المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: في الوضع - تيسير الوصول إلى منهاج الأصول - جـ ٢

[ابن إمام الكاملية]

الفصل: ‌الفصل الأول: في الوضع

ولأن المباحث مشتركة بين جميع اللغات.

وفيه فصول:

‌الفصل الأول: في الوضع

أي في تحقيق وضع اللغات، وما يتعلق به، وهو ستة:

(الوضع، والموضوع، والموضوع له، وفائدته، والواضع، وطريق معرفته).

وذكرها في هذا الفصل على هذا الترتيب فقال: لما

ص: 183

مست، أي اشتدت الحاجة إلى التعاون والتعارف لأن الله- تعالى- خلق الإنسان غير مستقل بمصالح معاشه، محتاجًا إلى مشاركة أبناء جنسه، لاحتياجه إلى غذاء ولباس ومسكن، والواحد لا يتمكن من تحصيل هذه الأشياء فضلًا عن صنعتها، فلابد من جمع يعاون بعضهم بعضًا، وذلك لا يتم إلا بأن يعرفه ما في نفسه، فاحتيج إلى شيء يحصل به التعريف.

والتعريف إما باللفظ، أو بالإشارة كحركة اليد والرأس والحاجب، أو بالمثال كالكتابة وشكل المطلوب، وكان اللفظ أفيد من الإشارة والمثال لعمومه.

ص: 184

إذ يمكن التعبير به عن الذات والمعنى، والموجود والمعدوم، والحاضر والغائب، والقديم والحديث، وذي الشكل وغيره.

بخلاف الإشارة والمثال.

وأيسر لأن الحروف كيفيات تعرض للنفس الضروري للإنسان يحصل بطبيعته من غير كلفة ومشقة.

ولما كان الأمر ما ذكرنا وضعت الألفاظ بإزاء المعاني الذهنية دون الأمور الخارجية، لدورانها (أي الألفاظ) معها أي مع المعاني الذهنية.

ص: 185

فإن من رأى شبحًا من بعيد وظنه حمارًا سماه حمارًا، وإن ظن فرسًا سماه فرسًا، وإذا حضر عنده وعلم أنه إنسان سماه إنسانًا.

فإذا دار اللفظ مع المعاني الذهنية، علم أن اللفظ موضوع بإزائها، ولو كانت موضوعة بإزاء الأمور الخارجية لتغير الخارجي بتغير الظنون، وهو باطل قطعًا.

واختار الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن الوضع بإزاء المعنى الخارجي.

ص: 186

قال الإسنوي: ويظهر أن يقال: إن اللفظ موضوع بإزاء المعنى من حيث هو، أي مع قطع النظر عن كونه ذهنيًّا أو خارجيًّا.

وقوله: «ليفيد» أي وضعت لتفيد النسب أي الإضافة مثل غلام زيد، ودار هند.

والمركبات أي: المعاني المركبة، مثل: قام زيد، وزيد قائم،

ص: 187

فوضع لفظ زيد لشخص معين، ولفظ غلام لآخر لنعلم عند الإضافة النسبية بينهما بالمالكية والمملوكية.

وكذا قام زيد ليعلم عند الإسناد صدور القيام من زيد.

وليس الغرض من الوضع إفادة الألفاظ للمعاني المفردة إذ لو كان كذلك لزم الدور.

ولذا أشار بقوله: «دون المعاني المفردة وإلا فيدور» ، وذلك لأن الوضع موقوف على تصور المعنى، فلو توقف تصور المعنى على الوضع لدار.

ولا يجيء مثله في المركب لأن تصور معنى المركب موقوف على وضع الألفاظ لمعانيها المفردة من غير عكس.

هذا والدور مندفع؛ لأن فهم المعنى من اللفظ يتوقف على العلم بالوضع، وهو إنما يتوقف على فهمه في الجملة لا على فهم المعنى من اللفظ حتى يلزم الدور.

ص: 188

ولم يثبت تعيين الواضع للغات هل هو الله تعالى أو البشر؟

والشيخ أبو الحسن الأشعري: زعم أن الله تعالى وضعه (أي

ص: 189

اللفظ) ووقف عباده عليه، أي: أعلمهم بها، إما بالوحي أو بخلق أصوات تدل عليها وأسمعها

لواحد أو جماعة.

أو بخلق علم ضروري بها، لقوله تعالى: {وعلم آدم

ص: 190

الأسماء كلها} دل على تعليمه- تعالى- الأسماء لآدم صلى الله عليه وسلم.

وهو ظاهر في أنه الواضع دون البشر.

وكذلك الأفعال والحروف، إذ لا قائل بالفصل.

