المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الاعتكاف مقدمة الاعتكاف لغة: لزوم الشيء، وحبس النفس عليه، ومنه قوله - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٣

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌باب الاعتكاف مقدمة الاعتكاف لغة: لزوم الشيء، وحبس النفس عليه، ومنه قوله

‌باب الاعتكاف

مقدمة

الاعتكاف لغة: لزوم الشيء، وحبس النفس عليه، ومنه قوله تعالى:{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97]، أي: الذي أقمت ودمت على عبادته.

وشرعًا: المقام في المسجد من شخص مخصوص، على صفة مخصوصة، لطاعة الله تعالى.

والاعتكاف سنة وقُربة: بالكتاب، والسنة، والإجماع.

أما الكتاب: فقوله {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة: 125]، واستفاضت السنة النبوية في فعله صلى الله عليه وسلم والترغيب فيه، وإقراره.

وأجمع العلماء على مشروعيته، وأجمعوا على أنَّه مستحب وليس بواجب.

قال الإمام أحمد: لا أعلم عن أحد من أهل العلم خلافًا أنَّه مسنون، وقد اتَّفق العلماء على أنَّه مسنون كل وقت، ولكنه في رمضان، وفي عَشْرِه الأخيرة آكد.

* حكمته:

قال ابن القيم: لما كان صلاح القلب، واستقامته على طريق سيره إلى الله

ص: 572

تعالى، متوقفًا على جمعيته، بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شَعث القلب لا يلمه إلَاّ الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثًا، ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، ويعوقه، ويوقفه، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يُذْهب فضول الطعام والشراب، واستفراغ القلب من أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعيته بقدر المصلحة؛ بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة والانقطاع والانشغال به وحده سبحانه وتعالى، ويصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل عموم القلب، وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم به كله، والخطرات كلها بذكره، والفكرة في تحصيل مراضيه منه، فيصير أنسه بالله، بدلًا من أنسه بالخلق، وبعده بذلك، لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.

وذكر الاعتكاف بعد الصيام لمناسبتين:

الأولى: أنَّ جملة الكلام على الصيام يتناول صيام شهر رمضان، وهو الشهر الذي يتأكد استحباب الاعتكاف فيه؛ لما يرجا فيه من ليلة القدر.

الثانية: اتفاق العلماء على مشروعية الصيام مع الاعتكاف؛ لأنَّ تمام قطع العلائق عن الدنيا يكون بالصيام، والبعد عن الشهوات والعادات.

واشترط الحنفية والمالكية لصحة الاعتكاف الصيام، ولكن رأى غيرهم من العلماء أنَّه لا دليل لهم، إلَاّ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلَاّ صائمًا، والفعل المجرد لا يكون دالاًّ على الشرطية. وقد اعتكف في شوال ولم ينقل أنَّه صام أيام اعتكافه.

ص: 573

وجاء في البخاري (6203) ومسلم (3128) أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلتُ: يَا رَسُولَ الله، إني نذرتُ في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال:"أوف بنذرك"، والليل ليس وقتًا للصيام، والله أعلم.

***

ص: 574

583 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوفَّاهُ اللهُ عز وجل، ثُمَّ اعْتكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- يعتكف: الاعتكاف هو: حبس النفس في المسجد لله تعالى، وعكف على الشيء يعكف عكوفًا: إذا واظب عليه ولازمه، ومنه قوله تعالى:{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138]، أي: يقيمون عليها، فيلازمونها.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان؛ طلبًا لليلة القدر، لما قوي ظنه أنَّها في تلك العشر المباركات، واستمرَّ يعتكفهن كل سنة حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده.

فيشرع الاعتكاف؛ لأنَّه سنة مؤكدة، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرَّ عليها.

2 -

فائدة الاعتكاف وثمرته هي قطع المعتكف علائقه عن الدنيا وما فيها، والخلوة بربه، والتلذذ بمناجاته، وجمعية نفسه وخواطره وأفكاره عليه، وعلى عبادته.

3 -

الاعتكاف سنة باقية لم تنسخ؛ إذ اعتكف أزواج النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعده.

4 -

كان صلى الله عليه وسلم يعتكف شهر رمضان كله، فكان آخر الأمر منه أن اقتصر على العشر الأواخر من رمضان؛ لما يرجى فيهن من ليلة القدر.

5 -

إنَّ شرط الاعتكاف أن يكون في مسجد تقام فيه الجماعة؛ لقوله تعالى:

(1) البخاري (2025)، مسلم (1172).

