم وغير ذلك، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أُبىٍّ.
4 -
فيه الفضل لشهود الجنازة بالصلاة، والتشييع، والحمل، والدفن؛ تصديقًا بوعد الله، ورجاء ثوابه، ولا مانع من نية أداء حق المسلم، وجبر خاطر أهله، فكل هذا من العمل الصالح، والله واسع الفضل.
5 -
أنَّ جزاء من شهد الجنازة من الصلاة حتى الدفن ولم يفارقها -هو قيراطان من الأجر، والقيراط مثل الجبل، ومُثِّلَ في رواية أخرى:"بأنَّه مثل جبل أحد"، ومن صلَّى عليها فقط، فاته نصف هذا الأجر العظيم.
6 -
حث الشارع الحكيم على شهود الجنازة لما في ذلك من الفوائد الجمة: من القيام بحق الميت بالدعاء له، والشفاعة والصلاة، ومن أداء حق أهله وجبر خاطرهم عند مصيبتهم في ميتهم، ومن تحصيل الأجر والثواب للمشيع، ومن حصول العظة والاعتبار بمشاهدة الموت والمقابر، وغير ذلك مما أودعه الله شرائعه.
7 -
قال بعضهم: اتباع الجنازة على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يصلي عليها.
الثاني: أن يتبعها إلى القبر، ثم يقف حتى تدفن.
الثالث: أن يقف بعد الدفن على القبر، ويدعو للميت بالمغفرة والرحمة.
8 -
في سؤال الصحابة رضي الله عنهم عن معنى القيراطين -رد على الطوائف الضالة التي ترمي أهل السنة والجماعة؛ بأنَّهم "مفوضة" في نصوص الكتاب والسنة، فيما يلحق بأسماء الله تعالى وصفاته، وأنَّ معانيها ليست معلومة لديهم، وإنَّما يمرُّون ألفاظها بدون فهم لحقائقها، فهم يفوضون علم ذلك إلى الله تعالى، ولا شكَّ أنَّ هذا كذبٌ، وافتراءٌ، وبهتانٌ على أهل السنة
والجماعة، فليس هذا مذهبهم، وإنما يفهمون النصوص الواردة في الأسماء والصفات على حقيقتها، والذي يفوِّضون علمه إلى الله تعالى هو كيفية الصفة؛ فهذا مذهب أهل السنة والجماعة في نصوص الكتاب والسنة.
ووجه الدلالة على مذهبهم من هذا الحديث-: أنَّ الصحابة -وهم أئمة أهل السنة والجماعة- لما جهلوا "القيراط" سألوا عنه؛ فهل يُعقل أنَّهم يسألون عما جهلوا من معنى "القيراط"، ولا يسألون عما جهلوه من أسمائه وصفاته؟ فهم عالمون بأسماء الله تعالى وصفاته حق العلم، وجاهلون الكيفية التي هي عليها.
***
470 -
وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما: "أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَهُمْ يَمْشُونَ أمَامَ الجَنَازَةِ". روَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ وَطَائِفَةٌ بِالإِرْسَالِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
أخرجه أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، وابن أبي شيبة (2/ 476)، والطحاوي، والدارقطني (2/ 70)، والبيهقي (4/ 3) من طرقٍ عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه.
قال الإمام أحمد: إنَّما هو عن الزهري مرسل، وحديث سالم فعن ابن عمر، وحديث ابن عيينة وهمٌ.
وقال الترمذي: أهل الحديث يرون المرسل أصح.
وقال الألباني: اتَّفق على رواية هذا الحديث مسندًا مرفوعًا جماعةٌ من الثقات: هم سفيان بن عيينة، ومنصور بن المعتمر، وزياد بن سعد، وبكر بن وائل، وابن أخي الزهري، وعقيل بن خالد، هؤلاء كلهم صرحوا بالرفع، وصحَّت الأسانيد بذلك إليهم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب تشييع الجنازة حتى تدفن، فهذا من حق المسلم على المسلم، وهو سنة باتفاق الأئمة الأربعة، بل هو إجماع المسلمين.
(1) أحمد (4525)، أبو داود (3179)، الترمذي (1007)، النسائي (1944)، ابن ماجه (1482)، ابن حبان (766).
2 -
أنَّه يستحب أن يكون المشاة مع الجنازة أمامها.
قال في "شرح الإقناع": لأنَّهم شفعاء، والشفيع يتقدم المشفوع له، ثم قال: ولا يكره كون المشاة خلفها، وحيث شاءوا عن يمينها، أو يسارها؛ بحيث يعدون تابعين لها.
3 -
قال في "شرح الإقناع": ويستحب كون الركبان خلفها، وهو مستحب عند الأئمة الأربعة، قال الخطابي: لا أعلمهم اختلفوا في أنَّ الراكب خلفها.
قال في "الإنصاف": بلا نزاع.
لما روى المغيرة بن شعبة مرفوعاً: "الراكب خلف الجنازة"[رواه الترمذي (1031) وصححه]، فلو ركب وكان أمام الجنازة كُره، قال النخعي: كانوا يكرهونه، رواه سعيد.
وكُرِهَ ركوب تابع الجنازة إلَاّ لحاجة، وإلَاّ لعَوْدٍ منها، فلا يكره.
***
471 -
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "نُهِيْنَا عَنِ اتِّباعِ الجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنا". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على النهي عن اتباع النساء الجنائز؛ لما عندهن من الضعف والرقة، وعدم التحمل للمصائب، فيخرج منهن أقوال وأفعال محرَّمة، تنافي الصبر الواجب.
2 -
يدل الحديث على أنَّ النواهي الشرعية نوعان:
أحدهما: نهي عزيمة وتحريم.
الثاني: نهي تنزيه وتوجيه دون التحريم.
وأم عطية رضي الله عنها فهمت من نهي النبي صلى الله عليه وسلم النساء عن اتباع الجنائز، أنَّه ليس نهي عزيمة وتحريم، ولكنه دون ذلك، فلا يصل إلى درجة الحرمة، ولعلَّ لديها قرائن أحوال دلَّتها على عدم التحتيم في النهي.
3 -
فقول أم عطية رضي الله عنها: لم يعزِم علينا بالنهي.
قال بعضهم: إنَّ هذا ظن منها، أنَّه ليس نهي تحريم، وإنما هو نهي تنزيه، ولكن الحجة قول الشارع، وقد نهى.
4 -
الأصل أنَّ الأحكام الشرعية عامة بين الرجال والنساء، ولكنه توجد أحكام كثيرة تخص أحد الجنسين دون الآخر، فالتفريق بين الرجال وبين النساء في بعض الأحكام -له أصل في الشرع.
5 -
التفريق بين الرجال وبين النساء في بعض الأحكام -يدل على الحِكم السامية في التشريع الإسلامي، الذي يشرع لكل جنس ما يناسبه من الأحكام، وينزل
(1) البخاري (1278)، مسلم (938).
كل أحد بما يليق به.
* خلاف العلماء:
ذهب الجمهور ومنهم: المالكية والشافعية والحنابلة إلى كراهة اتباع النساء الجنائز؛ لهذا الحديث، فقد فهمت أم عطية؛ أنَّ النَّهي ليس عزيمة من قرينة، وقد أخرج النسائي (1859)، وابن ماجه (1587) من طريق رجاله ثقات عن أبي هريرة:"أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة، فرأى عمر بن الخطاب امرأةً، فصاح بها، فقال: دَعْهَا يا عمر".
وذهب الحنفية إلى: أنَّ النَّهي إنَّما هو للتحريم؛ لما روى ابن ماجه (1578): "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خرج، فإذا نسوة جلوس، فقال: ما يجلسكن؟ قلن: ننتظر الجنازة، فقال: ارجعن مأزورات غير مأجورات".
وسنده ضعيف. قال ابن دقيق العيد: وقد ورد أحاديث تدل على التشديد في اتباع الجنائز أكثر مما دلَّ عليه الحديث.
والنهي ظاهره التحريم، وأما قول أم عطية رضي الله عنها:"ولم يعزم علينا" -فهو رأي لها، ظنت أنه ليس نهي تحريم، والحجة قول الشارع.
كما يدل على أنَّ النَّهي للتحريم: ما أخرجه أحمد (2031)، والترمذي (320)، وابن حبان (7/ 453):"أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور"؛ وهو حديث صحيح بشواهده، فمتبع الجنازة سيزور القبور، واتباع الجنازة في معنى الزيارة، ولهذا فالأحوط أنَّ النَّهي في الحديث هو للتحريم.
***
472 -
وَعَنْ أِبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِذَا رَأيْتُمُ الجَنَازَةَ، فقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ" مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
ظاهر الحديث وجوب القيام للجنازة، إذا مرَّت؛ إعظامًا لأمر الموت، ولذا جاء في صحيح مسلم (960):"إنَّ الموت فزع، فإذا رأيتُم الجنازة فقوموا"؛ ذلك راجع إلى تعظيم أمر الله تعالى، وتعظيم أمر القائمين به من الآدميين، والملائكة المقربين.
2 -
أما قوله: "من تبعها، فلا يجلس حتى توضع":
قال النووي: مذهب جمهور العلماء استحبابه، وقد صحت الأحاديث باستحباب القيام إلى أن توضع.
قال في "شرح الزاد وحاشيته": ويكره جلوس تابع الجنازة، حتى توضع بالأرض للدفن، إلَاّ لمن بَعُد؛ لما في انتظاره قائماً حتى تَصِلَ إليه وتوضع -من المشقة، ولما روى أبو داود، عن البراء قال:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فانتهينا إلى القبر، ولم يُلْحد، فجلس، وجلسنا معًا".
* خلاف العلماء:
ذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- إلى: عدم استحباب القيام للجنازة، وقالوا: إنَّ القيام منسوخ بما رواه الإمام أحمد (624)، وأبو داود (3175) عن عليٍّ رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيام للجنازة،
(1) البخاري (1310)، مسلم (959).
ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس".
قال الإمام أحمد: إن قام لم أعبه، وإن قعد فلا بأس.
قال النووي: المختار في القيام للجنازة: أنَّه مستحب.
واختار استحباب القيام الشيخ تقي الدين.
***
473 -
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: "أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ أدْخَلَ المَيِّتَ مِنْ قِبلِ رِجْلِيِ القَبْرِ، وَقَالَ: هَذَا مِنَ السُّنَّةِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيحٌ.
قال البيهقي: إسناده صحيح، وقال الحافظ: رجاله ثقات.
قال الشوكاني: الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في "التلخيص"، ورجال إسناده رجال الصحيح.
* مفردات الحديث:
- رِجْلي القبر: من جهة المحل الذي يوضع فيه رِجْلا الميت، فهو من إطلاق الحال على المحل.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يستحب أن يُدخل الميت في قبره سلاًّ؛ بأن يجعل رأس الميت في الموضع الذي تكون فيه رجلاه إذا دفن، ثم يسل سلاًّ رفيقاً؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم سُلَّ مِن قِبَل رأسه" [رواهُ الشَّافعي (2/ 360) والبيهقي (4/ 54) بإسناد صحيح]، وهو المعروف عند الصحابة، وهو عمل المهاجرين والأنصار.
