الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: في أحكامه
أي: أحكام الحكم الشرعي وفيه سبع مسائل:
الأولى:
الوجوب قد يتعلق بمعين كالصلاة والحج، ويسمى واجبًا
معينًا.
وقد يتعلق بمبهم من أمور معينة، أي بأحدها، ويسمى واجبًا مخيرًا وتارة يجوز الجمع بين تلك الأمور، وتكون أفرادها محصورة كخصال الكفارة.
وتارة لا يجوز الجمع ولا تكون أفراده محصورة، كما إذا مات الإمام الأعظم ووجد جماعة قد استعدوا للإمامة، أي: اجتمعت فيهم الشروط، فإنه يجب على الناس نصب واحد من غير زيادة عليه.
وإليه أشار بقوله: ونصب أحد المستعين للإمامة.
ونازع السبكي فيه أنه من المتواطئ الذي لم ينظر إلى خصوصياته وليس مقصودًا، ولا يتصور التكليف بواحد مبهم من أمور مبهمة؛ لأنه تكليف بما لا يعلمه المكلف.
وقالت المعتزلة: الكل واجب على معنى أنه لا يجوز الإخلال بالجميع.
ولا يجب الإتيان به.
وهذا بعينه هو الأول فلا خلاف في المعنى.
لكنه ينافي ما ذهب إليه بعض المعتزلة من أنه يثاب ويعاقب على كل واحد، ولو أتى بواحد سقط عنه الباقي بناء على أن الواجب قد سقط بدون الأداء.
وجمهورهم على خلاف ذلك.
وقيل: الواجب واحد معين عند الله تعالى دون الناس.
وهذا القول يرويه الأشاعرة عن المعتزلة، والمعتزلة عن الأشاعرة.
(كذا قيل).
وقد اتفق الفريقان على فساده.
ورد هذا القول: بأن التعيين يحيل ترك ذلك الواحد فلا يجوز العدول عن ذلك الواحد المعين.
والتخيير يجوزه أي: يجوز ترك ذلك الواحد المعين، والعدول عنه إلى غيره، والجمع بينهما غير ممكن فإذا ثبت أحدهما بطل الآخر.
وقد ثبت التخيير اتفاقًا في الكفارة، فانتفى الأول وهو
التعيين.
قيل: لا نسلم أن مقتضى التخيير ترك ذلك الواحد المعين؛ لأنه يحتمل أن المكلف يختار المعين بأن يلهمه الله تعالى اختيار ما عينه تعالى له.
أو يعين الله تعالى ما يختاره المكلف.
أو يسقط ذلك الواجب المعين إذا لم يقع عليه بفعل غيره، كما سقطت الجلسة الفاصلة بين السجدتين بجلسة الاستراحة.
وأجيب عن الأول:
وهو أن المكلف يختار المعين بأنه يوجب تفاوت المكلفين فيه؛ لأن من اختار شيئًا يكون هو الواجب عليه دون غيره من الخصال، فيكون الواجب على هذا غير الواجب على الآخر عند الاختلاف في الاختيار، و (هو أي)(التفاوت بين المكلفين في ذلك) خلاف النص، والإجماع".
لأن الآية دالة على أن كل خصلة من الخصال مجزئة عن كل مكلف، وأن الذي أخرج خصلة لو عدل إلى الأخرى لأجزأته ووقعت واجبة.
وأن المكلفين في ذلك سواء إلا باعتبار التخيير دون التكليف.
والإجماع كالآية.
وأجيب عن الثاني: بأن الوجوب تحقق قبل اختياره، أي: قبل اختيار المكلف إجماعًا مع أن الواجب في تلك الحالة لا يستقيم أن يكون معينًا، لأن الفرض أن التعيين يتوقف على اختياره وقد فرض أن لا اختيار.
والجواب عن الثالث: أن الآتي بأيها أي: بأي خصلة شاء من الخصال هو آت بالواجب.
إجماعًا لا ببدله، فلو كان الواجب واحدًا معينًا والمأتي به قد يكون بدلاً عنه يسقطه لكان الآتي به ليس آتيًا بالواجب، بل ببدله وهو خلاف الإجماع.
ولما انحصر السند فيما جعله المعترض سندًا صار السند ملزومًا مساويًا للمنع، فتكون الأجوبة عن السند جوابًا عن المنع، أو المنافاة بين التعيين والتخيير بديهية.
