المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: في المحكوم به - تيسير الوصول إلى منهاج الأصول - جـ ٢

[ابن إمام الكاملية]

الفصل: ‌الفصل الثالث: في المحكوم به

‌الفصل الثالث: في المحكوم به

وفيه مسائل:

الأولى: التكليف بالمحال جائز عقلاً

ص: 149

وهو ظاهر كلام الأشعري (وعليه جل أصحابه) (بل صرح به الشيخ في كتابه المسمى "بالإيجاز" حيث قال: إن تكليف العاجز الذي لا يقدر على شيء.

وتكليف المحال الذي لا يقدر عليه المكلف صحيح، وقد وجد تكليف الله تعالى لعباده بما هو المحال.

نقله الكرماني في النقود والردود) واختاره الإمام الرازي

ص: 150

لأن حكمه تعالى لا يستدعي غرضًا، فجائز أن يكلف بالمحال.

فإن كان لذاته فالأمر به للإعلام، بأنه يعاقب المأمور به ألبتة، لأن لله - تعالى - أن يعاقب من شاء.

وإن كان محالاً لغيره فالأمر لفائدة الأخذ في المقدمات ليظهر طاعته بالبشر والأخذ، أو عصيانه بالكراهية والترك.

قيل: لا يتصور وجوده أي المحال، فلا يطلب؛ لأن التكليف به هو الطلب، وهو استدعاء الحصول، واستدعاء حصوله فرع تصور الوقوع، وموقوف عليه، فإذا (انتفى انتفى) وإنما

ص: 151

قلنا: إنه لا يتصور وقوعه، لأنه لو تصور لتصور مثبتًا، ويلزم منه تصور الأمر على خلاف ماهيته، فإن ماهيته تنافي ثبوته، وإلا لم يكن ممتنعًا، فما يكون ثابتًا فهو غير ماهيته.

وحاصله: أن تصور ذاته غير ذاته، ويلزم قلب الحقائق

ويوضحه أنا لو تصورنا أربعة ليس بزوج، وكل ما ليس بزوج ليس بأربعة، فقد تصورنا أربعة ليس بأربعة، وهو ظاهر البطلان.

قلنا: إن لم يتصور امتنع الحكم باستحالته.

ص: 152

وتحقيقه: أنا لا نسلم أن المحال لا يتصور وجوده، بل يتصور ثبوته في النفس، لأنا نحكم عليه بالحكم الثبوتي بأنه معدوم ومستحيل، وثبوت الشيء ليغره فرع ثبوته في نفسه فهو ثابت، وإذ ليس هو في الخارج فهو في النفس وذلك كاف في طلبه.

فلو امتنع تصوره لامتنع الحكم باستحالته (وفيه نظر).

والتكليف بالمحال: وإن كان جائزًا عقلاً فهو غير واقع شرعًا

ص: 153

بالممتنع لذاته: كإعدام القديم، وقلب الحقائق، كأن ينقلب الحيوان حجرًا، أي مع بقاء حقيقة الحيوانية، وإلا لم يكن ممتنعًا لذاته.

وقيل: لم يقع مطلقًا، وحكاه الإمام في الشامل عن الجمهور وظاهر اختياره كالمصنف.

وقيل: وقع مطلقًا.

وقوله: للاستقراء دليل على عدم وقوع التكليف بالمحال لذاته،

ص: 154

أي: تتبعنا الأحكام الشرعية فما وجدنا شيئًا يكون ممتنعًا لذاته.

فإن التكليفات الشرعية من الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها معلوم، فالاستقراء التام معلوم.

وأيضًا الممتنع لذاته لا يكون في وسع المكلف، وما لا يكون في الوسع لا يكون مكلفًا به لقوله تعالى: } لا يكلف الله نفسًا إلى وسعها {.

وفيه نظر؛ لأن الآية تقتضي عدم وقوع التكليف بما ليس في الوسع، أعم من أن يكون لذاته أو لغيره.

فلا يصح الاستدلال بها على القول المفصل إلا مع بيان المخصص

ص: 155

وجوابه: أنه سيأتي تخصيصه في كلام المصنف.

(وقال الكرماني: ما لا يطاق على مراتب:

أدناها: أن يمتنع العقل لعارض لعلم الله بعدم وقوعه أو اختياره.