2 -
إذا لم تمكن هذه الصفة، أو شقت، أدخِل الميت قبره من حيث سهل، إذ المقصود الرفق بالميت.
3 -
قوله: "هذا من السنة" يراد بذلك: سنة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته، وهي تشمل: الواجب، والمستحب.
(1) أبو داود (3211).
فيقال: "من السنة" للحكم، وهو واجب، ويقال: من "السنة" للحكم، وهو مستحب، ففي هذا الحديث يراد به: المستحب.
وقوله في قراءة ابن عباس سورة الفاتحة في صلاة الجنازة: "ليعلموا أنَّها سنة" يراد به: الواجب.
أما السنة باصطلاح الأصوليين فهي خلاف الواجب؛ وهي ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على جواز إدخال الميت القبر على أية صفة تكون، واختلفوا في أفضل صفات الإدخال:
فذهب الشافعية والحنابلة إلى: ما جاء في هذا الحديث من إدخال رأس الميت مِن قِبل مكان رجليه إذا دفن، ثم يسل سلاًّ برفق؛ للحديث المتقدم.
وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى: عكس ذلك؛ وهو أن يسل من قِبل مكان رأسه إذا دفن.
وذهب أبو حنيفة إلى: أنَّه يسل من قبل القبلة معترضاً؛ إذ هو أيسر.
***
474 -
وَعَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي القُبُورِ، فَقُولُوا: بسْمِ اللهِ، وَعَلى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ، وَأًعلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالوَقْفِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح في حالة رفعه ووقفه.
وقد رواه أصحاب السنن الأربعة، وابن حبان، والحاكم (1/ 520) وابن أبي شيبة (3/ 19) مرفوعًا، وأخرجه ابن السني (584) من طريق الحجاج عن نافع عن ابن عمر، وبتأمل طرق الحديث تُتبين صحته، ولذا قال الحاكم: إنَّه صحيح على شرط الشيخين، كما رواه ابن حبان عن شعبة عن قتادة مرفوعًا، ورجَّح ابن الملقن رفعه.
* مفردات الحديث:
- بسم الله: أي: وضعته، أو أدخلته، أو دفنته.
- ملة: الملة: أصول الشرائع، ولا تضاف إلى الله، بل إلى رسله، فهو اسم لما شرعه الله على لسان رسله، وقد تطلق على الملة الباطلة؛ كقولهم: الكفر ملة واحدة.
…
(1) أحمد (4797)، أبو داود (3213)، النسائي في الكبرى (6/ 191)، ابن حبان (7/ 375).
475 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: "كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ (1).
وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: "فِي الإثْمِ"(2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال في "التلخيص": رواه أحمد (23787)، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي (4/ 58) من حديث عائشة، وحسَّنه ابن القطان، وذكر القشيري أنه على شرط مسلم، ورواه الدارقطني (3/ 188) من وجه آخر عنها، وزاد:"في الإثم"، وذكره مالك بلاغًا عن عائشة موقوفًا.
وزاد ابن ماجه من حديث أم سلمة: "في الإثم".
ولفظ "في الإثم" ضعَّفه أحمد والنسائي، ولكنه تفسير من بعض الرواة.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
رجَّح المحدثون صحَّة هذا الحديث (474) مرفوعًا وموقوفًا، وهو يدل على استحباب هذا الذكر في هذا الموطن.
2 -
ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم: دينه وشريعته، وهو الإسلام وأحكامه، ويسن أن يؤتى به عند كل أمر ذي بال، ويقدَّر في كل موطن بما يناسبه.
والتقدير: وضعناك على اسم الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمناك.
3 -
روى الحاكم والبيهقي بسند ضعيف: "أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لما وُضعت ابنته أم كلثوم
(1) أبو داود (3207).
(2)
ابن ماجه (1617).
في القبر، قال:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} ، بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
4 -
قال الإمام الشافعي: يقوله الذين يُدخلونه.
أما شارح "الأذكار" فقال: إنَّ المقام مقام سؤال، وطلب رحمةٍ وإفضالٍ، فناسب التكرار باعتبار القائلين.
5 -
دَفْن الميت من فروض الكفايات، فهو مشروع بالكتاب، قال تعالى ممتنًّا:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} [المرسلات]، وقال تعالى:{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)} [عبس]، أكرمه بدفنه، قال الخازن: وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات.
واستفاضت الأحاديث بالدفن، ومنها: ما في أبي داود (3159) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تُحْبَسَ بين ظهراني أهله". ففي الدفن برٌّ بالميت، وطاعةٌ للرب، وهو عمل المسلمين منذ زمن الصحابة.
6 -
أما ما جاء في الحديث (475) من حرمة كسر عظم الميت، فقد قال الشيخ عبدالرحمن السعدي: الأصل أنَّ بدن الإنسان محترم لا يباح بالإباحة إلَاّ عند تطبيق قاعدة "تعارض المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار"؛ فإنَّه يباح لمن وقعت فيه الآكلة أن يقطع العضو المتآكل لسلامة الباقي، ويجوز التمثيل في البدن كشق البطن، للتمكن من علاج المرض، فما كانت منافعه أكثر من مفاسده، فإنَّ الله لا يحرمه، وقد نبَّه الله تعالى على هذا الأصل في عدة مواضع من كتابه، ومنه قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
7 -
وبهذه الحرمة الإنسانية للأموات أفتى رئيس الفتوى السابق في المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بقوله:
لا يجوز نبش القبور، ولا يجوز مرور الطريق عليها؛ لأنَّ هذا امتهان
للأموات، ومعلوم أنَّ لهم حرمة، وهم قد سبقوا إلى هذا الموضع، وصاروا إليه، فالقبور منازلهم، فلا يحل نبشهم من قبورهم إلَاّ لغرضٍ صحيحٍ، وهو ما كان من مصلحة الميت، أو كف الأذى عنه ونحو ذلك، أما إذا كان لمصلحة غيره من الأحياء أو الأموات فلا يجوز.
8 -
ومن احترام القبور وأهلها عدم المشي فيها بالنعال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألق سِبْتِيَّتَيْك"[رواه ابن ماجه (1568)].
قال ابن القيم: إكرام القبور عن وطئها بالنعال من محاسن الشريعة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم:"أنَّ الجلوس على الجمر خير من الجلوس على القبر"، والقبور هي دار الأموات ومنازلهم، ومحل تزاورهم، وعليها تنزل الرحمة من ربهم، فهي منازل المرحومين، ومهبط الرحمة، يلقى بعضهم بعضا على أفنية قبورهم، يتجالسون ويتزاورون، كما تضافرت به الآثار. اهـ كلامه.
9 -
أما الحديث فهو نصٌّ في تحريم كسر عظم الميت؛ لأنَّه شبهه بعظم الحي في الحرمة والاحترام، وعدم التعرض له؛ لأنَّه معصوم في حياته وبعد مماته؛ فالموت لا يهدر كرامة المعصوم أبدًا، بل كرامته باقية.
ولذا قال في "الإقناع وشرحه": ويحرم قطع شيء من أطراف الميت، وإتلاف ذاته؛ لحديث:"كَسْر عظم الميت ككسر عظم الحي" ولبقاء حرمته ولو أوصى به؛ أي: بما ذكر من القطع والإتلاف، فلا نتَّبع وصيَّته؛ لحق الله تعالى، ولوليه -أي: الميت- أن يحامي عنه بأن يدفع من أراد قطع طرفه ونحوه بالأسهل فالأسهل.
قال محرره عفا الله عنه: فتوى الشيخ عبد الرحمن السعدي وقرار هيئة كبار العلماء -موافق لقواعد الشريعة وأصولها، وهو لا يخالف ما قاله صاحب "شرح الإقناع".
* قرار هيئة كبار العلماء بشأن تشريح جثة الميت:
(رقم: 47 وتاريخ 20/ 8/ 1396 هـ)
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلَّم على من لا نبي بعده، محمَّد، وعلى آله وصحبه، وبعد:
ففي الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان عام (1396 هـ)، جرى الاطلاع على خطاب معالي وزير العدل رقم:(3231/ 2 خ) المبني على خطاب وكيل وزارة الخارجية رقم: (34/ 1/ 12/ 13446/ 3، وتاريخ 6/ 8/ 1395 هـ) المشفوع به صورة مذكرة السفارة الماليزية بجدة، المتضمنة استفسارها عن رأي وموقف المملكة العربية السعودية من إجراء عملية جراحية طبية على ميت مسلم، وذلك لأغراض مصالح الخدمات الطبية.
كما جرى استعراض البحث المقدم في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وظهر أنَّ الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: التشريح لغرض التحقق من دعوى جنائية.
الثاني: التشريح لغرض التحقق من أمراض وبائية؛ لنتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها.
الثالث: التشريح للغرض العلمي؛ تعلمًا وتعليمًا.
وبعد تداول الرأي والمناقشة، ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليها أعلاه، قرر المجلس ما يلي:
بالنسبة للقسمين الأول والثاني: فإنَّ المجلس يرى أنَّ في إجزائهما تحقيقًا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل، ووقاية للمجتمع من الأمراض الوبائية، ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك، وإنَّ المجلس لهذا يقرر بالإجماع
إجازة التشريح لهذين الغرضين؛ سواء أكانت الجثة المشرحة جثة معصوم، أم لا.
وأما بالنسبة للقسم الثالث: وهو التشريح للغرض التعليمي، فنظراً إلى أنَّ الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين؛ لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها، وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان، وحيث إنَّ في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة، فإنَّ المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة، إلَاّ أنَّه نظراً إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتاً، كعنايتها بكرامته حيًّا؛ وذلك لِما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"كَسْر عظم الميت ككسره حيًّا"، ونظراً إلى أنَّ التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث إنَّ الضرورة في ذلك منتفية بتيسُّر الحصول على جثث أموات غير معصومين، فإنَّ المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث، وعدم التعرض لجثث أموات معصومين، والحال ما ذكر، والله الموفق، وصلَّى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
ثم جاء في قرار المجلس (رقم: 99، وتاريخ 6/ 11/ 1402 هـ) ما يلي:
وبعد المناقشة، وتداول الآراء: قرر المجلس بالإجماع: جواز نقل عضو أو جزئه، من إنسانٍ حيٍّ مسلمٍ، أو ذميٍّ إلى نفسه، إذا دعت الحاجة إليها، وأُمِنَ الخطر في نزعه، وغَلَب على الظن نجاح زرعه، كما قرر بالأكثرية ما يلي:
1 -
جواز نقل عضو، أو جزئه من إنسان ميتٍ إلى مسلمٍ، إذا اضطر إلى ذلك، وأُمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلَبَ على الظن نجاح زرعه فيمن
سيزرع فيه.
2 -
جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه، أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك، وبالله التوفيق، وصلَّى الله على محمَّد وآله وسلم.