ص: 575

{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، ولئلا يفضي اعتكافه إلى ترك الجماعة، أو إلى تكرار الخروج من معتكفه إليها كثيرًا، وهذا منافٍ للاعتكاف.

6 -

أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تقسم إلى أنواع خمسة:

الأول: ما فعله على مقتضى الطبيعة البشرية؛ كالنوم والأكل والشرب، فهذا لا حكم له، وإنما يدخله العنصر الديني إذا قصد به الفاعل التقوي على طاعة الله تعالى، أو فعله على هيئة مشروعية، كالنوم على الجنب الأيمن، والأكل باليمين؛ احتسابًا للأجر عند الله.

الثاني: ما فعله عادة لا عبادة؛ كلبس العمامة والإزار والرداء، وكنوع من الأكل ونحو ذلك، فهذا الاتباع فيه أن يلبس الإنسان ما يلبس أبناء جنسه وأهل بلده، وليس من الاقتداء أن يلبس الإنسان ما كان يلبسه النبي صلى الله عليه وسلم، فالقدوة هنا عدم المخالفة، لا ذلك النوع الخاص.

الثالث: ما فعله على سبيل التعبد، فإذا ظهر لنا فيه قصد العبادة، فيستحب لنا اتباعه في ذلك؛ لأنَّ أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المجردة لا تدل على الوجوب، على الراجح.

الرابع: ما كان مترددًا بين العبادة والعادة، كالتحصيب بعد ليالي منى، وصفة دخول مكة، ودخول المسجد، فبعض العلماء يرى أنَّه فعل ذلك على وجه العبادة، وبعضهم يرى أنَّها جاءت على سبيل العادة؛ لأنَّها أسمح لطريقه.

الخامس: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا لحكم مجمل؛ كقوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، فكان صلى الله عليه وسلم يقول:"صلوا كلما رأيتموني أصلي"[رواه البخاري].

***

ص: 576

584 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، صَلَّى الفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- معتكفه: ظرف مكان؛ أي: مكان اعتكافه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

فيه مشروعية الاعتكاف واستحبابه، وأنَّه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وسنته.

2 -

أنَّ وقت دخول المعتكف، أي: مكان اعتكافه يكون بعد صلاة الصبح.

3 -

فيه دليل أنَّه لا بأس من احتجاز مكان للاعتكاف بخيمة، أو خصفة، أو حُجْرَة، أو نحو ذلك؛ لما أخرج الشيخان عن عائشة "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف، أمر بضرب خبائه، فضُرِبَ"، وإباحة هذا المكان المحجوز بشرط ألَاّ يحصل به ضيق عن المصلين.

(1) البخاري (2033)، مسلم (1173).

ص: 577

585 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأسَهُ -وَهُوَ فِي المَسْجِدِ- فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ البَيْتَ إلَاّ لِحَاجَةٍ، إِذَا كَانَ مُعْتكِفًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- ليدخل: "اللام" حرف ابتداء جاءت للتوكيد، وفي دخولها على الفعل المضارع تخليصه للحال، كهذا الحديث.

- ليدخل على رأسه وهو في المسجد: ذلك أنَّ بيته صلى الله عليه وسلم مجاور للمسجد.

- أُرجِّله: أمشط شعر رأسه، وأسويه وأزينه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

خروج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه بلا حاجة -أمر يفسد اعتكافه ويبطله، ويجوز أن يخرج لما لا بد له منه، كإتيانٍ بمأكلٍ ومشربٍ؛ لعدم من يأتيه بهما، وكقيءٍ وبولٍ، وغائطٍ، وطهارةٍ واجبةٍ، ونحو ذلك.

2 -

لذا فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يخرج من المسجد من أجل ترجيل رأسه، وإنما يقربه من عائشة ترجله، وهي في بيتها، وهو في مسجده، لأنَّها حائض لا تدخل المسجد.

3 -

فيه دليل على أنَّ خروج بعض البدن لا يعتبر خروجًا ممنوعًا، بل لا يزال صاحبه في المسجد.

4 -

أنَّ لمس المرأة بدون شهوة لا يفسد الاعتكاف، وأنَّ ملامسة الحائض

(1) البخاري (2029)، مسلم (297).

ص: 578

للمعتكف وغيره جائزة، فبدنها طاهرٌ، وعرقها طاهرٌ، ولم ينجس إلَاّ مكان الحيض وهو الفرج.

5 -

أنَّ الاعتكاف لا يمنع من ترجيل الشعر وإصلاحه وغسله، وأنواع التنظيف في البدن والثياب.

6 -

أنَّ الحائض لا يجوز أن تمكث في المسجدة لئلا تلوثه، ولحدثها الأكبر، الذي لا يخففه الوضوء.