فالمعترض لا يستحق جوابًا ويترك، وأجاب عن السند دفعًا للشبهة.
قيل: دليلاً على أن الواجب واحد معين إن أتى المكلف بالكل معًا في وقت واحد، كأن وكل بالإعتاق والإطعام وأعطى الكسوة
بنفسه أو بوكيل آخر، فهو ممتثل قطعًا.
فالامتثال إما أن يكون معللاً بالكل من حيث هو كل، أي المجموع علة، فالكل واجب، وهو ظاهر البطلان.
أو يعلل بكل واحد فتجتمع مؤثرات -وهي مثل الإعتاق والإطعام والكسوة -على أثر واحد، وهو الامتثال، وهو باطل؛ لأن استناده إلى هذا يستغني به عن استناده (إلى الآخر، واستناده إلى الآخر يستغنى به عن استناده) إلى هذا فيستغنى بكل منهما. عن الآخر، ويفتقر لكل منهما بدلاً عن الآخر، فيكون محتاجًا إليهما وغنيًا عنهما.
أو يعلل الامتثال بواحد غير معين ولم يوجد؛ إذ كل موجود فهو في نفسه معين، ولا إيهام ألبتة في الوجود الخارجي.
أو يكون الامتثال حصل بمعين عند الله -تعالى -مبهم عند المكلف وهو المطلوب.
وأيضًا الفعل المأمور به يسقط الحكم المتعلق به بالشخص، والوجوب حكم معين فيستدعي فعلاً معينًا يسقط به لأن غير المعين، لا يناسب المعين ولا وجود له أيضًا في نفسه فيمتنع وصفه بالوجوب لاستحالة اتصاف المعدوم بالصفة الثبوتية، فبطل أن يكون غير معين، ووجوبه فتعين أن يكون واحدًا وهو المطلوب.
وكذا الثواب على الفعل، والعقاب على الترك.
فإذا أتى بالكل فيثاب ثواب الواجب قطعًا، ولا جائز أن يكون على الكل ولا على (كل واحد ولا على) واحد لا بعينه لما تقدم.
وكذا إذا ترك الكل لا جائز أن يعاقب على الكل، ولا على كل واحد، ولا على واحد لا بعينه، فإذًا الواجب واحد معين لأنه لم يبق غيره.
وأجيب عن الأول:
بأن الامتثال بكل واحد، ولا يلزم اجتماع مؤثرات على أثر واحد؛ لأن هذه الأمور وغيرها من الأسباب الشرعية علامات لا مؤثرات، وهو المعني بقوله: وتلك معرفات، واجتماع معرفات على معرف واحد جائز، كالعالم للصانع، وليس ما تقدم من الدليل على امتناع التأثير بكل واحد جار في المعرف؛ لأنه نصب علامة ثانية لتحصل المعرفة بهما بدلاً لامعًا وأنه غير محال.
ومقصود المصنف هدم دليل الخصم، ولا يقتضي ذلك أن يكون مختاره أن كل واحد واجب، ليناقض مختاره أولاً لأنه في مقام الجدل، هذا وقد قال أجيب.
قال العراقي: ويمكن أن يكون جوابًا تحقيقًا.
وتقريره: أن قوله: إن الامتثال بكل واحد، لا يلزم منه أن يكون كل واحد هو المتمثل به، بل كل شيء حصل به الامتثال ولا منافاة بين هذا وبين قولنا: إن الواجب واحد لا بعينه لأن كل واحد متضمن للواجب وهو واحد لا بعينه ومع ذلك ففي الجواب شيء.
وأجيب عن الثاني: بأنه إنما يستدعي أحدها، أي: أحد
الخصال (لا بعينه وإن كان لا يقع إلا في معين، وأحدها لا بعينه موجود وله تعين) من وجه، هو أنه أحد هذه الثلاثة، وذلك كالمعلول المعين المستدعي علة من غير تعيين مثل الحدث، فإنه يستدعي علة من غير تعيين وهو المس أو اللمس أو زوال العقل، أو خروج شيء من أحد السبيلين.
والجواب عن الأخيرين:
وهما الثواب والعقاب: أنه يستحق ثواب أمور وعقاب أمور، لا
يجوز ترك كلها، ولا يجب (فعل كلها)، يعني إذا أتى بالكل أو ترك الكل فيستحق الثواب والعقاب على مجموع أمور لا يجوز ترك كلها ولا يجب فعلها.
