الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قسم الصدقات
532 -
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَاّ لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أوْ غَارِمٍ، أوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، أوْ مِسْكِيْنٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَأُعِلَّ بِالإرْسَالِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الراجح أنَّه موصول صحيح.
رواه أحمد، وأبو داود وسكت عنه هو والمنذري، وابن ماجه، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصحَّحه ابن خزيمة، وقد اختلف المحدثون في وصله وإرساله، وقد أشار أبو داود والبيهقي إلى ترجيح إرساله.
وجزم الحاكم بوصله؛ حيث قال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذَّهبي، والراجح وصله كما قال ابن عبد البر.
وقال الحافظ: قد صححه جماعة موصولاً، والوصل زيادة بيقين، فتعين الأخذ بها.
(1) أحمد (10838)، أبو داود (1636)، ابن ماجه (1841)، الحاكم (1480).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الأصل في تقسيم الزكاة -وهي المرادة هنا- أنَّها للأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى، وحصر الاستحقاق فيهم في الآية الكريمة، وهي قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا. . .} الآية [التوبة: 60].
2 -
قد ذكر في هذا الحديث من هؤلاء الأصناف الثمانية ثلاثة أصناف: وهم: العامل عليها، والغارم، والغازي في سبيل الله.
3 -
فأما العامل: فهو كل من له عمل في تحصيل الزكاة، من جابٍ، أو كاتب، أو حافظٍ، أو راعٍ، أو حاملٍ، أو غير ذلك.
4 -
وأما الغارم: فنوعان: أحدهما: الغارم لإصلاح ذات البين؛ وذلك بأن يكون بينٍ طائفتين من الناس شر وفتنة، فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم، ويلتزم في ذمته مالاً لإطفاء الفتنة، فكان من المعروف حمْله عنه من الصدقة؛ لئلا تجحف هذه الغرامات بسادات القوم المصلحين، أو يوهِن ذلك من عزائمهم.
والنوع الثاني: الغارم لنفسه ممن أصابت ماله جائحة، أو لحقته الديون، ولو من مصرف محرم، إلا أنَّه تاب منه، فهذا هو القسم الثاني، من الغارمين الذي توفى ديونهم من الزكاة.
5 -
وأما الغازي في سبيل الله: فإنَّه يُعْطَى من الزكاة ما يكفيه في غزوته ذهابًا وإيابًا، هذا إذا لم يكن له شيء معروف في بيت المال أصلاً، أو له ولكن دون كفايته، فهؤلاء الأصناف الثلاثة يُعْطَون من الزكاة، ولو كانوا أغنياء.
6 -
الغزاة في سبيل الله هم المجاهدون المتطوعون، الذين لا ديوان لهم، فسبيل الله عند الإطلاق هو الغزو، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]، وسياتي أنَّ "سبيل الله" أوسع في المعنى من
هذا، والآيات والأحاديث كثيرة، وإنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد؛ لأنَّه السبيل الذي يقاتل فيه على الدين، ولا خلاف في استحقاقهم، وبقاء حكمهم في الديوان إذا كانوا متطوعة.
7 -
قرَّر المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي دخول الدعوة إلى الله تعالى، وما يعين عليها، ويدعم أعمالها، دخول ذلك كله في معنى "وفي سبيل الله" في الآية الكريمة.
وقال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: وهناك أمر هام يصح أن يصرف فيه من الزكاة، وهو إعداد قوة مالية للدعوة إلى الله، ولكشف الشُّبه عن الدين، وهذا يدخل في الجهاد، وهذا من أعظم سبُلُ الله.
8 -
أما المرافق العامة: فقال الوزير وغيره: اتَّفق الأئمة على أنَّه لا يجوز دفع الزكاة في بناء المساجد، والقناطر، وتكفين موتى ونحوه ة لتعيين الزكاة لما عينت له.
9 -
يدل الحديث على أنَّ المسألة لا تحل لغني إلَاّ لهؤلاء الخمسة، وهم: الغارم لإصلاح ذات البين، والعامل في الصدقة، والغازي في سبيل الله تعالى، والغني الذي اشتراها بماله، وكذلك الغني الذي أهدى إليه الفقير منها، فهؤلاء الخمسة لهم أخذها، ولو كانوا أغنياء.
فأما الثلاثة الذين هم: الغارمون لإصلاح ذات البين، والعاملون عليها، والغزاة المجاهدون في سبيل الله -فهم من أصناف أهل الزكاة الثمانية، وأما المشتري لها والمهدى إليه منها، فليس من أهلها، وإنما ملكاها من الفقير الذي استحقها، وأعطى منها، وإذا أعطي من الزكاة ملكها، فله حق التصرف فيها بالبيع والنفقة وغيرها.