7 -

الإسلام موقفه من الحائض موقف الطهارة والنظافة، وموقف الاحترام والتقدير، فهو يعتبر مكان الحيض وهو الفرج أذًى وقذر، قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222].

لأنه نفس المخْرَج، ولقُربه من الأذى والنجس، ولهذا تنزه عن عمل النصارى الذين لا يتحاشون عن جماعها وهي حائض.

والإسلام يعتبر بدن الحائض طاهرًا نظيفًا، ويعتبر الحائض محترمة مكرمة، وبهذا يرفض شدة اليهود ومشقتهم التي ليس لها أساس، فالإسلام وسط، وخيار بين الملتين الشاطحتين.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في لمس الرجل المرأة بدون حائل، وبدون شهوة، هل ينقض الوضوء، أو لا؟

فذهب الإمام الشافعي وأتباعه إلى أنَّه ينقض؛ محتجين بقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاء} [النساء: 43]، فإنَّه حقيقة في المس.

وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنَّه: لا ينقض؛ محتجين بما في البخاري (485) ومسلم (793) عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يسجد، عمزني، فقبضت رِجلي"، وبما رواه مسلم (751) والنسائي (169) قالت: "فقدت النبي صلى الله عليه وسلم-

ص: 579

ذات ليلة، فجعلت أطلبه، فوقعت يدي على قدميه، وهما منصوبتان، وهو ساجد".

وممن ذهب إلى هذا القول: علقمة، وأبو عبيد، والنخعي، والحكم، والشعبي، وحماد، والثوري، وإسحاق، وأبو حنيفة، وأصحابه.

أما الاستدلال بالآية على النقص فغير ورادٍ.

قال ابن رشد في "بداية المجتهد": سبب اختلافهم في هذه المسألةُ اشتراك اسم المس في كلام العرب، فإنَّ العرب تطلقه على اللمس باليد مرةً، وتكني به عن الجماع مرةً، كما في قوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43].

وقد احتجَّ من أوجب الوضوء من اللمس باليد: بأنَّ اللمس حقيقةً يطلق على المس باليد، ويطلق على الجماع مجازًا، وأنَّه إذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يُحمل على الحقيقة، حتى يدل دليلٌ على المجاز.

ولكن لأولئك أن يقولوا: إنَّ المجاز إذا كثر استعماله، كان أدل على المجاز منه على الحقيقة، كالحال في اسم الغائط، الذي هو أدل على الحدث -الذي هو المجاز- منه على المطمئن من الأرض، الذي هو فيه حقيقة، والذي أعتقده أنَّ اللمس وإن كان دلالته على المعنبين بالسواء، أو قريبًا من السواء، أنه أظهر عندي في الجماع، وإن كان مجازًا؛ لأنَّ الله تعالى قد كنى عن المباشرة، والمس عن الجماع، وهما في معنى اللمس. اهـ.

قال الشيخ أحمد شاكر: وهذا الذي قاله ابن رشد تحقيق دقيق، وبحث واضح نفيس.

قلتُ: جاء في سنن أبي داود (153)، والترمذي (79)، وابن ماجه (495) من حديث عروة عن عائشة: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قبَّل امرأة من نسائه، وخرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ، وهو حديثٌ مشهورٌ، وبناءً عليه ذهب طائفةٌ من السلف والخلف إلى أنَّ القُبلة ونحوها -وإن كانت لشهوة- لا تنقض الوضوء.

ص: 580

وممن أخذ به علي، وابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن، ومسروق، وبه قال أبو حنيفة وهو رواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية.

والذين يرون القُبلة بشهوة ناقضة، حملوا الحديث على أنَّه تقبيل رحمةٍ ومودةٍ، لا شهوة، والله أعلم.

***

ص: 581

586 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ: "السُّنَّة عَلَى المُعْتكِفِ أَلَاّ يَعُودَ مَرِيْضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَهًّ، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخرُجَ لِحَاجَةٍ، إِلَاّ لِمَا لَابُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَاّ بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَاّ فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَا بَأْسَ بِرِجَالِهِ، إِلَاّ أنَّ الرَّاجِحَ وَقْفُ آخِرِهِ (1).

ــ

* درجة الحديث:

أصل الحديث في البخاري (2025)، ومسلم (1172) من حديث عائشة:"أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله".

زاد البيهقي: (8377) وقالت: "السنَّة للمعتكف ألا يعود مريضًا

" إلخ الحديث، وإسناده صحيح، وأخرج أبو داود هذه الزيادة بإسناد جيد على شرط مسلم.