واعلم أن تحقيق هذه المسألة: أن الذي وجب وهو المبهم لم يخير فيه، والمخير فيه وهو كل من المعينات لم يجب منه شيء؛ لأنه لم يوجب معينًا، وإن كان يتأذى به الواجب لتضمنه. مفهوم أحدها، وتعدد ما صدق عليه مفهوم أحد المعينات عند تعلق الوجوب، والتخيير ينفي اتحاد متعلق الوجوب والتخيير بحسب الذات.
وإذا لم يتحد متعلق الوجوب والتخيير بالذات، وكان التخيير بين واجب هو أحد المعينات من حيث إنه أحدها مبهمًا، وبين غير واجب هو إحداها على) التعيين من حيث التعيين، لم يلزم منه ارتفاع حقيقة الوجوب؛ لأن هذا لا يوجب جواز ترك كل واحد من المعينات على الإطلاق، بل جواز ترك معين من حيث التعيين لطريق الإثبات لمعين آخر.
تذنيب: هو فضلة للمسألة الأولى وبقية منها، وهو أن الحكم قد يتعلق على الترتيب،
أي: يمتنع الإتيان بالثاني إلا بعد الأول، وقسمه ثلاثة أقسام:
الأول: ما يحرم فيه الجمع، وهو المعني بقوله: ويحرم الجمع كأكل المذكي والميتة.
وأشار إلى الثاني بقوله: أو يباح كالوضوء والتيمم فإن التيمم عند العجز واجب.
ولو استعمله مع الماء كان جائزًا في صورة، وهي ما لم تيمم لخوف بطء البرء من الوضوء، ثم يتوضأ متحملاً لمشقة بطء البرء، وإن بطل بوضوئه تيممه لانتفاء فائدته.
وأشار إلى الثالث بقوله: ويسن ككفارة الصوم حيث جامع في
رمضان بشرطه فإنه يجب عليه إعتاق رقبة، فإن عجز صام شهرين، فإن عجز أطعم ستين مسكينًا، ويستحب له الإتيان بالكل فينوي بكل الكفارة، وإن سقطت بالأولى كما ينوي بالصلاة المعادة الفرض وإن سقط بالفعل أولاً.
وقال العراقي: استحباب الجمع (بين الكفارة) لم يذكره الفقهاء في كتبهم وليس بصحيح من جهة المعنى.
ثم ذكر ما هو مندفع بما قررته.
الثانية:
هذا تقسيم آخر للوجوب باعتبار وقته، وبينه بقوله: الوجوب إن تعلق بوقت فإما أن يساوي الوقت ذلك الفعل كصوم شهر رمضان وهو المضيق، أي: يسمى بالواجب المضيق.
أو ينقص الوقت عنه أي عن الفعل فيمنعه من منع التكليف
بالمحال إلا لغرض القضاء فلا يمنعه، كوجوب الظهر على الزائل عذره، في آخر الوقت كالجنون والمرض، وقد بقي من الوقت قدر (ما يسع) تكبيرة.
أو يزيد الوقت عليه أي: على الفعل كالظهر، ويسمى بالواجب الوسع.
فيقتضي إيقاع الفعل في أي جزء من أجزائه، فجميع الوقت
وقت لأدائه، ففي أي جزء أوقعه فقد أوقعه في وقته؛ لأن الأمر بذلك يقتضي إيقاع الفعل في جزء من أجزاء الوقت، ولا تعرض فيه للتخيير بين الفعل والعزم، ولا لتخصيصه بأول الوقت أو آخره، بل الظاهر ينفيهما.
لأن قوله عليه الصلاة والسلام: "الوقت بين هاتين" متناول لجميع أجزائه ولا يتعين بعض الأجزاء، للوجوب دون البعض لعدم أولوية البعض فيكون القول به تحكمًا باطلاً.
وأما حديث: "الصلاة في أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله".
فدلالته على أن الجزء الأول أولى بالنظر إلى المبادرة إلى الطاعة، وبحثنا في أجزاء الزمان من حيث هي هي (هذا والحديث ضعيف).