وقصة بريرة ولحمها الذي تصُدِّقَ علَيها به، صريحة في هذه المسألة.
* فوائد:
الأولى: بقية أهل الزكاة الثمانية هم:
1 -
الفقير: وعرفه الفقهاء: بأنَّه الذي لا يجد إلَاّ نصف كفاية عامه فأقل مع من يعول.
2 -
المسكين: وعرفه الفقهاء: بأنَّه الذي يجد نصف الكفاية فأكثر، ولا يصل إلى الكفاية التامة لعامه.
فالفقير حينئذٍ أشد حاجة من المسكين، فيعطى كل من الفقير والمسكين كفايتهما أو تتمتها للعام، أما إذا ذُكِرَ المسكين وحده، شمل الفقير، وإذا ذكر الفقير وحده شمل المسكين، وإذا ذكرا جميعًا فما تقدم هو الفرق بينهما.
وتقدم أنَّ الفقير هو من لا يجد نصف كفايته في مدة سنة، ومن ملك نصاب زكاة يسمى: غنيًّا، والنصاب قد يكون خمْسًا من الإبل لا تقوم بكفايته وكفاية من يمونه، فكيف نصف الشخص الواحد بالغنى والفقر، واللفظان متقابلان في المعنى فهذا غير هذا؟
والجواب: أنَّه لا مانع أن يجتمع في الشخص الواحد وصفان متقابلان، فقد يجمع بين الفسق والطاعة، وبين النفاق العملي والإيمان، وإذا علمنا أنَّ مراد الشارع هو: دفع حاجة المعطى علمنا أنَّه قد يكون عند الشخص النصاب الذي يزكيه، ولكنه لا يكفيه، ويكفي من يمونه لو أنفقه، فهو من حيث سد حاجته فقير، ومن حيث عنده نصاب زكوي غني.
3 -
المؤلفة قلوبهم وهم: السادة المطاعون في قومهم ممن يرجى إسلامه، أو يرجى كف شره بإعطائه، فيعطى ما يحصل به التأليف.
4 -
المكاتب: وهو الرقيق الذي اشترى نفسه من سيده، فيُعطى ما يوفى به دين كتابته، ويعتق به نفسه.
5 -
الغارم لنفسه: وهو من لَحِقه دين من أجل معاملة، وأعمال مباحة، أو
محرَّمة وتاب منها، فيعطى مع فقره ما يوفي به دينه.
6 -
ابن السبيل: وهو المسافر الذي انقطعت به النفقة في غير بلده في سفر مباح، أو محرَّم وتاب منه، فيعطى ما يوصله إلى بلده، ولو وجد مقرضًا، أو كان غنيًا في بلده.
الثانية: لا يجوز صرف الزكاة في غير الأقسام الثمانية المنصوص عليهم في الآية الكريمة.
قال في "الشرح الكبير": لا نعلم خلافًا في ذلك.
الثالثة: يجوز صرفها إلى صنف واحد من الأصناف الثمانية، ولو مع وجود غيره، وهو مذهب الأئمة الثلاثة.
أما الشافعي: فيوجب استيعاب الأصناف الثمانية مع القدرة.
قال ابن رشد: وسبب اختلافهم معارضة اللفظ للمعنى، فإنَّ اللفظ يقتضي القسمة بين جميعهم.
وأما المعنى: فيقتضي أن يؤثر بها أهل الحاجة؛ إذ كان المقصود بها سد الخُلة، فكان تعديدهم عند هؤلاء في الآية إنما ورد تمييزًا للجنس، أعني: أهل الصدقات لا تشريكهم في الصدقة، فالأول أظهر من جهة اللفظ، والثاني أظهر من جهة المعنى.
الرابعة: قال شيخ الإسلام: لا ينبغي إعطاء الزكاة من لا يستعين بها على طاعة الله تعالى؛ فإنَّ الله فرضها معونة على طاعته، فمن لم يُصَلِّ من أهل الحاجات لا يعطى منها حتى يتوب، ويلتزم أداء الصلاة.
أما من أظهر بدعة أو فجورًا، فإنَّه يستحق العقوبة، فكيف يُعان على ذلك؟!.
الخامسة: لفظ "إنما" المفيدة للحصر جاءت لإثبات ما بعدها، ونفي ما سواه، والمعنى: ليست الصدقة لغير هؤلاء، فهي لهم، ولا تحل لغيرهم،
وإنما سمى الله الأصناف الثمانية؛ إعلامًا منه أنَّ الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها، لا إيجاب قسمتها بين الأصناف الثمانية، والصواب أنَّ الله جعل الصدقة في معنيين:
أحدهما: سد خلة المسلمين.