هيئة كبار العلماء
* قرار المجمع الفقهي الإسلاميى (بشأن: تشريح جثث الموتى):
الحمد لله، وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة في مكة المكرمة، في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408 هـ، الموافق 17 أكتوبر 1987 م، إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408 هـ الموافق 21 أكتوبر 1987 م، قد نظر في موضوع "تشريح جثث الموتى"، وبعد مناقشته وتداول الرأي فيه، أصدر القرار الآتي:
بناءً على الضرورات التي دعت إلى تشريح جثث الموتى، والتي يصير بها التشريح مصلحة تربو على مفسدة انتهاك كرامة الإنسان الميت، قرر مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يأتي:
أولاً: يجوز تشريح جثث الموتى لأحد الأغراض الآتية:
(أ) التحقيق في دعوى جنائية؛ لمعرفة أسباب الموت، أو الجريمة المرتكبة، وذلك عندما يُشْكِل على القاضي معرفة أسباب الوفاة، ويتبيَّن أنَّ التشريح هو السبيل لمعرفة هذه الأسباب.
(ب) التحقق من الأمراض التي تستدعي التشريح؛ لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الواقية، والعلاجات المناسبة لتلك الأمراض.
(ج) تعليم الطب وتعلمه؛ كما هو الحال في كليات الطب.
ثانيًا: في التشريح لغرض التعليم تراعى القيود التالية:
(أ) إذا كانت الجثة لشخص معلوم يشترط أن يكون قد أَذِنَ هو قبل موته بتشريح جثته، أو أن يأذن بذلك ورثته بعد موته، ولا ينبغي تشريح جثة معصوم الدم إلَاّ عند الضرورة.
(ب) يجب أن يقتصر في التشريح على قدر الضرورة؛ كَيْلَا يُعْبث بِجُثث الموتى.
(ج) جثث النساء لا يجوز أن يتولى تشريحها غير الطبيبات، إلَاّ إذا لم يوجدن.
ثالثاً: يجب في جميع الأحوال دفن جميع أجزاء الجثة المشرحة.
وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، والحمدلله ربِّ العالمين.
* قرار مجمع الفقه الإسلامي (بشأن: الانتفاع باعضاء الموتى):
(رقم: 26)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه.
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية، من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م.
بعد اطلاعه: على الأبحاث الفقهية والطبية الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر، حيًّا أو ميتًا".
وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أنَّ هذا الموضوع أمر
واقع، فَرَضه التقدم العلمي والطبي، وظهرت نتائجه الإيجابية المفيدة، والمشوبة في كثير من الأحيان بالأضرار النفسية والاجتماعية، الناجمة عن ممارسته دون الضوابط والقيود الشرعية التي تصان بها كرامة الإنسان، مع إعمال مقاصد الشريعة الإسلامية، الكفيلة بتحقيق كل ما هو خير ومصلحة غالبة للفرد والجماعة، والداعية إلى التَّعاون والتراحم والإيثار.
وبعد حصر: هذا الموضوع في النقاط التي يتحرر فيها محل البحث، وتنضبط تقسيماته، وصوره، وحالاته، التي يختلف الحكم تبعًا لها.
قرَّر ما يلي:
من حيث التعريف والتقسيم:
أولاً: يقصد هنا بالعضو أي جزء من الإنسان، من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها؛ كقرنية العين؛ سواء أكان متصلاً به، أم انفصل عنه.
ثانياً: الانتفاع الذي هو محل البحث، هو استفادة دعت إليها ضرورة المستفيد؛ لاستبقاء أصل الحياة، أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم؛ كالبصر ونحوه، على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعًا.
ثالثاً: تنقسم صور الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية:
1 -
نقل العضو من حي.
2 -
نقل العضو من ميت.
3 -
النقل من الأجنَّة.
الصورة الأولى: وهي نقل العضو من حي، تشمل الحالات التالية:
(أ) نقل العضو من مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه؛ كنقل الجلد، والغضاريف، والعظام، والأوردة، والدم، ونحوها.
(ب) نقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر، وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة، وما لا تتوقف عليه.
أما ما تتوقف عليه الحياة: فقد يكون فرديًّا، وقد يكون غير فردي، فالأول كالقلب والكبد، والثاني كالكلية والرئتين.
وأما ما لا تتوقف عليه الحياة: فمنه ما يقوم بوظيفة أساسية في الجسم، ومنه ما لا يقوم بها، ومنه ما يتجدد تلقائيًّا كالدم، ومنه ما لا يتجدد، ومنه ما له تأثير على الأنساب والموروثات، والشخصية العامة، كالخصية، والمبيض، وخلايا الجهاز العصبي، ومنه ما لا تأثير له على شيء من ذلك.
الصورة الثانية: وهي نقل العضو من ميت.
ويلاحظ أنَّ الموت يشمل حالتين:
الحالة الأولى: موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلاً نهائيًّا، لا رجعة فيه طبيًّا.
الحالة الثانية: توقف القلب والتنفس توقفاً تامًّا، لَا رَجْعَةَ فيه طبيًّا.
وقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة.
الصورة الثالثة: وهي النقل من الأجنة، وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات:
- حالة الأجنة التي تسقط تلقائيًّا.
- حالة الأجنة التي تسقط؛ لعامل طبي أو جنائي.
- حالة اللقائح المستنبتة خارج الرحم.
من حيث الأحكام الشرعية:
أولاً: يجوز نقل العضو من مكان من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه، مع مراعاة التأكد من أنَّ النَّفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها، وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود، أو لإعادة شكله، أو وظيفته المعهودة له، أو لإصلاح عيب، أو إزالة دمامة، تسبب للشخص أذى نفسيًّا أو عضويًّا.
ثانياً: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائيًّا؛ كالدم والجلد، ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل الأهلية، وتحقق الشروط الشرعية المعتبرة.
ثالثاً: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم؛ لعلَّة مرضية لشخص آخر؛ كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلَّة مرضية.
رابعاً: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة؛ كالقلب من إنسان حي إلى إنسان آخر.
خامساً: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته، وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها؛ كنقل قرنية العينين كلتيهما، أما إن كان النقل يعطل جزءاً من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة.
سادساً: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك؛ بشرط أن يأذن الميت أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة ولي المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية، أو لا ورثة له.
سابعاً: وينبغي ملاحظة أنَّ الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تمَّ بيانها -مشروط بألا يتم ذلك بواسطة بيع العضو؛ إذ لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بحال ما.
أما بذل المال من المستفيد؛ ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريماً -فمحل اجتهاد ونظر.
ثامناً: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة، مما يدخل في أصل الموضوع -فهو محل بحث ونظر، ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة، على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية. والله أعلم.
* قرار هيئة كبار العلماء (بشأن: بنوك الدم)
(قرار رقم: 65 وتاريخ 7/ 2/ 1399 هـ).
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد.
ففي الدورة الثالثة الاستثنائية لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في المدة من 1/ 2/ 1399 هـ إلى 6 منه، اطَّلع المجلس على ما جاء في كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم: 7815 في 28/ 8/ 98 هـ، المبني على ما ورد إليه من المقام السامي لإجراء ما يلزم نحو ما اقترحه المدعو/ فتوح بن سليمان النجار من إنشاء بنك إسلامي لحفظ الدم، للإسعاف السريع لجرحى المسلمين، وقبول ما يتبرع به الناس من دمائهم، والاحتفاظ بكميات هائلة منه؛ لإسعاف جرحى المسلمين، وبعد دراسة الموضوع ومناقشته، وتداول الرأي فيه -قرر المجلس بالأكثرية ما يلي:
أولاً: يجوز أن يتبرع الإنسان من دمه بما لا يضره، عند الحاجة إلى ذلك؛ لإسعاف من يحتاجه من المسلمين.
ثانيًا: يجوز إنشاء بنك إسلامي؛ لقبول ما يتبرع به الناس من دمائهم، وحفظ ذلك؛ لإسعاف من يحتاج إليه من المسلمين، على ألا يأخذ البنك مقابلاً ماليًّا من المرضى، أو أولياء أمورهم عوضًا عما يسعفهم به من الدماء، وألَّا يتَّخذ ذلك وسيلة تجارية للكسب؛ لِما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين، والله الموفق، وصلَّى الله على محمَّد.
هيئة كبار العلماء
***
476 -
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِى اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْباً، كمَا صُنعَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه نَحْوُهُ، وَزَادَ:"وَرُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الأَرْضِ قَدْرُ شِبْرٍ". وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (2).
ــ
* درجة الحديث:
حديث جابر مرسل.
أخرجه ابن حبان، والبيهقي ورجح إرساله؛ لمخالفة الفضيل بن سليمان النمري، لمن هو أوثق منه، وصحح الحديث ابن حبان، وابن السكن.
وله شاهد مرسل عن صالح بن أبي صالح، رواه أبو داود في "المراسيل".
* مفردات الحديث:
- لحدًا: قال في "النهاية": اللَّحد: الشق الذي يعمل في جانب القبر لوضع الميت؛ لأنَّه قد أميل عن وسط القبر إلى جانبه، يقال: لحدت وألحدت.
- اللَّبن: بفتح اللام وكسر الباء، جمع:"لَبِنَة"، وهو المضروب من الطين، يبنى به دون أن يطبخ.
- شِبر: بكسر الشين وسكون الباء؛ وهو ما بين طرفي الأصبع الخنصر والإبهام بالتفريج المعتاد، جمعه "أشبار".
(1) مسلم (966).
(2)
البيهقي (3/ 407)، ابن حبان (8/ 218).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
إذا بلغ بحفر القبر العمق المناسب، الذي يمنع خروج الرائحة، ويحفظ الميت عن نبش السباع -فإنَّه يستحب أن يحفر للميت بالجانب القبلي من القبر ما يسع بدنه، وهذا هو اللحد.
2 -
جاء في سنن الترمذي (1043) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّحد لنا، والشَّق لغيرنا"، ولأحمد (18728):"والشق لأهل الكتاب".
وحكى الوزير اتفاق الأئمة الأربعة على أنَّ السنة اللحد، وأنَّ الشق ليس بسنة.
وأجمع العلماء على أنَّ الدَّفن في اللحد والشق جائزان، مع كراهة الشق عند أحمد بلا عذر.
3 -
ثم يوضع فيه الميت على شقه الأيمن، مستقبل القبلة، وأن يدنى من حائط اللحد؛ لئلا ينكب على وجهه، وأن يسند من ورائه بتراب أو مدر.
4 -
ثم يُنْصب اللَّبِن على اللحد نصباً، ويُتَعاهد خلال اللبن بالمدر أو الحجارة؛ ليتحمل ما وضع عليه من طين، ثم يطيَّن فوق اللبن وخلاله؛ لئلا ينهال عليه التراب؛ لما روى الإمام أحمد (21683) عن مجاهد مرفوعاً:"سدُّوا خلل اللبن"، ثم يُهال عليه التراب بمِساح ونحوها إسراعاً بتكميل الدفن، واستحب أهل العلم لمشيع الميت أن يحثو عليه قبضات من تراب؛ ليكون شارك في فرض الكفاية في دفنه.