وقال المتكلمون وهو الأصح في شرح المهذب الواجب في كل جزء من الوقت هو إيقاع الفعل فيه أو إيقاع العزم فيه على الفعل في ثاني
الحال، إلا أن أخر الوقت) إذا بقي منه قدر ما يسع الفعل فيه فحينئذ يتعين الفعل.
وعبر المصنف عن هذا المذهب بقوله: يجوز تركه في الأول بشرط العزم (يعني في الجزء الأول على الفعل في الجزء الثاني) وإلا أي: لو جاز الترك في أول الوقت بلا عزم مع قولنا بوجوبه في أول الوقت، لجاز ترك الواجب بلا بدل.
ورد بأن العزم لا يصلح بدلاً عن الفعل؛ لأنه لو صلح بدلاً
عن الفعل لتأدى الواجب به، إذ بدل الشيء يقوم مقامه، وإذا لم يصلح للبدلية فقد لزم ترك الواجب بلا بدل كما قلتم.
ورد أيضًا: بأنه لو وجب العزم في الجزء الثاني لتعدد البدل والمبدل واحد، يعني: إذا عزم في الجزء الأول من أجزاء الزمان على الفعل، فإما أن يجب العزم في الجزء الثاني أيضًا أولاً، فإن لم يجب فقد ترك الواجب من غير بدل، ويلزم التخصيص بلا مخصص -وترك هذا الشق لوضوحه.
وإن وجب فقد تعدد البدل وهي الإعزام مع أن المبدل واحد.
ومنع السبكي: كون المبدل واحدًا قال: لأن العزم في الجزء الأول، بدل عن الفعل في الجزء الأول، والعزم في الجزء الثاني بدل عن الفعل في الجزء الثاني، فالمبدل متعدد.
ومنا من قال: يختص الوجوب بالأول أي بأول الوقت، وفي الآخر يكون فعله قضاء حتى يأثم بالتأخير عن أوله.
ولم يعرف عن الشافعية، لكن نقله الشافعي رضي الله عنه في الأم) عن المتكلمين.
وإن نقل القاضي أبو بكر الإجماع على نفي الإثم، ولنقله قال بعضهم: إنه قضاء يسد مسد الأداء.
وقالت جماعة من الحنفية: يختص الوجوب بالآخر.
وفعله في الأول تعجيل يسقط به الفرض، فيصير كمن أخرج الزكاة قبل وقتها
وقال الكرخي: منهم الآتي بالفعل في الأول إن بقي على صفة الوجوب إلى آخر الوقت أي وهو على صفة التكليف يكون ما فعله واجبًا، وإن لم يكن على صفته كأن جن أو حاضت كان ما فعله نفلاً.
ونقل عن الكرخي غير ذلك.
احتجوا أي الحنفية: بأنه لو وجب في أول الوقت لم يجز تركه؛ لأنه ترك الواجب وهو الفعل في الأول لكنه يجوز تركه اتفاقًا، فانتفى أن يكون واجبًا.
قلنا: المكلف مخير بين أدائه في أي جزء من أجزائه.
وحاصله: منع الملازمة، وإنما يلزم لو كان الفعل أولاً واجبًا على التعيين، وليس كذلك، بل هو في التحقيق راجع إلى الواجب المخير، فالتعجيل والتأخير فيه جائز، كخصال الكفارة.
فكما أنا نصفها بالوجوب على معنى أنه لا يجوز الإخلال بجميعها، ولا يجب الإتيان به فكذا هذا.
فالمكلف مخير بين أفراد الفعل في المخير، وبين أجزاء الوقت في الموسع.
ونحن لم نوجب الفعل في أول الوقت بخصوصه حتى يرد علينا جواز إخراجه عنه، بل خيرناه بينه وبين ما بعده.
والمذهب الذي قبله لما علم دليله وجوابه عن دليل الحنفية لأنه عكسه تركه اختصارًا.
وتقريره: أنه لو كان واجبًا في آخر الوقت لعصى من تركه في آخر الوقت وقد أتى به في أوله.
والجواب: أن ذلك إنما يلزم لو تعين وجوبه آخر الوقت.
فرع: (الواجب الموسع قد يسعه العمر كالحج وقضاء الفائت إذا فات بعذر
فله التأخير) من غير تأقيت، ما لم يتوقع فواته إن أخر لمرض أو كبر أي: فوات ذلك الواجب، أي بأن يغلب على ظنه فواته.