الثاني: معونة الإسلام وتقويته.
السادسة: قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي: أهل الزكاة قسمان:
أحدهما: يأخذ الزكاة بسبب يستقر الأخذ به، وهو الفقر والمسكنة والعمالة والتأليف، فمن أخذ شيئًا بذلك مَلَكه، وصرفه فيما يشاء، كسائر أمواله، والآية الكريمة عبرت عن هؤلاء، "باللام" المفيدة للملك.
الثاني: يأخذ الزكاة بسبب لا يستقر به الملك، وهي الكتابة، والغرم، والغزو، وابن السبيل، ومن أخذها من هؤلاء، صرفه في الجهة التي استحقَّ الأخذ بها، وإلَاّ استُرجع منه، والآية عبرت عن هؤلاء بـ"في" التي لا تفيد الملك، وإنما تفيد أن ينفق مما أخذ بقدر حاجته، ويعيد ما زاد عنها.
السابعة: لا يجوز دفع الزكاة إلى عمودي نَسَبهِ، وهم أصوله وفروعه؛ سواء كانوا مِن قِبل الآباء أو الأمهات، وسواء كانوا من قبل البَنين أو البنات، الوارث منهم، وغير الوارث سواء، ما لم يكونوا عمالاً، أَو مؤلفين، أو غزاة، أو غارمين لإصلاح البين، فإنَّه يجزىء دفعها إليهم؛ لأنَّهم يأخذون للمصلحة العامة فأشبهوا الأجانب.
أما بقية أقارب المزكي: فمن ورَثهم المزكي فلا يدفع إليهم زكاته، ومن لم يرثهم فيجوز أن يدفع زكاته إليهم، والفرق بين من يرثهم وبين من لا يرثهم، أنَّ من يرثهم تجب عليه نفقتهم، فإذا دفع إليهم زكاته وفَّر على نفسه النفقة، وأما من لا يرثهم فلا تجب عليه نفقتهم، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
أما الرواية الأخرى: فإنَّه يجوز دفعها إليهم، نقل هذه الرواية الجماعة عن الإمام أحمد، قال في "المغني" و"الشرح الكبير": هي الأظهر، واختارها شيخ الإسلام، فعلى هذه الرواية لو دفع زكاته إلى قريبه، فاستغنى بها، لم تلزمه نفقته لاستغنائه بها.
الثامنة: قال ابن القيم: من الحيل الباطلة دفع زكاته إلى غريمه المفلس؛ ليطالبه بالوفاء، فإذا وفاه برىء، وسقطت الزكاة عن الدافع.
قال: وهذه الحيلة باطلة محرَّمة؛ سواء شرط عليه الوفاء، أو ملكه إيَّاه بنية أن يستوفيه عن دينه، فكل هذا لا يسقط عنه الزكاة، ولا يعد مخرجًا لها، لا شرعًا ولا عرفًا، كما لو أسقط دينه وحَسبه من الزكاة.
التاسعة: جاء في البخاري (2809)، ومسلم (1625)؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر:"لا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك، ولا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم؛ فإنَّ العائد في صدقته كالعائد في قيئه".
لذا حرم جمهور العلماء العود فيها، وفساد البيع في شرائها.
قال ابن القيم: الصواب المنع من شرائها؛ فإنَّ في تجويز ذلك ذريعة إلى التحيل على الفقير، بأن يدفع له صدقة ماله، ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها.
فمن محاسن الشريعة سد هذه الذريعة، فإن رجعت بإرث ونحوه جاز تملكها، لما روى مسلم (1149): أنَّ امرأةً قالتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنتُ تصدقت على أمي بوليدة، وإنها ماتت وتركتها، فقال صلى الله عليه وسلم:"وجب أجرك، ورجعت إليك في الميراث".
العاشرة: قال الشيخ: الذي عليه دين لا يعطيه ليستوفى دينه.
وقال في إسقاط الدين عن المعسر: أما عن زكاة العين فلا يجزىء بلا نزاع، وأما قدر زكاة دينه، ففيه قولان: أظهرهما الجواز؛ لأنَّ الزكاة دين، وهنا قد أخرج من جنس ما يملك، بخلاف ما إذا كان ماله عينًا، وأخرج دينًا.
الحادية عشرة: ولا يجوز دفع زكاته إلى أقاربه الذين تلزمه نفقتهم، ممن يرثه بفرض أو تعصيب؛ هذا هو المشهور من المذهب. وقدَّم في "الفروع" أنَّه يجوز دفعها إلى غير عمودي نسبه ممن يرثه بفرض أو تعصيب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "والصدقة على ذي الرحم صدقة وصلة، [رواه أحمد (15644)، فلم يفرق بين الوارث وغيره، وقد تقدم قريبًا.