5 -
قوله: "وانصبوا على اللبن"؛ لأنَّه لو أسند اللبن على اللحد مسطحًا، لسقط في اللحد.
6 -
ثم يرفع القبر عن مستوى الأرض قدر شبر؛ ليعرف، فيزار، وليحترم عن الامتهان بوطء وغيره؛ فقد روى الشافعي (2/ 360) وغيره: "أنَّه صلى الله عليه وسلم رشَّ
على قبر ابنه إبراهيم ماء، ووضع عليه حصباء"، وكذا فعل بقبر سعد بن معاذ، وقبر عثمان بن مظعون؛ لأنَّ هذا أثبت له وأبقى، وأبعد لدروسه من أن تذهب به الرياح والسيول، واستمرَّ على ذلك عمل المسلمين.
7 -
جاء في سنن ابن ماجه (1561) وغيره من حديث أنس: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أعلم قبر عثمان بن مظعون بصخرة"، وجاء في أبي داود (3206) وغيره عن المطلب بن ربيعة بن الحارث:"أنَّه أمره النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي عثمان بن مظعون أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فحسر صلى الله عليه وسلم عن ذراعيه، فحمله، فوضعه عند رأسه، وقال: أُعلِّم بها قبرَ أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي".
8 -
اتَّفق العلماء على تحريم إسراج المقابر، واتخاذ المساجد عليها؛ قال شيخ الإسلام: يتعيَّن إزالتها بلا خلاف بين العلماء؛ ففي السنن من حديث ابن عباس؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَعَن الله زوَّارات القبور، والمتَّخذين عليها المساجد والسُّرُج"، والنَّهي مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم.
***
477 -
وَلمُسْلِمٍ عَنْهُ رضي الله عنه: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، وَأنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأنْ يُبْنَى عَلَيْهِ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أن يُجصَّصَ: الجِص -بكسر الجيم ثم صاد مشددة- مادة بيضاء؛ كالنَّورة، تزخرف بها المباني.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النهي عن تجصيص القبر، والبناء عليه، والقعود عليه.
2 -
النهي عند الأصوليين يقتضي التحريم؛ فيكون التجصيص والقعود والبناء على القبور من المحرَّمات.
3 -
هذه النواحي الثلاثة تفيد النهي عن الجفاء، والنهي عن الغلو في القبور، فالجفاء: أن يهان القبر بالجلوس عليه، وأعظم من ذلك أن يكون القعود للتخلِّي عليه، فالقبور محترمة يجب احترامها احتراماً لسكانها.
والغلو: هو تجصيص القبر، وترخيمه، وتزويقه، والبناء عليه؛ فهذا غلو يفضي إلى الفتنة بأصحاب القبور.
4 -
النهي عن البناء على القبور مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يُبْنَى علَيه"، وروى مسلم (968) عن فضالة بن عبيد قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يامر بتسويتها"، وروى مسلم (969) من حديث علي بن أبي طالب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا قبراً مشرفًا إلَاّ سوَّيته".
(1) مسلم (970).
والبناء على القبور من أعظم وسائل الشرك، والمنع منه قطع لتلك الوسائل المفضية إلى أعظم ذنب عُصِي الله به:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان]، وقال الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أعظم؟ قال:"أن تجعل لله ندًّا، وهو خلقك".
وأعظم البناء تلك القباب المشيدة على قبور الملوك، والزعماء، والعلماء، وكثير منها في المساجد، محادة لله تعالى، ولشرعه وتوحيده؛ فيجب إزالتها ومحو آثارها، ولا يجوز إبقاء شيء منها.
قال الصنعاني في "تطهير الاعتقاد": فإنَّ هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة للشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام، وخراب بنيانه -غالبُ بل كل من يعمرها هم الملوك، والسلاطين، والرؤساء، والولاة، إما على قريب لهم، أو من يحسنون الظن به، مِن فاضلٍ، أو عالمٍ، أو صوفيٍّ، أو شيخ كبير، ويزور الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل، ولا هتافٍ باسمه، بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه، فيأتي من بعدهم فيجد قبراً قد شُيِّدَ عليه البناء، وأرخيت عليه الستور، وألقيت عليه الزهور، فيعتقد أنَّ ذلك لنفع، أو دفع ضرر، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت؛ بأنَّه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضر، وبفلان النفع، حتى تُعْبد من دون الله تعالى.
قال شيخ الإسلام: نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور، وأمر بهدمه، ولقد اتَّفق الأئمة على أنَّ كسوة القبر بالثياب منكر.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-: وضع الزهور على قبر الجندي المجهول وغيره بدعة، ويخشى أن يكون ذريعة إلى بناء القباب عليهم، والشرك بهم، ثم اتخاذهم أولياء من دون الله.
فالواجب إزالة الأبنية التي على القبور، وأن تسوَّى بالأرض، فلا تُرفع إلَاّ بقدر مسنمة؛ ليعلم أنَّها قبر، فلا تهان ولا تنبش، وكذلك تعليتها.
* قرار هيئة كبار العلماء بشأن البناء على القبور وإسراجها:
(رقم: 49 تاريخ 20/ 8/ 1396 هـ)
نظراً إلى أنَّ المقابر محل للاعتبار، والاتعاظ، وتذكر الآخرة، كما في صحيح مسلم (976) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"زار النبي-صلى الله عليه وسلم قبرَ أمه، فبكى وأبكى مَن حوله، وقال: استأذنت ربي أن أستغفر، لأمي فلم يؤذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذِنَ لي، فزوروا القبور؛ فإنَّها تذكركم بالموت".
وحيث إنَّ تجميلها بفرش الأشجار، وتبليط الممرات، وإنارتها بالكهرباء وغير ذلك من أنواع التجميل -لا يتَّفق مع الحكمة الشرعية في زيارة القبور، وتذكر الآخرة بها؛ حيث إنَّ تجميل المقابر بما ذكر يصرف عن الاتعاظ والاعتبار، ويقوِّي جوانب الاغترار بالحياة ونسيان الآخرة، فضلاً عمَّا في ذلك من تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من إنارة القبور، ولعنه فاعل ذلك؛ فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم:"أنَّه لعن زائرات القبور، والمتَّخذين عليها المساجد والسُّرج"، ولما فيه من مشابهة أهل الكتاب من اليهود والنصارى في تشجير مقابرهم وتزيينها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم، ولِما في ذلك من تعريض القبور للامتهان بابتذالها، والمشي عليها، والجلوس فوقها، ونحو ذلك مما لا يتَّفق مع حرمة الأموات.
وعليه فإنَّ المجلس يقرر بالإجماع تحريم التعرض للمقابر، لا بتشجيرها، ولا بإنارتها، ولا بأي شيء من أنواع التجميل؛ للإبقاء على ما كان عليه السلف الصالح، ولتكون المقابر مصدر عظة وعبرة وادكار، وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
***
479 -
وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبيْعَةَ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى عُثمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَأَتَى القَبْرَ، فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، وَهُوَ قَائِمٌ" رَوَاه الدَّرَقُطْنِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسنٌ.
قال في "التلخيص": رواه البزار والدارقطني عن عامر بن ربيعة، قال البيهقي: وله شاهد من حديث جعفر عن أبيه مرسلاً.
ورواه الشافعي عن إبراهيم بن محمَّد عن جعفر، ورواه أبو داود في "المراسيل" من طريق أبي المنذر، قال أبو حاتم: أبو المنذر مجهول. قال الحافظ: إسناده ظاهره الصحة، وصححه ابن أبي داود والشوكاني وصديق بن حسن خان.
* مفردات الحديث:
- حثا عليه: حثا الرجل التراب، إذا هاله بيده ثم رماه، يحثوه حثواً، ويحثيه حثيًا، فهو بالواو والياء.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعية الصلاة على الميت، وهي فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي، سقطت عن الباقين.
2 -
مشروعية اتباع الجنائز من الصلاة حتى الدفن، ومَن فعل ذلك -إيمانًا واحتسابًا- فله قيراطان من الأجر، والقيراطان مثل الجبلين العظيمين.
(1) الدارقطني (2/ 76).
3 -
الثلاث الحثيات التي حثاها رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريعٌ لأمته، ومشاركة في أجر الدفن.
4 -
مَن لم يتول الدفن، يستحب له أن يحثو ثلاث حثيات من تراب على القبر؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومشاركة في أداء الواجب، وفرض الكفاية في الدفن.
***
479 -
وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ المَيِّتِ، وَقَفَ عَلَيْهِ، وَقَال: اسْتَغْفِرُوا لأَخِيْكُمْ، وَاسْألوا لَهُ التَّثْبِيتَ؛ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال في "التلخيص": رواه أبو داود والحاكم والبزار، وصحَّحه عن عثمان وقال البزار: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلَاّ من هذا الوجه.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
وقال النووي: إسناده جيد. وقال الشيخ صديق بن حسن، رواه أبو داود والبيهقي بإسنادٍ حسنٍ.
* مفردات الحديث:
- التثبيت: اطلبوا من الله أن يثبته على جواب الملكين بقولكم: "اللهمَّ ثبته بالقول الثابت".
- الآن: أي: الزمن الذي نحن فيه.
قال الواحدي: "الآن": الوقت الذي أنت فيه، وهو حد الزمنين، حده الماضي من آخره، والمستقبل من أوله.
قال في "المصباح": "الآن": ظرف للوقت الحاضر الذي أنت فيه.
…
(1) أبو داود (3221)، الحاكم (1/ 370).
480 -
وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيْبٍ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَالَ: "كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إذَا سُوِّيَ عَلَى المَيِّتِ قَبْرُهُ، وَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ، أنْ يُقَالَ عِنْدَ قَبْرِهِ: يَا فُلَانُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إلَاّ اللهُ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَا فُلَانُ، قُلْ: رَبَيّ اللهُ، وَدينِي الإِسْلَامُ، وَنَبِيِّى مُحَمَّدٌ". رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَوْقُوفاً، وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا مُطَوَّلاً (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
أخرجه الطبراني عن سعيد بن عبد الله الأزدي، وهو مجهول، وقال النووي والعراقي: إسناده ضعيف، وقال ابن القيم: حديثه لا يصح، والذي نرجح أنَّ الحديث مقطوع وموقوف على رواية ضمرة بن حبيب، وهو تابعي.
* مفردات الحديث:
- سوي: مبني للمجهول، من: التسوية.
- فلان: قال في "المحيط" فلان وفلانة بغير ألف ولام، يكنى بها عن العلم الذي مسماه ممن يعقل، وهما يجريان مجرى الأعلام في امتناع دخول الألف واللام عليهما، وامتناع صرف المؤنث منهما، وأما إذا كان العلم لغير من يعقل، تقترن كنايته بـ"أل"؛ للفرق بين العاقل وغيره.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
يدل الحديث رقم (479): على انتفاع الميت بالدعاء والاستغفار له، ويدل
(1) الطبراني في الكبير (8/ 249).
عليه قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10] وغيرها من الآيات.