فإن توقع بأن ظن الفوات، إما لكبر سن أو لمرض شديد، حرم التأخير، والثاني مسلم، والأول رأي.
والصحيح جواز التأخير للشيخ والشاب، فإن مات قبل الفعل عصى.
وقوله: (لمرض أو كبر) متعلق بقوله: يتوقع فواته.
ويؤخذ منه: أنه لا يحرم عليه التأخير إذا لم يظن الفوات أصلاً، أو ظنه، لكن لا لكبر أو مرض، بل لغيرهما -كالتنجيم والمنام.
الثالثة:
الوجوب إما أن يتناول كل واحد، كالصلوات الخمس، أو واحدًا معينًا كالتهجد، ويسمى فرض عين، أو غير معين كالجهاد ويسمى فرضًا على الكفاية.
هذا تقسم للوجوب باعتبار من يجب عليه، وحاصله:
أن الوجوب ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية:
ففرض العين قد يتناول كل واحد من المكلفين سواء كان فعل البعض شرطًا في فعل البعض كصلاة الجمعة، أو لا، كالصلوات الخمس.
وقد يختص بواحد كالتهجد حيث كان واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم.
وفرض الكفاية: نحو الجهاد مما يحصل الغرض عنه بفعل البعض.
وحكمه: وجوبه على البعض، كما جزم به المصنف تبعًا للإمام الرازي لقوله تعالى:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير}
…
الآية.
وذهب الجمهور: إلى أنه يجب على الجميع لإثمهم بتركه، ويسقط بفعل البعض.
وأجاب القائل بالأول: بأن إثمهم بالترك لتفويتهم ما قصد
حصوله من جهتهم في الجملة، لا للوجوب عليهم.
وسمي فرض كفاية؛ لأن فعل البعض كافٍ في تحصيل المقصود منه، والخروج عن عهدته.
بخلاف الأول فإنه لابد من فعل كل عين، أي ذات، فلذلك سمي فرض عين.
فإن ظن كل طائفة أن غيره فعله سقط الوجوب عن الكل، وإن ظن كل طائفة أنه، أي أن غيره لم يفعله، وجب عليهم الإتيان به ويأثمون بتركه، وإن ظنت طائفة قيام (غيرها به)، وظنت أخرى عكسه، سقط عن الأولى ووجب على الأخرى.
(قال العراقي: اعتبر المصنف تبعًا للإمام الظن، وفيه نظر؛ لأن الوجوب على الكل معلوم فلا يسقط إلا بالعلم.
(وفيه بحث): وكان ينبغي أن يقول: فإن ظنت كل طائفة.
قاله السبكي).
والأمر فيه قريب؛ لأن تأنيث الطائفة غير حقيقي).
الرابعة
اتفقوا على أن الوجوب إذا كان مقيدًا بمقدمة ولم تكن تلك المقدمة واجبة: كأن تقول: إن ملكت النصاب فزك، فهذا لا يكون إيجابًا لتحصيل النصاب، إنما الكلام في الواجب المطلق.
كما أشار إليه بقوله: وجوب الشيء مطلقًا يوجب وجوب
(مالا) يتم إلا به وكان مقدورًا.
وقد فسر الواجب المطلق: بما يجب في كل وقت وعلى كل حال فنوقض بالصلاة. فزيد في كل وقت الشارع فنوقض بصلاة الحائض فزيد: "إلا لمانع"، وهذا لا يشمل غير المؤقتات، ولا مثل الحج والزكاة، في إيجاب ما يتوقف عليه من الشروط والمقدمات.
فأشار المحقق إلى أن المراد بالتقييد والإطلاق بالنسبة إلى تلك المقدمة، حتى أن الزكاة بالنسبة إلى تحصيل النصاب مقيد فلا يجب
وإلى تعينه وإفراده مطلق فيجب.
وحاصله: أن كل ما يتوقف عليه الوجوب لا يجب تحصيله، وإنما النزاع فيما يتوقف عليه إيقاع الواجب بعد تحقق الوجوب.
إذا علمت ذلك: فوجوب الشيء المطلق يوجب مقدمته، وهو الذي لا يتم الواجب إلا به سببًا شرعيًا.