الثانية عشرة: قال بعض العلماء: في المال حقوق سوى الزكاة نحو:
- مواساة قرابة.
- صلة إخوان.
- إعطاء سائل.
- إعارة محتاج، وهو قول جماعة من أهل العلم.
قال شيخ الإسلام: إعطاء السائل فرض كفاية إن صدق.
الثالثة عشرة: قال القرطبي: اتَّفق العلماء على أنَّه إذا نزل بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنَّه يجب صرف المال إليها.
وقال في "الإقناع": ليس في المال حقٌّ واجبٌ سوى الزكاة عند الأئمة الأربعة، ما جاء غير ذلك حمل على الندب ومكارم الأخلاق، هذا في الراتب، دون ما يعرض كجائعٍ، وعارٍ، ونحوه، فهو واجب إجماعًا عند وجود سببه.
***
533 -
وَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الخِيَّارِ رضي الله عنه: "أنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثَاهُ؛ أنَّهُمَا أتيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلَانهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقلَّبَ فِيْهِمَا النَّظَرَ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمَا أعْطَيْتكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيْهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَوَّاهُ أَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال في "التلخيص": رواه الشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني (2/ 119)، حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار.
قال الإمام أحمد: ما أجوده من حديث، والحديث له شواهد منها:
1 -
حديث أبي هريرة، رواه أحمد (8553)، والنسائي (2597)، وابن ماجه (1839)، وابن حبَّان (3393)، والحاكم (1477).
2 -
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رواه أبو داود (1626)، والترمذي (652)، والحاكم (1478) بسند حسن.
قال ابن عبد الهادي: حديث صحيح، ورواته ثقات.
* مفردات الحديث:
- قلب فيهما النظر: "قلَّب" بتشديد اللام للمبالغة؛ أي: صعَّد بصره فيهما، يرفعه ويخفضه، يتأمل فيهما، وتفسيره جاء بالرواية الأخرى:"فرفع فيهما البصر، وخفضه".
(1) أحمد (17291)، أبو داود (1633)، النسائي (2598).
- جَلْدَيْنِ: تثنية "جَلْد" بإسكان اللام في المفرد والمثنى؛ أي: قويين شديدين.
- لاحظ فيها: الحظ: النصيب، والجمع: حظوظ، أي: لا نصيب في الزكاة للغني بماله، أو بكسبه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على تحريم أخذ الزكاة للغني، والغني يختلف باختلاف الزمان والمكان، فلا يمكن تحديده بقدر معلوم من المال.
وإنما الغني هو الذي يجد كفاف عيشه، وعيش من يعولهم طول العام، إما من رصيد مال موجود، أو صنعة دارَّة، أو تجارة دائرة، أو عمل بدني يكفيه ونحو ذلك، فإذا لم يوجد لديه مال موجود، ولا دخل كافٍ -فهو من الفقراء أو المساكين الذين تحل لهم الزكاة.
2 -
أنَّ أخذ الزكاة لا يحل للقوي المكتسِب، فإنَّه غني بقوة كسبه، فلو كان قويًّا، لكنه غير عارف بالعمل، وهو ما يسمى الأخرق، أو كان قويًّا على العمل قادرًا عليه عارفًا به، وللكن ليس في البلاد عمل؛ لتفشى البطالة فيها -فإنَّ هذا يعطى من الزكاة.
3 -
المزكي يجب عليه التحري والتحقق ممن يطلب أخذ الزكاة، فمن ظاهره الغنى ينصحه، ويخبره بأنَّ أخذها مع الغنى والقوة على الكسب لا يجوز، فإن أصرَّ على حاجته، فالإنسان مأمون على سريرته، فيعطى منها، والتحري على حال السائل حال الاشتباه في غناه، أما مع العلم بحاله، وبيان مظهره فلا حاجة إلى ذلك.
4 -
الذي يظهر لي من قوله: "إن شئتما أعطيتكما"، أن مراده صلى الله عليه وسلم أن يقول: إن شئتما أعطيتكما من الزكاة اعتمادًا على تصديقي لكما، بحسب إخباركما عن حاجتكما، ولكن عطائي لكما على هذه الصفة لا يبيح لكما الزكاة، وأنتما جَلْدان قادران على العمل، أو غنيان بمالكما من مال، فهو إخبار عن حال لا
يعلمها إلَاّ هما، وهُما عدلان لكونهما صحابيين، فهو حكم بالظاهر، والباطن رجع إليهما، وهو شبيه بحديث: "أحكم على نحو ما أسمع
…
" إلخ.
5 -
فيه دليل على قبول قول الإنسان فيما يُخبر عن نفسه من إعسار ويَسار؛ لأنَّ ذلك أمر راجع إليه.