2 -
وفيه إثبات سؤال الميت في قبره، وقد صحَّت الأحاديث في ذلك، ففي البخاري (1338)، ومسلم (2870) من حديث أنس رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"العبد إذَا وُضِعَ في قبره، أتاه ملكان فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: أشهد أنَّه عبد الله ورسوله، فيُرِيانه مقعدَه من الجنة، وأما الكافر والمنافق فيقول: لا أدري، فيضرب بِمِطرَقة من حديد".
3 -
وقد صحَّت الأخبار وتوالت الآثار؛ على أنَّ الميت يُسأل في قبره، فيقال له: ما كنت تعبد؟ فأما المؤمن فيقول: أعبد الله، فيقاله له: صدقت، ولا يُسأل عن شيء غيره، فينادي منادٍ من السماء: صَدَق عبدي، وافْتَحُوا له بابًا إلى الجنَّة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له مد بصره.
وأما الكافر والمنافق: فلا يجيب إلَاّ بقوله: هاه هاه لا أدري، فيقال: لا دريت، ولا تليت، ويُضرب بمطارق من حديد ضربة واحدة، لو ضُرب بها جبل لصار ترابًا، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين.
4 -
الدعاء للميت عند قبره بعد دفنه ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، قال تعالى:{وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] يعني: بالدعاء والاستغفار.
قال شيخ الإسلام: لما نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن القيام على قبور المنافقين، كان دليلاً على أنَّ المؤمن يقام على قبره بعد الدفن، ولما أخرجه أبو داود (3221) عن عثمان؛ أنَّه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الميت وقف عليه، وقال:"استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنَّه الآن يُسأل".
قال ابن المنذر: قال بمشروعيته جمهور العلماء.
قال الترمذي: الوقوف على القبر، والسؤال للميت وقت دفنه، امتداد
للدعاء للميت بعد الصلاة عليه.
5 -
قوله: "استغفروا لأخيكم" فيه إثبات الأخوة الإسلامية، وهو أقوى أواصر الأخوة وأوثقها؛ قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وفيه معنًى آخر: تقريب قلوب المشيعين، وتليين قلوبهم للميت؛ ليخلصوا له الدعاء والاستغفار.
6 -
وأما الأثر رقم (480): فهو شبيه بحديث أبي أمامة بالتلقين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات أحد منكم، فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة اذكر ما كنت عليه في الدنيا من شهادة أن لا إله إلَاّ الله، وأنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، وأنَّك رضيتَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينا، وبمحمَّد نبيًّا، وبالقرآن إمامًا".
فهذا حديث لا يصح رفعه، وقد ضعَّف هذا الحديث العلماء، ومنهم: صاحب "أسنى المطالب"، وابن الصلاح، والنووي، والعراقي، وابن حجر، والصنعاني.
قال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: هذا الذي يصنعون إذا دفن الميت، يقف الرجل ويقول: "يا فلان بن فلانة
…
" قال: ما رأيتُ أحداً يفعله إلَاّ أهل الشام حين مات أبو المغيرة.
قال ابن القيم في "المنار": إنَّ حديث التلقين هذا حديث لا يشك أهل المعرفة بالحديث في وضعه.
وقال الهيثمي: في إسناده جماعة لم أعرفهم، وقال النووي: هو ضعيف.
وقال الصنعاني: يتحصل من كلام أئمة التحقيق أنَّه حديث ضعيف، والعمل به بدعة، ولا يغتر بكثرة من يفعله.
فتحصل أنَّ الأثر الذي ساقه المؤلف هنا ضعيف، لا تقوم به حجة، وأنَّه صنو حديث أبي أمامة في معناه، وصنوه في ضعفه، ولذا قال العراقي
والنووي: إسناده ضعيف، وقال ابن القيم: لا يصح.
7 -
قال ابن القيم: كان هديه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت، قام على قبره وأصحابه، وسأل الله له التثبيت، وأمرهم أن يسألوا له التثبيت، ولا يلقن كما يفعله الناس الآن.
***
481 -
وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الحُصَيْب الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كنْتُ نَهَيْتُكُم عَنْ زِيَارةِ القُبُورِ، فَزُورُوهَا". رَوَاهُ مُسلمٌ. زَادَ التِّرْمذيُّ: "فإنَّها تُذَكِّرُ الآخِرَةَ"(1).
زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: "وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا"(2).
ــ
* درجة الحديث:
زيادة ابن ماجه في سندها أيوب بن هانىء، قال الحافظ: فيه لين.
وعلى كل حال، فالمعنى صحيح، وتؤيده النصوص، وأما زيادة الترمذي فقد رواها، وصححها.
* مفردات الحديث:
- فزوروها: أمر من "الزيارة"، وهو إذن بعد نهي.
قال بعض الأصوليين: إنَّ الأمر بعد النهي يفيد الإباحة؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وقال بعضهم: إنَّ الأمر بعد النهي يعيد الشيء إلى حالته السابقة، والأفضل أن يقال: إنَّ هذا يختلف باختلاف الحال والمقام.
- تزهِّد: قال الكسائي: زهدت، بكسر الهاء وفتحها، والزهد: قلة الرغبة في الشيء، فالزاهد في الشيء الراغب عنه، إما شرعًا وإما طبعًا.
قال شيخ الإسلام: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة.
(1) مسلم (977)، الترمذي (1054).
(2)
ابن ماجه (1571).
482 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ زَائرَاتِ القُبُورِ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح بشواهده.
رواه أحمد (2/ 356) والترمذي وابن ماجه وابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي هريرة، وله شواهد عن جماعة من الصحابة، نذكر منها ما يلي:
1 -
حديث حسان: أخرجه أحمد (15230)، وابن أبي شيبة، وابن ماجه (1574)، والحاكم (1/ 530)، والبيهقي (4/ 78)، وقال البوصيري في "الزوائد": إسناده صحيح، ورجاله ثقات.
2 -
حديث ابن عباس: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 151)، وأبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، وابن حبان (7/ 453)، والحاكم (1/ 530)، والبيهقي، وقال الترمذي: حديث حسن.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الحديث رقم (481): يدل على أنَّ زيارة القبور أول الإسلام كانت ممنوعة محرَّمة؛ ذلك -والله أعلم- أنَّ كثيرًا من المسلمين كانوا حديثي عهد بالكفر، وأنَّه يُخشى أن تجر الزيارة إلى التعلق بالأموات وأضرحتهم.
2 -
لما رسخت العقيدة في القلوب، وفقهوا دينهم، وعلموا معنى الزيارة، نسخ تحريمها، ولم ينسخ إلى الإباحة، وإنَّما إلى الاستحباب.
وحكى النووي والموفق الإجماع على استحبابها للذكور دون الإناث.
(1) ابن ماجه (1571).
وهذا الحديث بلغت طرقه حد التواتر؛ ذلك لأنَّ الأمر بالزيارة قارنها بيان الحكمة منها، وهو تذكر الآخرة، والزهد في الدنيا، وهذان مطلبان أساسيان في الإسلام؛ فإنَّ الاعتبار والاتعاظ والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة -أكبر معين للعبد على تقوى الله تعالى.
3 -
زائر القبور لا يخلو من أربع حالات:
الأولى: يدعو للأموات، فيسأل الله تعالى لهم المغفرة والرحمة، ويخص من زاره منهم بالدعاء والاستغفار، وَيعتبر بحال الموتى، وما آلوا إليه، فيُحْدث له ذلك عبرة وذكرى وموعظة، فهذه زيارة شرعية.
الثانية: أن يدعو الله تعالى لنفسه، ولمن أحب عند القبور، أو عند صاحب قبر خاص، معتقداً أنَّ الدعاء في المقابر، أو عند قبر الميت فلان، أنَّه أفضل وأقرب للإجابة من الدعاء في المساجد، فهذه بدعة منكرة.
الثالثة: أن يدعو الله تعالى متوسلاً بجاههم أو حقهم، فيقول: أسألك يا ربي أعطني كذا بجاه صاحب هذا القبر، أو بحقه عليك، أو بمقامه عندك، ونحو ذلك، فهذه بدعة محرَّمة؛ لأنَّها وسيلة إلى الشرك بالله تعالى.
الرابعة: أن لا يدعو الله تعالى، وإنَّما يدعو أصحاب القبور، أو صاحب هذا القبر، كان يقول: يا ولي الله، يا نبي الله، يا سيِّدي، أغنني، أو أعطني كذا، ونحو ذلك، فهذا شرك أكبر.
4 -
في الحديث إثبات نسخ الأحكام في الشريعة الإسلامية.
5 -
أنَّ أحكام الله تعالى تابعة لِحكَمِها وأسرارها؛ لأنَّها جاءت لتحقيق المصالح، فكلما كانت المصلحة، فثمَّ شرع الله تعالى.
6 -
الواجب على المسلم إذا ظهر له الصواب في قول أن يأخذ به، ويدع ما سواه.
7 -
ينبغي للإنسان أن يفعل ما يذكره بالآخرة، وأن يأخذ بكل سبب يوقظه
ويذكره؛ لأنَّ القلب قد يتَّعظ بشيء دون شيء آخر، فإذا تعرَّض للأسباب كلها أحدثت له عظة وعبرة.
8 -
أنَّ القبور والموت من أمور الآخرة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"فإنَّها تذكركم الآخرة".
قال شيخ الإسلام: ومن الإيمان بالله، الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت.
9 -
قوله: "فإنَّها تذكر بالآخرة" هذا هو العلة فى مشروعية زيارة القبور، والعلَّة إذا نُصَّ عليها، فإنَّها تفيد ثلاث فوائد:
الأولى: اطمئنان المسلم إلى أنَّ هذه الشريعة لا تأمر بشيء، ولا تنهى عن شيء إلَاّ لحكمة، فأحكام الله تعالى مبنية على تحقيق المصالح، ودرء المفاسد.
الثانية: أنَّ معرفة حكمة الله تعالى في أحكامه تُحْدِث في النفس العاملة راحةً، ونشاطًا، وإقبالاً على الطاعة، واستكمالاً للفضائل.
الثالثة: إمكان القياس على الحُكم المنصوص عليه بحُكْم لم ينص عليه، بجامع العلة المشتركة بينهما، وفي هذا إثراء للفقه الإسلامي.
10 -
أما الحديث رقم (482): ففيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن النساء اللائي يزرن القبور، ولَعْن الشارع لا يكون إلَاّ على إتيان كبيرة من كبائر الذنوب، فصارت زيارة النساء القبور من الكبائر.
11 -
الحكمة في منع النساء عن زيارة القبور، هو ما لديهن من الضعف، والرقة، وعدم الصبر والاحتمال، فتخشى أن تجرَّ زيارتهن إلى أن يأتين من الأقوال والأفعال ما يُخْرجهن عن الصبر الواجب.
12 -
قال ابن القيم في "الهدي": كان من هديه إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم، وهذه هي الزيارة التي سنَّها لأمَّته، وشرعها لهم، وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها: "السلام عليكم
أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية".
