الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأيضًا: فإن إيجاب الشرع، لفائدة في الدنيا والآخرة علمناها بإخبار الشارع وهذا لا يمكن في الوجوب؛ لأن العقل لا دخل له في الأمور الأخروية.
ولما كان هذا في غاية الوضوح تنزل المصنف وسلمه، ثم أجاب بأنه وإن لم تكن فائدة فلا يلزم محال في الشرعي بخلاف العقلي.
الفرع الثاني: الأفعال الاختيارية
قبل البعثة مباحة عند المعتزلة البصرية وبعض الفقهاء.
محرمة عند المعتزلة البغدادية، وبعض الإمامية وابن أبي هريرة من
الشافعية.
وتوقف الشيخ أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الصيرفي الشافعي.
وفسره الإمام (فخر الدين) الرازي أي فسر التوقف بعدم الحكم.
والأولى أن يفسر بعدم العلم؛ لأن الحكم قديم عنده أي عند
الأشعري.
ولا يتوقف تعلقه أي: الحكم على البعثة أي: عند الشيخ لتجويزه التكليف بالمحال.
واعلم أن المعتزلة قسمت الأفعال الاختيارية إلى ما لا يقضي العقل فيها بحسن ولا قبح، وإلى ما يقضي.
فالأول لهم فيها ثلاثة مذاهب:
الأول: الحرمة وثبوت الحرج في حكم الشرع.
وثانيها: الإباحة أي: الإذن وعدم الحرج.
وثالثها: التوقف وفسر تارة بعد الحكم.
ورد بأنه قطع لا وقف، وتارة بعدم العلم بأن هناك حكمًا أم لا، أو أنه الحظر أو الإباحة.
فإن قلت: كيف يتصور القول بالحظر أو الإباحة بالمعنى المذكور.
مع انه لا شرع ولا حكم من العقل بحسن أو قبح.
أجيب: بأن معناه أن الفعل الذي لا يدرك العقل فيه بخصوصه جهة محسنة أو مقبحة كأكل الفواكه مثلًا، ولا يحكم فيه بخصوصه بحكم نفصيلي في فعلٍ فعل بحكم العقل فيها على الإجمال إنها محرمة عند الشارع وإن لم يظهر الشرع ولم يبعث النبي، أو مباحة.
وأيضًا يجوز أن يجزم بأحدهما ولا يكون عالمًا بالحسن ولا بالقبح لا لنفسه، بل لأمر آخر مثل أن يجزم بالحرمة للاحتياط.
والثاني: ينقسم عندهم إلى الأقسام الخمسة المشهورة من: واجب، ومندوب، ومحرم، ومكروه، ومباح؛ لأنه لو اشتمل أحد طرفيه على مفسدة، فإما فعله فحرام، أو تركه فواجب، وإن لم يشتمل عليها، فإن اشتمل على مصلحة، فإما فعله فمندوب أو تركه فمكروه، وإن لم يشتمل عليها أيضًا فمباح.
وأنت مع هذا الخبير بما في كلام المصنف في هذه المسألة من مناقشة.
وقوله: «وفسره الإمام بعد الحكم» سهو وإن الذي فسره به الإمام هو ما اختاره بقوله: والأولى.
وإن سلم أن الإمام فسره بهذا، فلا اعتراض على الإمام، لأن الشيخ فرع هذا الكلام على تقدير حكم العقل، لا على مذهبه، فلا يعد على تقدير كونه حاكمًا أن لا يحكم فيما يستقل بإدراك جهة حسنة وقبحة إلى أن يرد الشرع.
ولا يعترض أيضًا بأن هذا جزم لا توقف؛ لأن مراده بعدم الحكم المذكور من الحظر أو الإباحة، لا عدم الحكم مطلقًا، فالتوقف في غيرهما.
وقوله: لا يتوقف إلى آخره جواب عن سؤال تقديره: إن تعلق الحكم بالأفعال الاختيارية حادث، فيجوز أن يكون المراد بعدم الحكم قبل البعثة عدم التعلق كما مر.
والجواب: أن التعلق لا يتوقف على البعثة أيضًا عند الأشعري لجواز التعلق قبل الشرع، وإن لم يعلم المكلف إذ غاية ما يلزم منه أنه تكليف بالمحال، وهو جائز على رأيه.
وقد نظر؛ لأنه لا يلزم من تجويز التكليف بالمحال أن يكون التعلق سابقًا على البعثة، وقد قام الدليل على أن هذه الصورة لم تقع، وهو ما سبق من قوله تعالى:{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} الآية
احتج الأولون: بأنها أي الأفعال: الاختيارية، كأكل
الفواكه اللذيذة، والمراتب البية، والملابس السنية، والمناكح الشهية انتفاع خال عن أمارة المفسدة؛ إذ الغرض أنه كذلك، وعن مضرة المالك؛ لأن مالكها هو الله -تعالى- وهو لا يتضرر بشيء، فتباح كالاستظلال بجدار الغير، والاقتباس من ناره بغير إذنه، حيث تحقق الانتفاع الخالي عن أمارة المفسدة؛ إذ هو المفروض.