وسيأتي تمامه في الحديث الذي يلي هذا الحديث، إن شاء الله تعالى.
***
534 -
وَعَنْ قَبِيْصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الهِلَالِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ المَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَاّ لأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيْبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابتهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَا مِنْ قَوْمهِ: لَقَدْ أصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيْبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ المَسْأَلَةِ -يَا قَبِيْصَةُ- سُحْتٌ، يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ سُحْتًا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- رجل: بالجر، بدلٌ من "ثلاثة"، أو بالرفع بتقدير:"أحدهم".
- تحمَّل: حمل وثقل.
- حمالة -بفتح الحاء والميم المخففة-: ما يتحمله الإنسان عن غيره لإصلاح ذات البين خوف الفتنة، أو وقوعها.
- حتى يصيبها: الضمير ليس براجع إلى "المسألة"، ولا إلى "الحمالة"، وإنما هو راجع إلى أحد المعنيين، والمعنى: أن يصيب ما حصل له من المسألة، أو ما أدى من الحمالة.
- جائحة: بفتح الجيم المعجمة، اسم فاعل من: جاحته تجوحه: إذا استأصلته، والمراد بها: آفة سماوية لا صنع لآدمي فيها تتلف المال، كالفيضان، والبرد،
(1) مسلم (1044)، أبو داود (1640)، ابن خزيمة (2361)، ابن حبان (3291).
والحريق، ونحو ذلك.
- قوامًا من عيش -كسر القاف المثناة وفتح الواو-: ما يسد حاجته، ويكفي خلته.
- فاقة: بفتح الفاء بعد الألف قاف ثم تاء التأنيث؛ أي: الحاجة والفقر.
- حتى يقوم
…
لقد أصابت فلانًا فاقة
…
إلخ: هذا هو مقول القول، والمناسب به "يقول" لكن للاهتمام جعلت "يقوم" مقام "يقول"، فصار مقول القول حالاً: أي يقوم ثلاثة قائلين، وهذا القول لمزية الاهتمام أبرزه في معرض القَسَم.
- الحِجَا: -بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم ثم ألف مقصورة- أي: أصحاب العقل والمعرفة الدين.
- سُحْت: -بضم السين المهملة وسكون الحاء المهملة ثم تاء- هو الكسب الحرام؛ لأنَّه يسحت البركة ويُذْهبها.
- يأكله صاحبه سحتًا: صفة لـ"سحت"، والضمير راجح إلى المأكول.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّ المسألة تحرم ولا تحل، إلَاّ لثلاثة:
أحدهم: رجل تحمل حَمالة دَيْن عن غيره، إما دية تحملها عمن وجبت عليه، أو أصلح بمال بين طائفتين متحاربتين، ونحو ذلك، فهذا تحل له المسألة، ولو كان غنيًّا، فإنَّه لا يلزمه تسليمها من ماله.
الثاني: رجل أصابت ماله جائحة، أو آفة سماوية، أو أرضية أهلكت ثماره وزرعه، إما بالبرد، أو بالغرق، أو الجراد، أو غير ذلك من الآفات التي اجتاحت ماله، فتحل له المسألة من أموال الناس، وإن كان غنيًّا؛ لأن هذه مما ينبغي فيها التعاون بين المسلمين.
الثالث: من ادَّعى أنَّه أصابته فاقة وحاجة شديدة بعد أن كان غنيًّا، فإذا
شهد له ثلاثة رجال من قومه من ذوي الحِجا والعقل بأنَّه قد أصابته فاقة، فحينئذٍ تحل له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيش، يقوم بمعيشته، ويكفي حاجته.
2 -
ما سوى هذه المسائل الثلاث، فإن المسألة لا تحل، ومن سأل فإنَّما يسأل حرامًا، يأكله صاحبه سحتًا يسحت مالَه، ويسحت حسناته.
3 -
أنَّه لا يجوز دفع الزكاة لغنيٍّ، إلَاّ لمن قام به أحد هذه الأوصاف ونحوها.
***
535 -
وَعَنْ عَبْدِالمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لآِلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ".
وَفِي رِوَايَةٍ: "وَإنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لآِلِ مُحَمَّدٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- آل محمَّد: هم آل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي طالب بن عبد المطلب، وآل أبي لهب بن عبد المطلب، وآل العباس بن عبد المطلب، هؤلاء من أبناء عبد المطلب بن هاشم، وهم الذين صار لهم عقب من بني هاشم.
- أوساخ: مفرده: "وَسَخ"، بفتح الواو والسين آخره خاء معجمة، وأصل الوسخ: الدرن، وقد وسخ الثوب وتوسخ واتَّسخ كله بمعنى واحد، فالمراد هنا: الأوساخ المعنوية، فقد شبه الذنوب بالوسخ والدرن، الذي يعلق بالجسم، والصدقة تذهب بالذنوب وتزيلها.