وكان هديه أن يقول ويفعل عند زيارتهم من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميت: من الدعاء والترحم والاستغفار، فأبى المشركون إلَاّ دعاء الميت، والإقسام على الله به، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به، والتوجه إليه، بعكس هديه صلى الله عليه وسلم، فإنَّه هو توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك، وإساءة إلى نفوسهم، وإلى الميت؛ لأنَّه لا يخلو من ثلاثة أمور:
(أ) إما أن يدعو الميت.
(ب) وإما أن يدعو به.
(ج) وإما أن يدعو عنده.
ويرون أنَّ الدعاء عنده أوجب وأولى من الدعاء في المسجد والأسحار، ومن تأمل هديَ رسوله الله وأصحابه، تبيَّن له الفرق بين الأمرين، وبالله التوفيق.
13 -
قال شيخ الأسلام: الزيارة على قسمين: شرعية وبدعية، فالشرعية المقصود بها السلام على الميت، والدعاء له، والبدعية أن يكون مقصود الزائر طلب حوائجه من ذلك الميت، وهذا شرك أكبر، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو الدعاء به، وهذه بدعة منكرة، ووسيلة إلى الشرك.
14 -
لا ينبغي أن يكون الإنسان في المقبرة -سواء كان زائرًا أو مشيِّعاً- في حالة فرح وسرور، وكأنَّه في حفل، وإنَّما يتأثَّر، أو يظهر التأثر أمام أهل الميت، وليتذكر حال أصحاب القبور، وأنَّ مصيره إليهم، وليكن له فيهم عبرةٌ وعظةٌ.
15 -
جاء في البخاري (1189)، ومسلم (1397) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلَاّ لثلاثة مساجد: المسجد الحرام،
ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".
ففي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم سدٌّ للذرائع المفضية إلى الشرك؛ لئلا يلحق غير الشعائر بالشعائر، وألا يصير شد الرحال إلى القبور ذريعة إلى عبادتها، واستثنيت هذه المساجد الثلاثة؛ لما لها من ميزة على غيرها بأمور هامة، منها:
- أنَّها المساجد التي بناها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
- أن المسجد الحرام قبلة المسلمين، والأقصى كان قبلتهم الأولى.
- أسست على التقوى من أول يوم.
- الصلاة فيها مضاعفة على غيرها من المساجد.
فلهذه المساجد ميزة مفضلة على غيرها، فشُرع شد الرحل إليها دون غيرها، أما شد الرحال إلى القبور والأضرحة، فهو الغلو فيها المفضي إلى الشرك الأكبر، والشرك حرام، ووسائله حرام، فالوسائل لها أحكام المقاصد.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال، واختلفوا في زيارة النساء:
ذهب الحنفية إلى استحباب زيارة النساء للقبور كالرجال، ويستدلون على ذلك بما ورد في عموم الأمر بالزيارة بدون تخصيص، والأصل أنَّ الأوامر عامة ما لم يرِد ما يخصصها.
وذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة- إلى كراهتها للنساء، وخصوا الأمر بالزيارة بالرجال دون النساء؛ لأنَّ الضمير للرجال، ولا تدخل النساء فيه.
ولما روى مسلم (938) عن أم عطية قالت: "نُهِيْنَا عَن زيارة القبور، ولم يعزم علينا"، ولما روى الترمذي (1056):"لعنَ الله زائرات القبور".
والنساء لديهنَّ من الرقة ما يجدد لهنَّ المصائب والحزن والبكاء، وربَّما جرى منهنَّ ما ينافي الصبر الواجب.
ولهذه النصوص والاعتبارات؛ فإنَّ بعض محققي العلماء يرون تحريم زيارتهنَّ للقبور، ولا يقتصرن على مجرَّد الكراهة.
قال في "الاختيارات": ظاهر كلام أبي العباس ترجيح التحريم؛ لاحتجاجه بلعن النبي صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، وتصحيحه إيَّاه.
* فائدة:
مذهب أهل السنة أنَّ الروح هي النفس الناطقة المستعدة للبيان، وفهم الخطاب، ولا تفنى بفناء الجسد، وأنَّ الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعَّمة أومعذَّبة، وتتصل بالبدن أحيانًا، فيحصل له معها النعيم أو العذاب.
وقال شيخ الإسلام: استفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأنَّ ذلك يُعرضُ عليه، ويُسَرُّ بما كان حسنًا، ويتألم بما كان قبيحًا.
وجاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم فيجتمعون -إذا شاء الله- كما يجتمعون في الدنيا، مع تفاوت منازلهم، وسواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا، أو متقاربة، ويعرف الميت زائره يوم الجمعة قبل طلوع الشمس.
وفي "الغنية": يعرفه كل وقت، وهذا الوقت آكد، والله أعلم.
***
483 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّائِحَةَ، وَالمُسْتَمِعَةَ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيفٌ.
قال في "التلخيص": رواه أحمد (11228) من حديث أبي سعيد، واستنكره أبو حاتم، ورواه الطبراني من حديث ابن عمر، ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة، وكلها ضعيفة.
قُلْتُ: فقد ضعَّفه كل من: أبي حاتم، وابن حجر، وابن الملقن.
* مفردات الحديث:
- لعن: لعنًا، من باب نفع: طرده وأبعده من الخير، فهو لعين وملعون، والفاعل: لاعن، والمبالغة: لعَّان، قال في "التعريفات": اللَّعن من الله هو إبعاد العبد بسخطه، ومن الإنسان الدعاء بسخطه.
- النائحة: ناح على الميت نياحة، والنياحة هي: رفع الصوت بالندب، وتعديد محاسن الميت.
قال عياض: النياحة اجتماع النساء للبكاء على الميت.
- المستمِعَة: هي القاصدة لسماع النياحة.
…
(1) الترمذي (1056)، ابن حبان (7/ 453).
484 -
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا نَنُوحَ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).
485 -
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ". مُتَّفَقٌ علَيْهِ (2).
وَلَهُمَا نَحْوُهُ عَنِ المُغِيْرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، رضي الله عنه (3).
ــ
* مفردات الحديثين:
- أخذ علينا: أي: العهد، وألزمنا ألا ننوح.
- بما نيح عليه: الباء للسبية، و"ما" مصدرية؛ أي: بسبب النوح عليه.
"نِيْحَ" بِكسر النون وسكون الياء وفتح الحاء، مبني للمجهول.
…
(1) أبو داود (3128).
(2)
البخاري (1306)، مسلم (936).
(3)
البخاري (1292)، مسلم (927).
486 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "شَهِدْتُ بِنْتاً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُدْفَنُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عِنْدَ القَبْرِ، فَرَأيْتُ عَيْنيهِ تَدْمَعَانِ". رَوَاه البُخَارِيُّ (1).
ــ
* ما يؤخذ من هذه الأحاديث:
1 -
الحديثان رقم (483، 484): يدلان على تحريم النياحة: التي هي رفع الصوت، بتعديد شمائل الميت، ومحاسن أفعاله؛ فإنَّ هذه عادة جاهلية قضى عليها الإسلام وحرمها.
2 -
دليل تحريم النياحة: لعن النائحة، فإنَّ اللَّعن لا يكون إلَاّ في كبيرة من كبائر الذنوب.
3 -
مثل النياحة: شق الثوب، ولطم الخد، ونتف الشعر، ونحو ذلك؛ لِما في البخاري (3519) ومسلم (103) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَال:"لَيس مِنَّا مَنْ لطَمَ الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" دعوى الجاهلية هي الندب والنياحة.
4 -
والحكمة في النهي عن ذلك: ما فيه من إظهار الجزع والتسخط، وعدم الصبر الواجب على قَدَر الله تعالى وقضائه.
أما الرضا بقضاء الله تعالى: فلا يجب، وإنَّما يستحب، ومنهم من قال بوجوبه.
5 -
يدل الحديث رقم (483): على تحريم الاستماع إلى النائحة، وأنَّ المستمعة شريكة في اللعن، بخلاف السامعة التي لم تقصد الاستماع، فلا
(1) البخاري (1291)، مسلم (933).
تدخل في الحكم، ولكن الواجب عليها -إذا لم تقدر على تغيير المنكر- أن لا تجلس مع النائحات.
قال شيخ الإسلام: الصبر واجب إجماعًا.
6 -
قال الشيخ: الثواب في المصائب على الصبر عليها، لا على المصيبة نفسها، فإنَّها ليست من كسب ابن آدم.
والصبر شرعاً: هو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخد، وشق الثوب ونحوها، وهو خُلق فاضل يدل على صلاح العبد، وصلابته في دينه، قال تعالى:{يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر].
وجاء مدح الصبر والصابرين في أكثر من ثمانين موضعاً في القرآن الكريم.
7 -
وأما الحديث رقم (485) فيدل على أنَّ الميت يعذب بسبب النياحة عليه، والنياحة ليست من فعله، فلذا استشكل العلماء معنى تعذيب الميت بما نيح عليه، والله تعالى يقول:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18].
وأفضل ما قيل فيه قول شيخ الإسلام ابن تيمية قال: الصواب أنَّ الميت يتأذى بالبكاء عليه، كما نطقت به الأحاديث الصحيحة، مثل:"إنَّ الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه" وفي لفظ: "من يُنح عليه يعذب بما نيح عليه"، والشارع لم يقل: يعاقب بما نيح عليه، وأنما قال: يعذب، والعذاب أعم من العقاب، فإنَّ العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له، ولكن ينبغي أن يوصي بترك النياحة عليه، إذا كان من عادة أهله النياحة، لأنَّه متى غلب على ظنه النياحة، وفعلهم لها، ولم يوص بها مع القدرة فقد رضي بها، فيكون كتارك المنكر مع القدرة على إزالته.
8 -
قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هذه الآية الكريمة قاعدة كلية عامة،
لأهميتها وعظمتها وجدت بالشرائع السابقة، ولذا قال تعالى:{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم].
لكن إنَّ كانت النفس الأخرى هي السبب في الوزر، فإنَّها تعاقب بمثل عقاب المباشر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من دلَّ على خير، فله مثل أجر فاعله"[رواه أبو داود (5129)]، وقوله:"ومن سنَّ سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"[رواهُ مُسلم (1017)].
9 -
وأما الحديث رقم (486): فيدل على جواز البكاء على الميت بدون رفع صوت، فقد قال صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم:"العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلَاّ ما يرضي الرب"[رواه البخاري (1303) ومسلم (2315)]، وكما جاء في البخاري (1304): ومسلم (924) من حديث ابن عمر؛ أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله لا يعذِّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذِّب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم" فهذا الحزن هو رحمة ينزلها الله على قلوب بعض عباده، وفيه تخفيف من شدَّة المصيبة.
10 -
يجب الصبر واحتساب الأجر عند الله تعالى والاسترجاع، قال الله تعالى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة] وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر].