ولأن التعلم وهو الغرض يعسر بدونهما، ولأنهما أسماء في اللغة والتخصيص اصطلاح طرأ.

ولقوله تعالى: {ما أنزل الله بها من سلطان} .

ص: 191

ولو لم تكن توقيفية لما ذمهم.

ولقوله تعالى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم} .

والمراد اللغات بالاتفاق؛ إذ لا كثير اختلاف في «العضو» ، وإذ بدائع الصنع في غيره أكثر.

فلولا أن توقيفي لما من.

ولأنها- أي: اللغات- لو كانت اصطلاحية لاحتاج الواضع في تعليمها لغيره إلى اصطلاح آخر، وذلك الاصطلاح الآخر لا يفيد

ص: 192

لذاته، فلابد من اصطلاح آخر وهكذا ويتسلسل.

وهذا لا يثبت مذهب الشيخ، بل يبطل مذهب الاصطلاح فقط.

وأيضًا: لو كانت اصطلاحية لجاز التغيير في الاصطلاح.

كأن يصطلح المتأخرون على غير ما اصطلح عليه من قبلهم، إذ لا حجر في الاصطلاح.

فجاز أن يكون المراد بالصلاة والزكاة في زماننا غير ما اصطلح عليه في زمن الرسول، صلى الله عليه وسلم، فيرتفع الأمان عن الشرع.

وأجيب بأن الأسماء سمات الأشياء، أي: علاماتها

ص: 193

وخصائصها، مثل أن علمه أن الخيل للكر والفر، والجمال للحمل، والثيران للزرع.

والضمير في {عرضهم} لا يصلح للأسماء إلا إذا أريد به المسميات، مع تغليب ذوي العقول على غيرهم.

سلمنا أن الأسماء هي اللغات، لكن يجوز أن تكون الأسماء قد وضعها طائفة أخرى غير بني آدم من الجن، أو غيرهم.

وإليه أشار بقوله: «أو ما سبق وضعها» .

ولك أن تقول: التعليم للأسماء، والضمير للمسميات، وإن لم يتقدم لها ذكر في اللفظ للقرينة الدالة عليها.

ص: 194

ويدل على أن التعليم للأسماء قوله تعالى: {أنبئوني بأسماء هؤلاء} . {فلما أنبأهم بأسمائهم} .

فأضاف الأسماء إلى المسميات، فدل على أنه ليس المراد بها المسميات أنفسها، بل الألفاظ الدالة عليها.

فلو كان التعليم للمسميات لما صح الإلزام بطلب الإنباء بالأسماء، ثم إنباؤه بنفسه بالأسماء.

وقوله: «أو ما سبق وضعها» ، خلاف الظاهر؛ لأن الأصل عدم وضع سابق. لا يقال: يجوز أن يراد بالتعليم الإلهام بأن يضع نحو: {وعلمناه صنعة لبوس} ؛ لأن المتبادر من تعليم الأسماء:

ص: 195

تعريف وضعها لمعانيها.

فاحتمال الإلهام: احتمال مرجوح فلا ينافي الظهور، بل من لوازمه.

والتحقيق أن النزاع إن كان في الظهور، فالحق ما قال الشيخ.

وإن كان المطلوب هو اليقين فالحق ما قاله المصنف تبعًا للقاضي أبي بكر الباقلاني من التوقف وهو مبين في الشرح.

والذم في قوله تعالى: {إن هي إلا أسماء} للاعتقاد أي: لإطلاقهم لفظ الآلهة على الصنم مع اعتقادهم أنها آلهة.

إذ اللات والعزى ومناة أعلام على أصنام، فقرينة اختصاها بالذم دون سائر الأسماء دليل عليه.

ص: 196

والتوقيف يعارضه الإقدار.

بيانه: أن الألسنة وإن كانت مجازًا عن اللغات لكن كون اختلافها من آيات الله تعالى لا يدل على أن جهة كونه آية، توقيف الله عليها، وتعليمها إيانا بعد الوضع لجواز أن يكون بتوفيق الله تعالى إيانا لوضعها، وإقدارنا عليه، فإن الجهتين سواء.

بل لا يبعد أن تكون الثانية أولى لكونها أدل على كمال القدرة وبديع الصنع.

ولا نسلم أنها لو كانت اصطلاحية لا تحتاج في تعليمها إلى اصطلاح آخر، بل يحصل التعليم بالترديد والقرائن، كما للأطفال، أي

ص: 197

بترديد اللفظ، وهو تكراره مرة بعد مرة، مع القرائن كالإشارة إلى المسمى وبهذه الطريقة تعلمت الأطفال.