- الناس: عام أريد به خاص، وهم المزكون، فالعام المخصوص هو لفظ عام أخرج من عمومه بعض أفراده المقصودين، فيكون حجة فيما عداهم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تحريم الزكاة والكفارة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله الذين هم بنو هاشم: وهم آل عباس بن عبد المطلب، وآل أبي طالب بن عبد المطلب، وآل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي لهب بن عبد المطلب.
(1) مسلم (1072).
قال في "الشرح الكبير": لا نعلم خلافًا أنَّ بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، فهؤلاء هم الذين صار لهم عقب معروف من بني هاشم.
2 -
قوله: "إنَّ الصدقة لا تنبغي لآل محمَّد" الصدقة لفظ يشمل الواجبة، وهي الزكاة، ويشمل التطوع، ولكن يحدد المعنى هنا التعليل، وهو قوله:"إنما هي أوساخ الناس" فهذا يعين أنَّ المراد بها الزكاة.
3 -
الحِكْمة في تحريمها عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الزكاة أوساخ الناس"، والكفارة فرضت لمحو الذنب، فكُرِّم مقام النبوة، وكُرِّم آله أن يكونوا محلاًّ للغسالة وشرفهم عنها، وهذه هي العلة المنصوص عليها في التحريم.
4 -
حُكي الإجماع على حل صدقة التطوع لهم، والوقف والوصية، والنذر المخصصين للفقراء؛ لأنَّهم إنما منعوا الزكاة؛ لأنَّها تطهير لأموال الأغنياء ونفوسهم، وصدقة التطوع، والنذر، والوصية، والوقف ليست كذلك.
5 -
اختار الشيخ تقي الدين والقاضي وأبو الوفاء بن عقيل وهم من الحنابلة، والآجري، وأبو طالب البصري، وأبو يوسف الأصطخري من الشافعية وغيرهم-: أخذ بني هاشم من الزكاة إذا منعوا من الخُمُس، لأنَّ ذلك حاجة وضرورة، ولأنَّهم مُنِعوا من الزكاة باستغنائهم عنها بالخُمس، فلا يجمع عليهم المنع من المصرفين، وقد جاء في مصنف ابن أبي شيبة (10714) عن مجاهد قال:"كان آل محمَّد صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الصدقة، فجعل لهم خمس الخمس".
6 -
قال في "شرح الإقناع" وغيره: فإن كان بنو هاشم غزاة، أو مؤلفة قلوبهم أو غارمين لذات البَين، فلهم أخذ الزكاة؛ لجوازها مع الغنى وعدم المنة، أما العمالة فتحرم عليهم بالنص على مواليهم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
7 -
قوله: "إنَّما هي أوساخ الناس" تعليل لمنع بني هاشم من أخذ الزكاة، وذكر التعليل لأيِّ حكم يفيد أربع فوائد:
(أ) اطمئنان النفس إلى الحُكْم.
(ب) أنَّ أحكام الله تعالى جاءت وفق المصلحة.
(ج) بيان سمو الشريعة؛ حيث إنَّها لا تحكم إلَاّ بما له علَّة.
(د) إمكان القياس على الحكم بغيره.
***
536 -
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: "مَشَيْتُ أنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أعْطَيْتَ بنَي المُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبرَ وَتَرَكْتَنا، وَنَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّما بنُو المُطَلِّبِ وَبنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- شيء واحد: بالشين المعجمة في آخره همزة، قال الخطابي: روى بعضهم: "سِيء" بكسر السين وتشديد الياء، ومعناه سواء.
قال الخطابي: وهو أجود في المعنى، لكن قال عياض: الصواب رواية العامة.
- من خمُس خيبر: الخُمُس بضمتين: ما يؤخذ من الغنيمة قبل قسمتها، وهو سهم لله، ولرسوله، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
- بمنزلة واحدة: يعني: بالقرابة منك، فإنَّهم جميعًا بنو عبد مناف، فعثمان من بني عبد شمس بن عبد مناف، وجبير من بني نوفل بن عبد مناف، وهما أخوان لهاشم بن عبد مناف.
- إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد: أي: من حيث التناصر، فاستحقوا هذه المنزلة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
عبد مناف بن قصي هو الأب الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم، وله أربعة أبناء هم: هاشم، والمطلب، وعبد شمس، ونوفل؛ وهم من حيث النسب بدرجة واحدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لذا جاء عثمان بن عفان، وهو من أحفاد "عبد شمس".
(1) البخاري (3140).