والتكليف بهذا جائز، بل واقع إجماعًا، وإلا لم يكن العاصي مكلفًا.

وأقصاها: أن يمتنع لنفس مفهومه، كجمع الضدين.

وهذا أيضًا مما لا نزاع فيه للاتفاق على امتناعه.

والمرتبة الوسطى هي المتنازع فيها: فإنا معشر الأشاعرة نجوزه وإن لم يقع.

والمعتزلة تمنعه، وهو ما لا يتعلق به القدرة الحادثة عادة.

ولهذا يقال: تكليف ما لا يطاق بصيغة المجهول، لا ما لا يطيق بالمعرف، دفعًا لتوهم اختصاصه بفاعل معين).

قيل: التكليف بالمحال لذاته وقع، لأن الله تعالى أمر أبا لهب

ص: 156

بالإيمان بما أنزل؛ لأنه أمر بتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به، ومنه أنه لا يؤمن، فيكون مكلفًا بأنه يصدقه في أنه لا يصدقه في شيء مما أتى به من الله - تعالى - وهو محال.

وقوله: فهو جمع بين النقيضين يحتمل أنه تكليف بالنقيضين؛ لأن التصديق في الإخبار بأنه يصدقه في شيء، يستلزم عدم تصديقه في ذلك ضرورة أنه صدقه في شيء.

والتكليف بالشيء تكليف بلوازمه.

ويحتمل أنه تكليف بجمع النقيضين، أي: بالتصديق في حال عدم وجوب التصديق بناء على إخبار الله تعالى بأنه لا يصدقه.

قلنا: لا نسلم أنه أمر بعد ما أنزل أنه لا يؤمن، يعني لو أنزل

ص: 157

الله - تعالى - أولاً أنه لا يؤمن، ثم أمره بالإيمان بجميع ما أنزل كان جمعًا بين النقيضين لكنه ليس كذلك، بل أمره أولاً بالإيمان، فلما لم يؤمن، أخبر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن.

على أن إيمان أبي لهب ممكن في نفسه، فلا يصير ممتنعًا لذاته بسبب إخبار الله تعالى.

غايته أنه ممتنع لتعلق علم الله - تعالى - به أو بإخباره، فليس من الممتنع لذاته في شيء، وإن كنا نقطع بعدم إيمانه، وهنا زيادة تحقيق مذكورة في الشرح.

(قال العراقي: والإجماع متحقق على أنه مكلف بالإيمان (قبل وبعد) فجواب المصنف باطل).

ص: 158

الثانية:

الكافر مكلف بالفروع خلافًا للمعتزلة، وفرق قوم بين الأمر والنهي.

اعلم أن الشرط الشرعي للوجوب شرط في التكليف بوجوبه ووجوب أدائه بالاتفاق، والشرط لوجوب الأداء شرط في وجوب أدائه.

ص: 160

ولا يشترط في التكليف بالفعل حصول الشرط الشرعي لصحة ذلك الفعل، كالإيمان للطاعات والطهارة للصلاة.

بل يجوز التكليف بالفعل وإن لم يحصل شرطه شرعًا.

خلافًا لأصحاب الرأي، وأبي حامد، أو أبي إسحاق الإسفراييني (في غير الإيمان) والمعتزلة كما نقله المصنف عنهم.

وفي المحصول: أن أكثر المعتزلة على الأول.

ص: 161

وفي البرهان: أنه ظاهر مذهب الشافعي - رحمه الله -

وقيل: مكلف بترك النواهي دون الأوامر.

والمسألة مفروضة في بعض جزئيات محل النزاع، وهو تكليف الكافر بالفروع مع انتفاء شرطها، وهو الإيمان حتى يعذب بترك الفروع كما يعذب بترك الإيمان.

والعلماء يفرضون المسائل الكلية في بعض الصور الجزئية تقريبًا للفهم وتسهيلاً للمناظرة، لأنه إذا ثبت فيه ثبت في الجميع، لعدم القائل بالفصل لاتحاد المأخذ.

تنبيه:

ص: 162

في المحصول في أثناء الاستدلال ما يقتضي أن الخلاف في غير المرتد، لكن القاضي عبد الوهاب في الملخص أجرى الخلاف فيه. كما حكاه القرافي.