فأهل الإيمان هم أقل الناس انزعاجًا عند المصائب، وأحسنهم طمأنينة، وأقلهم قلقًا عند النوازل، وهذه الكلمات المباركة الطيبات من كتاب الله تعالى، هي أبلغ علاج عند المصيبة، وأنفعه في العاجلة والآجلة، فإنَّها تضمَّنت أصلين، إذا تحقق العبد معرفتهما: هانت عليه المصيبة:
الأول: أنَّ العبد وأهله وما عنده ملك لله تعالى.
الثاني: أنَّ مصير العبد ومرده إلى ربه ومولاه.
وَمَنْ هذه حاله لا يفرح بموجودٍ، ولا يحزن على مفقودٍ.
وإذا علم المؤمن علم اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه- هانت عليه المصيبة.
قال ابن القيم: كان من هديه السكون والرضا بالقضاء، والحمد لله والاسترجاع.
قال شيخ الإسلام: للعلماء في الرضا قولان: هل هو واجب، أو مستحب؟ والصحيح: أنَّه مستحب.
11 -
قال في "مختصر كفاية الأخيار" للشافعية:
- الشخص إذا ذاق أنَّ لله ما أعطى، وله ما أخذ، لا يشق عليه أية مصيبة؛ لأنَّ الملك لله يتصرَّف فيه كيف شاء.
- فإنَّ فاته ذلك، وغلب عليه الوازع الطبيعي، دفعه الوازع الشرعي إلى الصبر والاحتساب.
- فإن فاته ذلك تعددت عليه المصيبة، وهذا إنَّما ينشأ من فراغ القلب عن الله تعالى، بخلاف القلب العامر به، فإنَّه يرى الأموال والأولاد فتنةً وقطيعة عن ربه، وبُعْداً عن غايته.
13 -
اختلف العلماء في إباحة ترك الزينة، وحسن الثياب، وتجرد المصاب، لمدة ثلاثة أيام غير الزوجة، فأباح ذلك كثير من الفقهاء ومنهم: الحنابلة؛ لما في البخاري (303) ومسلم (938) عن أم عطية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحدّ امرأة على ميت فوق ثلاثٍ، إلَاّ على زوجٍ، أربعة أشهر وعشرًا".
وأنكر ذلك شيخ الإسلام، وذكر أنَّ السلف لم يكونوا يفعلون شيئًا من ذلك، فلا يغيرون شيئًا من زيهم قبل المصيبة، ولا كانوا يتركون ما كانوا يفعلونه قبلها؛ فإنَّ ذلك منافٍ للصبر.
487 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكمْ بِاللَّيْلِ، إِلَاّ انْ تُضْطَرُّوا". أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، لكِنْ قَالَ:"زَجَرَ أنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ، حتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
فإنَّ أصله في مسلم بلفظ: "إنَّه صلى الله عليه وسلم زَجَرَ أنْ يُقْبرَ الرَّجل بالليل، حتَّى يُصلى عليه، إلَاّ أنْ يَضْطَرّ الإنْسَانُ إلى ذلك".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
ظاهر الحديث كراهة دفن الميت ليلاً، إلَاّ عند الحاجة إلى ذلك؛ كخشية تغيره، فيدفن ليلاً بلا كراهة.
2 -
الحكمة في هذا ما أشار إليه الحديث بلفظ: "حتى يصلى عليه".
والمراد من ذلك: أنَّ تجهيز الميت، والصلاة عليه ليلاً مظنة التقصير في ذلك، من عدم إحسان الغسل، وعدم إجادة الكفن والتكفين، ومن قلَّة المصلين عليه، أما النهار فتوافر هذه الأمور يسير.
3 -
إذا وجدت هذه الأشياء، وتوافرت تلك الأمور ليلاً، زالت الكراهة المذكورة في هذا الحديث، ورجعنا إلى أصل الحكم، وهو استحباب الإسراع بالجنازة، فتقدم في هذا المعنى حديثان: "أسرعوا بالجنازة، فإنَّ تكن صالحة
…
" إلخ، [رواه مسلم (943)]، وحديث: "لا ينبغي لجيفة
(1) ابن ماجه (1521)، مسلم (943).
مسلم أن تُحْبَس بين ظهراني أهله" [رواه أبو داود (3159)]، وقد أخرج الترمذي (1057)، عن ابن عباس بإسناد حسن؛ أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم: "دخل قبراً ليلاً، فأسرج له سراج، وأخذه من قبل القبلة".
ودفن الصحابة أبا بكر-رضي الله عنه ليلاً، ودفن علي فاطمة رضي الله عنها ليلاً، ولذا فإنَّ جمهور العلماء، ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة لا يرون الكراهة في الدفن ليلاً.
قال ابن القيم في "الهدي": كان من هديه صلى الله عليه وسلم لا يدفن الميت عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها، ولا حين يقوم قائم الظهيرة. وقد روى مسلم (831) عن عُقْبَة بن عامر قال:"ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تقرب الشمس من الغروب حتى تغرب".
***
488 -
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ حِيْنَ قُتِلَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اصْنعوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا؛ فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ". أَخرَجَهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ النَّسَائِيَّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال في "التلخيص": رواه الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والترمذي وحسَّنه، وابن ماجه، والدارقطني (2/ 78)، والحاكم (1/ 527) من حديث عبد الله بن جعفر، وصحَّحه ابن السكن، ورواه أحمد، والطبراني، وابن ماجه من حديث أسماء بنت عُميس، وهي والدة عبد الله بن جعفر.
* مفردات الحديث:
- نعى: يقال: نعيت الميت نعيًّا، من باب نفع: أخبرت بموته، والنعي الجاهلي: هو النداء بموت الشخص مع ذكر مفاخره، نحو: واجبلاه، واكريماه.
- اصنعوا: صنع الشيء: أجاد فعله، والمراد هنا: طبخ الطعام لآل جعفر أهل المصيبة.
- آل جعفر: هم زوجة جعفر بن أبي طالب، أسماء بنت عميس، وأولاده.
- ما يشغلهم: قال الراغب: الشَّغل والشُّغل: العارض الذي يذهل الإنسان.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
بعث النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثمانٍ من هجرته جيشًا إلى مؤتة (قرية من مشارق الشام) لقتال الروم، وجعل عليهم أميرًا زيد بن حارثة، فإن قتل، فجعفر بن أبي
(1) أحمد (1/ 205)، أبو داود (3132)، الترمذي (998)، ابن ماجه (1610).
طالب، فإن قتل، فعبد الله بن رواحة، فقتل الأمراء الثلاثة كلهم؛ لأنَّ جيش المسلمين ثلاثة آلاف وجيش الروم يقدر بمائة ألف، وجاء خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من السماء، فذهب صلى الله عليه وسلم إلى بيت جعفر فواساهم، ودعا لأطفاله، ثم ذهب إلى أهله، وقال: اصنعوا لآل جعفر طعامًا؛ فقد أتاهم ما شَغَلهُم.
2 -
فصارت سنة نبوية أنَّ أصحاب الميت يرسل إليهم بالطعام من أقاربهم أو جيرانهم أو أصدقائهم ونحوهم.
ولا شكَّ أنَّ هذا من محاسن الإسلام، ففيه تكافل اجتماعي، وفيه تحقيق لما جاء في الحديث:" المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا"[رواه البخاري (2446)].
3 -
قال في "شرح الزاد": ويُسن أن يُصْنَع لأهل الميت طعام، يُبعث به إليهم ثلاثة أيام لقصة جعفر.
قال محرره -عفا الله عنه-: الحديث لم تذكر فيه مدة الإطعام، ويظهر أنَّها مرَّة واحدة، ولكن الفقهاء راعوا مدة العزاء ثلاثة أيام، وما دام شرع أصل الإطعام، فالأمر فيه سعة.
4 -
أما ما اعتاده الناس الآن من أن أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام، ويطعمون الناس، فهو بدعة شنيعة؛ لأمور كثيرة:
أولاً: أنَّه عمل مخالف للسنة، وما خالف السنة فهو بدعة.
ثانيًا: فيه تشبه بأعمال الجاهلية من العقر والنحر عند موت كبارهم.
ثالثًا: فيه إنفاق محرَّم، فهي داخلة في باب السرف.
رابعًا: قد يكون إنفاق المال الموروث ظلمًا إذا كان لضعافٍ وصغارٍ.
خامسًا: إنَّ أهل الميت في شغل عن إعداد الطعام، ودعوة الناس إليه بالانشغال عنه بمصيبتهم.
5 -
وهذه بعض المقتطفات من كلام العلماء حول هذه المسألة:
قال الصحابي الجليل جرير بن عبد الله البجلي-رضي الله عنه "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعهم الطعام من النياحة"[رواه أحمد وابن ماجه ورجال إسناده ثقات].
وقال الإمام أحمد: هو من فعل أهل الجاهلية.
وقال الطرطوشي: فأما المأتم فممنوع بإجماع العلماء، والمأتم: هو الاجتماع على مصيبة، وهو بدعة منكرة، لم ينقل فيه شيء، وكذا ما بعده من الاجتماع في الثاني، والثالث، والرابع، والسابع، والشهر، والسنة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: جمْع أهل المصيبة الناس على طعامهم؛ ليقرؤوا له ليس معروفاً عند السلف، قد كرهه طوائف من العلماء من غير وجه، وعدَّه السلف من النياحة.
6 -
قال الشيخ أيضًا: إخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة، ولا يشرع من العبادات عند القبور، لا صدقة ولا غيرها، كالذبح والتضحية عند القبر، ولو نذره، أو شرطه واقف كان، شرطًا فاسدًا يحرم إنفاذه.
* فائدة:
قال في "المغني" و"الشرح الكبير" وغيرهما: وإن دعت الحالة إلى ذلك -صنعهم الطعام- جاز، فإنَّه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من أهل القرى البعيدة، ويبيت عندهم، فلا يمكنهم إلَاّ أن يُطْعِمُوهُ.
***
489 -
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيْهِ رضي الله عنه قَالَ: "كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى المَقَابِرِ أَنْ يَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَى أهْلِ الدِّيَارِ: مِنَ المُؤْمنِيْنَ وَالمُسْلِمِيْنَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ الله لَنَا وَلَكُمُ العَافِيةَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أهل الديار: منادى، محذوف منه حرف النداء، والتقدير: يا أهل الديار، والديار -جمع دار-: المنازل محل الإقامة.
قال ابن الجزري: يريد بالديار: المقابر، وهو جائز لغة.
- من المؤمنين والمسلمين: الجمع بينهما يقتضي المغايرة، والمسلمون هم المستسلمون ظاهرًا بأقوالهم وأفعالهم، وأما المؤمنون فهم الذين جمعوا مع ذلك الاعتقاد الصادق، فالمؤمنون أكمل من المسلمين.
وقد عرف الفرق بين الإيمان والإسلام إذا اجتمعا.
قال ابن رسلان: الإيمان والإسلام وإن اختلفا متحدان في المقاصد.
…
(1) مسلم (975).
490 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ المَدِيْنةِ، فَأَقْبلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: السَّلَامُ علَيْكُمْ يَا أهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللهُ لَنا وَلَكُمْ، أنْتُم سَلَفُنَا، وَنَحْنُ بِالأَثَرِ". رَوَاهُ التِّرمذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسنٌ. وجاء في معتاه:
1 -
حديث بريدة في مسلم (975) المتقدم؛ من أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار: من المؤمنين والمسلمين، إنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية".