* مفردات الحديث:

- السنة: يعني: الدين والشرع، فعائشة رضي الله عنها أرادت إضافة هذه الأمور إلى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، قولًا وفعلًا.

- يعود: عاد يعود عودًا، فهو عائد، جمعه: عُوَّد وعُوَّاد؛ أي: زار المريض، فزيارة المريض، تسمى عيادة.

- يشهد: شهد يشهد شهودًا؛ أي: حضر، والمراد بذلك: اتباع الجنازة حتى تدفن.

- جنازة: بفتح الجيم وكسرها، والكسر أفصح، وتخفيف النون، جمعه:

(1) أبو داود (2473).

ص: 582

جنائز، اسم للنعش عليه الميت.

- يمس: بفتح الياء، وتشديد السين، يقال: مس يمس مسًّا، من باب نصر: لمسه، وأفضى بيديه إلى جسمه بلا حائل.

ومس امرأته: جامعها، وهو المراد هنا.

- يباشر: يقال: باشر الرجل زوجه: لامس بشرتها بإلصاق بشرته ببشرتها، مأخوذة من البشرة، وهي ظاهر الجلد.

- لابد: أي: لا محيص، ولا معدل، ولا مناص، وليس لك من ذلك بُدٌّ، يريدون به الإطلاق على أي وجه كان، فـ"بُد" لا يعرف استعمالها إلَاّ مقرونةً بالنفي.

***

ص: 583

587 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ عَلَى المُعْتكِفِ صِيَامٌ، إِلَّا أن يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ أَيْضًا (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث موقوف.

قال المؤلف: الراجح وقفه على ابن عباس، قال البيهقي: التصحيح أنَّه مو قوف، ورَفْعه وَهْمٌ.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

تقدم أنَّ معنى الاعتكاف هو: قطع العلائق عن الخلائق، ومناجاة الخالق، فيجب على المعتكف ملازمة معتكفه، ولا يجوز له الخروج منه، إلَاّ لما لابد له منه، من مأكلٍ، ومشربٍ، وطهارةٍ، ونحو ذلك، فإن خرج بطل اعتكافه.

2 -

لا يجوز للمعتكف أن يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يزور قريبًا، ولا يخرج لأية قُربة لا تتعيَّن عليه، وذلك بإجماع العلماء.

3 -

قال أصحابنا: إذا شرط في ابتداء الاعتكاف الخروج إلى مثل هذه القرب من عيادة المريض، وشهود الجنازة، ونحو ذلك، فله شرطه، وهو مروي عن جماعة من الصحابة، ولأنَّ الاشتراط يصير المشتَرط كالمستثنى، قال ابن هبيرة: وهو التصحيح عندي، قال إبراهيم النَّخعي: كانوا يستحبون للمعتكف هذه الخصال، وجزم بذلك الموفق، وهو المشهور من المذهب.

(1) الدارقطني (2/ 199)، الحاكم (1603).

ص: 584

4 -

يدل الحديث على أنَّه يشترط أن يكون الاعتكاف في مسجد تصلى فيه الجماعة، ولقوله تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].

5 -

قوله: "ولا اعتكاف إلَاّ بصوم" هذا دليل الحنفية والمالكية، أما جمهور العلماء والمشهور عن الإمام الشافعي، والإمام أحمد-: فلا يشترط الصوم، وقد تقدم دليله، وهذا الحديث الموقوف لا يعارض ما تقدّم من الأدلة من عدم اشتراط الصوم.

6 -

الحديث رقم (587): صريح بعدم اشتراط الصوم، وهو مؤيد للأدلة السابقة.

7 -

إذا نذر المسلم الصوم مع الاعتكاف، وجب الوفاء من أجل النذر، لا من أجل لزوم الصوم مع الاعتكاف، فمن نذر أن يطيع الله فليُطعه.

8 -

قال العلماء: يستحب اشتغال المعتكف بالقُرب؛ من صلاةٍ، وقراءةٍ، وذكرٍ، وصدقةٍ، وصيامٍ، وليس له ذكرٌ مخصوص، ولا فعلٌ، سوى اللبث في المسجد، وأفضل الذكر تلاوة القران بتدبر، فهذا لا يعدله شيء.

9 -

الاعتكاف حبس النفس، وجمع الهمة على نفوذ البصيرة في تدبر القرآن، ومعاني التسبيح، والتحميد، والتهليل، وذكر الله.

10 -

وعلى المعتكف اجتناب ما لا يعنيه من جدال، ومراء، وكثرة كلام؛ لأنَّه مكروه لقوله صلى الله عليه وسلم:"من حُسنِ إسلام المرءِ تركه ما لا يعنيه"[رواه الترمذي (42239)].