كالصيغة بالنسبة للعتق أو عقليًا كالنظر المحصل للعلم (أو عاديًا كحز الرقبة بالنسبة إلى القتل الواجب) أو شرطًا شرعيًا كالوضوء للصلاة، أو عقليًا كترك الأضداد للمأمور به، أو
عاديًا كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه إذا كانت المقدمة مقدورة للمكلف إذ لو لم تكن مقدورة له فلا يوجب وجوبه وجوب المقدمة كالداعية.
وقيل: وجوب الشيء مطلقًا يوجب السبب دون الشرط.
وقيل: لا يوجبه فيهما أي لا في السبب والشرط.
واختار ابن الحاجب تبعًا لإمام الحرمين: فيما عدا السبب أنه إن كان شرطًا شرعيًا وجب أو غير شرعي فلا.
ومقتضى كلامه أن السبب لا خلاف فيه.
لنا على أنه يوجب الشرط والسبب.
أن التكليف بالمشروط دون الشرط محال؛ لأنه إذا كان مكلفًا بالمشروط لا يجوز له تركه، وإذا لم يكن مكلفًا بالشرط جاز له تركه، ويلزم من جواز تركه جواز ترك المشروط فيلزم الحكم بعدم جواز ترك المشروط، وبجواز تركه، وهو جمع بين النقيضين.
وإذا وجب الشرط وهو أضعف وجب السبب من باب أولى.
قال العراقي: وصواب العبارة أن يقول: تكليف بمحال بزيادة الباء؛ لأن ابن التلمساني وغيره فرقوا بينهما فقالوا: تكليف
المحال هو ما كان الخلل فيه راجعًا
إلى المأمور كتكليف الميت والجماد ومن لا عقل له من الأحياء.
والتكليف بالمحال هو ما كان الخلل فيه راجعًا إلى المأمور به، كتكليف العاقل الذي يفهم الخطاب بما لا يطيقه وهو المراد هنا.
وتكليف ما لا يطاق فيه خلاف.
والصحيح عندنا جوازه فلا ينبغي القول بأنه محال.
وأجيب عنه: بأنه لما كان تكليف ما لا يطاق مثل المحال؛ لأنه غير واقع ساوى الأول فأطلق عليه أنه محال باعتبار الوقوع لا الجواز (فليتأمل السؤال والجواب).
قيل: اعتراضًا على هذا الدليل: يختص الإيجاب بوقت وجود الشرط وحينئذ لا يلزم وجود المشروط دون الشرط.
قلنا: هذا خلاف الظاهر، إذ الكلام في الواجب المطلق الذي لا اختصاص له بوقت دون وقت.
فتقييده بوقت وجود الشرط خلاف الظاهر، وهو غير جائز.
قيل: اعتراضًا على هذا الجواب: إيجاب المقدمة كذلك،
يعني قد جوزتم مخالفة الظاهر في إيجاب المقدمة (إذ أوجبتموها) بمجرد الأمر، مع أن الظاهر لا يقتضي وجوبها.
قلنا: لا فإن اللفظ لم يدفعه، يعني: أن خلاف الظاهر عبارة عن ما ينفيه اللفظ أو نفي ما يثبته، أما ما لا يتعرض له اللفظ لا بنفي ولا إثبات.
فإيجابها بدليل منفصل ليس خلاف الظاهر بخلاف تخصيص الوجوب بوقت وجود الشرط فإنه خلاف ما يقتضيه اللفظ من وجوب الفعل في كل وقت، وفيه نظر.
واعلم أن النزاع إنما هو في أن الأمر بالشيء هل يكون أمرًا بشرطه وإيجابًا له، وإلا فوجوب الشرط الشرعي الواجب معلوم قطعًا؛ إذ لا معنى لشرطيته سوى، حكم الشارع أنه يجب الإتيان به عند الإتيان
بذلك الواجب، كالوضوء للصلاة، وهذا كما أن الشرط العقلي معلوم أنه لازم عقلاً.
تنبيه: وهو ما يكون السابق دالاً عليه في الجملة.
مقدمة الواجب إما أن يتوقف عليها وجوده شرعًا
كالوضوء للصلاة.
أو يتوقف على المقدمة وجوده عقلاً كالمشي للحج؛ لأنه لو فرض انتفاء الشرع لقضى العقل بأنه لابد في وجوب الحج من قطع المسافة للحج.