لنا على وقوعه: أن الآية الآمرة بالعبادة كقوله تعالى:

ص: 163

{يا أيها الناس اعبدوا ربكم} .

وقوله تعالى: } ولله على الناس حج البيت {.

وأمثالهما: تتناولهم لكونهم من الناس، والكفر غير مانع لإمكان إزالته؛ إذ امتثال الكافر حال كفره ممكن في نفسه بأن يسلم ويصلي.

وتحقيقه: أن الكفر الذي لأجله امتناع الإمتثال ليس بضروري، فكيف امتناع الامتثال التابع له.

وحاصله: أن الضرورة الوصفية لا تنافي الإمكان الذاتي.

(وكلما) يمكن إزالته لا يمنع التكليف، كالحدث المانع من الصلاة، فإنه لما أمكن إزالته لم يمنع التكليف بالصلاة، وإذا كان

ص: 164

المقتضى موجودًا والمانع مفقودًا ثبت التكليف عملاً بالمقتضى السالم عن المعارض.

وأيضًا: (لو لم يكونوا مكلفين بالفروع لما أوعدهم الله تعالى على تركها، لكن) الآيات الموعدة على ترك الفروع كثيرة مثل (قوله تعالى): } وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة {.

وقوله تعالى: } ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين {.

وقوله تعالى: } ومن يفعل ذلك يلق أثامًا {

ص: 165

وهو عام للعقلاء، فصرح بتعذيبهم بترك الزكاة والصلاة.

وقوله: } ومن يفعل ذلك {الإشارة فيه إلى ما سبق من الشرك وقتل النفس والزنا.

وأيضًا أنهم كلفوا بالنواهي لوجوب حد الزنا عليهم، فيكونون مكلفين بالأمر، قياسًا عليها، والجامع بينهما الطلب.

قيل: الفرق بينهما أن الانتهاء عن المنهيات مع الكفر أبدًا ممكن، دون الامتثال بالواجبات مع الكفر؛ لأن النية في الواجبات لابد منها. والنية من الكافر غير صحيحة.

ص: 166

وأجيب: بأن مجرد الفعل والترك من غير نية امتثال أمر الشارع لا يكفي في الامتثال فالإتيان بالأمر وترك النهي لغرض امتثال حكم الشرع يتوقف على الإيمان.

فاستويا، أي: الأمر والنهي، فصح القياس، وفيه نظر.

قال المصنف في - الغاية القصوى: لأن النية لا تعتبر في التروك كإزالة النجاسة، فالفرق واضح.

ونقل عنه أنه أجاب عن هذا بما حاصله:

ما تعني بقولك: الترك لا يحتاج إلى نية؟ إن أردت صورة الترك فمسلم، ولا فرق، فإن صورة الفعل أيضًا لا تحتاج إلى (نية.

ص: 167

وإن أردت الترك الشرعي، فلا نسلم أنه لا يحتاج إلى) النية.

وأجاب عن هذا بأن المكلف إذا ترك المنهي عنه سقط عنه العقاب، وإن لم ينو بخلاف المأمور به، فإنه ما لو ينو لم يحصل الإجراء.

ولك أن ترجع نظر المصنف إلى اعتراض الإمام على أصل الدليل

وهو أنا لا نسلم تكليف الكفار بالنواهي، وإنما أقيم حد الزنا عليهم لالتزامهم أحكامنا أو يكون وجوب حد الزنا عليهم من قبيل الأسباب كقتل الطفل وإتلافه وفيه نظر.

ص: 168

قيل: لو وجبت الفروع عليهم كالصلاة مثلاً، فإما أن تجب حال الكفر، أو بعده، وكلاهما باطل؛ إذ لا تصح مع الكفر. ولا قضاء بعده إجماعًا فانتفى فائدة التكليف.

قلنا: نختار الوجوب حال الكفر بأن يزيل الكفر ويأتي بالفروع كالمحدث، ويكون زمن الكفر زمنًا للتكليف فقط لا للإيقاع، المكلف به.

وسقوط القضاء، إما لأن القضاء بأمر جديد، وليس بينه وبين وقوع التكليف ولا صحته ربط عقلي، فلا يستلزم وجوب القضاء لا وقوع التكليف، ولا صحة وقوعه.