* ليلة القدر وفضلها:

القدر: ينطق بفتح القاف والدال لا غير، بمعنى: قضاء الله في خلقه من آجال وأرزاق، وغير ذلك.

ويُنطق بفتح القاف والدال وسكونها، وهذا معناه: الشرف والحرمة، وكِلا المعنبين حاصلان في ليلة القدر، فهي جليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا

ص: 585

أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} [القدر] وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3].

وهي ليلة تُقدَّر فيها الأشياء، وتقضي فيها الأمور التي ستكون في السنة، قال تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان: 4، 5].

ففيها يفصل الأمر المقدر من اللوح المحفوظ إلى الكتبة، في كل ما هو كائن من أمر الله تعالى في تلك السنة، من الأرزاق، والآجال، والخير، والشر، وغير ذلك، من كل أمر حكيم، أحكمه الله وأتقنه.

قال الطيبي: إنما جاء "القدر" بسكون الدال، وإن كان الشائع بالفتح، ليعلم أنَّه لم يرد به ذلك، فإنَّ القضاء قديم، وإنما أريد به ما جرى به القضاء وتببينه وتجديده في المدة التي بعدها إلى مثلها من القابل؛ ليحصل ما يلقى إليهم فيها مقدارًا بمقدار.

فهي ليلة عظيمة شريفة جليلة عند الله تعالى، لها مزايا عظيمة، نلخص فيما يلي بعضها:

أولًا: يُنزل الله تعالى فيها الملائكة من السماء إلى الأرض، وينزلون ومعهم الخير والبركة والرّحمة والأمان، ويتقدمهم الروح الأمين: جبريل عليه السلام.

ثانيًا: ابتدأ في هذه الليلة الشريفة نزول القرآن، الذي هو أعظم منَّة ورحمة على المسلمين.

ثالثًا: يحل فيها السلام والأمان، من أول تلك الليلة المباركة حتى الصباح، قال تعالى:{سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [القدر].

رابعًا: تُقدَّر فيها الأمور للعام القابل، فتُفْصل تلك الأمور من الآجال، والأرزاق، والحوادث، وغير ذلك، تُفصل من اللوح المحفوظ، وتتلقاها الملائكة الكتبة، ليجري تنفيذها بأمر الله تعالى قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ

ص: 586

حَكِيمٍ (4)} [الدخان].

خامسًا: العبادة فيها خير من ألف شهر فيما سواها من الأوقات، قال تعالى:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} .

سادسًا: جاء في البخاري (2014) ومسلم (760)؛ أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلة القدر؛ إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه"

سابعًا: الدعاء فيها مستجاب، فقد روى الترمذي (2435) عن عائشة أنَّها قالت:"قُلتُ: يا رسول الله، أرَأيتَ إنَّ علمتُ أيَّ ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللَّهمَّ إنَّك عفوٌ تُحب العفو فاعف عنِّي".

وستأتي بقية أحكامها إن شاء الله تعالى.

***

ص: 587

588 -

وَعَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَنَّ رِجَالًا مِنْ أصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي المَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحرِّيهَا، فَلْيَتَحرَّهَا فِي السَّبع الأَوَاخِرِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أُروا: أصلها: "أريوا" من: الرؤيا؛ أي: خيل لهم في المنام.

- ليلة القدر: بفتح الدال وسكونها، سمِّيت بذلك؛ لعظم قدرها وشرفها، أو لأنَّ الأمور تقدر فيها، من الآجال والأرزاق، وحوادث العام كلها فيها، كما قال تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} .

- رؤياكم: الرؤيا على وزن: فُعلى، كحبلى، فيقال: رأى رؤيا بلا تنوين، وجمعها: رؤًى بالتنوين، والمراد بها: الرؤيا المنامية.

- تواطأت: بتاء ثم واو ثم طاء ثم ألف مهموزة ثم تاء، قال تعالى:{لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37].

فأصله أن يطا الرجل برجله مكان وطء من قبله، فنقلت إلى هنا بجامع موافقة رؤيا الرجل لرؤيا الآخر، فتواطأت؛ أي: توافقت لفظًا ومعنًى.

- فليتحرَّها: التحري هو: القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

كان الصحابة رضي الله عنهم من حرصهم على الخير ورغبتهم فيما عند

(1) البخاري (2015)، مسلم (1165).

ص: 588

الله يتحرون ليلة القدر، ويلحون بالسؤال عنها؛ لِما في هذه اللَّيلة من المزايا العظيمة، وما يتنزَّل فيها من الخيرات والبركات، وما يحل فيها من الرحمة، والنعمة، والأمن، والأمان، والسلام.