2 -
وحديث أبي هريرة في مسلم (974): "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون".
3 -
وحديث عائشة عند أحمد (23904) مثله، وزاد:"اللَّهمَّ لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنَّا بعدهم".
* مفردات الحديث:
- سلفنا: هو من تقدم بالموت.
- ونحن بالأثر: بفتحتين؛ أي: تابعون لكم، من ورائكم، لاحقون.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
يدل الحديثان على استحباب زيارة القبور: الزيارة الشرعية، وهي التي يراد بها الدعاء للأموات، والاستغفار لهم، كما يراد منها الاعتبار والاتعاظ
(1) الترمذي (1393).
بمآلهم، وتغيير أحوالهم، فقد جاء في الحديث الصحيح:"كنت نهيتكُم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنَّها تذكر في الآخرة، وتزهد في الدنيا".
2 -
أما الزيارة البدعية فمنهيٌّ عنها، وهي التي يراد بها سؤال الميت، والطلب منه كشف الكربات، وقضاء الحاجات، فهذا شرك أكبر.
أو يقصد بها التوسل في حق الميت، أو جاهه، أو دعاء الله عند قبره، اعتقادًا أنَّ الدعاء عند القبور مستجاب، فهذه بدعة شنيعة ومنكرة، والعياذ بالله.
3 -
يدل الحديثان على السلام على الموتى من المؤمنين والمسلمين، وسؤال الله تعالى لهم العافية من عذاب القبر، وعذاب النار.
4 -
استحباب هاذا الدعاء والقول لزائر القبور، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا به لأهل البقيع، وعلَّمه عائشة أن تقوله.
5 -
إذا ذكر الإسلام والإيمان في مقام واحد، فالأصل تغاير المعنى، فالإسلام غير الإيمان، والعكس، ولا شكَّ أنَّ المقبرة قد جمعت مسلمين ومؤمنين، والدعاء لهما جميعًا، وهذا وجه ذكر الطائفتين بوصفيهما.
6 -
قال الشيخ صديق بن حسن في "السراج الوهاج": وحاصل المسألة أنَّ الزيارة للقبور سنة ثابتة قائمة، تذكر الزائر الموت والآخرة، وهذا معظم مقصودها وغاية فعلها.
ومن زار قبرًا -أيَّ قبر كان- وفعل عنده ما لم يرد به، من كتابٍ، وسنةٍ صحيحةٍ- فقد خالف السنة المطهرة، وعكس القضية.
وقد حدثت -منذ عصور طويلة عريضة في هاذه الأمة في زيارتها- بدع وشرك، لا يدل عليها دليل ضعيف فضلاً عن صحيح، فأفْضَتْ بأصحابها إلى الوقوع في هُوة الكفر، وصَنعُوا بالقبور من الزخرفة، والاستغاثة بأهلها ما جلب عليهم اللعنة من الله سبحانه وتعالى، ورسوله.
7 -
وأما قوله: "وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون"-: فأصح ما قيلِ في هاذا الاستثناء أنَّ المراد به اللحاق بهم على الإسلام والإيمان، اللَّذين ماتوا عليهما، وألا يفتنا ويضلنا بعدهم، وإن كان السلام على أهل البقيع، فيدخل فيه اللحاق بهم في البقعة، فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم دعا لأهل البقيع، فقال:"اللَّهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" والدعوة شاملة للأولين والآخرين.
والغرض من قوله: "وإنا بكم لاحقون" هو تذكير الإنسان نفسه بأنَّه لاحق بهم، وهذا من أغراض زيارة القبور.
8 -
قال شيخ الإسلام: استفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأنَّ ذلك يعرض عليه ويُسرُّ بما كان حسنًا، ويتألم بما كان قبيحًا، ويعرف الميت زائرَه قبل طلوع الشمس.
وفي "الغنية" للشيخ عبد القادر: يعرفه كل الوقت، ويوم الجمعة آكد.
قال ابن القيم: الأحاديث والآثار تدل على أنَّ الزائر إذا جاء، علم به المزور، وسمع كلامه، وأنِسَ به وردَّ عليه، وذلك عامٌّ في الشهداء وغيرهم، ولا توقيت في ذلك.
9 -
الدعاء هنا مناسب للزائر وللموتى، أما الزائر فهو يسأل الله لنفسه العافية من أمراض الأبدان وأمراض القلوب، التي هي أشد ضررًا من أمراض الأبدان، وأما الموتى فهو يدعو لهم بالسلامة والعافية من العذاب، ويسأل الله تعالى لهم الرحمة والمغفرة.
10 -
قوله: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" يدل على أنَّه يستحب للإنسان أن يوطن نفسه على هذا المستقبل، وأنَّه لاحقٌ بهؤلاء الأموات حتى يستعد، فإنَّ في الموت موعظة وذكرى.
* فوائد:
الأولى: أجمع العلماء على استحباب تعزية المسلم المصاب بالميت، ولو
صغيرًا قبل الدفن وبعده، وحثه على الصبر بوعد الأجر، والدعاء للميت والمصاب؛ لما روى ابن ماجه (1601) من حديث عَمْرو بن حزم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة، إلَاّ كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة".
قال الشيخ: فيقال للمصاب: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وغفر لميتك؛ ولاتعيين في ذلك، بل يدعو بما ينفع.
قال الموفق: لا أعلم في التعزية شيئًا محددًا.
الثانية: الاسترجاع عند المصيبة سنة، إجماعًا؛ لقوله تعالى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة].
قال ابن كثير: تسلوا بقولهم هاذا عما أصابهم، وعلموا أنَّهم ملك لله يتصرف فيهم بما يشاء، وعلموا أنَّه لايضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة، فأحدث لهم اعترافهم بأنَّهم عبيده، وراجعون إليه في الدار الآخرة.
الثالثة: حكى ابن عقيل وغيره الإجماع على تحريم الرضا بفعل المعصية، منه أو من غيره؛ لوجوب إزالتها حسب الإمكان، فالراضي بها أولى.
الرابعة: قال ابن عقيل: يحرم النحيب وتعداد محاسن ومزايا الميت، وإظهار الجزع؛ لأنَّ ذلك يشبه التظلم من ظالم، والله تعالى هو صاحب العدل، له أن يتصرف بخلقه بما شاء، فهم ملكه، وتصرفه فيهم بما يقتضيه حكمته.
***
491 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ؛ فَإنَّهُمْ قَدْ أفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
وَرَوَى التِّرمذيُّ عَنِ المُغِيرَة نَحْوَهُ، لكِنْ قَالَ:"فَتُؤْذُوا الأَحْيَاءَ"(2).
ــ
* درجة الحديث:
زيادة الترمذي حسنة.
حديث ابن عباس رضي الله عنهما بزيادته: "فتؤذوا الأحياء" لها عدة طرق عند الطبراني في "الكبير"(8/ 25)، وإن كان فيها ضعف، إلَاّ أنَّه يقوي بعضها بعضًا، ورواها الإمام أحمد في "المسند"(17744)، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح، وحسَّنه السيوطي في "الجامع الصغير".
* مفردات الحديث:
- لا تَسُبُوُّا: السبّ هو: الشَّتم والقطع والطعن، من باب ردَّ يرُد، وبهذا يشمل السب كل كلام، أو حال يراد منه أذية المشتوم والطعن فيه: من سبٍّ، أو لعنٍ، أو انتقاصٍ ونحوه، والله أعلم.
- أفْضَوا: أي: وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر، يقال: أفضيت إلى الشيء: وصلت إليه، "كما في المصباح المنير".
- ما قدِّموا: من التقديم، أي: لأنفسهم من الأعمال، والمراد: جزاؤها.
(1) البخاري (1393).
(2)
الترمذي (1982).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
ظاهر الحديث يدل على منع وتحريم سب الأموات مطلقًا؛ سواء كان الميت مسلمًا أو كافرًا، أو كان مسلمًا فاسقًا أو صالحًا.
2 -
لكن هذا العموم مخصوص على أصح ما قيل: بأنَّ أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساوئهم؛ للتحذير منهم، والتنفير عنهم، وعن الاقتداء بآثارهم، والتخلق بأخلاقهم، والضابط في جواز ذكرهم بالسوء إذا كان لمصلحة شرعية للمسلمين.
3 -
علَّل صلى الله عليه وسلم النهي عن سبهم؛ بأنَّهم أفضوا ووصلوا إلى جزاء ما قدموا وعملوا من خير أو شر، والله هو المجازي، فلا فائدة في سبهم، فيحرم إلَاّ لمصلحة شرعية؛ أو ما خصَّه الدليل من عموم هذا النهي.
4 -
العلة الثانية في هذا النهي؛ لئلا يتأذى الأحياء بسبهم، من أولادهم وأقاربهم ومن يلوذ بهم؛ إذ العلة الأولى في النهي عن سبهم أنَّهم أفضوا إلى ما قدموا، وهذا يدل على العموم إلَاّ لمصلحة شرعية، فإن كان في سبهم أذية للأحياء، فيكون محرمًا من جهتين، وإلَاّ كان محرمًا من جهة واحدة.
5 -
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فتؤذوا الأحياء" لا يدل على جواز سب الأموات عند عدم تأذي الأحياء، كمن لا قرابة له، أو كانوا ولكن لا يبلغهم ذلك؛ لأنَّ النَّهي عام إلَاّ لمصلحة شرعية.
6 -
أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياءً وأمواتًا، لابتناء أحكام الشرع على بيان حالهم.
7 -
قال الشوكاني رحمه الله:
المتحري لدينه: في اشتغاله بعيوب نفسه، ما يشغله عن نشر مثالب الأموات، وسب مَنْ لا يدري كيف حاله عند بارىء البريات.
ولا ريب أنَّ تمزيق عِرض من قدم وجَثَا بين يدي من هو بما تكنه الضمائر
أعلم -مع عدم ما يحمل على ذلك من جرح أو نحوه- أحموقة لا تقع لمتيقظ، ولا يصاب بمثلها متدين، ونسأل الله السلامة بالحسنات، وأن يغفر لنا تفلتات اللسان والقلم، وأن يجنبنا سلوك هذه المسالك التي هي في الحقيقة من أعظم المهالك.
8 -
ينبه هنا إلى أمر عظيم، وخطير جدًّا، وهو ما يقع من بعض الجاهلين الذين يقعون في أئمة ديننا، ويطعنون فيما سلف من أئمة الإسلام، ويتكلمون في عقيدتهم ويضللونهم ويبدعونهم، ونصبوا أنفسهم حكَّامًا على أولئك الجبال العظام من أئمة الإسلام الذين قيل فيهم: تجاوزوا القنطرة.
ومن أنت أيها الجاهل المفضَّل بالنسبة إليهم، فارفق بنفسك، واعرف حرمة أئمة، وعلماء الإسلام، ورحم الله امرءًا عرف قدره فوقف عنده.
***