فاندفع قولهم: التعبير بالاستضاءة أولى، فالإباحة دائرة مع هذه الأوصاف وجودًا وعدمًا، فكانت علة، لأن الدوران يفيد العلية، وهي موجودة في مسألتنا فكانت مباحة.
وقوله: «عن أمارة المفسدة» ولم يقل: عن المفسدة لأن العبرة في
القبح إنما هو بالمفسدة المستندة إلى الأمارة، فأما المفسدة الخالية عن الأمارة فلا اعتبار بها، ألا تراهم يلومون من يجلس تحت حائط مائل وإن سلم دون السليمة وإن وقعت عليه.
وأيضًا المآكل اللذيذة خلقت لغرضنا لامتناع العبث أي لو لم تخلق لغرض كان عبثًا خاليًا عن الحكمة وأنه نقص وهو على الله محال.
وذلك الغرض لا جائز أن يرجع إلى الله تعالى لتعاليه واستغنائه عنه، فثبت أنها مخلوقة لغرضنا.
وليس ذلك الغرض للإضرار اتفاقًا فهو للنفع.
وهو إما التلذذ، أو الاغتذاء، أو الاجتناب مع الميل إليها، أو الاستدلال بها، وتشهى طعومها على وجود الصانع
وكمال قدرته تعالى.
ولا يحصل جميع ذلك إلا بالتناول، أما الاغتذاء والتلذذ فواضح.
وأما الاجتناب مع الميل فكذلك، وإلا لم يكن ميل.
وأما الاستدلال: فلأنه موقوف على معرفتها، ومعرفة المذوقات موقوف على التناول وتحصيل الغرض مطلوب، وهو وإن لم يكن واجبًا فلا أقل أن يكون مباحًا.
وأجيب عن الأول: بمنع حكم الأصل وهو إباحة الاستظلال دون إذن مالكه؛ لكونه من الأفعال الاختيارية فهو من صور النزاع وإباحته إنما ثبتت بالشرع.
وبأن علية الأوصاف أيضًا ممنوعة.
يعني أنا وإن سلمنا إباحة الاستظلال، لكن لا نسلم أن العلة لإباحة هذه الأوصاف التي ذكرتم، وهو الانتفاع الخالي عن أمارة المفسدة إلى آخره والقياس إنما يصح عند اشتراكهما في العلة.
فإن قالوا وجدنا الإباحة دائرة مع هذه الأصاف وجودًا وعدمًا فكانت هي العلة.
قلنا: دلالة الدوران على كون الوصف علة للشيء الذي دار
معه دلالة ضعيفة، وإليه أشار بقوله:«والدوران ضعيف» إذ لا يفيد القطع بل الظن -على رأي المصنف- والمطلب قطعي ولا يضرنا ادعاءهم أن الدوران يفيد القطع؛ لأنه لو كان ضروريًا لما اختلف فيه وأدلتهم النظرية تقبل الطعن.
وأجيب عن الثاني: أن أفعاله -تعالى- لا تعلل بالغرض، لأنه إن كانت العلة قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت حادثة لزم أن يكون لها علة ويتسلسل، فلا نسلم أنه خلقها لغرض ولا يلزم العبث؛ إذ له أن يفعل ما يشاء كما مر.
وإن سلم فالحصر في هذه الأشياء الأربعة (التي ذكرتموها)
ممنوع ولما لا يجوز أن يكون الغرض يعود إلينا، ولا يتوقف على التناول كالتنزه بمشاهدة ألوانها، أو الاستنشاق بروائحها، أو الاستدلال على معرفة الصانع باختلاف ألوانها وأشكالها الغريبة، أو يشتهيها فيصير عنها فيثاب عليه، فلا يلزم من عدم الإباحة عبث.
وقال الآخرون: الأفعال الاختيارية تصرف في ملك الغير بغير إذن المالك وهو الله 0 تعالى- فيحرم كما في الشاهد أي: المخلوق فإنه يحرم التصرف في ملكه بغير إذنه.
ورد: بأن الشاهد يتضرر به، أي: بالتصرف (في ملكه) لضيق ملكه دون الغائب عن أبصارنا، وهو الله تعالى لتنزهه وتعاليه عن التضرر ولسعة ملكه.
تنبيه: فيه جواب وسؤال أورده القائلون بالإباحة والحرمة على القائلين بالتوقف فقالوا: هذه الأفعال إن كان ممنوعًا عنها فتكون محرمة وإلا فتكون مباحة، ولا واسطة بينهما.
فأجاب: بأن عدم الحرمة لا يوجب الإباحة؛ لأن عدم المنع أعم من الإذن فالمباح ما أذن في فعله وتركه، وعدم المنع أعم من الإذن،
فإن فعل غير المكلف، غير ممنوع، ولا يسمى مباحًا، والأعم لا يستلزم الأخص، فعدم الحرمة لا يستلزم الإباحة الشرعية، وفيه نظر ذكرته في الشرح مع زيادة تحقيق.