2 -

كان بعض الصحابة يرون ليلة القدر: إما بعلامتها وأماراتها، وإما يرونها منامًا، قال الشيخ تقي الدين: وقد يكشف الله لبعض الناس في المنام، أو اليقظة، فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له: هذه ليلة القدر، فقد رآها بعض الصحابة، فجاءوا وأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بما رأوا، فقال صلى الله عليه وسلم:"أَرى" -بفتح الهمزة بمعنى: أعلم- "رؤياكم قد تواطأت" أي: توافقت على وقت متقارب، وهو "في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر".

3 -

السبع الأواخر من شهر رمضان هي أرجى ما تكون تلك الليلة.

4 -

فضل ليلة القدر وشرفها، وما جعل الله تعالى فيها من الخير والبركة، حتى صارت العبادة فيها خيرًا من ألف شهر، مما سواها من الأيام والليالي.

5 -

أنَّ الله تعالى من رحمته بخلقه، وحكمته بأمره، أخفى هذه الليلة، ليجدَّ المسلمون في العبادة في تلك الليالي، فيكثر ثوابهم، ولو علموا بها في ليلة معيَّنة، لقَصَروا اجتهادهم عليها، إلَاّ من شاء الله تعالى.

6 -

استحباب طلبها والتعرض فيها لنفحات الله تعالى، فهي ليلة مباركة تضاعف فيها الأعمال، ويستجاب فيها الدعاء، ويسمع فيها النداء، وتقال فيها العثرات، فالمحروم من حُرِمَ خيرها، وحرم التماس خيرها، والله الموفق.

***

ص: 589

589 -

وَعنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما "عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ: لَيْلَةُ سَبع وَعِشْرِيْنَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (1)، والرَّاجِحُ وَقْفُهُ، وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِيْنِهَا عَلى أَرْبَعِينَ قَوْلًا، أَوْرَدْتُهَا فِي "فَتْحِ البَارِي".

ــ

* درجة الحديث:

الحديث موقوف.

وله حكم الرفع، قال الحافظ: رواه أبو داود مرفوعًا، وسكت عنه هو والمنذري، وصححه النووي في "المجموع"، والراجح وقفه على معاوية، وله حكم الرفع، لأنَّه لا يقال بالرأي، وإنما يتلقى بالسماع.

* مفردات الحديث:

- في ليلة القدر: القدر مصدر، من قولهم: قدَّر الله الشي قدرًا وَقدْرًا لغتان، وقدره تقديرًا بمعنًى واحدٍ، ومعنى ليلة القدر: ليلة تقدير الأمور وقضائها فيها، وقيل سميت بذلك؛ لعظمها وشرفها.

قال الأزهري: هي ليلة العظمة والشرف، ومنه قول الناس: لفلان عند الأمير قدْرَ؛ أي: جاه ومنزلة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على أنَّ ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، فقد سيق مساق الجزم والحتم.

2 -

المؤلف ابن حجر ذكر فيها في "فتح الباري" أربعين قولًا، ويمكن تصنيف

(1) أبو داود (1386).

ص: 590

هذه الأقوال إلى أربع فئات:

الأولى: مرفوضة، كالقول بإنكارها في أصلها، أو رفعها.

الثانية: ضعيفة، كالقول بأنَّها ليلة النصف من شعبان.

الثالثة: مرجوحة، كالقول بأنَّها في رمضان في غير العشر الأخير منه.

الرابعة: هي الراجحة، وهي كونها في العشر الأخير من شهر رمضان وأرجاها أوتارها، وأرجح الأوتار ليلة سبع وعشرين.

وهذه الأدلة تؤيدها:

أولًا: ما أخرجه الإمام أحمد (4577) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان متحريها، فليتحرها ليلة سبع وعشرين"، وللحديث شواهد.

ثانيًا: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، المحدث المُلْهم"، وحذيفة ابن اليمان "أمين السر النبوي"، وغيرهما من الصحابة لا يشكون أنَّها ليلة سبع وعشرين.

ثالثًا: ما رواه مسلم (1999) عن شيخ القرَّاء أُبي بن كعب، أنَّه كان يحلف أنَّها ليلة سبع وعشرين.

رابعًا: كونها ليلة سبع وعشرين، هو مذهب واختيار إمام أهل السنة الإمام أحمد، وأصحابه من فقهاء المحدثين؛ كإسحاق بن راهويه.

خامسًا: قال ابن رجب رحمه الله: ومما استدل به من رجَّح أنَّها ليلة سبع وعشرين الآيات والعلامات، التي رؤيت فيها قديمًا وحديثًا.