وجاء جبير بن مطعم، وهو من أحفاد "نوفل" إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد شرك "بني المطلب" مع "بني هاشم" في خُمُس الغنيمة، فقال عثمان وجبير: يا رسول الله، أعطيتَ بني المطلب من الخُمُس وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال صلى الله عليه وسلم:"إنَّما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد".
وجاء في رواية أحمد (4068) في الحديث: "بأنَّهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام".
2 -
يشير صلى الله عليه وسلم بكون بني المطلب وبني هاشم شيئًا واحدًا، وأنَّهم لم يتفارقوا في جاهلية ولا إسلام، إلى ما كان من موقف بني المطلب حينما أجمعت أفخاذ قريش على كتابة صحيفةٍ قاطعوا بموجَبها بني هاشم، فلا يبايعونهم، ولا يشارونهم، ولا يناكحونهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، وحصروهم في شعب بني هاشم، فدخل بنو المطلب مع بني هاشم في الشعب، وصاروا معهم وأصابهم من ضيق الحصار والأذى ما أصاب بني هاشم، فعرف لهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعهم وموالاتهم، فكانوا وبنو هاشم يدًا واحدة.
* خلاف العلماء:
ذهب الإمام الشافعي وأتباعه إلى: تحريم الزكاة على بني المطلب، لهذا الحديث من أنَّهم مع بني هاشم شيء واحد، وأنَّ لهم نصيبًا من خُمس الخمس، يغنيهم ويكفيهم عن الزكاة.
وذهب الجمهور -ومنهم الأئمة الثلاثة- إلى: جواز دفع الزكاة إلى بني المطلب، لعموم آية الصدقة، وإنما خرج بنو هاشم بالنص، فيبقى مَن عداهم على الأصل، ولأنَّ بني المطلب في درجة بني عبد شمس وبني نوفل، وهم لا تحرم عليهم الزكاة، فكذا هم، وقياسهم على بني هاشم لا يصح؛ لأنَّهم أشرف وأقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومشاركة بني المطلب لهم في خمس الخُمس لم يستحقوه بنص القرآن بل بالنُّصرة، والنصرة لا تقتضي حرمان الزكاة.
537 -
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلاً عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ بنَي مَخْزُومٍ، فَقَالَ لأِبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي؛ فإِنَّكَ تُصِيبُ مِنْهَا، فَقَالَ: لَا، حَتَّى آتِيَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَسْأَلَهُ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَوْلَى القَوْمِ مِنْ أنْفُسِهِمْ، وإنَّهَا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ وابنُ خُزَيْمَةَ وابنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال ابن عبد الهادي في "المحرر": رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي.
والحديث له شواهد صحيحة: فمنها ما في صحيح مسلم من حديث المطلب بن ربيعة، ومنها حديث أبي هريرة في البخاري (1414) ومسلم (1069) حينما أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال صلى الله عليه وسلم:"أما علمت أنا لا نأكل الصدقة".
وقال في "التخليص": وفي الباب عن رفاعة بن رافع عند أحمد، والبخاري في "الأدب"، والحاكم، وعن عتبة بن غزوان عند الطبراني، وعن عمرو بن عوف عنده وعند إسحاق وابن أبي شيبة، وعن أبي هريرة عند البزار.
(1) أحمد (2592)، أبو داود (1650)، الترمذي (657)، النسائي (2612)، ابن خزيمة (2344)، ابن حبان (3293).
* مفردات الحديث:
- أبو رافع: كان مولى العباس، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء يبشر النبي صلى الله عليه وسلم، بإسلام العباس، فأعتقه لتلك البشارة، اختُلف في اسمه، فقيل: إبراهيم، وقيل: غيره، وهو قبطي مولى، يسمى السيد: مولى من أعلى، ويسمى الرقيق أو العتيق: مولى من أسفل، وهي مشتقة من الموالاة، وهي النصرة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على أنَّ الزكاة لا تُدفع إلى موالي بني هاشم، وأن حكمهم حكمُ أسيادهم في المنع من الزكاة، قال الطحاوي: تواترت عنه صلى الله عليه وسلم الآثار بذلك، قال ابن عبد البر: لا خلاف في عدم حل الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
العلة ما أشار إليها الحديث "مولى القوم من أنفسهم" فشَرفُ الأسياد سرى إلى الموالي، فكما لا تحل الزكاة لبني هاشم، فكذلك لا تحل لعتقائهم، لكن قال الخطابي: إنَّه لا حظ لعتقاء ذوي بني هاشم في سهم ذوي القربى من الخمس.
3 -
في الحديث دليل على قوة رابطة الولاء، ولذا حصل به إرث المولى الأعلى من الأدنى، ولذا جاء عند الحاكم (7995)، وابن حبَّان (4950)، وصححه من حديث عبد الله بن عمر أنَّ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"الولاءُ لُحمة كلحمة النسب".