ولا نسلم ارتفاع الأمان عن الشرع، والتغيير لو وقع لاشتهر لكونه أمرًا مهمًّا تتوفر الدواعي على نقله إلينا لكنه لم يشتهر فلا يكون واقعًا.

وقال أبو هاشم: الكل مصطلح، أي مجموع الألفاظ إنما هي بوضع البشر، وإلا أي: لو كانت بوضع الله- تعالى- فالتوقيف منه للعباد على اللغات إما (أن يحصل) بالوحي ولا يتصور إلا بالإرسال فتتقدم البعثة على معرفة اللغات، وهي أي البعثة متأخرة لقوله تعالى:{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}

ص: 198

أي: بلغتهم، فدل على سبق اللغات الإرسال.

فلو كانت توقيفية بالوحي (لم تكن) سابقة على الإرسال، بل متأخرة، واللازم باطل، بدليل الآية.

أو التوقيف بخلق علم ضروري في عاقل، بأن الله تعالى وضعها لهذه المعاني، وهو باطل؛ إذ يلزمه معرفة الواضع فيعرفه تعالى ضرورة، فلا يكون مكلفًا بمعرفته تعالى لحصولها.

وحينئذ لم يكن مكلفًا بشيء، إذ لا قائل بالفرق مع أنه مكلف لما ثبت أن كل عاقل مكلف، أو في غيره أي غير عاقل وهو بعيد جدًا.

فلو لم يقطع بعدمه، فلا أقل من مخالفته للظاهر، فإذا انتفت طرق التوقيف، انتفى التوقيف، وثبت الاصطلاح.

ص: 199

وأجيب: بأنه ألهم العاقل بأن واضعًا ما وضعها من غير تعيين، ولا يخلو فيه أن الواضع الله سبحانه وتعالى، فلا يلزم من كونه خلقها في عاقل أن يعرف الله تعالى ضرورة.

وإن سلم أن العلم بالوضع يتوقف على معرفة الواضع على التعيين، حتى يكون عارفًا بالله- تعالى- فلا يلزم من كونه غير مكلف بمعرفة الله- تعالى- أن لا يكون مكلفًا مطلقًا.

ص: 200

كما أشار إليه بقوله: «لم يكن مكلفًا بالمعرفة فقط» .

وفي هذا الجواب مناقشة: إذ لا يبعد أن يقال: الاتفاق على خلافه كما مر في الدليل.

والأحسن في الجواب: أنا لا نسلم أن التوقيف بالوحي لا يتصور إلا بالإرسال.

نعم توقيف قوم الرسول، وتعليمهم متوقف عليه.

وأما توقيف الرسول فيكفي فيه الوحي والإعلام من الله تعالى.

هذا ودلالة الآية على سبق اللغات إنما هو في حق الرسول الذي له قوم، فآدم مخصوص من ذلك، إذ لا قوم له عند البعثة.

ص: 201

وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: ما وقع به التنبيه إلى الاصطلاح توقيفي، والباقي مصطلح؛ لأنه لو لم يكن القدر المحتاج إليه في الاصطلاح توقيفيًّا لكان اصطلاحيًّا، واحتاج في تعليمه إلا اصطلاح آخر وتسلسل.

والجواب: أنه يعرف بالترديد والقرائن كما سبق في جواب أدلة الشيخ فلذا تركه المصنف اكتفاء بما تقدم.

ص: 202

ولما أبطل أدلة الفرق كما زعم، تعين عنده الوقف وقد علمت ما فيه.

ونقل عن الأستاذ غير ذلك.

وطريق معرفتها أي اللغات قسمان:

الأول: النقل المتواتر في الذي لا يقبل التشكيك، كالأرض والسماء. وفي غيره، الآحاد.

الثاني: استنباط العقل من النقل، كما إذا نقل أن الجمع

ص: 203

المعرف باللام يدخله الاستثناء.

ومعلوم أنه- أي: الاستثناء-: إخراج ما يجب اندراجه في المستثنى منه فيحكم بعمومه، أي: يحكم بأن الجمع المعرف باللام يجب أن يكون متناولًا له ولغيره وهو معنى العموم.

فكون صيغ الاستثناء للإخراج، ثبت بالنقل لا العقل.

والضميمة العقلية: هي أن كل ما يدخله الاستثناء يجب أن يعم المستثنى منه.

فيحكم العقل بواسطة هاتين المقدمتين أن الجمع المعرف للعموم.

وأما العقل الصرف أي: الخالص، فلا يجدي، أي: لا ينفع في معرفة اللغات؛ لأن وضع لفظ لمعين من الممكنات، والعقل لا يستقل بها.

ص: 204