سادسًا: هذا الشعور العام الجماعي عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعبر قرونها الطويلة أنَّها هذه الليلة، وإقبالهم على العبادة والاجتهاد فيها، ولا تجتمع أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم على ضلالة.

***

ص: 591

590 -

وَعَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيْهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي". رَوَاهُ الخَمْسَةُ غَيرَ أَبِي دَاوُدَ، وَصحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال المؤلِّف: صححَّه الترمذي والحاكم، ووافقه الذَّهبي.

وقال الشيخ صديق بن حسن في "نزل الأبرار": رويناه بالأسانيد الصحيحة في كتب الترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيتَ إن علمت ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قُولِي: اللَّهمَّ إنك عفو تحب العفو، فاعف عنِّي"، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أُم المؤمنين رضي الله عنها من حرصها على أفضل الدعاء في تلك الليلة، التي علمت أنَّ الدعاء مستجاب فيها، وأنَّ النِّداء مسموع فيها، تسترشد من النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل دعاء تقوله في ليلة القدر إن علمت، فأخبرها صلى الله عليه وسلم بأحسن وأفضل ما تقول.

2 -

هذا الدعاء سأله عنه صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه، وأرشده إليه بطريق إعطاء النصح

(1) أحمد (24215)، الترمذي (3513)، النسائي في الكبرى (7712)، ابن ماجه (3850)، الحاكم (1942).

ص: 592

في المشورة.

والذي اختاره هو أعلم الناس بمعناه، فيكون لهذا الدعاء مزايا القبول كلها.

3 -

الدعاء المذكور هو أفضل مسؤول من الله تعالى، فعفو الله عن عباده معناه الصفح عن الذنوب، ومحو السيئات، وترك المجازاة عن الهفوات الكبيرة والصغيرة، وليس بعد هذا إلَاّ الرضا عن المعفو عنه، وإحلاله دار كرامته، وهذا هو غاية المطلوب.

4 -

هذا الدعاء جَمَع آداب الدعاء، فقد ابتدىء بلفظ:"اللهمَّ"، وهي عوض عن "يا الله"، فالميم بدل من الياء.

وأصح الأقوال: أنَّ لفظ "الله" هو الاسم الأعظم، الذي إذا دُعِي الله به أجاب؛ لتضمنه معنى الإلهية والعبادة.

ثم إنَّ جملة "إنَّك عفو" فيها تأكيدات لإثبات صفة العفو لله تعالى.

"تحب العفو" فيه إثبات محبته اللائقة بجلال الله تعالى للعفو عن المستعين.

"فاعفُ عني" فيه إثبات حكم العفو، ومقتضاه لله تعالى.

ففي هذه الجمل التوسل إِلى الله بصفته المناسبة للمطلوب، ومحبته للعفو، وقربه منه بأن يعفو عن الداعي، فإذا صادف هذا الاسترحام والتذلل من قلب خاشعٍ، وفي ليلةٍ مباركةٍ، ومن عبدٍ مخلصٍ منيبٍ، فهو حري ألَّا يُرد، وأن يستجاب لصاحبه؛ لأنَّ قبول الدعاء له أسباب وآداب، هذه من أهمها.

5 -

من فقه عائشة رضي الله عنها أنَّها اختارت لهذا الوقت الفاضل الدعاء بأفضل مطلوب، حتى إذا حصلت الإجابة، وإذا الهبة والعطية جزلة.

6 -

وللنسائي من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "سلوا الله العفو،

ص: 593

والعافية، والمعافاة الدائمة، فما أوتي أحد بعد يقين خيرًا من معافاة".

قال في "الروض وحاشيته": فالشر الماضي يزول بالعفو، والحاضر بالعافية، والمستقبل بالمعافاة؛ لتضمنها دوام العافية، فهذا من أجمع الدعاء.

وينبغي الإكثار في ليلة القدر من الدعاء والاستغفار؛ لأنَّ الدعاء فيها مستجاب، ويذكر حاجته في دعائه، الذي يدعو به تلك الليلة.

***

ص: 594

591 -

عَنْ أَبِي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُشَدُ الرِّحَالُ إلَاّ إلى ثَلَاثَةِ مسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- لا تشد الرحال إلَاّ إلى ثلاثة مساجد: "تُشد" بضم الدال المهملة على أنَّ "لا" نافية، ويروى بسكونها على أنَّها ناهية، وهو مبني للمجهول، جاء بلفظ النفي بمعنى النَّهي؛ بمعنى: لا تشدوا الرحال، ونكتة العدول عن النَّهي إلى النفي حمل السامع على ترك الفعل، فيكون أبلغ بألطف وجه.