أو يتوقف العلم به، أي بالواجب على المقدمة كالإتيان بالصلوات الخمس، فإنه يلزمه إذا ترك واحدة ونسي عينها؛ لأن
العلم بأنه أتى بالمتروك المنسي، لا يحصل إلا بعد الإتيان بالخمس، فالصلوات الأربع مقدمة للواجب، لكن لا لوجوده؛ لجواز أن يكون الأول هو الواجب.
ومنه ستى شيء من الركبة لستر الفخذ، فإنه لا يتحقق ستر العورة إلا به، وبستر شيء من السرة.
والمثال الأول الواجب فيه متميز عن المقدمة، وطرأ عليه الإبهام.
والثاني لم يتميز أصلاً لأجل ما بينهما من التقارب خلقة.
فروع متفرعة على ما تقدم:
الأول: لو اشتبهت منكوحته بأجنبية حرمتا عليه، على معنى أنه يجب عليه الكف عنهما جميعًا، إحداهما لكونها أجنبية، والأخرى لأنها مشتبهة بها، وليست حرامًا في الواقع، بل يجب الكف عنها مع حلها إلى رفع الاشتباه.
الثاني: لو قال لزوجتيه إحداكما طالق
(ولم يعين)، حرمتا عليه تغليبًا للحرمة؛ لأن كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المطلقة، فاحتمل الحل، والحرمة، في كل واحدة منهما، والتغليب للتحريم.
فالعلم باجتناب المطلقة إنما يحصل باجتنابهما.
وقوله: والله تعالى يعلم أنه سيعين أيتهما، لكن لما لم يعين لم تتعين.
أراد به جوابًا عن سؤال تقديره: إن قولكم: المحل غير معين
ممنوع؛ لأن المحل معين عند الله - تعالى - أي المطلقة معينة عند الله - تعالى - ولكن التبست بغير المطلقة عندنا، فيكون مثل الفرع الأول، والمقصود تغاير الفرعين، وهو أن تكون إحداهما مبهمة في الفرع الثاني وإلا يتكرر.
فأجاب: بأن المحل ليس معينًا عند الله - تعالى - لأن الزوج لم يعين بعد فكيف يعلمه الله - تعالى - معينًا؛ لأن خلاف الواقع محال أن يعلمه.
إيضاحه: إن الله تعالى يعلم الأشياء كما هي واقعة، فإذا كانت المطلقة غير معينة علمها الله - تعالى - أيضًا غير معينة؛ لأنه الواقع،
نعم هو - تعالى - يعلم أن الزوج سيعين فلانة لكن ما لم يعين لم يتعين عند الله - تعالى.
الثالث: الزائد على ما ينطلق عليه الاسم من المسح غير واجب وإلا أي لو كان واجبًا (لما جاز) تركه فيكون غير واجب.
وقيل: الكل واجب.
* * *
المسألة الخامسة
وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه لأنها جزؤه، فالدال عليه يدل عليها بالتضمن.
قالت المعتزلة وأكثر أصحابنا: الموجب قد يغفل عن نقيضه.
قلنا: لا، فإن الإيجاب بدون المنع من نقيضه محال وغن سلم فمنقوض بوجوب المقدمة.
قد اختلف في أن الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده؟
وليس الكلام في هذين المفهومين لتغايرهما لاختلاف الإضافة.
فإن الأمر مضاف إلى الشيء، والنهي إلى ضده، ولا في اللفظ لأن صيغة الأمر:"افعل" وصيغة النهي: "لا تفعل".
وإنما الخلاف في الأوامر الجزئية المتعينة إذا أمر بها.
فهل ذلك الأمر نهي عن الشيء المعين المضاد له أولا؟
فإذا قال: تحرك، فهل هو في المعنى بمثابة قوله: لا تسكن.
وليس المراد بأن الأمر نفس النهي، بل المعنى أنهما حصلا بجعل
واحد، كما في قولهم: الأمر بالشيء، أمر بمقدمته أي جعلاهما واحد لم يحصل كل منهما بأمر على حده.
إذا علمت ذلك: فاختيار الإمام والغزالي وابن الحاجب أنه ليس نفس النهي عن ضده ولا يتضمنه، ونقله المصنف عن كثير من
أصحابنا والمعتزلة: أي جمهورهم.