4 -
الحديث نص في تحريم العمالة على موالي بني هاشم، فتكون محرَّمة على بني هاشم بالأولى.
5 -
جواز إطلاق المولى على بني آدم، فتقول هذا مولاي، فقد قال تعالى:{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4].
فهو يطلق على الله تعالى وعلى المخلوق.
6 -
جواز أخذ الجُعل والرزق على القيام بالوظائف الدينية، إذا لم يكن المقصد الوحيد هو الدنيا، وإنما جعل ما أخذ للاستعانة على القيام به، والمرابطة
عليه، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَعِبْ على المخزومي الذي عرض على أبي رافع بمشاركته في العمل، لينال أجره على العمل.
7 -
سمو الإسلام وحسن معاملته؛ فإنَّ الرق رفع من حال الرقيق حتى جعله في شرفه ومكانته بمكان أسياده، فقد اكتسب من حسبهم ونسبهم، ولم يكن الرق إهانةً ومنقصةً له.
8 -
أبو رافع كان غلامًا للعباس بن عبد المطلب، فوهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبشره بإسلام عمه فأعتقه لهذه البشارة.
قال ابن الأثير: الصواب أنَّ أبا رافع توفي في خلافة علي، رضي الله عنهما.
* خلاف العلماء
ذهب جمع من العلماء إلى: حل الزكاة لموالي بني هاشم؛ لأنَّ الزكاة إنما حرمت على بني هاشم من أجل القرابة، ومواليهم ليس لهم قرابة، فهم كسائر الناس.
وذهب الكثير منهم إلى: تحريمها على الموالي، كتحريمها على بني هاشم، ومن المانعين الإمامان: الشافعي وأحمد وأتباعهما، لهذا الحديث الذي معنا، فإن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جعل مولى القوم من أنفسهم، وفي الحديث:"الولاء لحمة كلحمة النسب" تحصل به الوراثة، ويحصل به التناصر، والعقل.
***
538 -
وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يُعْطِي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ العَطَاءَ فَتقُولُ: أَعْطِهِ أفْقَرَ مِنِّي، فَتقُولُ: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، أوْ تَصَدَّقْ بِه، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ، وَأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ". رَوَاهُ مُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- العطاء: أي: العمالة، وهي أجر العمل.
- أفقر مني: بصيغة أفعل التفضيل.
- تموَّله: -بفتح التاء والميم وتشديد الواو- أي: اتَّخذه مالاً لك، وإن لم تكن في حاجة إلى إنفاقه.
- أنْتَ: غير مُشْرِف: بضم الميم وسكون الشين المعجمة وكسر الراء آخره فاء، أي متعرض له، وحريص عليه، والجملة اسمية وقعت حالاً، فمحلها النصب.
- وما لا: أي: وما لا يكون كذلك بألا يجيء إليك إلَاّ ونفسك مائلة إليه، فلا تتبعه نفسك في الطلب واتركه، حذفت هذه الجملة لدلالة الحال عليها.
- فلا تتبعه نفسك: يقال: تبعه يتبعه تبعًا وتباعًا، من باب تعب، والمعنى: لا تعلق نفسك بالحصول عليه واتركه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث وارد فيما يعطيه الوالي، وفي مال العمالة، فيمن أُعطي مالاً من
(1) مسلم (1045).
هذا النوع، وهو لم يسأله، ولم تشرئب نفسه إليه، وتحرص عليه، فليأخذه، ولو كان غنيًّا، فإنَّه حلال مباح جاء من طريق شريفة لا ذل فيه، ولا انكسار نفس.
2 -
عطايا الولاة جائزة مباحة لمن أُعْطيَها، فلا مذمة في ذلك، ولا ذل نفس.
3 -
قال العلماء: يباح أخذ جائزة السلطان، ولو كان جائرًا، قال ابن المنذر: أخذها جائز مرخص فيه، وبعض العلماء أوجب أخذ ما أهدي إليه بلا سؤالٍ، ولا استشراف نفسٍ.
4 -
معاملة من ماله فيه حرام وحلال جائزة، فقد رهن النَّبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي، وكان يأخذ الجزية منهم مع علمه يأكل الربا، وتعاطي المعاملات الباطلة، والتحيل على أكل أموال الناس بالباطل، وبيعهم الخنزير، وغير ذلك من أعمالهم.
5 -
كراهية التطلع، والاستشراف إلى ما في أيدي الناس، وترقب نوالهم.
6 -
في الحديث منقبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وبيان فضله وزهده، وإيثاره غيره على نفسه.
…
انتهى كتاب الزكاة