قال الطبري: النَّفْي أبلغ من صريح النَّهي، كأنه لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلَاّ هذه البقاع، لاختصاصها بما اختصَّت به.

- الرحال: جمع "رحل"، وهو للبعير كالسرج للفرس، وشده كناية عن السفر؛ لأنَّه يلازمه غالبًا، وهذا من باب الحصر عند علماء البلاغة، ومن أدواته عندهم النفي والاستثناء كهذا الحديث، فإنَّه أفاد تخصيص جواز السفر إلى المساجد الثلاثة دون غيرها من البقاع.

- المسجد الحرام: أي: المحرَّم، وفي إعراب المسجد الحرام وجهان:

الأوّل: الجر على أنَّه بدل من الثلاثة.

الثاني: الرفع على الاستئناف.

- ومسجدي هذا: اسم الإشارة للتعظيم، ومن أجل الإشارة خصَّ النووي مضاعفة الثواب في المسجد الذي على عهده صلى الله عليه وسلم، والذين يغلبون الاسم

(1) البخاري (1197)، مسلم (827).

ص: 595

عمَّموا المضاعفة لكل الزيادات التي ألحقت به.

- المسجد الأقصى: بإضافة الموصوف إلى الصفة، وهو جائز عند الكوفبين، وقول عند البصربين بإضمار المكان، وسمِّي "الأقصى" لبعده عن المسجد الحرام في المسافة.

وقال الزمخشري: سمي: أقصى؛ لأنَّه لم يكن حينئذٍ وراءه مسجد، وقيل غير ذلك.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

ساق المؤلِّف -رحمه الله تعالى- هذا الحديث ليبيِّن للقارىء أنَّه لا يصح أن يقصد بالزيارة، وشد الرحال، والسفر إلَاّ هذه المساجد الثلاثة، فهذه المساجد الثلاثة لها مزايا وخصائص، ليست لغيرها من البقاع:

أولًا: مضاعفة ثواب الأعمال فيها؛ فقد روى الطبراني في "الأوسط"(7008) عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة"، قال ابن عبد البر: إسناده حسن، كما روى مسلم من حديث أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلَاّ المسجد الحرام".

ثانيًا: أنَّ هذه المساجد الثلاثة بناها أنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالكعبة المشرفة بناها إبراهيم وإسماعيل، والمسجد الأقصى بناها يعقوب، ومسجد المدينة بناه النَّبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه المزية لا يلحقها غيرها من المساجد والبقاع، فالمكي قبلة الناس، وإليه حجهم، والمدني أُسِّس على التقوى، والأقصى قبلة الأنبياء السابقين، وأُولى قبلتي المسلمين.

2 -

بيَّن هذا الحديث الشريف أنَّ السفر لا يُنشأ لأية بقعة من بقاع الأرض، إلَاّ لهذه المساجد الثّلاثة، كما في حديث الباب؛ لما لها من المزية على غيرها، ولورود شرع الله تعالى بالإذن بشد الرحال إليها.

ص: 596

3 -

مفهوم الحديث أنَّ غيرها من البقاع لا يجوز شد الرحل إليه للعبادة، والسفر إليه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قصر ذلك على هذه المساجد، وأعظم ما يكون، وأشده فتنة هو شد الرحال والسفر إلى القبور، سواء كانت قبور الأنبياء، أو صالحين، أو غيرها، فإنَّ شدَّ الرحل إليها غلو في أصحابها، ووسيلة قريبة إلى الفتنة التي قد تصل إلى عبادة أهلها ودعائهم من دون الله.

4 -

ما زيد في هذه المساجد الثلاثة، فهو تابع لها بالمضاعفة، وحصول الثواب الأصلي منها.

5 -

قال في "الفروع": ظاهر كلام أصحاب الإمام أحمد، في المسجد الحرام أنَّه نفس المسجد، ومع هذا فالحرم أفضل من الحل، فالصلاة فيه أفضل، وذكر القاضي وغيره: مرادهم في التسمية لا في الأحكام، وقد يتوجه من هذا حصول المضاعفة في الحرم كنفس المسجد، وجزم به صاحب "الهدي" من أصحابنا.

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: إنَّ المضاعفة والثواب تعم الحرم كله، وهو ما أدخلت الأميال.

وذكر ابن الجوزي: أنَّ الإسراءِ كان من بيت أم هانىء عند أكثر المفسرين، فعلى هذا المعنى فالمراد بالمسجد: الحرم كله.

انتهى الجزء الثالث

ويليه الجزء الرابع

وأوله

(كتاب الحج)

ص: 597