وقيل: نفس النهي عن ضده واتصافه يكون أمرًا ونهيًا باعتبارين كما يتصف الشيء الواحد بكونه قريبًا بعيدًا بالنسبة إلى شيئين ونقل: عن الأشعري.
وقيل: يتضمنه، ونقل عن القاضي أبي بكر رحمه الله والمصنف حكى مذهبين:
أحدهما: أنه يستلزمه واختاره.
والثاني: أنه لا يدل عليه ألبتة.
فعلى ما اختاره: يكون الأمر بالشيء: نهيًا عن جميع
أضداده.
وقوله: وجوب الشيء: يعم الأمر وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقياس والإجماع وغيرها من قرائن الأحوال مثل} كتب عليكم الصيام {.
واستدل على مختاره: وهو أن وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه أي: استلزام الكل للجزء.
بأن ماهية الوجوب مركبة من أمرين: طلب الفعل والمنع من
الترك.
فاللفظ الدال على الوجوب يدل على حرمة النقيض بالتضمن.
بيانه: أن السيد إذا قال لعبده: قم، فهذا الأمر يدل على طلب القيام والمنع من ترك القيام بالمطابقة، وعلى كل واحد منهما بالتضمن، وعلى الأضداد الوجودية للقيام كالقعود والاضطجاع وغيرها بالالتزام.
ونظر في كلام المصنف؛ لأنه إن أراد بالنقيض الترك فلا نزاع فيه لأحد وإن أراد به الأضداد العامة من القعود ونحوه، فاللفظ لا يدل
عليها بالتضمن؛ لأنها ليست جزءًا من ماهية الواجب، فيلزمه. إما أنه غير المدعي أو نصب للدليل في غير محل النزاع.
وأجيب بأن اللفظ: إذا دل على المنع من الترك بالتضمن، والمنع من الترك دال على الأضداد الوجودية بالالتزام، يكون اللفظ دالاً عليها بالالتزام، فلذا قال في الأول: يستلزم وفي الثاني بالتضمن.
وقالت المعتزلة: ومن وافقهم: الموجب للشيء قد يغفل - بضم الفاء - عن نقيضه، أي لو كان الأمر بالشيء نهيًا عن ضده أو متضمنًا
له لم يحصل بدون تعقل الضد، والكف عنه واللازم منتف.
أما الملازمة؛ فلأن الكف عن الضد هو مطلوب النهي ويمتنع أن يكون المتكلم طالبًا لأمر لا يشعر به، فيكون الكف عن الضد متعقلاً له، وما ذلك إلا بتعقل مفرديه وهما: الضد، والكف عنه.
وأما انتفاء اللازم: فلأنا نقطع بطلب حصول الفعل مع أن الآمر غافل أي: ذاهل عن الضد والكف عنه.
كما إذا قال السيد لعبده: قم، ويكون غافلاً عن القعود والاضطجاع.
وأجاب:
أولاً: بأن الموجب للشيء لابد وأن يتصور الوجوب؛ لأن المنع من الترك الذي هو النقيض جزء مفهوم الوجوب فلا يتصور إيجاب الشيء مع الغفلة عن) نقيضه؛ لأن من تصور الكل لابد وأن يتصور الجزء ضرورة.
فإن قلت: هذا الجواب فيه نظر؛ لأنه لا نزاع في المنع من الترك وإنما النزاع في الأضداد الوجودية وظاهر أن السيد يأمر عبده بالقيام ويكون (غافلاً عن ضده كما بين).
أجيب: بأن الأضداد الوجودية إذا كان تركها لازمًا بالإيجاب يلزم من الشعور بالملزوم الشعور باللازم فيتم جوابه.
وأنت خبير بأن الأمر الصادر من الله تعالى لا يكون فيه ذلك.
(إذ الغفلة عليه تعالى محال فمحل الخلاف في غيره.
وأجاب ثانيًا: بأن) الغفلة لا تنافي الإيجاب ولا النهي.
فلا يلزم من كون الآمر غافلاً عن النقيض أن لا يكون منهيًا عنه كما أن مقدمة الواجب واجبة مع جواز الغفلة عنها.
كما أن السيد إذا قال لعبده وهو على سطح: اسقني ماءً، مع كونه غافلاً عن وضع السلم والصعود إليه فكذلك حرمة النقيض.
وكلام المصنف في هذا المقام لا يخلو عن مناقشة.