ص: 169

وإما تخفيفًا عنه وترغيبًا في الإسلام.

قولك: فانتفى فائدة التكليف ممنوع أيضًا، فإنه وإن لم يصح الفعل مع الكفر، ولا يجب القضاء بعد الإسلام لكن له فوائد.

منها: تضعيف العذاب عليه في الآخرة.

واقتصر عليه المصنف، حيث قال: الفائدة تضعيف العذاب، لكون دليله دل عليه بخصوصه.

أو لأن غيره ليس من خطاب التكليف، بل من قبيل الأسباب، كما تقدم.

ومنها في الدنيا تنفيذ طلاقه وعتقه وظهاره، وإلزامه الكفارات وغير ذلك.

* * *

ص: 170

الثالثة:

امتثال الأمر وهو الإتيان بالمأمور به على الوجه المطلوب شرعًا يوجب الإجزاء.

أي: سقوط الأمر، لأنه إن بقي الأمر متعلقًا به، أي: بعين ما أتى به.

فيكون أمرًا بتحصيل الحاصل، أو متعلقًا بغيره فيلزم أن لا يكون المأتي به أولاً كل المأمور به، فلم يمتثل بالكلية وقد فرضناه ممتثلاً.

ص: 171

وقد يقال: المأتي به ثانيًا لا يكون نفس المأتي به أولاً بل مثله، فلا يكون تحصيلاً للحاصل، فلا يتم الدليل، على أنه قد لا يسلم أن القضاء عبارة عن استدراك ما قد فات من مصلحة الأداء، بل عن الإتيان بمثل ما وجب أولاً بطريق اللزوم.

وقال أبو هاشم: لا يوجبه، أي: امتثال الأمر لا يوجب الإجزاء كما لا يوجب النهي الفساد، بدليل صحة البيع وقت النداء.

والجواب: طلب الجامع بين الأمر والنهي، ثم الفرق بينهما.

ص: 172

فإن قال: الجامع بأن كلا منهما طلب جازم، فالفرق أن النهي يدل على المنع من الفعل، ويجوز أن يكون الفعل ممنوعًا منه لتحقيق حكم آخر، كالنهي عن البيع وقت النداء، فإنه منع عنه لا لذاته، بل لتحقق الجمعة، وحينئذ إذا أتى به لم يفسد لكونه غير ممنوع لذاته، وأما الأمر فلا دلالة له إلا على اقتضاء الفعل فإذا أتى به فقد أتى بتمام المقتضى. وأدى ما عليه فينقطع عن التعلق.

ص: 173

وإذا أردت تحقيق هذه المسألة على ما ينبغي فعليك بشرحي تيسير الوصول (إلى منهاج الأصول) من (المنقول والمعقول) الذي هذا ملخص منه فإنها مستوفاة فيه، ومقصودي من هذا المختصر مجرد حل

ص: 174

كلام المصنف - رحمه الله تعالى - (ومن أراد الإشباع فعليه بذلك الشرح).

* * *

ص: 175

الكتاب الأول

في الكتاب

أي القرآن، وهو الكلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه.

ص: 179

والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة؛ لأنه وارد بلغة العرب، ومعرفة أقسامها.

وهو أي الكتاب ينقسم إلى: أمر ونهي بحسب ذاته.

وبحسب مدلوله: إلى عام وخاص.

وبحسب كيفية دلالته إلى مجمل ومبين، وإلى ناسخ ومنسوخ.

لأن الدليل (قد يرد) لإثبات حكم أو لرفعه وهو الناسخ والمنسوخ.

والسنة مثل الكتاب في جميع الأقسام.

ص: 180

قال العراقي: وهذه الأقسام في الإنشاء فقط.

فأما الأخبار فلا حظ فيها للأصولي.

فأطلق الكتاب وأراد به قسم الإنشاء منه.

وبيان ذلك في أبواب خمسة لكل قسم باب، وقدم بحث اللغات.

لكونها جنسًا لهذه الأحكام، ثم بحث الأمر والنهي؛ لأن النظر في ذات الشيء مقدم على أحواله، ثم قدم العام والخاص لأنهما من تعلقات الأمر والنهي، وبحث المجمل والمبين كبقية ذلك التعلق،

ص: 181